مبادىء اسلامية في تربية الاجيال - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > القسم الاسلامي العام > أرشيف القسم الاسلامي العام

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

مبادىء اسلامية في تربية الاجيال

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2010-01-15, 13:01   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
AZIZGUIR78
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية AZIZGUIR78
 

 

 
إحصائية العضو










B9 مبادىء اسلامية في تربية الاجيال

تعريف التربية
التربية في اللغة: لقد عرَّف اللغويون واصحاب المعاجم التربية بقولهم: ( الرب في الأصل التربية ، وهي انشاء الشيء حالاً فحالاً الى حد التمام. يقال ربه ورباه وربيه . . .)([1])
و(ربَّ الولد ربّاً: وَليهُ وتَعهده ، بما يُغذيه وينميه ويُؤدِّبُه ...)([2])
واذا كان هذا هو تعريف التربية في اللغة فيمكننا أن نعرف التربية الاسلامية بأنها عملية بناء الانسان وتوجيهه لاعداد شخصية وفق منهج الاسلام وأهدافه في الحياة).
واذن فالتربية تعني تنشئة الشهصية وتكوينها حتى تكتمل وتتخذ صفتها المميزة لها.

أهمية التربية في الاسلام
من الثابت علمياً ان الانسان يولد صفحة بيضاء، خالية من أي اتجاه أو تشكل للذات، وإنما يحمل الاستعداد لتلقي العلوم والمعارف وتكوين الشخصية والتشكل وفق خط سلوكي معين.لذا نجد القرآن الكريم يخاطب الانسان بهذه الحقيقة،ويذكِّره بنعمة العلم والتعليم والهداية.
قال تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لاتعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون). (النحل/78)
ويترجم الامام علي (عليه السلام) هذه الحقيقة العلمية فيقول:
(وإنّما قلب الحدث كالارض الخالية، ماألقي فيها من شيء قبلته)([3]).
شرح العلامة الحلي مراحل تكوُّن المعرفة لدى الطفل فقال: (إعلم أن الله خلق النفس الانسانية في بداية فطرتها خالية من جميع العلوم بالضرورة، قابلة لها بالضرورة، وذلك مشاهد في حال الاطفال. ثم إنّ الله تعالى خلق للنفس آلات بها يحصل الادراك، وهي القوى الحساسة، فيحس الطفل في أوَّل ولادته، يحس لمس مايدركه من الملموسات، ويميز بواسطة الادراك البصري على سبيل التدرج بين أبويه وغيرهما.
وكذا يتدرج في الطعوم وباقي المحسوسات الى ادراك مايتعلق بتلك الالات، ثم يزداد فطنة فيدرك بواسطة إحساسه بالامور الجزئية الامور الكلية من المشاركة والمباينة، ويعقل الامور الكلية الضرورية بواسطة إدراك المحسوسات الجزئية، ثم إذا استكمل الاستدلال، وتفطن بمواضع الجدال، وأدرك بواسطة العلوم الضرورية العلوم الكسبية، فظهر من هذا أن العلوم الكسبية فرع على العلوم الضرورية الكلية، والعلوم الضرورية الكلية فرع على المحسوسات الجزئية)([4]).
من هذا الشرح لمدلول الاية تتحدد نظرية المعرفة في الاسلام وكيفية تكونها لدى الانسان منذ نشأته الاولى، مؤصَّلة على قاعدة قرآنية.
وعلى هذا الفهم، وتلك الاسس العلمية لتلقي المعرفة وتكُّون الشخصية تبتني النظرية التربوية في الاسلام، ويبدأ تكليف الابوين في اعداد الطفل وتربيته وتعليمه.
والتربية في مراحلها الاولى هي مران وتدريب سلوكي عملي يتلقاه الطفل عن طريق الحس من أبويه فيكتسب منهما السلوك والاخلاق والعادات وطريقة التعامل.
لذا فان السلوك العائلي، ومحيط الاسرة الثقافي يؤثران تأثيراً بالغاً في تكوين الشخصية واتجاهها المستقبلي.
أما التعليم فهو تلقي العلوم والمعارف لتكوين عقلية الانسان وطريقة تفكيره وثقافته، وتشكيل صبغة الهوية الفكرية لشخصيته; لذا جاء في الحديث الشريف: (مامن مولود يولد إلا على هذه الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه)([5]).
ولاهمية التربية في بناء الشخصية والسلامة النفسية من العقد والانحرافات وأثرها في سعادة الانسان وشقائه في مستقبل حياته وآخرته، ودورها الفاعل في حضارة المجتمع وتقدمه العلمي والتنموي اكّد الاسلام الاهتمام بالتربية وتوجيه الطفل والعناية الفائقة به سيّما في سنيّه الاولى. فالتربية تؤثر على أمن المجتمع، وصحته ونظافة بيئته، وإنتاجه الاقتصادي، واستقراره السياسي وتقدمه العلمي والحضاري.
فالطفل الذي ينشأ كسولاً مهملاً، لايمكن أن يكون إنساناً منتجاً يعرف كيف يوظف وقته وطاقته، ويطوِّر انتاجه وقدراته، أو يواصل تحصيله العلمي والخبروي.
والطفل الذي ينشأ مشرداً متمرداً نتيجة لسوء تعامل الابوين أو المدرسة أو السلطة من الصعب أن يكون إنساناً ملتزماً بالقانون، يحافظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي لبلده وأمته.
والطفل الذي يعيش في بيئة شاذة، أو يُربّى تربية منحطة تترك تلك التربية تأثيرها في سلوكه فتجني عليه، وتصنع منه انساناً مجرماً معذَّباً في حياته وشقياً في اخرته.
فقد أثبتت التجارب والاحصائيات العلمية التي أجراها الباحثون أثر التربية في تكوين الفرد والمجتمع فجاءت متطابقة مع تشخيص الرسالة الاسلامية ومقرراتها العلمية في التربية نذكر منها:
تقول معظم الدراسات التي اجريت في العالمين العربي والغربي بان سني الطفولة الاولى هي سني تكوين الشخصية الانسانية وتنمية المواهب الفردية. فالولد يكتسب من احتكاكه بمحيطه ردات فعل على المثيرات الخارجية بحيث تكتمل نصف ردات فعله الثابتة في حياته في السنوات الاولى من حياته. وبديهي ان يكون للقيم السلوكية الايجابية والسلبية السائدة في محيطه العائلي دور فعال ومؤثر في تكوّن طريقة تعامله مع الغير. وتثبت الابحاث التربوية ايضاً أن تكوّن الصورة الذاتية لدى الطفل منذ حداثة سنه تؤثر في نظرته الى نفسه طيلة سني حياته. فاذا تكونت لديه صورة سلبية عن مقدرته ومكانته في عائلته بأن شعر نفسه مهملاً، دون دور معين في محيطه العائلي، لايثير اهتمام أحد كأن وجوده أو عدمه سيّان نمت لديه صورة قاتمة عن مكانته في المجتمع، ماتلبث ان تترجم بتصرفات تؤدي الى اثبات الوجود عبر سياق تعويضي يتصف بالعنف أو بالمشاكسة أو بالانحراف. وبالعكس اذا وجد الرعاية والمحبة والعاطفة والتقدير والتشجيع بين افراد اسرته زهت صورته عن نفسه ونمت مقدراته ومواهبه واصبح يشعر باشراقة مضيئة تشع من شخصيته فتؤهله للقيام بدور فعال في حياته العائلية ومن ثم المدرسية والمهنية والاجتماعية.
اثبت التقرير الذي وضعه كولمان نتيجة لابحاثه التربوية المؤيدة بالابحاث التي قام بها المجلس الاستشاري المركزي للتربية في انكلترا ان خمسين بالمئة من ذكاء الاولاد البالغين السابع عشرة من عمرهم يتكون بين فترة تكون الجنين وسن الرابعة. وان خمسين بالمئة من المكاسب العلمية لدى البالغين ثمانية عشر عاماً تتكون ابتداءً من سن التاسعة. وان 33% من استعدادات الولد الذهنية والتصرفية والمقدامية والعاطفية يمكن التنبؤ بها في سن الثانية، وتصبح درجة التنبؤ 50% في سن الخامسة. وتضيف دراسة اخرى ان نوعية اللغة التي يخاطب بها الاهل اولادهم تؤثر الى حد كبير في فهم هؤلاء وتمييزهم لمعاني الثواب والعقاب وللقيم السلوكية لديهم ولمفاهيمهم ودورهم واخلاقيتهم([6]).
ويعتبر الاسلام أن من أهم مكاسب الانسان في الدنيا أن يكون له ولد صالح، سوِّي الشخصية والسلوك.
فقد روي عن الرسول (صلى الله عليه وآله) قوله: (من سعادة الرجل الولد الصالح)([7]).
وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله: (ميراث الله من عبده المؤمن الولد الصالح يستغفر له)([8]).

الاعداد المتوازن
ولكي تتضح الرؤية الاسلامية في الاعداد وبناء الشخصية المتزن فلنقرأ هذه القيم والمبادي في آيات الكتاب العزيز:
قال تعالى:
(وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً). (البقرة/143)
(والذين اذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً). (الفرقان/67)
(وابتغ فيما آتاك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله اليكَ ولا تبغ الفساد في الارض إن الله لايحب المفسدين). (القصص/77)
(ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). (الحشر/9)
(فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولاتطغوا). (هود/112)
وبالتأمل في هذه النصوص المباركة وغيرها، نستطيع أن نشخص أهم مرتكزات التوازن الاتي:
1 ـ التوازن بين الدنيا والاخرة.
2 ـ التوازن بين الحاجات الجسدية والعقلية والنفسية.
3 ـ التوازن والاعتدال في السلوك والممارسات والمواقف.
4 ـ التوازن بين الفرد والمجتمع.
ولقد تبنى القرآن الدعوة الى الاعتدال والاستقامة والتوازن في مجالات الحياة كلها، من غير افراط ولاتفريط.
فقد دعا القرآن الانسان الى أن يوازن بين طلب الدنيا وطلب الاخرة بقوله: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الاخرة ولاتنس نصيبك من الدنيا).
بل جعل الله الدنيا طريقاً الى الاخرة، فليس هناك فصل بين عمل الدنيا وعمل الاخرة.
فكل فعل الانسان في عالم الدنيا مرتبط بعالم الاخرة. لذلك حرم الاسلام الرهبانية وحرمان النفس مما أحل الله من الطّيبات. كما رسم للانسان منهاجاً عبادياً متكاملاً يجعله في دائرة العبودية لله سبحانه، والارتباط بعالم الاخرة في كل فعل واتجاه; لئلا يستغرق في ملذات الدنيا، ويترك الاعداد للاخرة.
ومن مظاهر الاعتدال والاتزان في القيم والمبادي والاحكام الاسلامية هو الموازنة بين نزعات النفس المختلفة وحاجاتها، وتوظيف طاقاتها. فقد دعا الى اشباع حاجات الجسد المادية والغريزية من الطعام والشراب والجنس والراحة.. الخ، دونما افراط أو تفريط.
والى جانب دعوته الى اشباع حاجات الجسم المادية دعا وبعناية فائقة الى احترام العقل، وتلبية حاجاته من العلم والمعرفة، وفسح المجال امام عمليات الفكر والتفكير المنتج، ورسم أمامه حدود الالتزام واسسه. وكما أعطى العقل دوره في التفكير والفهم والاستنتاج، اعطى التجربة والمعارف الحسية دورها الواقعي في الحياة، فلم ينكر دور العقل العلمي، ولم يسقط قيمة التجارب الحسية والميدانية، بل حدد لكل منهما ميدانه ودوره العلمي القادر على اكتشافه وتحصيله.
وحين تعامل مع الجانب النفسي من الانسان لم يعتبر الانسان مجموعة من الاجهزة والتشكيلات المادية والعضوية، بل تعامل معه كانسان يحمل الاحاسيس والمشاعر الوجدانية والعواطف الانسانية من الحب والكراهية والرضا والسخط والاحساس بالكرامة والقيم الاعتبارية..الخ.
ولكي لايطغى بعض الاحاسيس والانفعالات الوجدانية والعواطف على بعض، فتختل حركة النفس وسلوكية الانسان دعا الى الاعتدال في الحب والكراهية وفي الغضب والسخط والرضا...الخ، ونظّم الانفعالات والمواقف النفسية تلك على أساس الالتزام بالقيم، لتبقى حركة الانسان في دائرة الاعتدال والاستقامة النفسية.
وهكذا يضع الاسلام خطته العملية في الموازنة والاعتدال لتعمل الاجهزة الاربعة: العقل والنفس والضمير والجسد بتوازن وتنسيق واستقامة.
ومن هذه الاسس انطلق في تنظيم السلوك في اتجاهاته المختلفة، فدعا الى الانفاق المعتدل، وتناول الطعام والشراب بشكل معتدل، وممارسة العمل والكسب والجنس والراحة والنوم بشكل معتدل.
لذا حرّم الاسراف والتبذير والتقتير، ودعا الى عدم المبالغة في الحب والكراهية، وكره كثرة النوم والبطالة، ودعا الى الاعتدال في الكسب المادي وطلب المعيشة وعدم ارهاق الجسم..الخ.
وبذا جاء منهاجه معتدلاً متوازناً في بناء الشخصية الانسانية كوحدة بيولوجية وسيكولوجية وايديولوجية وفسيولوجية متكاملة.
وبعد أن حدد الاسلام أسس بناء الشخصية المتوازنة ذاتياً اتجه الى تحقيق التوازن في الحقوق والواجبات بين الفرد والجماعة، ليوازن بين النزعة الفردية والمصلحة الاجتماعية.
فالانسان ليس وحدة حياتية مستقلة عن بقية أفراد المجتمع، بل لابد له أن يعيش ضمن دائرة المجتمع، ويتبادل المنافع والمصالح، وينشىء العلاقات، ومن تلك الروابط نشأت الحقوق والواجبات وكان من مسؤولية القانون والاخلاق أن ينظّما الحقوق والواجبات ومسألة الوظيفة الاجتماعية للانسان.
لذا دعا الى الايثار لتهذيب النزعة الذاتية. وتقديم مصلحة الجماعة على النفس، قال تعالى واصفاً المؤمنين الملتزمين:
(ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).
وتحدث الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) عن التكامل والاهتمام بمصلحة الجماعة بقوله: (ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضواً تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى)([9]).
(لايؤمن أحدكم حتى يحب لاخيه مايحب لنفسه)([10]).
(خير الناس من نفع الناس)([11]).
(من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)([12]).
إن هذه المجموعة من النصوص والمفاهيم الاسلامية توضح الموازنة بين الفردية والاجتماعية، وتعمل على توعية الانسان المسلم بالوعي الاجتماعي.
وتتحمل التربية مسؤولية توظيف تلك المبادي في منهج عملها، وتنشئة الشخصية المتوازنة بكامل نزعاتها وعلاقتها الانسانية.

الطفل والمحيط
من المبادي الاساسية التي لايمكن تجاهلها أو التغافل عنها، هو أثر المحيط القوي والفعال في تكوين شخصية الفرد. فالطفل في بداية ولادته يأخذ بالتأثر والانفعال بالمحيط، ويبدأ بالتفاعل معه والاكتساب منه... فيقتبس مختلف انماط السلوك والمعتقد وأساليب العيش والانحراف، فللوالدين وسلوك العائلة ووضع الطفل فيها مثلاً دور كبير في بلورة شخصية الطفل وتحديد معالمها، كما للمعلم وأصدقاء الطفل وللمجتمع ووسائله الفكرية والاعلامية وعاداته وأسلوب حياته سلطان كبير على سلوك الطفل وتفكيره، غير أن من الامور المهمة التي يجب أن نلاحظها هنا، وانطلاقاً من فلسفة الاسلام العامة، هي أن العالم الخارجي بالنسبة للانسان وبمختلف مصادره، ومع شدة تأثيره لايقرر كلياً وبصورة حاسمة والى الابد مواقف الانسان وشخصيته، بل الارادة والقوة الذاتية سيكون لهما الدور الفعال في تحديد السلوك والمعتقد. ذلك لان الانسان في نظر الاسلام حُر مختار يمكن أن يتصرف في اختيار المواقف وتحديد أنماط السلوك، ولكن هذه الارادة كما هو واضح تنمو مع الطفل وتقوى كلما نما وقوي حتى تكتمل وتنضج مُواكِبة نمو واكتمال شخصيته العامة، وأما في مرحلة الطفولة فسيكون للعالم الخارجي ولموضوعاته الاثر الاكبر والبالغ الاهمية في تشكيل الذات وتكوينها، لانعدام الارادة والقدرة أو ضعفها عن التمييز والاختيار في هذه المرحلة.
ومن الواضح أن تأثير العالم الخارجي ـ البيت والمدرسة والمجتمع ـ لايقف عند مرحلة الطفولة، بل إنّ مايشاهده الطفل، أو ينفعل به، أو يسمعه، أو يعاينه، يبقى ذا مغزى ومدلول عميق مترسباً في أعماق العقل الباطن، يفعل ويؤثر، وينازع الارادة في المستقبل ويقلقها ويثير المتاعب أمامها، أو على العكس من ذلك إذا كان مما يوافقها.
وإذن فقد يعين العالم الخارجي الانسان على السلوك الخيِّر البناء، وقد يحرفه نحو سلوك شرِّير هدّام.
من هنا جاء التأكيد في التربية الاسلامية على القيم والاخلاق والمبادي كحقائـق مستقلـة متعاليـة على تأثيـرات الواقع لتسلـم من انحرافاتـه واثاره.
ولذا أيضاً صار الاهتمام بالغاً بتربية الارادة، لما لها من دور وفاعلية في حياة الفرد والشعوب والامم. فبالارادة المنفصلة عن تأثيرات المحيط والملتزمة بالقيم والمبادي المتعالية على واقع العالم المحيط بالانسان برز القادة والمفكرون والمصلحون، ونادوا بالثورة على الواقع وتغييره، بعد أن اكتشفوا مواطن الداء والانحراف فيه، واستطاعوا أن يصنعوا موضوعاً اجتماعياً جديداً بواسطة الارادة والفكرة المجردة.
وهذا التقويم الواقعي المسنود من قبل منطق التأريخ ومردود حركته، والذي يعطي الانسان القيمة الحقيقية في هذا الكون، ويضعه موضع الايجابية والفاعلية، هو تقويم الاسلام الذي جاء صريحاً بقول الله الحق: (بل الانسان على نفسه بصيرة* ولو ألقى معاذيره).
ويقول الرسول (صلى الله عليه وآله) : (لاتكن إمعة تقول أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، بل وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم)([13]).
وإذن الى جانب الاعتناء بالارادة، أو بذاتية الانسان الداخلية وقوة اختياره يلجأ الاسلام الى الاهتمام بالبيئة الخارجية، لانها الاداة التي تمد الذات بألوان من الصور والانفعالات، وتعمل على ملء محتوى الانسان عن طريق الحس، لذا كان الاعتناء بما يغذي الانسان من معلومات خارجية ـ بيئية ـ تساهم في بناء ذاته أمراً ضرورياً واسلوباً من اساليب حماية الشخصية وتنقيحها.
من هنا كان واجباً على التربية أن تبعد الطفل عن كل ماله تأثير سيّىء وضار في نفسه، وأن تحيطه بجو يساعده على النمو السليم، ويحفظه من التعقيد والانحراف، وسواء في المحيط الاجتماعي أو الطبيعي وذلك لان للظواهر الطبيعية أثراً فعالاً ومؤثراً في نفسية الطفل، كما للظروف الاجتماعية تأثيرها ـ وبصماتها على شخصيته وعلاقاته ـ.
ولزيادة الايضاح فلنستوضح تأثير كل من المحيطين ـ الطبيعي والاجتماعي ـ على شخصية الطفل وسلوكه.
ولنفرد لكل موضوع من هذه المواضيع بحثاً به:
1 ـ المحيط الطبيعي: إن القاعدة الاساسية في تربية الطفل في هذا المجال هي أن تكون العلاقة بين الطفل والطبيعة قائمة على أساس من التّفهم والطمأنينة والاهتمام بالطبيعة، وأن نعمل على إبعاد المخاوف عنه، ونلفت نظره الى مواطن السرور والامان في هذا العالم، لنصونه من ردود الفعل النفسية المؤلمة والضارة من جهة، ونجعله يتجه نحو الطبيعة يستلهم منها معاني الحب والبهجة والجمال ويتشوق الى البحث والتعرف والاكتشاف من جهة أخرى.
قال تعالى:
(أولم ينظروا في ملكوت السماوات والارض وما خلق الله من شيء).
ومن الواضح لدينا أن الطفل يتأثر بالمحيط، وينفعل به، فيتوجه الينا بتساؤلات كثيرة عن هذا العالم الذي يثير إعجابه فيستهويه، ويستجلب نظره.. فالرعد والحيوان الغريب، ونباح الكلب ودوي الريح ومياهُ النهر والبحر والظلام..الخ، كلها أمور تثير مخاوف الطفل وتبعث في نفسه القلق وتجعله ينظر اليها بحذر وخوف، ويعدّها في عداد الخطر، فيتطور هذا الخوف، ويأخذ أشكالاً مختلفة، وتحوّلات مناسبة لنمو الانسان، فتترسّب حالات الخوف في اللاشعور فتنشأ شخصيته على القلق والتردد والتهيب والشعور بالخوف.
وكما تفعل الظواهر الطبيعية هذا الفعل السلبي الخطر في نفسية الطفل، فانها تؤثر أيضاً إيجابياً نافعاً في نفسه. فالطفل يفرح ويُسر بمنظر المطر، وتمتلىء نفسه سروراً وارتياحاً بمناظر الحقول والحدائق الجميلة، ويأنس بصوت الطيور ومشاهدة الازهار، فواجب المربي إذن ـ المعلم والابوين ـ أن يعملا على إيجاد علاقة وديّة ومُسرّة بين الطفل والطبيعة، لندربه على مواجهة الامور التي يخافها ونطمئنه ونحيطه بالثقة والعطف، فنزيح من نفسه الخوف وروح الانطواء والحزن، أو نستصحبه معنا الى النزهة فنشعره بمظاهر البهجة والسرور، ونعطيه القدر الكافي من الحرية، ونجيب عن تساؤلاته التي يثيرها حول المطر والشمس والنجوم والقمر والرعد والظلام...الخ، فننمي فيه روح الاستطلاع، وحبّ الطبيعة بما فيها من آيات بارعة مثيرة للاعجاب، لينشدّ اليها، ويعرف مكانه فيها، وعلاقته بها، ويدرك عظمة خالقه، ومواطن القدرة والابداع، فيتجه نحوها مطمئناً متواضعاً، يملا قلبه الحب والخير. ويتركز في نفسه مفهوم هام علمي وعقيدي، وهو أن الطبيعة بما فيها وضعت وخلقت للانسان ليتصرف فيها، ويستفيد منها، ويكيِّف طاقاتها لصالحه، معززاً ذلك بالتوجيه القرآني القائل:
(هو الذي خلق لكم مافي الارض جميعاً).([14])
وهذا التسخير هو تمكين الانسان من تكييف قوى الطبيعة، واستخدام مخزونها لصالح الانسان، ووفق الاسس والمفاهيم الانسانية التي كوَّنها من خلال علاقته بعالم الطبيعة: مفاهيم الحب والخير والجمال والسلام. والعلم هو الاداة الفعالة في هذا المجال لاكتشاف مافي الطبيعة من قوى وقوانين كونية تسخر لصالح الانسان.
2 ـ تأثير البيئة الاجتماعية: البيئة الاجتماعية هي تلك الصيغة الحياتية والعلاقات الانسانية المختلفة التي تتكون نتيجة التفاعل والتعامل الانساني القائم بين الافراد، وهذه الوضعية الاجتماعية تؤثر بلا شك في أفرادها القادمين اليها بعد الولادة، وهي غالباً ما تطبعهم بطابعها وتمنحهم صفاتها، وحينما نتكلم على البيئة الاجتماعية للطفل نقصد بها الاجواء الاجتماعية التي تحتضنه، وتؤثر عليه في أدوار نموه وتكامله، كالعقائد والاعراف والتقاليد وطريقة التفكير...الخ.
ويمكن تلخيص البيئة الاجتماعية بالمجالات الاتية:
أ ـ الاسرة.
ب ـ المجتمع.
ج ـ المدرسة.
د ـ الدولة.
أ ـ الاسرة: الاسرة هي المحيط الاجتماعي الاول الذي يحتضن الطفل، فينمو ويترعرع في أوساطه، ويتأثر بأخلاقه، ويكتسب صفاته وعاداته وتقاليده، سواء بالقدوة أو بالخبرة والسلوك العملي الذي يعامل به، أو بما يسمعه ويشاهده، أو يستوحيه من ظروف أسرته.
فالطفل يرى في أبويه ـ وخصوصاً في والده ـ الكيان الاعظم، والوجود المقدس، والصورة المثالية لكل شيء، ولذا فان علاقته به تكون علاقة تقدير وإعجاب واحترام من جهة، وعلاقة خوف وتصاغر من جهة آخرى; ولذا أيضاً فانه يسعى دائماً الى الاكتساب منه وتقمص شخصيته وتقليده والمحافظة على رضاه، في حين يرى في الام مصدراً لارضاء واشباع نزعاته الوجدانية والنفسية من حب وعطف وحنان وعناية ورعاية; ولذا فان شخصية الام تؤثر تأثيراً بالغاً في نفس الطفل وسلوكه في المستقبل. ولذلك كله كان لاوضاع الاسرة وظروفها الاجتماعية والعقيدية والاخلاقية والاقتصادية..الخ، طابعها واثارها الاساسية في تكوين شخصية الطفل، ونمو ذاته. فالطفل يتأثر بذلك كله، وينعكس على تفكيره وعواطفه ووجدانه وسلوكه. فعلاقة الوالدين مع بعضهما، أو تعامل أفراد الاسرة من إخوة وأقارب في مابينهم، يوحي للطفل بنوعية السلوك الذي يسلكه في المستقبل، ويزرع في نفسه مفاهيم عن كيفية التعامل وطبيعة العلاقة مع الاخرين. فحينما يرى هذه العلاقة قائمة على الود والعطف والاحترام والتعاون يألف هذا السلوك، ويتأثر به، فتكون علاقته بوالديه وأخوته وبقية أفراد أسرته قائمة على هذا الاساس، وعندما يخرج الى المجتمع يبقى يتعامل معه على هذا الاساس أيضا. أما إذا كان يعيش وسط أسرة منهارة متفككة، تقوم علاقاتها على الشجار والخلاف وعدم التعاون والاحترام فانّه يتأثر بذلك السلوك أيضاً، ويبني علاقاته بالاخرين على هذا الاساس. والطفل الذي يُعامل بقسوة ويلاقي من أبويه أو أخوته الاهانة، وعدم التقدير، ولايحصل على حاجته الطبيعية من الحنان والعطف والاهتمام سينشأ انساناً مشرداً قاسياً وهداماً في سلوكه. يعاني من الجفوة والقسوة والشعور بالنقص، وربما كان انتقامياً حقوداً، أو سلك الواناً أُخرى من السلوك المريض الذي يضر بشخصيته ومجتمعه; لذلك كان الاعتناء بكيان الاسرة وأوضاعها وعلاقاتها القائمة بين أفرادها ونظامها أمراً حيوياً وخطيراً في حياة الاُمة. ولهذا كان اعتناء الاسلام بالاسرة بالغ الاهمية; لان الاسرة بهذا الاعتبار هي المصنع الاول الذي يمد الامة بالفرد الصالح وبالجيل السليم. فكثيراً ماتكون حياة الانسان في مرحلة الطفولة صورة انعكاسية لحياة العائلة وطبيعة الجو العائلي، ونوع المعاملة والرعاية التي كان يلقاها، فالطفل الذي يعامل معاملة خاصّة، ويميز على بعض أخوته، أو الذي يبالغ بتدليله، مثلاً، ينشأ أنانياً اتّكالياً، وقد تنمو معه روح الكبرياء، أو بالعكس إذا كان الطفل يعامل باحتقار ويفضل عليه بعض اخوته، فان هذا التعامل يزرع في نفسه الشعور بالنقص والكراهية تجاه الاخرين.
وللعائلة، وبصورة خاصة السلوك الابوي، الاثر الكبير في صنع مستقبل الطفل ومكانته، فمعاملة الطفل معاملة تشعره باحترام شخصيته تزرع فيه روح الثقة، وتعده لان يكون انساناً ذا شخصية قوية، يملك روح العزيمة وتتفجر في نفسه ينابيع العبقرية.
ان سلوك الابوين، بصورة خاصة، وسلوك الاخرين بصورة عامة، تجاه الطفل يكشف له ذاته ويُعرِّفه بحقيقة استعداداته، ويوحي له بقيمته الذاتية، فيؤثر هذا الايحاء بسلوكه وشخصيته. من هنا جاءت عناية التربية الاسلامية بالطفل والاهتمام بمعاملته. فقد جاء في الحديث الشريف عن الرسول (صلى الله عليه وآله): (أحبوا الصبيان وارحموهم)([15]).
وعن الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من قبَّل ولده كتب الله عزوجل له حسنة ومن فرَّحه فرَّحه الله يوم القيامة)([16]).
وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله): (أنّه كان يصلّي يوما في فئة والحسين (عليه السلام)صغير بالقرب منه فكان النبي إذا سجد جاء الحسين (عليه السلام) فركب ظهره ثمّ حرّك رجليه فقال: (حَلْ.حَلْ) فإذا أراد رسول الله أن يرفع رأسه أخذه فوضعه إلى جانبه. فإذا سجد عاد على ظهره، وقال: (حَلْ. حَلْ) فلم يزل يفعل ذلك حتى فرغ النبي من صلاته. فقال اليهودي: يا محمد انّكم لتفعلون بالصبيان شيئاً ما نفعله نحن، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): (أما لو كنتم تؤمنون بالله ورسوله لرحمتم الصبيان). قال: انّي أؤمن بالله ورسوله فأسلم)([17]).
كما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
(من كان عنده صبي فليتصاب له)([18])
وهكذا نقرأ في هذه النصوص تركيز التربية الاسلامية على دور الاسرة والوالدين في تنمية روح الحب والرحمة والرعاية والحنان للطفل، وإشعاره بالتكريم والمساواة والاهتمام بشخصه، وتأديبه وتعويده على العادات الحسنة والفضائل العالية. لينشأ الطفل سليماً من التعقيد والانحراف والسلوك العدواني الهدّام.
ب ـ المجتمع: المجتمع هو المحيط الثاني الذي يتلقى الطفل ويحتضنه بعد أبويه وأسرته، ويشيع فيه روحه، وينقل اليه عاداته ومفاهيمه وسلوكه. والمجتمع هو ملتقى مايحمله وينتجه الافراد المعاصرون من أفكار وعادات وتقاليد واخلاق، كما أنه الوارث الطبيعي للاسلاف والاجيال الماضية، وهو الذي ينقل للجيل الحاضر ماكان عليه اباؤه وأجداده من أوضاع وعادات. لذا فان البيئة الاجتماعية لها بالغ الاثر في شخصية الطفل وسلوكه. ان الفرد الذي يحمل أفكاراً وسلوكاً وتقاليد اسلامية تخالف الاوضاع الاجتماعية السائدة، يعيش حالة من الحرج أو الازدواجية، كما ويكون معرضاً للذوبان مالم يتكون تيار اجتماعي جديد يتلاءم وتطلعات الافراد الاسلاميين ويحدث التغيير الاسلامي.
والفرد المسلم في المجتمع الاسلامي يجد البيئة الصالحة لنموه ونشأته واستقامة شخصيته، لتوفّر الاجواء والظروف اللازمة لنمو الشخصية الاسلامية اجتماعياً. فهذه الوسائل كلها تؤثر في الطفل ، ويكتسب منها عاداته ومفاهيمه وسلوكه، وتوجه شخصيته سلباً وايجاباً. فالصديق الذي يرافقه الطفل ويلعب معه يؤثر فيه، وينقل اليه الكثير من أنماط السلوك. ومعاملة الضيوف والاقارب وغيرهم من الكبار والاختلاط بهم تكون ايضاً لها أضرارها ومنافعها. والمؤسسات العامة كالملاعب والنوادي والجمعيات والمسارح والسينما، أو المظاهر العامة كالاعياد والمناسبات التاريخية التي يحتك بها الطفل تزرع في نفسه مفهوماً خاصاً وتوجهه توجيهاً معيناً، وكذا المثل والقصة والنكتة والحكايات الشعبية، فانها تترك في الطفل أثراً ومفهوماً. ويزيد على ذلك كله من حيث الاثر والتوجيه تأثير الدولة في الافراد وصبغهم بصبغتها الخاصّة، نتيجة لما تمتلكه من وسائل تأثير قوية وفعالة ومدروسة ومبرمجة. فالصورة التي يشاهدها الطفل على شاشة التلفزيون، والكلمة التي يسمعها والمشاعر التي يلتقي بها في المناسبات وغيرها تؤثر في نفسه، وتكوِّن جانباً من شخصيته، لذا كان الاعتناء واجباً وضرورياً بالحياة الاجتماعية ووسائل الاعلام والمظاهرات والمؤسسات الاجتماعية العامة، حرصاً على جيل المستقبل، وصيانة له. كما ينبغي الاعتناء ببرامج الاطفال ووسائل النشر الملائمة لذهنياتهم، كالمجلة ومكتبة الاطفال والملاعب الخاصة بهم.
والتربية الاسلامية تعتمد كثيراً على المحيط الاجتماعي في التوجيه والاعداد كما تعتني باصلاح الطفل وتوجيهه.
وجدير ذكره أن هناك جانباً مهماً في القضية التربوية له اثره المهم والفعّال في الشخصية الانسانية، وهو الانسجام وعدم التناقض بين حياة المجتمع والمدرسة والبيت، ليسلم الطفل من الصراع والتوزع وانقسام الشخصية.
والمجتمع الاسلامي، الذي يؤمن بالاسلام عقيدة ومنهجاً للحياة وسلوكاً ينسجم تماماً مع الاسرة والمدرسة، ويلقى الطفل فيه الحياة المتزنة المستقرة المنسجمة. كما أن الطفل اينما حوّل وجههُ في البيت أو المجتمع أو المدرسة، وجد الام والاب والاقارب والاصدقاء والمؤسسة والمظهر الاجتماعي ووسيلة الاعلام وحياة الناس العامة وسياسة الدولة كلها تجري على قاعدة فكرية وسلوكية تسعى الى الخير والاصلاح، وتجري بانسجام تام، وتتعاون بشكل دقيق ومتقن على أسس فلسفة حياتية وفكرية واحدة، من أجل بناء الفرد الصالح والمجتمع القويم والدولة القوية المهابة.
ج ـ المدرسة: والمدرسة هي الحاضنة الثالثة بعد البيت والمجتمع الذي يحتضن الطفل ويؤثر في تكوين شخصيته وصياغة فكره وسلوكه. وتشترك أربعة عناصر اساسية في اخراج الاثر المدرسي الى حيّز الوجود، وتعمل كلها مؤثرة في شخصية الطفل وسلوكه، وهي: المعلم، المنهج، المحيط الطلابي، والنظام والنشاطات والمظاهر المدرسية العامة:
1 ـ فالطفل يرى المعلم مثلاً اعلى، وينظر اليه باهتمام بالغ، وينزله في مكانة عالية من نفسه، فيعمل دائماً على التأثر والاقتداء به، والانفعال بشخصيته، ويحاول تقليده. فكلمات المعلم وثقافته وسلوكه ومظهره ومعاملته للطالب كلّها تترك أثرها الفعال في حياة الطفل، فاذا كان المعلم يعامل الطالب برفق أبوي وعناية، ويسبغ على علاقاتهما روح العطف والاحترام لشخصية الطالب، ويحبب إليه السلوك الحسن.
ثمّ يتلّقى من معلّمه النظام والنظافة والعناية والسلوك المستقيم، والكلمة الطيّبة، ويشعر بالمحاسبة من قبل معلّمه الذي يُنبهه إلى خطئه إذا أخطأ، ويُحسّن إليه المواقف الحسنة، ويشجّعه عليها إذا هو أتى بها، أو يلفت نظره إلى أمور لم ينتبه إليها، ثمّ هو يتابع مواهب الطفل واستعداداته الذاتية التي يأخذ على عاتقه اكتشافها وتنميتها لكي يساعده على استثمارها والاستفادة منها. وأخيراً فإنّ شخصية المعلّم تترك أثرها في شخصية الطفل من خلال المؤثّرات الاتية:
أ ـ إن الطفل يكتسب من معلمه عن طريق التقليد والايحاء الذي يترك أثره في نفسه، من دون أن يشعر الطالب بذلك، في غالب الاحيان.
ب ـ اكتشاف مواهب الطفل وتنميتها وتوجيهها.
ج ـ مراقبة سلوك الطفل وتصحيحه. وبذا تتعاظم مسؤولية المربي ودوره في التربية الاسلامية.
2 ـ وأما المنهج: فهو (مجموعة من العلوم والمبادي التربوية والخطط التي تساعدنا على تنمية مواهب الطفل واعداده إعداداً صالحاً للحياة). ولكي يؤدي المنهج غرضه ينبغي أن يعالج ثلاثة مبادي أساسية ويتحمل مسؤوليتها وهي:
أ ـ الجانب التربوي: ان العنصر الاساس في بناء المنهج في مراحله الاولى هو العنصر التربوي، فالمنهج هو المسؤول عن أن يزرع في ذهن الطالب ونفسه القيم والاخلاق الصالحة، ويعوِّده الحياة الاجتماعية والسلوك القويم. كالصدق والصبر وحب العلم والتعاون والشجاعة والنظافة والايمان بالله وحب الوطن والالتزام بالنظام وطاعة الوالدين..الخ، وهذا الجانب التربوي هو المسؤول عن تصحيح أخطاء البيئة الاجتماعية، وانحرافاتها، كالعادات والخرافات والتقاليد البالية..الخ.
ب ـ الجانب العلمي والثقافي: ويشمل هذا الجانب تدريس الطفل مبادي العلوم والمعارف النافعة، سواء الطبيعية منها أو الاجتماعية، والتي تؤهله لان يتعلم في المستقبل علوماً ومعارف أرقى.
ج ـ وأما الجانب الثالث من المنهج فيشمل تنمية مواهب الطفل وملكاته الادبية والفنية والجسمية والعقلية. كالكتابة والخطابة والرسم والتطريز والخياطة أو الرياضة والالعاب الكشفية والاختراع والابداع...الخ.
فاذا وضع المنهج بهذه الطريقة استطاع ان يستوعب أهداف التربية ويحقق أغراضها، ويعيننا على خلق الانسان الصالح والفرد النافع.
3 ـ المحيط الطلابي: والمحيط الطلابي هو وسط اجتماعي تتلاقى فيه مختلف الحالات والاوضاع والتقاليد، وأنماط السلوك والمشاعر التي يحملها الطلاب معهم الى المدرسة، والتي اكتسبوها من بيآتهم وأسرهم، وحملوها الى زملائهم، فتنتقل من بعضهم الى بعض عن طريق الاحتكاك والاكتساب. وطبعاً سيكون الوسط الطلابي على هذا الاساس زاخراً بالمتناقضات من أنماط السلوك والمشاعر ـ سيما إذا كان المجتمع مجتمعاً غير متجانس ـ التي يبديها الطلبة، فمنها المنحرف الضار، ومنها المستقيم الخيّر، لذا كان واجب المدرسة أن تهتم بمراقبة السلوك الطلابي وخصوصاً الطلبة الذين يسلكون سلوكاً ضاراً وتعمل على تصحيحه ومنع سريانه الى الاخرين، وتشجيع السلوك الاجتماعي النافع البنّاء، كتنمية الحياة التعاونية، والتدريب على أعمال القيادة الجماعية والرضا بالانقياد، والالتزام بمقررات الجماعة الطلابية، لينشأ اجتماعياً تعاونياً، ينضوي تحت لواء القيادة التي يقررها المجموع والتي تحقق مصلحة الجماعة. كما يتدرّب الطالب من خلال ممارسة الحياة في المحيط الطلابي على احترام حقوق الاخرين ومعرفة حقوقه عليهم.
4 ـ النظام والمظهر المدرسي العام: لما كان الطلبة يشعرون في اليوم الذي يدخلون فيه المدرسة أنّ للمدرسة نظاماً خاصّاً يختلف عن الوضع الذي ألفوه في الاسرة، فإنّهم يشعرون بضرورة الالتزام بهذا النظام والتكيف له. فاذا كان نظام المدرسة قد أقيم على أسس علمية متقنة، وشيّد على قواعد تربوية صحيحة فان الطالب سيكتسب طباعاً جديدة في مراعاة هذا النظام، والعيش في كنفه، فمثلاً إذا كان الطالب المشاكس الذي يعتدي على رفاقه والطالب الاخر الذي يُعتدى عليه يشعران بأن نظام المدرسة سيلاحق هذه القضية، وأن هذا الطالب المعتدي سوف لن يترك ليتصرف بلا ردع ولا علاج، فان الطرفين سيفهمان حقيقة مهمة في الحياة وهي أن القانون والسلطة والهيئة الاجتماعية يردعون المعتدي، وينزلون به العقاب، وأن المعتدى عليه هو في حماية القانون والسلطة والهيئة الاجتماعية، ولاضرورة للرد الشخصي واحداث المشاكل بين الافراد.
ان هذه الممارسة المدرسية تربي في الطفل احترام القانون والشعور بالعدل. والنظام المدرسي الذي يتابع مشكلة التقصير في اداء الواجبات والغياب عن الدروس، ويحاول حل هذه المشكلة، فان الطالب في هذه المدرسة سيتعود من خلال ذلك على الضبط والمواظبة والشعور بالمسؤولية...الخ.
وكما أن للنظام أثره في تكوين شخصية الطفل وتنمية مشاعره، وتكوين قيمه ومواقفه، فان للحياة العامة في المدرسة أثرها الفعال أيضاً.
فجمال بناية المدرسة ونظافتها، والتزام كل مسؤول بواجبه، أو ظهور اللافتات المدرسية، أو الحكم الاسبوعية، أو تشكيل اللجان المدرسية لمساعدة الطلبة الفقراء، أو تنظيف المدرسة، أو لجان النشاطات المختلفة التي يعمل فيها الطلبة سوية، ان كل هذه الممارسات وامثالها تزرع في نفوس الطلبة مفاهيم خاصة، وتطبع حياتهم بطابع خاص، كالمحافظة على النظافة، واحترام النظام، وعدم التدخل في شؤون الاخرين، وإشاعة الحياة التعاونية..الخ. لذلك كان علينا أن نهتم كثيراً في صيغة الحياة العامة داخل المدرسة، ونعمل على توفير جو صالح للطفل يُعوِّده الحياة الاجتماعية الصحيحة، كما علينا أن نعمل بشكل متقن ومتناسق على جعل المدرسة، بكافة عناصرها: المنهج والمعلم والنظام والحياة والجو المدرسي، متحدة الهدف، متسقة التفكير، بشكل يجعل من المدرسة بعناصرها الاربعة حياة عملية، يتعلم فيها الطفل الحياة، كما يُعد لحياة المستقبل في آن واحد، يقوم بعملية عزل عناصر الصيغة الاجتماعية وفرزها، واقرار ماهو صالح منها، واسقاط ماهو ضار ومنحرف، كي تمد المدرسة المجتمع بوحدات انسانية أساسية تدخل في بنائه الجديد، وتعمل على إحداث تغيير اجتماعي فيه وفق خطة المدرسة الاسلامية الملتزمة.
د ـ الدولة: بعد أن تطورت بنية الدولة ومهامها، وتعقّدت الحياة البشرية بمختلف مجالاتها، صارت علاقة الانسان بالدولة علاقة حيوية، فما من مجال من مجالات الحياة إلاّ وللدولة أثر أو علاقة به، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
ويظهر أثر الدولة بشكل أكثر وضوحاً في التربية والتعليم والثقافة العامّة. فالدولة في معظم بلدان العالم اليوم تتولّى مسؤولية التربية والثقافة والتعليم، وتخطط لها مركزياً، وتنهض بادارتها وقيادتها.
أي انّ الدولة تتبنّى مسألة صياغة البناء الانساني، وتصميم نمط الشخصية والتفكير وطريقة إعداد الانسان للحياة. فهي التي تتولّى إعداد المنهج المدرسي، وترسم السياسة التربوية العامّة وتوجيه الثقافة عن طريق الاذاعة والتلفزيون ووسائل النشر التي تؤثّر بها على تكوين الانسان الفكري والنفسي والسلوكي. وبتلك الوسائل والامكانات تؤثّر الدولة على هوية الانسان التربوية وشخصيته.
والدولة الاسلامية هي دولة عقيدية فكرية لها خط فكري متميّز المعالم، وفلسفة حياتية مستقلة، لذا فهي مسؤولة عن توجيه التربية والتخطيط لكل عناصرها وأجهزتها المدرسية والاعلامية لتسير في الخط الاسلامي الملتزم.

التربية الاخلاقية والنفسية
تشكل الاخلاق الفاضلة الركن الاساس في بناء الشخصية الاسلامية وتنظيم المجتمع. وهي مصدر سعادة الانسان واستقامة شخصيته،وبناء الانسان السوي السلوك والنزعة.لذا كانت التربية الاخلاقية من أهم عناصر التربية الانسانية التي اعتنى بها الاسلام،واكد الاهتمام بها.
ونستطيع أن نعرف قيمة الاخلاق في الاسلام من ثناء الله على نبيه الكريم محمد (صلى الله عليه وآله) عندما وصفه بقوله: (وانك لعلى خلق عظيم) ومن قول الرسول (صلى الله عليه وآله): (بعثت لاتمم مكارم الاخلاق)([19]).
ومن قوله (صلى الله عليه وآله): (ان أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً)([20]).
وكما يقترن كمال الايمان والسعادة النفسية في عالم الدنيا بحسن الخلق، تقترن المعاناة النفسية، وعذاب الضمير بسوء الخلق أيضاً: لذا يحذر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله (من ساء خلقه فقد عذَّب نفسه)([21]).
ان هذا الحديث الشريف يشرح لنا العلاقة بين التكوين الداخلي للانسان، وبين السعادة والشقاء اللذين يحيطان بالانسان، فالانسان الاحمق السريع الغضب، والحسود الحقود، والاناني، والجشع، والساخط المتبرم...الخ، يعاني من مرارة هذا السلوك ومردوداته، مما يحيل حياته الى شقاء وعذاب نفسي وقلق دائم.
من ذلك نعرف ان قيمة الشخصية في الاسلام وسر السعادة في الحياة مرتبطان بمستوى ما يتمتّع به الانسان من أخلاق سامية، ونزعات نفسيّة سويّة، والتربية الاخلاقية تعني بناء المحتوى الداخلي للانسان على أساس الفضيلة والقيم السامية: من الصدق والرحمة والعدل والامانة والمحبة والايثار والثقة بالنفس والجد في العمل...الخ، لتكوين الملكات الخيِّرة، والنزعات الانسانية الفاضلة التي توجه سلوكه نحو الخير والاستقامة وتتفاعل مع قيم الحق والفضيلة.
وتفيد الدراسات وتجارب التحليل النفسي أن معظم السلوك البشري هو عبارة عن استجابة داخلية للمثيرات الخارجية، لذا فان موقف الانسان من المثيرات الخارجية التي يواجهها: كالمثير المالي، أو الجنسي أو السلطوي، أو الوجداني، والتحديات التي يواجهها...الخ، تتوقف على طبيعة الملكة النفسية، ونوعية المحتوى الداخلي للانسان، فانطلاقاً من هذا المحتوى يتحدد موقفه من المثير، ومدى الاستجابة له.
وجدير ذكره أن تربية الطفل المتوازنة نفسياً وأخلاقياً لها الاثر البالغ على استقرار الشخصية وحمايتها من القلق والعقد التي كثيراً ما تقود الى الامراض النفسية والعصبية والسلوك العدواني.
لذا كانت التربية الاخلاقية والنفسية لها الاثر البالغ في سعادة الطفل المستقبلية، وحمايته من الانحراف وضعف الشخصية.
وكما يحتاج الطفل الى الحب والحنان لتكوين الشخصية السويّة يحتاج كذلك الى توفير المستلزمات المادية، وتدريبه على احترام ملكية الاخرين وشخصياتهم ليبتعد عن العادات السيّئة، كالسرقة والتزوير والاحتيال والاعتداء على الاخرين، وممارسة الطرق المحرّمة للحصول على المال.
وتربية الطفل على القناعة والايثار العملي، والتسوية بينه وبين إخوته في البيت بالعطاء والعناية والحب، يشعره بالمساواة مع الاخرين، والرضاء بما يتوفر لديه.
وكما يحث الاسلام على منح الحب والحنان، فان المبالغة فيهما تولد شخصية اتكالية مائعة، لذا ينبغي الاعتدال والاتزان في التعامل مع الطفل في درجات الحب واللين والشدة والردع.
ومما يجدر الاهتمام به هو مراقبة سلوك الطفل وعباراته، وتصحيح أخطائه وممارساته في البيت والمدرسة، فان هذه المراقبة عملية اساسية ذات أثر في تقويم شخصيته وتنقيح سلوكه.
وقد يمارس الطفل ممارسات خاطئة يحتاج ردعه عنها للعقاب، واشعاره بارتكاب الخطيئة، وضرورة التوبة والاقلاع عن تلك الممارسة. فان استخدام العقاب الجسدي أو الادبي أمر ضروري وتربوي في بعض الاحيان، شريطة أن لايصل الى حد الاضرار الجسدي، أو التعقيد النفسي الذي كثيراً مايتسبب بتشريد الاطفال، وتكوين الكراهية للبيت والابوين.
ويشخص الرسول المربي مسؤولية الابوين التربوية فيقول: (رحم الله والدين أعانا ولدهما على برِّهما)([22]).
ومن أسس التربية السليمة أن يمنح الطفل في السنوات الاولى من حياته حرية التعبير عن الذات والاشباع النفسي من اللعب، فانها تجربة الانسان في التعبير عن ذاته، وتعامله مع العالم الخارجي، وتنمية الخيال والممارسة.
لذا جاءت الدعوة التربوية لمنح الطفل فرصة سنين عديدة للعب، فقد ورد عن الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) : (أمهل صبيَّك حتى يأتي به ست سنين، ثم ضُمَّه اليك سبع سنين، فأدبه بأدبك، فان قبل وصلح والا فخل عنه)([23]).
وورد عنه توجيهه التربوي (عليه السلام): (الغلام يلعب سبع سنين، ويتعلم الكتاب سبع سنين، ويتعلم الحلال والحرام سبع سنين)([24]).

التربية العبادية والايمانية
يتحدث القرآن الكريم في العديد من آياته عن علاقة الموجودات العبادية بالله سبحانه، والارتباط العبودي بينه وبين الخلائق كلها، فيؤكد أن هذه العلاقة حقيقة تنظم الوجود بأسره: الطبيعة والحيوان والنبات والانسان، فكل شيء في هذا العالم متجه الى بارئه وسائر اليه بتشوق وعشق تكاملي. وشاهد له بالوحدانية والربوبية، ومعبّر بوجوده عن العبودية.
ويقرر القرآن هذا المبدأ، مبدأ العبادة والتسبيح والصلاة في العوالم كلّها فيقول:
(ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والارض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون). (النور/41)
(ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات والارض والشمس والقمر والنجوم والجبال والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فماله من مكرم ان الله يفعل مايشاء) (الحج/18)
ويؤكد القرآن في موارد أخرى أن العبادة هي غاية الخلق وسر الوجود البشري فيقول: (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون).
وحين يتحدث عن مبدأ خلق الانسان وتكوين وجوده يؤكد أن الانسان فُطر على التوحيد وكوّن على الاتجاه الى بارئه، قال تعالى:
(فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون).
ثم أوضح الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) معنى هذه الاية فقال: (فطَرهم على التوحيد).([25])
وروي عن الامام الباقر (عليه السلام) عن النبي قوله: (كل مولود يولد على الفطرة).
ثم فسرّ هذا القول النبوي بقوله: (يعني على المعرفة بان الله خالقه)([26]).
ويروي الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ان موسى بن عمران قال في مناجاته لرب العزة: (يارب أي الاعمال أفضل عندك؟ فقال: حب الاطفال، فان فطرتهم على توحيدي، فان أمتهم أدخلهم برحمتي بجنتي)([27]).
إن دراسة تحليلية لمضمون هذا النص وأفكاره لاتشرح أثر الحب الابوي المتطبع في نفس الطفل وحسب، بل وتوضح الاثر النفسي المنطبع في نفس الاب المحبّ.
فحب الطفل ببراءته ونقاء فطرته يشيع في النفس حب الفطرة والنقاء والبراءة، وبذا يعكس الحب أثره التربوي في نفس الطفل والاب معاً.
وجاء في الحديث النبوي الشريف أن كل طفل يولد على الفطرة، إنما البيئة التربوية هي التي تغير اتجاهه في الحياة... فقد روي عنه قوله(صلى الله عليه وآله): (مامن مولود يولد الا على هذه الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه)([28])، ولذا أكد الاسلام أهمية التربية ومسؤوليتها في الحفاظ على النقاء وبراءة الفطرة واستقامتها.
ومن هنا تبدأ عملية التربية وهي المحافظة على نقاء الفطرة وحمايتها من التلوث والانحراف في النفس البشرية كما أوضحنا آنفاً، لانّها نقية طاهرة من التعقيد والانحرافات، فمسؤولية المربي إذن هي تنشئة الفطرة على استقامتها ونقائها، والاخذ بيد الطفل ليسير سيراً أميناً نحو بارئه...فالطفل مثلا يولد في أحضان الطبيعة والطبيعة مليئة باثارات الجمال والاستهواء والغرابة بالنسبة له... فهو يشاهد السماء والشمس والقمر والنجوم والغيوم والامطار والاشجار والبحار والانهار والوان الازهار والثمار. وحين يبدأ وعيه بالتفتح يريد أن يفهم العالم فهماً عقلياً فيسأل ابويه أو اخوته الكبار أو معلمه: كيف تكونت تلك الموجودات؟ ومن خلقها...؟ ويريد أن يفهم الاشياء على أساس ربطها بعللها وأسبابها.
وعلى الابوين والمربين أن يجيبوا عن أسئلة الطفل إجابة تتناسب ووعيه، مستعينين بالمثل المبسط للتعريف بالاشياء المحسوسة لديه كاللعب والصور، كيف صنعها الصانع، أو صورها الفنان، للتعريف بخالق الوجود، أو تكوين رابطة نفسية بين الطفل ومظاهر الطبيعة الموصلة الى الخالق العظيم. لتكون تلك الاجابات إيضاحاً لعلاقته بخالق الوجود وأساساً لاثارة الاحساس بالفضل والاحسان الالهي، أو تدريبه على اداء الشكر، منطلقين معه بضرب الامثلة الحسّية الدّالة على وجوب شكر من يصنع المعروف، ويهب لنا الاحسان.
ولتكن البداية من إشعاره باحسان الابوين المحسوس لديه واستحقاقهما للشكر، ليكون هذا الاحسان أساساً للقياس، واثارة مشاعر الشكر والحب لله سبحانه.
والطفل في مراحل حياته الاولى يملك قدرة عالية على التلقي والتقبل.. وواجب الابوين والمربين أن يقدموا له المعلومات العبادية: كتعليم الصلاة وتحفيظ الاناشيد والقصص التي تزرع في نفسه معاني الايمان والارتباط بالله سبحانه وتشعره بصفات الله من: العدل والرحمة وعقاب المجرمين وقدرته على الخلق والاحياء..الخ.
وجرياً على القواعد النفسية فان الظروف والاجواء التي تصاحب عملية تدريب الطفل على العبادة تشكل مثيراً ومنبهاً يقترن بأدائها; لذا فان توفير أجواء السرور والمحبة والتشجيع للطفل بالثناء على عمله أو تقديم الهدايا له، أو التقاط صورة ملونة له، وهو في حال الصلاة..الخ يثير السرور في نفسه، ويجعل من العبادة عملا محبباً لديه يترسخ في الوعي الباطني بعكس الاسلوب القاسي، واستخدام الاكراه والتشديد على الطفل، فانه يشكل حالة من الرفض الداخلي، وعدم الاقبال على العبادة.
وتوظيف الفن السينمائي والفلم والصور في تعليم العبادات وتقديمها بشكل إيحائي أو صريح اسلوب ناجح من اساليب التربية العبادية. فهي أعمق أثراً من التلقي اللفظي المجرد، وأكثر تقبلا لديه.
والتدريب العملي المشفوع بالحب والعناية من الابوين للطفل، كاصطحابه الى المسجد وصلاة الجماعة وصلاة العيد، له عميق الاثر في نفسه وعلاقته بالعمل العبادي.
لذا جاء الحث على تعليم الطفل والصبي القرآن والاحكام والعبادات بشكل تدريجي. فقد روى الصادق عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: (... ومن علّمه القرآن دعي بالابوين فكسيا حلتين تضيء من نورهما وجوه أهل الجنة).
ويثبت الامام الصادق منهج التربية العبادية للصبي والناشيء وتعليمهم مبادي الشريعة بقوله: (ويتعلم الكتاب سبع سنين ويتعلم الحلال والحرام سبع سنين).
وورد عنه (صلى الله عليه وآله): (علموا صبيانكم الصلاة، وخذوهم بها اذا بلغوا الحلم)([29]).
وروي عن الامام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) أنه كان يدرب صبيانه بشكل تدريجي على الصلاة حتى لاتثقل عليهمانه كان يأخذ من عنده من الصبيان بأن يصلوا الظهر والعصر في وقت واحد، والمغرب والعشاء في وقت واحد، فقيل له في ذلك. فقال: هو أخف عليهم، وأجدر ان يسارعوا اليها، ولايضيعوها ولايناموا عنها، ولايشتغلوا، وكان لايأخذهم بغير الصلاة المكتوبة ويقول: اذا طاقوا الصلاة، فلا تؤخروها عن المكتوبة)([30]).

التربية القرآنية
(ان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم).
القرآن هو الرسالة الالهية الخالدة، ومستودع الفكر والوعي، ومنهج الاستقامة والهداية. ومقياس النقاء والاصالة.
إن تعليم الطفل والناشىء القرآن يعمل على بناء شخصيته بناءً ايمانياً، ويربي في نفسه قيم الاخلاق والسلوك المستقيم. ويشكّل شخصيته وطريقة تفكيره تشكيلاً يتّسم بالنقاء والاصالة. كما يمنحه الفصاحة، وحسن النطق، وسلامة المنطق، ويزوّده بالوعي والمعرفة.
وضمن تخطيط معاد للاسلام ولحضارته أُبعد تدريس القرآن من المدارس الحكومية في معظم البلدان الاسلامية إلا بشكل بدائي ومحدود في بعضها، لتنشأ الاجيال وهي تجهل قيمة القرآن، وتعيش بعيدة عن الارتباط به، والالتزام بمنهجه. حتى غدا المتعلم المسلم لايحسن قراءة القرآن، ولايشعر بالارتباط الروحي والنفسي والفكري به حتى بعد اكمال دراسته الجامعية، ناهيك عن فهمه، واستيعاب محتواه والتعبد به.
ان مسؤولية الاباء تلزمهم بضرورة تعليم أبنائهم لكتاب الله، وتحبيب تلاوته، وتقديسه في نفوسهم.
ومما يسهل مشروع تعليم القرآن هو تطور الوسائل التعليمية كجهاز التسجيل والفيديو والتلفزيون...الخ.
ووجود القرآن مرتلاً ومجوداً على السن القرّاء المختصين يساعد الاباء على تعليم قراءة القرآن وتحفيظه للابناء بشكل سليم ومتقن.
ان مراحل تعليم القرآن ينبغي أن تبدأ من حين شروع الطفل بالنطق، فانها مرحلة الحفظ والتلقي والتفاعل النفسي مع المعرفة. فيحفّظ آيات قصار من القرآن، ويشجع على حفظها بالثناء عليه، وتقديم الهدية التي تناسب سنه واهتماماته، لاسيما تلك الهدايا القابلة للحفظ. فتبقى كذكرى وهدية محببة اليه.
فإهداء مصحف أنيق الطباعة والاخراج له يزيد من اهتمامه، ويشعره بحب أبويه له، وعنايتهم بكتاب الله، وتعليمه.
ان تعليم القرآن حفظاً وقراءة وترتيلاً يجب أن يحظى بعناية خاصة في المدارس ومؤسسات التربية والتعليم. فتكون له حصص وافرة في الجدول المدرسي، واهتمام بالغ في تدريسه وبيان محتواه على ضوء حاجة الانسان ومشاكله المعاصرة.
كما ينبغي أن نؤسس الجمعيات والمدارس وحلقات الدرس الخاصة بتعليم القرآن وحفظه وتفسيره.
ان الجيل الذي ينشأ في أحضان بيئة اجتماعية تعتني بالقرآن، وترتبط به، يكتسب منها هذا الاهتمام والارتباط النفسي والفكري.
إن اكتشاف مواهب الناشئين في الحفظ أو الترتيل وتنميتها وتشجيعها باقامة المسابقات والندوات والمؤتمرات القرآنية وتكريم الحفاظ والقرّاء يشكل جزئاً مهماً من مشروع اعداد جيل من حفاظ القرآن وقرّائه.
ولكي ترتبط الامة بكل عناصر الارتباط ومحفزاته بكتاب الله نجد الرسول الكريم محمداً (صلى الله عليه وآله) قام باعداد جيل من الحفاظ والقرّاء.
ويكفي دليـلاً على ذلك أن الروايـات التاريخيـة حدثتنا عن استشهاد أربع مائة رجل من قرّاء القرآن من جيـل الصحابة في معركـة اليمامـة وحدها.
وتتضح قيمة هذا العدد من القرّاء إذا عرفنا أن عدد نفوس المسلمين في الجزيرة العربية كان قليلاً.
واذا كان هذا الشاهد التاريخي يشكل دليلاً عملياً على الاهتمام بحفظ القرآن، فان هناك التوجيهات النبوية التي تدعو المسلم وتحفزه على التسابق على حفظ القرآن وقراءته أو تيسيرهما للاخرين.
من ذلك قوله (صلى الله عليه وآله) : (الحافظ للقرآن، العامل به مع السفرة الكرام البررة)([31])
ويوضح الرسول الكريم أهمية تنشئة الجيل على حفظ القرآن وتأثيره في سلوكه وشخصيته فيقول:
(من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه، وجعله الله عزوجل مع السفرة الكرام البررة...)([32])
ونقرأ حث النبي (صلى الله عليه وآله) الاباء على تعليم أبنائهم قراءة القرآن وبيان أجرهم عند الله سبحانه على ذلك ليكون دافعاً وحافزاً لهم على ذلك. فقد روي عنه قوله (صلى الله عليه وآله):
(... ومن علّمه القرآن دعي بالابوين فكسيا حلتين تضيء من نورهما وجوه أهل الجنة).
وعلى النهج النبوي تأتي دعوة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لتعلم القرآن والعناية به. فقد روي عن الامام الصادق (عليه السلام) قوله:
(ينبغي للمؤمن أن لايموت حتى يتعلم القرآن، أو يكون في تعليمه)([33]).
من ذلك كله نخلص الى أهمية تعليم الاجيال الناشئة كتاب الله وتربيتها تربية قرآنية ليبنى جيل قرآني بعيد عن الانحراف والخرافة والبدع والمادية الجاهلية، يحمل خصائص جيل الدعوة النبوية وروحه ووعيه.

التربية العلمية والعقلية
(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير).
(المجادلة/11)
(انّما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ). (فاطر/28)
(قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون انّما يتذكّر أولو الالباب).
(الزمر/9)
عرّف علماء المنطق الانسان بأنّه (حيوان ناطق).
والناطقية تعني التفكير والقدرة على البيان.
فالانسان هو الكائن العاقل المفكّر الذي يستطيع أن يدرك الاشياء بوعي، ويكتسب العلوم والمعارف من خلال إدراكه لعالم الطبيعة والاحياء، وتأمّله في الكون والوجود.
وبالعلم والمعرفة يكتسب الانسان قيمته الانسانية، وبالعلم والمعرفة احتلّت الامم والشعوب مواقعها في مسار التاريخ، وتصدرت قيادة البشرية. وقد استطاع الانسان باستخدام العقل واكتشاف القوانين العلمية أن يُسخر الطبيعة والحيوان والنبات لصالحه.
والاسلام يعتبر طلب العلم فريضة من الفرائض، لذا جاء في الحديث النبوي الشريف:
(طلب العلم فريضة على كلّ مسلم)([34]).
ذلك لانه منطلق معرفة الله سبحانه، وأساس الاستقامة السلوكية عندما يوظّف توظيفاً سليماً، ومصدر قوّة المسلمين ورقيّهم. والعنصر الاساس في تمكينهم من حمل الدعوة الاسلامية إلى العالم وقيادته. ولاهتمام الاسلام بالعلم والتقدّم العلمي جعل التخصص في العلوم والمعارف لتوفير حاجة الاُمة منها في شتّى المجالات: الطبّ، والهندسة، والزراعة، وعلوم الشريعة، والعلوم العسكرية..الخ، واجباً كفائياً.
وانطلاقاً من دعوة الاسلام إلى طلب العلم والمعرفة أخذ المسلمون زمام المبادرة العلمية، فأسّسوا العلوم والمعارف وبنوا الجامعات والمكتبات، وألّفوا الكتب وشادوا صرح الحضارة والمدنية، وأسّسوا منهاج البحث العلمي في مجالاته الانسانية والمادّية، فاعتمدوا المنهج العقلي في مجالاته العلمية، كما اعتمدوا المنهج التجريبي والبحث المختبري في علوم: الطبّ، والفلك، والكيمياء، والفيزياء، والصيدلة، وغيرها من العلوم المادّية...الخ، وعلى تلك الاسس قامت مدنية أوربّا المعاصرة وتقدّمها العلمي. وانسجاماً مع دعوة الاسلام إلى طلب العلم والتفوّق في المعرفة يُكلّف الاباء والمربّون والمؤسسات العلمية والاعلامية بتوجيه الطفل نحو طلب العلم والاهتمام بالبحث العلمي، وتنمية حبّ الاستطلاع ومعرفة أسرار الطبيعة والحياة بتشجيعـه علـى القراءة والتجارب العلميـة البدائيـة وتوفيـر مستلزماتهـا له.
ان المعرفة تبدأ لدى الطفل من الاشياء الحسية الجزئية ثم يتدرج فيدرك الكليات المجردة.
والطفل في بداية محاولاته للتعلم ينطلق من غريزة حب الاستطلاع واثارة انفعال التعجب في نفسه، ويوسع معارفه بالاطلاع المباشر على الاشياء والحقائق العلمية، واستخدام الخيال كقوة عقلية تساعده على الابداع والابتكار والاختراع.
ان توفير اللعب العلمية والتقنيات البسيطة التي تنمي التفكير والذكاء عنده هي وسائل لتنمية العقل العلمي والبحث عن المجهول.
واهتمام الاباء بتعليم أبنائهم وتحبيب الذهاب الى المدرسة وتشجيعهم على التفوق المدرسي وتقديم الهدايا لهم. والمخصص المالي الذي يستخدمه الطفل في الشراء من حانوت المدرسة.
وتوفير المجلات والمصورات العلمية، ومتابعتهم بطريقة محببة الى نفوسهم لانجاز واجباتهم المدرسية والتفوق فيها.
والتحدث لهم عن حياة العلماء باسلوب قصصي شيّق، ومحاولات أولئك العلماء الاكتشاف والاختراع، وفضل العلم والعلماء على البشرية... وزيارة المتاحف والمعارض العلمية والصناعية كلها وسائل مشجعة على طلب العلم والتفوق العلمي.
ومن مسؤولية الاباء والمربين اكتشاف قابلية الطفل ونوع المهارة واللياقة العلمية التي يميل اليها نفسياً وتنميتها لديه، وتوفير المستلزمات الاولية التي يحاول بها الصبي صناعة وابتكار أو تقليد بعض الاجهزة المبسطة يشجعه على الابتكار والتوجه نحو الاكتشاف والاختراع. وإن إقامة معرض لانتاج الناشئين وابتكاراتهم والتعريف باسمائهم في المجلة والتلفزيون مثلا، ومشاهدة الطفل لذلك ينمي في نفسه روح الابداع والشعور بتقدير الاخرين له، واحترام شخصيته.

أسس لتكوين عقل الطفل المسلم
ان من أهم مايجب الاهتمام به هو وضع الاسس الاولى والمبادي الاساسية لبناء عقل الطفل وطريقة تفكيره، لتكون أساساً في تشكيل عقله، وتنظيم فكره وفق المنهج الاسلامي، وطريقة التفكير الحضاري في الاسلام.
فتعليمه أن لكل شيء سبباً، ولكل موجود غاية وقيمة في الوجود، وان لهذا الشيء علاقة بغيره من الاشياء، وان الانسان يخطىء ويصحح خطأه، والعمل على تنظيم مبادي القياس والاستنتاج في ذهنه وتفكيره.
وأن العقل هو القوّة المدركة للمعرفة، وأن الحس والتجربة والملاحظة العلمية هي من الادوات الاساسية لجمع المعلومات والمعارف..الخ، وتدريسه مبادي المنطق والرياضيات المنظمة لتفكيره.
ان تعليمه كل تلك الحقائق وغيرها عن طريق المنهج المدرسي أو القصص والممارسات وعرض تجارب الاخرين والتوعية وتفسير المشاهدات والملاحظات والتجارب تساهم مساهمة فعالة في بناء المقدمات والاسس التي تنتج عقلاً اسلامياً وتفكيراً علمياً منتجاً، بعيداً عن الخرافة والتخلف والاساطير.
ومن المفيد أن نلخص الاسس العامّة التي يتّم على أساسها تشكيل العقل المسلم، وهي:
1 ـ تركيز مبدأ السببية العامّة وتصحيح انطباقه على الوجود بأسره، وعلى الطبيعة وما وراءها.
2 ـ انّ الحسّ هو مصدر المعرفة، وأنّ العقل يمارس عملية الانتزاع والاستنتاج فيبني على أساس المعارف الحسّية الاولية معارف كليّة مجرّدة، وبذا ينتزع القوانين ويحصل على العلوم والمعارف.
3 ـ انّ أدوات تحصيل المعارف إذن هي الحواس والعقل.

التربية البدنية
(وابتغ فيما آتاك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله اليك ولاتبغ الفساد في الارض ان الله لايحب المفسدين). (القصص/77)
تتحدث هذه الاية الكريمة عن مبدأ التوازن في السلوك الانساني، واحترام الحقوق المادية والغريزية للجسم والعناية به والاهتمام بشؤون الحياة كافّة، كما تدعو الى التفكير والعمل من أجل عالم البقاء والخلود.
إنّ الانسان كما خلقه الله وحدة حياتية متكاملة متناسقة من الغرائز والعقل والارادة والعواطف والمشاعر، وأن التربية السليمة هي التربية التي تراعي التكوين الانساني بعناصره المادية والجسمانية والعقلية والنفسية وتهتم بربطه بعالم الاخرة; لئلا يحدث الانفصام بين القيم الروحية والجسدية، ويحدث الاختلال في توازن الشخصية. وقد رفض الاسلام الرهبانية وحرمان الجسد، ودعا في العديد من احكامه وتشريعاته الى رعايته والعناية به.
فقد دعا الاسلام الى إعطاء الجسم حقه من الطعام والشراب والعلاج واللباس والسكن والجنس...الخ بدلالة الاية الانفة الذكر وبآيات تفصيلية أخرى.
واعتبرها ضرورات حياتية يجب توفيرها للانسان.
لذا فان التربية الاسلامية تسعى لتركيز هذه المفاهيم في عقل الطفل ونفسه، وان الاباء يتحملون مسؤولية العناية الجسدية بأبنائهم. وتبدأ عناية الاسلام الجسدية بالطفل وهو نطفة في بطن أمه، فقد حثت التوجيهات الاسلامية المرأة الحامل على تناول أنواع الاطعمة ليكون الطفل سوي الخلقة، متكاملاً، جميل الصورة.
كما حرّمت الشريعة الاسلامية كل مامن شأنه أن يضرّ بالحمل، (فلاضرر ولا ضرار) كما جاء في الحديث النبوي الشريف، وذلك يدعو الام الحامل في هذا العصر الى التأكد من تناول بعض الادوية وعقاقير منع الحمل التي كثيراً ماتسبب تشويه الطفل والجناية عليه جسدياً ونفسياً، فالاضرار به وتشويه خلقته عمل محرم ومسؤولية شرعية وحين يولد الطفل تبدأ مسؤولية الاباء الشرعية بالعناية به وحمايته من امراض الطفولة.
فالكثير من الاباء يتساهل في توفير الوقاية الصحية، أو يهمل بعض الحالات المرضية التي تنتاب الطفل، فتتطور الى مرض عضال يصعب بعد ذلك علاجه. والاب مسؤول مسؤولية شرعية عن وقاية أبنائه من الامراض والحفاظ على صحتهم بتوفير الغذاء والدواء اللازم لهم، ولايعذر الا العاجز عن توفير ذلك من عنده، أو من خلال مؤسسات الدولة المختصة بشؤون الطفل.
وينبغي للاباء أن يُعوّدوا الطفل العادات الصحية السليمة التي حث الاسلام على الاهتمام بها، كتربيته على عدم الاسراف في تناول الطعام والشراب واللباس والانفاق المادي الذي نهى الله عنه بقوله: (يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولاتسرفوا انه لايحب المسرفين). (المائدة/31)
ومما ينبغي تدريب الطفل عليه العناية بالنظافة الجسدية ونظافة اللباس والبيت والمحيط والاناقة في اللباس والطعام قال تعالى:
(... مايريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون). (المائدة/6)
(قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الايات لقوم يعلمون). (الاعراف/32)
والاسلام دين القوة والفتوة; لذا أمر المسلمين أن يوفروا كل وسائل القوة والاعداد الجسدي بقوله تعالى: (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة...).
من هنا كانت تربية الطفل على الاهتمام بالرياضة البدنية وزرع روح الفتوة والقوة في نفسه مبدأ أساساً من مبادي اعداد الاجيال، وبناء الامة. وبالاضافة الى ذلك فان روح القوة والفتوة لها الاثر البالغ في رعاية صحة الطفل والناشىء، وتنمية شخصيته، والحفاظ على ثقته بنفسه لمواجهة الصعاب.
وقد جاء الحث النبوي الكريم على التربية البدنية بقوله (صلى الله عليه وآله):
(وعلّموا أولادكم السباحة والرماية)([35]).
ومما يتسامى بالاهتمام الرياضي والتربية البدنية هو السيرة العملية للرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وآله) فقد كان الرسول فتىً فارساً مقاتلاً، بل وكان يدخل في عمليات سباق الخيل، فكان يكسب الجولة ويتفوق في غالب الاحيان كما خسرت ناقته إحدى جولات السباق التي دخل فيها.
وكان (صلى الله عليه وآله) يجرى السباق بين اصحابه، ويضع الجوائز للفائزين تشجيعاً منه لروح القوة والرياضة والفتوة.
وصارع رُكانة الذي كان معروفاً بالقوة والغلبة فصرعه الرسول وغلبه.
والنوم هو أحد العناصر الاساسية في حياة الانسان الجسدية والعقلية والنفسية، والحفاظ على الوقت والراحة، وتدريب الطفل على النوم المبكر والاستيقاظ المبكر من أهم عناصر تربيته على رعاية الصحة الجسدية والنفسية، وكيفية استفادته من الوقت.

التربية والمحرّمات الجسدية
(قُل تعالوا أتل ماحرم ربكم عليكم). (الانعام/158)
(قُل إنما حرّم ربي الفواحشَ ماظهر منها وما بطن). (الاعراف/33)
وكما ينبغي تدريب الابناء على العادات الصحية الجيدة وتنشئتهم عليها يجب ايضاً نهيهم عن تناول المحرمات وممارسة العادات الجسدية المحرمة. وتدريبهم على ترك العادات السيئة والمكروهة.
ومما يبعث على القلق والخوف على مستقبل الجيل المسلم هو إباحة معظم الحكومات القائمة في بلدان المسلمين للممارسات المنحرفة، كشرب الخمور والممارسات الجنسية المحرمة شرعاً وتناول المخدرات، لذا فان مسؤولية الاباء تكون صعبة وخطيرة لحماية الناشئين والمراهقين من السقوط وحماية هذه الاعمال المحرمة.
ومن الاجراءات الوقائية هي التربية الايمانية وتعميق الاخلاق الاسلامية وبيان خطورة مضار الممارسات المحرمة، وما تنتجه من امراض وسقوط اجتماعي.
وابعادهم عن أصدقاء السوء ومراقبة سلوكهم بصورة مستمرة، واستخدام العقـاب الادبي والجسدي عنـد الحاجة اليه للردع عن الوقوع في تلك الهاوية.
ومن العادات الضارة التي لايهتم الاباء بردع ابنائهم عنها هي عادة التدخين التي غدت وبالاً على الصحة والاقتصاد.والتدخين له دوافعه النفسية عند الصبي والمراهق..وبامكان الاباء ردع ابنائهم عن تلك العادة بالتوعية والمنع وحسن التوجيه النفسي الذي يشعر المراهق باحترام شخصيته أمام الكبار.

التربية الاجتماعية
(ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم).
الانسان كائن اجتماعي مفطور على الحياة الاجتماعية، فهو يحمل في اعماق نفسه غريزة حب الاجتماع والعيش ضمن الجماعة.
وجاءت الرسالة الالهية لبناء الفرد والمجتمع، والموازنة بين حقوق الفرد والجماعة.
وكما أن المجتمع مجال لتطور شخصية الفرد العلمية والحضارية، فالفرد أيضاً يمنح المجتمع جهده وخبراته، ويعمل على تطويره وتنمية ظروفه واوضاعه العلمية والاقتصادية والثقافية...الخ.
والمجتمع الصالح ينتج أفراداً صالحين، والمجتمع المنحرف ينتج أفراداً منحرفين. فالانسان يتلقى الكثير من أفكاره وسلوكه وعاداته وآدابه من مجتمعه.
لذا اهتم الاسلام بتكوين البيئة الاجتماعية الصالحة، وأوجب فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لاصلاح الوضع الاجتماعي بقول الله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون). (المائدة/104)
وعند دراسة الاداب والاخلاق الاسلامية نجدها أخلاقاً وآداباً اجتماعية، فهي تريد أن تبني الفرد ضمن الجماعة، فهي أخلاق اجتماعية. ودراسة التشريع والقانون الاسلامي توصلنا ايضاً الى أنه تشريع اجتماعي يستهدف تنظيم الحقوق والواجبات والمسؤوليات الاجتماعية الى جانب عنايته بشؤون الفرد الخاصة.
بل الاسلام يسعى لتكوين الروابط الاجتماعية البناءة حتى في عباداته ومناسباته العبادية. كصلاة الجماعة والحج والاعياد...الخ.
لذا فان التربية الاسلامية تتحمل مسؤولية اعداد الطفل للعيش ضمن مجتمع اسلامي ليعرف حقوقه وواجباته على المجتمع، كما يعرف حق المجتمع عليه، ويحسن كيفية التعامل مع الافراد والهيآت والمؤسسات الاجتماعية ويشارك في النشاط والبناء والتغيير الاجتماعي.
إن مسؤولية الاباء والمربين تدعوهم الى تربية الطفل تربية اجتماعية، ليكون فرداً اجتماعياً ناجحاً في علاقاته الاجتماعية ومشاركاً في بناء المجتمع وتصحيح السلوك الاجتماعي.
وان المنطلق الاساس للعلاقات الاجتماعية يبدأ من الحياة الاسرية والعلاقة بافراد الاسرة.
فتدريب الطفل على التعامل السوي مع اخوانه الصغار، والذين يكبرونه بالسن، هو بداية لتكوين أنماط العلاقة الاجتماعية، فتدريبه على علاقة الحب والاحترام والايثار والتعاون مع اخوانه يربي في نفسه روح التعامل الاجتماعي وينقذه من الفردية والانانية... ان حثه على العناية بأخيه الصغير أو اعطائه شيئاً من نقوده، أو ادواته المدرسية الخاصة لاحد إخوته يربي في نفسه هذه الروح الاجتماعية البناءة، وتشجيعه على مساعدة أصدقائه ورفاقه أو إعارتهم بعض أدواته وممتلكاته والمشاركة معهم في جمعيات خيرية للناشئين، أو المساهمة في الفرق الرياضية والسفرات والاعمال الجماعية التي يقوم بها اقرانه محذرينه من الاختلاط برفاق السوء وسيّئي الخلق.. ان كل ذلك يوسع دائرة اهتمامه الاجتماعي ويعمق في نفسه روح التفاعل الاجتماعي والمساهمة في الاحتفالات والنشاطات الثقافية التي تقام في المدرسة أو في المحلة التي يقيم فيها أو حثه على إقامتها ينمي فيه الروح الاجتماعية والقدرة الادبية على التفاعل الاجتماعي. لقد وضع الاسلام قواعد التعامل الاجتماعي: كالتحيّة وحسن المعاشرة والتعاون والاصلاح الاجتماعي وصلة الرحم والقربى وزيارة المريض...الخ..حري بالاباء ان يدرّبوا أبناءهم على ممارسة العلاقات الاجتماعية هذه، وازالة عنصر الخوف الاجتماعي، وعقدة الخجل المَرَضيّة، وحالة النفور والانطواء، كحثهم على زيارة اقربائهم وتقديم الهدايا الى أصدقائهم، ومراسلتهم واصطحابهم لحضور الاجتماعات والمناسبات العامة ومجالات النشاط الاجتماعي...الخ. لينشأ الطفل نشأة اجتماعية، قادرة على المساهمة في خدمة المجتمع والمشاركة في مشاريع الخير والاصلاح.

التربية الاقتصادية
يشكل الاقتصاد الركن الاساس في بناء المجتمع وتطويره وتنمية قابلياته، وللتربية علاقة وثيقة باقتصاد الامة وبالتنمية الاقتصادية، كما لها علاقة بالتنمية الاجتماعية والبشرية.
والاعداد التربوي هو جزء من عملية التخطيط لتنمية المجتمع وتطويره في المجالات كافة: العلمية وسلوكية الفرد والسياسية والاقتصادية..الخ. فالتربية هي المسؤولة عن تصميم الانسان المنتج والمالك والمستهلك والمتصرف بالمال. وهي المسؤولة عن طبيعة علاقة الانسان كلها بالمال والثروة.
فالجانب الانساني في الانسان ـ الجانب النفسي والغريزي والعقيدة والثقافة ـ له أبلغ الاثر في وضع المجتمع الاقتصادي: الانتاج والتوزيع والتداول والادخار والانفاق والاستهلاك..الخ.
والتربية هي المسؤولة عن اعداد الانسان لبناء المجتمع الاسلامي والحياة الاسلامية، وهي المسؤولة عن مستقبل التنمية والتطوير الاقتصادي.
لذا فقد أدخل الاسلام في منهاجه التربوي كيفية تربية الانسان وتنظيم علاقته بالمال والثروة، فالقرآن مثلا حث على العمل والانتاج بقوله:
(فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور).
ونظم قوانين التوزيع ليغذي المال جسم المجتمع ومرافق الحياة بشكل متوازن.
فقال تعالى: (وفي أموالهم حق معلوم* للسائل والمحروم).
(لكي لايكون دولة بين الاغنياء منكم).
وحرّم الاحتكار والربا واكتناز المال ليتحرك ويحرك الحياة الاقتصادية ومجالات التنمية الاجتماعية كافة. فقال تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا).
وروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله) قوله: (الجالب رابح والمحتكر ملعون)([36]).
وهناك المئات من الايات ونصوص السنة التي تربط بين الجانب النفسي والتربوي وبين وضع الانسان الاقتصادي.
فالكسل والخمول والاتكالية والبطالة التي تساهم مساهمة فعالة في تخلّف الانتاج ان هي الاّ أوضاع نفسية.
وممارسات الجشع والظلم الاقتصادي وحب المال والاحتكار وغلاء الاسعار والربا وحرمان الفقراء، أو الانفاق المحرّم في الخمور والفجور والاسراف والتبذير التي تحدث عنها القرآن، كلها ممارسات اقتصادية تبتني على دوافع نفسية ونزوع غريزي محرّم. لذا فان التربية البيتية والمدرسية والاعلامية هي المسؤولة عن أن تدخل في منهاجها وتوجيهها اعداد الانسان لكي يكون انساناً نشيطاً منتجاً، يعرف قيمة المال والثروة في منهاج الحياة الاسلامية وعلاقة الانسان به (ولقد جئتمونا فُرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ماخوّلناكم وراء ظهوركم).
ان اعداد الطفل والناشىء منذ نشأته ليكون نشيطاً يكره الكسل وتربية الاعتماد على النفس فيه. وتكوين علاقة بينه وبين النبات والطبيعة والحيوان بتدريبه على الزراعة في الحقل المدرسي أو في حديقة البيت أو في المزرعة وتربية الحيوانات، وتدريبه في المختبر وورشة العمل، وتنمية مهاراته العملية، وتشجيعه على الانتاج، وتحبيب العمل إلى نفسه بالتوعية والتثقيف والاهتمام بالمنهج العملي...الخ. انّ كلّ تلك الاجراءات تُعد منه إنساناً يحبّ العمل والانتاج.
وتدريبه على الاقتصاد في النفقة وعدم الاسراف في مصروفه اليومي وتشجيعه على التوفير والادخار عن طريق الصندوق البيتي أو فتح الحساب المصرفي. وتشجيعه على المشاركة في الاعمال الخيرية كمساهمته ببعض نقوده في صندوق خيري يوضع في البيت، وتشجيعه على مساعدة أصدقائه باعارتهم بعض أدواته، أو إقراضهم عند الحاجة أو مساعدة المحتاج واصطحابه لزيارة المعارض والجمعيات الخيرية، ومشاهدته لافراد الاسرة وهم يساهمون في التبرعات، وتوعيته توعية إيمانية تقوم على أساس حبّ الله لفاعل الخير، وضمان الجزاء والعوض الاِلهي، وتعميق الحسّ الوجداني بآلام المحرومين والمحتاجين، وتنمية أحاسيس الرحمة والعطف في نفسه كلّها ممارسات تربوية تزرع في نفسه حبّ الخير والانفاق وتكبح الجشع وحبّ المال.

التربية الفنية والجمالية
(ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون). (النحل/6)
(انا جعلنا ماعلى الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً). (الكهف/7)
(قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده). (الاعراف/32)
(يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد). (الاعراف/31)
وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله:
(مامن رجل يموت حين يموت وفي قلبه مثقال حبة من خردل من كبر يحل له الجنة، ان يريح ريحها ولايراها).
فقال رجل من قريش، يقال له ابو ريحانة: والله يارسول الله إني لاُحب الجمال واشتهيه، حتى اني لاُحبه في علاقة سوطي، وفي شراك نعلي.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ليس ذاك الكِبر، ان الله عزوجل يُحب الجمال، ولكن الكِبر من سفه الحق، وغمصَ الناس بعينه)([37]).
لقد اعتنى الاسلام عناية بالغة بموضوع الجمال وتنمية الذوق والحس الجمالي.
فلقد تحدث القرآن عن الزينة والجمال، ولفت نظر الانسان الى مافي عالم الموجودات من جمال وروعة وفن وابداع لتكون دليلاً على قدرة الله وعظمته. وتتضح أهمية القيم الجمالية في الفكر الاسلامي عندما نقرأ في كتاب الله وصف الله نفسه بأنه بديع السموات، وانه المصور والخالق الذي أضفى على كل شيء في هذا الوجود مسحة الجمال والاتقان.
ولنا في بيان الرسول وسلوكه العملي ايضاح كاف لاهتمام الاسلام بالجمال والتربية الجمالية، فها هو يصف الله سبحانه بأنه: (جميل يحب الجمال، وبذا يرتفع الجمال المطلق الى أعلى مراتب الوجود واسمى حقيقة يشتد الشوق اليها والسعي نحوها.
والرسول (صلى الله عليه وآله) كان المثل الانساني الاعلى في الاناقة والجمال وسمو الذوق.
إن التربية الجمالية تربي في الانسان سمو الذوق الذي يتجسد في انماط السلوك والعلاقات الاجتماعية كما يتجسد في الاشياء والموضوعات الحسية. وهي الى جانب ذلك تفتح الافق النفسي والعقلي والوجداني لدى الانسان، وتشده الى مبدع الخلائق والجمال في هذا الوجود، وهو الله سبحانه.
فالجمال والتربية الجمالية طريق الى معرفة الله، ودليل على عظمته والارتباط العقلي والوجداني به.
فالكون بكل مافيه من تناسق وروعة وجمال يشكّل لوحة فنية أخّاذة، ومصدراً للالهام الفني والجمالي وتربية الحس والذوق والمشاعر وتهذيبها.
وقد ثبّتت دراسات الفلاسفة الاسلاميين القيم الانسانية العليا (الحق والخير والجمال) وجعلتها هدفاً أسمى في هذا الوجود يسعى الانسان لبلوغها، وتحقيق مصاديقها، وبناء الحياة على أساسها.
كما وبحث علماء الكلام (علماء العقيدة الاسلامية) وعلماء أصول الفقه مسألة الحسن والقبح في الافعال والاشياء بحثاً علمياً مفصلاً، فنفوا عن الله فعل القبيح، وأثبتوا له الفعل الحسن. وعلى تلك المبادي أسسوا قيماً ومفاهيم وأسساً تشريعية لتنظيم السلوك الفردي والعلاقات الاجتماعية فجعلوا الحسن أساساً لبناء الحياة.
وتأسيساً على موقف الاسلام من الحسن والجمال يتحمل الاباء والمربون تعميق هذا الشعور في نفس الطفل والناشىء وتحبيب الجمال إليهما، فان تربيته على تلك القيم تعني تربية الذوق والحسن الجمالي عندهما وتهذيب سلوكهما وأخلاقهما والحس الوجداني لديهما وتعميق القدرة عندهما على التمييز بين الحسن والقبيح، والتفاعل مع الجمال المادّي والمعنوي.
ان تدريب الطفل منذ نشأته على الاناقة ومشاهدته للعناية الاسرية بمظاهر الاناقة والجمال، وحثه على حسن ترتيب ادواته المدرسية والعناية بمظهره، ومشاهدته آثار الجمال في البيت، في هندسته والوانه وحديقته، في سندان الازهار... وفي اللوحة الفنية في البيت والمشاهدات التلفزيونية والمجلات والمصورات ومحفظة الاسرة الصورية (الالبوم) وفي حديقة البيت والطيور التي ترى فيها، بل وفي تنظيم مائدة الطعام وتصفيف الفاكهة في الاناء والاواني في المعرض الزجاجي في البيت..الخ.
واستصحابه في السفر ليتمتع بمشاهد الطبيعة ومناظرها الخلابة، وتوعيته وإلفات نظره الى مواطن الجمال، وتعبير الابوين عن التأثر بالمظاهر الجمالية والثناء على اهتمامه بمظهره وعنايته بترتيب أدواته، وتحسين خطه الكتابي وتشجيعه على الرسم والخط والتصوير، وعمل التشكيلات الفنية البسيطة من الشمع والازهار، وقطع السيراميك، والقطع البلاستيكية والخشبية الملونة..الخ وإعطاءه الحرية في اختيار ملابسه ومساعدته على الاختيار.
ان هذه المشاهد والاثارات والارشادات والممارسات وغيرها تنمي في نفسه الاحساس الجمالي والقدرة على الاداء الفني.
إن النقد لمظاهر القبح واشعاره بالنفور من المظاهر الفاقدة للجمال يُكون لديه حساً نقدياً، ويعمق في نفسه النفور من القبح، والاقبال عى الحسن والجميل من الفعل والقول والسلوك والاشياء.
ينبغي ان نربي الطفل والناشىء على أن الجمال يتجسد في القيم... يتجسد في الكلمة الطيّبة وفي حسن المنطق، وأدب الكلام، وحسن المعاشرة، وفي فعل الخير واحترام الحق. كما يتجسد في الموضوعات الحسية: في الشكل الانساني، وفي اللباس والعطر، وحقول الازهار، وبناء البيت وهندسة المدن واللوحة الفنية..الخ، لينشأ على القيم، ويوظف الجمال في تهذيب السلوك وسمو الذوق.
ولاهتمام الاسلام بالجمال، وسعيه لطبع شخصية الطفل بهذا الطابع، وتوفير العناصر الجمالية في حياته، دعا الى استحباب ان تكون مرضعة الطفل حسناء وضيئة، وكره ان ترضعه المرأة القبيحة المنظر.
ورد هذا التوجيه عن الامام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) في قوله لاحد أصحابه: (استرضع لولدك بلبن الحسان، وإياك والقباح، فان اللّبن قد يعدي)([38]).
كما ورد عنه (عليه السلام) أيضاً:(عليكم بالوضّاء من الظئورة ([39])، فان اللبن يعدي)([40]).
وهكذا تتضح أمامنا أسس ومبادي لتقويم الجمال والاهتمام به كموضوع ينتجه الفن ويسمو بالنفس والذوق والمشاعر ويشيع فيها الحب والسرور.

أسس عامة في تربية الانثى
(ياأيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله أتقاكم). (الحجرات/13)
(ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام إن الله كان عليكم رقيباً). (النساء/1)
(ومن آياته أن خلقَ لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لايات لقوم يتفكرون). (الروم/21)
(وعاشروهن بالمعروف). (النساء/19)
(ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف). (البقرة/228)
عندما يتحدث القرآن عن المرأة والرجل والانسان انما يتحدّث عن الجنس البشري الواحد. وان الرجل والمرأة هما نوعان في هذا الجنس يقومان على أساس التكامل ونظام الزوجية العام في عالم الطبيعة والحياة الذي شخصه بقوله:
(ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) (الذاريات/49)
وهو في هذه الايات يؤكد هذه الحقيقة العلمية الكبرى، وهي وحدة الجنس البشري بقوله:
(خلقناكم من نفس واحدة).
(خلق منها زوجها).
(وبث منها رجالاً كثيراً ونساء).
(خلق لكم من أنفسكم أزواجاً).
ثم يتحدث عن طبيعة العلاقة الانسانية بين الرجل والمرأة، فيوضح أنها علاقة تبتني على أساس الاستقرار والود والرحمة والمعروف، والتساوي في احترام الحقوق والواجبات المتعلقة بهما.
وورد ذلك البيان في قوله تعالى:
(لتسكنوا اليها).
(وجعل بينكم مودة ورحمة).
(عاشروهن بالمعروف).
(لهن مثل الذي عليهن بالمعروف).
ومما ينبغي ايضاحه في مجال التربية والاعداد النسوي هو ما أثبته العلم ومايحسه كل انسان من فوارق تختلف فيها المرأة والرجل. فالمرأة تختلف في تركيبها النفسي والعضوي ووظيفتها الحياتية كأنثى تلد وترضع وتحمل غريزة الامومة والميل الانثوي، لذا فان تربية الانثى واعدادها ينبغي أن يتلاءم وتركيبها النفسي والجسدي ووظيفتها في الحياة.
وتأسيساً على ذلك، فان هناك تربية مشتركة بين الجنسين، وهناك نمطاً تربوياً خاصّاً بكلّ واحد منهما يتلاءم وأوضاعه النوعية.
لذا نجد الدراسات العلمية تهتم بالفوارق بين الجنسين كأسس لوضع المنهج التربوي ودراسة السلوك بشقّيه السوي والعُدواني.
وهذه الفوارق التربوية لاتقوم على اساس النيل من انسانية احدهما، أو تستهدف أضعافها، بل تستهدف اعداد الطبيعة الانسانية ضمن النوع والانتماء النوعي لتنسجم التربية والاعداد مع الطبيعة وقوانينها. وقد اكدت الدراسات العلمية التي اجراها العلماء المختصون في شؤون النفس والطب والاجتماع أن هناك فوارق نوعية بين الرجل والمرأة تؤثر في سلوك كل منهما على امتداد مراحل الحياة.
من هنا كانت التربية العلمية الناجحة هي التربية التي تراعي الفوارق النوعية بين الجنسين، وتعد كل منهما وفق طبيعته النفسية والعضوية.
وقد اهتمت التربية الاسلامية واعتنت بالانثى، واكدت على الاهتمام بها بشكل يقوم على أساس المساواة في الحب والتعامل لاشعارها بإنسانيتها وبتساويها مع الرجل في الانسانية.
قال سعد بن سعد الاشعري: قلت للامام ابي الحسن الرضا: (الرجل تكون بناته أحبُ اليه من بنيه، فقال: البنات والبنون في ذلك سواء، انما هو بقدر ماينزل الله عزوجل)([41]).
عن حذيفة بن اليمان: قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(خير أولادكم البنات)([42]).
عن محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: (بشر النبي (صلى الله عليه وآله)بابنة، فنظر إلى وجوه أصحابه فرآى الكراهة فيهم، فقال: مالكم؟ ريحانة أشمها، ورزقها على الله عزوجلّ وكان (صلى الله عليه وآله) أبا بنات)([43]).
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: (ان الله تبارك وتعالى على الاناث أرأف منه على الذكور، ومامن رجل يدخل فرحة على امرأة بينه وبينها حرمة الاّ فرّحه الله تعالى يوم القيامة)([44]).
وورد عن الامام الصادق (عليه السلام) :
(البنات حسنات والبنون نعمة، فانّما يثاب على الحسنات ويسأل عن النعمة)([45]).
وهكذا تحث التربية الاسلامية الوالد على حب البنت واكرامها لتمتلىء نفسها بهذا الاحساس وليشعر أخوها الذكر في البيت بهذه المساواة، وليستوحيها من اجواء التربية البيتية، ولتنشأ الانثى في ظل أجواء نفسية وتربوية تعدها لمستقبل الحياة الاجتماعية والتعامل مع الاخرين بوحي من تلك القيم.

الخطوط العامة في تربية المرأة
وانطلاقاً من تلك الاسس الفكرية العامة والمفاهيم الكلية للتصور الاسلامي للمرأة وعلاقتها ومسؤوليتها في الحياة الاجتماعية العامة ينبغي أن يأخذ المنهج التربوي للمرأة بنظر الاعتبار مايلي:
1 ـ اعدادها كأم وربة بيت وزوجة. لانّ ذلك امر ضروري لابد منه، ولايمكن لايّ امرأة إلاّ وان تتحمل هذه المسؤولية، وتمر بذلك الدور.
لذا كان من مسؤولية التربية والتعليم أن تزود الفتاة بالثقافة والمهارات اللازمة لهذه المسؤولية، كدراسة علم نفس الطفل ومبادي التربية. والتربية الصحية الخاصة بالاطفال، لتتمكن من اعداد أطفالها على أسس علمية نفسية وصحية سليمة، تمد المجتمع بعناصر حية قوية وسليمة قادرة على السلوك الصحيح والعطاء الوفير. وينبغي للمجتمع الانساني أن يشخص حقيقة علمية وهي أن المرأة عندما تقدم لنا عنصراً إنسانياً سليماً هي أفضل من أن تقدم لنا انتاجاً مادياً، لان العنصر الانساني هو سبب الخير والسعادة في الحياة، والانسان هو أغلى عنصر في هذا الوجود. فليس الربح والانتاج المادي هو كل شيء في هذا الوجود، بل هذا الموجود المادي في خدمة الانسان; بل ويكون خطراً وضرراً على حياته ان لم يحسن استخدامه وتوجيهه.
وليس هذا وحسب، بل وتساهم التربية السليمة في التنمية المادية وتطوير الانتاج المادي. ان هدم الاسرة باخراج المرأة من البيت كما يخرج الرجال منه يشكل خطراً على تربية الابناء واستقامتهم السلوكية، فقد دلّت الدراسات النفسية على أن فقدان الطفل للحب والعطف والحنان وعدم وجود من يهتم به يؤدي الى انحرافات نفسية خطيرة تقود الطفل الى القسوة واللامبالاة والشعور بالنقص...الخ.
وجدير ذكره أن وجود المرأة في البيت وعنايتها بالاطفال لاتنعكس آثاره التربوية على الابناء وحسب، بل وله انعكاساته النفسية المباشرة على سعادة الزوج واستقرار الاسرة، كما له آثاره على قدرة الرجل على الانتاج المادي، كما تدل الاحصاءات والدراسات العلمية على دور العنصر النفسي في تنمية وتطوير الانتاج. فالشخص الذي يشعر بالسرور والطمأنينة والسعادة ينتج أكثر من الشخص الذي يشعر بالملل والبؤس والمعاناة النفسية. ولا أحد يستطيع أن يوفر للرجل ذلك الجانب الايجابي من الحياة افضل من المرأة الصالحة التي تعتني به وببيته وأطفاله، وتوفر له وسائل الراحة والسعادة . كما يمكن للمرأة أن تؤدي خدمة اقتصادية للمجتمع وتوفر جهداً كبيراً بتعليم أبنائها. فالمرأة المتعلمة المعدة اعداداً خاصاً يمكنها ان تقوم بتعليم أطفالها، فتجتاز بتعليمهم ـ مثلاً ـ الصفوف الثلاثة الاولى وفق منهاج الدولة المقرر، فيمرون بعدها بامتحان الى الصف المؤهلين للانتقال اليه. وهذا اللون من التعليم يوفر قدراً كبيراً من الحرية والطمأنينة، ويتفادى مشاكل كثيرة تقع في حياة الطفل الاولى.
ان من ضرورات المجتمع العصري المنظم ان يشتمل منهاج تربية المرأة على دراسة شؤون الاسرة ومشاكلها، وعلاقة المرأة بزوجها وحقوقه وواجبات كل منهما، اضافة الى الثقافة النسوية التي يجب أن تشمل الشؤون الفنية والجمالية لما لذلك من اثار نفسية واقتصادية على حياة الاسرة. كالزخرفة والرسم والخياطة والتطريز واعداد الطعام واقتصاد البيت وتنظيم المنزل...الخ.
2 ـ ومع تطور الحياة المدنية والاجتماعية اصبح للمجتمع البشري حاجته من جهود المرأة ومشاركتها العملية، فللمجتمع حاجته من العنصر الانثوي في مجالات حياتية شتى كالتعليم والطب...الخ.
ولابد للتخطيط التعليمي في المجتمع ان يعطي هذا الجانب مايستحقه من الاهتمام والعناية.
3 ـ لم يفرق الاسلام بين الرجل والمرأة في حق التعلم ونوع العلوم التي يصح أو يجب تعلمها، فللمرأة كما للرجل أن تتعلم اي علم اجاز الاسلام تعلمه، كالطب والهندسة والكيمياء والفلك والرياضيات والزراعة..الخ، غير ان دخولها ميدان العمل كدخول الرجل يقود الى النتائج السلبية على الاسرة والمجتمع كما سبق الحديث عنها.

الطفل والتربية القيادية
(وكذلك جعلناكم امة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً). (البقرة/143)
على التربية الاسلامية أن تهتم اهتماماً بالغاً بجانب التربية القيادية والاعداد القيادي وتنمية مواهب الفرد القيادية، والعمل على اعداد جيل قائد يثق بنفسه ويتحدى عقبات السير التي تعترض طريق أمته، وبالتالي فهو يكتسب القدرة على الثبات والصراع، ويمتلك المؤهلات الضرورية للحفاظ على ذات الامة ونموها ورقيها وتحقيق انتمائها العقيدي والحضاري بعيدة عن التبعية والذوبان والانهيار. واعداد مثل هذا الجيل الواعي القيادي انما تقع مسؤوليته على الابوين، كما تقع على المدرسة والمربي بصورة أساسية، فالتمرين وتنمية الملكات والقدرات انما تنشأ بذورها الاولى في جو الاسرة وبين الابوين.
ان المرتكز الاساس في التأهيل القيادي هو الثقة بالنفس والاعتماد عليها والقدرة على صنع القرار، بالاضافة الى التأهيل الفطري، وتكوين الشخصية الطبيعي. إن زرع ثقة الطفل بنفسه في الاعمال البسيطة، وتقليل اعتماده على الابوين في انجاز حاجياته وشؤونه، وتدريبه على أن يصنع القرار بنفسه بترك الاختيار له، ومنحه الحرية في صنع قراراته المناسبة له، كلها ممارسات تنمي في الطفل روح الاعتماد على النفس، وتمكنه من ممارسة المسؤوليات القيادية في مستقبل حياته، كإدارة المشاريع والجماعة السياسية والمنظمات المهنية والاجتماعية وتوجيه الاخرين وادارة شؤونهم..الخ.
وكما تساهم الاسرة في تكوين الشخصية القيادية ببذورها الاولى، فان المدرسة هي المزرعة التي تنمو وتزدهر فيها القابليات. والمربي هو الخبير المسؤول عن كشف وتنمية هذه القابليات. وللتربية أساليبها ووسائلها الفنية والعلمية الكثيرة في كشف القابليات القيادية لدى الاطفال، وتمرينهم على قيادة الجماعة وتوجيهها، كتعويدهم القيام ببعض المشاريع والاعمال الطلابية، أو تكليفهم ببعض المسؤوليات التي هي في حدود قدرتهم، كقيادة اللجان والمشاريع المدرسية، أو عرض ومناقشة بعض القضايا، أو ادارة بعض الاعمال الجماعية كتنظيم الصف والفريق الرياضي، أو مراقبة المدرسة من ناحية النظافة والنظام، أو الاشراف على السفرات والاعداد لها وتنظيمها..الخ، وفي كل الحالات التي يقوم المربي فيها بالاعداد القيادي يجب عليه أن يراعي عدة نقاط هامة مثل:
1 ـ زرع الثقة في نفس الطفل والناشىء ومكافأة المتفوق في مجال عمله، وعدم توجيه الاهانة الى الطالب الفاشل عند الفشل أو اشعاره بالقصور والعجز، بل تجب مناقشة الموضوع معه ليشعر بأهمية شخصيته ويكتشف في نفس الوقت خطأه، كما يجب الاستمرار بتكليفه ليتعود الصبر والمثابرة.
2 ـ عدم تكليف الطفل أو الناشىء ببعض الاعمال التي تفوق قدراته لئلا يواجه الفشل المتكرر ويفقد الثقة بنفسه.
3 ـ تنمية الروح القيادية لدى الطفل والناشىء بواسطة الايحاء اليه بتعظيم الشخصيات القيادية واكبارها، وبيان سر العظمة، وموطن القوة القيادية لدى هذه الشخصيات.
4 ـ العمل على مراقبة الطفل والناشىء، والحذر من أن يقع في الغرور والتعالي نتيجة نجاحه، أو شعوره بتفوقه، بسبب مايقوم به من أعمال، لئلا تنشأ لديه عقدة الكبرياء والتعالي. هذا مايجب تأكيده والاهتمام به في الادوار الاولى من الحياة المدرسية.
أمّا بعد أن يعي الطالب الاعمال والمسؤوليات القيادية على مستوى الافراد والامم ويبدأ بالتفكير خصوصاً في المرحلة الاعدادية والجامعية بمكانة كلّ أمّة وما جسدته من دور قيادي في الماضي، وما هو المكان الطبيعي لكلّ أمّة في الحاضر والمستقبل. فإنّ أهم الاسس والخطوط العريضة التي يجب أن يشاد عليها هيكل المنهج في كلّ أبوابه وصنوف بحثه ومراحل دراسته، وبالطريقة المناسبة لوعي الطالب وإدراكه هي:
1 ـ العمل على ايجاد خط فكري عقائدي ملتزم يقوم على أساس العقيدة والمفهوم الاسلامي في المجال القيادي. وذلك عن طريق تكوين ايديولوجية واضحة المعالم تملا وعي الطالب ونشاطه الفكري.
2 ـ تنمية الروح القيادية عن طريق تنمية روح الاستقلال الحضاري والقضاء على روح التقليد والتبعية، وذلك ببيان الدور القيادي الذي قامت امتنا به في تأريخها البشري المشرق.
3 ـ ايضاح التحديات التي تواجهها الامة الاسلامية، وتنمية روح المواجهة بالاعتماد على النفس في دخول ميدان الحضارة كأمة قائدة مؤهلة للعطاء والمشاركة.
4 ـ بيان الاسباب الحقيقية لتخلّف الامة الاسلامية وكبوتها مقارنة مع تأريخ نكسات الامم وكيفية نهوضها. وقدرة الامة الحية ـ الاسلامية ـ على تجاوز عقبات السقوط.
5 ـ العمل على ازاحة التشوية القيادي لحضارتنا، واقتلاع اليأس والشعور بالنقص الذي دأب أعداء أمتنا على ايجاده وزرعه في ذهن الجيل ونفسه.
6 ـ بيان مواطن القوة وامكانات النهوض الكثيرة التي تتمتع بها أمتنا الاسلامية.
7 ـ القضاء على خرافة تفوّق من تفوّق من الامم، وتخلّف من تخلّف الى الابد، بايضاح الخط البياني لحركة التأريخ، وسير صعود الامم وهبوطها.
تلك أهم الافكار التي يجب تأكيدها والاهتمام بها عند تخطيط المنهج ووضع أسسه العامة وأهدافه النهائية، عندما يراد تخطيط منهج مدرسي للمجتمع الاسلامي الذي يأخذ على عاتقه اعداد أجيال الامة، وتنقيح ذهنيتها على اساس من فلسفة الاسلام التربوية.
ذلك لان الاسلام اراد للانسان المسلم أن يقوم بدور طليعي في قيادة البشرية والسير بها في طريق الخير والمحبة والسلام، والوصول الى مرضاة الله سبحانه، قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) وقال: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) وقال: (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً).
ويترجم الدعاء المأثور عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) التربية القيادية وتركيز مفاهيمها، فقد جاء فيه: (اللهم إنا نرغب اليك في دولة كريمة تُعز بها الاسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة الى طاعتك والقادة الى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والاخرة).
فمن هذه المفاهيم وغيرها نجد أن الاسلام يريد ان يعد أمة قائدة رائدة في طريق الخير والحضارة المدنية بما لديها من رسالة انسانية ومفاهيم خيرة ومنهج حياتي فذ، لذلك كان من الواجب على فلسفة التربية الاسلامية أن تواكب الخط الفكري العام والمفهوم الشامل للاسلام، وتؤدي واجبها باعداد الاجيال وتربية أبناء الامة على هذا الاساس.

علاقة التربية بالدولة والقانون
من تعريف التربية وتحديد أهدافها استطعنا أن ندرك خطورة المسؤولية التي تقع على عاتقها، وبعد الغور الذي تنفذ اليه من أوساط الامة، ومدى الاثر الذي تحدثه في نوعية الفرد والجماعة.
واذا كانت مسؤولية التربية هي اعداد الانسان الصالح، فان مسؤولية القانون والدولة هي الحفاظ على صلاح هذا الانسان وحماية خيره وطمأنينته، وتحقيق سلامة الحياة وتنظيم علاقة الافراد والجماعات بعضها مع بعض على أسس تلك المصالح والقيم والمبادي الاساسية في حياة الانسان. واذن فالتربية هي العملية الاولى التي تقدم النموذج الصالح للحياة. والقانون والدولة هما الاداة والقوة الالزامية التي تتحمل مسؤولية الحفاظ على هذا النموذج وحمايته; وبقدر ماتكون التربية ناجحة في مسؤوليتها فان القانون والسلطة يكونان ناجحين في بلوغ أهدافهما وتحقيق غاياتهما. فالتربية الاسلامية هي التي تسهل مهمة القانون الاسلامي، وتجعل منه حقيقة مرعبة ومحترمة في نفوس الافراد، ومعترفاً بها لدى الجماعة قابلة للتطبيق والالتزام. والتربية هي التي تمكن السلطة الاسلامية من تنفيذ سياستها وبرامجها الاصلاحية والتنموية. ولكي يتمكن القانون من تنظيم الجماعة البشرية وتنسيق شؤون الحياة، يجب أن يتوفر التناسق والاتفاق بينه وبين التربية من حيث الاساس والمنطلق. أي من حيث القيم والمبادي والاسس الفكرية التي تتبناها التربية ويعمل القانون على حفظها ومراعاتها، لانه في مثل هذه الحال يستقبل كيانات مستعدة لان تدخل في دائرة نشاطه وتلتزم بروحه. لثبوت هذه المبادي سلفاً في أعماقها حتى صارت جزءاً من حياتها، ومنطلقاً لتفكيرها وسلوكها، فالافراد في هذه الحال لايعانون مشقة ولايجدون حرجاً ولا صراعاً نفسياً حال الالتزام بالقانون والانصياع له، فقد صار بالنسبة لهم الضابط والمنظم المتوافق مع دوافعهم وأهدافهم. أما الدولة (فهي الكيان السياسي الاكبر والظل المعنوي لشخصية الامة وارادة مجموعها) وهي الجهة التي تملك حق التصرّف في الافراد وتطبيق القانون استناداً الى طبيعة مسؤوليتها ومبرر وجودها لخدمة مجموع الامة وحماية مبادي الحق والعدل والخير.
وبما أن للدولة سلطة تمثل قوة قاهرة فوق الافراد، وتسعى لتطبيق القانون، فان للافراد والجماعات مواقف منها وآراء فيها. فمتى ما ربي الافراد والجماعات على أساس من مبادي الدولة السليمة، وقيمها ومفاهيمها الحقة في الحياة، كان الافراد ينظرون اليها نظرة الراعي لمصالحهم والممثل لارائهم والمندمج مع ذواتهم في حالة استقامة سلوكها وشرعية تصرفها، فيعترف الافراد لها بالمركز القيادي، ويمنحونها ثقتهم، ويقرّون لها ذاتياً بالولاية وحق التصرف، وبالعكس عندما تنحرف عن هذه المبادي وتتخذ لها مساراً شاذاً عن المبادي والقيم الاسلامية، فانها تقابل بالمقاومة والتصدي وتجابه بالمحاسبة والمراقبة. فتصنع التربية الاسلامية في هذه الحال من مجموع الامة قوة حارسة لمبادئها واداة فعالة لممارسة نقد الدولة ومراقبتها... أما اذا انحرف خط التربية عن خط الدولة الاسلامية والقانون الاسلامي فان التمرد والصراع وعدم الاحترام سيحل حتماً في سلوك الافراد ومواقف الجماعة، ولعل هذا هو السبب الاعمق فيما نشاهده اليوم من قلق سياسي يعم الشعوب مع حكوماتها، كما أن سوء تصرف التربية وعدم دقتها هو الذي يخلق الافراط والتفريط في المهادنة والاقرار بالامر الواقع من فساد الدولة وانحرافها، أو التمرد وعدم الانصياع للسلطة الشرعية وارباك مسيرتها والذي يصطلح عليه سياسياً باليمينية واليسارية، فان الدراسات النفسية تقدم لنا حقيقة يجب أن لاننساها في هذا المجال، وهي أن نوعية المعاملة وطبيعة التربية التي عاشها الافراد في طفولتهم لها الاثر الكبير على مواقفهم من الدولة وعلاقتهم بها وبالقانون، فمثلاً الاغراق في الحبّ والوداعة والدلال والميوعة ينتج في الغالب التفكير المهادن والسلوك الخانع، وبعكس ذلك فان الطفل الذي يعيش في ظل القسوة والعنف والتشرد وعدم الاهتمام والعناية، فانه ينشأ عنيفاً متمرداً معارضاً يقلق بال السلطة، ويهدد أمن المجتمع، ويتجرأ على هيبة القانون وسلطته حتى ولو كان الحق قائماً والعدل باسطاً جناحيه.
وقد بدت نتائج هذا التناقض وعدم الانسجام والافراط والتفريط واضحة في المجتمعات الحديثة، وخصوصاً في أوربا وأميركا، حيث تعاني هذه الدول الان من التشرد والتمرد والعصابات وجرائم الاحداث والعجز عن السيطرة عليها، بسبب ماتبنته المدارس الطبيعية والنفعية من سياسة تربوية تجاهلت معها وجود القيم والمبادي والاهداف الثابتة للتربية السليمة، فسرى هذا الداء إلى الاسرة، فانحرفت التربية العائلية، وتعطلت مسؤولية الوالدين وأسلم الطفل للفوضى والانحراف السلوكي في المدرسة والبيت، فتشكلت شخصيته واشتد قوامه على هذا السلوك، فشب متمرداً على القانون، مستهيناً بكل القيم، يعاني القانون والمجتمع المتاعب من ضبطه والسيطرة عليه. فكثر الاجرام،وانتشر جنوح المراهقين،وازدادت مشاكل المجتمع، وتعقدت مأساة الانسان.
أما التربية الاسلامية فانها تنظر باهتمام بالغ للتوفيق بين القانون والدولة والتربية، فالرسالة الاسلامية تعتمد أولاً على تربية الفرد واعداده إعداداً فكرياً وروحياً وسلوكياً على أسس مبادئها وقيمها، بشكل يجعل من هذه التربية أرضية صالحة، وتربة خصبة لنمو القانون فيها. فالفرد المسلم يُربى وينمو وهو يمارس الحياة الاسلامية في الاسرة والمدرسة والمجتمع، فيشب وهو يشعر أن القانون هو مبادئه التي يؤمن بها، ورسالته المقدسة التي يجب أن يحترمها. والدولة التي تقوم على أساس هذه المبادي، وتحمي هذا القانون، هي القوة التي تمثل ارادته، وتحمي أهدافه، فيجب عليه أن يحترم القانون، ويتعاون مع الدولة. وهو يشعر أنه مسؤول أمام الله عن ذلك، وأمامه عقاب وثواب إلهي على فعله ومواقفه، لانه رُبي على العقيدة الاسلامية، ودُرّب على السلوك والاخلاق الاسلامية، حتى صار انساناً ناضجاً يشارك في بناء الحياة، وهو يعرف أن عقيدته تملي عليه واجباً مقدساً تجاه الدولة والقانون (ياأيها الذين آمنوا اطيعوا الرسول وأولي الامر منكم). (النساء/59)
وكما يدرك هذه المسؤولية تجاه الدولة فانه يدرك أيضاً أنه مسؤول عن اصلاح الدولة إذا انحرفت، وعدم اطاعتها اذا اصرت على الانحراف والاستهانة بعقيدة الامة وحقوقها.
فانّه يقرأ في كتاب الله: (ولاتركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار).
ويقرأ المنهج النبوي في التعامل مع السلطة: (لاطاعة لمخلوق في معصية الله) والى جانب كل هذا يدرك أن أمامه طريقاً مستقيماً واحداً يوصله الى الخير والسعادة وهو الاسلام الذي فهمه وآمن به عن وعي وقناعة (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) وهو يدعو الله في عبادته وصلاته أن يوفق الى الالتزام والتمسك بهذا القانون الذي تستوعبه الشريعة الاسلامية، وتحميه الدولة القائمة على أساس تلك الشريعة; فيناجي ربه فيقول في صلاته: (اهدنا الصراط المستقيم* صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين).

التربية والتأريخ
تمتد بداية التأريخ البشري علـى سطح الارض الى عصور غابرة ضاربة في القدم، وتبدأ هذه البداية مع أول انسـان درج علـى سطح هذه الارض، لـذا فان التأريخ يمثـل قصـة وجود الانسـان على ظهر هـذا الكوكـب، ويـروي ملحمة كفاحه مع الطبيعـة، ويجسـد طبيعة علاقاته مع بني جنسه فيما مضى من الزمان. لذلك فهو خبرة انسانية غنية بتجاربها، وكشف عملي عـن امكانيات الانسان واحتمالات فشله ونجاحه، والتأريخ في كل فترة من فترات وجـود الانسان يمثل حلقة في سلسلـة الحوادث التـي يجريها الانسان.
فالتأريخ اذن عبارة عن نشاط الانسان المتجسد في الماضي موضوعاً أو ماتحقق منه صيغة اجتماعية فعلية.
وللاسلام في فهم التاريخ رأيه وفلسفته وطريقته الخاصة في فهم الاحداث وتفسير الوقائع التأريخية وتقييمها فهو:
1 ـ يؤمن بان للاحداث التأريخية عللها وأسبابها ومقدماتها ونتائجها. لذا فهو علم يدرس حسب خطة ومنهج وعلى أصول وأسس علمية.
2 ـ وضع علماء الاسلام منهجاً للبحث التأريخي يستند الـى الاستقراء ومتابعــة الاحـداث الجزئيـة واستنتاج النتـائـج وتطبيقهـا تطبيقـاً قياسيــاً. وقد أوضـح القـران ذلك المنهج عندما يعرض الاحداث ويخلص الى النتائج.
3 ـ ان الانسان هو المحور والقوة المحركة في صنع الاحداث وليست الظروف والوسائل الخارجية كالالة أو الظروف الطبيعية، وذلك لان الفكر يمكن أن ينتج موضوعاً ويحدث تغييراً. وليس الفكر دائماً هو انعكاس للواقع وانسياق وراءه.
4 ـ ان أحداث التأريخ لاتسير بخط تصاعدي مستمر بصورة حتمية، ولا ترسم منحنىً بيانياً بصورة قسرية. فلا التأريخ مجموعة من المراحل الحتمية التصاعدية كما تدعي الماركسية. ولا التأريخ يعيد نفسه فيصعد ويهبط بصورة حتمية كما يدعي البعض الاخر وانا وان كنا نلاحظ ذلك بشكل ظاهري يطفو على سطح المسيرة التأريخية، ولكنه في واقع الحال يسير مرتبطاً بعلل وأسباب انسانية ترتبط بذات الانسان وارادته. فالتأريخ عملية ارادية يكيفها الانسان كيفما يشاء، فليس الانسان في أفعاله وسلوكه مجبراً ومسيّراً من قبل قوة قاهرة خارجية عن حدود ذاته، بل هو الذي يختار ويصنع التاريخ الاجتماعي، فقوى الانسان وطاقاته الفكرية والنفسية والجسمية هي القوى المحركة للاحداث والموقعة لها، والظروف الطبيعية عوامل مساعدة ومشجعة. وخطأ ماهو شائع عند البعض من أن الاسلام يؤمن بسلبية الانسان وجمود دوره في أحداث التأريخ كما تؤمن الماركسية بذلك.
فالاسلام يؤمن بحرية الانسان وقدرته على الاختيار، وينفي أن يكون الانسان مسيّراً مجبراً من قبل الله تعالى في أفعاله ونشاطاته التي يقوم بها. وها هو القرآن يشرح لنا هذه الحقيقة ويوضحها صريحة واضحة بقوله: (بل الانسان على نفسه بصيرة* ولو القى معاذيره) و (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) و (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) و (إن الله لايظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون) و (فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاءً بما كانوا يكسبون).
لماذا ندرس التأريخ: سؤال يطرح نفسه باستمرار. هل تعني دراسة التأريخ مجرد إرضاء لنزعة المعرفة المنهومة لدى الانسان؟.
أو هل هي الرغبة الملحة في معرفة الماضي لمجرد الاشتغال الذهني المترف ولامساس لها بحياة الانسان الحاضر ولاعلاقة لها بمستقبله الاتي؟ أو أن دراسته تعني شيئاً اخر غير هذا؟ لاشك أن دراسة التأريخ من وجهة النظر الاسلامية تعني شيئاً آخر هو غير ذلك فهي تعني:
1 ـ نقل تراث الامة الماضي الى جيلها الحاضر لاحكام الصلة وتوثيق العلاقة بينهما ليكون حاضرها امتداداً لماضيها.
2 ـ استنتاج العبرة وتحديد الخط الواضح في تجربة الانسان الاجتماعية ومسيرته من ناحيتيها السلبية والايجابية.
3 ـ ان معنى ذلك أن هناك حقيقة ثابتة وقانوناً طبيعياً يتحكم في حياة الانسان الاجتماعية بصورة علمية تكشف عن تجربته الانسانية وممارسته العملية، والا لما كان لدراسة التاريخ أي معنى، ولما كان لكشف صحيحه وخطئه أية فائدة، ولكان مجرد ركام واكداس من الاحداث الغابرة التي لايصح النظر اليها أو الاهتمام بها. ولُننصت الى القرآن الكريم وهو يشرح لنا هذه الحقائق مجتمعة ويؤكد على قيمة النظر الى التأريخ والاهتمام به، ودراسة احوال الامم والشعوب السالفة بغية النجاة من الخطأ والسلبية التي وقعوا فيها، ولغرض التماس الصواب وتحديد رؤية واضحة يسترشد الانسان بهديها، فقد جاءت بهذا الخصوص آيات كثيرة توضح وتشير الى ذلك منها قوله تعالى: (بل كذبوا بمالم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين). (يونس/39)
وقوله: (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الامثال). (ابراهيم/45)
وقوله: (أولم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الارض وعمروها اكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)... (الروم/8)
وقوله: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي اليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الاخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون). (يوسف/108)
وقوله: (قُل سيروا في الارض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين). (الانعام/10)
وقوله: (الم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الارض مالم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الانهار تجري من تحتهم فاهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين). (الانعام/5)
وانطلاقاً من هذا الفهم واعتماداً على هذه القاعدة يتوجه التفكير التربوي في الاسلام الى تدريس التأريخ في المدرسة الاسلامية وإدخاله في جملة المنهج كخبرة انسانية تساعد على توجيه الجيل الجديد، وتعينه على سلوك السبيل الامثل وتجنبه كثيراً من أخطاء الماضي وسقطاته. ولذلك فان خطة الدراسة وفق هذه المفاهيم تقتضي دراسة حياة الشعوب والامم بكل محتوى اطارها الزمني، حسنها وقبيحها خطئها وصحيحها مع ممارسة النقد الايجابي ودراسة كل أبعاد الفترات التأريخية طولاً وعرضاً، وترك الطريقة التقليدية القاصرة التي تحصر معظم بحوث التأريخ في أخبار الملوك والقادة، دون الالتفات إلى دور البقية من بناة التأريخ، أو محاولة دراسة التقاط الحوادث اللامعة على صفحة التأريخ كمجد يتغنّى به الانسان الحاضر، مع إغفال المساحات السوداء التي غطّت خارطة التأريخ، والتغاضي عن العلل وأسباب ذلك كلّه، مما يوقع الدارس في الحيرة والارتباك، ويضيع عليه كثيراً من الحقائق والوقائع النافعة. واستناداً إلى فلسفة الاسلام العامّة في فهم التأريخ وتقييم أحداثه يجب أن تستند دراسته إلى:
1 ـ لابد من دراسة التأريخ بامتداديه الطولي والعرضي بما فيهما من سلبيات ضارة وايجابيات نافعة لتكون الدراسة تشخيصاً كاملاً لمساحة كل فترة من فترات التأريخ.
2 ـ اتباع الموضوعية التامة والنزاهة المخلصة بعيداً عن التعصب ورواية التأريخ، وتقديم الحقائق التاريخية فنحن مسؤولون عن كشف الحقيقة لذات الحقيقة عندما تثبت وقائع التاريخ وأحداثه ذلك.
3 ـ ممارسة النقد العلمي النزيه والمناقشة البناءة عند عرض وقائع التأريخ وروايتها لنربي الموضوعية والنزاهة العلمية لدى الطفل والناشىء.
4 ـ التعليل وبيان الاسباب والدوافع واستخراج النتائج لتوفير العبرة والموعظة وتركيزها في نفوس ابناء الجيل الجديد.
5 ـ بيان مدى ارتباط وانطباق هذه الحقائق ودرجة تأثيرها في واقعنا الحاضر لربط الماضي بالحاضر والحاضر بالمستقبل لئلا ينفصل الجيل الجديد عن تراثه وماضيه المجيد..
6 ـ اختلطت بعض وقائع التأريخ بالخرافة والاساطير والمبالغات في تهويل الحوادث، لذا يجب تنقيح الحدث التأريخي من هذه العناصر الغريبة، وتقديم ثقافة تأريخية واقعية للطفل والناشىء للحفاظ على سلامة فهمه للتاريخ وصيانة تفكيره من الخرافات والاساطير والتخلف.

التربية والاعلام
(الرحمن* علم القرآن* خلق الانسان* علمه البيان).
(والله أخرجكم من بطون امهاتكم لاتعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والابصار والافئدة...).
كل مافي الانسان معجز مدهش تتجلى فيه عظمة الباري وقدرة الصنع والابداع الالهي الرائع.. غير أن امتلاك الانسان للعقل والنطق هو من أعظم آيات الله في هذا الكائن العجيب.
وكما هو واضح فان التفكير والقدرة على البيان والافصاح عما في النفس ونقل الافكار الى الاخرين هي العناصر الاساسية في بناء الحياة والروابط الاجتماعية، وتكوين المدنية والنسيج الحضاري.
والقرآن يقرر في هذه الايات أن الانسان زوّد بالقدرة على اكتساب المعارف عن طريق الحواس لاسيما السمع والبصر والعقول. ومنح إمكانية نقل تلك المعلومات التي حصل عليها الى الاخرين ليتسلموها عن طريق السمع والبصر وغيرها من وسائل التلقي. وبذا يتم التأثير على الاخرين ونقل المعلومات إليهم، ربما واقناعهم بما يريد.
فعن طريق السمع والبصر تتم الاستفادة من الكلمة والصورة.
ولاسباب عديدة: عقيدية وسياسية واقتصادية ونفسية وأمنية وعسكرية...الخ، احتاج الانسان الى الدعاية والاعلام لنقل أفكاره ومتبنياته ومراده الى الاخرين، فاستخدم الخطابة والكتابة والصورة باشكالها البدائية.
وبعد أن تطورت العلوم والمعارف والقدرة التصنيعية للانسان كانت التقنية الاعلامية إحدى أبرز الانجازات التي اعتنى الانسان بتطويرها، لاسيما بعد أن استخدم الاعلام أداة اساسية في الصراع الفكري والسياسي والاقتصادي والعسكري.
لقد ترك الاعلام أثره في الحياة البشرية كلها، لاسيما بعد صنع الورق، واختراع الطباعة والراديو والتلفزيون والسينما والفديو...الخ.
ونستطيع أن نتصور ضخامة العمل الاعلامي وقدرته التأثيرية اذا عرفنا أن إحصائيات ([46])اليونسكو لعام 1979م تشير الى أن هناك نحو مليار ومائتي مليون جهاز راديو. وأن هناك نحو عشرين الف محطة ارسال تبث برامجها على مختلف الموجات.
وان عدد محطات الارسال التلفزيوني في العالم قد بلغ عام 1979م (412/28) محطّة. وأنّ عدد الاجهزة التلفزيونية قد بلغ (500/902/453) جهازاً.
ويمكن تخمين الزيادة والتطور الحاصل في هذا الهيكل الاعلامي العملاق في يومنا هذا من هذه الاحصائية، آخذين بنظر الاعتبار التطور التقني العام، وزيادة الدخل، ودخول الاسلام كمشروع حضاري ودعوة سياسية وفكرية الى جانب مايحمل من عقيدة وعبادة، ومنهاج اخلاقي وسلوكي يصارع الحضارة المادية والافكار والنظريات الغربية ذات الامكانات الاعلامية والتقنية الهائلة.
ان الاعلام علم وفن له خبراؤه وأجهزته والمختصون به، لذا فان الاعلام يقوم على أساس التخطيط وتجنيد العلوم والمعارف: كعلم النفس والاجتماع والادب والفن وعلم الجمال والفيزياء...الخ، لتحقيق اهدافه بالوصول الى اعماق الانسان، وتبليغ رسالته التي يحملها اليه.
لقد أصبح الانسان يعيش في ظل العمل الاعلامي طوال يقظته وحركته اليومية.
فالراديو والتلفزيون والجريدة والنشرة والملصق الجداري والفيديو والسينما وجهاز التسجيل ودعاة الافكار المختلفة..الخ كلها وسائل تعمل على توجيه فكره ومشاعره، وتكوين شخصيته، واقناعه بما يخطط ويراد، من فكر وسلوك وثقافة وقناعة، والعمل الاعلامي نشاط فكري ينطلق من أسس عقيدية ونظرية سياسية; لذا يشكل الاعلام باجهزته المختلفة احدى أبرز المؤسسات التربوية والتوجيهية في المجتمع. بل وربما تفوّق تأثيره على تأثير الاسرة والمدرسة.
والطفل والناشىء والمراهق ـ كما تقرر الدراسات العملية ـ لديه الاستعداد للتقبل والتلقي اكثر من غيره لاسيما وان الصورة الاعلامية المتحركة والمدروسة التي يعرضها التلفزيون والفيديو والسينما قادرة على التفاعل مع وجدان هذا المشاهد ومشاعره وإثارة اهدافها الايجابية أو السلبية في نفسه.
وهكذا يكون الجهاز الاعلامي في المجتمع هو أحد المربين ومصممي شخصية الانسان، والمنافسين الاقوياء للاباء على ابنائهم وشريكاً في تربية الجيل مع الاسرة والمدرسة والمؤسسات الاجتماعية والسياسية الاخرى.
من هنا كانت مسؤولية الدولة والمؤسسات التي توجه الجهاز الاعلامي ان تجعله اداة للاصلاح، غير أن الحقيقة المؤسفة التي يواجهها جيل الاطفال والناشئين والمراهقين أن وسائل الاعلام سيما التلفزيون الذي اصبح أحد افراد العائلة، والذي صادر ـ والى حد كبير ـ دور الابوين التربوي، يوجه وفق خطط وبرامج في معظم العالم الاسلامي لحرف الجيل المسلم عن قيمه واخلاقه وسلوكيته.
بل وتسعى وسائل الاعلام غير الاسلامية لتصميم شخصية الانسان المسلم وفق نظريات وفلسفات مادية لانتزاع الهوية الاسلامية من الجيل الاسلامي. ولكي يصون الاباء أبناءهم من الهيمنة الدعائية المخططة ضدّهم، عليهم مراقبة الشاشة التلفزيونية والفيلم الذي يعرضه جهاز الفديو أو شاشة السينما قبل أن يسمحوا لابنائهم بمشاهدته.
كما أنهم مسؤولون عن مراقبة الكتاب والمجلة والصحيفة التي يقرؤها أبناؤهم الناشئون.
ولكي تواجه المؤسسات الاسلامية التي تعتني بالدعوة الى الاسلام والاحزاب والمنظمات والمراكز الثقافية والصحافة الاسلامية...الخ، لكي تواجه هذه المؤسسات الاسلامية الحرب الاعلامية ضد الفكر الاسلامي والشخصية الاسلامية، عليها أن تطوّر عملها الاعلامي بانشاء مؤسسات البث التلفزيونية في البلاد التي يسمح فيها بامتلاك هذه المؤسسات.
وانشاء دور النشر والمؤسسات والشركات التي تنتج الكتاب ومجلة الطفل والبرامج التلفزيونية وافلام الفديو والسينما التي تحمل الفكر والثقافة والتوجيه الاسلامي وبمستويات متفاوتة. ونشرها بأسعار متهاودة ومنافسة.
كما أن الاهتمام بنشر الفكر والثقافة والادب الاسلامي عن طريق الشريط المسجل عمل له مردوداته واثاره التربوية لدى الناشئين.
ان مثل هذا العمل الاعلامي الكبير يحتاج الى شركات تعاونية ومؤسسات خيرية وأخرى تجارية تجعل همها نشر الفكر والتربية والتوجيه الاسلامي.
ولاهمية الاعلام ركزت الرسالة الاسلامية على مهمة الدعوة الى الاسلام والاصلاح ونشر الوعي، وإعادة تنظيم الفكر وبناء الشخصية، كقوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر...).
وكقوله تعالى: (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).
وكقوله:
(ألم تر كيف ضرب اللهُ مثلاً كلمةً طيبةً كشجرةً طيبة أصلها ثابتٌ وفرعُها في السماء* تؤتي أُكُلها كُلَ حين بإذنَ ربّها ويضربُ اللهُ الامثال للناس لعلّهم يتذكّرون* ومثلُ كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجْتُثت من فوق الارض مالها من قرار). (ابراهيم/24 ـ 26)
وهكذا نفهم قيمة الاعلام التربوي وأهميته في الحياة، ونجد أنفسنا ملزمين بتوجيه العمل الاعلامي والتنسيق بينه وبين فلسفة التربية وأهدافها العامّة في الحياة.
(والحمد لله رب الع
[1]الراغب الاصفهاني / معجم مفردات الفاظ القران.

[2]المعجم الوسيط.

[3] نهج البلاغة / تنظيم د.صبحي الصالح / ص 393.

[4] نهج الحق وكشف الصدق / ص 40.

[5] ـ أحمد بن حنبل / مسند أحمد / ج2 / ص 315.

[6] ـ د.مصطفى العوجي / الامن الاجتماعي / ص 336 ـ 337.

[7] ـ الكليني / الاصول من الكافي / ج6 / ص3.

[8] ـ الحر العاملي / الوسائل / ج15 / ص98.

[9] ـ البخاري / ج8 / ص12 / دار الاحياء التراث العربي / بيروت.

[10] ـ البخاري / كتاب الايمان / ص10 / ط دار احياء التراث العربي.

[11] ـ مستدرك الحاكم / ج4 .

[12] ـ الكليني / الاصول من الكافي / ج2 / ص 164.

[13] ـ صحيح الترمذي.

[14] ـ البقرة / 28.

[15] ـ الحر العاملي / وسائل الشيعة / ج5 / ص 126.

[16] ـ الكليني / الكافي / ج6 / ص 49.

[17] ـ محمد تقي فلسفي / الطفل بين التربية والوراثة / ج2 / ص 148.

[18] ـ الحر العاملي / وسائل الشيعة / ج15 / ص 203.

[19] ـ كنز العمال / ج3 / ص16.

[20] ـ الكليني / الاصول من الكافي / ج2 / ص 99.

[21] ـ المصدر السابق.

[22] ـ المصدر السابق / ص 47.

[23] ـ المصدر السابق / ص47.

[24] ـ الصدوق / التوحيد / ص 329.

[25] ـ الصدوق / التوحيد / ص 329.

[26] ـ المجلسي / بحار الانوار / ج 104 / ص 105 / ح 103.

[27] ـ أحمد بن حنبل / مسند أحمد / ج2 / ص 315.

[28] ـ النوري / مستدرك الوسائل / ج2 / باب(63) / ص 626.

[29] ـ المصدر السابق / باب(53) / ص 624.

[30] ـ الكليني / الاصول من الكافي / ج2 / ص 603.

[31] ـ المصدر السابق / ص 604.

[32] ـ المصدر السابق / ص 607.

[33] ـ الكليني / الاصول من الكافي / ج2 / ص 603.

[34] ـالكليني / الفروع من الكافي / ج6 / ص 47.

[35] ـ الصدوق / التوحيد / ص 390.

[36] ـ أحمد بن حنبل / مسند أحمد / ج4 / ص 151.

[37] ـ مسند أحمد بن حنبل / ج4 / ص 133.

[38] ـ الحر العاملي / وسائل الشيعة / ج7 / باب استحباب استرضاع الحسناء وكراهة استرضاع القبيحة / ص 189.

[39] ـ الظئورة: الظئر: المرضع.

[40] ـ المصدر السابق.

[41] ـ المجلسي / البحار / ج 104 / ص 91.

[42] ـ الحر العاملي / وسائل الشيعة / ج15 / ص 102.

[43] ـ الكليني / ج6 / ص6.

[44] ـ الكليني / ج6 / ص6.

[45] ـ الحر العاملي / وسائل الشيعة / ج15 / ص 104.

[46]ـ يراجع الدكتور العوجي / الامن الاجتماعي / ص 512 و ص 516.









 


 

الكلمات الدلالية (Tags)
مبادىء, الاحياء, اسلامية, تربية

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 19:51

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2023 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc