ويقول ابن حزم رحمه الله :
" فهذان استحقا السب من النبي صلى الله عليه وسلم لخلافهما نهيه في مس الماء " انتهى.
" الإحكام في أصول الأحكام " (3/282)
والسب ههنا إنما هو التقريع والإغلاظ في القول والمعاتبة ، أو الدعاء عليهما بما تدعو به العرب عند الغضب ، كقولهم : أخزاك الله ، وقاتلك الله ، ونحو ذلك .
قال ابن إسحاق رحمه الله :
" وكان في الطريق ماء يخرج من وشل ، وما يروي الراكب والراكبين والثلاثة ، بواد يقال له وادي المشقق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سبقنا إلى ذلك الوادي فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه .
قال : فسبقه إليه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه ، فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليه فلم ير فيه شيئا فقال : من سبقنا إلى هذا الماء ؟ فقيل له : يا رسول الله فلان وفلان
فقال : أو لم أنههم أن يسقوا منه شيئا حتى أتيه ، ثم لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا عليهم ، ثم نزل فوضع يده تحت الوشل ، فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب
ثم نضحه به ، ومسحه بيده ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما شاء الله أن يدعو به ، فانخرق من الماء – كما يقول من سمعه – ما إن له حسا كحس الصواعق ، فشرب الناس
واستقوا حاجتهم منه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لئن بقيتم أو من بقي منكم لتسمعن بهذا الوادي وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه "
" مغازي ابن إسحاق " (605-606)
الوشل : الماء القليل يتحلب من جبل أو صخرة ، يقطر منه قليلا قليلا ، لا يتصل قطره . وقيل : لا يكون ذلك إلا من أعلى الجبل . وقيل : هو ماء يخرج من بين الصخر قليلا قليلا .
انظر: " لسان العرب " (11/725) .
3- النبي صلى الله عليه وسلم غير معصوم من الخطأ في قوله ، أو سبق اللسان ؛ وقد يظن في إنسان أنه مستحق للعن أو السب ، فيسبه بحكم ما بدا له من ظاهر أمره
فإذا لم يكن مستحقا لهذا السب أو اللعن من النبي صلى الله عليه وسلم ، في حقيقة أمره ، فقد شارط الرؤوف الرحيم ربه أن يجعل هذا في ميزان حسنات من سبه ، وأن تكون زكاة له ، وكفارة لذنبه:
روى مسلم (4706) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اللَّهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ؛ فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سَبَبْتُهُ أَوْ لَعَنْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ : فَاجْعَلْهَا لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً ) .
وفي رواية له (4708) : ( اللَّهُمَّ إِنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ ؛ يَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ ، وَإِنِّي قَدْ اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ ؛ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ آذَيْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ فَاجْعَلْهَا لَهُ كَفَّارَةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) .
قال النووي رحمه الله :
" هَذِهِ الْأَحَادِيث مُبَيِّنَة مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الشَّفَقَة عَلَى أُمَّته , وَالِاعْتِنَاء بِمَصَالِحِهِمْ , وَالِاحْتِيَاط لَهُمْ , وَالرَّغْبَة فِي كُلّ مَا يَنْفَعهُمْ . وَهَذِهِ الرِّوَايَة الْمَذْكُورَة آخِرًا تُبَيِّن الْمُرَاد بِبَاقِي الرِّوَايَات الْمُطْلَقَة
, وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُون دُعَاؤُهُ عَلَيْهِ رَحْمَة وَكَفَّارَة وَزَكَاة وَنَحْو ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ وَالسَّبّ وَاللَّعْن وَنَحْوه , وَكَانَ مُسْلِمًا , وَإِلَّا فَقَدْ دَعَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ , وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُمْ رَحْمَة .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْف يَدْعُو عَلَى مَنْ لَيْسَ هُوَ بِأَهْلِ الدُّعَاء عَلَيْهِ أَوْ يَسُبّهُ أَوْ يَلْعَنهُ وَنَحْو ذَلِكَ ؟ فَالْجَوَاب مَا أَجَابَ بِهِ الْعُلَمَاء , وَمُخْتَصَره وَجْهَانِ :
أَحَدهمَا : أَنَّ الْمُرَاد لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ عِنْد اللَّه تَعَالَى , وَفِي بَاطِن الْأَمْر ,
وَلَكِنَّهُ فِي الظَّاهِر مُسْتَوْجِب لَهُ , فَيَظْهَر لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْتِحْقَاقه لِذَلِكَ بِأَمَارَةٍ شَرْعِيَّة , وَيَكُون فِي بَاطِن الْأَمْر لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ , وَهُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُور بِالْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ , وَاَللَّه يَتَوَلَّى السَّرَائِر.
وَالثَّانِي : أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ سَبّه وَدُعَائِهِ وَنَحْوه لَيْسَ بِمَقْصُودٍ , بَلْ هُوَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَة الْعَرَب فِي وَصْل كَلَامهَا بِلَا نِيَّة , كَقَوْلِهِ : تَرِبَتْ يَمِينك , عَقْرَى حَلْقَى ... وَنَحْو ذَلِكَ ، لَا يَقْصِدُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَقِيقَة الدُّعَاء ,
فَخَافَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَادِف شَيْء مِنْ ذَلِكَ إِجَابَة , فَسَأَلَ رَبّه سُبْحَانه وَتَعَالَى وَرَغِبَ إِلَيْهِ فِي أَنْ يَجْعَل ذَلِكَ رَحْمَة وَكَفَّارَة , وَقُرْبَة وَطَهُورًا وَأَجْرًا ,
وَإِنَّمَا كَانَ يَقَع هَذَا مِنْهُ فِي النَّادِر وَالشَّاذّ مِنْ الْأَزْمَان , وَلَمْ يَكُنْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا لَعَّانًا وَلَا مُنْتَقِمًا لِنَفْسِهِ , وَقَدْ سَبَقَ فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُمْ قَالُوا : اُدْعُ عَلَى دَوْس ,
فَقَالَ : " اللَّهُمَّ اِهْدِ دَوْسًا " وَقَالَ : " اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ " انتهى .
"شرح صحيح مسلم" ، للنووي .
والله أعلم .