رابعاً :
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن السنَّة التي جاء بها هي مثل القرآن في كونها من الله تعالى ، وفي كونها حجة ، وفي كونها ملزمة للعباد
وحذَّر من الاكتفاء بما في القرآن وحده للأخذ به والانتهاء عن نهيه ، وبيَّن مثالاً لحرامٍ ثبت في السنَّة ولم يأت له ذِكر في القرآن ، بل في القرآن إشارة لحلِّه ، وكل ذلك في حديث واحدٍ صحيح .
عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ
: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السَّبُعِ ) .
رواه أبو داود ( 4604 ) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود .
وهذا الذي فهمه الصحابة رضي الله من دين الله تعالى :
عن عبد الله قال : " لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب فجاءت فقالت : إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت
فقال : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هو في كتاب الله ؟ فقالت : لقد قرأتُ ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ، قال : لئن كنتِ قرأتيه لقد وجدتيه
أما قرأت : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) الحشر/7 ؟ ، قالت : بلى ، قال : فإنه قد نهى عنه ، قالت : فإني أرى أهلك يفعلونه
قال : فاذهبي فانظري ، فذهبت فنظرت فلم تر من حاجتها شيئاً ، فقال : لو كانتْ كذلك ما جامعَتنا .
رواه البخاري ( 4604 ) ، ومسلم ( 2125 ) .
وهو الذي فهمه التابعون وأئمة الإسلام من دين الله تعالى ، ولا يعرفون غيره ، أنه لا فرق بين الكتاب والسنَّة في الاستدلال والإلزام ، وأن السنَّة مبينة ومفسرة لما في القرآن .
قال الأوزاعي عن حسان بن عطية : كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم
والسنَّة تفسر القرآن .
وقال أيوب السختياني : إذا حدَّث الرجل بالسنَّة فقال : دعنا من هذا ، حدِّثنا من القرآن : فاعلم أنه ضال مضل .
وقال الأوزاعي : قال الله تعالى ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) ، وقال ( وما آتاكم الرسول فخذوه ) ...
. .
وقال الأوزاعي : قال القاسم بن مخيمرة : ما توفي عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حرام : فهو حرام إلى يوم القيامة , وما توفي عنه وهو حلال : فهو حلال إلى يوم القيامة .
انظر : " الآداب الشرعية " ( 2 / 307 ) .
قال بدر الدين الزركشي – رحمه الله - :
قال الحافظ الدارمي : يقول : ( أوتيت القرآن , وأوتيت مثله ) : من السنن التي لم ينطق بها القرآن بنصه , وما هي إلا مفسرة لإرادة الله به , كتحريم لحم الحمار الأهلي , وكل ذي ناب من السباع , وليسا بمنصوصين في الكتاب .
وأما الحديث المروي من طريق ثوبان في الأمر بعرض الأحاديث على القرآن , فقال الشافعي في " الرسالة " : " ما رواه أحد ثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير " ,
وقد حكم إمام الحديث يحيى بن معين بأنه موضوع , وضعته الزنادقة ، قال ابن عبد البر في كتاب " جامع بيان العلم " : قال عبد الرحمن بن مهدي : الزنادقة والخوارج وضعوا حديث : (
ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله , فإن وافق كتاب الله فأنا قلته , وإن خالف فلم أقله )
قال الحافظ : وهذا لا يصح , وقد عارضه قوم , وقالوا : نحن نعرضه على كتاب الله فوجدناه مخالفا للكتاب ; لأنا لم نجد فيه : لا يقبل من الحديث إلا ما وافق الكتاب ,
بل وجدنا فيه الأمر بطاعته , وتحذير المخالفة عن أمره حكم على كل حال . انتهى .
وقال ابن حبان في " صحيحه " في قوله صلى الله عليه وسلم : ( بلغوا عني ولو آية ) : فيه دلالة على أن السنَّة يقال فيها : آي .
" البحر المحيط " ( 6 / 7 ، 8 ) .
خامساً :
قد ذكر العلماء أوجهاً لبيان السنة للقرآن ، ومنها : أنها تأتي موافقة لما في القرآن ، وتأتي مقيدة لمطلقه ، ومخصصة لعمومه ، ومفسرة لمجمله ، وناسخة لحكمه ، ومنشئة لحكم جديد ، وبعض العلماء يجمع ذلك في ثلاث منازل .
قال ابن القيم - رحمه الله - :
والذي يجب على كل مسلم اعتقاده : أنه ليس في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة سنَّة واحدة تخالف كتاب الله ، بل السنن مع كتاب الله على ثلاث منازل :
المنزلة الأولى : سنَّة موافقة شاهدة بنفس ما شهد به الكتاب المنزل .
المنزلة الثانية : سنَّة تفسر الكتاب ، وتبين مراد الله منه ، وتقيد مطلقه .
المنزلة الثالثة : سنَّة متضمنة لحكم سكت عنه الكتاب ، فتبيِّنه بياناً مبتدأً .
ولا يجوز رد واحدة من هذه الأقسام الثلاثة ، وليس للسنة مع كتاب الله منزلة رابعة .
وقد أنكر الإمام أحمد على من قال " السنة تقضي على الكتاب " فقال : بل السنَّة تفسر الكتاب وتبينه .
والذي يشهد الله ورسوله به أنه لم تأت سنَّة صحيحة واحدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تناقض كتاب الله
وتخالفه ألبتة ، كيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبين لكتاب الله ، وعليه أنزل ، وبه هداه الله ، وهو مأمور باتباعه ، وهو أعلم الخلق بتأويله ومراده ؟! .
ولو ساغ رد سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فهمه الرجل من ظاهر الكتاب لردت بذلك أكثر السنن ، وبطلت بالكلية .
وما من أحد يُحتج عليه بسنَّة صحيحة تخالف مذهبه ونحلته إلا ويمكنه أن يتشبث بعموم آية ، أو إطلاقها ، ويقول : هذه السنة مخالفة لهذا العموم والإطلاق فلا تقبل .
حتى إن الرافضة قبحهم الله سلكوا هذا المسلك بعينه في رد السنن الثابتة المتواترة ، فردوا قوله صلى الله عليه وسلم ( لا نُورث ما تركنا صدقة ) وقالوا : هذا حديث يخالف كتاب الله
قال تعالى ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) .
وردت الجهمية ما شاء الله من الأحاديث الصحيحة في إثبات الصفات بظاهر قوله ( ليس كمثله شيء ) .
وردت الخوارج من الأحاديث الدالة على الشفاعة ، وخروج أهل الكبائر من الموحدين من النار بما فهموه من ظاهر القرآن .
وردت الجهمية أحاديث الرؤية مع كثرتها وصحتها بما فهموه من ظاهر القرآن في قوله تعالى ( لا تدركه الأبصار ) .
وردت القدرية أحاديث القدر الثابتة بما فهموه من ظاهر القرآن .
وردت كل طائفة ما ردته من السنة بما فهموه من ظاهر القرآن .
فإما أن يطرد الباب في رد هذه السنن كلها ، وإما أن يطرد الباب في قبولها ، ولا يرد شيء منها لما يفهم من ظاهر القرآن
أما أن يرد بعضها ويقبل بعضها - ونسبة المقبول إلى ظاهر القرآن كنسبة المردود - : فتناقض ظاهر .
وما مِن أحد رد سنَّة بما فهمه من ظاهر القرآن إلا وقد قبل أضعافها مع كونها كذلك .
وقد أنكر الإمام أحمد والشافعي وغيرهما على من ردَّ أحاديث تحريم كل ذي ناب من السباع بظاهر قوله تعالى ( قل لا أجد في ما أوحى إليَّ محرماً ) الآية .
وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من رد سنَّته التي لم تذكر في القرآن ، ولم يدَّعِ معارضة القرآن لها : فكيف يكون إنكاره على من ادعى أن سنَّته تخالف القرآن وتعارضه ؟ .
" الطرق الحكمية " ( 65 – 67 ) .
وللشيخ الألباني – رحمه الله -
رسالة بعنوان " منزلة السنة في الإسلام ، وبيان أنه لا يستغنى عنها بالقرآن " ، وفيها :
تعلمون جميعاً أن الله تبارك وتعالى اصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم بنبوته
واختصه برسالته ، فأنزل عليه كتابه القرآن الكريم ، وأمره فيه - في جملة ما أمره به - أن يبينه للناس ، فقال تعالى : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم ) النحل/44
والذي أراه أن هذا البيان المذكور في هذه الآية الكريمة يشتمل على نوعين من البيان :
الأول : بيان اللفظ ونظمه ، وهو تبليغ القرآن ، وعدم كتمانه ، وأداؤه إلى الأمة ، كما أنزله الله تبارك وتعالى على قلبه صلى الله عليه وسلم
وهو المراد بقوله تعالى : ( يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك ) المائدة/67
وقد قالت السيدة عائشة - رضي الله عنها - في حديث لها " ومن حدثك أن محمداً كتم شيئاً أُمر بتبليغه : فقد أعظم على الله الفرية " ، ثم تلت الآية المذكورة " - أخرجه الشيخان - ، وفي رواية لمسلم :
" لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً أُمر بتبليغه لكتم
قوله تعالى : ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمتَ عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) الأحزاب/37 .
والآخر : بيان معنى اللفظ ، أو الجملة ، أو الآية الذي تحتاج الأمة إلى بيانه ، وأكثر ما يكون ذلك في الآيات المجملة ، أو العامة
أو المطلقة ، فتأتي السنَّة ، فتوضح المجمل ، وتُخصِّص العام ، وتقيِّد المطلق ، وذلك يكون بقوله صلى الله عليه وسلم ، كما يكون بفعله وإقراره .
وقوله تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) المائدة/38
مثال صالح لذلك ، فإن السارق فيه مطلقٌ كاليد ، فبينتِ السنَّة القوليَّة الأول منهما ، وقيدته بالسارق الذي يسرق ربع دينارٍ بقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً ) - أخرجه الشيخان -
كما بينتِ الآخَرَ بفعله صلى الله عليه وسلم أو فعل أصحابه وإقراره ، فإنهم كانوا يقطعون يد السارق من عند المفصل ، كما هو معروف في كتب الحديث
وبينت السنة القوليَّة اليد المذكورة في آية التيمم : ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ) النساء/43 و المائدة /6 بأنها الكف أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم :
( التيمم ضربة للوجه والكفين ) أخرجه أحمد والشيخان وغيرهم من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما .