الاستعمار الاوروبي - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الثّقافة والأدب > خيمة الأدب والأُدباء

خيمة الأدب والأُدباء مجالس أدبيّة خاصّة بجواهر اللّغة العربيّة قديما وحديثا / مساحة للاستمتاع الأدبيّ.

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

الاستعمار الاوروبي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2012-08-28, 11:28   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
عقبة القسنطيني
عضو جديد
 
الصورة الرمزية عقبة القسنطيني
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي الاستعمار الاوروبي

الاستعمار الأوروبي

مضت على ذلك أيام و الولدان ينموان في جوهما نمو النبات المحيط بهما و ينمو معهما طيب أخلاقهما و حسن سجاياهما ، فبينما فرجيني جالسة في الكوخ ذات يوم تهيئ طعام الإفطار لأسرتها كعادتها و الشمس لا تزال في خدرها ، و أماها قد ذهبتا مع دومينج لأداء صلاة الأحد في كنيسة ((بمبلموس)) و بول في الحديقة يشذب بعض أشجارها ، و ماري وراء الكوخ تشتغل ببعض شؤونها ، إذ دخلت عليها زنجية مسكينة آبقة كأنها الهيكل العظمي نحولا و هزالا ليس عليها من الثياب إلا خرقة بالية تدور بحقويها فجثت على ركبتيها بين يديها باكية منتحبة و أنشأت تقول لها : الرحمة يا سيدتي فاني أكاد أموت جوعا ، و قد مر بي يومان ، و أنا أجوب هذه الأحراش و الغابات أتوارى مرة و اظهر أخرى ، و اقتات كل ما هو فوق التراب مخافة أن تقع عيون بعض الفضوليين من الصيادين فيعيدوني إلى سيدي ، و الموت أهون علي من أن أعود إليه ، فهو رجل قاس غليظ لا يزال يجلدني و يمزق لحمي بسوطه كلما بدا له أن يفعل ذلك ، ثم كشفت ثوبها عن جسمها و أشارت إلى مواضع الضرب منه فإذا خطوط حمراء ملتهبة لا يستطيع نظر الناظر أن يثبت أمامها لحظة واحدة ، ثم قالت : و لقد حدثت نفسي كثيرا بالانتحار فما كان يمنعني منه إلا الخوف و الجزع ، ثم سمعت الناس يتحدثون عنكم حديثا حسنا ، و يقولون أنكم ، و إن كنتم من هذا الجنس الأبيض المخيف و لكنكم قوم محسنون راحمون ، فاضرع إليك يا سيدتي أن ترحميني و تعودي علي بلقمة أتبلغ بها ، و أن تحولي بيني و بين الشقاء ، و هنا اشتد بكاؤها و نحيبها فأوت لها فرجيني و رقة لها رقة شديدة و نهضت إلى الطعام الذي كانت أعدته لأسرتها فاتتها به فالتهمته في لحظات قليلة و اخذ وجهها يتطلق فرحا و سرورا ، فقالت لها فرجيني : أتحبين أن اذهب معك إلى سيدك و اشفع لك عنده عله يعفو عنك و يرحمك ، و يكون لك في مستقبله خيرا منه في ماضيه ؟ و ما احسبه إلا فاعلا حين يرى بؤسك و شقاءك و منظر جسمك المعذب المقروح ، فشكرت لها الجارية فضلها و رحمتها ، و قالت لها : سأتبعك يا سيدتي حيث شئت فأنت ينبوع الرحمة و الإحسان.

فهتفت فرجيني ببول فحضر فحدثته حديث الجارية و الرأي الذي رأته لها ، فوافقها على رأيها و اقترح عليها أن يرافقها في رحلتها ، ثم سارا معا و الجارية تتقدمهما و تخترق بهما الغابات و الأجمات في ممرات غامضة مستدقة تعرفها ، و كانت تعترضهما في مسيرهما بعض هضبات عالية كانا يجدان مشقة عظمى في تسلقها حتى اشرفا وقت الظهيرة على ضفة النهر الأسود حيث مقام الرجل ، فانحدرا إليه ، و هناك شاهدا أبنية عظيمة فخمة تحيط بها حدائق غناء ، و أدواح ملتفة و مزارع منبسطة ، و عبيد كثيرون منتشرون في كل مكان يحرثون و يحصدون ، و يحفرون و ينقبون ، و يخوضون الأوحال و يحملون الأثقال و يقطعون الصخور و لمحا صاحب المزرعة يتمشى بينهم مشية الخيلاء و ((غليونه)) في فمه ينفث منه الدخان و بيده عصى خيزران طويلة ، و هو رجل طويل القامة ، مهزول الجسم ، غائر العينين مقطب الجبين ، كأنما قد جثمت روحه الشريرة بين عينيه و استعدت للوثوب على كل من يدنو منها ، فارتاعت فرجيني لمنظره المرعب المخيف إلا أنها لم تجد بدا من التقدم ، فمشت نحوه خائفة مضطربة تعتمد على يد بول و الجارية من خلفهما تتبعهما حتى بلغته فجثت بين يديه و أخذت تضرع إليه أن يعفو عن جاريته المسكينة و يرحمها و تناشده الله و الكتاب في ذلك ، فلم يكترث في مبدأ أمره لمنظر فتى و فتاة فقيرين زريين في ملبسهما و هيبتهما إلا انه لما وقع نظره على فرجيني و رأى منظرها البديع الجذاب ، و شعرها الأصفر الذهبي المسترسل على ظهرها ، و تلك العصابة الزرقاء التي تدور بجبينها الأبيض المشرق ، و رأى ماء الحياة يترقرق في وجهها ترقرق الطل في ورقات الورد ، و سمع صوتها الرخيم المتهدج كأنه ينبعث من آلة موسيقية شجية ، بهت رشده ، و اخرج غليونه من فمه ، و ابتسم ابتسامة نكراء ، تقدم نحوها قليلا و ألقى عليها نظرة فاجرة مريبة ، و قال لها : قد عفوت عنها أيتها الفتاة الجميلة لا من اجل الله ، و لا من اجل الكتاب ، بل من أجلك أنت.

فأشارت فرجيني إلى الجارية أن تتقدم لتشكر لسيدها نعمته و فضله ، ثم انكفأت راجعة تركض ركض الهارب و بول يتبعها حتى ارتقيا الجبل الصغير الذي هبطا منه و جلسا تحت دوحة من أدواحه يستريحان ، و كان التعب قد نال منهما منالا عظيما ، فقد قطعا في ذلك اليوم خمسة فراسخ في ارض صخرية وعرة لا يستريحان فيها ، و لا يهدان و لا يتبلغان بطعام ، و لا شراب ، فقال بول لفرجيني ها قد مال ميزان النهار و بيننا و بين مزرعتنا مفازة منكرة لا احسب أننا نستطيع قطعها قبل الغروب ، و ليس في هذه البطحاء المحيطة بنا شجرة واحدة ذات ممر صالح نطعمه أو ننقع ظمأنا بعصارته ، و أنت ظامئة جائعة لا طاقة لك بالصبر على ذلك أكثر مما صبرت ، فخير لنا أن نعود إلى مزرعة مولى الجارية و نطلب إليه أن يمدنا بشيء من الطعام و الشراب ، و ما احسبه ضانا علينا يهما.

فوجمت فرجيني و قالت : لا يا بول ، إن هذا الرجل قد ملا قلبي خوفا و رعبا و ما أحب أن أرى وجهه مرة أخرى ، و اذكر تلك الكلمة التي كانت تقولها لنا أمي دائما ((إن خبز الأشرار يملا الفم حصى)) فلنمض في سبيلنا و ما احسب أن الله يخذلنا ، أو يتخلى عنا.

قال : و ما العمل ؟ و الشقة بعيدة ، و المنال وعر ، و الأرض قاحلة جدباء لا ماء فيها ، و لا ثمر ، و لا شيء مما يتبلغ به المتبلغ ، أو يتعلل به الظامئ ؟ .

قالت : إن الله الذي يسمع زقزقة العصفور الصغير في عشه فيرسل إليه الحبة التي تشبعه ، سيسمع دعاءنا ، و يرد لهفتنا ، و ما ذلك عليه بعزيز.

ثم سارا في طريقهما فما ابعدا إلا قليلا حتى سمعا خرير ماء على البعد فانتعشا و صاحا بصوت واحد ((إن ها هنا ماء)) و تبعا الصوت حتى وصلا إلى صخرة عظيمة عالية ينفجر من صدوعها ماء زلال رقراق كأنه ذوب البلور في شفوفه و لمعانه ، فشربا منه حتى ارتويا و وجدا من حوله بعض الأعشاب التافهة فأصابا منها قليلا ، ثم جلسا في مكانهما.

و إنهما لكذلك إذ لمحا على البعد نخلة ساحقة من نخيل الجوز ، و الجوز أنواع كثيرة متعددة ، و هذا النوع منها دقيق مستطيل لا يزيد حجم ساقه عن حجم ساق الإنسان إلا قليلا ، و ربما ذهب في الهواء ستين قدما أو أكثر ، و له في سعفاته لفائف ضخمة متراكمة أشبه بلفائف الكرنب تحمل في جوفها طلعا ابيض ناصعا ، حلو الطعم جيد الغذاء.

فاتجها بها إذ رأياها ، و هرعا إليها ، و كان بين أن يصعداها ، و هو ما لا سبيل إليه ، أو يقطعاها ، و هو ما تعيا به قوتهما ، لان جذعها على رقته و نحافته مؤلف من خيوط ليفية متداخلة متينة النسيج ، سميكة القشرة ، تعيا بها الفؤوس القاطعة ، فلم يبق أمامهما إلا أن يحرقاها فتهوى بين يديهما فيظفرا بثمرها ، و لم يكن لديهما نار ، و لا شيء مما تقتدح به النار ، و ليس في تلك المدرة جميعها على كثرة صخورها و أحجارها ، و اختلاف صورها و أشكالها حجر من أحجار الإقتداح ففتقت الحاجة لبول حيلة من اغرب الحيل و أبدعها و قديما فتقت الحاجات حيل الرجال ، و استثارت دفائن ذكائهم و فطنتهم ، و ما انتفع العالم في جميع شؤونه و أحواله بمثل ما تفتقه الحاجات و الضروريات ، و لا نبتت أغراس المعارف و العلوم و المستكشفات و المخترعات إلا في تربة الفقر و الإقلال ، فعمدا إلى ظر رقيق الأطراف مما يقوم لدى سكان تلك الأصقاع مقام المدى في منفعتها و جداها ، فبرى به طرف غصن يابس متين حتى صيره كالسهم ، ثم عمد إلى غصن آخر من نوع غير نوعه فثقبه ثقبا دقيقا بحد ذلك الحجر نفسه ، ثم ادخل طرف الغصن الأول في ثقب الغصن الثاني بعدما شد عليه بقدمه و ظل يديره بكلتا يديه بسرعة عظيمة ، فما هي إلا لحظات حتى التهب الغصنان و انبعث منهما دخان و شرر ، فجمع بضعة أعواد يابسة و أوراق جافة و ألقاها على الناس فاشتعلت ، فأدناها من سلق النخلة فنشبت بها ، و لم تلبث إلا قليلا حتى هوت بين يديه هوى الكوكب الناري من سمائه ، فاخذ يفض اللفافات عن طلعها الأبيض النضير ، و جلس هو و فرجيني يشتويان و يأكلان ألذ طعام و أهناه حتى اكتفيا و مرت بهما ساعة سرور و غبطة نسيا فيها بؤسهما و شقاؤهما ، ثم ما لبثا أن جمعا شتات نفسيهما و أخذا يتمثلان حيرتهما و ضلالهما ، و بعد الشقة بينهما و بين أرضهما ، و يذكران قلق أميهما عليهما و جزعهما لغيابهما ، و يقولان في نفسيهما ، لا بد أن تكون الظنون قد ذهبت بهما مذاهب سيئة في شانهما حينما عادتا من الكنيسة إلى المزرعة فلم تجداهما ، و لم تعرفا الوجه الذي ذهبا فيه.

ثم نهضا من مكانهما و أخذا يدوران بأنظارهما يمنة و يسرة ليتعرفا الطريق التي أتيا منها فأضلاها فسقط في أيديهما و لم يعرفا كيف يعودان و كان بول أهدأ من فرجيني روعا و اثبت جاشا ، فظل يعللها و يهدئ روعها و يقول لها : إن كوخنا يكون دائما في مثل هذه الساعة تحت قرص الشمس ، فإذا نحن اتجهنا جهة الشرق لا نحيد عنه يمنة و لا يسرة ، ثم إذا صعدنا هذا الجبل المثلث الرأس الذي نراه أمامنا لا نلبث أن نجد أنفسنا في مزرعتنا.

و أخذا يسيران في الوجهة التي توهماها فمرا بغابات كثيرة ، و أدواح ملتفة ، و هضبات عالية ، و انهار جارية ، لم يطأ السائحون لها أرضا حتى اليوم ، و ظلا على ذلك ساعتين حتى اعترضا طريقهما نهر واسع يتدفق ماؤه تدفقا ، فذعرت فرجيني لمنظره و لمنظر الصخور السوداء الجاثمة في مجراه و استحال عليها أن تضع قدمها فلم ينشب بول أن حملها على ظهره و خاض بها الماء لا يحفل بتياره المتفق ، و لا بصخوره المتزلقة و ظل يقول لها و هو سائر بها لا تخشي شيئا يا أختاه فاني جلد قوي لا يعجزني حمل شيء من الأشياء كيفما كان شانه ، و اشعر أني ازداد قوة و جلدا حين أكون معك ، و استطيع أن أقول لك إن نفسي كانت تحدثني بشر عظيم لذلك الرجل مولى الجارية حينما ظننت انه احتقرك و ازدراك فلم يحفل بك و لا برجائك و لو انه فعل لبطشت به بطشه لا أبالي بعواقبها.

فاضطربت فرجيني و قالت له : و لكنك لا تفعل يا بول إلا إذا أردت أن تكون غلاما شريرا ، دع الأشرار يا صديقي و شانهم ، لا تهجم ، و لا تعترض طريقهم ، عسى أن يموت شرهم في صدورهم حينما لا يجد له مضربا م لا منتدحا ، ثم تنهدت و رفعت رأسها إلى السماء و قالت : آه يا رب لم تجعل طرق الخير سهلا لينا كطريق الشر؟

و لم يزل سائرا بها حتى بلغ الضفة الأخرى ، و أراد أن يستمر في سبيله حاملا إياها على ظهره و يصعد بها الجبل المثلث الرأس اعتزازا بقوته و باسه فألحت عليه ألا يفعل فانزلها.

و استمرا سائرين في ارض وعرة كأداء كاطراد السيف تحفى فيها النعال ، و تدمي الأقدام ، و كانت فرجيني قد نسيت نعلها في كوخها حين ورد علها من أمر تلك الزنجية المسكينة ما أذهلها و طار بلبها ، فاضطر بها الجهد ، و أدمى قدميها المسير ، فلم تزل تتحامل على نفسها حتى وصلت إلى جدول ماء جار فترامت على ضفته و أخذت تنضح قدميها بمائه ، ثم مدت يدها إلى شجرة فرعاء حامية عليها فاقتطعت بعض أعوادها و أوراقها و نسجت منها لنفسها ما يشبه النعل ، فانتعلته ، فهدا بعض ما بهما ، و أقبلت على بول تقول له : ها هي ذي الشمس قد أشرفت على المغيب ، و لا تزال الشقة بيننا و بين المزرعة بعيدة جدا و قد نال مني التعب و لم يبقى لي جلد على المسير ، فاتركني وحدي هنا ، و اذهب إلى المزرعة لتخبر أهلنا خبرنا فيطمئنوا علينا ، و ابعثوا إلي من قبلكم من يحملني إليكم ، فأبا بول مستعظما الأمر ، و قال الموت أهون علي من أن أتركك وحدك في هذا المكان الموحش المقفر فسأبقى معك ما بقيت فان أظللنا الليل قطعت لك نخلة من نخيل الجوز فأطعمتك ثمرها كما فعلت الغداة ثم نسجت لك كم أعوادها و أغصانها ، مهادا لينا تنامين عليه و انأ ساهر بجانبك حتى الصباح.

فأذعنت لرأيه و كانت قد شعرت بشيء من الراحة بعدما خصفت قدميها بتلك الأعواد المخضلة فقامت تعتمد بيمناها على فرع قطعة من تلك الشجرة ، و بيسراها على كتف بول حتى بلغا غابة كثيفة قد أحاط بها من جميع أقطارها كثير من الادواح الباسقة الملتفة فدخلاها ، و ما أمعنا فيها قليلا حتى احتجب عنهما وجه الشمس وراء تلك الهضاب الشامخة ، و الأدواح العالية ، و غاب من عينيهما الجبل المثلث الرأس ، و كان علمهما الذي يهتديان به ، فإذا هما في مضلة بهماء لا يريان فيها غير الصخور العالية ، و الهضاب المشرقة و الأشجار المتشابكة ، و المسالك المتشابهة و الأعماق المتغلغلة ، فذر بول ذعرا شديدا و وقف في مكانه حائرا ذاهلا لا يدري ما ذا يأخذ و ما ذا يدع ؟ ثم اندفع يعدو ها هنا و ها هنا هائما مخبولا عله يجد طريقا أو مسلكا ، أو دليلا يهديه الطريق ، فلم يجد فتسلق شجرة عالية و وقف بين فرعين من فروعها و ظل يدور بنظره حوله ليرى موضع الجبل المثلث الرأس أو يرى قرص الشمس في منحدرها إلى مغربها ، فلم يرى غير ذوائب الأشجار العالية تتلألأ على أوراقها الخضراء أشعة الشمس الذهبية قبل انحدارها إلى الغروب ، و غير الضلال الممتدة التي يرسلها الليل طلائع لجيوشه الزاحفة المتدفقة ، و كانت الريح قد هدأت و خفت صوتها ساعة الغروب و ساد السكون على كل شيء و أصبحت الغابة كأنها كوكب من كواكب السامحة في أجواز الفضاء لا يدب فيها حيوان ، و لا يخطر إنسان فملك الخوف قلب بول و جن جنونه و اخذ يصيح بأعلى صوته لا يدري من يحدث و من ينادي : الغوث ، الغوث ، النجدة ، النجدة ، إلي يا أيها الناس لتنقذوا فرجيني البائسة المسكينة ، فلم يجبه غير الصدى المتردد.

و لم يزل يكرر هذا النداء و الصدى يردد صوته حتى خيل إليه أن صوته قد أصبح صدى من تلك الأصداء فنزل من مكانه حائرا متضعضعا ، ليس وراء ما به من الهم غاية ، ثم وقف و أجال نظره في الفضاء فلم ير ماء و لا ثمرا و لا نخيلا و لا شجرا ، و لا كنا و لا مأوى و لا شيئا مما يقتات به المقتات ، أو يتعلل به المتعلل فصرخ صرخة عظمى و تهافت على الأرض باكيا منتحبا ، فذعرت فرجيني حين رأته على تلك الحال و هرعت إليه و ضمته إلى نفسها و ظلت تقول له : لا تبك يا بول فان بكاءك يقتلني هما و كمدا ، و اغفر لي جريمتي التي أجرمتها إليك ، فلولاي لما قاسيت هذا البلاء الذي تقاسيه الآن ، و لقد كان خيرا لي ألا أقدم على عمل من أعمال الخير أو الشر إلا بعد استشارة أمي ، ثم قالت له : دع البكاء و توجه إلى الله تعالى بالضراعة و الابتهال عسى أن يفرج كربتنا ، و يجعل لنا من أمرنا مخرجا.

و جثيا يصليان صلاة طويلة استغرقت شعورهما و وجدانهما و ذهبت نفساهما فيها حيث تذهب نفوس القانتين المتبتلين في مواقف خشوعهم و ابتهالهم و كانت الشمس قد انحدرت إلى مغربها و لم يبق منها في حاشية الأفق إلا كما يبقى على صفحة البحر الهادئ من آثار السفينة الماخرة ، فلبثا على ذلك هنيهة ثم استفاقا على صوت كلب ينبح نباحا شديدا فصاح بول : انه كلب احد الصيادين الذين يرصدون الأيائل في أعماق هذه الغابات ليطلقوا عليها كلابهم فتعقرها ، ثم اشتد نباح الكلب و اخذ يدنو منهما شيئا فشيئا ، فارتعدت فرجيني و قالت : يخيل إلي يا بول أني اسمع صوت كلبنا ((فيديل)) لا بل هو بعينه و ما ارتبت فيه قط.

و ما أتمت كلمتها حتى كان الكلب ((فيديل)) تحت أقدامهما يتمسح بهما و يجاذبهما أثوابهما ، و يكاد لو استطاع أن يبكي فرحا بهما ، ثم ما لبثا أن رأيا الزنجي دومينج مقبلا عليهما ، فازداد سرورهما و اغتباطهما و ما وقع نظر الرجل عليهما حتى هرع إليهما و جثا تحت أقدامهما باكيا مستعبرا و ظل يقول لهما : لقد مر بأميكما اليوم يا ولدي يوم ما مر بهما مثله منذ نزلا هذه الأرض حتى اليوم و لقد كان جزعهما عظيما جدا حينما عادتا من الكنيسة فلم تجداكما ، و لم تعرفا أي سبيل سلكتما ، و لا أي ارض اشتملت عليكما ، و لم تستطع ماري أن تقول لهما شيئا لأنها كانت مشتغلة ببعض الشؤون وراء الكوخ في الساعة التي خرجتما فيها فلم تراكما ، و قد فتشنا عنكما كل غاد ورائح فلم نجد من يدلنا عليكما ، فرأيت أن استعين بالكلب ((فيديل)) على تتبع آثاركما فأحضرت له بعض أثوابكما و ألقيتها بين يديه فاشتمها ، و كأنه علم ما نريد منه فالصق خيشومه بالأرض و انبعث في الطريق التي سرتما فيها فعل الدليل الحاذق فتبعته اخترق الغابات و الأجمات و أتسلق الصخور و الهضاب ، و اجتاز الجداول و الأنهار و اشعر بجميع ما شعرتما به من المتاعب و الآلام حتى بلغنا ضيعة الرجل الأوروبي على شاطئ النهر الأسود ، و هنالك حدثني بعض الذين عرفتهم من عبيده و أجرائه أنكما حضرتما إليه لتسألاه العفو عن زنجية مسكينة كانت قد أبقت منه و خافت الرجوع إليه فوعدكما بالعفو عنها ، ثم ما لبثتما أن عدتما أدراجكما قبل أن تعلما ما تم في شانها.

فاضطربت فرجيني و قالت : و ماذا تم في شانها ؟ الم يعف الرجل عنها ؟ فابتسم دومينج و قال : نعم عفا عن قتلها و إزهاق روحها ، أما ما دون ذلك فلا ، فانه ما لبث على اثر ذهابكما أن أمر بشدها إلى بعض الأشجار عارية ، و ظل يجلدها بسوطه حتى تناثر لحمها ، و تدفق دمها ، ثم تركها مكانها تتأوه آهات تستبكي العيون و تستذيب الأكباد و قد رايتها بعيني فلم استطع البقاء أمامها لحظة واحدة.

و ما أتم كلمته حتى صعقت فرجيني و هتفت بكلمتها التي كانت ترددها دائما : آه يا رب لم لم تجعل طريق الخير سهلا لينا كطريق الشر !؟

ثم عاد الزنجي إلى حديثه يقول :

ثم انكفأ ((فيديل)) راجعا فتبعته فسار قليلا على شاطئ النهر الأسود ثم صعد الجبل الصغير المشرف عليه فصعدت وراءه حتى قادني إلى عين ماء جارية رأيت على مقربة منها نخلة من نخيل الجوز ساقطة محترقة لا يزال ينبعث دخانها و بقايا طلع مشوي متناثر حولها ، فعلمت أنكما جعتما بهذا المكان و أن الجوع قد نال منكما منالا عظيما فتجشمتما في طلب الطعام هذا العناء الكثير ، ثم قادني الكلب بعد ذلك إلى هنا كما تريان و نحن الآن على مقربة من الجبل المثلث الرأس ، و بيننا و بين المزرعة أربعة فراسخ ، و قد أرسلت لكما سيدتاي هذا الطعام فكلاه و خذا لنفسيكما راحتها و سكونها ، ثم نرى بعد ذلك كيف نعود ، و اخرج لهما طعاما كثيرا و أثمارا متنوعة ، و ركوة ماء قراح ، و شيئا من شراب الليمون المحلى بالسكر ، و جلسوا جميعا يأكلون و يشربون فرحين مغتبطين ، لولا ما كان ينغص على فرجيني أحيانا من ذكرى تلك الزنجية المسكينة المعذبة حتى فرغوا من الطعام و تهيئوا للمسير فإذا بول و فرجيني ضعيفان متضعضعان لا يستطيعان الانتقال خطوة واحدة لما نالهما من الاين و الإعياء.

فوقف دومينج وقفة الحائر المضطرب لا يدري ماذا يصنعه أيحملهما على عاتقه و هو ما لا طاقة له به ، أم يقضي الليل بجانبهما و وراءهما أماهما تنتظرانهما انتظار الظامئ الهيمان علالة الماء البارد ؟ أم يرجع إلى المزرعة وحده ليعود منها بمن يساعده على حملهما ؟ و كيف له بتركهما وحدهما في هذه القفرة الموحشة التي لا يعلم إلا الله ماذا تضم بين أقطارها من مخاوف و أهوال فتنفس تنفسة طويلة و أنشأ يقول : أسفي على تلك الأيام المواضي حين كنت أحملكما فيها يا ولدي على ذراع واحدة ما أشكو و لا أتبرم ، أما اليوم فقد وهن عظمي ، و ضعف متني و تقاربت خطاي و لم يبق لي في هذه الحياة إلا هذه الخطوات البطيئات التي أخطوها إلى قبري.

و انه لكذلك إذ لمح أشباحا سوداء تنحدر إليه من قمة الجبل كأنها قطع الليل فراعه منظرهم ، ثم تبينها فإذا قوم من الزنوج السود الآبقين من ظلم مواليهم البيض في شعاب الجبال و مخارمها و كانوا قد سمعوا و هم في مكمنهم حديثه مع الولدين و رأوا حيرته في أمرهما فجاءوا لمساعدته و قال لهم زعيمهم : إن هذين الأبيضين الصغيرين من أطيب الناس قلبا و أشرفهم نفسا ، و أدناهم رحمة فقد جشما اليوم نفسهما عناء عظيما في سبيل مساعدة زنجية مسكينة كانت قد بلغ بها الشقاء و البلاء مبلغهما ، فرحماها و أويا إليها و ذهبا بها إلى سيدها ليشفعا لها عنده و يسألاه العفو عنها و المرحمة بها ، و قد رأيناهما صباح اليوم و هما سائران معها إلى شاطئ النهر الأسود فشكرنا لهما في أنفسنا فضلهما و نعمتهما و عجبنا كيف استطاع ذلك الإهاب الأبيض الدميم أن يضم بين أقطاره قلبا غير اسود و قد سمعتا الآن حوارك معهما و علمنا أنهما في حاجة إلى من يحملهما إلى مزرعتهما ، فجئنا نتولى ذلك بأنفسنا مكافأة لهما على نعمتهما التي أسدياها إلى تلك الطريدة المسكينة.

ثم أشار إلى أصحابه فاقتطعوا في لحظات قليلة أعوادا من الأشجار العاتية و صنعوا منها ما يشبه المحفة فصعد إليها بول و فرجيني و حملها أربعة منهم على عواتقهم و مشى الباقون أمامهم ينيرون الطريق بمشاعلهم ، و يغنون أغانيهم الخاصة كأنما قد نسوا جميع همومهم و آلامهم التي يعالجونها في أنفسهم حتى وصلوا عند منتصف الليل إلى المزرعة.

و كانت هيلين مرغريت تنتظران ولديهما منذ غروب الشمس عند سفح الجبل و قد نصبتا لهما على أبعاد مختلفة بعض المشاعل الكبيرة لتريا على ضوئها وجوه القادمين ، فما لمحتا المحفة على بعد حتى طارتا إليها و ضمتا ولديهما إلى صدرهما باكيتين ، منتحبتين ، فبكى الولدان لبكائهما ، و بكى الجميع لبكائهم و التفتت هيلين إلى ابنتها فقالت لها العفو يا أماه فقد جاءتني اليوم زنجية مسكينة آبقة من سيدها تتضور جوعا ، و تسيل نفسها هما و كمدا ، فسألتني أن أطعمها و اسقيها ، و أن أنقذها من بؤسها و بلائها فقدمت لها ما شاءت من الطعام و الشراب ، ثم حرت في أمرها بعد ذلك فلم أر خيرا لها من أن اصحبها إلى سيدها و اسأله العفو عنها و المرحمة بها و أبى بول إلا أن يصحبني ، فذهبنا إلى شاطئ النهر الأسود ، فلما فرغنا من شاننا و أردنا الرجوع ضللنا الطريق ، و ظللنا حائرين ساعات طوال حتى وافانا دومينج ، و كان التعب قد نال منا منالا عظيما ، فعجزنا عن المسير ، فتقدم هؤلاء الزنوج الطيبون لمساعدتنا و صنعوا لنا هذه المحفة و حملونا عليها رحمة بنا ، و وفاء بذلك المعروف القليل الذي بذلناه لمواطنتهم المسكينة ، و كذلك يجزي الله المحسنين خير جزاء بما فعلوا.

فضمتها أمها إلى صدرها ، و قالت : قد عفوت عنكما يا ولدي ، و لا حرمكما الله نعمة العطف على البائسين و المنكوبين.

ثم عادوا جميعا إلى أكواخهم فرحين مغتبطين و قدموا للزنوج كثيرا من الطعام و الشراب فشكروا لهم فضلهم وانصرفوا.

السعادة








 


رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
الاستعمار, الاوروبي


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 05:46

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc