الفرع الثاني. التحديد القانوني لمسؤولية الناقل الجوي:
وقد تناول المشرع الجزائري مسؤولية الناقل البحري من خلال الأمر رقم 76-80 المؤرخ في 23 أكتوبر 76 المعدل والمتمم بالقانون رقم 98-05 المؤرخ في 25/06/98 والمتعلق بالقانون البحري.
ويرتب عقد النقل البحري على عاتق الناقل التزامات تتمثل في أخذ الناقل البضاعة على عاتقه ونقلها وتسليمها إلى المرسل إليه أو إلى ممثله القانوني.
ومتى تم الإخلال بهته الالتزامات، ترتبت مسؤولية الناقل البحري، ولما كان التزامه التزاما ببذل عناية([17]) تتمثل في نقل البضاعة إلى ميناء الوصول، وتسليمها إلى المرسل إليه سليمة في الميعاد المتفق عليه، فإنه يكون مسئولا عن بذل عناية في نقله للبضاعة ويكون مسئولا عن الأضرار والخسارة التي تصيب البضاعة، ولا ترتفع المسؤولية عنه إلا إذا أثبت أن عدم قيامه بتنفيذ التزامه، إنما يرجع إلى سبب أجنبي لا يد له فيه يتمثل في إحدى الحالات التي نصت عليها المادة 803 من القانون البحري([18])، وأنه قام بجميع الإجراءات الضرورية لمنع تحقق النتيجة.
فإذا ترتبت المسؤولية في جانب الناقل، التزام بالتعويض، ويكون هذا التعويض متناسبا مع الضرر اللاحق، مادام أن هذا الضرر لم يتعد الحد الأقصى الذي حدده المشرع.
فمتى فاق الضرر هذا الحد لم يكن للمتضرر الحق في التعويض إلا بهذا الحد الأقصى دون زيادة، هذا ما لم يتبين أن الخسارة أو الضرر الذي لحق بالبضائع ناتج عن عمل أو إهمال من قبل الناقل كما بينته المادة 809 من القانون البحري.
ولا يسري هذا الحكم إلا في حالة ما إذا لم يصرح الشاحن أو ممثله بطبيعة وقيمة البضائع قبل شحنها، ولم يدون في وثيقة الشحن أو في وثيقة أخرى، لأن التعويض في هذه الحالة يحدد حسب قيمة البضاعة المصرح عنها، ويتم طبقا للقواعد العامة طبقا للمادة 805 من القانون البحري، والتي نصت "... فلا يعد الناقل مسئولا عن الخسائر أو الأضرار التي تصيب البضائع أو التي تتعلق بها بمبلغ يزيد عن 10.000 وحدة حسابية عن كل طرد أو وحدة شحن أخرى أو 30 وحدة حسابية عن كل كيلوغرام يصاب بخسائر أو أضرار من الوزن الإجمالي للبضاعة للحد الأدنى المطبق وبمقدار يعادل مرتين ونصف من أجرة النقل المستحقة الدفع عن البضائع المتأخرة التي لم تسلم في الوقت المتفق عليه، أو في الوقت المعقول المطلوب من ناقل حريص أن يسلم فيه البضائع، ولكن لا تزيد عن مجموع أجرة النقل المستحقة بموجب عقد النقل البحري".
وقد حددت قيمة الوحدة الحسابية كما هو الشأن لقانون الطيران المدني.
المبحث الثاني : التقدير الاتفاقي للتعويض في المسؤولية المدنية
أجاز القانون للمتعاقدين اللجوء إلى تقدير مسبق للتعويض في العقد الذي يرتب التزاماتهما المتبادلة في حالة استحالة تنفيذ المدين لإحدى هته الالتزامات المترتبة في ذمته عينا أو التأخر في تنفيذها. ويستحق هذا التعويض المسبق للدائن متى ثبت أن إخلال المدين قد ألحق به ضررا.
وهذا النوع من الاتفاق يعرفه الفقه بالشرط الجزائي، وقد يدرجه المتعاقدان في العقد كبند فيه أو في اتفاق لاحق كما سيتم توضيحه من خلال هذا المبحث.
وهناك طريقة أخرى قد يلجأ إليها الأطراف يكون من شأنها تحديد مسؤولية المدين ويترتب عليها تعديل في أحكام التعويض.
والغالب في الاتفاق على تحديد المسؤولية المدنية أن يكون اتفاقا على الإعفاء منها برفعها كلية عن مرتكب الفعل الضار أو المخل بالتزامه ومنع مطالبته بالتعويض الذي تقضي به القواعد العامة، وقد يقتصر التعديل محل هذا الاتفاق على تخفيف المسؤولية برفع جزء منها من على عاتق المسؤول وحصر مساءلته على الجزء الباقي، كما يجوز بالعكس من ذلك أن يقصد بالتعديل زيادة مسؤولية مرتكب الفعل الضار عما تقضي به القواعد العامة. ([19])
فيمكن الاتفاق على أن يتحمل المدين تبعة الحادث المفاجئ أو القوة القاهرة كما يمكن الاتفاق على إعفاء المدين من أية مسؤولية تترتب على عدم تنفيذ التزامه التعاقدي مثلما نصت عليه المادة 177 من التقنين المدني.
ولن يهمنا في هذا المبحث دراسة تحديد المسؤولية لأنها لا تهدف إلى إعطاء تقدير محدد وواضح للتعويض كما هو الحال بالنسبة للشرط الجزائي، لذا فسنقصر الدراسة عليه، ومن ثمة سنخصص المطلب الأول لماهية الشرط الجزائي والمطلب الثاني لشروطه، أما المطلب الثالث فسنتناول فيه سلطة القاضي في تعديل الشرط الجزائي.
المطلب الأول : ماهيــة الشرط الجزائي
قد يتبين للمتعاقدين من ظروف وملابسات العقد، ومدى التزاماتها المتقابلة أن التعويض الذي يقدر وفقا للقواعد العامة بمعرفة القاضي عن الإخلال بأحد الالتزامات التي يرتبها العقد لا يكون عادلا بالنسبة لأحدهما أو كليهما، فيتفقان على تحديد قيمة التعويض مقدما بما يتفق وما يريانه عادلا من وجهة نظرهما المشتركة.
وقد نظم المشرع من خلال المادة 183 وما يليها من التقنين المدني الشرط الجزائي، وبين أحكامه، وسنتعرض من خلال هذا المطلب إلى توضيح مفهومه وذلك في فرع أول، والفرع الثاني نخصصه لتكييفه القانوني.
الفرع الأول : مفهومه
قد يلجأ المتعاقدان إلى الاتفاق مسبقا على مقدار التعويض الذي يستحقه أحدهما إذا لم يقم الآخر بتنفيذ التزامه، وهذا ما يعرف بالتعويض عن عدم التنفيذ.
كما قد يتفقان على مقدار التعويض الذي يستحقه أحدهما إذا تأخر الآخر في تنفيذ إلزامه وهو التعويض عن التأخير.
وهذا الاتفاق المسبق على التعويض يعرفه الفقه بالشرط الجزائي.([20])
ولقد سمي بالشرط الجزائي لأنه عادة ما يرد كشرط من شروط العقد الأصلي، ويرتبه المتعاقدان كجزاء في حالة إخلال المدين بالتزامه سواء بعدم تنفيذه أو بالتأخر في تنفيذه.
وقد نصت عليه المادة 183 من القانون المدني بقولها " يجوز للمتعاقدين أن يحددا مقدما قيمة التعويض بالنص عليها في العقد أو في اتفاق لاحق ...".
ويتضح من نص هذه المادة، أن التعويض الاتفاقي المسبق يمكن أن يتضمنه اتفاق لاحق للعقد، لكن يشترط في هذه الحالة أن يتم تقديره قبل وقوع الضرر الذي قرر هذا الشرط الجزائي للتعويض عنه.([21])
بمعنى أن المتعاقدين يبرمان العقد ويبدأن في تنفيذه ثم يتبين لهما إمكانية عدم حصول التنفيذ عن إلتزام معين رتبه العقد، أو التأخر فيه، فيعمدان إلى إبرام اتفاق لاحق يتضمن تقديرا للتعويض عن الضرر الذي يتوقع حصوله.
ويجد اشتراط وجوب تقدير التعويض قبل وقوع الضرر، تبريره، في أنه في حالة الاتفاق عليه بعد حصول الضرر، فمن شأنه أن يعتبر بمثابة صلح بين المتعاقدين. ([22])
والأصل في الشرط الجزائي أن يطبق بصدد المسؤولية العقدية، مثلما وضحته المادة 183 من التقنين المدني، بأن يتفق المتعاقدان على التعويض مسبقا في العقد. والأمثلة على ذلك كثيرة كأن ينص في عقد البيع على إلزام البائع بدفع مبلغ معين إذا تأخر في تسليم العمل الموكل له في الموعد المحدد.
وكذا في شركات إنتاج الأغاني عندما ترتبط بعقد مع مطرب لإنتاج أغانيه، فعادة ما يتضمن هذا العقد شرطا جزائيا بدفع أحد الطرفين مبالغ ضخمة في حالة إخلاله بالتزام معين رتبه العقد.
أما بخصوص المسؤولية التقصيرية ، فلا يمكن في الغالب تصور أن يتم الاتفاق على التعويض إلا بعد تحقق المسؤولية باعتبار أن المسؤول المتسبب في الضرر لا يعرف المضرور إلا منذ وقوع الفعل الضار.
ومع ذلك فإن الفقه ([23]) أورد أمثلة يمكن معها تصور الاتفاق على التعويض قبل تحقق الفعل الضار، منها : تحديد المتعاقدين لمبلغ التعويض في حالة فسخ العقد، فالمسؤولية المتولدة عن فسخ العقد هي مسؤولية تقصيرية.
كذلك الحال إذا تم الاتفاق على تعويض يقدمه الخاطب لخطيبته في حالة عدوله عن الخطبة، والإخلال بوعد الزواج، فالإخلال يرتب قيام مسؤولية تقصيرية.
وما قد يحدث في مباريات السباق، فيتفق المتسابقون مقدما على تعويض معين إذا حدث ضرر لأحدهم. ([24])
الفرع الثاني : التكييف القانوني للشرط الجزائي.
إن الشرط الجزائي بإعتباره بندا في العقد الذي يربط الدائن بالمدين بحسب الأصل. وأنه لا يستحق إلا في حالة إخلال المدين بالتزامه المحدد في العقد. فإن هذا يستتبع أن الالتزام بالشرط الجزائي هو إلتزام تابع لا التزام أصيل.
بمعنى أنه التزام تابع لما ألتزم به المدين أصلا بالعقد، طبقا لأشكال الالتزام المحددة قانونا إما منح أو فعل أو الامتناع عن فعل، ثم يتفق الطرفان على مبلغ معين يقدران به التعويض فيما إذا أحل المدين بالتزامه.
ويترتب على ما سبق شرحه أمران :
- عدم استحقاق الشرط الجزائي إذا كان تنفيذ الالتزام الأصلي ممكنا، متى كان الاتفاق على استحقاق الشرط الجزائي يتعلق بحالة استحالة تنفيذ الالتزام.
- بطلان الالتزام الأصلي يرتب بطلان الشرط الجزائي.
أ- عدم استحقاق الشرط الجزائي إذا كان تنفيذ الالتزام الأصلي ممكنا.
متى تم الاتفاق على استحقاق الشرط الجزائي كبديل لاستحالة تنفيذ الالتزام، لأنه في حالة ما إذا تم الاتفاق على استحقاق الشرط الجزائي عن مجرد التأخير في تنفيذ الالتزام، فلا يهم مدى إمكانية تنفيذ الالتزام الأصلي، ويستحق الشرط الجزائي بمجرد التأخير.
يستفاد مما سبق أنه لا يمكن للدائن مطالبة المدين بالشرط الجزائي ما دام تنفيذ الالتزام الأصلي ممكنا ، ولا يتسنى له ذلك إلا إذا أصبح تنفيذ الالتزام مستحيلا بخطأ من المدين ، ويترتب على هذا أن يتغير محل الالتزام الأصلي ليصبح تعويضا تكفل الشرط الجزائي بتقديره.
أما إذا أصبح تنفيذ الالتزام الأصلي مستحيلا بسبب أجنبي، عد منقضيا([25])، ويترتب عليه إنقضاء الشرط الجزائي بإعتباره التزاما تخييرا، فلا يمكن للدائن الاختيار بين الحصول على تنفيذ الالتزام الأصلي وتنفيذ الشرط الجزائي باعتباره التزما تابعا له.
ويتضح مما سبق أن الشرط الجزائي لا يعد التزاما تخييريا، فلا يمكن للدائن الاختيار بين الحصول على تنفيذ الالتزام الأصلي، وتنفيذ الشرط الجزائي.
كما أن الشرط الجزائي ليس التزاما بديلا، لأنه لا يمكن للمدين أن يرجع عن تنفيذ الالتزام الأصلي، بتنفيذ الشرط الجزائي مادام تنفيذ الالتزام الأصلي ممكنا.
ب- بطلان الالتزام الأصلي يرتب بطلان الشرط الجزائي.
إذا كان الالتزام الأصلي باطلا لأي سبب من الأسباب ([26])، كان الشرط الجزائي باطلا وهذه نتيجة طبيعية لاعتبار الشرط الجزائي التزاما تابعا للالتزام الأصلي، طبقا لقاعدة الجزء يتبع الكل والفرع يتبع الأصل.
كما يترتب على هذا أنه إذا تم فسخ العقد لإخلال المدين بالتزامه, فإن الالتزام الأصلي يسقط ويسقط معه الشرط الجزائي, ويتحول التعويض المترتب على الفسخ من التقدير الاتفاقي إلى تعويض يقدره القاضي, وفقا لما سيتم شرحه لاحقا.
إلا أنه إذا كان الشرط الجزائي باطلا, فإن هذا لا يترتب بطلان الالتزام الأصلي لأنه إذا كان الفرع يتبع الأصل فالعكس غير صحيح.
ونخلص في الأخير وبناء على كل ما تقدم أن الشرط الجزائي لا يعد مصدر استحقاق التعويض الاتفاقي أو سببه, وإنما ينشأ التعويض من مصدر آخر هو إما العقد في حالة ترتب المسؤولية العقدية, أو العمل غير المشروع في حالة المسؤولية التقصيرية.
وعدم قيام المدين بتنفيذ التزامه هو السبب في استحقاق التعويض عن عدم التنفيذ, وتأخير المدين في تنفيذ التزامه هو السبب في استحقاق التعويض عن التأخير.
ولا يعدو الشرط الجزائي على أن يكون تقديرا من طرفي الالتزام مقدما لكلا التعويضين.
المطلب الثاني : شروط استحقاق الشرط الجزائي
إن شروط استحقاق الشرط الجزائي باعتباره تعويضا حدده المتعاقدان سلفا هي شروط قيام المسؤولية المدنية بصفة عامة, وذلك على أساس أنه لا يستحق إلا في حالة إخلال المدين بالتزامه, وهذا يرتب قيام المسؤولية المدنية.
وتتمثل هذه الشروط في وجود خطأ من المدين, ضرر يصيب الدائن, وعلاقة سببية تربط الخطأ بالضرر. ويضاف إلى هذا شرط إعذار المدين.
وقد تضمنت هذه الأحكام المواد من 176 إلى 181 من التقنين المدني بعد ما أحالت عليها المادة 183 من نفس التقنيين. فسنتناول من خلال هذا المطلب شروط قيام المسؤولية المدنية في فرع أول وشرط إعذار المدين في فرع ثان.
الفرع الأول : شروط قيام المسؤولية المدنية
وسنتناول في هذا الفرع شروط الخطأ, الضرر, علاقة السببية بين الخطأ والضرر.
1- شرط الخطأ :
والخطأ فقها([27]) هو الإخلال بواجب قانوني، ويختلف هذا الواجب القانوني حسب صور المسؤولية المدنية، فهو في المسؤولية العقدية إلتزام رتبه العقد، أما في المسؤولية التقصيرية فهو واجب عام يترتب على الإخلال به قيام المسؤولية.
ولهذا التمييز آثاره، إذ أن مسؤولية المدين عن الإخلال بالتزامه التعاقدي، لا تسفر عن إنشاء إلتزام جديد، وإنما هي أثر لالتزام قائم مصدره العقد.
أما المسؤولية التقصيرية فهي تتضمن التزاما قائما بذاته، نشأ بالإخلال بالواجب العام المفروض على الناس جميعا هو الالتزام بالتعويض.([28])
واشتراط الخطأ كركن في المسؤولية التقصيرية مكرس قانونا بنص المادة 124 من التقنين المدني كما هو ظاهر من النص الفرنسي.([29])
أما بخصوص المسؤولية العقدية فلم يرد نص متضمن لقاعدة عامة تشترط الخطأ كأساس لمسؤولية المدين في المسؤولية التعاقدية، غير أنه يستشف من خلال عدة نصوص متفرقة أوردها التقنين المدني اشتراط الخطأ صراحة في بعض العقود، منها عقد المقاولة طبقا لنص المادة 568 في الفقرتين الثانية والثالثة، وعقد الوكالة في المادة 579 منه. ([30])
ويترتب على اشتراط الخطأ أن المسؤولية لا تتحقق إذا كان الإخلال بالالتزام راجع لفقد المدين للتمييز، إذ لا ينسب الخطأ إلى غير المميز. كما أن هذا الخطأ يمكن نفيه من خلال إثبات السبب الأجنبي، إذ تنص المادة 176 من التقنين المدني ([31]) بأنه إذا استحال على المدين أن ينفذ الالتزام عينا حكم عليه بتعويض الضرر الناجم عن عدم تنفيذ إلتزامه، ما لم يثبت بأن استحالة التنفيذ نشأت عن سبب لا بد له فيه.
ومتى ترتب السبب الأجنبي انتفت المسؤولية ونتج عن ذلك عدم استحقاق الشرط الجزائي. ومتى انتفى الخطأ انتفت المسؤولية المدنية أيضا.
وباعتبار أن الشرط الجزائي يغلب وجوده في المسؤولية العقدية، ويندر في المسؤولية التقصيرية، كما سبق توضيحه، فسأخص بالدراسة انتفاء الخطأ في المسؤولية العقدية.
ولتحديد انتفاء الخطأ لابد من التفرقة بين الخطأ في الالتزام بتحقيق نتيجة والخطأ في الالتزام ببذل عناية.
أ. الخطأ في الالتزام بتحقيق نتيجة :
وفي هذه الحالة يقوم الخطأ في ركنه المادي بمجرد عدم تحقق النتيجة أو بعدم تحققها على الوجه المتفق عليه بما فيه التأخر في تحقيقها. وبمجرد عدم تحقق النتيجة، افترض القانون وجود قرينة بأن سبب عدم تحققها يعود إلى فعل المدين، لذا يلزم بأداء التعويض المتفق عليه، وليس على الدائن أن يثبت أن المدين قد ارتكب إهمالا معينا.
وهذه القرينة هي قرينة بسيطة كما بينته المادة 176 من التقنين المدني، بمعنى أنه يمكن للمدين إثبات عكسها بإقامة الدليل على أن سببا أجنبيا لابد له فيه، جعل تحقق النتيجة مستحيلا.
ولا يكفي لكي يتخلص المدين من المسؤولية أن يثبت أنه لم يهمل، وأنه قد بذل عناية الشخص العادي لتحقيق النتيجة المقصودة.
ولابد من التوضيح أن السبب الأجنبي المتسبب في استحالة التنفيذ لا يؤدي إلى نفي علاقة السبيبة بين هته النتيجة والخطأ، وبالتالي لا ينفي عن الإخلال بالالتزام المقرر في العقد، الناتج عنه عدم التنفيذ، وصف الخطأ، وإنما ينفي نسبة الخطأ إلى المدين بالالتزام.
ب. الخطأ في الالتزام ببذل عناية :
ونفرق هنا بين حالتين : حالة ما إذا لم يقم المدين أصلا بالعمل المطلوب فهنا نطبق المادة 176 من التقنين المدني بأن يفترض أن عدم القيام بالالتزام يعود لخطأ المدين. ويترتب على ذلك إلزام هذا الأخير بالتعويض، ما لم يثبت، وجود سبب لا بد له فيه جعل القيام بالالتزام مستحيلا.
أما الحالة الثانية فتتمثل في أن المدين قام بالعمل المطلوب منه، ولكن ثار نزاع بين طرفي العقد حول مدى بذل المدين العناية اللازمة في القيام بذلك العمل.
فهنا يكون المدين قد ارتكب إهمالا جعله ينحرف عن السلوك الواجب للشخص العادي ويقع على الدائن بالالتزام ببذل عناية إثبات إهمال المدين، وباعتبار أن الإهمال واقعة مادية فإنه يتم إثباتها بكافة الطرق.
فإذا أثبت الدائن مثلا واقعة تدل على الإهمال دلالة كافية لترجيح وقوعه ولو لم تكن قاطعة، قامت قرينة قضائية على عدم تنفيذ الالتزام، وينتقل عبء الإثبات إلى المدين، بأن يثبت أنه قد بذل العناية اللازمة.
ولا سبيل لدى المدين لنفي الخطأ عن نفسه بعد ثبوت الواقعة التي ترجح إهماله إلا أن يبين الظروف التي تمت فيها الواقعة والتي من شأنها أن تنفي عنها وصف الإهمال، بأن يثبت أن الشخص العادي لو كان في مثل ظروفه لتحققت نفس النتيجة. من ذلك قيام الطبيب بتشخيص المرض تشخيصا غير صحيح، فهنا يكفيه لنفي الخطأ عنه أن يثبت أن هذا الغلط في التشخيص من الأغلاط التي يقع فيها الأطباء ([32]).
ونشير في الأخير إلى أنه إذا انتفى الخطأ في جانب المدين، انتفت مسئوليته، ولا يكون التعويض الاتفاقي المسبق مستحقا.
2- شرط الضرر : ([33])
الضرر ركن أساسي لقيام المسؤولية، وهو شرط أساسي لاستحقاق الشرط الجزائي، فقد نصت المادة 184 من التقنين المدني " لا يكون التعويض المحدد في الاتفاق مستحقا ، إذا أثبت المدين أن الدائن لم يلحقه أي ضرر".
فإذا لم يكن هناك ضرر أصاب الدائن ، لم يكن التعويض الاتفاقي مستحقا، ذلك أن هناك حالات يتحقق فيها خطأ المدين دون أن يصاب الدائن من جرائه بضرر ما.
وعادة ما تقوم هذه الحالة في الأوضاع التي يقتصر فيها خطأ المدين على مجرد التأخير في تنفيذ الالتزام ، كما لو تأخر البائع أو المسؤول عن نقل البضاعة في تسليمها، ولا يتبين أن هذا التأخير قد أضر بأي وجه بالدائن، قلا تقوم المسؤولية ، ولا يستحق التعويض الاتفاقي المسبق.
والأصل طبقا للقواعد العامة أن عبء إثبات الضرر يقع على عاتق الدائن، لأنه يقع على المدعي إثبات ما يدعيه، ولا يمكن الخروج عن هذه القاعدة بنقل عبء الإثبات للمدين إلا إذا ورد نص قانوني خاص بذلك، وهو ما فعله المشرع من خلال نص المادة 184 من التقنين المدني.
فيكفي الدائن إثبات إخلال المدين بالتزامه لكي يفترض الضرر، ويستحق الشرط الجزائي إلا إذا أثبت المدين أن الدائن لم يلحقه ضرر، فانتقل بفعل الشرط الجزائي عبء الإثبات إلى المدين.
ولا مانع من أن نشير إلى أن القانون المدني الجزائري ([34]) يختلف في تنظيمه للشرط الجزائي عن القانون المدني الفرنسي، فالقانون الفرنسي في تنظيمه له احترم إرادة الطرفين احتراما كاملا.
إذ أن المادة 1152 ([35]) من التقنين المدني الفرنسي تنص على أنه إذا اشترط في الاتفاق أن الطرف الذي يخل بالتزامه يلتزم بدفع مبلغ معين على سبيل التعويض فلا يسمح للطرف الآخر باقتضاء مبلغ أقل أو أكثر.
ففي كل حالة عدا حالات الغش أو الخطأ الجسيم أو التنفيذ الجزئي، لا يكون للقاضي تعديل قيمة الشرط الجزائي بالزيادة أو بالنقصان.
ويستحق الدائن الشرط الجزائي بمجرد إثباته عدم التنفيذ ولو لم يصبه أي ضرر، ولا يمكن للمدين الدفع بعدم إصابة الدائن بأي ضرر من جراء عدم تنفيذ الالتزام ولو أثبته.
فإذا كانت قيمة الشرط الجزائي تجاوز مدى الضرر وأراد الدائن التمسك به فإنه لا يكلف إلا باثبات عدم التنفيذ ووجود الشرط الجزائي ، فيقضى له به.
أما إذا كانت قيمة الشرط الجزائي تقل عن مدى الضرر، وأراد المدين التمسك به لتخفيف مسئوليته، فإنه يكلف بإثبات الشرط الجزائي ، فلا يستحق الدائن سوى هذا الشرط ولا يعوض بأكثر من ذلك.([36])
ومن هنا نرى أن المشرع الجزائري باتخاذه هذا الموقف مخالفا المشرع الفرنسي ربط الشرط الجزائي بفكرة التعويض بصورة كاملة في المواد من 183 إلى 185 من التقنين المدني التي تقوم على استحقاق المتضرر لتعويض يناسب الضرر الذي لحقه.
3- علاقة السبيبة بين الخطأ والضرر :
فلا يستحق الشرط الجزائي إلا إذا قامت علاقة السبيبة بين الخطأ والضرر بأن يكون الخطأ هو السبب في الضرر.
ومتى انتفت هذه العلاقة بثبوت السبب الأجنبي أو بأن كان الضرر غير مباشر أو كان في المسؤولية العقدية مباشرا ولكنه غير متوقع فعندئذ لا تتحقق المسؤولية ولا يستحق الشرط الجزائي.
والسبب الأجنبي الذي يقطع رابطة السبيبة بين الخطأ والضرر ، يعرف فقها بأنه كل أمر غير منسوب إلى المدين أدى إلى استحالة تنفيذ الالتزام أو إلى إلحاق الضرر بالدائن، وهو إما أن يكون حدثا لا ينسب لأي شخص وهو ما يعرف بالقوة القاهرة، وإما أن يكون فعلا صادرا من الدائن ذاته أو فعل شخص من الغير.
ويتضح من هذا أنه يشترط في السبب الأجنبي النافي لمسؤولية المدين شرطان :
- ألا يكون للمدين يد في تحققه، بألا يكون قد ساهم في حدوثه، وفي حالة العكس تقوم مسئوليته بالتعويض بحسب نسبة الخطأ الذي قام في جانبه.
- أن يكون قد جعل التنفيذ على الوجه المتفق عليه مستحيلا، ولا يكفي أن يصبح التنفيذ مرهقا.([37])
والمعيار هنا ليس قدرة المدين ذاته وإنما التقدير وفقا لمعيار موضوعي هو معيار الرجل العادي في مثل ظروف المدين.
الفرع الثانـي : شـرط الإعذار
جعل المشرع الإعذار شرطا لاستحقاق الشرط الجزائي من خلال نصه في المادة 179 من التقنين المدني على انه " لا يستحق التعويض إلا بعد إعذار المدين ما لم يوجد نص مخالف لذلك" ويكون الإعذار شرط لاستحقاق الشرط الجزائي، في جميع الأحوال التي يجب فيها إعذار المدين، ومادام التعويض لا يستحق إلا بالإعذار في الأحوال التي يجب فيها فإنه إذا لم يقم الدائن بإعذار المدين في هذه الأحوال، لم يكن التعويض الاتفاقي مستحقا.([38])
لكنه تجدر الإشارة بأنه في حالة ما إذا لم يقم الدائن بإعذار المدين فإن رفع دعوى المطالبة بالشرط الجزائي تعد في حد ذاتها بمثابة إعذار – كما سنبينه لاحقا- لذا فلا يترتب على عدم الإعذار دفع شكلي لا دفع بعدم القبول. ([39]) وهو لا يعد قيدا على رفع الدعوى كما يذهب إليه القضاء في بعض أحكامه.([40])
فإذا تمسك المدين أمام القاضي بعدم إعذار من طرف الدائن ، كان للقاضي منحه أجل للوفاء، متى كان عرضه للوفاء حقيقيا، وتبين للقاضي جديته. ولا يحق للمدين أكثر من ذلك.
فالإعذار إذا لا يترتب على عدم استفائه، بطلان الإجراءات أو عدم قبول الدعوى. وقد ذهبت المحكمة العليا في قرار لها بخلاف هذا الرأي إذ جاء في حيثيات قرار صادر بتاريخ 25/7/02 ما يلي " بمراجعة أوراق الملف ... تبين أن الطاعن كان قد أثار أمام مجلس قضاء الجزائر دفعا يتمثل في أن المطعون ضدها لم تقم بتوجيه إعذار مسبق قبل مقاضاته طبقا للمادة 180 من القانون المدني. لكن هذه الجهة القضائية لم تقم بتسجيل هذا الدفع إذ اكتفت بمجرد التصريح بخصوصه بما يلي : " حيث أن التمسك بالمادة 180 من القانون المدني ليس من شأنه أن يجعل الدعوى غير مقبولة شكلا."
وفي هذه الحالة يستوجب إبطال القرار". ([41])
ذلك أن الإعذار إذا لم يقم به الدائن وقام برفع الدعوى مباشرة ، ثم سارع المدين بالوفاء، فإن الشيء الذي يترتب على ذلك هو تحميل الدائن المدعي بالمصاريف القضائية.
وتأييد هذا الرأي عندي أن الغرض من وراء الاعذار هو وضع المدين في حالة المتأخر عن تنفيذ التزامه، ذلك أن مجرد حلول أجل الالتزام لا يعني جعل المدين في هذا الوضع القانوني، لأنه قد يحل أجل الالتزام ومع ذلك يسكت الدائن عن المطالبة بالتنفيذ فتنشأ قرينة على تسامحه مع المدين. وأنه لم يصبه ضرر من تأخر المدين في تنفيذ التزامه ، وأنه رضي ضمنا بمد أجل تنفيذ الالتزام.
أما إذا أراد الدائن أن ينفذ التزامه الذي حل أجله ، فعليه إشعار المدين بذلك عن طريق إعذاره بالطرق التي رسمها القانون، فيقطع بذلك مظنة التسامح، ويصبح المدين ملزما بتتنفيذ التزامه فورا، وإلا ترتب عن تأخيره في التنفيذ التعويض.([42])
ويتم الاعذار طبقا للمادة 180 من التقنين المدني بأحد الطرق التالية :
- بالإنذار
- بما يقوم مقام الإنذار
- ويجوز أن يكون الإعذار مترتبا على اتفاق يقضي بأن يكون المدين معذرا بمجرد حلول الأجل دون حاجة إلى أي إجراء آخر.
أ. الإنذار : ويتم بعقد غير قضائي يحرره المحضر يبين فيه رغبة الدائن في أن يطلب من المدين تنفيذ التزامه.
وبتصوري فإن المحضر في إعلان الإنذار يتبع نص المادة 23 من قانون الإجراءات المدنية المتعلقة بتبليغ التكليف بالحضور، فيسلم صورة من الإنذار إلى المدين بالالتزام شخصيا أو إلى أحد أقاربه أو تابعيه أو البوابين أو أي شخص آخر يقيم بالمنزل نفسه.
وبينت المادة 180 السابقة الذكر أنه يجوز أن يتم الإعذار عن طريق البريد على الوجه المبين في هذا القانون.
ومع أنه لا يوجد نص في التقنين المدني يبين كيفية توجيه الإعذار عن طريق البريد إلا أنني أتصور أن يتم ذلك عن طريق رسالة موصى عليها مع الإشعار بالاستلام، كما وضحته المادة 471 وما يليها من التقنين المدني بالنسبة للإخطار المتعلق برفع الثمن في عقد الإيجار.
- وقد يتم الإعذار بما يقوم مقام الإنذار ولم تبين المادة ما هو المقصود بما يقوم مقام الإنذار وتركت الأمر للفقه والقضاء، فاعتبر الفقه أنه يمكن للدائن إنذار المدين في نفس عريضة الدعوى التي يرفعها للمطالبة بتنفيذ الالتزام أو التعويض عنه فتكون هذه العريضة إنذارا ومطالبة قضائية في وقت واحد، ولكن إذا بادر المدين في هذه الحالة إلى التنفيذ بمجرد تبليغه بعريضة الدعوى تحمل الدائن مصروفات الدعوى.
- وقد أورد المشرع من خلال المادتين 180، 181 قانون مدني حالات لا ضرورة فيها للإعذار فيعتبر فيها المدين مسؤولا عن التعويض إذا لم يقم بتنفيذ التزامه بمجرد حلول الدين وهي :
1. ما نصت عليه المادة 180 مدني على أنه يتفق طرفا الالتزام على أن يكون المدين معذرا بمجرد حلول أجل الالتزام دون حاجة إلى أي إجراء.
2. ما نصت عليه المادة 181 مدني : إذا تعذر تنفيذ الالتزام وأصبح غير مجد بفعل المدين.
وقد أورد المشرع هذه الحالة لأنها تتفق وطبيعة الأشياء لأن الغرض من تقرير الإعذار هو دعوة المدين إلى تنفيذ التزامه، ومتى أصبح تنفيذ الالتزام متعذرا أو أصبح غير مجديا فما الفائدة من توجيه الإعذار ؟ فيرفع الدائن دعوى التعويض ويستحقه دون الحاجة إلى إعذار ولابد أن نوضح أن اشتراط المشرع أن يكون تعذر تنفيذ الالتزام أو أن يصبح غير مجد بفعل المدين له ما يبرره على اعتبار أنه متى نشأ تعذر التنفيذ بغير فعل المدين أي لسبب أجنبي قطع رابطة السبيبة بين الخطأ والنتيجة وهي عدم تنفيذ الالتزام فينقضي هذا الأخير من أصله ولا يستحق التعويض وذلك على النحو الذي سبق بيانه.
- ولهذه الحالة صور مختلفة منها أن يكون تنفيذ الالتزام غير مجد إلا إذا تم في وقت معين، فإذا فات هذا الوقت أصبح هذا التنفيذ غير ممكنا أو لا يحقق الفائدة المرجوة منه، ومثالها أن يلتزم محام برفع استئناف في حكم وينتهي ميعاد الاستئناف قبل أن يرفعه.
- إذا كان محل الالتزام تعويضا ترتب عن عمل مضر.
- إذا صرح المدين كتابة أنه لا ينوي تنفيذ التزامه فالمدين هنا بين مسبقا أنه لا يريد القيام بالتزامه متى حل أجله فلا جدوى من توجيه الاعذار مادام أن هذا الأخير قد قرّر كما أسلفنا لأجل حمل المدين على تنفيذ التزامه.
- ولقد اشترط القانون أن يتم التصريح كتابة، فهل هذا يعني أنه لو تم التصريح أمام الشهود فلا يؤخذ به وبالتالي وجب الإعذار؟ بمعنى ما هي الحكمة من اشتراط المشرع للكتابة ؟
أرى أن المشرع اشترط الكتابة هنا للإثبات فقط لذا فلو أقر المدين بأنه صرح بنيته في عدم تنفيذ الالتزام لأغنى هذا الإقرار عن الكتابة ولم تعد الحاجة إلى الاعذار.
- إذا كان محل الالتزام رد شيء يعلم المدين أنه مسروق أو شيء تسلمه دون حق وهو عالم بذلك، فهنا يعد المدين سيئ النية باعتبار علمه أن الشيء مسروق أو أن ليس له حق فيه، وبالتالي وجب عليه بمقتضى القانون رد الشيء إلى الدائن دون أن يقع على هذا الأخير عبء إعذاره.
- يترتب على تأخر المدين في الوفاء بالتزامه بعد إعذاره أن يصبح مسؤولا عن دفع الشرط الجزائي الناتج عن التأخير في تنفيذ الالتزام وهذا من وقت الاعذار متى ثبت وجود ضرر أصاب الدائن وهذا بمقتضى المادتين 179 و 184/01 من القانون المدني.