"شيخ المؤرخين الجزائريين" الدكتور أبو القاسم سعد الله - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الجزائر > تاريخ الجزائر > قسم شخصيات و أعلام جزائرية

قسم شخصيات و أعلام جزائرية يهتم بالشخصيات و الأعلام الجزائرية التاريخية التي تركت بصماتها على مرّ العصور

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

"شيخ المؤرخين الجزائريين" الدكتور أبو القاسم سعد الله

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2014-01-28, 12:52   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي "شيخ المؤرخين الجزائريين" الدكتور أبو القاسم سعد الله

يعد سعد الله الملقب بـ"شيخ المؤرخين الجزائريين، أحد أعمدة العلم والتاريخ في الجزائر، ولد ببلدة "قمار" في ولاية الودي، ودرس بجامع "الزيتونة" في تونس من سنة 1947 حتى 1954 واحتل المرتبة الثانية في دفعته. وبدأ يكتب في صحيفة "البصائر"، وهي لسان حال "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" سنة 1954، وكان يطلق عليه "الناقد الصغير". كما درس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في القاهرة، وحاز على شهادة "الماجستير" في التاريخ والعلوم السياسية سنة 1962، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة سنة 1962، حيث درس في جامعة "منيسوتا" التي حصل منها على شهادة الدكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر باللغة الإنجليزية سنة 1965. ويصعب كثيرا الحديث عن هذا الرجل، فهو باحث ومؤرخ أنجز كتابا نفيسا يمتد على مدار تسع مجلدات يسمى "تاريخ الجزائر الثقافي"، وحفظ القرآن الكريم وتلقى مبادئ العلوم من لغة وفقه ودين، وهو من رجال الفكر البارزين ومن أعلام الإصلاح الاجتماعي والديني، وله سجل علمي حافل بالإنجازات من وظائف، ومؤلفات، وترجمات. وإلى جانب العربية، يتقن الراحل اللغة الفرنسية والإنجليزية كما درس الفارسية والألمانية، ومن أشهر مؤلفاته: "موسوعة تاريخ الجزائر الثقافي" و"أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر" في 5 أجزاء، و"محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث.. بداية الاحتلال"، بالإضافة إلى "بحوث في التاريخ العربي الإسلامي" و"تاريخ الحركة الوطنية" وغيرها من الإصدارات. وكان سعد الله يقول دوما "جيل الثورة قام بواجبه المقدس وهو تحرير الوطن وقد استشهد منه من استشهد على قناعة وإيمان وكان مسلحا بعقيدة الحرية للوطن والنضال من أجله إلى الموت. ولكن من بقي من ذلك الجيل على قيد الحياة لم يواصل كله مسيرة النضال عجزا أو خورا، وقد بدل وغير وجذبته الحياة بمغرياتها وانخدع لبعض الشعارات واستسلم لبعض الضغوط وتخلى بعضهم صراحة عن المبادئ التي كان يكافح من أجلها، والانحرافات التي كان ضدها، وقد غلبت على هؤلاء الأنانية والجهل بحقائق الأشياء وسلموا الراية لمن لا يستحقها ولا يعرف قدرها". وقال أيضا في أحد حواراته "للمؤرخ الحق مواصفات تكاد تكون عالمية فإذا لم يلتزم بها يضر الحقيقة شيئا فمنذ هيرودوت إلى الطبري إلى ابن خلدون إلى توينبي والمؤرخون منقسمون بين اختيار الموضوعية والالتزام بالحقيقة والبحث عنها في الوثائق والملابسات وتفسير الأحداث ونفسيات صناعها بما آتاه الله من عقل وحكمة وتجرد وضمير وبين اختيار المنفعة الشخصية حيث يكتب لينال حظوة من حاكم في وقته أو ترسيخ فكرة اقتنع بها ولا يحيد عنها مهما ظهر له من الحق أو الأخذ بالثأر من خصم له عن طريق تلبيس الحقائق ثوبا غير ثوبها وهذا التناول للتاريخ لا يمنع أن يكون المؤرخ ابن بيئته وعصره أيضا فهو لا يكتب دائما عن الماضي السحيق الذي لا تجمعه به جامعة في الزمان ولا في المكان".
من ناحية أخرى، لم يعرف عن الدكتور سعد الله جريا وراء المناصب، حيث ظل زاهدا مبتعدا عن الأضواء، حتى أنه نادرا جدا ما يجري حوارا أو لقاء مع وسائل الإعلام، وقدم للجزائريين تاريخهم في موسوعة عملاقة بعدما كان هذا التاريخ يأتي مشوها أو منقوصا من مصادر أجنبية، وخصوصا الفرنسية منها. ويقول في أحد حواراته أيضا "بعضهم صنفني من مؤرخي السلطة ربما على أساس أنني أكتب عن قضية الشعب الجزائري ولعل هؤلاء يريدون مني أن ألعن السلطة لكي أكون مؤرخا حقيقيا وهناك من صنفني مؤرخا ضد السلطة لأنني لا أمتدحها ولا أشيد بمواقف رجالها بل أنتقدها ضمنيا تارة وصراحة تارة أخرى والواقع أني مؤرخ مخضرم عشت في عهد الاستعمار الفرنسي وهو عهد عاشه الشعب الجزائري كله عهد تميز بالتجهيل والتفقير والقمع وكنا نطمع أثناء الثورة إلى أن مصيرنا سيتميز بالحرية والعلم والثورة.. أعرف أن هناك من ظل يمدح الاستعمار ويعتبر وجوده مكسبا وثقافته غنيمة والعلاقات معه تسامحا وانفتاحا وعالمية إنسانية وهؤلاء يقيسون ولاءهم للسلطة الجزائرية بميزان اقترابها وابتعادها عن القطب وهو دولة الاستعمار السابق".








 


رد مع اقتباس
قديم 2014-01-28, 13:00   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

ولاثراء الموضوع نطلب من الأعضاء الكرام التكرم علينا ببعض كتابته لأنه أحسن من كتب عن الجزائر وتاريخها









رد مع اقتباس
قديم 2014-01-28, 13:10   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي









رحم الله شيخنا ومؤرخنا واسكنه فسيح جناته









رحم الله شيخنا ومؤرخنا واسكنه فسيح جناته









رد مع اقتباس
قديم 2014-01-28, 13:13   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الكاتب:
عبد العزيز فيلالي


شيخ المؤرخـــــين الجــــزائريين الدكتور سعد الله.. خالد بتراثه وفكره



تعود معرفتي بالأستاذ الكبير شيخ المؤرخين الجزائريين، أبي القاسم سعد الله، إلى نهاية الستينيات عندما كنت طالبا في قسم التاريخ الذي أنشئ حديثا، بكلية الآداب جامعة قسنطينة في السنة الدراسية 1969 ـ 1970 م فتتلمذت عليه، وحضرت بعض دروسه وهو أستاذ زائر لجامعة قسنطينة، ثم عرفته وأنا مدرس ونائب لعميد كلية الآداب ورئيس لقسم التاريخ في بداية السبعينيات، فصار بيننا تعاون بيداغوجي، في وقت كان قسم التاريخ يفتقر الى أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر (01).
فكنا نحضر دروسه مع طلابنا، ونستمتع بمشيخته وعلمه ومنهجيته، فعوضنا بما كنا نحتاج إلى معرفته من تاريخ الجزائر والحركة الوطنية.
فكان الأستاذ مفعما بالحيوية والنشاط، غزير العلم، واسع المعارف، يحرص على أن يفرغ ما وسعه فهمه وعقله وذوقه وحسه الى طلابه، بكل جدية وعمق، لأن الدراسة في الأقسام العربية آنذاك، كانت تشكو من الطرق التقليدية والحشو، لكونها يعزوها الإطار الكفء والكتاب المرجعي، وتنقصها المنهجية الصحيحة، والطرق الحديثة،لأن الكثير ممن كانوا يدرسون في الجامعة، في تلك الفترة، لا يحملون شهادتي الماجيستير والدكتوراه،إلا القليل الناذر من الجزائريين، وكذا من بعض المتعاونين الأجانب الشرقيين منهم أو الغربيين (02).
فحاول الأستاذ الدكتور، نقل ما يمكن نقله، من أحدث ما توصلت إليه العلوم الإجتماعية من تطور وتقدم، من مضانها الأنجلو سكسونية،لأنه يدرك تمام الإدراك، بأن الغرض من التعليم الجامعي، هو تثقيف العقل، لا لإملاء الحافظة، وحشوها بالمعلومات بل غرضه تنمية ملكة البحث العلمي، ومعرفة منهجه،و توسيع أفاق الإدراك به، وتعويد الطالب على حب العلم والقراءة، والتحكم في وسائل البحث واكتساب المعارف والتعمق في اللغة التي يدرس بها.
وكان الأستاذ صارما جدا،في دروسه وتوجيهاته، معروفا بتشدده العلمي والمعرفي،فكانت له مقاييس منهجية ولغوية، لا يتساهل فيها مع طلابه، وخاصة منهم طلاب الدراسات العليا، وأن صرامته هذه صرامة الصادقين الناصحين.
فكان يتقد حماسة في مجال التدريس، وامتهان العلم والبحث التاريخي، فبنى لنفسه مجدا بين طلابه، ومكانة مرموقة بين زملائه، ولكن مع الأسف نفقد كانت زيارته الى جامعة قسنطينة، محدودة بل نادرة، ولعل السبب في ذلك، يعود الى كثرة انشغالاته بالجامعة المركزية في الجزائر، أو ربما يعود لعدم توفير الشروط المريحة للأستاذ الزائر آنذاك، لأن ميزانية الجامعة في بداية السبعينيات، كانت تشكو من الضعف، فضلا عن تهاون المسيرين في الحقل الجامعي وقلة إدراكهم لمثل هذا التعاون العلمي، وعلى الرغم من ذلك، فقد كنا نلتقي بالأستاذ في اللجان البيداغوجية، التي تدعو إليها الوزارة، وهي فرصة أيضا كانت تسمح لنا بالاستئناس، إلى حديثه وأرائه وأفكاره، ومقترحاته العلمية والتربوية المتعلقة بالبرامج الدراسية ومقرراتها وآفاق الجامعة.
فقد عودنا الأستاذ على تشجيع الباحثين، ولاسيما منهم الناشئين ويأخذ بأيديهم ويقدم لهم العون والدعم، في مجال البحث والدراسة والتأليف والطبع، ولم يبخل عليهم بجهده ووقته وعلمه، أو يتأخر عنهم،فقد كان له الفضل في طبع كتابي الموسوم: "المظاهر الكبرى لعصر الولاة في بلاد المغرب والأندلس" بدار المعرف التونسية، في مدة زمنية قياسية لم تتعد الستة أشهر، بينما ظل ما يزيد عن سنتين في الجزائر ينتظر دوره في الطبع والنشر.
وعندما كنت رئيسا لجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية،شرفني برسالة تهنئة وتشجيع، تلقيتها عن طريق شقيقه "علي سعد الله" وهو في ديار الغربة، بالمملكة الأردنية الهاشمية، وهي لفتة كريمة منه، جعلتني لا أتردد في مفاتحة أخيه الذي كلفته بأن يقدم للأستاذ عرضا يتضمن عودته الى أرض الوطن، لأن جامعة الأمير عبد القادر في حاجة إليه وإلى علمه ومشيخته، وأن منصب رئيس المجلس العلمي للجامعة ينتظره، حتى نتمكن سويا من النهوض بهذه الجامعة الفتية، ذات الطابع الخصوصي المتميز، إلى المستوى والمهمة التي أسست من أجله، وهو بدون شك أهل لهذه المسؤولية لما يتميز به من قدرة علمية، ولما يتمتع به من سمعة بيداغوجية، عند الطلاب والدارسين، وكنت تواقا لرده.

لقد أتاحت لنا طليعة من زملائه وتلامذته، بأن نتشرف بالمساهمة في تأليف كتاب تذكاري، يضم أبحاثا وشهادات وانطباعات تعكس اهتمامات المشاركين المهنية، ومشاعرهم التقديرية نحو الأستاذ (03) .
دخل الأستاذ الدكتور الحياة الثقافية كاتبا وصحفيا وأديبا وشاعرا وانتهى به الأمر الى محقق ومؤرخ ومترجم يغوص في أغوار التراث والتاريخ، إذ وجد نفسه بفعل الدراسة الجديدة بأمريكا، يتحول من معالجة الأدب والشعر، إلى البحث في القضايا التاريخية والتراث، وأصبح البعد الثقافي الوطني هاجسه، وشغله الشاغل، يتحكم في توجهه ويشغل باله، إذ انتقل من الثقافة التقليدية، كما صاغتها جمعية العلماء المسلمين، وشكلتها الزيتونة، وطبعتها دار العلوم بالقاهرة، وصقلتها الجامعة الأمريكية إلى آفاق التخصص الواسعة والمتجددة في العلوم الإنسانية والإجتماعية (04) .
فقد ظل الأستاذ المثقف الذي يستمد مرجعيته وقيمه من الحضارة العربية الإسلامية، ويمتد أفقه خارج إطار الدعوة الفرنكفونية، حيث الأفاق العلمية الأنجلو سكسونية، فصارت له مواهب متعددة وآفاق واسعة، أفادت بعضها البعض، حتى صار من المثقفين الموسوعيين.
لازم الكتابة وقرض الشعر منذ نعومة أظفاره، وظل في ميدان الإنتاج الفكري أكثر من نصف قرن من العطاء المتواصل، أثرى المكتبة العربية بعشرات المؤلفات والمصنفات في مجالات معرفية شتى.
أما فيما يتعلق بمواقفه من قضايا التاريخ، فكان للأستاذ موقف حيادي من النضال السياسي في الجزائر في بداية الأمر، ثم أخذ يتغلغل وينفذ في الواقع الجزائري، ومعالجة القضايا الشائكة، الى أن أصبح يدلي بدلوه في اتخاذ المواقف الصريحة، في كبريات الأمور، وقضايا الساعة (05).
فكان يقول عن الكتابة التاريخية: "بأنها عملية متجددة، يمارسها كل جيل بالقدرة والعقلية التي وصلها، والوثائق المتوفرة لديه، والمستجدات الحضارية التي تحيط به"، ويقول أيضا: "أن المؤرخ ابن بيئته وظروفه وأسير ثقافته ووثائقه، ومن تمة فهو مرآة شعبه" (06) .
فقد ظل الأستاذ يدافع عن التعريب والجزأرة في التعليم، والديمقراطية وحرية التعبير، منذ وجوده في الجامعة المركزية بالجزائر سنة 1967 مع ثلة من زملائه وأصدقائه، وقد تميز عنهم، بأنه كان مهموما محموما بالثقافة الوطنية، واللغة العربية، التي يكتب بها (07) .
فقد كان مؤمنا بالوحدة الوطنية، ووحدة اللغة، والانتماء العربي الإسلامي، ولا يزال كذلك، يرفض التدجين والتغريب، فعن اللغة العربية المتيم بها، يعتبرها بمثابة روح الأمة، فقد ظلت ومازالت الحلم الذي يراوده، وجرحا غائرا يؤلمه، وألما شديدا يعانيه لواقع هذه اللغة، ولما أصبحت عليه اليوم في ديارها وبين أبناء أهلها في الجزائر، وأن ما آلت إليه اللغة في نظره يعود الى غياب استراتيجية ومفهوم المركزية الثقافية منذ الإستقلال، وما سماه بالتشرذم الثقافي، الذي انتاب الشعب الجزائري منذ العهد التركي مرورا بالعهد الفرنسي والى وقتنا هذا (08).
فتوحيد اللسان في نظره في الوطن الواحد، يعني توحيد الفكر والهوية والمصير والعقيدة، ويمكنه بعد ذلك، الانفتاح على تجارب الآخرين، بدون خوف على هويته وعقيدته، وأن يتعلم ما يشاء من اللغات والثقافات الأخرى، والتي تجعله بدون شك يطلع على المعارف وعالم المستجدات في ميدان العلم والفكر في البلدان المتقدمة الأخرى (09).
فبهذه الأفكار والمواقف، كان الأستاذ الدكتور، يقلق بعض الأوساط الرسمية والتغريبية واليسارية، وصار في نظرهم مثال غير مرغوب فيه، ونموذجا مزعجا للنمط الثقافي الذي خضعت له الجزائر بعد الإستقلال (10).
و قد عانى الأستاذ جراء ذلك الأمرين، بما ضرب حوله من حصار وتهميش واستفزازات داخل الحرم الجامعي وخارجه، لكن كعادته ظل صامدا مقاوما بهدوئه المعهودة ورزانته، واقفا متحديا شامخا شموخ الجزائر، لا يخاف لومة لائم في قضية الهوية والتراث، بل ظل يواجه المد المعاكس للثقافة الوطنية، ويتحدى أصحابه ودعاته في كثير من الأحيان، مع ثلة ممن يشاركونه في آرائه ومواقفه في الجامعة الجزائرية.
نهض الأستاذ الجليل، بمهام علمية ومسؤوليات تربوية في غاية الأهمية، منذ وجوده في الجامعة، تكوَّن على يده جيل من الأساتذة والباحثين، حاملين مشعله وطموحاته، كما كان له تأثير ملحوظ على جمهور عريض من المثقفين في الجزائر، وتزينت المكتبات الوطنية والعربية بمؤلفاته ومصنفاته، ونتاج فكره، مما جعل سمعته وشهرته العلمية تتعدى حدود وطنه، وكانت الجامعات العربية والإسلامية والأنجلو سكسونية، تدعوه للتدريس بمدرجاتها وعلى طلابها، وقد زادت مؤلفاته العشرين، فاق بها أقرانه بما أضفى عليها من كم وكيف هائل، تضمنت: "أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر (خمسة أجزاء)، وأضواء تاريخية ودراسات نقد وتأملات وأفكار، وإيداعات ومترجمات، ومسار قلم، يوميات، وتاريخ الحركة الوطنية الجزائرية (ستة أجزاء)، وتحقيق التراث (ثلاثة أجزاء)، وموسوعة تاريخ الجزائر الثقافي (عشرة أجزاء) من القرن 15 إلى الاستقلال واستعادة السيادة الوطنية.
فهذه الأعمال الموسوعية لا تقل عن (33 جزءا) نشرت في ثلاثة وعشرين مجلدا، نشرته وزارة المجاهدين في دار الغرب الإسلامي بيروت في طبعة أنيقة.
ونحن نعرف أن شيخنا ومؤرخنا كان يدوِّن في مفكرته التي لا تفارق جيبه، كل الزيارات التي كان يقوم بها داخل الوطن وخارجه، وما يدور على الساحة الوطنية من أحداث هامة، نتمنى أن تلقى من ينشرها.
فقد أفنى عمره وجهده في جمع تراث الأمة، من مختلف المكتبات العامة في الجزائر وفي العالم، ومن المكتبات الخاصة عبر التراب الجزائري، يعمل بهدوء ورزانة وبصمت، يكره الأضواء والنرجسية، بسيطا في حياته، متواضعا تواضع المفكرين، رفض المسؤوليات السامية، حتى يبقى مع التراث والتاريخ.
وقد شاءت الأقدار أن يروح عنا الى الدار الباقية، بجسده وروحه إلا أن تراثه وأفكاره ومصنفاته الموسوعية المختلفة وما دونته قريحته ووجدانه ستظل باقية وخالدة مفيدة للدارسين والباحثين، وأتمنى أن ينهض تلاميذه لاستكمال العطاء العلمي والفكري وتحقيق التراث الذي سطره شيخ المؤرخين الجزائريين، لأن الجزائر وتراثها وتاريخها لا يزال في أمس الحاجة الى أمثاله، طيب الله ثراه وأسكنه فسيح جنانه.

هوامش:
(1) - حاضر في السنة الجامعية 1971 - 1972.
(2) - عندما بدأت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في تطبيق الإصلاح الجامعي في السنة الدراسية 1971 - 1972 بدأت معها سياسة جزأرة الإطار الجامعي على الجزائريين في التدريس وفي التسيير بالجامعة، وبالتالي بدأ العد التنازلي، في تقليص التعاون مع الأجانب وخاصة المشرق.
(3) - الكتاب التذكاري عنوانه: دراسات وشهادات مهداة الى الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت 2000.
(4) - عن دراسته و تكوينه الثقافي انظر: حسن فتح الباب: شاعر وثورة، دار المعارف للطباعة والنشر سوسة تونس 1991، ص11 - 35 .
(5) - ناصر الدين سعيدون: أبو القاسم سعد الله، كاتبا ومفكرا من كتاب دراسات وشهادات ص 499 - 515.
(6) - جريدة الشعب : كتابة التاريخ 14/05/1990 ص511.
(7) - في هذا المجال، أي في قضية اللغة والتاريخ والتشرذم الثقافي، انظر ما كتبه أبو القاسم سعد الله في العديد من المقالات وما ألقاه في الكثير من المحاضرات نعالج فيها وضع اللغة العربية و التاريخ، انظر ناصر الدين سعيدوني: المرجع السابق ص 499 - ص 515.
(8) - ناصر الدين سعيدوني: المرجع السابق ص 511.
(9) - أبو القاسم سعد الله جريدة الشعب 14/05/1989.

(10) - انظر في هذا بالشأن: ناصر الدين سعيدوني: المرجع السابق ص 514 .

(*) جامعة قسنطينة2

https://www.echoroukonline.com/ara/articles/190374.html









رد مع اقتباس
قديم 2014-01-28, 13:15   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الكاتب:
التهامي مجوري


الدكتور سعد الله: علّامة الجزائر وعلامتها




عندما لجأ الشيخ محمد البشير الإبراهيمي إلى القاهرة في بداية الخمسينيات، قدمه الناس إلى المصريين بلقب "الشيخ الإبراهيمي علَّامة الجزائر"، فعقب رحمه الله على هذا اللقب بقوله أنا لست علَّامة الجزائر، وإنما علامتها وعلامة رفع لا علامة خفض. وأرى بهذه المناسبة أن هذا الوصف ينطبق على الأستاذ سعد الله تماما؛ بل هو علَّامة الجزائر وعلامتها.
لم أعرف الدكتور سعد الله في الجامعة لأنني عصامي، ولم اعرفه زميلا؛ لأنني لم أشركه عملا أكاديميا أو غيره من أنشطته العلمية المشهودة في العالم وليس في الجزائر فحسب، ولم أعرفه قرينا لأنه في سن والدي، وإنما عرفته في معترك الحياة، كقارئ جاد متعلق بهويته الإسلامية العربية الجزائرية، وجد ضالته في كاتب جاد مرتبط بهويته الإسلامية العربية الجزائرية، يريد إيصالها للأجيال قبل أن يطلبوها.
تعرفت عن الدكتور سعد الله في ثمانينيات القرن الماضي، بمناسبة موضوعه الثوري الرائع "الحاج ديكرت"، المنشور في جريدة الشعب، وقبل هذا التاريخ لم أكن أعرف من هو سعد الله؟ فهذا المقال قد هزني كما هز الكثير من أبناء الجزائر من الشاعرين "بالاستقلال المنقوص"، ومنذ عرفته لم تنقطع صلتي به، مهاتفة ومعايدة واطمئنان على صحته، وقبل ذلك وبعده قراءة كل ما يصدر من مؤلفاته بداخل الوطن وخارجه.
ثم كان مقال "الحاج ديكارت" متبوعا بمقاله الأليم "أزمة ثقافة" وهو المقال المنشور أيضا في جريدة الشعب، الذي اشتكى فيه إلى الله سرقة حقيبته التي كانت تحتوي على فصلين من جزء من أجزاء كتابه الحركة الوطنية، وبطاقات مادة تاريخ الجزائر الثقافي، في مطار من مطارات بريطانيا، حيث كان الرجل طوال السنة في الجزائر يبحث ويقرأ ويدوّن، وعندما تحين فرصة الخروج إلى الخارج وإلى حيث الجو المناسب للكتابة؛ "لأن الكتابة في الجزائر معجزة" على حد قوله، يغتنمها في إنجاز ما اكتملت مادته مما جمع.. فسرقت منه الحقيبة بما فيها، ولم يتهم أحدا بعينه يومها، ولكن من قرأ ذلك المقال يحس أنه يتهم جهة ما معادية للجزائر وللثقافة الجزائرية سواء من داخل البلاد او من خارجها؛ لأن هذه السرقة وقعت في مرحلة كانت الجزائر تمر بموجة من التحولات السياسية والثقافية والاجتماعية، فكان يومها مشروع مراجعة الميثاق الوطني، وموجة التفتح الفني، والانفتاح الإعلامي عبر تنشيط الصوت المعارض من خلال وسائل الإعلام الرسمي، الجرائد والإذاعة والتلفزيون، والتي توجت بعد ذلك بأحداث أكتوبر 1988 المعروفة.
فمقال الحاج ديكارت إلى جانب نكبة ثقافة، لم يكونا معزولين عن معارك أخرى للأستاذ في الظل كانت بين سعد الله وخصومه الطبيعيين، ويظهر ذلك في قصته مع المركز الثقافي الجزائري في فرنسا الذي يمثل "دولة" مستقلة عن الجزائر في توجهه، وإلى مشكلته مع جريدة الجزائر الأحداث الأسبوعية الناطقة بالفرنسية Algérie Actualité، التي أرسل إليها بمقال يرد فيه على قضية لا أتذكرها الآن، ولم تنشره، مما اضطره إلى نشره في جريدة الشعب.
سعد الله رجل مسالم وهادئ وأليف الطبع، ولكن توجهه الفكري والتزامه الأخلاقي جلبا عليه متاعب كثيرة، ابتداء من التماطل في تعديل شهادته "الدكتوراه" التي حصل عليها من أمريكا وانتهاء بمتاعب إتمام مشروع كتابه تاريخ الجزائر الثقافي الذي أكمل بدايته قبيل وفاته؛ لأنه عصي عن دخول الصف بسهولة.
صحيح أن الرجل عرضت عليه مناصب في الدولة ورفضها لشعوره بخطورتها على مشروعه الوطني الكبير وهو الحفاظ على هوية الجزائر بجميع أبعادها المحلية والإقليمية والدولية، بلا تهوين ولا تهويل، ولكن في نفس الوقت طبع له جزء من أجزاء كتابه "أبحاث وأراء في تاريخ الجزائر"، وأظنه الجزء الثالث او الرابع، حيث كان الكتاب يطبع تباعا الأول فالثاني فالثالث.. وهكذا، ولما طبع لوحظ ان فيه معلومة ذكرها موجودة في كتاب لرحالة وصف فيها منطقة ما.. بأن أصل أهلها يهود.. فطلب من الأستاذ حذف هذه المعلومة، إذ ان القوم فهموا من نشر هذه المعلومة أنها تصفية حسابات سياسية في جو صراعات عصب الحزب الواحد، فرفض الأستاذ؛ لأن الكلام الوارد في كتابه ليس كلامه، وإنما هو لصاحب الرحلة التي يتكلم عنها، فصودر الكتاب المطبوع في الشركة الوطنية، وبعد سنوات بيع الكتاب بالدينار الرمزي أيام تصفية الشركة الوطنية للنشر والتوزيع (SNED) او تقسيمها.
إن الدكتور سعد الله من هذه الناحية يتميز بصرامة علمية لا مثيل لها لا يعلمها القوم الذين أرادوا منه ما أرادوا، ولم يعلموا أنه قاس قسوة الجراح عندما يتعلق الأمر بالمعلومة التاريخية، ولم يستثن من ذلك نفسه حيث كان يذكر الأمر السلبي ولو كان متعلقا به.. فقد أورد كلاما في يومياته "مسار قلم"، لا يليق ذكره عادة وعرفا، منها مثلا أنه جلس مع فلان في مقهى مثلا فطلب هو شايا اما صاحبه فقد طلب زجاجة "ويسكي"، أو أنه استقبل امرأة في فندق وصعد معها إلى الغرفة؛ بل واحتج عمن عاب عليه ذلك، أو أن فلانا غضب منه لأنه يخالفه في أمر ما.. ولما قيل له إن هذه اليوميات لا يليق أن تنشر هكذا وهي من أسرار المجالس وخفايا أحاديث النفس، فقال هذا هو التاريخ وهذا هو الواقع الذي وقع بحلوه ومره؛ بل إنه حريص على إعادة نشر النصوص كما دونت في يومها ولو بأخطاء نحوية كتبت بها.
اتصلت بسعد الله هاتفيا لأواسيه عندما سرقت منه محفظته، ومؤازرة له في محنته، ولأعرض عليه المساعدة إن كان في حاجة إليها، من أجل إعادة مشروع تاريخ الجزائر الثقافي، فقال لي "يا ريت... أين نحن من جهد عشرين سنة يا فلان؟"، ومع ذلك سألني ألا أجد عندك نسخة من "تاريخ العدواني" مطبوعة او مخطوطة؟ فذهلت للطلب ولجلد الرجل ورباطة جأشه.. الرجل ضرب ضربة تسقط لهولها الكوكبة من الرجال، ومع ذلك بقي صامدا، تألم لوجع الضربة _نعم- ولكنه لم تنثن، واستمر في طريقه لإتمام مشاريعه العظمى التي كان يرى دائما أنها أطول من عمره المحدود.
إن مشروع تاريخ الجزائر الثقافي كان منذ بداية السبعينيات، وقد صدر له منه الجزآن الأول والثاني عن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، وفي سنة 1988 كان يأمل في أن يكمل جزئين آخرين ولكن المحنة المشار إليها أخرته إلى ما يقارب نهاية التسعينيات.. ولكن هذه المرة صدر الكتاب في تسعة أجزاء أي أكبر مما كان يتصور، فقد زرته في سنة 1997 أو 1998 لا أتذكر في الأردن، يوم كان في جامعة آل البيت بالمفرق، وحاولت أن أعرف منه موضوع تاريخ الجزائر الثقافي، ولم يقل لي شيئا ولم أدر أنه كان يومها في مرحلته الذهبية في استدراك ما ضاع منه وما تعطل في حياته كلها، حيث كان على مقربة من الأستاذ حبيب اللمسي صاحب دار الغرب الإسلامي المقيم ببيروت الذي أشرف على نشر كل إنتاجه.. فكان من بين ما أكمل الأستاذ تاريخ الجزائر الثقافي بأجزائه التسع، وأكمله بالجزء العاشر عندما عاد إلى الجزائر، باحتضان مركز دراسات الحركة الوطنية وأول نوفمبر، الذي تناول مرحلة تاريخ الجزائر الثقافي أثناء الثورة، ولم يبق لاكتمال المشروع إلا الفترة من الفتح الإسلامي إلى العهد العثماني، وهذه الفترة من تاريخ الجزائر الثقافي كان موزعا بين المغرب وتونس حسب رأي الأستاذ، التي كان الأستاذ يتألم لعدم إتمامها..، وقد علمت من الناشر الذي يتعامل معه
أنه أتمها قبيل وفاته وربما كانت من آخر ما أنتج رحمه الله، وحسب الناشر سوف تكون هذه المرحلة في أربعة أجزاء.
ودّع علامة الجزائر وعلامتها الدنيا ولم يأسف على شيء أسفه على الجزائر التي خصها الله كل شيء ومع ذلك هي محرومة من كل شيء، وأهم ما حرمت منه بكل أسف استقلاليتها الثقافية وتميزها الذي هي مطالبة به سياسة وثقافة واجتماعا وحضارة، وليس مزية "تتمزى" أو يتمزى بها مسؤولوها بها على أحد. طلبت من الأستاذ في نهاية الثمانينيات إفادتي بمراجع حول التغريب في الجزائر إذ كنت مكلفا بمحاضرة في مناسبة معينة، فقال لي وماذا تفعل بالمراجع؟ ها هي شوارع العاصمة تعج بكل ما تريد عن التغريب وأشكاله ومضامينه.. قال لي هذا الكلام بألم شديد وحسرة على اندثار قيم ثقافية وسياسية كانت تتمتع بها الحركة الوطنية قبل الاستقلال، وليس كما قد يتوهم المرء تهكما واستعلاء.
فرحم الله الفقيد وعوض الجزائر فريقا من أمثاله أو خيرا منه، وما ذلك على الله بعزيز.

https://www.echoroukonline.com/ara/articles/192553.html










رد مع اقتباس
قديم 2014-01-28, 13:19   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الأمينة العامة للجنة الليبية للتربية والثقافة والعلوم:
فوزية بريون


سعد الله حمل معه اللوح إلى أمريكا لتحفيظ ولده القرآن الكريم


هذه كلمة رثاء في أستاذنا الدكتور أبو القاسم سعد الله، الذي منحه رفاقه الجزائريون العارفون بفضله، لقب "شيخ المؤرخين وقدوة الباحثين"..، رثاء تخونه اللغة وتمكر به التراكيب فيتحول إلى مديح!.. إذ يجد العقل نفسه مبحرا في عوالم تراثه العلمية والأدبية والثقافية التي تفرغ مفردة الموت من معناها السديمي، فتتلاشى أمام آثاره المجسدة لعصارة فكره، وتفتقات ذهنه، ومثابراته الدؤبة على عدم إغماد قلمه، حتى في أحلك الظروف.. ليس من أجل إعمال الفكر وإحكام النظر ونشر المعرفة فحسب، وإنما لتجسيد موقف أخلاقي يفيض بالإلتزام وينضح بالمسؤولية، متنزها عن ذلك الإنفصام النكد الذي أصاب كثيرا من مثقفي جيله.
الدكتور أبو القاسم سعد الله ليس أستاذ التاريخ المبرز، بجامعة الجزائر العريقة فحسب، وليس مجاهد ثورة التحرير التي ألهمته القوافي والأقاصيص فأبلى فيها بسيف الكلمة، وأهداها إبداعا باقيا، بوّأه في تاريخ أدبها مكانا.. فقط، وهو ليس الكاتب المهموم بحال أمته الذي له في كل قضية رأي وفي كل أزمة رؤية، وكفى.
كما أنه ليس الفيلسوف الذي خبر سنن التاريخ وملابسات الوقائع والأحداث، فأحاط بها وتتبع جذورها ومساراتها واستنبط نتائجها وآثارها، وإنما هو أكثر من ذلك وأعظم وأبعد..، إنه عالم بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني متجددة. عالم لم تفارقه موهبة التعلم، لأنه آمن بأن العلم ليس له ضفاف، وأن سيد الخلق قد أوصانا بالسعي في طلبه من المهد إلى اللحد.. وعالم لم تفارقه موهبة التعليم، لأنه آمن أن الإنفاق من العلم المحصل لا يزيده إلا نماء وعمقا.. وأن مرافقة طلاب العلم والباحثين عنه وفيه، ومعايشة تكونهم الذهني وترقيهم المعرفي لذة لا تضاهيها لذة، ورسالة لا تفوقها سوى رسالات الأنبياء.. ولذلك فقد تجسدت في الراحل أخلاق العلماء، تلك البؤرة الجامعة للبحث عن الحقيقة في صدق ونزاهة وتجرد وضمير حي. ولذلك كان معصوما عن الميل بمنزلته العلمية نحو تحصيل المال أو الجاه أو المنصب، فلقد كان طلبه العلم من أجل العلم.. بل أقول إنه قد طلبه من أجل الله.. حيث لا يؤدي العلم الحقيقي إلا إلى المعرفة به والخشية منه؛ منتظما في مقام مقولة الغزالي: "طلبنا العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون لله". ولذلك فليس غريبا أن يرفض الراحل منصب وزير الثقافة، وهو منصب رفيع في أمة يتكاثر فيها المثقفون والمبدعون، وتتسامق فيها العربية بعد قرن وثلث من سياسات الفرنسة، التي أرّخ لها الراحل في مؤلفاته، وفصّل في جوانبها السياسية والثقافية والسوسيولوجية.. ترفع عن هذا المنصب، أو اعتذر عليه كما قال، لأنه كان يفضّل أوزار العلم والثقافة ولذتهما عن أوزار السياسة والإدارة، التي يلهث وراءها الكثيرون.
بدأ د.سعد الله حياته مبكرا بطلب العلم في قريته بالجنوب الجزائري، حيث حفظ القرآن، ثم رحل إلى الزيتونة ليواصل فيها تعليمه لمدة سبع سنوات، قبل أن يبتعث من "جمعية العلماء المسلمين" للدراسة في "كلية دار العلوم" بالقاهرة، وكانت آنذاك ساحة لتأييد الثورة الجزائرية، واستقبال رجالاتها ومناضليها وشبابها. وكان الراحل قد نشر كتاباته الأولى في صحيفة جمعية العلماء "البصائر"، التي دعم رسالتها وتبنى منهجها. وفي بداية الستينيات حصل على درجة الماجستير من جامعة القاهرة، ثم سافر إلى أمريكا ليحصل على درجة الدكتوراه من جامعة منيسوتا عن أطروحته المتميزة "الحركة الوطنية الجزائرية" التي ترجمت إلى العربية في جزأين، ثم توسع فيها حتى صارت أربعة.
كانت تلك أولى الخطوات في جهوده الرامية لإستعادة المرجعية التاريخية، وافتكاكها من قبضة الغربيين والمستشرقين، وتفنيد تفسيراتهم المغرضة. فلقد تيقن بأن الجزائريين أولى وأحق من غيرهم بكتابة تاريخهم وتفسيره وتحليله. وهو ما قاده بعد ذلك إلى الإلتفات إلى تاريخ وطنه الثقافي، الذي هو الثروة الوطنية، والمصدر الإستراتيجي المغذي للوعي والهوية، فانكب على جمعه ووصل أطرافه الموزعة بين دور العلم والعبادة والزوايا والخزانات داخل بلاده الشاسعة، ومكتبات العالم ومتاحفه ومراكزه العلمية، محققا في المخطوطات والوثائق والرسائل، باحثا في مآثر قومه وعظماء أمته حتى وفقه الله إلى إصدار كتابه المرجع "تاريخ الجزائرالثقافي" في تسعة مجلدات زاخرة، أعطت لوطنه وجودا لافتا بين الأمم. كما أصدر سفره الثمين "الحركة الوطنية الجزائرية" في أربعة أجزاء، ومؤلفه القيم "أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر" في خمسة أجزاء.. هذا إضافة إلى عدد من التحقيقات والترجمات وأدب الرحلات والكتابات الهادفة الرصينة.
تلقى الراحل عدة أوسمة وجوائز تقديرية منها "وسام المقاوم" عن دوره في الثورة الجزائرية، عام 1984، و"وسام العالم الجزائري" عام 2007، كما فاز عام 1991 بـ"جائزة ابن باديس" عن مؤلفاته القيمة في الثقافة العربية والإسلامية؛ وكانت الجائزة مبلغا مجزيا من المال بالعملة الصعبة، ومعلوم أنه كان في حاجة ماسة إليه، لكنه وفي حفلة تكريمه وتسلّمه الجائزة أعلن عن تبرعه بها لمكتبة جامعة الأمير عبد القادر، وأوصى بأن يطلق على القسم الذي تصفّ فيه الكتب المشتراة من قيمة الجائزة اسم "الإنتفاضة الفلسطينية"، فجسد بسلوكه هذا قيمة هي غاية في الرقي، يتحقق فيها قوله سبحانه "ويؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة". وهي منزلة عليا لا يقدم عليها إلا أكابر القوم الذين يثقون بما عند الله.
والحقيقة أن الراحل لم يصل إلى تلك المنزلة إلا بعد مكابدة ومجاهدة، ومرابطة يقظة في رباط العلم، وبُعد عن الأضواء وترفع عن السفاسف.. ذلك أنه كان رجلا أمة.. مفكرا موسوعيا.. باحثا ومؤرخا ومثقفا رفيع الطراز؛ قضى في خزائن كنوز المعرفة سواد شبابه وبياض شيخوخته، ولم يفارق القلم يمناه حتى عندما طلب منه الأطباء التوقف عن الكتابة في مرضه الأخير.. فلقد كان ذلك هو فسيلته التي أراد أن يسقي بمدادها تربة الفكر قبل أن يلاقى ربه.
قابلت د. سعد الله أول مرة في أغسطس 1969 عندما حضر إلى طرابلس عضو وفد بلاده إلى "مؤتمر أدباء وكتاب المغرب العربي"، وكنت قد اخترت حينها من قبل الأستاذ علي مصطفى المصراتي، عضواً في الوفد الليبي مع الشاعرة هيام الدردنجي وثلة من الكتاب الليبيين، وكنت قد تخرجت لتوي من "كلية المعلمين العليا"، ولم يكن رصيدى سوى بعض الكتابات الصحفية والمحاولات الشعرية، أما د. سعد الله فكان شاعرا وقاصا وأستاذا جامعيا.
ومرّ زمن قبل أن نلتقي مرة أخرى في الثمانينيات في أمريكا، عندما قابله زوجي في إحدى مرافق "جامعة متشجن" فتعرف عليه ودعاه مع زوجته وابنه الوحيد أحمد إلى بيتنا، فتوثقت الصلة بيننا منذئذ على المستويين الشخصي والعلمي؛ وكنت آنذاك في صدد تجميع المادة العلمية لموضوع أطروحة الدكتوراه عن مالك بن نبي، فوجدت منه كل دعم وتشجيع، إذ زودني بكثير من المصادر والمراجع التي كان يصعب عليّ الوصول إليها لولاه. كما قام لاحقا بقراءة بعض الفصول وإبداء ملاحظاته القيمة حولها، مسجلا إعجابه بالفصل الأول من الأطروحة، الذي بينت فيه ما لحق الجزائر جراء الإستعمار الفرنسي من تحطيم لبنيتها التعليمية والإجتماعية. ولقد كان للدكتور سعد الله الفضل في ربطي ببعض القامات الجزائرية من أمثال الدكتور عبد الرزاق ڤسوم، والدكتور محمد ناصر، الذي أهداني مجلدي الشيخ طفيش عن سليمان الباروني، والدكتور العربي معيريش، الذي قام بالبحث عن حمودة الساعي صديق بن نبي فسجّل لي ذكرياته عن مالك. وبعد أكثر من عقدين، عندما أذن الله بطبع الترجمة العربية تكرم د. سعد الله بكتابة تصدير للكتاب "مالك بن نبي: عصره، حياته ونظريته في الحضارة".
لقد ظل د. سعد الله يتردد على مكتبة جامعة متشجن كلما سنحت له الفرصة، وكلما مكنته ظروفه المادية من توفير ثمن ثلاث تذاكر له ولأسرته، فكنا نسعد به وبأسرته، حيث نقضي الساعات في مناقشة موضوعات الساعة ومنها حتما الأوضاع في الجزائر وليبيا، أيام نكبتها الأخيرة. وكان الراحل يبدأ يومه بالذهاب إلى مكتبة الجامعة فيعتكف كالراهب المتبتل في ردهاتها وبين رفوفها وقاعاتها، باحثا عن تاريخ بلده وجذور أمته، ولا يفارقها حتى تقفل أبوابها في أماسي الصيف الطويلة، فيعود إلى بيته ليراجع "لوح" القرآن الذي جاء به من الجزائر ليكتب فيه أحمد سورة بعينها أو آيات يكون والده قد حددها له، فيسمعه ما حفظ، قبل أن يستعد لغيرها في اليوم التالي. وكانت حفصة، أم أحمد، الزوجة الصبور، والقارئة النهمة، المطلعة على جهود زوجها والمثمنة له ولها، خير داعم له ولكل المشاريع الكبيرة التي صرف فيها جلّ وقته وعصارة عمره.
ماذا عساني أن أكتب عن هذه القامة السامقة، وأنا التي عاصرتها وجالستها وقرأت لها وتراسلت معها فإذا بي عاجزة عن الإلمام ولو بجزء يسير من علمها ومعارفها وهمتها التي قدّت من الصخر مآثر، وفتحت للأفكار معابر.. وتمسكت بالأصالة والانتماء فكانت كالطود في محيط الرياح العاصفة؟ حسبي الآن هذا الإقتراب الوجل من عالمه المهيب، وهذا الإحتفاء الحزين بانتقاله إلى رحاب الرحيم الودود الشكور، ليحبوه ويكرمه.
إن لي معه مراسلات وفي أدراجي ببلاد الإغتراب عددا من الخطابات بخطه المنمنم، تضم أفكاره واقتراحاته، وومضات من وجدانه المرهف في ظروف مختلفة من تاريخ الأمة، لعلني أتفرغ لها يوما لأضيف لتاريخ هذا الرجل العظيم، الذي أصبح الآن صفحة نورانية من تاريخ الجزائر الثقافي الذي كان أول من ارتاد متاهاته ونظم سجلاته.
رحم الله شيخ المؤرخين وقدوة الباحثين، وعوض الله الجزائر والعرب والمسلمين فيه خيرا، ووفق ابناءه وتلاميذه للإقتداء به والسير على طريقه.. وعزاء محبيه أنه وإن انتقل بجسده، فهو باق بآثاره ومؤلفاته وأسفاره، وبما جسده من خلق وتواضع ونزاهة وترفع عن زخرف الحياة الفانية.
جمعنا الله به في جنان الفردوس مع الشهداء والعلماء والأولياء.. وحسن أولئك رفيقا.




https://www.echoroukonline.com/ara/articles/191633.html












رد مع اقتباس
قديم 2014-01-28, 13:20   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الكاتب:
مصطفى وديع


رحمك الله يا سعد الله... يا شيخ الكرام


رحمك الله يا شيخ الكرام، وعطّر ثراك وبلّل ضريحك بماء الكوثر.
لقد فقدتك الأسرة الأكاديمية وخسرتك الجامعة والبحث العلمي، وفجعت في فقدك الجزائر التي حينما صرخت ونادت يوما يا بنيّ من لي في هذه الظلمة من الاحتلال الفرنسي قهرا وظلما وجورا وإبادة وحرقا وهتكا للأعراض ... فقلت أنا دون انتظار لمبادرة الآخرين فصدق فيك قول طرفة ابن العبد:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني * عنيت فلم أقعد ولم أتبلد
فجعت فيك الأمة العربية الإسلامية لأنك من أهل الهمم الذين لم يضعفهم الحال وتسكنهم مشدات الوهن وزخارف الحياة ، فكان قلمك بعّاثا لنور لب الجمال في هذه الأمة وأننا ما خلقنا إلاّ أسيادا في هذه الحياة يحبون الخير للناس جميعا، كما كان قلمك سيف في وجه جحّاد الخير والفضل والتاريخ فكنت نعم الكاتب للجزائر وللإسلام.
رحمك الله يا شيخ الكرام يا من فقدك أبناؤك من أهل التاريخ وأنا منهم لقد كنت نعم الباحث خيارا ومنهجا وناقدا ومقلبا للروايات.
كنت نعم الباحث في الصبر وتحمل المصاعب من أجل الوصول إلى الهدف دون كلل أو ملل ولم تزدك العوائق إلاّ إصرارا على التغلب والاجتهاد في إحداث وسائل الوصول إلى الهدف، كنت نعم الباحث الذي لم يوهنه البعد عن امتلاك وسائل الوصول مثلما أوهن الكثير ولم توهنه قلة العيش وضعف الحال في الانطلاق للوصول إلى أعلى الدرجات، إنها همم الرجال الذين صدق فيهم قول الشاعر :
بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها * تنال إلاّ على جسر من التعب
إنها همم الرجال الذين أدركوا بأنه ليس كل الموت مغيب بل هناك موت ينبعث منه الخلود في هذه الحياة. وإن ذلك لن يحققه المال وإن زاد ولا المنصب وإن علا، ولا استعباد الناس وإن جلا وجلا وإنما بابه واحد هو العلم، لأن العلماء أصحاب البصيرة هم أكثر قربا لفهم الحياة وما يراد وهم أحق الناس بالفخر
ما الفخر إلاّ لأهل العلم أنهمُ * على الهدى لمن استهدى أدلاّء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه * و الجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حيا به أبدا * الناس موتى وأهل العلم أحياء
فمن سيعوّضك في طلب العلم وإتقان العمل والحرص على مستوى الطلبة حتّى لا يتدنّى بهم المتدنّون ويعبث بهم العابثون.
كنت مؤرخا في أعلى طراز في الأخلاق والانضباط والاجتهاد والتفوّق، وكنت ابن "ڤمار" الأصيلة وحفيد الكرام البررة، كنت ابن الجزائر البار الذي لم يكبّله ظلم الاحتلال عن الوصول ولا أوهامه لاستجلاء منابع الحق التي هي الأحق. كنت نعم السفير في الشرق أم في الغرب لهذه الأرض الطيبة تجدّ في اكتساب العلم وتجتهد في معرفة الأصول وتكدّ في إبلاغ تاريخ الجزائر الحر وفوق كل ذلك تبرز عبقرية هذا الوطن في رجاله وأخلاقه وعلمه وسيادته.
من لنا بعدك يا شيخ الكرام بمثلك فقدنا عظمة الأساتذة - ونسأل الله أن يعوضنا - الذين يؤثرون على أنفسهم ويسهرون على تخريج طلبة أقوياء مؤهّلين لشقّ طريق البحث العلمي في حين راجت بضائع الانتهازيين والوصوليين.
من لهؤلاء الطلبة الأيتام، وقد غبت عنهم وخلا منك الميدان، ولعلمهم سيجدون زعانف ومبتذلين، ولكنهم لن يجدوا مثلك في تقديم النصح وتقويم العوج والانقطاع للبحث والكتابة والمنافسة على التفوّق البريء.
لقد غادرت ساحتنا يا شيخ الكرام بعد أن عرفناك طالبا نموذجا في طلب العلم ضحيت بالنفس والنفيس من أجل العلم لا من أجل الشهادة. وأستاذا عبقريا يلتزم قبل أن يطلب من غيره الالتزام. غادرتنا في أوجّ الشتاء والأرض عطشى و الناس لهفى والعصافير يُمنة ويسرى تبحث عن الكريم الأصيل وقد شحّت الأرض وعجزت النساء في مثل هذا الزمان أن تنجب من أمثالك الكل في طلب من الله أن يرزقنا الخير. فنسأل الله أن يرزقنا عوضا عنك وأن يحرك همم الكتاب وأصحاب الأقلام أن ينحوا نهجك وأن يعلموا أن الموت موعود فلا تكتبنّ بكفك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه، فَلَكَ أن تُسرّ يا سعد الله واهنأ لأنك ما كتبت إلاّ ما سَيَسُرُّك الله به يوم القيامة.
رحمك الله يا سعد الله، لقد فقدنا فيك الشجرة التي تغطينا كباحثين فانكشفنا، وفقدنا فيك البحث التاريخي الأصيل فاهتززنا، وفقدنا فيك العالم صاحب القيم والمبدأ فهل على أثرك سنبني ؟ وفقدنا فيك العطاء والإبداع فهل بميزاتك سنغنى؟
لا بحيلتنا إلاّ أننا نسأل الله أنه مثلما علّى من مقامك في الدنيا أن يزيدك علوا في الآخرة كما نسأله أن يثبت فينا كلمة وفاء لك على إتباع النهج ودمعة أسى وفقد لأب ومعلم لكل أبناء الجزائر والإسلام.










رد مع اقتباس
قديم 2014-01-28, 14:24   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
سمير عطلاوي
عضو مشارك
 
إحصائية العضو










افتراضي

بارك الله فيك
وجزاك خيرا









رد مع اقتباس
قديم 2014-01-28, 14:34   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الداي محمد عثمان مشاهدة المشاركة
بارك الله فيك
وجزاك خيرا
و فيك بارك الله









رد مع اقتباس
قديم 2014-01-28, 14:35   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

أرجو التفاعل من الأعضاء الكرام وبارك الله فيكم









رد مع اقتباس
قديم 2014-01-29, 15:23   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الكاتب:
أمينة صاري
شهادة من الجيل الأخير من الطّلبة في حقّ الدّكتور أبو القاسم سعد الله رحمه الله


لأوّل مرّة منذ أن دخلتُ الجامعة أشعر باليأس والإحباط.. لأوّل مرّة منذ ثمان سنوات مرّت على تحصيلي العلمي أشعر أنّ المسؤوليّة المناطة بجيلنا كبيرة وعظيمة، وأنّ الـحِمْلَ ثقيل.. ثقيل ثقل الجبال، رغم أنّي بذلت قصار جهدي لحدّ الآن في سبيل البحث العلمي وبكل أمانة، فقد أدركت بعد رحيل أستاذنا الفاضل الدّكتور أبو القاسم سعد الله رحمه الله تعالى، أنّ جيلنا نحن من سيكون سعد الله آخر، أنّنا نحن من سيحمل راية العلم ويكافح من أجله بنفس المنهج، ونفس الإصرار، ونفس الأمانة العلميّة.. أنّنا نحن من سيحمل تلك الأخلاق العلميّة السّامية.. أنّنا نحن من سيكافح من أجل إعلاء كلمة الدّين الإسلامي والعروبة والوطن. فهل نستطيع أن نكون بمثل ربع تلك القامة العلميّة الّتي فقدناها؟
رحل عنّا ذلك الرّجل الّذي عرفناه اسما وقلما، قبل أن نعرفه شخصا، ذلك العالم الجليل الّذي علّم من علّمنا من أساتذتنا الأفاضل، وزرع فيهم القيم والأخلاق السّامية، الّتي زرعوها هم بدورهم فينا.. فقد كان الفضل في معرفتي للدّكتور سعد الله رحمه الله في السّنة الأولى ليسانس، للأستاذ محمّد العربي معريش في تطبيق وحدة تاريخ الجزائر، ولطالما كان لسانه ينهج بذكر هذا الاسم الكبير، فعَلَّمَنَا منهج البحث العلمي على طريقة أستاذه، ولم يكتف الأستاذ معريش بالحديث لنا عن أستاذه وتوجيهنا إلى الاطّلاع على كتبه، بل برمج لنا لقاء معه. لكنّ ولسوء حضّي فقد حضر الدّكتور سعد الله حصّة الفوج الآخر، وعندما جاء دور فوجنا غادر لأنّ وقته لم يسمح له بالبقاء أكثر، فلم أره في ذلك اليوم إلا وهو يغادر، وتبعته بنظراتي إلى أن خرج من الرّواق. تلك كانت أوّل مرّة أراه فيها.
وفي السّنة الموالية حظيت بمشاهدته مرّة أخرى، إذ احتاجت أختي _ وكانت وقتها تحضّر مذكرة ماجستير في الأدب العربي عن شخصيّة علميّة و أدبيّة جزائرية في العهد العثماني- إلى استشارته رحمه الله، فجاءت و التقت به و تحاورت معه، كنتُ أنا مثل المتفرّجة على حوارهما، مع شعوري بالـخجل كوني أقف أمام عالم جليل مثل الدّكتور سعد الله. وإذا كنتُ في مرحلة الليسانس لم أحض بفرصة للحديث المباشر معه، وما ذلك إلاّ بسبب خجلي وحيائي من عالم مثله، أو لأنّي لم أكن أملك الجرأة التي اكتسبتها في مرحلة الماجستير ( فيما بعد)، إلاّ أنّ ذكره لم يغب، فأغلب الأساتذة كانوا يوجّهوننا إلى استعمال كتبه في بحوثنا ويتحدّثون لنا عنه، مثل الأستاذ مصطفى نويصر، والأستاذ عمّار بن خروف، والأستاذة عائشة غطّاس رحمها الله.
وبعد تخرّجي، شاركت في مسابقة الماجستير وكنتُ من النّاجحين والحمد لله، وهنا بدأت مرحلة جديدة في حياتي، مرحلة مكّنتني من الاحتكاك المباشر بالدّكتور سعد الله، فعرفته عن قرب، وكنت إحدى طالباته، وكان وقتها يدّرس وحدة "العلاقات الثقافية بين الشرق والغرب في الفترة الحديثة"، ولم أكن أنا أنتمي لنفس التّخصّص الّذي يدرّس فيه، لكنّ نفسي كانت تتوق للدّراسة عنده، فقصدته ذات مرّة وكان يدرّس يوم الأربعاء من الثّامنة والنّصف صباحا إلى العاشرة، انتظرت إلى أن جاء وقبل أن يدخل الحصّة تحدّثت معه، طلبتُ منه أن يسمح لي بحضور حصّته طوال تلك السّنة _ السّنة الدّراسيّة 2009/ 2010م- وكم كانت فرحتي كبيرة عندما كانت إجابته "نعم". ومن ذلك اليوم أصبحت أحرص على الحضور كل أربعاء من كلّ أسبوع، وخصّصتُ للوحدة كرّاسا أنيقا لأكتب فيه كلّما يقوله الدّكتور سعد الله في حصّته.
لم يشعرني الدّكتور سعد الله أبدا أنّي لا أنتمي إلى تلك المجموعة، بل كنتُ في نظره فردا من أفرادها، و ها أنا ذي الآن أردّ بعضا من جميله عليّ إذ أنقل كلمة صدق في حقّه رحمه الله، وبكلّ إخلاص، ولا أبغي في ذلك إلاّ وجه الله تعالى، فأنا لا أهدف إلى الشّهرة والتّسلّق من خلال اسمه فهذه الشّهادة سيسألني الله عزّ وجلّ عنها يوم القيامة، إن لم أتحرّى فيها نقل الحقائق وبكلّ عفويّة.
منهج الدّكتور سعد الله في إلقاء درسه:
يعتمد منهج الدّكتور سعد الله في الأساس على التّحاور، وأن يجعل كلّ طّالب شاء أم أبى فعّالا في كلّ حصّة، وهو يقوم على طرح الإشكاليّة وإعطاء آرائه ومعلوماته حولها، مع السّماح للطّلبة بالمشاركة، فيحاورهم ويناقشهم، ويحاول إقناعهم بآرائه، ويقتنع بآرائهم إن كانت صائبة، فقد كان يسود الدّرس جو من المناقشة العلميّة الرّاقية بينه وبين الطّلبة، وهو في كلّ هذا يحاول أن يخرج ما في فكرهم من عصارة علميّة، وهو في منهجه هذا يختلف عن منهج بعض الأساتذة القائم إمّا على الشرح دون السّماح بإدلاء الآراء، أو القائم على الإملاء، مع العلم أنّ هذا الأخير يقتل الفكر ويحجّره، فتجد الطّالب يوم الامتحان يرجع للأستاذ بضاعته كما هي وعندما يتخرّج تتلاشى تلك البضاعة ولا يبقى منها إلاّ السّراب.
كان الدّكتور سعد الله في كلّ حصّة تقريبا يحضر معه مجموعة من المصادر والمراجع الّتي تدخل في صميم موضوع الحصّة، فيمرّرها علينا ويحدّثنا عنها وعن قيمتها العلميّة، ولا يخطر ببال أحد أنّ تلك الكتب كانت من إنتاجه لا والله، فما كان منها من هذه المراجع التي كان يحضرها معه يمثّل فقط خمسة بالمائة، إذ لم يكن من النّوع الّذي يتباهى بما قام به من أعمال، رغم أنّ مؤلّفاته كانت بالنّسبة لنا أشهر من نار على علم.
ومن جهة أخرى كان يحبّ أن يجعل من الطّالب يبحث ويبحث ويبحث، فكان يطلب من الطّلبة القيام ببحث أساسي للوحدة، كما يكلّفهم في كلّ حصّة بالقيام بأبحاث صغيرة، كالبحث عن هذه الشّخصيّة أو تلك، والبحث في هذا المصدر أو ذاك، وفي آخر السّنة بلغ عدد هذه البحوث الصّغيرة لكلّ طالب أكثر من عشرين، وكان يسأل باستمرار عن تقدّمهم في البحوث، وعن المصادر والمراجع الّتي تحصّلوا عليها، ويوجّههم إلى أخرى قد تفيدهم، وبين الفينة والأخرى كان يتيح الفرصة لأحد الطّلبة لعرض بحثه، ويرغّب زملائه في مشاركته بأفكارهم وآرائهم، ومناقشته مناقشة علميّة، بالإضافة إلى إثرائه هو رحمه الله لموضوع الطّالب بمعلوماته القيّمة والكثيرة.
لطالما حدّثنا عن أبي راس النّاصري، والورثيلاني، والتامقروطي، والـمُحِبـِّي، وابن القاضي، والـمقَّري. هذا الأخير الّذي كان معجبا كثيرا به، وكان له منهجه ورأيه الخاص في نطق اسمه، فالكثير من الباحثين يقولون: "الـمَقَرِي"، أو "الـمَقَرِّي" إمّا بفتح الميم والقاف، وكسر الراء دون تشديدها، أو بكسر الرّاء وتشديدها، لكنّ الدّكتور سعد الله كان يقول لنا "الـمَقَّرِي" بفتح الميم، وفتح القاف وتشديدها، ويقول لنا أنّ اسمه نسبة إلى بلدة مَقَّرَه.
حدّثنا مرّة عن مظاهر التّأثير العثماني في المجتمع الجزائري، وطلب منّا أن نقدّم له نماذج عن ذلك التّأثُّر، فراح كلّ طالب يدلي دلوه. فأعطيناه أمثلة مثل: في الألبسة، وفي العمارة، وفي الفنون، وغيرها من الأمثلة، وإذا بهاتفه يرنّ _ وكان ذلك ناذرا في الحصّة- فبدأ يبتسم وقال لنا: "ما هذا؟" وكان يقصد رنّة الهاتف، وهي رنّة تركيّة هادئة، وبهذا أوحى لنا أنّ من هذه المظاهر، التّأثّير في الموسيقى. كما أشار في نفس الموضوع إلى مسألة ألقاب بعض العائلات الجزائريّة، وخاصّة من العاصمة التي لا تزال لحدّ الآن تفتخر بنسبها الممتدّ إلى الأتراك، وإذا به يوجّه الكلام لي، ويقول مثل عائلتك أنتِ، من دون أن أخبره أنا أنّ أصولي تركيّة، إذ أنّه رحمه الله كان خبيرا بمثل هذه الألقاب.
https://www.echoroukonline.com/ara/articles/190461.html
يتبع...









رد مع اقتباس
قديم 2014-01-29, 15:24   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الكاتب:
أمينة صاري
منهجه في التّعامل مع طلبته:
كان رحمه الله متواضعا بكلّ معنى الكلمة، يتعامل مع الطّلبة كأنّهم أبنائه، يستمع لانشغالاتهم، ويهتمّ بآرائهم، يساعدهم ويوجّههم كلّما طلبوا ذلك، وهو في تعامله هذا لا يفرّق بين الطّالب الّذي سبق وأن درّسه، أو الطّالب الّذي لم يره من قبل، بل يعاملهم على السّواء، وكنت أنا في السّنة النّظريّة من الماجستير، بل ومن السّنة النّهائية في الليسانس أحلم أن أقوم بتحقيق مخطوط في مذكرة الماجستير، فسعيت في خلال تلك السّنة النظرية إلى الاستفسار من الأساتذة عن منهج التحقيق وأن يقترحوا عليّ نماذج من المخطوطات لأقوم بتحقيقها، ولطالما استشرته في هذا الموضوع، فكان يثني على رغبتي هذه ويشجّعني رحمه الله، حتّى أنّه في إحدى الحصص كنّا نتحدّث عن موضوع ما، ثمّ طلب منّا أمثلة، فبادرت أنا إلى الحديث عن المخطوطات، ضحك رحمه الله كيف أنّي لا يخرج حديثي عن مجال التّحقيق والمخطوطات، وكيف أنّي كنت مهووسة بهذا المجال، والحمد لله فقد وفّقني الله لتحقيق قسم من مخطوط "الجامع الكبير" للشّيخ عبد الرّحمن الثّعالبي، وناقشت مذكرتي في شهر فيفري 2013م، وكنت في خلال بحثي هذا لـمّا استشرته، أفادني رحمه بمعلومات قيّمة، سواء عن الثّعالبي، أو عن أماكن تواجد مخطوطات أو مصادر قد تفيدني، وكانت فرحتي كبيرة عندما أريته مذّكرتي و أبدى إعجابه بما قمتُ به من عمل، وهذه شهادة أعتزّ بـها.
كان أساتذة القسم _ الّذين كان أغلبهم من طلبة الدّكتور سعد الله- عندما يرونه يتزاحمون من أجل إلقاء التّحيّة عليه، والاستفادة من علمه، وهم في ذلك الموقف كنتُ أرى فيهم مثل الأبناء البررة الّذين اجتمعوا على والدهم الحنون لكي ينالوا بركته ورضاه، وهو رحمه الله كان يعطي كلّ ذي حقّ حقّه ولا يبخل بأي معلومة مهما كانت صغيرة.
لكن الشيء الّذي يحزّ في نفسي أنّني فقدت في كلّ مرّة عالما كبيرا وأنا في أمسّ الحاجة إلى استشارته، وحدث معي هذا مرّتين، ففي مرحلة الماجستير أردت استشارة الشيخ عبد الرّحمن الجيلالي في موضوعي، لكنّ الموت سبقني إليه، والآن وأنا مقبلة على مرحلة الدّكتوراه رغبت في استشارة الدّكتور سعد الله، فقيل لي أنّه مريض، فاستغنيت عن الاستشارة، بل أجلتها في سبيل راحته وسلامته، وإذا بخبر وفاته يصعقني كما صعق الجميع.
وبالرّغم من مرور أكثر من خمسة عشر يوما على رحيله عن هذه الدّنيا الفانية، إلاّ أنّني لا أزال غير مستوعبة لرحيله، أهو حقيقة أم أنّه كابوس مزعج أستيقظ منه فأجده حيّا يرزق، لازلت أبكيه كلّما رأيت صورة له، أو قرأت عنه مقالة في الجريدة، اعتدت في كلّ سنة أن أرى اسمه في جدول توقيت الـماجستير في قسم التاريخ بجامعة الجزائر2، لكن هذه السّنة تألّمت كثيرا وأحسست بفراغ كبير لـمّا لم أجد اسمه (حينها كان مريضا)، كانت كلّ دعواتي له بالشّفاء، لكنّ "فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ" ( الأعراف، الآية 34).
حديثه عن سيرته و إنجازاته:
لم يكن الدّكتور سعد الله رحمه الله، من النّوع الّذي يجعل الحصّة مجالا لعرض سيرته الذّاتيّة، أو تمجيد إنجازاته، بل كان جلّ اهتمامه هو أن يكون درسه مليئا بالمعلومات القيّمة، وإنّ عدد المرّات الّتي حدّثنا فيها عن نفسه تعدّ على الأصابع، وهي في الغالب الأعم تأتي عفويّة عند حديثه عن موضوع ما تطلّب منه أن يقدّم لنا نموذجا عن حياته. وبالرّغم من ذلك فقد دوّنت في كرّاسي وبكلّ دقّة بعض المعلومات التي أفادنا بها عن مسيرته العلميّة، وبعض المواقف في حياته وبالفعل فقد كنّا محضوضين كونه رحمه الله حدّثنا بنفسه عنها.
أخبرنا كيف كانت رحلته للدّراسة في أمريكا، وكيف أنّه سافر بجواز سفر تونسي، كونهم كانوا في ذلك الوقت لا يعترفون بجواز السفر الجزائري، وكيف أنّه كان من المفروض أن يدرس اللّغة لمدّة سنة كاملة، قبل أن يتوجّه للدّراسة في إطار التّخصّص الّذي اختاره، ثمّ كيف استعجل في طلبه للدّراسة في الجامعة قبل إنهائه دراسة اللّغة، حدّثنا أيضا عن بعض مؤلفاته مثل كتابه "مسيرة قلم" الّذي دوّن فيه سيرته الذّاتية ومواقفه فيه، وحدّثنا عن موقفه من الانخراط في السياسة أو تولّي المسؤوليّات، وكيف أنّه كان يفرّ منها لدرجة أنّه في إحدى المرّات اختبأ أربعة أو خمسة أيّام في إحدى الولايات، عندما طلب منه تولّي منصب ما.
كما برز لنا تواضعه الكبير من خلال إعرابه عن امتعاضه لكون إحدى الجامعات الوطنيّة قامت بتكريـمه، إذ قال لنا ما مفاده أنّه لا يعتبر تقديـم برنوس له تكريـما، بل تكريمه الحقيقي هو بإقامة ندوات علميّة وفكريّة، فقد كان رحمه الله يحبّ أن نكون نبّائين و فعّالين في المجتمع، لا أن نكتفي بالشّعارات البرّاقة.
مكانة الدّكتور سعد الله العلميّة:
لم يكن الدّكتور سعد الله رحمه الله رجلا عاديّا، بل كان كما قيل عنه شيخ المؤرّخين، ومؤسّس المدرسة التّاريخيّة، أديبا وناقدا، كان عالما موسوعيّا.. بل عالما من زمرة الكبار، كما جمع مع علمه سمتا حسنا، ونبلا كبيرا، أخلاقا عالية، وإنسانيّة راقية.. وإذا أردنا أن نشبّهه بغيره من العلماء فإنّنا نجده قد جمع بين شخصيات عديدة فهو ابن خلدون هذا الزّمان من ناحية كونه كان مجدّدا في زمن الرّكود الفكري، لكنّ الفرق بينه وبين عبد الرّحمن بن خلدون، أنّ السّياسة أغرت هذا الأخير فجرى وراءها حتّى كادت توصله إلى الهلاك، فيما راح أخوه يحيى ضحيّة من ضحاياها، أمّا الدّكتور سعد الله فقد هرب منها بكلّ ما أوتي من قوّة في الوقت الّذي كانت هي تفتح له أبوابها.
إنّ الدّكتور سعد الله شبيه بالعالم الجليل أبـي عبد الله محمد الشّريف التلمساني، في كونه كان محبّا لوطنه رغم الحظوة التي نالها عند السّلطان المريني أبي عنان الذي جلبه معه من تلمسان إلى فاس، ولأنّه آثر العودة إلى بلده على البقاء بفاس، كما يكمن الشبه بينهما في كون كلاهما كان عالـما موسوعيّا تجده في مختلف العلوم والمعارف، وكلاهما كان شغله الشّاغل هو التّدريس وتكوين الطّلبة فخرج على يدي الشريف التلمساني عبد الرّحمن وأخوه يحيى ابن خلدون، وابن قنفذ القسنطيني، والإمام الشّاطبي وابن عتاب.
وتخرّج على يدي الدّكتور سعد الله جملة من الأساتذة الّذين حملوا نفس أهدافه وقيمه، لكنّ الفرق بينهما أنّ الشريف التلمساني انشغل بالتّدريس وتكوين الطّلبة عن التّأليف فلم يخلّف إلاّ القليل، أمّا الدّكتور الدكتور سعد الله، فقد كان منشغلا بالتّدريس والتّأليف معا. وقد قال السلطان أبو عنان المريني في الشريف التلمساني مقوله كأنّي به يقولها عن الدّكتور سعد الله، إذ قال: "لكأني أرى العلم يخرج من منابت شعره".
إنّ شهرة الدّكتور سعد الله بين طلاّب العلم شبيهة بشهرة العالمين الجليلين أبي عبد الله محمّد ابن مرزوق الخطيب (الجدّ)، وأبي عبد الله محمد ابن مرزوق الحفيد، الّذين وصلت شهرتهما العلميّة حدّا جعل الطّلبة تقصدونهما من كلّ حدب وصوب، وجعلتهم يتغنّون بخصالهما الحميدة ويصفونهما بأرقى الصّفات، كما أنّهما كانا غزيري التّأليف مثله رحمه الله.
أمّا عن ابتعاده عن السّياسة وعن المناصب، فإنّي أرى فيه العلاّمة أبا زيد عبد الرّحمن الثّعالبي، الّذي لم تغره السلطة في حياته، زاهدا فيها إلى حدّ بعيد، منشغلا بالتّدريس والتّأليف وتنوير عقول النّاس، بل ونجده من خلال الرّسالة التي اكتشفها الدّكتور سعد الله وقام بنشرها يحرّض على الجهاد والوقوف ضدّ الأعداء، وقد قال عنه الدّكتور سعد الله رحمه الله: "..إنّ الثعالبي قبل هذه الرسالة كان في نظرنا رجلا سلبيا متفرجا على الأحداث التي كانت تجري في عصره، أما بعد هذه الرسالة فقد أصبح في نظرنا رجلا إيجابيا داعية خير وجهاد، عمليا في أفكاره وتصرّفاته..". ومثلما انتشرت واشتهرت كتب الثّعالبي في حياته كما قال أحد تلامذته: "..وأنّ في شيخنا هذا وتواليفه لسرّا بديعا و أمرا رفيعا، و لقد ظهرت تواليفه في حياته وسارت بها الرّكبان في الآفاق مع وجوده.. وربّما يكون في أثناء بعض تصانيفه والنّاس يختطفونه من يده ويتبعونه بالنّسخ، حتّى ربّما أدركه النّسخ قبل أن يستكمل الكرّاس فينتظرونه.."، فقد انتشرت كتب الدّكتور أبو القاسم سعد الله في حياته على اختلاف مواضيعها وأسمائها.
إنّ الدّكتور سعد الله شبيه بالعالم التّلمساني الشّهير الّذي لطالما أبدى إعجابه به وبإنتاجه العلمي، أبي العبّاس أحمد بن محمّد الـمَقَّري.. شبيه به في حلّه وترحاله في مختلف الأماكن لتلقّي العلم، وهو من حدّثنا مرّة عن فوائد السّفر إذ قال: "سافر فإنّ في الأسفار خمس فوائد، تفرّج همّ، واكتساب معيشة، وعلم، وآداب، وصحبة ماجد". ومثلما أبدع الـمقَّري في موسوعته "نفح الطّيب في غصن الأندلس الرّطيب"، أبدع الدّكتور سعد الله في موسوعته "تاريخ الجزائر الثّقافي"، وفي غيرها.
وفي مجال اهتمامه بالتّراث الجزائري وبحماية المخطوطات من الضّياع والقيام بتحقيقها لتكون في متناول طلبة العلم، فإنّي أرى فيه محمّد ابن أبي شنب هذا العصر، فلكليهما مساهمات جبّارة في نفض الغبار عن عدد من المخطوطات القيّمة وتقديمها للباحثين.
أفنى الدّكتور سعد الله حياته في الدّفاع عن مبادئه.. وفي خدمة وطنه، كما كتب هو بقلمه في النّسخة الّتي اشترتها عائلتي من كتابه "أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر" وطلبتُ منه أن يشرّفني ويكتب لي فيها بقلمه، فكتب ما نصّه: "يشرّفني أن أهدي هذا الكتاب إلى عائلة صاري المحترمة، وهو ثمرة من ثمرات جهدي العلمي في خدمة الوطن، فتح الله على الجميع سعد الله 3 فبراير 2010".
بهذه الخصال الحميدة عرف الجميع الدّكتور أبو القاسم سعد الله، وأحبّوه حتّى النّخاع مثلما أحبّ هو وطنه، وسخّر قلمه لأجله، متمسّكا بمبادئه.. رأوا فيه الأستاذ والعالم الجليل، والإنسان المتواضع.. ومن يتواضع للعلم يرفعه الله تعالى درجات.. وأختم بقول الله تعالى:
" يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ"
(المجادلة، الآية 11).
رحم الله الدّكتور سعد الله وأسكنه فسيح جنّاته
اللّهمّ اجعل كل الطّلبة الّذين درّسهم الدّكتور سعد الله في ميزان حسناته
اللّهمّ اجعل كلّ ما قام به من تآليف وما قدّمه من علم صدقة جارية ينتفع بها يا ربّ العالمين
اللّهمّ اجمعنا به في جنّتك كما جمعتنا به في هذه الدّنيا

https://www.echoroukonline.com/ara/articles/190461.html









رد مع اقتباس
قديم 2014-01-29, 15:28   رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الكاتب:
محمد الأمين بلغيث


مواقف إنسانية عشتها مع العلامة أبو القاسم سعد الله (1/2)

لعلني لا أبالغ، فأرى من خلال تجربتنا التي تزيد عن ربع قرن، ونحن نقرأ ما ينتج الأستاذ الكبير سعد الله فأقول إنه المؤرخ الموسوعي، متعدد المشارب والاهتمامات، فقد قرأنا له ما كتب في مجلة الآداب وقد كان شابًّا يافعًا يشارك في التأسيس للقصيدة الحرة، فهو بحسب النقاد من أوائل الشعراء الجزائريين الذين كتبوا القصيدة الجديدة، خارج دائرة القصيدة التقليدية العمودية، كما شاهدنا همته وهو يقوم بتدوين تاريخ الجزائر بداية من 1830إلى غاية 1945م، بوعي نادر يسابق به الزمن وهذا في عمله الموسوعي "الحركة الوطنية الجزائرية" كما ساهم مساهمة بالغة في تسجيل وتدوين تاريخ الجزائر الثقافي بداية من القرن الخامس عشر إلى منتصف القرن العشرين (1954م).
ولعل المصاب الجلل، والعملاق الذي هوى ستتذكره الجزائر في حولياتها، لأنه قام بواجبه كأي رجل شريف خدم أمته.
لهذا أقدم هذه المواقف الإنسانية التي عرفتها وأنا أتعامل مع شيخ المؤرخين الجزائريين من بعيد، حتى لا أقول أنني من أصفياء المؤرخ أو المقربين منه، لكن التاريخ شاهد علينا والأيام ابتلاء، والله خير الحاكمين.
هذه شهادتي وهذه مواقفي التي عرفت فيها شيخ المؤرخين وقدوة الباحثين ومؤرخ الأجيال خلال ثلاث وثلاثين سنة خلت، لعل القارئ والمحب واللدود معًا جميعًا يقرؤون زفرات قلب جريح فقد سندًا عظيمًا والعظمة لله سبحانه وتعالى، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، ولنا في آثار هذا العملاق الذي هوى المواساة من الموت، والموت حق.
الموقف الأول: تسمع بالمعيدي
بعد نجاحنا في مسابقة الدخول إلى نظام الماجستير في شهر نوفمبر 1980م انتظرت أنا القادم من قسنطينة مع زملائي لأرى شكل المؤرخ الكبير، وهذا في أول حصة بالخروبة، فلما وصل إلينا قلت لهم هل هذا هو سعد الله؟ وبصوت خافت، وكنت أنتظر أن أرى عملاقًا في جسده أشبه بالصورة الضخمة التي رسمتها في خيالي قبل وصولي إلى العاصمة، فكان قد سمع ما قلت فكان رده على الفور وبابتسامة الواثق من نفسه: "تسمع بالمعيدي خيرا من أن تراه" فقلت على الفور معاذ الله يا أستاذ.
أذكر للتاريخ أن المسابقة الوطنية التي أشرف عليها خيرة أساتذة التاريخ في الجزائر، قد أفرزت أحسن مجموعة من الباحثين على المستوى الوطني، وكان أغلب الناجحين في المسابقة من جامعة الجزائر، وأذكر أنه لم ينجح طلاب جامعة وهران، وأما جامعة قسنطينة فقد نجح العبد الضعيف، محمد الأمين بلغيث، وجئت في الترتيب الثاني بعد الأستاذ أحمد شريفي، وأما الثاني من قسنطينة فهو الأستاذ عبد الحميد خالدي، نجح بالإنقاذ، ولكنه التحق بجامعة بغداد بالعراق الشقيق بمعية محمد لحسن زغيدي، ومسعود خرنان، وإبراهيم بحاز ولم ينتظم معنا، فكان الدكتور سعد الله المتخلق الصارم هو المكلف بغيابات الطلبة، وفي السداسي الأول أقصى ثلاثة من سبعة وعشرين طالبًا على ما أذكر، ومنهم الأستاذ نور الدين ميهوبي من المدية رغم أنه تغيب بعذر شرعي، لكن سعد الله كان يعلم تحايل الطلبة على القانون، وهذا بغيابهم حصتين في كل مادة، وكانت مقبولة عند بعض الأساتذة، لكن شيخ المؤرخين قال لنا إن هذه يجب أن ينساها الطلبة، فثلاثة غيابات في كامل السداسي وفي كل المواد تقصي الطالب نهائيا وعليه أن يفكر في إعادة المسابقة من جديد.
الموقف الثاني: الدفعة الأولى لقسم الماجستير على المستوى الوطني
بدأنا ندرس عند شيخ المؤرخين مجموعة متكاملة متكونة من حوالي سبعة وعشرين طالبًا كما ذكرت آنفًا، ونحن نمثل أول مجموعة في أول دفعة لنظام الماجستير الذي عوض نظام الدراسات العليا القديم بالجامعات الجزائرية، كان يدرسنا من النسخة المخطوطة بقسميها الأول والثاني من موسوعته تاريخ الجزائر الثقافي الذي سيظهر في مجلدين على مطابع الشركة الوطنية للنشر والتوزيع عام 1982م، ورأى المدرس الحاذق عدم استجابتنا للمحور الخاص بالتصوف الذي درسه لنا في الحصص الأولى، فكانت الأسماء والعناوين الأولى عن دور الشيخ زروق، و"رسالة في التصفيق"، فقال لنا على الفور اعتقد أن موضوع التصوف لا يروق لكم، هل ترغبون في الاستماع إلى التاريخ في العهد العثماني، فبدأ يحدثنا عن التاريخ والمؤرخين، فرأى تجهٌّمًا وقلة راحة بل ربما فهم الأستاذ أنهم أخطؤوا التقدير في انتخابنا لنكون مشروع مجموعة من المؤرخين، قال لنا على الفور وبدارجة جزائرية "الظاهر يا جماعة ما هناش".
فرغم سلطة شيخ المؤرخين والمكانة التي يجدها في نفوسنا، أعجبتنا ردود الفعل الأولى عن جهلنا، فضحكنا بصوت واحد وابتسم معنا ثم واصل بعد ذلك يدرسنا في أسلوب الحكيم المتبصر بمسؤولية المؤرخ التي يحس بها وهو يدخل علينا كل أسبوع ولمدة أربع ساعات كاملة من الساعة التاسعة صباحًا إلى غاية الواحدة تقريبًا وهو يصول ويجول دون كلل أو ملل مما يدعونا إليه في مادة المنهجية وتاريخ الجزائر في العهد العثماني.
الموقف الثالث: قصة التخلي عن إشراف سعد الله
أما الموقف الذي أتذكره جيدًا فيتعلق باختيار التخصص، فبعد اقتراب السنة التمهيدية من الانتهاء، وفي حدود بداية السداسي الثاني اتجه معظم الطلبة للتسجيل مع الدكتور سعد الله، فرأى أنه ينوء بحمل كل هذه الأبحاث، وكنت من بين الأوائل الذين قبل الأستاذ الإشراف عليهم وتأطيرهم، فكان أول ما سألني: ما اسمك؟، قلت له: محمد الأمين بلغيث، قال: هل تعرف أبو الغيث القشاش، أو بلغيث القشاش، قلت أنا لا أعرف عالمًا أو علمًا بهذا الاسم، وتركني لحالي، ثم قال ابحث عن حياة وآثار الجنرال يوسف، فتوكلت على الله سبحانه وتعالى، وكان رفيقي المتزن والهادئ في البحث، هو يوسف مناصرية ،الذي يشتغل على كتب بول آزان Paul Azan فقد كنا لا نترك المكتبة الجامعية إلا أوقات الصلاة والأكل في مطعم الحي الجامعي بشارع عميروش، أو باجي مسعودة، وبعد حوالي شهر من المحاولة وجدت أن معظم أو قل كل ما هو مكتوب عن الجنرال يوسف الذي يسميه سعد الله صراحة يوسف اللقيط مكتوبا باللغة الفرنسية، وكنت أولا قد عرفت مستواي الحقيقي في اللغة الفرنسية والأمر الثاني كنت أجد حرجًا كبيرًا في أن ترتبط حياتي بلقيط خائن، وفي أول فرصة طلب سعد الله رحمه الله من بعضنا التوجه إلى تخصصات أخرى نظرًا للعدد الكثير للذين رغبوا في التسجيل معه، فكنت من الأوائل الذين استجابوا لهذا النداء، لأنني في حقيقة الأمر لم أجد نفسي قادرًا على مواصلة العمل بهذه الفرنسية البسيطة التي لا تزيد عن مستوى "الماصوات" البنائين عندنا، لهذا سيرتبط مصيري في التخصص الدقيق بالدراسات الأندلسية ومع المؤرخ الكبير عبد الحميد حاجيات حفظه الله.
الموقف الرابع: لقاء الباحث السعودي مازن صلاح مطبقاني
هذا الموقف شريكي فيه الأستاذ الباحث مسعود كواتي المتخصص في تاريخ الأقليات، واليهود بصفة أخص، كنا نمشي في بداية شارع الشهيد محمد العربي بن مهيدي بالجزائر العاصمة، في الاتجاه نحو مكتبة العالم الثالث، ومكتبة النهضة لميموني عبد القادر، ودار الكتاب، فإذا بنا نشاهد الدكتور سعد الله، وهذا طبعًا بعد حوالي شهر من تسجيل أبحاثنا مع الدكتور عبد الحميد حاجيات، فذهبنا إليه مباشرة، فوجدنا معه شخصية مشرقية، فقلنا له نساعدك يا أستاذ، فرفض بإصرار، فقلنا له معًا يا أستاذنا نساعدك فقط، لأنك أولا لست مشرفنا ولن تناقشنا مستقبلا، وهذه طبيعة خاصة في الدكتور سعد الله، فهو لا يكلف طلابه بحمل حقيبته حتى لا يحسسهم أنه يستغلهم كبعض الأساتذة غفر الله لهم، وحينما وصلته الرسالة وفهم المنطلق قال: ساعدا الأستاذ، وتوجهنا رأسًا لحمل معظم أثقال الضيف المشرقي، وجلسنا نتبادل الحديث مع الدكتور سعد الله، وعرفنا بضيفه الكريم فقال هذا باحث سعودي، اسمه مازن صلاح مطبقاني، وأعجبت الدكتور سعد الله صراحتنا وبقينا معهما لوقت قصير للتعارف ببهو نزل ألبير الأول، بالجزائر العاصمة، ثم غادرنا المكان، ومنذ ذلك الحين تتبعنا نشاط هذا الباحث السعودي، الذي كلمته وعزيته في رحيل شيخ المؤرخين صباح اليوم الثاني من شهر يناير للعام الجديد 2014 ووعدنبي بإرسال صور ضوئية لمراسلاته مع شيخ المؤرخين لإتمام المشروع الذي اتفقت فيه مع واحد من أصفياء المغفور له بإذن الله شيخ المؤرخين وقدوة الباحثين أبو القاسم سعد الله طيب الله ثراه وجعل الجنة مثواه، من أجل نشر رسائله إلى أحبابه.
الموقف الرابع: المؤتمر الدولي الأول للحضارة الإسلامية بتلمسان
حدث هذا الموقف في شهر ماي من عام 1987م، حيث نظمت وزارة الثقافة مؤتمرًا دوليا كبيرًا تحت عنوان الحضارة الإسلامية بمدينة تلمسان عاصمة الزيانيين، وكنت قد أتممت رسالتي للماجستير منذ مدة طويلة وانتظرت موعد المناقشة، فجاءت فرصة التقاء أعضاء اللجنة بتلمسان وهم: الأستاذ إبراهيم فخار من جامعة وهران، الأستاذ المشرف عبد الحميد حاجيات، الأستاذ محمد الصالح مرمول من جامعة قسنطينة، والدكتور موسى لقبال من العاصمة، فكنت أسعى من أجل اتفاقهم النهائي على موعد واحد للمناقشة، وأثناء تحركي بسرعة بين الأساتذة اصطدمت بواجهة زجاجية داخلية ليلا بفندق الزيانيين، فجرح الزجاج خاصري الأيسر، وشجَّ رأسي فكان أول من حملني إلى كرسي لإسعافي عند مقصف الفندق هو شيخ المؤرخين أبو القاسم سعد الله، فطلب من النادل كحولا، فجاءه بزجاجة، وبدأ يضمد جرحي بما في الزجاجة من كحول ثم سأله فجأة ما هذا، قال له "يا الشيخ هذا ويسكي"، سلمه الزجاجة، وقال شيخ المؤرخين بنرفزة، هل تعلم أن هذا الإنسان الموجود أمامي لم يذق في حياته خمرًا فتقوم بإسعافه بزجاجة خمر، فاعتذر النادل، وهو يتعجب من هذا السلوك الذي رآه غريبًا، ثم حملني زميلي مسعود كواتي بمساعدة سعد الله إلى سيارة سياحية من أجل الكشف علي وحقني بحقنة مسكنة ومذهبة للخوف كما قالوا، ثم عدت بعد ساعة من زمن من مستشفى تلمسان، وتناولنا طعام العشاء، ثم برمجت وزارة الثقافة والسياحة ليلة موسيقية أندلسية، وصادف وجود فرقة تونسية فولكلورية، فمتع جمهور الأساتذة والمؤرخين برقصة القٌلَّة، وكانت الراقصة فاتنة، فلما بدأت وصلتها رأيت وجوم معظم الأساتذة أما شيخ المؤرخين فقد انسحب من هذا المشهد الخادش للحياء، دون أن يلتفت إليه أحد، ثم خرجت بعده إلى غرفتي من شدة الألم، ولن أنسى هذا الموقف أبدًا وعلى الخصوص ثقته في أن هذا العبد الضعيف كاتب هذه المواقف لم تعرف الخمرة طريقًا إلى فمه، فانزعج شيخ المؤرخين أن يتذوقها جسمه عن طريق الأوردة المجروحة.
الموقف الخامس: دور المركز الوطني للدراسات والبحث في النشاط العلمي
عرفت نهاية تسعينيات القرن الماضي نشاطًا معتبرًا مع تأسيس المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954م، ووزارة المجاهدين وعلى الخصوص في عهد الوزير السابق الأمين العام الحالي لمنظمة المجاهدين السيد السعيد عبادو، فكان ملتقى اتحاد المؤرخين بعين صالح مشهودًا وهذا بحضور عينة نوعية من الشخصيات والإطارات والمؤرخين الشباب، وفي هذا الملتقى قدمت مداخلة نوعية ولا أزكي نفسي على الله "والله أعلم بمن اتقى" وكانت المداخلة بعنوان "نماذج من سياسة فرنسا للتوغل في الجنوب الغربي الجزائري و بلاد السنغال، من خلال فتوى قورارة 22 جوان 1893م وهذه مداخلة قدمتها في الملتقى الوطني الذي نظمه اتحاد المؤرخين الجزائريين بالتعاون مع المركز ووزارة المجاهدين بمدينة عين صالح ولاية تمنراست بين 21 - 23 ديسمبر 1997م. ثم نشرت المداخلة بالعدد الرابع من مجلة المصادر، ولما أخبرني الدكتور يوسف مناصرية بسفره القريب لزيارة الدكتور سعد الله بالأردن، أرسلت معه هدية إلى شيخ المؤرخين تتمثل في مجموعة مجلات وكتب تصورت أنها مقدمة لإعادة مد الجسور مع شيخ المؤرخين بعد طول غربة بالولايات المتحدة الأمريكية، وبعد عودة يوسف مناصرية حمل إلي رسالة ثمينة هي إجابة عن كل ما بثثته في رسالتي إلى شيخ المؤرخين، فقد غادر الدكتور سعد الله الجزائر بعيد الأحداث المؤلمة التي عرفتها خلال ما اصطلح هو على تسميتها بزمن الفتنة، وبالمناسبة مواقف سعد الله مما وقع للجزائر من 1992 إلى غاية المصالحة الوطنية واضحة كل الوضوح في "مسار قلم الجزء السادس" ولا يخفي موقفه مما يقع للبلاد وهو في أمريكا دون خوف أو مواربة، وصراحته ونزاهته وحرصه على الحق جلبت له المتاعب من السلطة السياسية العليا في الجزائر، وهذا موضوع طويل كتب فيه بعض أصفيائه.
وبعد ألم الغربة، عاد من جديد إلى محيطه العربي والإسلامي، حيث تعاقد مع جامعة آل البيت لمدة سبع سنوات كاملة حقق فيها المزيد من السمو الأخلاقي والتواضع، والمساهمة العلمية في الأردن، كما استقيناها من رفيقه المؤرخ ناصر الدين سعيدوني، وبعد عودته إلى الجزائر مباشرة، أقام لنا وليمة وجلسة شاي رائعة حضرها من السادة العبد الضعيف محمد الأمين بلغيث كاتب هذه الوقفات، والأستاذ مسعود كواتي، الأستاذ المغفور له بإذن الله إبراهيم مياسي والأستاذ مديني بشير وربما الأستاذ سيدي موسى محمد الشريف، والدكتور أحمد حمدي، المدير الثاني للمركز الوطني للدراسات والبحث في تاريخ الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954م. فكان الجو رائعًا بفرحتنا بعودة شيخ المؤرخين الجزائريين، وهنا يبدأ الموقف الخامس مع المؤرخ النزيه، فبعد أن أكلنا وشربنا، وتبادلنا الحديث، حدثناه عن التاريخ والمنهج، فأخذ الكلمة وقال إذا كان لي أن أنصحكم هو الكتابة بموضوعية، بعيدًا عن الانتصار للنفس والخطب السياسية العاطفية كجيل الحركة الوطنية، وكنت قد أعددت هدية لأستاذي ردًا على ما طلب مني في رسالته الموجودة أعلاه، فقلت له أنا شخصيا حينما أحس بأنني بدأت أحب الحياة العصرية، والتبرجز من البورجوازية أو أنسى فرنسا، أم الشرور كلها، أفتح خزانتي فأبدأ في قراءة متون الدكتور سعد الله، خاصة الجزء الرابع من أبحاث وآراء، وأستثني من كتبه القسم الخاص بالدكتوراه باللغة الفرنسية، فإنني حينما أقرأ الحركة الوطنية أحس بالنار تحرق فؤادي، وبصورة أخص قلت له حينما أقرأ دراستكم المترجمة عن آداب الأقدام السوداء وبطلهم الكاريكاتوري كاقايوس، نظرًا للطريقة التي تصورون بها فرنسا الاستعمارية وما فعلت بأسلافنا، ثم قلت له هذا هو ما طلبت مني منذ مدة قليلة في رسالتكم التي جاء بها مناصرية فقلت له: هذه دراسة هادئة كما طلبت منا وقدمت له بحثًا متكاملا مستفيضًا عن الحركة السنوسية وهي عبارة عن دراسة وترجمة لوثيقة أصلية حول مراقبة الطرق الصوفية والحركة السنوسية في الجزائر تحديدًا وأما الثانية، فهي ما طلبت مني في رسالتكم الأخيرة من الأردن حول النص العربي لفتوى قورارة الشهيرة المؤرخة بتاريخ 22 جوان 1893م. ثم طلب في نهاية الحديث من الدكتور حمدي العنوان الإلكتروني للمركز، فقال له بفرنسية سين أش، نون وأخيرًا ختمها بشعار الجزائر العالمي، نقطة "دز" DZ فقال له شيخ المؤرخين بدعابة عفوية. "هاذيك دز معاهم كلنا نعرفوها". وغادرنا المجلس الطيب لشيخ المؤرخين وهي ثالث مرة على ما أذكر أدخل بيته بحي"les asphodèles" ليزاسفودال ببن عكنون بالجزائر العاصمة.
https://www.echoroukonline.com/ara/articles/191428.html









رد مع اقتباس
قديم 2014-01-29, 15:31   رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الكاتب:
محمد الأمين بلغيث


مواقف إنسانية عشتها مع العلامة أبو القاسم سعد الله (2)

الموقف السادس: قصة تحلية المؤرخ أبو القاسم سعد الله بشيخ المؤرخين الجزائريين يعود الفضل إلى زميلي محمد رحاي من جامعة سكيكدة الذي يحضر أطروحة دكتوراه بإشراف الأستاذ عبد الكريم بوصفصاف، ومن ضمن محاور أطروحته سعد الله، فقال لي يوم التقيته بسكيكدة: لماذا لا تكتب مواقفك الشخصية مع الدكتور سعد الله شيخ المؤرخين الجزائريين، لأنني أحتاج العودة إلى الجانب الإنساني في حياة سعد الله، فقلت له: لمن أراد أن يعرف أدق تفاصيل حياة سعد الله الباحث والشاعر والإنسان والوطني الصادق فعليه أن يقرأ "موسوعة لسان قلم" التي تشرف الآن على صدور الجزء السابع منها، ثم التقيت الباحث العصامي الأستاذ لحسن بن علجية في المعرض الوطني للكتاب يوم تكريم الشيخ محمد الصالح الصديق، فقال لي: هل تذكر إنك الوحيد الذي استمع إليه وهو يقرن تحلية اسم سعد الله بشيخ المؤرخين الجزائريين، ثم سألت أصحابي، مسعود كواتي، بشير مديني، فأكدوا لي هذه النسبة، والحقيقة التي لا أنساها أنني كنت أسمع منذ عام 1980 الأستاذ الدكتور موسى لقبال رحمه الله إذا حدثنا عن تونس يقول وجاء في خلاصة تاريخ تونس لأستاذ الجيل حسن حسني عبد الوهاب، يرددها بحنية خالصة، رغم تحفظي من شخصية أستاذ الجيل هذا وهو قامة عالية في الدراسات التاريخية في الإذاعة التونسية، وغيرها من المؤسسات.
ومنذ ذلك الزمن، وأنا في ذهني مكانة روحية عالية للدور الذي يقوم به المؤرخ النزيه سعد الله فبدأت تحليته بهذه الصفة بداية من 1997م، ولم تجد الكلمة صداها بشكل كبير إلا أثناء رحيله عن هذه الدنيا الفانية، وأول نص مكتوب فيه ارتباط اسم المؤرخ النزيه بتحلية شيخ المؤرخين تعود إلى كتابي "تاريخ الجزائر المعاصر"، الذي طبع عام 2001م بدار البلاغ الجزائرية، ودار ابن كثير البيروتية، ومقدمة الكتاب الأولى مؤرخة في الجزائر، يوم الجمعة 17 رمضان 1421هـ/ الموافق لـ 13 ديسمبر 2000م. ثم أهديت كتابي حول المؤرخ محمد بن عمر العدواني كما يلي إلى شيخ المؤرخين الدكتور أبو القاسم "سعد الله أٌهدي هذا الكتاب المتواضع" وطبع الكتاب في مارس 2002م/ 1423هـ، كما ظهر الإهداء في الطبعة الجديدة من كتابي الشيخ محمد بن عمر العدواني مؤرخ سوف والطريقة الشابية، ووقع تغيير بسيط في الإهداء وهو: إلى شيخ المؤرخين أبو القاسم سعد الله أٌهدي هذا الكتاب عربون تواصل بين جيلكم المؤسس وجيلنا الطموح للسير على الدرب السليم"، طبع الكتاب طبعة راقية بدار كتاب الغد بجيجل لصاحبها الفاضل محمود ميراجي، كما ظهرت التحلية في دراستي في الكتاب التكريمي الذي أصدره مخبر الدراسات التاريخية والفلسفية، ولم أجد من حلاه بهذه التحلية، والله شاهد على ما أقول، وسعد الله أهل لكل خير لأنه من بنى للجزائر هذه الأهرامات الخالدة، تاريخ الجزائر الثقافي، تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية،أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، وعشرات الكتب المحققة والمترجمة إضافة إلى إبداعاته منذ بدأ يكتب القصيدة الحرة بتونس عام 1947م. هذا التحلية مع وصف فرنسا [بمغول القرن التاسع عشر والقرن العشرين] لصيقة بي في أعمالي وحصصي الإذاعية، ولن أتركها حتى ألقى الله سبحانه وتعالى وأنا أقول أن المواطن رقم واحد في هذه البلاد من أيام إنسان تيغنيف، أي من عشرة آلاف سنة قبل الميلاد إلى إنسان الطاسيلي وجدتهم الخرافية تينهينان إلى اليوم، هو المواطن المؤرخ النزيه الذي حبب لنا الجزائر وكره لنا العودة إلى الجاهلية، مهما كان زخرفها هو مؤرخ الأجيال كما قال صديقي المرحوم إبراهيم مياسي وشيخ المؤرخين، وقدوة الباحثين الدكتور أبو القاسم سعد الله رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه، وجعل قبره روضة من رياض الجنة امتدادها على امتداد بصره يوم كان شابًّا يافعًا.
الموقف السابع: في ملتقى مؤرخ سوف مانعة الهارب الشيخ محمد بن عمر العدواني
يعود هذا الموقف إلى عام 1999م، فقد ذهبنا كعادتنا في عطلة الشتاء إلى بلدة الزقم ببلدية حساني عبد الكريم بوادي سوف، وكنت إلى جانب الدكتور إبراهيم لونيسي فحدثني عن رسائله إلى شيخ المؤرخين إلى الأردن، وأنه قد وصلته في هذا الأسبوع رسالة هامة فكان يحدثني بشوق كيف كان ينقل للدكتور وهو في غربته بأمريكا أو الأردن أخبار الجزائر في رسائل خطية، وفعلا أشار الدكتور سعد الله إلى جانب من هذه الرسائل مرة بالإشارة، ومرات أخرى بذكر أصحابها كنا نتذكر شيخ المؤرخين، ثم ذهبنا إلى رمال قمار وجربنا صعود هذا الجبال الكبيرة من الرمال الناعمة فقال لي لونيسي، هنا كان يلعب سعد الله في أيام طفولته وشبابه، ثم قال سأذكر شيئًا للدكتور عن زيارتنا هذه إلى قمار وسأذكر له تحديدًا من كان معي في لعبة الصعود والهبوط في تلال ورمال قمار الناعمة. ثم اقترح علينا الأستاذ مسعود كواتي والأستاذ مديني بشير زيارة قمار، بلدة شيخ المؤرخين وآل سعد الله، الأول لزيارة شقيقته، والثاني ليلقي نظرة على أهله وخاصة خاله أستاذ الفلسفة الذي نعرفه جمعًيا من كثرة زيارتنا إلى قمار، وفي أحيان أخرى كنا نزور الأستاذ الفاضل الذي حببه لنا الدكتور سعد الله خِلَّهٌ الوفي الشاعر الأديب الموسوعي محمد الطاهر التليلي، لقد كان يقرأ لنا بعض أعماله، كما كان يستشيره في كثير من غرائب المصطلحات وأسماء أعلام وهو يحقق تاريخ الشيخ محمد بن عمر العدواني، ثم عدنا إلى ديارنا بعد هذا الملتقى الخاص بالشيخ محمد بن عمر العدواني، وبالمناسبة فشيخ المؤرخين لا يحبذ هذه المشاركات الإخوانية.
الموقف الثامن: سعد الله الإنسان.. وقصة إرسال نسخة من أطروحتي للدكتوراه إلى تلمسان
يعود هذا الموقف إلى شهر ديسمبر 2002م، حينما جئت إلى المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954م ، لأقدم النسخة النهائية من أطروحة الدكتوراه إلى الأستاذ الدكتور عبد المجيد بوجلة ليحملها إلى تلمسان ومن هناك إلى أستاذي الخلوق الفاضل عبد الحميد حاجيات، ولما اقترب شيخ المؤرخين مني ليسلم علي في مكتب الكاتبات بالمركز الوطني للدراسات والبحث في تاريخ الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954م، سقط المجلد الأول فقال سعد الله رحمه الله، "فلما رأته حسبته لجّة وكشفت عن ساقيها".
ثم قام الشيخ المتواضع برفع الجزء الذي سقط أرضًا وطلب ورقًا من الكاتبة، ثم ساعدني في لفه وتسليمه إلى الأستاذ بوجلة، فحمل المجلدين معه إلى تلمسان.
الموقف التاسع: أبو القاسم سعد الله.. القارئ الأبدي
لَبِّينَا دعوة مخبر الدراسات التاريخية والفلسفية بجامعة منتوري، بقسنطينة من أجل المشاركة في أعمال الندوة التكريمية التي أقامها المخبر للدكتور سعد الله، تحت عنوان هام "الأعمال التاريخية والأدبية والفكرية للدكتور أبي القاسم سعد الله في ميزان الباحثين الجامعيين يومي 12 و13 يناير/جانفي 2004م"، وبالمناسبة وحتى لا تفوت الفرصة فندونها، بعد أن كانت تتداولها الألسن شفويا، أن طلبة سعد الله الذين حضروا الندوة هم، الأول طالبه وصفيه الدكتور إبراهيم لونيسي، وطالبه الأول من أيام الدفعة الأولى للماجستير رغم أنه لم يشرف على أعماله هو العبد الضعيف [محمد الأمين بلغيث]، وفي اليوم الثاني أعتقد أنه اليوم الموعود لأقدم مداخلتي الموسومة بـ"أبو القاسم سعد الله محقق التراث الجزائري، عيِّنَة من التراث الجزائري" وفي حضرة المحتفى به، نهضت باكرًا كعادتي هيأت نفسي، أديت صلاتي، وكانت الساعة السادسة والنصف صباحًا قلت في نفسي هذا موعد الإفطار قد بدأ في نزل بانوراميك بقسنطينة، فنزلت الهوينى، فوجدت شخصًا واحدًا منعزلا يتناول إفطاره، فإذا به شيخ المؤرخين الدكتور أبو القاسم سعد الله فألقيت عليه تحية الإسلام، واستأذنته في مشاركته هذه الطاولة فرحب بي، وجلسنا مدة طويلة، تحدثنا فيها عن عديد القضايا، ثم نهضنا، ونحن في طريقنا إلى غرفنا بالنزل، قلت له بالمناسبة يا أستاذ نكمل حديثنا في غرفتكم، قال لي لا يا سي بلغيث أنا ذاهب لأقرأ، فقلت له على سبيل النكتة وبدارجة جزائرية، نعم صحيح أنت تعرف أنني ختمت القراية[إشارة إلى مناقشتي للدكتوراه في شهر ماي 2003م]، أما أنت فلا تزال صغيرًا أقرأ على روحك؟ فتبسم وشدني من يدي وقال تعالى انظر إلى الطبعة المفاجئة التي وصلتني من دار الغرب الإسلامي لمجلة البصائر، فجلسنا مدة وتركته يلملم أشياءه في انتظار موعد السيارات التي ستنقلنا إلى قاعة المحاضرات.
الموقف العاشر: ملتقى عقبة بن نافع رضي الله عنه
حضرنا الملتقى الوطني الخامس [بسكرة عبر العصور]، أيام 11، 12، 13 ديسمبر 2006م، بالمركب الإسلامي بسيدي عقبة، وكان الدكتور شيخ المؤرخين من الحضور البارزين، وكانت اللجنة العلمية للملتقى قد أجمعت على تكريم الدكتور موسى لقبال رحمه الله، وكان الحضور من مختلف البلدان العربية من لبنان والمملكة العربية السعودية وتونس وليبيا، والجزائر طبعًا، ويبدو أن مستوى الملتقى لم يرق للأستاذ سعد الله، وهو ما عبر عنه صراحة في كلمته، وللأمانة أنا من أشرف على الجلسة الختامية للملتقى، وحدث أن وقع تغيير في التكريمات فبدلاً من تكريم الدكتور لقبال، برمجوا تكريمًا حافلاً للأستاذ سعد الله، فكان شيخ المؤرخين يجهل أسباب توتر الدكتور موسى لقبال، وطلب مني أعضاء الجمعية الخلدونية أن أتوسط لدى شيخ المؤرخين ليقول كلمة بالمناسبة، مناسبة التكريم، وبمناسبة اختتام الملتقى، الخاص بعقبة بن نافع رضي الله عنه.
قبل شيخ المؤرخين الأمر مكرهًا لحساسية الموضوع، وكلمته كلها واضحة في أنه لم يرض عن المداخلات التي قدمت في هذه الجلسة تمامًا، لكن للأمانة حضر شيخ المؤرخين الجلسة المسائية التي تداول على منصتها مجموعة من الباحثين ورأينا تململا من الدكتور سعد الله، [وقد ذكر لي أحدهم تبرم شيخ المؤرخين من جل المداخلات إلا مداخلتي أنا العبد الضعيف ومداخلة الدكتور مراد اليعقوبي التونسي، وقال كلامًا لا أعرف أن المؤرخ الخلوق يصدر منه]، والحقيقة للتاريخ أن شيخ المؤرخين يتعالى عن هذه المصطلحات، وقد أوردت هذا الموقف من شخصية كبيرة لا أملك إلا أن أصدقها ولكن ليس بهذه اللغة..
والحقيقة فعلا أن الأستاذ مراد اليعقوبي التونسي باحث متمكن من تخصصه، وباللغتين الفرنسية والعربية، تمكن من شد الحضور، بعربيته الجميلة، رغم أنه تخرج من السوربون، وناقش دكتوراه الدولة حول التاريخ الحربي لعصر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أما العبد الضعيف فقد قدمت مقاربة مقبولة حول شخصية كسيلة بن لزم الذي قاتل عقبة وقتل أصحابه في المعركة الشهيرة التي أدت إلى استشهاد من كان مع عقبة من الصحابة والتابعين ومن بينهم أبي المهاجر دينار.
الموقف الحادي عشر: اللقاء الخالد وصراحة شيخ المؤرخين الجزائريين
كنت على موعد يوم السبت 8 ديسمبر 2012م، مع الأستاذ بشير مديني، لما التقينا صعدنا إلى قسم التاريخ، ودخلنا مصلحة البحث العلمي فوجدنا شيخ المؤرخين مع طالبة من طلابه يقرأ ويصحح مذكرتها، لما دخلنا ترك ما كان يقرأ ورحب بنا ثم سألناه عن صحته فقال الحمد لله، وكان يبدو عليه الجهد والتعب وثقل السنوات، ثم مازحته أنا فقلت يا أستاذ أتممنا الجزء السادس من مسار قلم، ولم نجد أسماءنا، فقال مباشرة واقترب مني "هل تعرف يا سي بلغيث أن واحدًا من أبناء إخوتي قرأ أحد كتبي وحضر فهارسه، لما طبع الكتاب لم يجد اسمه مع الذين ذكرتهم في الكتاب أعرض عني غاضبًا إلى اليوم... وأخذنا صورة تذكارية مع شيخ المؤرخين سوف تكون ملحقة في ألبوم الصور والمستندات بإذن الله.
الموقف الثاني عشر: شيخ المؤرخين يودع الدنيا الفانية بالمستشفى العسكري
لا أنسى هذا الموقف، وأعلم قارئ هذه المواقف أنني لم ألتق بشيخ المؤرخين منذ يوم السبت 8 ديسمبر 2012م إلا عبر الهاتف، وكنت مع الدكتور محمد العربي معريش أول من رأى جثمانه الطاهر بعد أقرب المقربين له من أسرته، فقد دخلنا عليه بغرفة الانعاش، فنزعنا عنه الغطاء وقبله معريش أولا، ثم قبلته ثانيا ودعونا له المولى سبحانه وتعالى أن يتقبله في الصالحين، ثم أخذوه من جناح الانعاش إلى مصلحة حفظ الجثث وبقي هنالك إلى غاية إتمام الإجراءات الإدارية التي قام بها ابنه الوحيد أحمد في بلدية القبة، ثم سبقتنا سيارة الإسعاف إلى بيته دار الأردن، وهناك ألقى عليه أحبابه والمعزون النظرة الأخيرة وترحموا على روحه، وكان هذا آخر موقف مع شيخ المؤرخين رحمه الله، إذ هاتفني محمد العربي معريش صباحًا في حدود الثامنة والنصف من يوم السبت 14 ديسمبر 2013م، فقال لي عظم الله أجركم في شيخنا الدكتور سعد الله، فأخذت سيارتي رأسًا من بيتي إلى المستشفى العسكري بعين النعجة ولم أجد صعوبة هذه المرة في الولوج إلى المستشفى، وانتظرت طويلا ، أو هكذا بدى لي مجيئ الدكتور محمد العربي معريش، ثم دخلنا بهو جناح الانعاش، فوجدنا أم أحمد، وواحد من أبناء أخيه وواحد فقط من إخوته، وسألناهم عن مكان دفنه فطلبوا منا الانتظار، ثم أخبرونا بعد ذلك أنه سينقل إلى ڤمار ليدفن هناك بوصية منه، وطلب أن يترك بسلام دون أن تتدخل أي مؤسسة في دفنه.
وشهادة للتاريخ، فقد كان لنا الدكتور إبراهيم حمادة نعم المساعد، فقد عرفته قبل أن يكون طبيبًا ماهرًا وصاحب خلق كريم، فهو على درجة عالمية في معارفه التاريخية، وقال لي ونحن ننتظر خروج سيارة الاسعاف وحملها نعش الفقيد العزيز إلى أهله بدار الأردن بضاحية دالي إبراهيم بالجزائر العاصمة، قال لي كنت هذه المدة الأخيرة أشرف على صحة شيخ المؤرخين سعد الله وأستمع لك وأنت تتكلم بعاطفة جياشة عن رائد المدرسة التاريخية الأكاديمية في القناة الثقافية وفي برنامج |التاريخ يسجل". فشكرته على إنسانيته وعلاقته الطيبة بأحمد نجل الدكتور سعد الله في هذه الفترة العصيبة.
سلام عليك يا شيخ المؤرخين في الخالدين وطيب الله ثراك فقد كنت نعم الرائد لأمته في حرصك على تنوير الذاكرة الجزائرية، وتنبيه الأهل وسادة البلد إلى ما يٌدار من وراء البحر من أجل تسفيه وطمس أعمال الصالحين من العلماء والمجاهدين العاملين من أبناء هذا الشعب المعوان على الخير.


https://www.echoroukonline.com/ara/articles/191524.html










رد مع اقتباس
قديم 2014-02-01, 16:11   رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
البرنوس
عضو نشيط
 
الصورة الرمزية البرنوس
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

رحمه الله رحمة واسعة










رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
"سيد, الله, المؤرخين, الجزائريين", الدكتور, القاسم


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 21:35

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc