تشريف الإسلام للمرأة - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم الفقه و أصوله

قسم الفقه و أصوله تعرض فيه جميع ما يتعلق بالمسائل الفقهية أو الأصولية و تندرج تحتها المقاصد الاسلامية ..

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

تشريف الإسلام للمرأة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2012-10-10, 09:46   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي تشريف الإسلام للمرأة

تشريف الإسلام للمرأة
الكتاب: دروس الشيخ سيد حسين العفاني
المؤلف: أبو التراب سيد بن حسين بن عبد الله العفاني
مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية
https://www.islamweb.net
[ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 58 درسا]

المرأة وعلو الهمة
المرأة مصنع الرجال، ومنبع الأبطال، فبصلاحها يعم الخير الكثير، وبفسادها ينتشر الشر الوبيل، كيف لا تكون كذلك وهي الأم المربية، والأخت الناصحة، والزوجة المرشدة، والبنت الطائعة.
وفي التاريخ الإسلامي الكثير والكثير من النماذج المشرقة لنساء صالحات مرشدات تائبات قانتات، أصلحن علاقتهن مع خالقهن ومع كل من حولهن.
(1/1)
تشريف الإسلام للمرأة
المرأة نصف الأمة، ثم هي تلد لها النصف الآخر، فهي أمة بأسرها، يقول الشاعر وهو الشيخ يوسف القرضاوي: يا درة حفظت بالأمس غالية واليوم يرجونها للهو واللعبِ هل يستوي مَن رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب وأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطا حمالة الحطب أختاه لست بنبت لا جذور له ولست مقطوعة مجهولة النسب أنت ابنة العُرْب والإسلام عشت به في حضن أطهر أم من أعزّ أبِ فلا تبالي بما يلقون من شُبه وعندك العقل إن تدعيه يستجب سليه من أنا ما أهلي لمن نسبي للغرب أم أنا للإسلام والعرب لمن ولائي لمن حبي لمن عملي لله أم لدعاة الإثم والكذب وما مكانيَ في دنيا تموج بنا في موضع الرأس أم في موضع الذنب هما سبيلان يا أختاه ما لهما من ثالث فاكسبي خيراً أو اكتسبي سبيل ربك والقرآن منهجه نور من الله لم يحجب ولم يغب في ركبه شرف الدنيا وعزتها ويوم نبعث فيه خير منقلب فإن أبيتِ سبيل الله فاتخذي سبيل إبليس رأس الشر والحرب إن ضياع الأمة الإسلامية قديماً وحديثاً كان بسبب المرأة، فهذه إيزابيلا زوجة فرديناند ملك إسبانيا، أسقطت حكم المسلمين في إسبانيا يوم أن كان آخر خلفاء المسلمين اسماً على مسمى: أبو عبد الله الصغير.
فأضاع ملك المسلمين نظير أن يكون ملكاً من قبل فرديناند ملك إسبانيا، ويكون الملك لبنيه ولأحفاده من بعده، هناك رواية التاريخ الأسباني تسمى: إيزابيلا صاحبة القميص العتيق، فالأسبان يمجدون هذه المرأة التي أقسمت ونذرت ألا تخلع قميصها الداخلي، وألا تهنأ بزوج حتى يسقط ملك المسلمين من إسبانيا، وكان لها ما أرادت.
ويوم أن أخرجت أبو عبد الله الصغير من ملكه في قصر الحمراء بكى أبو عبد الله كالصغار، فقالت له أمه عائشة: ابك كالنساء، ملكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال.
والمرأة التي أذاقت المسلمين في العصر الحديث الويلات، والتي ثأرت لدينها ولبني قومها باحتلال أرض العرب والمسلمين، هي غولدا مائير، وقد قال عنها بن غريون في مذكراته: سيذكر التاريخ يوماً من الأيام أن امرأة طافت أوروبا وأمريكا وجمعت ملايين الدولارات؛ من أجل إقامة إسرائيل، وسيذكر التاريخ أن غولدا مائير هي الرجل الوحيد في إسرائيل.
(1/2)
عناية الإسلام بالمرأة
إن المرأة أمرها عظيم؛ لذا فقد شرفها الإسلام وكرمها، وجعلها هي والرجل من أصل واحد، فقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما النساء شقائق الرجال)، وساوى الله تبارك وتعالى بين الرجل والمرأة في العمل وفي الأجر فقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:124]، وقال تبارك وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
فالإسلام هو الذي شرف المرأة، ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والجار الصالح، والمركب الهنيء)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)، والطيب لا يحب إلا الطيب، يقول عليه الصلاة والسلام: (جعلت قرة عيني في الصلاة)، فيابن آدم! خل بينك وبين سيدك وداً وصلة تدخل عليه أنى تشاء.
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من الطيبات المرأة، ثم ذكر الطيب، ثم ذكر الصلاة، فجمع المرأة إلى الطيبات، إلى الطيب وإلى الصلاة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قلب شاكر، ولسان ذاكر، وزوجة صالحة تعينك على أمر دنياك ودينك، خير ما اكتسبه الناس).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل نفس من بني آدم سيد، فالرجل سيد أهله، والمرأة سيدة بيتها).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير النساء من تسرك إذا أبصرت، وتطيعك إذا أمرت، وتحفظ غيبتك في نفسها ومالك).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيراً).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يوصيكم بالنساء خيراً).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني أحرج عليكم حق الضعيفين: اليتيم، والمرأة).
وقال صلى الله عليه وسلم: (خياركم خياركم لنسائهم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (خياركم خيركم لأهله).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).
وقال الأديب الرافعي: النساء منجم السعادة، فرجل واحد لا يكاد يمد يده حتى يضعها على الجوهرة المشرقة، ومائة رجل يغربلون حصى شارع؛ ليجدوا فيها جوهرة تلمع فما يجدونها.
ولذلك المرأة لزوجها رزق من الله تبارك وتعالى، يقولون: كم من امرأة جميلة تراها أصفى من السماء، مثل النسيم العليل، ثم تثور يوماً فلا تدل ثورتها على شيء إلا كما يدل المستنقع على أن الوحل في قاعه، الخبيثات للخبيثين كما إن الطيبات للطيبين.
قيل لأرض حصيبة -أرض ملؤها الحصى نكدة -: ما تشتهين أن يكون زوجك لو كنت امرأة؟ فقالت: الفأس، أي: حتى تقطعها من رأسها.
وقال مصطفى صادق الرافعي أديب الإسلام يرحمه الله: المرأة ريحانة بيتها، إذا ضاقت الدار فلم تتسع فلم لا تتسع النفس التي فيها؟ المرأة وحدها هي الجو الإنساني لدار زوجها، فواحدة تدخل الدار تجعله روضة نضرة متروحة ساكنة، وإن كانت الدار قحطة ليس فيها كبير شيء، وامرأة أخرى تدخل الدار فتجعله مثل الصحراء، برمالها وقيظها وعواصفها، وإن كانت الدار في رياشها ومتاعها كالجنة السندسية، مثلما قال الحطيئة لأمه وزوجته: أغربالاً إذا استودعت سراً وكانوناً على المتحدثينا إنما تكون المرأة مع رجلها من أجله؛ لأنه زوجها، ومن أجل الأمة، فعليها حقان لا حق واحد، أصغرهما كبير، ولو إن المرأة عاشت بهذه الذات فإنها نصف الأمة، فإن أخبرها زوجها تقول: أعيش من أجل الجماعة الكبرى، فتكون المرأة مع رجلها من أجله ومن أجل الأمة معاً، فعليها حقان لا حق واحد أصغرهما كبير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يصلح للبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح أن يسجد بشر لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ من عظم حقه عليها، والذي نفسي بيده! لو أن من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تنبجس بالقيح والصديد، ثم استقبلته فلحسته ما أدت حقه) والحديث صحيح.
فالإسلام العظيم كرم المرأة حين وضعتها الجاهلية الخبيثة القديمة، والجاهلية الحديثة في الحضيض.
(1/3)
إهانة الجاهلية الحديثة للمرأة
في أمريكا في السبعينات كانت هناك إحصائية رسمية طلبت من المكتب الرسمي للإحصائيات، فقالوا: إن في أمريكا عشرين مليون لقيط، وكان ساعتها عدد أمريكا مائتين مليون، يعني: كان في أمريكا كل واحد من عشرين ابن حرام، هذا في السبعينات أما في هذا الوقت فكيف؟! وأيضاً في الثمانينات عملوا إحصائية، وجدوا فيها أن 46% من النساء يمارسن السحاق، وهذا في سنة ستة وثمانين.
ورصدوا إحصائية: أن كثيراً من النساء يرضعن أولادهن مع الحليب المخدرات، من أجل أن ينام الطفل؛ حتى أصيب الأطفال الرضع بالإدمان، وهذا من كلامهم.
كما أباحت الكنائس في أوروبا وفي أمريكا أن يتزوج الرجل بأمه وبأخته!! يقول الشيخ عبد الله عزام رحمه الله في كتابه مستقبل الإسلام: كنت أحتفظ في جيبي دائماً بصورة شاب في العشرين من عمره، وقد تزوج جدته وهي في السبعين من عمرها، في قرية بالقرب من لوس أنجلوس.
فهذه الحضارة الأوروبية النكدة، وهذا ما يريدون للمرأة، علاوة على نوادي العراة، وحفلات الشذوذ الجنسي الجماعي، وتبادل الزوجات.
ووجدوا أن من أخطر المجرمات في أمريكا عشر من النساء، ثلاث منهن من رائدات التحرر المثالي.
(1/4)
صور من إكرام الإسلام للمرأة
الإسلام العظيم كرم المرأة حين صور بيتها تصويراً بديعاً يشع منه التعاطف والندى، ويفوح منه العبير.
أي تكريم للمرأة فوق أن يسمي الله عز وجل سورة من كلامه في القرآن باسم النساء؟ وسورة أخرى باسم امرأة وهي مريم البتول رضي الله عنها؟! وأي تكريم للمرأة أجل من أن القرآن كان ينزل في مخدع عائشة؟! أي تكريم أعلى من أن الله ينزل قرآناً في براءة امرأة كما قالت: وبرأني الله من فوق سبع سماوات، وهي الصديقة بنت الصديق؟! أي تكريم أجل من أن يتولى الله بنفسه تزويج امرأة، وهي زينب بنت جحش فكانت تفتخر على أمهات المؤمنين فتقول: زوجكن آباؤكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات؟! فلا التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال وأكمل النساء تلك التي تنظر إلى الدنيا بعين متلألئة؛ بنور الإيمان، تقر في كل شيء معناه السماوي، فهذه المرأة كالمعبد، وكالقوة المسعدة لزوجها، فالمرأة الحق هي تلك التي خلقت لتكون خلف الرجل، مادة الفضيلة والصبر والإيمان تكون له إلهاماً وعزاء وقوة، وزيادة في سروره ونقصاً من آلامه، ولن تكون المرأة في الحياة أعظم من الرجل إلا بشيء واحد، وهي أن تجعل زوجها أعظم منها، فنحن لا نعرف اسم زوجة الشافعي، ولا زوجة البخاري، ولا من تكون أم سفيان الثوري، فهذه المرأة وأمثالها اختفت خلف زوجها وصنعت منه رجلاً عظيماً.
(1/5)
علو الهمم عند النساء
تعال إلى علو الهمة لنحلق في آفاق عالية، نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل في بيوتنا حظاً من هذه الهمة العالية.
العلماء عندما يقارنوا بين السيدة خديجة وبين عائشة رضي الله عنهما يقولون: إن خديجة أفضل؛ لأن الله تبارك وتعالى سلم بنفسه عليها فقال: (أقرئ خديجة من ربها السلام)، أما عائشة فقد سلم عليها جبريل، يعني: الأولى سلم الله عليها بنفسه، وبلغها ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه سلم عليها جبريل فقط.
فمن أمثلة علو الهمة عند النساء:
(1/6)
علو همة امرأة فرعون
زوج فرعون مثال عال للاستعلاء على عرض الدنيا النتنة، فحينما تطل بكبرياء أهل الجنة على زخرف الأرض وتقول: لا أريده، قال الله تبارك وتعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]، فهي لم يصدها طغيان الكفر الذي تعايشه في قصر فرعون عن طلب النجاة من ربها؛ وإنما تبرأت من قصر فرعون طالبة من الله بيتاً في الجنة، ولما حرمت من السكن في دار الدنيا تبرأت من صلتها بفرعون، وتبرأت من عمله، وخافت أن يلحقها شيء لأنها ألصق الناس به، وتبرأت من قوم فرعون وهي تعيش بينهم، فهذه المرأة السيدة الكاملة مثل للاستعلاء على عرض الدنيا في أبهى صوره، فلقد كانت امرأة فرعون الذي كان أعظم ملك في الأرض يومئذ، وكانت في قصره الذي يمثل أمتع مكان تجد فيه المرأة ما تشتهيه، فاستعلت على هذا بالإيمان وحده، واعتبرته شراً ودنساً وبلاء تستعيذ بالله منه، وطلبت النجاة منه.
وهي امرأة واحدة في مملكة عريضة قوية، وهذا فضل آخر؛ فالمرأة أشد شعوراً بوطأة المجتمع وبتطوراته، وهذه المرأة كانت وحدها في وسط هذا المجتمع الكافر العريض، في وسط ضغط القصر وضغط الملك، وضغط الحاشية، والمقام الملوكي، ففي وسط هذا كله رفعت رأسها إلى السماء وحدها في خضم هذا الكفر الطاغي.
وهي نموذج عال في التجرد لله عز وجل من كل هذه المؤثرات، ومن كل هذه الأواصر والمعوقات، ومن ثم استحقت أن تذكر في كتاب الله الخالد، الذي تتردد كلماته في جنبات النفوس.
فهي امرأة عظيمة بحق، يذكرها الله عز وجل في كتابه العظيم.
عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام).
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حسبك من نساء العالمين بأربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد رضي الله عنها).
(1/7)
علو همة مريم البتول
ومريم البتول رضي الله عنها رمز للتجرد لله تبارك وتعالى وكمال العبادة، قال الله تبارك وتعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37]، فقد كانت ولية من أولياء الله تبارك وتعالى، تأتيها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف.
والكرامة ثابتة عند أهل السنة والجماعة للصالحين من عباد الله تبارك وتعالى.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه، إلا مريم وابنها)؛ ولذا قال الله عز وجل: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران:37]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان؛ فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان، إلا ابن مريم وأمه).
(1/8)
فضل أم المؤمنين خديجة
ولو لم يكن للنساء من فضل في هذه الأمة إلا أن أول مسلم كانت خديجة بإجماع المسلمين كما قال ابن الأثير، وأول شهيد في الإسلام سمية أم عمار.
قال ابن الأثير: خديجة أول خلق الله أسلم بإجماع المسلمين.
ويقول سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير نسائها خديجة بنت خويلد، وخير نسائها مريم بنت عمران).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب)، ومعنى: (من قصب) أي: من عيدان اللؤلؤ، وعيدان اللؤلؤ مستقيمة مستوية، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (لا صخب فيه ولا نصب)، وكذا كل بيوت الجنة، كما قال الله عز وجل: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26]، ولكن ينص النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الخاصية في بيت خديجة بالذات، وقد بشر عليه الصلاة والسلام خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب؛ وذلك لما دعاها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام أجابته خديجة طوعاً، ولم تحتج إلى منازعة ولا تعب في ذلك، بل أزالت عن النبي صلى الله عليه وسلم كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير، كما قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت بي إذ كذبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس).
وهي التي واست النبي صلى الله عليه وسلم، وآزرته وقالت له: (أبشر فوالله! لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق)، فهي خاصية من جمل الخصائص التي تميزت بها السيدة خديجة على باقي أمهات المؤمنين! وما عارضت النبي صلى الله عليه وسلم في أمر، وهناك من يقول: الأولى للداعية أن يتزوج داعية أو عالمة فإن لم تتحل بالورع فستجعل حياته نكداً، فعندما يقول لزوجته الفقيهة -مثلاً- قال الشافعي أو قال مالك، فستقول له: أنا على رأي الأحناف، فإن لم يرزقها الله عز وجل ورعاً ستشعل بيته حريقاً.
ولكن عندما تكون لا تعرف إلا أعمال البيت، وتصلي خمسها، وتصوم شهرها، وتحفظ فرجها، وتكون ذاكرة عادلة فهذا خير لها ولزوجها، فأنت لا تريد من المرأة إلا أن تحسن التبعل لك، فلا ترفع صوتها على صوتك، وأحلى وأعطر كلمة تقولها المرأة لزوجها: يا سيدي، تعطر بها فمها وتنال بها رضا ربها.
فقد كانت رابعة بنت إسماعيل الشامية إذا طبخت قدراً من الطبيخ تقول لزوجها: كله يا سيدي، فوالله! ما نضج إلا بالتسبيح.
وأم الدرداء كانت إذا ذكرت زوجها بعد موته، تقول: حدثني سيدي أبو الدرداء.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تعلم المرأة حق الزوج لم تقعد ما حضر غداؤه وعشاؤه حتى يفرغ منه)، فنحن نقول: لو أن المرأة تعلم حق زوجها فسيكون عندها شيئاً كبيراً عظيماً، هو سيدها فلو أقرت لزوجها بالأمر هذا سيكون البيت أجمل ما يكون، ولو نظرت إلى زوجها وكأنه أقل منها في شيء فسيكون البيت دماراً.
ونحن نعرف امرأة حاصلة على الدكتوراة في العلوم الشرعية، وهي متزوجة من مكنيكي لا يعرف إلا الصامولة ونحوها، ولكنه ملتزم، وبرغم هذا فهي من أسعد الزوجات وزوجها من أسعد الأزواج.
فلا يصح أن تنظر المرأة لزوجها بعين النقص فتجعل البيت شجاراً ودماراً.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يركز على هذه النقطة فبشر خديجة ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب.
(1/9)
صبر وتوكل هاجر
والمرأة عظيمة في توكلها على الله عز وجل، فهذه أم إسماعيل زوج الخليل إبراهيم، لما أتى بها سيدنا إبراهيم إلى جبال فاران موضع مكة الآن، وهي لا ترى إلا رمال الصحراء، وهديرها الكالح، فتقول: يا إبراهيم! آلله أمرك بهذا؟ يقول: نعم، تقول: إذاً فلن يضيعنا.
وهذا ليس بكلام عفوي، أي: يخرج تلقائياً، فلو لم يكن عندها يقين لما تركته يذهب، فهي تعلم - إن لم يكن عندها يقين بربها - أن في ذهابه موتها، فهو لمن سيتركها ورضيعها في الصحراء؟ ليس عندها إلا تمر، وجراب من ماء فقط، لكنها قالت له: اذهب؛ لأنه بقي عندها الزاد العظيم من التوكل، ولكنه بالله تبارك وتعالى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل)، أي: بطول الأمل.
ولما ظلت تلهث بحثاً لرضيعها عن الماء سمعت صوتاً، فقالت لنفسها: صه، وكأنها تسمع نفسها، ثم قالت: أغث إن كان عندك غوث، وهنا تبدا لها جبريل أمين وحي السماء، وقال لها: من أنت؟ قالت: أنا أم إسماعيل وزوج إبراهيم، قال: إلى من وكلكما؟ قالت: إلى الله، فقال لها: وكلكما إلى خير كاف، لا تخشي الضيعة، إن الله لا يضيع أهله.
(1/10)
صبر ويقين أم موسى
وأم موسى كان اليقين يملأ قلبها بما عند الله تبارك وتعالى، قال الله عنها: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} [القصص:10] أي: من كل شيء إلا من محبة ابنها فقد ملأت شغاف قلبها، وبرغم هذا ألهمها الله عز وجل بقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7]، ومعلوم أن المرأة إذا خافت على ولدها تضمه إلى صدرها، فما بال أم موسى تلقيه إلى البحر؟! وذلك ليقينها بما عند الله عز وجل، فهي مثل عال في اليقين، وفي التوكل على الله عز وجل، وفي الثقة به سبحانه وتفويض الأمر إليه، وقال بعضهم: لا تدبر لك أمراً فأولوا التدبير هلكى سلم الأمر تجدنا نحو أولى بك منكا
(1/11)
فضل فاطمة بنت رسول الله
وفاطمة عليها السلام، البضعة النبوية والجهة المصطفوية، يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية)، كانت رضي الله عنها تدير الرحى حتى ظهرت في يدها وفي كفها الثآليل - الفقاقيع - وحتى تأثرت يداها وأثرت الرحى في صدرها، وكانت تستعين على خدمة البيت بالتسبيح.
وعن الشعبي رحمه الله أنه قال: لما مرضت فاطمة أتى أبو بكر فاستأذن، فقال علي: يا فاطمة! هذا أبو بكر يستأذن عليك، فقالت: أتحب أن آذن له؟ فقال: نعم -قال الذهبي: عملت السنة رضي الله عنها، فلم تأذن في بيت زوجها إلا بأمره- قال: فأذنت له، فدخل عليها يترضاها، وكان هذا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، حتى رضيت.
والإسناد صحيح.
وكان مهرها درع علي الحطمية، ومن من النساء الآن تقبل هذا؟! فكيف نريد دولة إسلامية، أو خلافة على منهاج النبوة، ولا يوجد من النساء من تقبل هذا؟! قال: كان مهرها درع علي الحطمية، أهديت إليه، ومعها خميلة، ومرفقة من أدم حشوها من الليف، وقربة، ومنخل، وقدح، ورحى، وجرابان، ولم يكن لها فراش غير جلد كبش، ينامان عليه بالليل وتعلف عليه الناضحة بالنهار، والناضح يعني: الإبل التي تحمل الماء.
وهي من هي، فهي بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنست وطحنت وأثرت الرحى في صدرها، واستعانت على خدمة البيت بالتسبيح، كما وصاها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن الجوزي: تالله! ما ضرها ذلك.
أذهب الله عنها وعن سائر بيتها الرجس، وطهرها تطهيراً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبها ويكرمها ويسر إليها، وكانت صابرة على شظف العيش مع زوجها علي رضي الله عنه، دينة خيرة صينة قانعة شاكرة لله.
عن أبي البحتري: قال علي لأمه: اكفي فاطمة الخدمة خارجاً، وتكفيك هي العمل في البيت أي: من العجين والخبز.
ونساءنا اليوم لا يعرفن الطحن أو الخبازة والعجين، بل لا يعرفن ما هو العجين، ولا ما هو الخبز، فليحمدن الله عز وجل على ذلك.
وتجد المرأة في الستين من عمرها وهي تقول لمن هن دونها في السن: احمدن الله عز وجل، فأنتن في كامل الراحة، فاجعلوا بيوتكن جنات لأزواجكن، يكفي شظف العيش الذي يلاقيه الرجال.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نزل ملك من السماء فاستأذن الله أن يسلم علي لم ينزل قبلها، فبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة)، وكل الأحاديث التي ذكرتها ذكرها الشيخ الألباني في صحيح الجامع.
وكان الإمام أحمد إذا سئل عن علي وأهل بيته، قال: أهل بيت رسول الله لا يقاس بهم أحد.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة من فاطمة، إلا أن يكون الذي ولدها، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1/12)
قبسات من حياة أم المؤمنين عائشة
أما الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجة نبينا في الدنيا والآخرة، الفقيهة الربانية، مات عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أقام معها تسع سنوات، وحين مات صلى الله عليه وسلم ما كانت قد بلغت بعد السنة التاسعة عشرة يعني: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم كان سنها ثماني عشرة سنة، على أنها ملأت أرجاء الدنيا علماً، فقد وعت من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ما لم تعه امرأة من نسائه، وروت عنه ما لم يرو مثلها أحد من الصحابة إلا أبو هريرة وعبد الله بن عمر.
قال الإمام الذهبي: لا أعلم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بل ولا في النساء مطلقاً امرأة أعلم منها.
نشهد أنها زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وما نزل الوحي إلا والنبي صلى الله عليه وسلم في لحاف عائشة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها).
وكانت رضي الله عنها من أنفس الناس رأياً في أصول الدين، ودقائق الكتاب المبين، وكان لها الاستدراكات العظيمة على الصحابة، فإذا علموا ذلك منها رجعوا إلى قولها.
يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: ما أشكل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً.
وقال مسروق: رأيت مشيخة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرائض.
وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس.
وقال الزهري: لو جمع علم الناس كلهم وعلم أمهات المؤمنين، لكانت عائشة أوسعهم علماً.
ويبلغ مسند عائشة رضي الله عنها (2210) أحاديث.
ولما ذكر الإمام ابن حزم أسماء الصحابة الذين رويت عنهم الفتاوى في الأحكام، على كثرة ما نقل قدم عائشة على سائر الصحابة في نقل الفتاوى عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروت عائشة من جملة صحيح البخاري ومسلم مائتين ونيفاً وتسعين حديثاً، وحمل عنها ربع الشريعة بأكملها.
قال عروة بن الزبير: ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا بخطب ولا بشعر من عائشة.
يقول أيضاً: لقد صحبت عائشة -وهي خالته- فما رأيت أحداً قط كان أعلم بآية نزلت، ولا بفريضة، ولا بسنة، ولا بشعر، ولا أروى للشعر، ولا بيوم من أيام العرب -أي: تاريخ العرب- ولا بنسب، ولا بقضاء منها.
فهذا فضل عائشة رضي الله عنها.
(1/13)








 


رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 09:48   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي


عبادة أم المؤمنين عائشة
أما عبادتها، فقد قال القاسم: كانت عائشة تصوم الدهر -أي: تسرد الصوم- ولا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر.
وعن عروة: أن عائشة كانت تسرد الصوم، يقول: كانت تصوم الدهر ولا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر.
وعن القاسم رحمه الله قال: كنت إذا غدوت -يعني: إذا صلى الغداة أو الصبح- أبدأ ببيت عائشة رضي الله عنها فأسلم عليها، فغدوت يوماً فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27]، تدعو وتبكي وترددها، فظللت منتظراً حتى مللت القيام.
ثم ذهبت إلى السوق لحاجتي فرجعت فإذا هي قائمة تصلي وتبكي وتقول: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27].
وعن عروة رضي الله عنه قال: كانت عائشة رضي الله عنها لا تمسك شيئاً جاءها من رزق الله إلا تصدقت به.
وقال عروة: بعث معاوية مرة إلى عائشة بـ (100000) درهم، فقسمتها، لم تترك منها شيئاً، فقالت لها بريرة: أنت صائمة فهلا ابتعت لنا منها بدرهم لحماً، فقالت: لو ذكرتيني لفعلت.
أي: أنها تنسى نفسها عند الصدقة.
وعن عروة قال: إن عائشة تصدقت بـ (70000) درهم، وإنها لترقع جانب درعها.
ما منا أحد حتى ممن ضيق الله عز وجل عليه الرزق يرضى أن يكون له ثوباً مرقعاً، هذا بالنسبة للرجل فما ظنك بالنسوة! مالوا فملن، ولما يفسد الرجال تفسد النسوة.
وعن محمد بن المنكدر عن أم ذرة كانت تغشى عائشة رضي الله عنها، قالت: بعث إليها ابن الزبير بمال في غرارتين كبيرتين بمائة وثمانين ألف درهم، فدعت في طبق وهي صائمة يومئذ، فجعلت تقسمه بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلما أمست قالت: يا جارية! هلمي فطوري، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم ذرة: أما استطعت مما قسمتي اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه، قالت: لا تعنفيني، لو كنت ذكرتيني لفعلت.
(1/14)
تواضع أم المؤمنين عائشة
وفي مرض موتها دخل عليها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال: أبشري فوالله! ما بينك وبين أن تلقي محمداً صلى الله عليه وسلم والأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد، كنت أحب نساء النبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيباً، فقالت: يا ابن عباس! دعني منك ومن تزكيتك، فوالله! لوددت أني كنت نسياً منسياً.
وهذا من تواضع عائشة رضي الله عنها.
فكانت قدوة من حيث الصدقة، ومن حيث صيام الدهر، ومن حيث العلم، ومن حيث العبادة.
ومن ذلك أنه يذهب ابن أختها إلى السوق وهي تصلي ثم يشتري حاجته، ثم يقف عندها حتى يمل من القيام، وهي ما خرجت بعد من سنة الضحى.
(1/15)
علو الهمة عند أم المؤمنين زينب
ومن علو همة أم المؤمنين زينب بنت جحش في الصدقة أنها كانت امرأة صناعة، أي: تعمل بيدها وتتصدق به في سبيل الله.
قالت عائشة رضي الله عنها: كانت زينب بنت جحش تساميني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد التزاماً بنفسها في العمل الذي تتصدق به، وتتقرب به إلى الله تبارك وتعالى.
أما في قيام الليل فحدث عنها ولا حرج، فقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ذات يوم فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: لـ زينب، إذا فترت تعلقت به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد).
وعن برزة بنت رافع قالت: لما جاء العطاء - أي: عطاء سيدنا عمر لأمهات المؤمنين - بعث عمر إلى زينب رضي الله عنها بالذي لها، فلما دخل عليها قالت: غفر الله لـ عمر، لغيري من أخواتي كان أقوى على قسم هذا مني.
تظن أن هذا المال كله جاء لأمهات المؤمنين كلهن، فقالوا: هذا كله لك، فقالت: سبحان الله! ثم استترت دونه بثوب، ثم قالت: صبوه، ثم جعلت عليه ثوباً آخر، ثم قالت لجاريتها: ادخلي يدك فاقبضي قبضة اذهبي إلى آل فلان وإلى آل فلان من أيتامها ومن ذوي رحمها، فقسمته حتى بقيت منه بقية، فقالت لها برزة: غفر الله لك، والله! لقد كان لنا من هذا حظ، فقالت: لكم ما تحت الثوب، فرفعنا الثوب فوجدنا (85) درهماً، ثم رفعت يدها وقالت: اللهم! لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا، فماتت قبل أن يأتي العطاء في العام المقبل.
وكان عطاء أم المؤمنين زينب بنت جحش في السنة (12000) درهم.
حمل إليها فقسمته كله إلا (85) درهماً فقط.
قالت عنها السيدة عائشة رضي الله عنها: لقد ذهبت حميدة متعبدة، مفزع اليتامى والأرامل.
وفي هذا عظة للإخوة والأخوات، فكل أخت ينبغي أن تسأل عن اليتامى والأرامل والمحتاجات من نساء المسلمين، وهذا دورهن في العمل الاجتماعي، أي: أن يبحثن عن النساء المسلمات المتعففات، اللاتي لا يجدن القوت، وأن تكون المرأة مسبحة ذاكرة صائمة متهذبة بكاءة خيراً لها، بعد أن تتعلم العلم المفروض عليها، ونحن قلنا: يجب أن يصحح الاعتقاد أولاً، أي: أن يكون مجمل الاعتقاد صحيح، وما فرض الله عليك من الصلاة والصيام والزكاة إن كنت غنية، ثم أقبلي على حفظ كتاب الله عز وجل، وكثرة الذكر.
وصح أن أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها طلقها النبي صلى الله عليه وسلم وقد حسن ذلك الحافظ ابن حجر في الإصابة، وكذا الشيخ الألباني، ثم راجعها سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر من جبريل؛ لأن النبي لما طلقها نثر عمر التراب على وجهه وسار في طرقات المدينة وقال: ما أصبح الله يبالي بـ عمر ولا بابنة عمر، فنزل جبريل وقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة؛ لأنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة.
(1/16)
علو الهمة عند أسماء بنت أبي بكر
وأسماء بنت الصديق رضي الله عنها لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة حمل أبو بكر معه جميع ماله (5000) أو (6000) فأتى جدها أبو قحافة وكان قد عمي فقال: إن هذا قد فجعكن بماله ونفسه، فقالت: كلا قد ترك لنا خيراً كثيراً، قالت: فعمدت إلى أحجار فجعلتهن في كوة في البيت، وغطيت عليها بثوب، ثم أخذت بيده ووضعته على الثوب، فقالت: ترك لنا هذا، فقال: أما إن ترك لكم هذا فنعم.
وعن عبد الله بن زيد قال: ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة وأسماء وجودهما مختلف، أما عائشة فكانت تجمع الشيء حتى إذا اجتمع عندها قسمته، وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئاً لغد.
ومن ضمن الرسائل التي وصلتني رسالة أخ يقول فيها: أخي الشيخ الفاضل حسين! إني أحبك في الله لم أنس يا شيخنا آخر مرة سمعت لك فيها، تحدثت فيها عن فضل العلم وطلبه، فجزاك الله خيراً، والحقيقة عندما أردت أن أحضر اليوم أنا وزوجتي لكي نسمع لفضيلتك، لم يكن معنا إلا أربعة جنيهات فقط، فهل كنا نبقيها للطعام أم نجعلها للمواصلة، فآثرنا غذاء الروح على غذاء البطن، وجئنا لكي نستفيد من علمك.
فنسأل الله عز وجل أن يبارك في هذا الأخ وفي زوجه، والله! لو قدم علي يكون ضيفي هو وأهله فسوف أضعه في عيوني.
فـ أسماء رضي الله عنها ما كانت تمسك شيئاً لغد، وكانت إذا مرضت تعتق كل مملوك لها، وتتصدق بكل أكل عندها.
وعن ابن أبي ملكية قال: كانت أسماء تصدع فتضع يدها على رأسها وتقول: بذنبي وما يغفره الله أكثر.
(1/17)
علو همة سيمة بنت خياط
وسمية بنت خياط أول شهيدة في الإسلام، أم عمار وهي سابع سبعة في الإسلام، كان بنو مخزوم إذا اشتدت الظهيرة والتهبت الرمضاء، خرجوا بها وبابنها وزوجها إلى الصحراء، وألبسوهم دروع الحديد، وأهالوا عليهم الرمال المتقدة، وأخذوا يرضخونهم بالحجارة، فاعتصمت بالصبر، وقرت على العذاب، وأبت سمية أن تعطي القوم ما أرادوا من الكفر بعد الإيمان، فذهبوا بروحها وأفظعوا قتلتها، فلقد أنفذ النبل أبو جهل بن هشام أنفذ حربته فيها، فماتت رضي الله عنها، وكانت أول شهيد في الإسلام.
سمية لا تبالي حين تلقى عذاب النكر يوماً أو تلين وتأبى أن تردد ما أرادوا فكانت في عداد الصابرين
(1/18)
صبر أم شريك
وبصبر أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم أسلم من عذبوها، قال ابن عباس: وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة فأسلمت، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سراً فتدعونهن وترغبهن في الإسلام، حتى ظهر أمرها لأهل مكة، فأخذوها وقالوا لها: لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا سنردك إليهم، فقالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء، ثم تركوني ثلاثاً لا يطعمونني ولا يسقونني، فنزلوا منزلاً وكانوا إذا نزلوا أوقفوني في الشمس واستظلوا هم، وحبسوا عني الطعام والشراب حتى يرتحلوا.
فبينا أنا كذلك إذا بأثر شيء بارد وقع علي منه، ثم عاد فتناولته فإذا هو دلو ماء، قالت: فشربت منه قليلاً ثم نزع مني، ثم عاد فتناولته فشربت منه قليلاً ثم رفع، ثم عاد أيضاً، فصنع ذلك مراراً حتى ارتويت، ثم أخذت سائره على جسدي وثيابي، فلما استيقظوا إذا هم بأثر الماء على جسدي وعلى ثيابي، ورأوني حسنة الهيئة، فقالوا لي: انحللت؟ أي: هل فككت الرباط، فأخذت سقاءنا فشربت منه؟ فقلت: لا والله! ما فعلت ذلك، بل كان من الأمر كذا وكذا، فقالوا: لئن كنت صادقة فدينك خير من ديننا، فنظروا إلى الأسقية ووجدوها كما تركوها، فأسلموا من ساعتهم.
(1/19)
أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط
وهكذا أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط زوجة عبد الرحمن بن عوف كان أبوها شيطاناً من شياطين الكفر، فأسلمت وفارقت خدرها ومستقرها ومأمنها تحت جنح الليل وحيدة فريدة شريدة، تطوي بقدميها ثنايا الجبال وأغوار التهائم بين مكة والمدينة، إلى مفزع دينها ودار هجرتها؛ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتت بعد ذلك أمها فاتخذت سنتها، وهاجرت هجرتها، وتركت شباب أهل بيتها وكهولتهم وهم في ضلالهم يعمهون.
وأم كلثوم المغنية كانت دماء المسلمين التقية الندية تسيل على رمال سيناء وهي تصيح في المخدرين والسكارى والنائمين: هذه ليلتي وحلم حياتي! ولو أن الخيال يبعث حياً هوت الكأس من يديه حطاما كوكب الشرق ذل قومي لما جعلوك على الصدور وساما وأم حواري الرسول صلى الله عليه وسلم وعمته، أول امرأة قتلت رجلاً من المشركين، صفية بنت عبد المطلب، حدث عنها ولا حرج.
(1/20)
جهاد أم عمارة نسيبة
ومقام أم عمارة نسيبة بنت كعب في أحد خير من الرجال، فهي الفاضلة المجاهدة الأنصارية، شهدت ليلة العقبة وشهدت أحداً والحديبية ويوم حنين ويوم اليمامة، وجاهدت وفعلت الأفاعيل، وقطعت يدها وهي تجاهد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان)، وكان يراها وهي تقاتل أشد القتال، وهي حاجزة ثوبها على وسطها، حتى جُرحت ثلاثة عشر جرحاً، وكانت تقول: إني لأنظر لـ ابن قمئة وهو يضربها على عاتقها، وكان أعظم جراحها، فداوته سنة، وهو الذي ضرب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم: إلى حمراء الأسد، وشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم رضي الله عنها.
قالت أم عمارة: رأيتني وقد انكشف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بقي إلا في نفر ما يتمون عشرة، وأنا وأبنائي وزوجي بين يديه نذب عنه، والناس يمرون به منهزمين، ورآني ولا ترس معي، فرأى رجلاً مولياً معه ترس، فقال: ألق ترسك إلى من يقاتل، فألقى ترسه فأخذته فجعلت أتترس به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: فأقبل رجل على فرس فضربني، فتترست له فلم يصنع سيفه شيئاً فولى، فأضرب عرقوب فرسه فوقع على ظهره، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصيح: يا ابن أم عمارة أمك أمك؛ قالت: فعاونني عليه حتى أوردته شعوب.
يعني: قالت: أعانني ابني على قتل هذا الكافر حتى قتله معي.
وقتل ابنها مسيلمة الكذاب، وكانت تشجعه على هذا، جرحت يوم أحد اثني عشر جرحاً، وجرحت يوم اليمامة أحد عشر جرحاً، وقطعت يدها وقدمت المدينة وبها الجراحات.
فلقد رئي أبو بكر رضي الله عنه وهو خليفة يأتيها يسأل عنها، وهي عجوز مسنة قد قطعت يدها، ولكن مسليمة قتل ابنها فلله درها من امرأة!! وقد تكون المرأة ناعمة في بيت أبيها، لئن جاز للعواتق الناعمات من بنات حواء حياة ناعمة وهاجعة في بيوت آبائهن، يجررن فيها الذيول، تستعرض الواحدة منهن أنواع الحلي والزينة، وتضحي المسك فوق رأسها نؤوم الضحى لم تنطق عن تفضل، فإنها في بيت الحركة تكون فدائية.
(1/21)
جهاد أسماء بنت يزيد بن السكن
وقتلت أسماء بنت يزيد بن السكن تسعة من الروم في يوم اليرموك، وهي من المبايعات المجاهدات، قتلت بعمود خبائها يوم اليرموك تسعة من الروم، قالوا: وكان ذلك اليوم يوم عرسها، فلما قتلوا زوجها قلعت عمود الخباء ثم قتلت تسعة من الروم، في صبيحة عرسها.
يقولون: المرأة وليدة مجتمعها، يعني أنها تتأثر بظروف مجتمعها، مثلاً: امرأة تقول لزوجها: اذهب يرزقك ربنا ثعباناً؛ لأنهم يصيدون الثعابين، فتريد أن تصيبه بخير.
فالمرأة ظروف المجتمع تفرض عليها أحوالاً معينة، ونحن نريد امرأة تعيش للإسلام فقط، داعية، متصدقة، عابدة، ذاكرة، نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزق الناس بمثلهن.
(1/22)
أم سليم امرأة أبي طلحة
والرميصاء بنت ملحان أم سليم امرأة من أهل الجنة، مثل كريم في الصبر، وفي الدعوة إلى الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بـ الرميصاء بنت ملحان، امرأة أبي طلحة، فسمعت خشفة، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا بلال).
وكانت حياتها مليئة بالأعاجيب النيرة المشرقة، توحي بسموها وعلوها.
قالت أم سليم: آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو أنس وكان غائباً، فقال: أصبوت -أي: أكفرت-؟! فقالت: ما صبوت ولكني آمنت، وجعلت تلقن أنساً وهو يرضع: قل: لا إله إلا الله، قل أشهد أن محمداً رسول الله، ففعل، فيقول لها أبوه: لا تفسدي علي ابني، فتقول: إني لا أفسده، ولكني أعلمه دينه.
فخرج مالك فلقيه عدو فقتله، فقالت: لا جرم لا أفطم أنساً حتى يدع هو الثدي، ولا أتزوج حتى يأمرني أنس، أي: حتى يكبر أنس ويأمرني بذلك.
وخطبها أبو طلحة وهو مشرك، فأبت وقالت له يوماً: أرأيت حجراً تعبده لا يضرك ولا ينفعك؟ أو خشبة تأتي بها النجار فيضع لك منها صنماً هل يضرك أو ينفعك؟ قال: ووقع في قلبي كلامها، فقلت: إن آمنت، قالت: إني أتزوجك، ولا آخذ صداقاً منك غير الإسلام.
فقال أنس: تزوج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام، وكان أفضل صداق في الإسلام.
أما صبرها الجليل، فهذه المرأة العظيمة لما مرض أخ لـ أنس من أبي طلحة يدعى أبا عمير، فبينا أبو طلحة في المسجد مات الصبي، فتهيأت أم سليم وقالت: لا تخبروا أبا طلحة بموت ابنه، فرجع من المسجد وقد تزينت وتصنعت، فقال: ما فعل ابني؟ قالت: هو أسكن مما كان، فقدمت عشاء فتعشى هو وأصحابه الذين قدموا معه، ثم قامت إلى ما تقوم له المرأة فأصاب من أهله، فلما كان آخر الليل قالت: يا أبا طلحة! ألم تر إلى أهل فلان استعاروا عارية فتمتعوا بها، فلما طلبت إليهم شق عليهم، قال: ما أنصفوا، قالت: فإن ابنك فلاناً كان عارية من الله، فقبضه الله إليه، فاسترجع وحمد الله وقال: والله! لا أدعك تغلبيني على الصبر حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبي: (بارك الله لكما في ليلتكما)، فاكتملت منذ الليلة على عبد الله بن أبي طلحة ولم يكن في الأنصار شاب أفضل منه، وخرج منه رجال كثيرون، ولم يمت عبد الله حتى رزق عشرة بنين، كلهم حفظ كتاب الله عز وجل.
(1/23)
صبر الخنساء
والخنساء التي صاغها الإسلام، ملأت في الجاهلية البوادي نياحاً على شقيقها صخر، وقالت: وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار وقالت أيضاً: يذكرني طلوع الشمس صخراً وأذكره لكل غروب شمس فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي بكت عليه، وقد مات مشركاً، وكان شجاعاً، لكن هذا لا ينفعه مع عدم الإسلام.
وفي الإسلام قدمت أفلاذ كبدها ونياط قلبها، أربعة من الأسود، خرجوا في يوم واحد؛ يوم القادسية، وكان مما أوصتهم به قولها: يا بني! إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو! إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غيرت نسبكم، اعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية، {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، وجللت ناراً على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، فاظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة.
فلما كشرت الحرب عن أنيابها تدافعوا عليها وتواقعوا إليها، وكانوا عند ظن أمهم بهم، حتى قتلوا واحداً إثر واحد، فلما وافتها النعاة خبرهم لم تزد على أن قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة.
وخولة بنت الأزور من ذوات الخدور، ولكن ليس كمثلها النسور.
(1/24)
عبادة وتقوى حفصة بنت سيرين
وحفصة بنت سيرين العابدة التقية، حفظت القرآن وهي بنت ثنتي عشرة سنة، وكان إذا أشكل على أخيها محمد بن سيرين شيء من القرآن يقول: اذهبوا إلى أختي حفصة فانظروا كيف تقرؤه.
هذه التقية التي مكثت ثلاثين سنة لا تخرج من مصلى بيتها إلا لقضاء حاجة زوج أو قيلولة.
وكانت من أفضل التابعين.
قال هشام بن حسان: اشترت حفصة جارية، فقيل لها: كيف رأيت مولاتك بالليل؟ فذكرت كلاماً بالفارسية معناه: إنها امرأة صالحة، إلا أنها أذنبت ذنباً عظيماً، فهي الليل كله تبكي وتصلي.
وكانت إذا قامت إلى مصلاها من الليل لبست كفنها، ما تمسك التلفون ست ساعات، بل كانت إذا قامت صلاة الليل لبست كفنها، وكانت تقرأ نصف القرآن في الليلة، وتصوم الدهر، ولا تفطر إلا العيدين وأيام التشريق.
(1/25)
علم عمرة بنت عبد الرحمن
وعمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة تربية عائشة، كانت عالمة فقيهة حجة، كثيرة العلم، وحديثها كثير في دواوين الإسلام.
عن ابن شهاب عن القاسم بن محمد أنه قال لي: يا غلام! أراك تحرص على طلب العلم، أفلا أدلك على وعائه؟ قلت: بلى، قال: عليك بـ عمرة فإنها كانت في حجر عائشة، فأتيتها فوجدتها بحراً لا ينزف.
(1/26)
ابنة ابن المسيب وأم الثوري
وابنة سعيد بن المسيب كانت تُعلم زوجها علم سعيد بن المسيب، ولما أراد أن يمضي إلى حلقة والدها قالت: إلى أين؟ قال: إلى مجلس أبيك أتعلم العلم، قالت: اجلس هاهنا أعلمك علم سعيد بن المسيب.
وأم سفيان الثوري تعوله بمغزلها، قالت أم سفيان لـ سفيان: اذهب فاطلب العلم حتى أعولك بمغزلي هذا، فإذا كتبت عدة عشرة أحاديث، فانظر هل تجد في نفسك زيادة من العمل فاتبعه.
يعني: يا بني اكتب عشرة أحاديث، فإن عملت بها ووجدت في نفسك زيادة فاكتب عشرة أحاديث أخرى، وإلا فلا تتعنى، أي: إذا كنت لن تطبق العلم على نفسك فاقعد خيراً لك.
(1/27)
عبادة أم الدرداء الصغرى
وأم الدرداء الصغرى مثل للفقيهة العابدة، كانت هي ونسوة متعبدات يجتمعن في مسجد فيصلين، فإذا ضعفن عن القيام تعلقن بالحبال، وكن يصلين بالبقرة وآل عمران والنساء والمائدة، قيل: فوالله ما يقعن إلا عند الأنعام في ركعة واحدة.
(1/28)
علم وفقه ابنة الإمام مالك وجاريته
وبنت الإمام مالك كانت تحفظ الموطأ، وكان إذا قرأ القارئ على أبيها، فإذا زاد أو نقص تدق ابنته الباب، فيقول أبوها للقارئ: ارجع فالغلط معك، فيرجع القارئ فيجد الغلط عنده.
وجارية الإمام مالك، حكى أشهب أنه كان في المدينة، وأنه اشترى خضرة من جارية، وكانوا لا يبيعون الخضرة إلا بالخبز، فقال لها: إذا كان عشية حين يأتينا الخبز فأتنا نعطيك الثمن، فقالت: ذلك لا يجوز، قال لها: ولم؟ فقالت: لأنه بيع طعام بطعام غير يد بيد، فسأل عن الجارية، فقالوا: هي جارية مالك بن أنس.
جارية في السوق وهي تعلم الناس فقه البيوع.
(1/29)
فطنة أم ابن المديني
وأما علي بن المديني، فيقول: غبت عن البصرة في مخرجي إلى اليمن ثلاث سنين وأمي حية، فلما قدمت قالت: يا بني! فلان لك صديق وفلان لك عدو، فقلت لها: من أين علمت يا أماه؟ قالت: كان فلان وفلان يجيئون مسلمين فيعزونني ويقولون: اصبري، فلو قدم عليك سرك الله عز وجل بما ترين.
يعني: ابنك هذا خرج في طلب العلم ولما يرجع فسيكون عالماً كبيراً جداً، فيعوضك عن الأيام التي غابها عنك كلها، قالت: فعلمت أن هؤلاء لك أصدقاء، وفلان وفلان إذا جاءوا يقولون: اكتبي إليه، ضيقي عليه ليقبل، فعلمت أنهم أعداء لك.
وفاطمة بنت عباس بن أبي الفتح كانت تستحضر أكثر المغني.
(1/30)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 09:49   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

حفظ زيب النساء للقرآن
وأعجوبة النساء الأميرة مفسرة القرآن، زيب النساء، بنت الملك أورنك زيب عالمكير سلطان الهند، كانت حافظة للقرآن مفسرة له، كتبت تفسيراً لكتاب الله عز وجل، ويعد تفسيرها هذا من أوائل التفاسير التي انفردت بها النساء، تفردت بتفسير القرآن العظيم كاملاً.
اسمها زيب النساء، يعني: زين النساء، بنت الملك أورنك زيب عالمكير سلطان الهند في عهده.

(1/31)


زهد وتقوى زوجة صلاح الدين الأيوبي
وأيضاً المرأة التقية الزاهدة زوجة صلاح الدين، اسمها عصمة الدين، وهذه المرأة كانت زوجة نور الدين محمود زنكي، ثم لما مات عنها تزوجت صلاح الدين الأيوبي.
هذه المرأة العظيمة قامت ذات ليلة وهي غاضبة من نومها، فسألها زوجها عن سر غضبها؟ فقالت: فاتني وردي البارحة، فلم أصل من الليل شيئاً.
وهي امرأة ملك، وكانت زوجة سلطان دمشق، بل سلطان الشام كله، وتقوم من الليل غاضبه؛ لأنها لم تصل بالليل.
وكانت ترسل إلى زوجها؛ لأنها كانت كثيرة الصدقة، فتأخذ منه المال الكثير فيقول: والله! لا أدخل النار بسببك، وكان نور الدين محمود زنكي زوجها سلطان دمشق، كل أكله من عمل الأقفال، أي: يصنع الأقفال بيده، ثم يذهب بها فيبيعها، وكان هذا دخله الذي يعيش منه، وهو ملك الشام قاهر الصليبين.
وكان من قواده في مصر أسد الدين شيركوه وهو عم صلاح الدين، فلما مات أسد الدين شيركوه عهد نور الدين محمود زنكي بالعمل من بعده لـ صلاح الدين الأيوبي، فقضى صلاح الدين الأيوبي على سلطان الدولة الفاطمية من مصر.
يحفظ التاريخ العديد من العابدات التقيات، الصوامات القائمات في الليل، وكانت المرأة منهن إذا دخل عليها الليل تقول: بخ بخ، يا نفس! قد جاء سرور المؤمن، فإذا اشتدت في عبادتها تقول: لا تأنسن بمن توحشك نظرته فتمنعن من التذكار في الظلم واجهد وكد وكن في الليل ذا شجن يسقيك كأسه باب العز والكرم فإذا مضى عنها الليل بكت وقالت: واحرماه واسلباه.
ذهب الظلام بأنسه وبإرثه ليت الظلام بأنسه يتجدد

(1/32)


أمثلة لعلو الهمة عند النساء من التاريخ الإسلامي
يحفظ التاريخ منهن رابعة العدوية، أثنى عليها شيخ الإسلام ابن تيمية، وأثنى عليها ابن القيم، وأثنى عليها ابن مفلح، وأثنى عليها الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء في الجزء الثامن، وأثنى عليها ابن كثير في المجلد العاشر من البداية، وقال: رابعة العابدة التقية، أكثر الناس من الثناء عليها، ورؤيت لها منامات صالحة، إلا أن أبا داود السجستاني كان يتهمها بالزندقة، وربما بلغه عنها الشيء، ولكن أكثر أهل العلم على توثيقها، أما الكلام الذي صدر عنها إن صح منها فلا يقبل، ولكن هذا في جانب صيامها وقيامها.
وهذه عاتكة المخزومية تعاتب في كثرة بكائها، فقالت: ما ينبغي للمخوف بالنار أن تجف له دمعة، حتى يعرف موقع الأمان من ذلك.
وعفيرة العابدة، تعاتب في قلة نومها وكثرة قيامها، فقالت: ربما اشتهيت أن أنام فلا أقدر، وكيف ينام من لا ينام عنه حافظاه ليلاً ولا نهاراً؟! وفاطمة النيسابورية تقول: الصادق المقرب يدعو ربه دعاء الغريق يسأل ربه الخلاص والنجاة.
وعائشة بنت سعيد الحيري عابدة نيسابور، مجابة الدعوة، سمعت ابنتها تتكلم وهي فرحة ببعض ما لديها من العلم، وببعض ما لديها من حطام الدنيا، فقالت: لا تفرحي بفان، ولا تجزعي من ذاهب، وافرحي بالله عز وجل، واجزعي من سقوطك من عين الله عز وجل.
وقالت لابنتها: الزمي الأدب ظاهراً وباطناً، فما أساء أحد الأدب في الظاهر إلا عوقب ظاهراً، ولا أساء أحد الأدب باطناً إلا عوقب باطناً.
ومليكة بنت المنكدر تقول: دعوني أبادر طي صحيفتي.
وزوجة صلة بن أشيم: معاذة العدوية تلميذة السيدة عائشة رضي الله عنها، لما أتاها نعي زوجها وولدها، وأتت النسوة يعزينها، قالت: إن كنتن قد جئتن لتهنئنني فأهلاً بكن وسهلاً، وإلا فارجعن من حيث أتيتن.
ولبابة العابدة تقول عن لذة عبادتها في محرابها: ما زلت مجتهدة في العبادة حتى صرت أستريح بالعبادة، فإذا تعبت من لقاء الخلق آنسني بذكره، وإذا أعياني الخلق روحني للتفرغ لعبادة الله عز وجل، والقيام إلى خدمته.
ومخة أخت الإمام بشر بن الحارث الإمام الورع وأخته ورعة كذلك، تأتي إلى الإمام أحمد وتقول له: أنين المريض شكوى؟ أي: المريض عندما يئن ويقول: آه، هل هذا كأنه يشكو الله عز وجل إلى خلقه؟ قال: والله! ما سئلت عن مثل هذا السؤال من قبل، فلما كان في مرض موته قيل للإمام أحمد: إن طاوس يقول: إن أنين المريض شكوى، فما أنَّ الإمام أحمد حتى مات.
المسألة التي غابت على إمام أهل السنة حفظتها امرأة.
وقالت: يا إمام! إنا نغزل غزلنا على ضوء مصباح الشارع، فإذا انطفأ مصباح الشارع ومرت مصابيح الظاهرية -وكانوا قوماً من الحكام ظالمين- غزلنا على ضوء مصابيحهم، أفنبينه للناس؟ قال: بيني ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ثم قال لابنه عبد الله: اتبعها يا بني، وانظر إلى أي بيت تدخل، فدخلت بيت بشر بن الحارث، فقال: من بيتهم خرج الورع.
أي: مثل هذه لا تخرج إلا من بيت بشر.
وماجدة القرشية كانت تبكي وتقول: كفى المؤمنين والمؤمنات طول اهتمامهم بالمعاد شغلاً عن الناس.
ونفيسة بنت الحسن بن زيد التي تقول عنها زينب بنت يحيى: خدمت عمتي فما رأيتها نامت بليل إلا قليلاً، ولا أفطرت بنهار، فقلت لها: أما ترفقين بنفسك؟ قالت: كيف أرفق بنفسي وقدامي عقبات لا يقطعها الفائزون!! ورابعة زوجة أحمد بن أبي الحواري يقول عنها زوجها: كنت يرق قلبي بالنظر إلى وجه زوجتي أكثر مما يرق بالحديث مع إخواني؛ لما رأى عليها من أثر الزهد والعبادة.
وبوب الإمام محمد بن نصر المروزي تلميذ الإمام البخاري باب: إن الرجل أو المرأة إذا اعتاد القيام نبه لذلك بالملائكة أو بعمار الدار من الجن.
وذكر قصة رابعة: إن زوجها يقول: ما رأيك تقومين من أول الليل، قالت: أوتحسبني أقوم بخاطري، إنما أقوم إذا نوديت.
وبوب الإمام محمد بن نصر المروزي تلميذ الإمام البخاري باب: إن الرجل أو المرأة إذا اعتاد القيام نبه لذلك بالملائكة أو بعمار الدار من الجن.
وذكر قصة رابعة: إن زوجها يقول: ما رأيك تقومين من أول الليل، قالت: أوتحسبني أقوم بخاطري، إنما أقوم إذا نوديت.
وهكذا الجواري والعبيد قال خالد الوراق: كانت جارية لي شديدة الاجتهاد في الطاعة والعبادة، فدخلت عليها يوماً فأخبرتها برزق الله وقبوله ليسير العمل، فبكت وقالت: يا خالد! إني لأؤمل من الله تعالى آمالاً لو حملتها الجبال لأشفقت من حملها كما ضعفت عن حمل الأمانة، وإني لأعلم أن في كرم الله مستغاثاً لكل مذنب، ولكن كيف لي بحسرة السباق؟ قال: قلت: وما حسرة السباق؟ قالت: غداة الحشر إذا بعثر ما في القبور، وركب الأبرار نجائب الأعمال، فاستبقوا إلى الصراط، وعزة سيدي! لا يسبق مقصر مجتهداً أبداً ولو حبا المجد حبواً.
أم كيف لي بموت الحزن والكمد، إذا رأيت القوم يتراكضون وقد رفعت أعلام المحسنين، وجاز الصراط المشتاقون، ووصل إلى الله المحبون، وخلفت مع المسيئين المذنبين!! ثم بكت وقالت: يا خالد! انظر لا يقطعك قاطع عن سرعة المبادرة بالأعمال، فإنه ليس بين الدارين دار يدرك فيها الخدام ما فاتهم من الخدمة، فويل لمن قصر عن خدمة سيده ومعه الآمال، فهلا كانت الأعمال توقظه إذا نام البطالون! هذه صفحات من علو همة النساء.

(1/33)


كتب تتحدث عن علو الهمة عند النساء
وكل أخت تريد أن تقرأ كثيراً في التراجم عليها بكتاب: سير أعلام النبلاء في تراجم النساء، وعليها بتاريخ دمشق، وتاريخ بغداد في تراجم النساء، وعليها بصفة الصفوة، وعليها بكتاب شيخنا وسيدنا الشيخ محمد المقدم عودة الحجاب، الجزء الثاني، وكتاب: تراجم أعلام النساء لـ عمر كحالة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

(1/34)


المستقبل للإسلام
آيات كثيرة في كتاب الله الكريم تشير إلى أن المستقبل للإسلام، وأن الله ناصر جنده ولو بعد حين، كما يشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وأخبر أنه لن تقوم الساعة حتى ترفع راية الإسلام في كل مكان.
وإذا نظرنا في تاريخ المسلمين فسنجد أن الأيام دول، وأن بعد الهزيمة والذل نصراً وتمكيناً.

(2/1)


أهمية تبشير الناس بأن المستقبل للإسلام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]، أما بعد: فإن الرائد لا يكذب أهله في مثل هذه الأوقات العصيبة، وعملاً بقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة).
فسرور تدخله على مسلم بالتبشير بأن المستقبل المضيء للإسلام وللإسلام وحده ينور قلوباً ربما قد يعتريها الجفاف فتنتعش بعد ظمأ، وتسقي ساحات العمل الإسلامي المبارك، نبشر ليعقل ساذج، وليتململ كسلان راقد، وينافس هابط قاعد، ويفرح هامد يائس بائس.
نبشر بمستقبل الإسلام ليسكن القلب، ويسلو الحزين البائس، نجاةً من وهدة، وتوجيهاً في ساعة حيرة، وأذاناً في نيام، ونبلاً عندما يسهل الواقع، وسمواً إذا نطق الإغراء، ووفاء في ساعة النكوص، واقتحاماً في مواطن الانخذال، ودفعاً للانزواء الذي كلكل على اليائسين القانطين؛ لتدخل القلب برودة السكن بوعد الله عز وجل للمؤمنين بعد حرارة القلق، ولذعات الحيرة، ومرارة اليأس، وصداً لكل مأجور غريق تائه لا يجد له طريقاً.
عندما نعيش للإسلام فإن حياتنا تبدو طويلة عميقة تبدأ من حيث بدأت البشرية، وتمتد بعد الأرض، فنعيش حياة مضاعفة بقدر ما يتضاعف إحساسنا بالمسلمين لإسلامي أعيش أنا بتوحيدي وذا ديني نقشت حروفه تعلو على كل العناوين بخط الباب أن يسمو على كل الميادين لإسلامي ولو حتى إلى الجدران شدوني لإسلامي ولو حتى إلى النيران زفوني لإسلامي لإسلامي ولو في السوق باعوني وثارات لإسلامي تعايشني تغذيني تبث النور في روحي وتنبض في شراييني وإسلامي له أعطي له نفسي وتكويني أنا ماذا أكون أنا بلا ربي بلا ديني أنا ماذا أكون أنا أجيبوني أجيبوني نحن لا نقول للناس: إن الإسلام جميل وطيب فاتركوا له فرصة؛ لأن هذا فعل اليائس، وإنما نقول: إننا بحاجة لأن نعلو حتى نصل إلى مستوى الإسلام النظيف، {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:128]، هذا قول خليل الرحمن إبراهيم أعلى البشرية بعد رسولنا صلى الله عليه وسلم، يريد أن يبقيه الله تبارك وتعالى على الإسلام {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]؛ أدباً مع الله عز وجل، ومعرفة لقدر النعمة التي لما حدنا عنها حاد عن أرجلنا طريق المجد.
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم كأنا في دار عقبة بن رافع فأتينا برطب من رطب ابن طاب) وهي رطب معروفة في المدينة لرجل يسمى: ابن طاب، قال: (فأولت ذلك الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب).
نحن نتكلم عن الإسلام من منطلق الرد على الصليبية بأن المستقبل للإسلام، وأن حضارة الإسلام هي الحضارة العظمى، ونرد عليهم بقول علماء الأرض ممن حصلوا على أعلى الجوائز كجائزة نوبل، من عقلاء الغرب الذين يقولون: إن مجتمعاتهم مجتمعات خنازير، كما قال أفلاطون.
قال صلى الله عليه وسلم: (عند الله خزائن الخير والشر، مفاتيحها الرجال، فطوبى لمن جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، وويل لمن جعله الله مفتاحاً للشر مغلاقاً للخير)، وقال صلى الله عليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالتيسير والسناء والرفعة في الدين، والتمكين في البلاد، والنصر).
حال الأمة في هذه الأيام مثل حال النبي صلى الله عليه وسلم، فأثناء الهجرة وهو مطارد وحيد إلا من رفيقه الطريد مثله يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ سراقة الذي يريد أن يلحق به: (يا سراقة: كيف بك وسواري كسرى؟) يعني: الإسلام سينتصر وسيأخذ بيت كسرى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تغدو عصابة من أمتي البيت الأبيض بيت كسرى).
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف بك يا سراقة وسواري كسرى؟)، فتمثل ذلك الواقع حينما تقول للناس: إن المستقبل للمسلمين.
والحال كما هو معلوم {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10 - 11].
وفي يوم الأحزاب كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحفر الخندق على ضربات المعاول يبدو نور المستقبل، فيقول: (الله أكبر أعطيت خزائن كسرى، أعطيت ملك قيصر، أعطيت خزائن اليمن)، {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].
وأما المنافقون فيمثلهم معتب بن قشير يقول: إن محمداً يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب ليقضي حاجته.
قال تعالى: {وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87].
وكم لله من لطف خفي يدق خفاه عن فهم الذكي

(2/2)


المبشرات بالنصر والتمكين

(2/3)


مبشرات من القرآن
إن المستقبل للإسلام، وهذه مبشرات من القرآن الكريم، ومن السنة المطهرة، ومن السنن الربانية، ومن تاريخ المسلمين ومن خصائص الإسلام، ومن واقع هذه الأمة، ومن شهادات عقلاء الغرب بأن المستقبل للإسلام.
لا تهيئ كفني يا عاذلي فأنا لي مع الفجر مواثيق وعهد قال الله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33].
وقال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9]، هل رأى الناس إلا ديناً يضيء للدنيا كالمصابيح؟ فعصفوا عليه بأفواههم كما تعصف الريح، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} [الصف:8]، وأين سراج النجم من نفخة ترتفع إليه كأنما تذهب لتطفيه؟! وأين نور القمر من كف يحسب صاحبها أنه سيرفعها إليه ليطفئه؟! هيهات هيهات! دون ذلك درج الشمس -وهي أم الحياة- في كفن وإنزالها بالأيدي -وهي روح النهار- في قبر من كهوف الزمن! إن المصباح السماوي الذي أوقده رسول الله صلى الله عليه وسلم تألب عليه بعضهم من يوم أبي لهب، ومن يوم حيي بن أخطب -وزال هؤلاء وذهبوا إلى مزابل التاريخ وبقي الإسلام شامخاً.
فالإسلام كالشمس لا يغرب مطلقاً، فانظر -مثلاً- حينما سقطت غرناطة -دولة المسلمين بالأندلس- في نفس الوقت كان سليمان القانوني يدق أسوار فينا ويصل إلى الميدان الرئيسي في فينا، واحتل بلغراد ودخلها في يوم الجمعة 25 رمضان، وأعلى الأذان في معابدها، ووصل خير الدين بربروس وهو قائد البحرية التركي الذي أنشأ دولة الجزائر، وصد الأسطول البرتغالي الأسباني ثلاث مرات ودحرهم، وأنقذ (70000 أسيرة مسلمة)، وأراد أن يعبر جبال البرانس بفرنسا، بل وصلت قوات المسلمين إلى مدينة سانت جنوب باريس بثلاثين كيلو متر.
وحينما سقطت دولة الخلافة العباسية -في نفس الوقت- قامت دولة الإسلام الفتية في الهند.
قال الله تبارك وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173].
فكلمة تكون بها عوالم، وتخلق بها نواميس، وكلمة تذهب أدراج التاريخ، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52]، وذكر الله تبارك وتعالى لنبيه عيسى أن أتباعه من المسلمين فوق الذين كفروا، قال: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55]، وكذلك كل متبع للنبي ولمن سبقه من الأنبياء كما قال ابن كثير.
وقال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].
إن الله أبتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن ظلم الأديان إلى عدل الإسلام، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56]، وقال الله تبارك وتعالى عن حزب الشيطان: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كما لا يجتنى من الشوك العنب كذلك لا ينزل الأبرار منازل الفجار)، فهما طريقان أيهما أخذتم أدركتم ثمرته.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:20 - 21]، وقال تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وقال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} [الطلاق:8 - 9].
والعاقبة النتنة لأجيال البشرية الضالة المنكوبة الكافرة البعيدة عن طريق الله وطريق رسوله، قال الله عز وجل مبشراً للمؤمنين: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5].
وقال الله تبارك وتعالى مبيناً معيته للمؤمنين: {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:19]، وقال تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد:35]، وقال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].
وبين الله عز وجل أنه ولي الذين آمنوا فقال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257]، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11].
قال أبو سفيان في غزوة أحد: اعل هبل، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يردوا ويقولوا: (الله أعلى وأجل)، فقال: لنا العزة ولا عزة لكم، فقالوا له: (الله مولانا ولا مولى لكم).
قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، وهو ناصرهم قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، وقال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].
والله عز وجل يمكر لدينه دائماً قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، وقال جبريل لـ أم إسماعيل: لا تخشي الضيعة إن الله لا يضيع أهله.
قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:5].
وقال تعالى: {جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ} [ص:11]، وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:12]، وقال تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد:17].
كل هذه مبشرات من كتاب الله عز وجل ومن أصدق من الله قيلاً، ومن أصدق من الله حديثاً، فليس بعد قول الله قول.

(2/4)


مبشرات من السنة
وهناك مبشرات من السنة في انتشار الإسلام في أرض البسيطة، فقد بشر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (والله ليتمن الله هذا الأمر) أي: الإسلام، (حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، وراوي الحديث هو خباب بن الأرت الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ولكنكم تستعجلون) كانت سيدته تلقي عليه الحديد المحمى فوالله ما يطفأ الحديد إلا بما يسيل من شحمه.
وعن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذلك ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر).
وبشر النبي باتساع رقعة الإسلام، فعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها).
وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -الذي أخرجه الإمام أحمد - قال: (بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولاً)، ومدينة هرقل هي القسطنطينية، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد فتحت القسطنطينية في يوم الثلاثاء 20 جماد الأول سنة 857 هجرية الموافق 29 مايو سنة 1453 ميلادية على يد السلطان محمد الفاتح، وهو ابن 23 سنة، ففتحت القسطنطينية وستفتح روما.
هذه بشارة نبينا صلى الله عليه وسلم في عودة الخلافة الراشدة كما جاء في حديث حذيفة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عضوضاً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت).
ومن المبشرات بمستقبل الإسلام السائر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً)، ومن المبشرات بأن المستقبل لهذا الدين ظهور المجددين لهذا الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة الذي رواه أبو داود، والحاكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها).
ومن المبشرات على أن شمس الإسلام لن تزول: بقاء الطائفة المنصورة إلى يوم القيامة، كما جاء في حديث عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة).
وفي حديث المغيرة بن شعبة: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون)، وفي حديث معاوية: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس).
وحديث أبي هريرة: (لا تزال طائفة من أمتي قوامة على أمر الله لا يضرها من خالفها)، وحديث عقبة: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك).
وحديث سلمة بن نفيل: (ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام، ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله).
وقال صلى الله عليه وسلم: (مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره)، وهذا يدل على وجود الخيرية في هذه الأمة في كل زمن.
وقال صلى الله عليه وسلم: (عصابتان من أمتي أخرجهما الله من النار) أي: لا يدخلان النار أبداً، (عصابة تغزو الهند، وعصابة تكون مع عيسى ابن مريم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي).
ومن المبشرات لهذه الأمة نزول المسيح عيسى ابن مريم آخر الزمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها).
وفي حديث آخر صححه الشيخ أحمد شاكر قال: (سيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال، ثم تقع الأمانة على الأرض حتى تركع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات فلا تضرهم).
وكما قال صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعيش بعد المسيح، يؤذن للسماء بالقطر، ويؤذن للأرض بالنبات، حتى لو بذرت حبة على الصفا لنبتت، وحتى يمر الرجل على الأسد فلا يضره، ويطأ على الحية فلا تضره، ولا تشاح ولا تحاسد ولا تباغض).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليقتلن ابن مريم الدجال ببيت لد).
ثم من المبشرات أيضاً: ظهور المهدي في آخر الزمان، قال صلى الله عليه وسلم: (لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما ملأت جوراً).
ومن المبشرات: الانتصار على اليهود، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد).
وجيش محمد سيعود في عز وفي غلب وأن الغرقد الملعون مقطوع بلا سبب وأن السامري سيوقد النيران فوق مفاوز العرب ويمضي مثلما ولت جميع كتائب الإفرنج من حقب ويبقى تائهاً في الأرض يعبد عجله الذهبي وفي آخر الزمان ستفتح القسطنطينية مرة ثانية بعد عودتها إلى الكفر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تكون بينكم وبين بني الأصفر هدنة، فيغدرون بكم فيسيرون إليكم في ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً)، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم -أي: الصليبيون- بالأعماق، فيخرج إليهم جيش من المدينة -أي: من مدينة دمشق- هم خير أهل الأرض يومئذ، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلث هم خير الشهداء عند الله، ويفتح الله عز وجل على الثلث الباقي، وبينا هم يقتسمون الغنائم وقد علقوا سيوفهم بأشجار الزيتون إذ صاح فيهم الصائح -وفي رواية: الشيطان-: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم وذراريكم -وهذا باطل-، فيبعثون من يتقصى الخبر).

(2/5)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 09:51   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي


مبشرات من سنن الله في الكون
وهناك مبشرات من سنن الله عز وجل ومن نواميس الله عز وجل في الكون، التي لا يحيد عنها حائد، ومن هذه السنن سنة التغيير وسنة التداول، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].
فقد كانت الغلبة لهم ثم انتقلت الدولة والحضارة إلى المسلمين، ولما غفل المسلمون عن دينهم انتقلت الحضارة إلى الغرب، ويوماً من الأيام ستعود إلينا، وقد سقطت حضارة روسيا الأولى، وبعد سقوط حضارتهم تعود إلينا مرة ثانية.
وسنة التغيير؛ قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} [الأنفال:53 - 54].
وهذه سنة الله عز وجل في الذي يعرض عن هداه، ولا ريب أنهم في الغرب قد أعرضوا عن طريق الله عز وجل، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:36 - 37]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124].
وأما سنة الله عز وجل في المترفين: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
وأما سنة الله في الظالمين: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21]، {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنعام:45]، {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:47]، {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [يونس:13]، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
فأين كان العالم يوم أن بكى الأطفال وماتوا وقتلوا، كانوا 700000 طفل بإحصاءات الأمم المتحدة؟! وأين كان العالم وأطفال العراق يموتون من الجوع؟! ولا شيء أشد على النفس من موت طفل وأنت تستطيع أن تنقذه.
وأين كان ضمير العالم وفلسطين تئن من الذبح والقتل والتشريد ونسف البيوت؟! {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
إن حضارة الغرب حضارة عوراء لا تنظر إلا بعين واحدة وهي عين المادة، وتكيل بمكيالين دائماً، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر:9]، {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:12 - 14].
وسنة الله في الكفار واحدة، فليس هناك كافر يكفر هو أحسن من كافر آخر، قال الله عز وجل: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر:43]، فكما أخذ عاد وثمود، وقوم لوط التي تمثلت فيها حضارة الشذوذ فسيأخذ حضارة الشذوذ في أي زمان، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10]، وقال الله عز وجل: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:211]، وقال الله عز وجل: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف:8].
إن سنن الله عز وجل لا تحيد أبداً، فانظر إلى الغرب حين انتشرت فيه المخدرات، والبطالة، والقتل، والإجهاض، تقول الإحصائيات: إن ثلاثة وخمسين مليون طفل هم حصيلة الإجهاض، فالجريمة كل دقيقة، والاغتصاب مستمر، كما انتشرت الخمور، وكثر نكاح المحرمات، ونكاح الأقارب.
وهناك بنوك للحيوانات المنوية تأخذ منها المرأة ما تشاء فيولد الطفل من غير أب، فيباع الأطفال، وانتشرت البطالة، والديون والتردي، كل هذا موجود في حضارة الغرب.
يقول الكاتب الإنجليزي أسبورن: نحن موتى مخدرون مضيعون، نحن سكيرون مجانين حمقاء، نحن تافهون.
وهذه كانت في مسرحية حضرها ستة مليون وسبعمائة وثلاثة وثلاثين ألف في الغرب.
وانظر إلى كتاب جيمس بادرسن، وديسر جيم: يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة.
وهذا الكتاب صدر في نيويورك عام 1991م وترجمه الدكتور محمد سعود البشر، وهناك كتاب آخر: نحن القوة الأولى أين تقف أمريكا؟ وأين تسقط في النظام العالمي الجديد؟ لـ أندرو شابيرو، صدر عام 1992م بعد حرب الخليج.
ثم الكتاب الثالث: السقوط التراتيبي أمريكا عام 2020 ميلادية للجنرال هوف قائد السلاح الجوي السابق الأمريكي، وقائد قوات الأمم المتحدة في كوريا ومستشار وزارة الدفاع، صدر هذا الكتاب عام 1992م، يقول: إن ديون الولايات المتحدة الأمريكية عام 1992م كانت أربعة ألف مليون دولار، وستصل في عام 2020م إلى عشرة واثنين من عشرة ترليون دولار.
يقول: إنه في كثير من الأوقات يراودهم شك بأنهم دجالون ومحتالون ومنافقون.
معنى هذا: أن هناك ثمانين مليون دجال ومنافق ومحتال في بلادهم.
وانظر إلى كتاب: سقوط الحضارة لـ كولن ولسن، وانظر إلى ما كتبه الشاعر الألماني بروشرت يقول: نحن جيل بلا رابط ولا عمق عمقنا هو الهاوية نحن جيل بلا دين ولا راحة شمسنا ضيقة حبنا وحشية شبابنا بلا شباب إننا جيل بلا قيود ولا حدود ولا حماية من أحد وانظر إلى ما كتبه العالم ألكيس كارتل صاحب كتاب: الإنسان ذلك المجهول، والحاصل على جائزة نوبل، أو انظر إلى كتاب إنسانية الإنسان لـ رنيه روبو الفرنسي الحاصل على جائزة نوبل، أو انظر إلى ما كتبه لوبات سكرتير وزارة الداخلية الأمريكية في بحث له بعنوان: هل تستطيع أمريكا التغلب على خلاصة النمو؟ يقول: إنه من السهل اعتبار أمريكا التي صنعها الإنسان كارثة.
وانظر إلى ما كتبه جون ديوتي: إن الحضارة التي تسمح للعلم بتحطيم القيم المتعارف عليها لهي حضارة تضر نفسها بنفسها.
وانظر إلى كتاب سقوط الحضارة لـ كولن ولسن الذي يصف فيه المجتمعات بأنها مجتمعات الخنازير أو كما قال.
(2/6)
مبشرات من التاريخ
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
هذه مبشرات من التاريخ، ففي أشد الظروف التي مرت بالأمة الإسلامية حيث تكون الأمة أحوج ما تكون إلى النصر يأتي نصر الله، قال تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].
فقد نصر الله المؤمنين يوم بدر، ونصرهم الله عز وجل يوم الأحزاب، وليس ذلك في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم بل انظر إلى الأيام التي أعز الله عز وجل فيها المسلمين ودك شأن الصليبين، وانظروا إلى سيف الله خالد بن الوليد في معركة نهر الدم، حيث كانت هذه المعركة بين المسلمين وبين جيوش الفرس، وكان عددهم 150000 ومعهم بعض نصارى العرب، وكان جيش خالد عدده 18000، فقال جابان قائد جيش الفرس: استعدوا للقاء خالد.
فمن عدم احتفالهم بسيدنا خالد نشروا البسط وأرادوا أن يأكلوا الطعام وهم يرون جيش خالد أمامهم، فأجبرهم خالد بخيوله على ترك الطعام حتى قال لهم قائدهم جابان: والله لكأنكم أعددتم الطعام لـ خالد.
واستمر فيهم القتل، ونزل خالد وقد كان عاهد الله إن منحه أكتاف القوم أن يجري النهر من دمائهم، ولما اقترب النصر صاح منادي خالد: الأسر الأسر، أي: لا تقتلوهم، وجعل يأتي بهم جماعات جماعات فيضرب أعناقهم على حافة النهر.
فأراد أن يبر بقسمه لله عز وجل، وقال له القعقاع بن عمرو التميمي: والله لو أنك قتلت أهل الأرض جميعاً ما وفيت بنذرك حتى تجري قليلاً من الماء في النهر؛ فتحمل المياه دماءهم حتى تبر بقسمك، ففعل خالد وتغير لون مياه النهر 20 يوماً.
ثم قال خالد بعد ذلك للمسلمين: اجلسوا للطعام.
وخطب سيدنا أبو بكر الصديق فقال: يا معشر قريش! عدا أسدكم على الأسد -أي: سيدنا خالد عدا على قوات الفرس- فغلبهم على خراجينه -أي: على اللحم الذي كانوا يأكلون منه-، عجزت النساء أن ينشئن مثل خالد.
وثاني معركة كانت بينه وبين صليبي العرب، واسمها: معركة عين التمر، وكان قائد قوات الصليبين عقة بن أبي عقة في وسط جيشه، وسيدنا خالد في وسط الجيش، ونظر خالد سيف الله عز وجل فقال: احموا مجلدتي بعشرة فرسان، أي: احموا ظهري بعشرة فرسان، ثم انطلق إلى جيشهم فمضى في صف الجيش المحارب ثم صاول عقة بن أبي عقة حتى اقتلعه عن فرسه وأمسك به ثم وضعه على فرسه، وانطلق به إلى جيش المسلمين وانتهت المعركة.
وفي معركة الفراض في 15 ذي القعدة سنة 12 هجرية كان أول مرة في التاريخ تجتمع فيها قوات الفرس وقوات الروم والصليبين وعددهم 150000، أما سيدنا خالد ومن معه فكان عددهم 38000، فقتل منهم سيدنا خالد 100000.
وبعث سيدنا أبو بكر إلى خالد أن يذهب إلى جبهة الروم بالشام، وقال: والله لأذهبن وساوس الروم بسيف خالد.
وكانت معركة اليرموك وفتح دمشق، وكانت في 15 رجب سنة 12 هجرية، وكانت جيوش المسلمين خمسة جيوش: جيش شرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، وأبي عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، وجيش خالد بن الوليد، فمكثوا أربعة أشهر كاملة لا يستطيعون فتح مدينة دمشق، حتى وصلت الأخبار إلى خالد الذي وصفه المؤرخون بأنه لا ينام ولا ينيم، أي: هو لا ينام والعدو الذي أمامه من شدة خوفه لا ينام، فعيونه ذكية، فبث مخابراته فقالوا له: إن نسطاس بن نسطور قائد الروم في دمشق قد ولد له مولود، وإنه سيوزع الخمر الليلة على جنود الحامية، فأعد خالد قرباً مليئة بالهواء ثم عبر عليها النهر سباحة حتى وصل إلى أسوار دمشق، وأعد سلالم من حبال الليف معلقة فيها خطاطيف في نهاية كل حبل، فجعلوا يلقونها على الأسوار فعلق حبلان، فصعد عليهما مذعور بن عدي العجلي، والقعقاع بن عمرو التميمي ومعهما بقية الحبال، فعلقاها فوق أسوار دمشق، ونادى خالد: إذا سمعتم تكبيرنا من فوق الأسوار فانهدوا إليهم، وطيلة الليل يقتل خالد في الروم حتى قالوا: افتحوا الباب لجيش أبي عبيدة حتى لا يفنينا خالد.
وكانت معركة اليرموك هي التي أنهت وجود الروم في بلاد الشام، وكان عدد الروم فيها 300000 مقاتل، وعليهم قائدهم ماهان أقوى قادة الروم، ومعه القيقلان وبندارق أخو هرقل، وكان جيش المسلمين 36000 مقاتل، فيهم 1000 صحابي، وفيهم 100 بدري.
وأرسل سيدنا أبو عبيدة لسيدنا عمر قال: إنه قد أتى المسلمين ما لا قبل لهم به إلا أن يمدهم الله بملائكة، فسيدنا خالد قال لـ أبي عبيدة: إن كنا نقاتلهم بالقوة والكثرة فوالله ما تغني قلتنا أمام الناس شيئاً، وإن كنا نقاتلهم بالله ولله فإن قواتهم لا تغني عنهم ولو ملئوا جيوش الأرض لنا، ثم قال البطل خالد: أتطيعني فيما آمرك؟ قال: نعم، قال: ولني ما وراء ذلك واتركني والقوم فإني أدعو الله أن ينصرني عليهم، وكان على جيش المسلمين في القلب أمين هذه الأمة أبو عبيدة، وعلى الميمنة أعلم الأمة بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وعلى الميسرة قباث بن أشيم بطل المسلمين وصنديدهم، وعلى الرجالة قاتل الأسود هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وعلى الخيل خالد بن الوليد، وبالتناوب مع أبي الأعور سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، حتى إن الروم كان كل 100 منهم يسلسلون بسلاسل، فقتل منهم 120000، منهم 80000 مسلسلين بالسلاسل، و40000 قتلوا في يوم المعركة، حتى إن القيقلان لما رأى ما حل بالروم من هزيمة منكرة قال: غطوا رأسي، فحز المسلمون رأسه وهو ملفوف.
وفي أيام الدولة الأموية كان مسلمة بن عبد الملك بن مروان الجرادة الصفراء أفضل أخوته، وكان الروم يفزعون منه إلى آخر بلادهم، وكان معه قائد من قواد المسلمين اسمه: أبو محمد عبد الله البطال، فبلغ الذعر بقوات الروم من هذا البطل المسلم ما روي أنه قال له عبد الملك بن مروان: ما أغرب ما حدث لك يا بطال؟ قال: توغلت في أرض الروم في ليلة بادية وإذا أنا بضوء خافت ينفذ من نافذة، وإذا بامرأة تريد أن تنيم ولدها فلا ينام، فتقول له: اسكت وإلا آتيك بـ البطال فأقول: خذه يا بطال، ومدت يدها نحو النافذة قال: فأخذت الصبي منها.
وفي أيام المستعصم الخليفة العباسي بلغ خوف الروم من قائد جيش اسمه ابن فتحون أن الرجل الرومي كان يسقي فرسه من الماء فإذا امتنعت عن الشرب يقول لها: اشربي وإلا رأيت ابن فتحون في الماء.
وفي معركة من معارك المسلمين اسمها: معركة ملاذكرد سنة 653 ميلادية كانت بين السلطان المسلم ألب أرسلان وجيشه كان 15000 مقاتل، وبين أرانوس الرابع قائد وإمبراطور الروم وجيشه كان 600000 مقاتل، حتى إن ألب أرسلان خاف استئصال شأفة الجيش المسلم فعرض المال -وهذا جائز- على أرانوس الرابع فلم يقبل.
فأتى السلطان وقال: أيها الأمراء! من أراد أن يرجع فليرجع، فلا أمير ولا سلطان عليكم بعد اليوم، وإني ماض إلى الجنة، فمن أراد أن يتبعني فليتبعني، فلبس الجيش كله الأكفان، وكان يسمى: جيش الأكفان، ثم كانت الدائرة في نهاية الأمر على الروم، وأخذ أميرهم وإمبراطورهم أسيراً، ونودي عليه: من يشتري الكلب؟ فنادى أحد جنود المسلمين: لا اشتري الكلب إلا بكلب.
فقراءة التاريخ الإسلامي وما حدث فيه من انتصارات للإسلام والمسلمين مما يذهب الإحباط واليأس عن النفوس.
(2/7)
فضائل الحج
اختص الله عز وجل عشر ذي الحجة بفضائل على غيرها، مما جعلها أفضل الأيام، والعمل فيها أفضل من سائر الأعمال، وفي هذه الأيام تقام شعيرة الإسلام وركنه العظيم، وهو الحج إلى بيت الله الحرام.
وقد رغب ديننا في الحج، وبين فضله ومناسكه؛ ليشمر أصحاب الهمم إلى رضوان الله.
(3/1)
بيان فضل عشر ذي الحجة
(3/2)
فضل عشر ذي الحجة على غيرها من الأيام
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل كفى خير من ما كثر وألهى، و {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد: اعلم يا أخي! أن الله اختار من الزمان شهوراً طيبة هي أفضل الزمان، وهي الأشهر الحرم، واختار من الأشهر الحرم أفضلها، وهو ذو الحجة، واختار من ذي الحجة أفضله، وهو العشر الأوائل منه، وأقسم الله تبارك وتعالى بهن، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم، قال تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2].
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة: الليالي العشر هي عشر ذي الحجة.
وهي الأيام المعلومات التي قال الله تبارك وتعالى فيهن: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28].
قال ابن عباس: هي عشر ذي الحجة.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأيام لها فضل في ذاتها، بخلاف فضل العمل فيها، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل أيام الدنيا أيام العشر).
قال صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إلى الله العمل فيهن من أيامكم هذه، فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير).
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام - يعني: أيام العشر - قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله؟! قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء).
فالعمل المفضول في هذه الأيام أفضل من العمل الفاضل في غير هذه الأيام، والعمل المفضول وهو الذكر أفضل من الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام.
فالذكر في هذه الأيام من تسبيح وتحميد وتهليل أفضل من الجهاد في سبيل الله، إلا من لون واحد من الجهاد، وهو رجل يخرج بنفسه وماله ثم لا يرجع من ذلك بشيء.
ولذلك كان راوي الحديث سعيد بن جبير يقوم هذه الأيام ويجتهد فيها اجتهاداً لا مزيد عليه، وكان يقول: لا تطفئوا سرجكم هذه الأيام، يعني: أحيوا هذه الأيام، ولا تطفئوا سرجكم فيها، فكانت تعجبه كثرة العبادة.
(3/3)
الأحاديث الواردة في صيام أيام العشر وطريق الجمع بينها
أما صوم هذه الأيام فورد فيه حديثان: الحديث الأول: حديث حفصة بنت عمر رضي الله عنها في مسند الإمام أحمد قالت: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع صيام عاشوراء وعشر ذي الحجة وثلاثة أيام من كل شهر).
وفي سند هذا الحديث اختلاف.
والحديث الثاني: حديث عائشة الذي رواه الإمام مسلم: (ما رأيت رسول الله صائماً العشر قط)، وفي رواية: (ما رأيت رسول الله صائماً في العشر قط).
وجمع العلماء بين الحديثين بجمعين: الجمع الأول: أن الحديثين خرجا مخرج الغالب، يعني: عندما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت رسول الله صائماً العشر قط) كانت تعني: ما أتم صيامهن.
وقول السيدة حفصة: (ما كان رسول الله يدع صيام عشر ذي الحجة) تعني: أنه كان يصوم أغلبهن.
والجمع الثاني: القاعدة: أن المثبت عنده زيادة علم على النافي، والمثبت هو حفصة رضي الله عنها، والنافي هو عائشة رضي الله عنها، فقد يوافق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصم في أيام عائشة وما رأته صائماً، ولكن أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها رأته صائماً في أيامها عندها.
فيكون الجمع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكمل صيام هذه الأيام وإنما صام أغلبها.
وإذا أراد أخ أن يكمل صيام هذه الأيام التسع فلا حرج عليه؛ فقد كان عبد الله بن عمر يصوم العشر، وهذا أيضاً خرج مخرج الغالب؛ لأن اليوم العاشر -وهو يوم العيد- يحرم صومه.
يعني: كان يصوم التسع بأكملهن.
وممن قال بهذا الحسن البصري وجمهور أهل العلم، فمن أكمل صيام هذه الأيام فلا حرج عليه، وله في ذلك سلف، وهو عبد الله بن عمر.
ومن لم يكملهن فهدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل وأنفع وأطيب، هذا بالنسبة للصيام.
(3/4)
حكم التكبير في عشر ذي الحجة
وأما بالنسبة للتكبير، وهل يشرع الجهر بالتكبير والتسبيح والتحميد؟ فقد اختلف فيه أهل العلم، فأنكره جماعة واستحبه الشافعي وأحمد، إلا أن الشافعي خص الجهر بالتكبير عند رؤية بهيمة الأنعام، واستحبه الإمام أحمد مطلقاً.
وروى الإمام الفريابي في كتاب العيدين: أن سعيد بن جبير ومجاهداً وعبد الرحمن بن أبي ليلى كانا يدخلان السوق في أيام العشر فيكبران فيكبر السوق بتكبيرهما، وأن عبد الله بن عمر وأبا هريرة كانا يدخلان السوق فيكبران لا يدخلان إلا لذلك.
فبين أهل العلم اختلاف في التكبير.
(3/5)
آداب عشر ذي الحجة
عن أم سلمة رضي الله عنها مرفوعاً: (من أراد منكم أن يضحي فإذا ظهر هلال ذي الحجة فلا يأخذ من شعره ولا من بشره)، وفي رواية: (ولا من أظافره شيئاً)، أي: يمسك عن قص الشعر من أراد أن يضحي، ولا يأخذ من شعره ولا من أظافره شيئاً.
وهذه أيام طيبة فيها يوم عرفة، وصيامه كفارة للسنة الماضية والمستقبلة، فصيامه يكفر سنتين.
وفي هذه الأيام يوم النحر، وهو أفضل أيام الدنيا عند الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأيام يوم النحر، ثم يوم القر)، وهي الأضحية، وهو علم وشريعة من شرائع الملة المحمدية الإبراهيمية، فيها ركن من أركان الإسلام العظيمة الحج.
(3/6)
فضل الحج
والملائكة تحج أفلا نحج نحن؟ وقد أقسم الله عز وجل بالبيت المعمور، وهو كعبة الملائكة في السماء، كما جاء في حديث الإسراء من حديث مالك بن صعصعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم رفع بي إلى البيت المعمور فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم)، أي: يدخله للصلاة فيه سبعون ألف ملك يومياً من يوم أن خلق الله السماوات والأرض لا يعودون إليه آخر ما عليهم.
وفي حديث خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه لما سئل عن البيت المعمور؟ قال: كعبة في السماء السابعة حيال الكعبة -يعني: فوق الكعبة- في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك.
قال ابن كثير: يطوفون حوله ويصلون نحوه، وفي كل سماء بيت يطوف حوله أهل هذه السماء من الملائكة، والذي في السماء الدنيا يسمى بيت العزة.
وأما الذي في السماء السابعة فهو البيت المعمور، ويعظم الملائكة البيت الذي في السماء في طوافهم حوله، أفلا يعظم أهل الأرض هذا البيت؟ والحسن بن علي ريحانة النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا حج خمساً وعشرين مرة ماشياً على قدميه، وإن النجائب لتقاد من حوله.
وأبو عثمان النهدي شيخ وقته حج واعتمر ستين مرة.
والأسود بن يزيد حج ثمانين مرة؛ فهذا من تعظيم العلماء والصالحين للحج وللعمرة.
(3/7)
موقف المبتدعة من الحج
(3/8)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 09:52   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي


القرامطة ينتهكون حرمة البيت الحرام وحجاجه
وأما غيرهم من الفجار والكفار فيصدون عن البيت الحرام، فقوم من غلاة الشيعة القرامطة الذين كانوا يسكنون في جنوب الجزيرة العربية وفي البحرين بالذات؟ كان فيهم رجل يسمى أبو سعيد الجنابي، وفي سنة ثلاثمائة وسبعة هجرية قتل هذا الفاجر اللعين من الحجاج ثلاثة عشر ألفاً، وقلع الركن في يوم النحر، وقتل في المسجد الحرام ألفاً وسبعمائة رجل وامرأة وهم متعلقون بأستار الكعبة، وردم بهم زمزم.
وقتل من أهل خراسان والمغاربة ثلاثين ألفاً، وسبى مثلهم من الأطفال والنساء، واقتلع الحجر الأسود من مكانه في الكعبة وذهب به إلى البحرين، وظل عنده حتى سنة ثلاثمائة وتسع ثلاثين هجرية حتى أعاده الخليفة العباسي مرة أخرى.
وهذا اللعين كان يقول: خذي الدف يا هذه والعبي وغني هزاريك ثم اطربي تولى نبي بني هاشم وهذا زمان بني يعرب لكل نبي مضى شرعة وهذي شريعة هذا النبي فقد حط عنا فروض الصلاة وحط الصيام ولم يتعب إلى آخر المحرمات التي أباحها هذا الفاجر، فكان جزاؤه أن امرأة ألقت عليه بقالب من الطوب وهو يخطب في البحرين فمات قتيلاً، وقتيل النساء شر قتيل، لأن الرجل الذي تقتله امرأة رجل لئيم.
(3/9)
بيان ضلال الحلاج وصده عن الحج والصيام والقرآن
وممن يصدون أيضاً عن البيت أصحاب التصوف الفلسفي، فـ الحلاج وهو شخصية صوفية كفرها أهل العلم وكان يقول في كتابه التواصيل: ألا أبلغ أحبائي بأني ركبت البحر وانكسرت سفينه على دين الصليب يكون موتي فلا البطحا أريد ولا المدينه وهو رائد الحج بالهمة، فكان هذا الرجل يقول كما ذكر الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية في المجلد الحادي عشر: من أراد الحج ولم يتيسر له فليبن في داره بيتاً لا يناله شيء من النجاسة ولا يمكن أحداً من دخوله، فإذا كان في أيام الحج فليصم ثلاثة أيام وليطف به -يعني: ببيته هذا حتى وإن كان في مصر مثلاً- كما يطاف بالكعبة، ثم يفعل في داره ما يفعل الحجيج بمكة، ثم يستدعي ثلاثين يتيماً فيطعمهم من طعامه ويتولى خدمتهم بنفسه، ثم يكسوهم قميصاً قميصاً، ويعطي كلاً منهم سبعة دراهم، أو قال: ثلاثة دراهم، فإذا فعل ذلك قام له مقام الحج.
أي: يسقط عنه فرض الحج، كما قال الحلاج.
ويقول عن النيابة في صيام رمضان: وصيام رمضان ينوب عنه -وهذا نقل الحافظ ابن كثير عنه- أن يصوم الرجل ثلاثة أيام، يفطر بعدها في اليوم الرابع على ورق الشجر.
أي: فيصبح هذا كمن صام رمضان.
وأما القرآن فإن تلامذته يقولون: إن الحلاج يستطيع أن يؤلف مثله.
(3/10)
من ضلال الصوفية في الحج
ونسب فريق الدين العطار مؤرخ الصوفية هذا إلى رابعة العدوية، وهي من هذا بريئة، فجمهور أهل العلم على توثيقها، وأنها كانت عابدة تقية.
ونسبوا إليها أنها قالت عن الكعبة: ذلك الصنم المعبود في الأرض ما ولجه الله ولا دخله.
وبرأها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه مجموع الرسائل، بل منهم من يقول كما يحكي الشيخ عبد الرحمن الوكيل: إنهم لا يذهبون للطواف حول الكعبة؛ لأن الكعبة تأتي إليهم وتطوف حولهم.
وينسبون إلى التقي الورع الإمام الزاهد العابد إبراهيم بن أدهم أنه حج إلى الكعبة أربعين سنة ماشياً من كثرة عبادته.
يعني: أنه خرج من بيته ولم يصل إلى الكعبة إلا بعد أربعين سنة، فلما كان عند الكعبة اختفت الكعبة عن إبراهيم، فقال: يا رب! صرت أعمى حتى لا أرى الكعبة أم ماذا؟ فسمع هاتفاً يقول له: يا إبراهيم! ما أنت بأعمى، ولكن الكعبة قد تحولت للقاء رابعة.
وهذا الكلام خرافات ودجل، وإبراهيم بن أدهم التقي الورع من ذلك بريء.
(3/11)
ضلال البهائية والقاديانية في الحج
وأيضاً البهائية أسقطوا الحج عن النساء وقالوا: بأن الحج واجب على الرجال فقط، وهم لا يعرفون شعائر الحج وقالوا: الحج إلى بيتين: إما إلى بيت البهاء، وهو الذي ادعى الألوهية في بغداد، أو إلى بيت علي محمد الشيرازي في شيراز.
والبيتان ليست موجودين في هذا الوقت؛ لأن الحكومة العراقية هدت البيت الأول، والإيرانية هدت البيت الثاني، وانتهى هذا الدجل.
وأما أحمد القادياني عميل الإنجليز فقال عن مسجد القاديان في أقصى أغوار الهند: ومن دخله كان آمناً.
وقال: الحج هو حضور المؤتمر السنوي لجماعة القاديان.
فهذا هو الحج عند القاديانية.
(3/12)
ضلال الشيعة في الحج
وأما الإثنا عشرية من الشيعة الذين هم سكان إيران فعندهم أن كربلاء أفضل من مكة، بل وأفضل من السماوات السبع، حتى قال قائلهم: هي الطفوف فطف سبعاً بمغناها فما لمكة معنى مثل معناها أرض ولكنما السبع الطباق لها دانت وطأطأ أعلاها لأدناها فقوله: السبع الطباق لها دانت يعني: خضعت وذلت.
وقوله: وطأطأ أعلاها يعني: أعلى السماوات السبع.
وقوله: لأدناها يعني: لأقل مكان في كربلاء.
ومعنى قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة:97] كما قال الحسن البصري: يظل الدين قائماً ما حج إلى هذا البيت، ويظل الناس على ديانة ما حجوا البيت، ويظل حجيج البيت يتوافدون عليه حتى يهدم الكعبة ذو السويقتين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه أنه (من الحبشة، كأني أنظر إليه أسود أفيدع، بعيد ما بين ساقيه، ينقضها حجراً حجراً).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى لا يحج إلى هذا البيت).
وأما من قال من أمريكا وندب قومه من الكافرين إلى هدم الكعبة، فنقول له: اخسأ فلن تعدو قدرك.
نقول له: إذا كان القضاء إلى ابن آوى فتعديل الشهود إلى القرود أي: إن كان لا يحكم إلا ابن آوى فيأتي له بشهود من القرود.
(3/13)
الحث على التعجل بالحج
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أراد الحج فليتعجل).
وقال صلى الله عليه وسلم: (تعجلوا إلى الحج؛ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة).
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار ينظرون كل من كانت له جدة -أي: عنده مال- ولم يحج فيضربوا عليه الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين.
يعني: إن استحلوا ترك الحج.
فهذا فهم العلماء في قول سيدنا عمر.
وعن أبي أمامة فيما حسنه الشوكاني قال: من لم تمنعه حاجة ظاهرة أو سلطان جائر فلم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً.
وهذا في من استحل ترك الحج وكانت عنده المقدرة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (استمتعوا من هذا البيت؛ فإنه قد هدم مرتين ويرفع في الثالثة).
(3/14)
فضل الحج والعمرة
(3/15)
الحج والعمرة سبب لتكفير السيئات
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) يعني: هذا غفران لكل الذنوب الصغائر والكبائر، كما قال الحافظ ابن حجر.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج يهدم ما قبله).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).
والحج المبرور هو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بر الحج إطعام الطعام ولين الكلام).
وقال صلى الله عليه وسلم: (أديموا الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد).
فإذا قال شخص: إذا واصلت بين الحج والعمرة فإنه يأتي على كل ما عندي من مال، قلنا له: يكتب الله لك الغنى، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، فإذا قال: كيف هذا وأموالي كلها تصرف في الحج والعمرة؟ قلنا له: هذا قول النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم.
(3/16)
الحج عبادة تصلح العقل وتهدي إلى التفكير الصحيح
وأعظم فائدة في الحج أنه يحجم العقل، ويضعه في الموضع الذي أراده الله عز وجل له، فعندما تأتي بكل شعائر الحج من رمي الجمرات والطواف حول البيت وتقبيل الحجر فإنك تشعر بالروحانية، فالحج كله روحانية من أوله إلى آخره، وتعظيم للاتباع.
من أنت يا أرسطو! ومن أفلاط قبلك يا مبلد ومن ابن سيناء حين قرر ما بنيت له وشيد هل أنتمو إلا الفراش وقد رأى ناراً توهج فدنا فأحرق نفسه ولو اهتدى رشداً لأبعد فلتخسأ الحكماء عن رب له الأفلاك تسجد فلا يأتي أحد يقول لك: إن مواسم الحج زحمة، فلو كان الحج طول السنة! يعني: ممكن أن يحج ناس في رمضان وناس في شوال وناس في شهر آخر، وهكذا على مدى اثني عشر شهراً، فقل له: إن هذا مما لا تهتدي عقول الناس إليه.
(3/17)
المفاضلة بين الحج والجهاد
والحج لون من ألوان الجهاد وهو أحد نوعي الجهاد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله) وثم هنا للترتيب، يعني: الإيمان ثم الجهاد.
(قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور).
وقال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأعمال الإيمان بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حجة برة تفضل سائر الأعمال كما بين المشرق والمغرب).
فالإيمان يأتي الجهاد بعده مباشرة ثم الحج، أي: أن فرض الكفاية أفضل من الحج الذي هو فرض عين على القادر، ففصل العلماء هذا الحديث وقالوا: كان هذا الحديث قبل فرض الحج؛ لأن فرض الحج تأخر.
هذا قول.
والقول الثاني: أن جنس الجهاد أفضل من جنس الحج؛ لأنه نفع متعد للأمة، أما نفع الحج فقاصر على صاحبه، قالوا: فإذا تساوى الجهاد والحج -يعني: صار كل منهما فرض كفاية، وهذا إذا كان قد حج حجة الإسلام ثم عرض له أن يحج أو يجاهد، فيجاهد ولا يحج.
أي أنه إذا استوى الجهاد والحج يقدم الجهاد؛ لأنه نفع متعد، ولذا قالوا: حجة قبل غزوة أفضل من عشر غزوات، وغزوة بعد حجة أفضل من عشر حجات.
(3/18)
بيان أن جهاد النساء والضعفاء والكبار هو الحج
وقال سيدنا عمر رضي الله عنه: (قال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: لكن أفضل الجهاد حج مبرور).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (جهادكن الحج).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الحج جهادكِ).
وقال صلى الله عليه وسلم: (جهاد الكبير والضعيف والمرأة الحج).
وروى الإمام الحسين بن علي رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله! إني ضعيف وإني جبان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أدلك على جهاد لا شوكة فيه؟ الحج).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (النفقة في الحج تعدل النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا وضعتم السروج -يعني: إذا جئتم من الجهاد- فشدوا الرحال إلى الحج؛ فإنه أحد الجهادين.
وقال ابن مسعود: إنما هو كد ورحل، فالكد: الجهاد في سبيل الله، والرحل: الحج.
ولذلك كان أمير المؤمنين هارون الرشيد يغزو عاماً ويحج عاماً، وفيه يقول القائل: فمن يطلب لقاءك أو يرده ففي الحرمين أو أقصى الثغور
(3/19)
الحجيج وفد الله وضيفانه
وقال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي الذي صححه الشيخ الألباني: (إن عبداً صححت له جسمه ووسعت عليه في المعيشة يمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي إنه لمحروم).
فالحج رحلة إلى الله عز وجل، ولذا يقول في الحديث: (ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله، ورجل خرج غازياً في سبيل الله، ورجل خرج حاجاً).
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجاج والعمار أنهم وفد الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (الغازي في سبيل الله عز وجل والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم).
وفي رواية: (الحجاج والعمار وفد الله دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم).
(3/20)
الحج إجابة لأذان إبراهيم عليه السلام
وقال الله عز وجل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] قال ابن عباس: ما أسفت على شيء أسفي على أني لم أحج ماشياً، حج إبراهيم خليل الرحمن وإسماعيل ماشيين.
روى يحيى بن معين بسند حسنه الحافظ ابن حجر قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال له الله عز وجل: أذن، قال: وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي البلاغ، فقال: يا أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فسمعه ما بين السماء والأرض.
وقال مجاهد: فمن حج اليوم إلى يوم القيامة فهو ممن أجاب إبراهيم وقال: لبيك اللهم لبيك.
وقال ابن جرير: سمعه من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فهو مثل يوم الميثاق.
وعالم الغيب لا دخل للعقل فيه إلا التسليم، ولو أنك أتيت بميزان حساس وأردت أن تزن به جبلاً من الجبال لسفه الناس عقلك؛ لأن هذا الميزان الحساس صنع لتوزن به الجواهر الثمينة النادرة، لا أن تضع عليه جبلاً، فأنت أساساً وضعت هذا الجهاز في غير موضعه، فكذلك ما ورد أنه سمع إبراهيم من أصلاب الرجال وأرحام النساء، يصدقها صاحب العقل الحساس الذي يؤمن بالغيب.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما كان يوم الحديبية نحر مائة من الإبل، وكان فيها جمل لـ أبي جهل، ولما صدت الإبل عن البيت وأرجعتها كفار قريش حنت الإبل إلى البيت كما تحن إلى أولادها.
فهاهي الإبل العجماوات تحن إلى البيت الذي بناه خليل الرحمن وفيه أثر من آثار الجنة.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ترفع إبل الحاج رجلاً ولا تضع يداً إلا كتب الله له بها حسنة ومحا عنه سيئة ورفعه بها درجة).
(3/21)
التلبية في الحج
(3/22)
ألفاظ التلبية وكيفيتها
وبداية الحج في الميقات بعد لبس الإحرام فيلبي بقوله: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
أو: لبيك لبيك، لبيك إله الحق لبيك، لبيك وسعديك والرغباء إليك والعمل، لبيك إنما العيش عيش الآخرة، لبيك ذا المعالي، لبيك ذا الفواضل، لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أمرني جبريل أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية عند الإهلال؛ فإنها من شعائر الحج).
وقال أبو حازم فيما رواه عنه أبو بكر بن أبي شيبة بسند صحيح: إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم بها بحاً.
ولبى ابن عمر فأسمع ما بين جبلين.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كأني أنظر إلى نبي الله موسى واضعاً إصبعيه في أذنيه له جؤار إلى الله بالتلبية).
(3/23)
فضل التلبية
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الحج العج والثج).
والعج: رفع الصوت بالتلبية.
والثج: نحر الهدي.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أهل مهل قط ولا كبر مكبر قط إلا وبشر، قيل: بماذا؟ قال: بالجنة، تبشره بها الملائكة).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن التلبية: (ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا ومن هاهنا)، أي: على آخر صوتك، والصوت القوي يشهد له الحجر والشجر والمدر، والأحجار تلبي، ودعك من العقل، وحجمه قليلاً، فالأحجار تلبي، والأشجار تلبي، والطين يلبي، وأنت تلبي من الميقات حتى رمي جمرة العقبة، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أصواتهم بالتلبية.
لبيك لبيك دب الركب وانطلقت جموعه والنشيد العذب يدفعه أصداؤه في هضاب الأرض صاخبة والبيد في رحبها نشوى ترجعه وفي الجوانح من وجد ومن ولَهٍ ما جاشت النفس حتى طاب مطلعه ما الصبح ما رقة الأنداء ضاحكة ما الزهر في الروض أزكاه وأضوعه أنقى وأجمل من ترداد تلبية يشدو بها محرم والكون يسمعه أما والذي حج المحبون بيته ولبوا له عند المهل وأحرموا وقد كشفوا تلك الرءوس تواضعاً لعزة من تعنو الوجوه وتسلم يهلون بالبيداء لبيك ربنا لك الملك والحمد الذي أنت تعلم تراهم على الأنبار شعثاً رءوسهم وغبراً وهم فيها أسر وأنعم
(3/24)
معنى التلبية
والتلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، في معناها أقوال جميلة لأهل العلم: القول الأول: أنها من لبى ثم لبى، يعني: إجابة بعد إجابة، أي: أنا مجيب لك مرة بعد مرة.
وقل للمنادي حبهم ورضاهم إذا ما دعا لبيك ألفاً كواملا والقول الثاني: من لبى الرجل في المكان وألب إذا قام فيه ولم يبرح، يعني: أنا مقيم على طاعتك يا رب.
القول الثالث: من قولهم: امرأة لبة، أي: امرأة محبة لزوجها وأولادها، يعني: أنا محب لك.
القول الرابع: من قولهم: بابي تلب بابك، يعني: بابي تجاه بابك، يعني: قصدي واتجاهي إليك يا رب.
القول الخامس: من اللب، واللب هو: صافي الشيء، أي: إخلاصي لك يا رب.
وكل هذه من معاني التلبية، وأنت تلبي حتى تصل إلى البيت: أبطحاء مكة هذا الذي أراه عياناً وهذا أنا ومهما فعلت فلابد أن تنساب هناك الدموع: هذه دارهم وأنت محب ما بقاء الدموع في الآماق على كل أفق بالحجاز ملائك تزف تحايا الله والبركات لدى الباب جبريل الأمين براحه رسائل رحمانية النفحات وزمزم تجري بين عينيك أعيناً من الكوثر المعسول منفجرات لك الدين يا رب الحجيج جمعتهم لبيت كريم الساح والعرصات نسير بأرض أخرجت خير أمة وتحت ظلال الوحي والسورات وكأن السماوات كلها وحي هنا السماوات تبدو قرب طالبها هنا الرحاب فضاء حين تلتمس هنا النبوة تحيا في أماكنها لا الطيب يبلى ولا الأصداء تندرس هنا الصحابة من حول النبي هنا أبو هريرة يروي عنه أو أنس
(3/25)
فضل مكة والبيت الحرام
(3/26)
بيان كون مكة أحب أرض الله إلى الله وأنه حرمها يوم خلق السماوات والأرض
وهذه البلدة الطيبة أحب أرض الله إلى الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أطيبكِ من بلدة وأحبك إلي، وإني لأعلم أنكِ أحب بلاد الله إلي وأكرمه على الله).
ومكة حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وما أحلت لنبي قبل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تحل لنبينا إلا ساعة من نهار، ثم عادت حراماً بحرمة الله إلى يوم القيامة.
أوصى بها الرحمن فهي عظيمة من غيرها الرحمن قد أوصى بها لو لم تكن خير البلاد على الثرى ما كان بيت الله فوق ترابها ولما اصطفاها الله قبلة خلقه ولما سعى الساعون نحو ركابها ولما اصطفى خير البرية مرسلاً بالحق والتوحيد من أعطابها النسك والإيمان من أفيائها والعدل والإحسان من أوصابها فكأنها صوت الزمان وثغره وكأن زمزمها زلال رضابها سجيلها باق على أعدائها وعلى حقول الحق قطر سحابها هي قلب هذي الأرض مقلة وجهها والباقيات علقن في أهدابها فسل الصفا ومنى وكل سرية عن أشرف الماشين فوق ترابها حدت لها قبل الأنام سماؤها بحديد سجيل على سلابها من هاهنا مر الأمين ومن هنا أسرى وفاض العدل من خطابها ما زال يخترق الفضاء دلالها هرم الزمان ولم تزل بشبابها جمع الزمان جميعه فإذا به يجثو خشوع القلب في محرابها فاغسل فؤادك يا شهيد بمائها إن شح ماء فاغتسل بترابها
(3/27)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 09:52   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي


بناء البيت
قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96]، أي: نزلت به الملائكة وبنته الملائكة.
وقال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج:26]، أي: عرفناه مكان البيت.
{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] والبيت بنته الملائكة أولاً، ثم بناه آدم ثانياً، فخليل الرحمن إبراهيم، فجرهم وقريش، وكل هؤلاء لم يبنوه بالطوب والإسمنت، وإنما كان بيتاً في وسط صحراء تهب عليه الرياح والأعاصير ويظل كما هو، ورسمه كما هو، يحتاج فقط إلى مجرد ترميم.
وهذا من الإعجاز في أن يظل هذا البيت كما هو، ولا يحتاج إلا إلى ترميم فقط.
قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127] وهذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل.
(3/28)
فضل الحجر الأسود والركن والمقام
وفيه أسرار عجيبة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحجر الأسود من حجارة الجنة).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الحجر الأسود من الجنة).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نزل الحجر الأسود من الجنة أشد بياضاً من الثلج فسودته خطايا بني آدم).
وقال ابن عباس في الحديث المرفوع: (نزل الحجر الأسود من الجنة أشد بياضاً من اللبن فسودته خطايا بني آدم).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا ما مسه من أدران الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا وشفي).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الركن والمقام ياقوتتان من الجنة طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب).
وهذه أسرار من أسرار الجنة، يعني: أن من الجنة ما هو موجود هنا، وهو الحجر الأسود والركن والمقام، وكل هذه الأحاديث صحيحة صححها الشيخ الألباني.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليبعثن الله عز وجل هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما وشفتان ولسان ينطق به يشهد على كل من استلمه بحق).
ففتش قلبك عند لمسك للحجر أهو كاذب أو صادق حتى يشهد عليك الحجر أو لك.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مسح الحجر الأسود والركن يحطان الذنوب حطاً).
وهذا الحجر أتت به الملائكة لما ذهب سيدنا إسماعيل عليه السلام ليأتي بحجر من الوادي فوجد أباه قد رفع الحجر فقال: من الذي أتى به إليك؟ قال: أتى به من لم يحوجني إليك، نزل به جبريل وسيدنا إبراهيم عليه السلام في مكانه.
(3/29)
فضل الطواف وزمزم والسعي بين الصفا والمروة
والطواف بالبيت صلاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الطواف بالبيت صلاة إلا أنه قد شرع فيه النطق، فأقلوا فيه الكلام).
ولا يشرع الطواف بغير الكعبة فلا يأتي أحد يقول لك: أنا أطوف حول أضرحة الأولياء، وهذا مثل تنظيم حركة المرور بل قل له: اتق الله عز وجل، فإنه لا يشرع الطواف بغير الكعبة.
(ما من رجل يطوف بالبيت أسبوعاً إلا كان كعتق رقبة).
ومن السنة الشرب من زمزم، وتسمى: هزة جبريل، وزمازم، وزمزم، وهي أفضل من ماء السماء كما قال ابن حجر، وزمزم فجرها جبريل لأم إسماعيل الصادقة.
من أركان الحج: السعي بين الصفا والمروة، لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158].
وقد جاء في سبب نزول هذه الآية قولان: الأول: أن الأنصار من الأوس والخزرج كانوا يهلون لمناة عند المشلل، وهي قرية ما بين مكة والمدينة، ولا يأتون إلى الصفا والمروة.
والقول الثاني: أنهم كانوا قد وضعوا صنماً عند الصفا ويسمى إسافاً، وصنماً عند المروة ويسمى نائلة، وكانوا يحرمون بينهما فتحرجوا من الطواف بينهما كما يفعل أهل الجاهلية، فنزل قول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158].
(3/30)
فضل أم إسماعيل
وانظر إلى الصدق وماذا يفعل، المرأة الصادقة أم إسماعيل: (هذا ما أورثتكموه أمكم أم إسماعيل)، يعني: أن السعي بين الصفا والمروة إرث جعله الله ركناً من أركان الحج، أي: خطوات امرأة صادقة صالحة جعلها الله ركناً من أركان الحج, وانظروا تعظيم الإسلام العظيم للمرأة، وهي -والله العظيم- امرأة مصرية، أتى بها إبراهيم عليه السلام من مصر.
وقد ضربت أروع الأمثال في التضحية، يأتي بها إبراهيم عليه السلام إلى موضع مكة الآن بولدها الرضيع، فتقول له: يا إبراهيم! إلى من تتركنا في مثل هذا المكان القفر؟ يا إبراهيم! آلله أمرك بهذا؟ فيقول: بلى.
فتقول: إذاً فلن يضيعنا.
ولم يكن شيء معها من طعام أو شراب غير جراب من التمر وقليل من الماء الذي سينفد بعد قليل، وهي يمكنها أن تتحمل، وأما الولد فلا، ومع هذا تقول: إذاً فلن يضيعنا الله! إذا ضاقت بك الظروف واشتد عليك النوائب فإن كنت عبداً لله عز وجل وعلى دينه فلن يضيعك ولو في المهلكات، بل يحفظك مثلما حفظ يونس وهو في بطن الحوت، ومثلما حفظ موسى الرضيع وهو على ثبج البحر، ومثلما حفظ إبراهيم وسط النيران.
فاجعل هذه قاعدة عندك: إذاً فلن يضيعنا.
(3/31)
تفجير جبريل لزمزم
وجعلت أم إسماعيل لما تلمظ وليدها وبدأ يتلوى من شدة العطش تهرول ما بين الصفا والمروة، ثم سمعت صوتاً فقالت: صه، أغث إن كان عندك غوث، فتبدى لها جبريل وقال: من أنتِ.
وهذا اختبار لها فقالت: أنا أم إسماعيل وزوج إبراهيم.
فقال: إلى من وكلكما؟ -ولو كانت واحدة غيرها وعندها طعام وشراب يكفيانها سنة لقالت: لا أعرف- فقالت: إلى الله.
فقال لها: وكلكما إلى خير كاف، لا تخشي الضيعة، إن الله لا يضيع أهله.
ويزعم أنه منا قريب وأنا لا نضيع من أتانا ويسألنا على الإقتار جوداً كأنا لا نراه ولا يرانا فضرب جبريل الأرض بجناحه تتفجر زمزم، وتنبع في صحراء الجدب ويعيش عليها إسماعيل ويرتوي من مائها، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هذه أمكم يا بني ماء السماء)؛ لأن غذاء إسماعيل عليه السلام كله كان على الماء.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (زمزم طعام طعم وشفاء سقم).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم).
ولذلك لما شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم وأتت الملائكة بطست من ذهب الجنة غسلوه بماء زمزم، ولهذا ذهب شيخ الإسلام البلقيني إلى أن ماء زمزم أفضل من الكوثر.
(3/32)
الوقوف بعرفة
ثم بعد ذلك الوقوف بعرفة، وما أدراك ما عرفة، وقد أقسم الله بهذا اليوم فقال: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:3] والوتر: يوم عرفة، والشفع: يوم النحر.
وعرفة كلها موقف.
وفيها أكمل الله عز وجل هذا الدين، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
وفيها أخذ الله الميثاق على البرية من ذرية آدم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة، وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلاً: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]).
فأخذ الله عز وجل الميثاق الأول على ذرية آدم أنه ربهم وأن يوحدوه، قال ابن الجوزي: ووضع هذا الميثاق في الحجر الأسود.
هذا كلام الإمام ابن الجوزي في لطائف المعارف.
والله عز وجل يباهي الملائكة وأهل السماء بأهل عرفة عشية عرفة ويقول: (عبادي أتوني شعثاً غبراً، أشهدكم أني قد غفرت لكم).
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الحاج الشعث التفل)، أي: على قدر نصبك في الحج وتعبك فيه يكون عظم الأجر، لا أن تنزل في الفندق السياحي وتدفع ثلاثين ألفاً وتأكل لحماً وكباباً وغيرهما، صحيح أن هذا يسقط عنك فرض الحج، ولكن عظم أجر الحج في النصب والتعب.
كما يقول تعالى في الحديث القدسي: (عبادي أتوني شعثاً غبراً، أشهدكم أني قد غفرت لهم).
(3/33)
من خصائص أمة الإسلام
لقد خص الله عز وجل هذه الأمة بخصائص لم تكن للأمم السابقة قبلها؛ تكرمة لهذه الأمة، ولنبيها محمد صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وزيادة في فضل الأمة، وهذه الخصائص شاملة للدنيا والآخرة؛ ليكتمل لها الشرف الأمثل، والمكانة العليا عند الله عز وجل وجميع خلقه.
(4/1)
بقاء الخير في هذه الأمة
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، إن ما توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: هذه الأمة العظيمة -أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم- لها من الخصائص ما يجعل ريح الإيمان تهب عليها دائماً، وربيع القلوب والأرواح يروحها أبداً، فتأتي منها الأعاجيب في دنيا الواقع، خليتها لا تزال تعسب، وشجرتها لا تزال تثمر، ولن تستطيع أمة أن تقوم مقامها، أو أن تؤدي دورها، فشرارة الحياة والطموح كامنة أبداً في رمادها، فلا يزال فيها رجال تتجافى جنوبهم عن المضاجع، وتسيل دموعهم على خدودهم سحراً، وعند هذه الأمة اليد البيضاء التي تشرق لها الظلمات، ويضيء لها العالم، وقوارع هذا العصر وهزئه سيقض مضجعها ويوقظها، ويوجهها إلى شريعة رسولها صلى الله عليه وسلم.
وقد يقول قائل: دعني من قولك، وقل لي: أين هذه الأمة وواقعها في الحضيض؟ فأقول: عروس جللت بثياب حزن وطاف بها على الشارين عبد مراكبها تسير في بحار ولا هدف على الشطآن يبدو أين هذه الأمة؟ قد يقول قائل: لقد ماتت! فصِحْ على القبر هذه أمة رحلت لم يبق من ذكرها شأن ولا أثر نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقصر وليمون يافا يابس في حقوله وهل شجر في قبضة الظلم يثمر رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر يرافقنا في اليوم بليون كافر ففي الشرق هولاكو وفي الغرب قيصر حصانك في سيناء يشرب دمعه وجندك في حطين صلوا وكبروا وتبكيك من شوق مآذن مكة وتبكيك بدرٌ يا حبيبي وخيبر وتأبى جراحي أن تضم شفاهها كأن جراح الحب لا تتخثر هذه الأمة أمة عظيمة رغم الوحل الذي تعيش فيه، ورغم واقعها المر، إلا أننا نقول للناس: لا تهيئ كفني يا عاذلي فأنا لي مع الفجر مواثيق وعهد إنا في ضمير الكون محفور محيانا وإن نشيدنا يسري ضياء الشمس نشوانا وما علموا بأن شهادة التوحيد في الأكوان قدسية وأن رطوبة التوحيد في فمنا مؤيدة بنصر الله محمية فتعال إلى خصائص هذه الأمة، ومتى علمت هذه الخصائص فقم من سباتك ونومك وغفلتك وادع الله عز وجل أن يوقظ النائمين.
(4/2)
خيرية الأمة المحمدية ووسطيتها
هذه الأمة خير الأمم وأكرمها على الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110].
(كنتم) أي: في علم الله السابق المكتوب في اللوح المحفوظ قبل إيجاد الخلائق، وقبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما جاء في حديث رسولنا صلى الله عليه وسلم، أن هذه الأمة التي ستخرج من وراء الستار السرمدي، والغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل؛ أنها خير الأمم.
وقال ابن الأنباري: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] يعني: أنتم خير أمة أخرجت للناس، مثلما يقول الله عز وجل: {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النور:20] يعني كان وما زال.
عن بهز بن حكم عن أبيه عن جده قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل).
وفي رواية: (وأفضلها).
قال الإمام المناوي: يظهر هذا الإكرام في أعمال هذه الأمة، وفي أخلاقها وتوحيدها، ومنازل أهلها في الجنة، ومقامهم في الموقف، ووقوفهم على تل يشرفون به على الخلائق يوم القيامة، هذه الأمة العظيمة لها دور خاص في التاريخ، ومقام خاص، وحساب خاص.
فينبغي أن تدرك الأمة جيداً، أن لها القيادة والريادة في التاريخ، وأنها لم تأت على هامش التاريخ، بل لها القيادة والريادة، وهذا الموقع يحتم عليها أن يكون عندها ما تعطيه للناس، فهذا المكان وهذا القدر لا يعطى للناس اعتباطاً، لكن له تبعاته.
وهذه الأمة أمة وسط، قال الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
والوسط: هو الأفضل، قال الله تبارك وتعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28] أي: قال خيرهم أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ.
الأمة الوسط وسط في كل معاني الوسط، سواء معنى الحسنى والفضل، أو معنى الاعتدال والقصد، فهي أمة وسط في التصور والاعتقاد بين رهبانية النصارى والغلو الروحي، وبين ارتكاس اليهود المادي.
أمة وسط في التفكير والشعور، لا تتبع كل ناعق، ولا تقلد تقليد القردة المضحك.
أمة وسط في التنظيم والتنسيق، لا تدع الحياة كلها للمشاعر والضمائر، ولا تدعها كلها أيضاً للتشريع والتأديب.
أمة وسط لا تهمل شخصية الفرد، ولا تجعله جشعاً أثراً، لا هم له إلا ذاته حتى ولو ضاع المجتمع.
أمة وسط في المكان والزمان، في الزمان بين عهد طفولة البشرية من قبلها وبين عهد النضوج العقلي، تحرص على هذا النضوج، وتوجهه مثلما أراد الله عز وجل.
(4/3)
شهادة أمة الإسلام على الأمم السابقة
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
هذه الأمة تشهد للأنبياء يوم القيامة بتبليغ الرسالات، وليست هذه الخصيصة إلا لهذه الأمة.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجيء نوح وأمته فيقول الله هل بلغت؟ يقول: نعم أي رب، فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبي، أو ما جاءنا من نذير، فيقول الله تبارك وتعالى لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، وهو قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143].
قال النبي: والوسط العدل، فيدعون فيشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم).
هذا ليس خاصاً بنوح فقط، بل بكل الأمم، كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني، كانوا شهداء على قوم نوح، وقوم هود، وقوم شعيب وغيرهم أن رسلهم قد بلغتهم، وأنهم كذبوا رسلهم.
هذه الأمة مجتباة مصطفاة: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].
اجتباها الله عز وجل واصطفاها، وفلسطين ما ضاعت منذ وقت قريب، بل ضاعت من زمان بعيد جداً، من أيام الدولة الفاطمية، عندما كانوا حاكمين على مصر، وسلموا فلسطين للصليبيين، ولم يدافعوا عنها أبداً.
ضاعت من قبل أيام نايف حواتمه، ومنظمات التحرير العلمانية وغيرها، لما كان الإخوة الملتزمون في منظمة الفتح يقفون لأجل أن يصلوا الفجر أو غيره، أما نايف حواتمه فكانت كلمة السر عنده سب دين الله عز وجل، وهذا الكلام قاله الدكتور عبد الله عزام عليه رحمة الله، وكان يقول: إن تسل عن عنصري عن نسبي أنا مركسي لينيني أممي ضاعت فلسطين وكان ياسر أبو عمار يحني رأسه أمام أرنستو جيفارا ويقول: أنت مرشدنا وإمامنا؛ ولذلك حتى محمود درويش الشيوعي، وهو المستشار الثقافي الأسبق لـ ياسر عرفات، لما ذهبوا إلى اتفاقية أوسلو قدم له استقالة مسببة، وكتب فيها: للحقيقة وجهان، ولون الثلج أسود، ثم قال له: لم تقاتل لأنك تخشى الشهادة؟! هذه الأمة مجتباة مصطفاة، أمة وارثة لعقائد الأنبياء، أمة أصلها عريق ضارب في أعماق الزمن، موصول الماضي بالحاضر بالمستقبل، قال الله عز وجل: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136].
أمة وارثة لتراث الأنبياء، تراث العقيدة من قبلها، أمة لا تجتمع على ضلالة، قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي: عدولاً، ومقتضى العدالة أنهم بمجموعهم يعصمون عن الخطأ.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله على الجماعة)، قال المناوي: أي: لا يجمع علماء أمتي على ضلالة؛ وذلك لأن العامة تأخذ من العلماء دينها، فالمعتبرون هم العلماء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قد أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة).
(4/4)
أمة الإسلام كالغيث
هذه الأمة لا ينقطع الخير منها أبداً، فلها دوام الخيرية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره)، وهذا هنا ليس أسلوب تفضيل وإنما يدل على استمرار الخيرية، كما يقول الشاعر: فوالله ما أدري أفي الطرف سحرها أم السحر منها في البيان وفي الثغر معناه أنها ساحرة في طرفها وفي بيانها وفي ثغرها.
وهذا الحديث لا ينافي حديث الصحيح (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
فالناس كالخامة من الزرع، وحاجة خامة الزرع للمطر في البداية أكثر، فهو دائماً يحتاج إلى المطر في بدايته أكثر من حاجته عند قرب الحصاد، نعم المطر كله رحمة وغيث، إلا أن حاجة الزرع إلى المطر في أوله ليس كمثل حاجته إليه عند قرب الحصاد، وهذا يدل على استمرار الخيرية، لكن القرون الثلاثة الأولى هم خير الناس.
(4/5)
أمة الإسلام هم شهداء الله في الأرض
وهذه الأمة هم شهداء الله في الأرض، ولقد (مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت! ثم مُرَّ بأخرى فأثنوا عليها شراً، فقال: وجبت! فقيل: يا رسول الله! قلت لهذه وجبت ولهذه وجبت؟! قال: شهادة القوم المؤمنين).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الملائكة شهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في الأرض، إن لله ملائكة تنطق على ألسنة ابن آدم بما في المرء من الخير أو الشر).
والشهادة المعتبرة هي للناس الملتزمين، ليس لصعاليك الناس، فعندما ترى شخصاً قاعداً بجوار الطريق يحشش، وعندما يموت آخر مثله يعرفه فتأتي تسأله عن هذا الذي مات وهو يشرب الحشيش؟ يقول: هذا كان مستقيماً، هذا كان أحسن واحد في البلد فهذه شهادة غير معتبرة، مثل شهادة مجدي العمروتي الذي يشتغل تبع شركة أسطوانات الحب حين شهد لـ عبد الحليم حافظ في الذكرى السنوية الأولى لموته، قال في صفحة الوفيات من جريدة الأهرام: هنيئاً للجنة بك! هذا مع أن عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم لا يشهدون لمعين بجنة ولا بنار إلا لمن شهد له الشارع.
هذا نور الدين محمود زنكي، وهو في الشام، أيام حصار الفرنجة الصليبيين لدمياط رووا له حديثاً بالتبسم، فلما قرءوا عليه سنده وسلسلته قالوا له: تبسم لتكتمل لك السلسلة بالتبسم، قال: أخشى أن يحاسبني الله عز وجل، كيف أبتسم والفرنجة محاصرون لدمياط؟! فأين النخوة؟ أين الرجولة؟ أين المروءة؟ لقد ضاعت.
لما مات موسيقار الجنين عبد الوهاب فقيل له: تعال بالعود واعمل مقطوعة غنائية لـ عبد الوهاب، فيأتي مباشرة على طول: وقم على القبر إن اللحن يحييه فشهداء الناس هم المعتبرون عند الله تبارك وتعالى من الناس، وليسوا (النسناس).
(4/6)
فضل هذه الأمة على الأمم السابقة في الأجر والعطاء
هذه الأمة أقل عملاً وأكثر أجراً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء، فقال: من يعمل لي من الغدوة إلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين؟ فأنتم هم؛ فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: ما لنا أكثر عملاً وأقل عطاء؟! فقال الله عز وجل: هل نقصتكم من حقكم؟ قالوا: لا.
قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء).
وهذه الأمة أمة باقية محفوظة، كم من أمم اندثرت وبادت ولم يبق لها نسل كعاد وثمود، بخلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما قال: (سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي ألا يهلك أمتي بسنة فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها).
فهذه الأمة لن يهلكها الله عز وجل بعذاب يستأصل شأفتها، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (لن يجمع الله تعالى على هذه الأمة سيفين، سيفاً منها، وسيفاً من عدوها).
(4/7)
أمة الإسلام سياحتها الجهاد
هذه الأمة سياحتها الجهاد، ورهبانيتها أيضاً الجهاد، والحديث في ذلك صحيح، عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلاًَ قال يا رسول الله (ائذن لي في السياحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن سياحة أمتي الجهاد في الله عز وجل).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً جاء فقال: أوصني! فقال أبو سيعد: سألت عما سألت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أوصيك بتقوى الله، فإنها رأس كل خير، وعليك بالجهاد؛ فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله، وتلاوة القرآن؛ فإنه روحك في السماء، وذكرك في الأرض).
هذه الأمة العظيمة التي أخرجت الإمام العظيم الحافظ أحمد بن إسحاق السلمي شيخ الإمام البخاري كان له سيف، وكان يهزه ويقول: أعلم يقيناً أني قتلت به ألف تركي كافر، ولو عشت لقتلت به ألفاً آخرين، ولولا أن تكون بدعة لم أسبق إليها لأمرت أن يدفن معي سيفي في قبري.
هذه الأمة تحتاج إلى رجل مثل لؤلؤ العاجلي كان يلقب أمير البحار عند صلاح الدين الأيوبي، وكان خادماً لـ صلاح الدين الأيوبي، ثم رقاه إلى أمير البحار، لما قالوا له: إن النصارى الصليبيين قد ركبوا بحر القلزم -البحر الأحمر- يريدون أن يغيروا على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كم عددهم؟ فأخبروه أن عددهم ثلاثمائة وتسعة عشر فقال: علي بالقيود، فهو كان متيقناً قبل أن يخرج لملاقاتهم أنهم كلهم سيقيدون وسيأتي بهم إلى صلاح الدين فكان له ما أراد، فلما علموا بأنه جاء خلفهم في السفن، تركوا البحر وصعدوا إلى الجبال، فصعد هو وثلة من فرسانه، وأتوا بهم وقيدوهم بالسلاسل كلهم، فضربت أعناقهم تحت سماء القاهرة، وأرسلوا اثنين ليذبحا في منى يوم النحر.
(4/8)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 09:53   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

أمة الإسلام أمة مرحومة
هذه الأمة أمة مرحومة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمتي هذه أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة، إنما عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل والمصائب) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها، فجعله لها شرفاً وخلفاً بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي، فأهلكها وهو ينظر، فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الأمة أمة مرحومة، عذابها في أيديها، فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل من المسلمين رجل من المشركين، فيقال: هذا فداؤك من النار) هذا يدخل بدلاً منك النار.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة دفع الله عز وجل إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقال: هذا فكاكك من النار) والحديث صحيح.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه في النار يهودياً أو نصرانياً).
وهذا من فضل الله عز وجل على هذه الأمة، أن الكافر يكون فداءً للمسلم يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يجيء يوم القيامة أناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى) يعني: يضع أمثالها على اليهود والنصارى، كما قال الإمام النووي: هذا التأويل لا بد منه، قال: ويضع أمثالها على اليهود والنصارى فمثلاً: هناك مسلم متهاون في الزكاة، والصيام، أو في أداء الصلاة، فيأتي يوم القيامة فبمثل هذا التهاون يعذب الله عز وجل النصراني واليهودي، وهذا يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع.
يعني: يحاسب على كفره مرة، ويحاسب على فروع الشريعة التي تركها مرة، يقال له: لماذا كنت كافراً؟ لماذا كنت يهودياً؟ لماذا كنت نصرانياً؟ ثم بعد ذلك: لماذا لم تكن تصلي؟ لماذا لم تكن تصوم؟ لماذا لم تكن تحج؟ {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:42 - 46].
فهم دخلوا النار لأنهم كذبوا بيوم الدين، ولم يصلوا، وكلها فروع شرائع: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:44] أنت ما كنت تطعم اليتامى والمساكين! أنت كنت كثير الجدال! {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:45 - 46].
قال الإمام النووي: هذا التأويل لا بد منه.
ومن هذه الخصائص العظيمة أن هذه الأمة بعثت في خير قرون الزمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت من خير قرون بني آدم قرناً، حتى كنت من القرن الذي كنت منه).

(4/9)


أمة الإسلام رضي الله لها اليسر وكره لها العسر
هذه الأمة رضي الله لها اليسر، وكره لها العسر قال الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقال الله تبارك وتعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء:28].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى رضي لهذه الأمة اليسر، وكره لها العسر).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم أمة أريد بكم اليسر).
أراد الله عز وجل أن يضع عن هذه الأمة الآصار والأغلال التي كانت في الأمم السابقة، يعني: كانت بنو إسرائيل إذا تبول رجل منهم على جسده وثوبه يقرضه بالمقراض.
ولما عبدت طائفة منهم العجل كانت توبتهم بأن يقتلوا أنفسهم {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54]، لكن نحن يقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة).
فيتوب الله عليك بمجرد التلطف مع رب العالمين أو علم الله عز وجل صدق نيتك.
هذه أمة أريد بها اليسر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عباد الله إن الله وضع الحرج) أي: عن هذه الأمة.
ومما يدل على أن الله عز وجل يسر على هذه الأمة: أنه عفا عن حديث النفس، والوسوسة، والهاجس والخاطر، فهذه لا تحاسب عليها هذه الأمة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله تجاوز عن أمتي ما توسوس بها صدورها، ما لم تعمل أو تتكلم به، وما استكرهوا عليه).
إذا وقع الإنسان في إكراه فلا شيء عليه، وكذلك الخطأ والنسيان، وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).

(4/10)


من خصائص أمة الإسلام التيمم
ومن خصائص هذه الأمة التيمم، وما عرفته أمة قبل هذه الأمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً).

(4/11)


من خصائص أمة الإسلام أن أحلت لها الغنائم
ومن خصائص هذه الأمة أن أحل لها الغنائم، وما أحلت الغنائم لأمة من الأمم قبل هذه الأمة، كانوا يجمعون الغنائم، فتنزل نار من السماء فتحرقها، أما هذه الأمة لما علم الله عز وجل صدق المهاجرين من فقراء المسلمين الذين تركوا أموالهم وديارهم فداء لدينهم، عوضهم عن هذه الأموال التي أخذها المشركون بأن أحل لهم الغنائم بعد وقعة بدر مباشرة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لم تحل الغنائم لأحد سود الرءوس من قبلكم، كانت تنزل نار من السماء فتأكلها) (من ترك شيئاً لله عوضه الله عنه خيراً مما تركه).
ترك المهاجرون بيوتهم وأموالهم؛ فعوضهم الله تبارك وتعالى عنها بإحلال الغنائم لهم، فانظر كم تركوا وكم أخذوا!

(4/12)


من خصائص أمة الإسلام جعل الأرض لها مسجداً وطهوراً
ومن خصائص هذه الأمة العظيمة: أن الله عز وجل جعل الأرض كلها مسجداً لهذه الأمة، فحيثما أدركتك الصلاة فصل، إلا في تسعة عشر موضعاً أتت فيها كراهة الصلاة، وتحريم الصلاة في هذه المواضع، مثل المقبرة ومعاطن الإبل وغيرها، وما كانت هذه الخصيصة لأمة من الأمم قبلنا.
كانوا يصلون في كنائسهم فقط، وفي بيعهم، وهذا كما جاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، أين ما أدركتني الصلاة صليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم).
أي: كانوا يصلون في دور العبادة فقط، وهذا هو الذي رجحه الحافظ ابن حجر العسقلاني، والإمام المناوي، أما هذه الأمة فإنها تصلي في أي مكان من أرجاء المعمورة.

(4/13)


من خصائص أمة الإسلام أن صفوفها في الصلاة كصفوف الملائكة
ومن خصائص هذه الأمة: أن صفوفها في الصلاة كصفوف الملائكة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة - أي في الصلاة - وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء، وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة، من كنز تحت العرش، لم يعط منه نبي قبلي، ولا يعطى منه أحد بعدي).
قال الإمام المناوي: كانت الأمم السابقة يصلون منفردين كل واحد على حدة، فخص الله عز وجل هذه الأمة بخاصية الصلاة في جماعة والتراص في الصفوف كصفوف الملائكة.
وفضل الله عز وجل هذه الأمة بصلاة العشاء، لم تصلها أمة من الأمم قبلنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعتموا بهذه الصلاة) يعني: انتظروا بهذه الصلاة حتى تدخلوا في الليل (فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم، لم تصلها أمة من قبلكم).
وإنما كانت ندباً على الأنبياء من قبلنا، كما قال الإمام المناوي، إن صلاة العشاء كانت تصليها الرسل نافلة لهم، أي زائدة، ولم تكتب على أممهم، مثل التهجد، فإنه وجب على رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولم يجب علينا.

(4/14)


من خصائص أمة الإسلام أن الله ستر أعمالها
ومن خصائص هذه الأمة أيضاً: أن الله ستر أعمالها، سواء كانت الأعمال مقبولة أم مردودة عليها، بل المقبول يبارك الله عز وجل فيه، ويجعل له الثناء الحسن بين الناس.
من رحمة الله عز وجل أن هناك ناساً أعفن من العفونة بكثير، يمشون وسط الناس ولا يدري الناس لحالهم، يسترهم الله عز وجل، كما يقول محمد بن واسع: لو كان للذنوب رائحة ما استطاع أحد أن يجالسني من نتن رائحتي، هذا محمد بن واسع زين القراء: كم عدو حط منك بالذم فرقاك كم أعطش من شراب الأماني خلقاً وسقاك ستر الله عليك من القبيح من قبيح أعمالك ما لو فاح لضجت المشام.
وهذا من رحمة الله عز وجل أن سترها عليك في الدنيا، وقد يسترها عليك في الآخرة، يقول: (سترتها عليك في الدنيا، وأنا اليوم أسترها عليك في الآخرة).
أما الأمم التي كانت قبلنا فقال شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام: إن الله ستر على من يتقبل عمله من أمته، وكان من قبلهم يقربون القرابين.
كان الرجل إذا أراد أن يعلم هل تقبل الله منه هذا العمل أم لا، يقرب قرباناً بين يدي عمله، فتأكل النار ما تقبل منه، وتدع ما لم يتقبل فلا تأكله ولا تقربه، فيصبح الرجل مفضوحاً بين الناس.
يعني: كان الرجل إذا أراد أن يعرف صلاحه من فساده، يقدم القرابين لله عز وجل، فإذا نزلت نار وأكلتها علم أن هذا العمل قد تقبل منه، قال الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
وحسن الشيخ الألباني تفسير ابن عباس وقال: إن له حكم الرفع.

(4/15)


من خصائص أمة الإسلام صلاة بعض الأنبياء خلف بعض صالحيها
ومن خصائص هذه الأمة: أن بعض الأنبياء صلوا خلف أناس صالحين من هذه الأمة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم: تعال صل لنا -وهو المهدي - فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء؛ تكرمة الله لهذه الأمة).
ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (منا الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه) فصلاة نبي خلف أحد الصالحين يدل على عظم هذا الصالح، ولقد ثبت أن النبي صلى الله عليه صلى خلف عبد الرحمن بن عوف صلاة الصبح.
والعلماء بينهم اختلاف كبير في صلاة النبي مأموماً خلف أبي بكر، والثابت الذي رواه الحافظ ابن حجر العسقلاني أن النبي صلى مأموماً خلف أبي بكر.
والذي لا نزاع فيه بين أهل العلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صل مأموماً خلف عبد الرحمن بن عوف).

(4/16)


من خصائص أمة الإسلام أن الله اختصها بالسلام والتأمين
ومن خصائص هذه الأمة: أن الله اختصها بالسلام والتأمين، وحسدتها على ذلك اليهود، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين).
السلام تحية الله عز وجل لأهل الجنة: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58].
وسلام الملائكة على أهل الجنة: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24].
وسلام بعضهم على بعض: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26].

(4/17)


من خصائص أمة الإسلام السحور
ومما خص الله عز وجل به هذا الأمة: السحور أو الفلاح، وهو الغداء المبارك كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر).
فالفرق بين صيامنا وصيام النصارى واليهود السحور، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين) وصلاة الله ثناء، والصلاة من الملائكة استغفار، فأنت تأكل ويثني عليك الله عز وجل، وليس ذلك لأجل أنك تأكل لنفسك، ولكن لأجل أنك لم تكن إمعة، لا بد أن تكون لك شخصية مستقلة.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال أمتي بخير ما عجلت الفطر، وأخرت السحور)؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون الفطر وينتظرون اشتباك النجوم.
فلا بد من السحور ولو على جرعة ماء؛ لتخالف فيها اليهود والنصارى.
سبحان الله! انظروا إلى الفرق! لو أنك أتيت لتوقظ شخصاً من النوم قبل الفجر بنصف ساعة في غير رمضان، فإنه سيرفض وربما يغضب! فسبحان من يجعل الأمر على العكس في رمضان! سبحان من يحبب هذا الوقت إلى الناس! فسبحان من يحبب إلى الصادقين الشيء الذي يخالفون به اليهود والنصارى!

(4/18)


من خصائص أمة الإسلام أن الله خصها بيوم الجمعة
وهذه الأمة أمة خصها الله بيوم الجمعة، سيد الأيام، عيد المسلمين الأسبوعي، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة) وفي لفظ مسلم (هدينا إلى الجمعة، وأضل الله عنها من كان قبلنا).
الجمعة هذه لا يعظمها ولا يوقرها إلا عظماء الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث الأيام يوم القيامة على هيئتها، ويبعث يوم الجمعة زهراء منيرة أهلها- أي: الناس الذي كانوا يوقرون اليوم هذا ويحتفلون به- يحفون بها، كالعروس تهدى إلى كريمها، تضيء لهم، يمشون في ضوئها، ألوانهم كالثلج بياضاً، وريحهم يفقع كالمسك، يخوضون في جبال الكافور، ينظر إليهم الثقلان ما يفرقون؛ تعجباً -يعني: من جمالهم- حتى يدخلوا الجنة لا يخالطهم أحد إلا المؤذنون المحتسبون).
ثم نأتي إلى كامب ديفيد الثانية لما كان يوم السبت قال باراك نوقف المحادثات لأن اليوم عيد قومي، وقال كلينتون: ويوم الأحد هو يوم عيدنا فتتوقف فيه المحادثات، بينما لما يمانع أبو عمار في أن تكون المحادثات يوم الجمعة، يا عم الشيخ العملية باينة من الأول، لو عندك احترام حتى لدينك أو ليوم الجمعة لصنعت كما صنع صاحب مونيكا، وكنت قلت: هذا أيضاً عيد عند المسلمين.
ستعلمي إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار وآخر يقول: إذا كان الغراب دليل قوم فلا فازوا ولا فاز الغراب إذا كان الغراب دليل قوم يمر بهم على جيف الكلاب أما يوم الجمعة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه إياه)، وذلك كما قال بعض أهل العلم في آخر ساعة قبل غروب شمس يوم الجمعة.
ومن كرامة هذا اليوم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر).
وهذا اليوم يذكرنا باليوم الذي ننتظره جميعاً، وهو يوم المزيد، فيوم المزيد هو يوم الجمعة في دار الدنيا، لكنه يسمى في الآخرة يوم المزيد، يزور أهل الجنة ربهم في هذا اليوم الأسبوعي، ومنهم من يزور الله عز وجل بكرة وعشياً، ولكن كل أهل الجنة يزورون ربهم في يوم المزيد.
يوم ينطلقون فيه إلى مولاهم فمنهم من يجلس على كثبان اللؤلؤ، ومنهم من يجلس على منابر من نور قدام عرش الرحمن، فيقول لهم الله عز وجل: (يا عبادي! إن لكم موعداً أريد أن أنجزكموه فيقولون: يا رب! ألم تبيض وجوهنا، وتثقل موازيننا، وتغفر ذنوبنا، وتدخلنا الجنة، فيقول لهم الله عز وجل: اليوم أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم أبداً، فترفع الحجب، فينظرون إلى مولاهم، وينظر مولاهم إليهم، فما أعطي أهل الجنة شيء ألذ من النظر إلى وجه الله الكريم).
فيا مسرعين السير بالله ربكم قفوا بي على تلك الربوع وسلموا وقولوا محب قاده الشوق نحوكم قضى عمره فيكم تعيشوا وتسلموا قضى الله رب العالمين قضية بأن الهوى يعمي القلوب ويبكم وحبكم أصل الهدى ومداره عليه وفوز للمحب ومغنم وحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم وحي على روضاتها ورياضها وحي على عيش بها لا يسأم فلله أبصار ترى الله جهرة فلا الحزن يغشاها ولا هي تسأم

(4/19)


من خصائص أمة الإسلام أن الله أحل لها بعض الأطعمة
ومن خصائص هذه الأمة: أن الله تبارك وتعالى أحل لها بعض الأطعمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال).

(4/20)


من خصائص أمة الإسلام أن لها أسباب الشهادة في سبيل الله
ومن رحمة الله عز وجل بهذه الأمة وكرامته لها أنه جعل الطاعون الذي كان رجزاً وعذاباً على الأمم السابقة شهادة لهذه الأمة، فمن مات بالطاعون مات شهيداً.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطاعون شهادة لأمتي، ووخز لأعدائكم من الجن).
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وإن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع به الطاعون، فيمكث في بلده صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتبه الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد).
ولذلك توفي في طاعون عمواس أمين هذه الأمة سيدنا أبو عبيدة عامر بن الجراح، وأعلم الأمة بالحلال والحرام معاذ بن جبل، لما أصيب ابنه عبد الرحمن المكنى به، قال له: كيف تجدك يا بني؟ قال: يا أبت! {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة:147].
ثم أصيب سيدنا معاذ في أصبعه، فقال كلمة طيبة! قال: إنها لصغيرة، وقد يبارك الله في الصغير فيصبح كبيراً.
ذكر ذلك الحافظ ابن حجر الهيتمي في بذل الماعون في فضل الطاعون، قال معاذ: إنها لصغيرة، وقد يبارك الله في الصغيرة فتصبح كبيرة، فمات بها، ولما جاءه الموت قال في سكرات الموت: اخنق خنقك، فوعزتك إني أحبك، حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، اللهم إنك تعلم أني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني ما كنت أحب البقاء في الدنيا لغرس الأشجار، ولا لكراء الأنهار، وإنما لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.

(4/21)


من خصائص أمة الإسلام تعدد أسباب الشهادة
ومن كرامة الله عز وجل لهذه الأمة: أن عدد لها أسباب الشهادة: وهذه كرامة كبيرة من الله عز وجل، يأتي واحد فيقول: يا سلام لو أذهب إلى فلسطين لأقاتل.
قال تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246] ولذلك يقول الشيخ سيد قطب عليه رحمة الله: القائد البصير لا ينخدع بحماس الجماهير الثائرة من حوله، وإنما لا بد من أناس فيهم الإيمان، والإيمان لا يأتي بين بكرة وعشية، وإنما يحتاج إلى طول وقت، فلا بد من الإعداد، ودولة الخلافة التي احتاجت إلى قرون لإسقاطها، تحتاج إلى قرون لقيامها.
فمن رحمة الله عز وجل أنه علم ضعف هذه الأمة فنوع لها أسباب الشهادة، من فاتته الشهادة في ميدان المعركة قد يأخذ أجرها وهو على فراشه: (من سأل الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن كان على فراشه).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: من قتل في سبيل الله يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن شهداء أمتي إذاً لقليل! ثم قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في البطن -المبطون- فهو شهيد، والغريق شهيد).
المبطون الذي هو مؤمن، أي: مواظب على الصلاة، فإذا جاء له مرض البلهارسيا، فيتسبب في أن تجتمتع المياه في بطنه، فتضغط على الحجاب الحاجز، ولا تتركه ينام أو يأكل، فربنا يرحمه إذا مات على هذا وصبر، يكون أجره مثل أجر الشهيد.
أو رجل مصاب بالإسهال كما قال أهل العلم، ومات بهذا المرض الشديد، فإنه يموت شهيداً، وكذلك من أصيب بمرض السل فمات بسببه أو من مات تحت الردم، فإنه يكون له أجر الشهيد.
والنفساء: المرأة التي تموت وجنينها فيها، أو تموت عند الولادة، ومن وقصه بعيره في سبيل الله، ومن مات حتف أنفه في سبيل الله، وصاحب ذات الجنب، ومن مات بالسل، ومن قتل دون ماله أو دون أهله، أو دون دينه، أو دون دمه، فهو شهيد.
وهذه رحمة من الله تبارك وتعالى لهذه الأمة، فقد يرزقك الله عز وجل بمرض يكون سبباً لأن تعطى مثل أجر الشهيد.

(4/22)


من خصائص أمة الإسلام أنها أمة الإسناد
هذه الأمة العظيمة أمة الإسناد، خصنا الله عز وجل بالإسناد دون بقية الأمم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم).
الإسناد هو: حدثنا فلان قال أنبأنا فلان قال أخبرنا فلان، وقد خص الله عز وجل به هذه الأمة، وليس الإسناد لأمة من الأمة إلا لهذه الأمة، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.
لولا الإسناد لكان الرجل -كما قال الشافعي - مثل حاطب ليل، قد يحمل الأفعى بين حطبه وهو لا يدري.
يأتي رجل -لا يدري ما أتى به- بكتاب ثعلب وهو أبو العباس النحوي لا يعرف الأحاديث الضعيفة من الصحيحة، فيقول لك: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ربيع أمتي في البطيخ والعنب)، فيكون هذا الحديث من الأحاديث الموضوعة.
وقيل لـ عبد الله بن المبارك: ما هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة؟ قال: يعيش لها الجهابذة من الرجال، لقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
وقيل لـ عبد الله بن المبارك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالعدس فإنه قدس على لسان سبعين نبياً).
فقال: ولا على لسان نبي واحد، يكفيك رائحته؛ فإنه يؤذي البطن.
ولما صارت المساجد تحت وزارة الأوقاف وجد جيل جديد يصعد على المنابر يحدث بأحاديث ما أنزل الله بها من سلطان! ولقد كان عندنا إمام يقول لي: هل تعرف اسم أخي سيدنا يوسف؟ قلت له: لا أعرف، قال: أنتم يا السنيون جهلة! قلت له: أخبرني (يا أبو العريف) ثم قال لي: تعرف اسم ابن سيدنا نوح من القرآن؟ قلت: لا ما أعرف؟ قال: أما أخو سيدنا يوسف فاسمه (نكتل)! وأما ابن سيدنا نوح فاسمه: (سآوي)! يصعد أحدهم المنبر فيقرأ من كتاب مكتوب فيه: إن الزنا عم وإن الربا طم، آه آه، فقال لك: إن الزناعم والرباطم واحد وخمسين واحد وخمسين! نسأل الله السلامة.

(4/23)


من خصائص أمة الإسلام وضع البركة في البكور
ومما خص الله تبارك وتعالى به هذه الأمة أن بورك لها في بكورها: يعني: المولى عز وجل يبارك لها في الرزق عند البكور، رزق الأجساد أو رزق القلوب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بورك لأمتي في بكورها).
وعن صخر بن وداعة الغامدي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرسل سرية أرسلها في أول النهار، وكان صخر إذا أرسل تجارة أرسلها في أول النهار؛ فكثر ماله، حتى كان لا يدري أن يضعه! الإمام أحمد بن حنبل -وهو طفل صغير- كان يذهب إلى أستاذه في علم الحديث وإلى شيوخه قبل صلاة الفجر، فكانت أمه تستحلفه بالله ألا يخرج حتى يؤذن المؤذن لصلاة الفجر.
لو قلت للإخوة: تعالوا لأعطيكم درساً قبل الفجر فهل سيأتي أحد؟ إذا جاء لك بعد العشاء فهو في خير.
والذي يأتي بعد الفجر إلى الدرس فإنه لا ينسى، وهو وقت مبارك، فيه تسبيح المستغفرين، ثم بعد ذلك تخرج إلى طلب قوتك، وقوت أولادك، فيبارك الله عز وجل.
لكن بعد ما دخل -النيل سات- وجدت عندنا عشش مبنية بالطوب واللبن، والرجل يسكن هو وامرأته وأولاده جنب الجاموسة، بحيث لا يوجد باب يفصلهم عن الجاموسة والغنم، ولكنه يشتري تلفزيوناً ملوناً ودشاً، ويجلس أمام قناة أوربت قناة الأفلام، ويشاهد عشرة أفلام في اليوم، طبعاً هو طرزان! فلا زراعة ولا فلاحة، فهو رجل أوربت جالس قدام قناة أفلام ليل نهار.
والله العظيم إلى حد أن الثعابين والفئران ملأت الحقول، فمن أين يأتي الخير؟ ولقد كنت أرى جدي رحمه الله قبل مدة من الزمن يستيقظ قبل صلاة الفجر فيتوضأ، ويذهب ليصلي في المسجد، ثم يقعد يقرأ قليلاً من القرآن، فتأتي له زوجته بالبيض والزبدة والشاي وقبل أن تشرق الشمس يكون في حقله، ولقد كانت الأرض الزراعية قليلة لكن البركة كانت موجودة، وكان ينام بعد العشاء مباشرة، لكن اليوم الناس يقعدون أمام التلفاز أربعة وعشرين ساعة، فكيف سيذهبون إلى عملهم وهم لا يبكرون فيها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بارك الله لأمتي في بكورها).

(4/24)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 09:54   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

من خصائص أمة الإسلام أن لها النصر والغلبة إلى قيام الساعة
كذلك من خصائص هذه الأمة: أن لها النصر والتمكين والغلبة إلى يوم الدين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر أمتي بالنصر والثناء والتمكين، فمن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالتيسير والثناء والرفع).
رفعة بالدين، والتمكين في البلاد والنصر، فمن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب.

(4/25)


من خصائص أمة الإسلام أنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين
أما في الآخرة: فهذه الأمة أفرادها محجلون يوم القيامة من الوضوء، وغر من السجود، النور في جباههم وركبهم وأقدامهم من آثار الوضوء والسجود، وليست هذه السمة والعلامة إلا لهذه الأمة المباركة.
ولها خصائص أيضاً كما جاء في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أعرف أمتي من بين الأمم، أنظر عن يميني فأعرف أمتي، وأنظر عن شمالي فأعرف أمتي، فقال رجل: يا رسول الله! وكيف تعرف أمتك من بين الأمم ما بين نوح إلى أمتك؟ قال: غر محجلون من أثر الوضوء، ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم، وأعرفهم أنهم يأتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود، وأعرفهم بنورهم الذي بين أيديهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) والحديث صحيح.
قال تعالى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].

(4/26)


من خصائص أمة الإسلام تخفيف طول القيام عليها يوم القيامة
من خصائص هذه الأمة: أن يوم القيامة الطويل الذي قال فيه المولى تبارك وتعالى: {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]، يجعله الله عز وجل قصيراً على هذه الأمة، فلا تحس به ولا تشعر، فيجعله على هذه الأمة كقدر ما بين صلاة الظهر إلى العصر، والحديث صحيح.
وجاء في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يوم القيامة على المؤمنين كقدر ما بين الظهر والعصر) والحديث صححه الشيخ الألباني.

(4/27)


من خصائص هذه الأمة أنها أول من يحاسب يوم القيامة ويمر على الصراط
ومن خصائص هذه الأمة: أنها أول أمة تحاسب يوم القيامة؛ إكراماً من الله تبارك وتعالى لها.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن آخر الأمم، وأول من يحاسب، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون الأولون).
ومن خصائص هذه الأمة، أنها أول الأمم مروراً على الصراط، وبعد الصراط تكون في مكان مرتفع تشرف على الخلائق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويضرب الصراط بين ظهري جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيز على الصراط).
وفي حديث كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان يوم القيامة كنت أنا وأمتي على كثب -مكان مرتفع- فيكسوني حلة خضراء، ثم يأذن لي تبارك وتعالى أن أقول ما أشاء أن أقول، وذلك المقام المحمود).

(4/28)


من خصائص أمة الإسلام في الشفاعة
ومن خصائص هذه الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر منها فيدخلون الجنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خبأ دعوته شفاعة لهذه الأمة.
ومن خصائص هذه الأمة أنها أول الأمم دخولاً الجنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأناس سيعطون منازل في الجنة، لا تبلغهم إياها أعمالهم، وإنما يشفع النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فيزدادون درجات في الجنة لا تبلغها أعمالهم.
ومن خصائص هذه الأمة: أن أناسه معظمون يوم القيامة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم).
وبنو تميم أكبر قبيلة عربية من حيث العدد، فقد يصل عددها إلى عشرين أو ثلاثين ألفاً أو أكثر.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين: ربيعة ومضر، قالوا: لست أنت يا رسول الله؟! قال: لست أنا).
قالوا: إن هذا الرجل هو عثمان بن عفان أو أويس القرني، فهذا الرجل بشفاعته يدخل ثلاثون ألفاً الجنة.
والشهيد يشفع في سبعين رجلاً من أهل بيته، فما بالك بالذي يشفع مثلاً في ثلاثين ألفاً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم!

(4/29)


من خصائص أمة الإسلام أنها أول الأمم دخولاً الجنة
ومن خصائص هذه الأمة أيضاً أنها أول الأمم دخولاً الجنة: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة).
أما أول زمرة تدخل الجنة! فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو: (أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي؟ قلت: الله ورسوله أعلم.
فقال: المهاجرون، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويستفتحون، فتقول لهم الخزنة: أوقد حوسبتم؟ فيقولون: بأي شيء نحاسب؟ وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك، فيفتح لهم).
فهؤلاء لم يكونوا يملكون الكنوز والخزائن والقصور التي على شاطئ الريفيرا ونهر الصين والراين التابعة لمنظمات التحرير والوزراء؟! وهناك شاب فلسطيني أجرب اشترى سيارة الأميرة ديانا -وهي سيارة محطمة ومكسرة- بثلاثة ملايين دولار، وهو عبارة عن تاجر فلسطيني، فما ظنكم بالقادة الذين صاروا أثرياء على حساب القضية الفلسطينية! فأولئك الذين هدموا عرش كسرى وقيصر من المهاجرين يقال لهم: أوقد حوسبتم؟ فيقولون: على ماذا سنحاسب؟ ما كان عندنا شيء! وهؤلاء أصحاب الصفة كانوا ينامون في المسجد، فيقولون: إنما كانت سيوفنا على عواتقنا في سبيل الله فعلى أي شيء كنا نحاسب؟!

(4/30)


من خصائص أمة الإسلام أنها أكثر أهل الجنة
ومن خصائص هذه الأمة أنها أكثر أهل الجنة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قال الراوي: فكبرنا! فقال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ فكبرنا، فقال: أترضون أن تكونوا نصف أهل الجنة؟ فكبرنا، فقال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة.
فنصف أهل الجنة من هذه الأمة، وزاد الله عز وجل نبيها سدساً آخر فوق النصف، فثلثا أهل الجنة من هذه الأمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أهل الجنة عشرون ومائة صف، أمتي منهم ثمانون صفاً).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي الأمم يوم القيامة فرأيت النبي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد).
ما هذا؟! نبي يرسله الله إلى أمة ولا يستجيب له أحد! هل هم عصاة إلى هذه الدرجة؟! ثم قال: (ورأيت النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان، والنبي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد).
فهذه الأمة ثلثا أهل الجنة، وأكرم أهل الجنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة) أي: خلا النبيين والمرسلين.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حمزة سيد الشهداء يوم القيامة)، وكلهم من هذه الأمة.

(4/31)


من خصائص أمة الإسلام دخول سبعين ألفاً منها الجنة بغير حساب
ومن خصائص هذه الأمة أن سبعين ألفاً منها يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.
وفي رواية: (أو سبعمائة) أي: سبعمائة ألف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفاً).
أي: سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ومع كل ألف من هؤلاء سبعون ألفاً أيضاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.
قال: (وثلاث حثيات) فسيدنا أبو بكر قال: إذاً يدخلهم كلهم الجنة، فقال سيدنا عمر: وما عليك أن يدخلهم كلهم الجنة يا أبا بكر! فزاد الله تبارك وتعالى نبيه يقول: (مع كل واحد منهم سبعين ألفاً).
وقد فرحت فرحاً شديداً لما عرفت أنه صححه الشيخ الألباني في المجلد الثالث عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، قلوبهم على قلب رجل واحد، فاستزدت ربي عز وجل، مع كل واحد سبعين ألفاً).
وهذا رواه الإمام أحمد وأبو يعلى في مسنده وصححه الإمام البوصيري والشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة، حديث رقم (1484).
فهؤلاء سبعون ألفاً مع كل واحد سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فيكون عددهم: أربعة آلاف مليون وتسعمائة مليون شخص، يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(4/32)


الخوف من الله
الخوف من الله تعالى ضرورة يحتاج إليها المسلم، ولا يخلو منه قلب إلا قلب خرب، وهو صفة الصالحين، ودليل تعظيم رب العالمين.
ويوقظه في القلب جملة من الأسباب، ومنها خوف فوات التوبة قبل الموت أو نقضها، وزوال رقة القلب، والميل عن الاستقامة، وسابقة علم الله بمآل العبد، وسكرات الموت، وأهوال يوم القيامة، وغير ذلك من الأسباب الداعية إلى الخوف من رب العزة جل جلاله.

(5/1)


فضل الخوف من الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله؛ نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد: فإن الخوف سوط الله يقوم به الشاردين عن بابه، وهو سراج في القلب به يبصر الخير والشر، وإذا دخل الخوف القلوب أحرق مواضع الشبهات منها، وطرد الدنيا عنها.
قال أبو سليمان الداراني: ما فارق الخوف قلباً إلا وخرب هذا القلب.
ولكل شيء زينة، وزينة العبادة الخوف من الله عز وجل كما قال حاتم الأصم.
ولا تغتر برؤية الصالحين، فلا أصلح من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينتفع برؤيته المنافقون ولا الكافرون، ولا تغتر بطيب المكان، فذلك لا ينجيك من الله عز وجل إن لم تكن صالحاً، فلا مكان أطيب من الجنة، وفيها لقي آدم ما لقي، فآدم عليه السلام لم يسامح في لقمة، وهو صفي الله وكليمه، ودخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان ونيل فوز العابد ونسيت أن الله أخرج آدما منها إلى الدنيا بذنب واحد نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم وتنشط فيما سوف تكره جده كذلك في الدنيا تعيش البهائم

(5/2)


نصوص تبعث على الخوف من الله عز وجل

(5/3)


نصوص قرآنية باعثة على الخوف من الله
قال الله تبارك وتعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57 - 61].
فرار السعداء إلى الله عز وجل، وفرار الأشقياء من الله عز وجل، وكل إنسان إذا خفته تهرب منه، أما الله عز وجل فإنك إذا خفته تهرب إليه.
قال الله تبارك وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] قال أبو عيسى الترمذي: جنة لخوفه من ربه، وجنة لتركه لشهواته.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن).
وقال الله تبارك وتعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات:40] أي: اطلاع الله عز وجل عليه، ورؤية الله له {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41].
عجباً لك يا ابن آدم! تحرك الريح أستار بيتك وأنت مستلق في بيتك، فيضطرب فؤادك لنظر الناس إلى عورتك، والاطلاع على ما خفي من أمرك، وأنت عالم أن الله ناظر إليك من فوق سبع سماوات، يراك مصراً على المعصية، فلا ينخلع فؤادك لنظر الله عز وجل إليك من فوق سبع سماوات.
{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15].
وقال الله عز وجل عن عباده الصالحين: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10].
وقال عز وجل: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37].
وقال عز وجل: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:51].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد:21].
فاتقوا الله عز وجل؛ فإن أخذ الله أليم شديد.

(5/4)


نصوص نبوية باعثة على الخوف من الله
كان عبد الله بن المبارك إذا نام في مضجعه يتقلب ويقول: ومن يقدر على أخذ الله، إن أخذه أليم شديد.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل)، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين، أي: بكاء.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي الجنة والنار، فلم أر كاليوم في الخير والشر) وقال: (ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، ولا رأيت مثل النار نام هاربها).
وفي حديث عدي بن حاتم الطائي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
فهذه جملة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تبعث على الخوف والخشية والوجل والإجلال والهيبة من الله عز وجل.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون كمقدار ميل) قال سليم بن عامر الراوي عن المقداد: فوالله ما أدري ما يعني بالميل، أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكحل به الجفون؟! وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس يعرقون يوم القيامة، فيذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، ثم يلجمهم حتى يبلغ آذانهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل) والإدلاج: السير آخر الليل.
يقول صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).

(5/5)


أثر مبارزة الله بالمعاصي على المجتمعات
دخل النبي صلى الله عليه وسلم على السيدة زينب بنت جحش فزعاً مرعوباً فقال: (ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه -وحلق بأصبعيه- قالت زينب بنت جحش: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم إذا كثر الخبث).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ظهر الربا والزنا في قرية فقد حلوا بأنفسهم عذاب الله عز وجل).
وما زلزال تركيا ببعيد، فالحكومة التركية أعطت -كما نشر في جريدة الأهرام- وسام الجمهورية من الطبقة الأولى لصاحبة أكبر مؤسسات الدعارة، قالوا: لأنها جلبت المال الوفير للاقتصاد القومي التركي، فأعطوها أعظم جائزة في الجمهورية التركية.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيكون في آخر الزمان خسف وقذف ومسخ، قيل: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت المعازف والقينات واستحلت الخمر).
وأظن أن المعازف والقينات أصبحت كثيرة جداً، والله تبارك وتعالى يقول: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13] أي: ما لكم لا تخافون لله عظمة؟! وما لكم لا ترعون لله حقاً؟! وما لكم لا تقدرون الله عز وجل حق قدره؟! أأمنتم عذاب الله عز وجل؟! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأسه بأهل الأرض، وإن كان فيهم الصالحون).
فإذا كان فيهم قوم صالحون يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يرجعون إلى رحمة الله وإلى مغفرته.
فهذا الزلزال الذي أصاب تركيا من غضب الله عز وجل، وكيف لا يغضب الله عز وجل على دولة كانت دولة الخلافة في يوم من الأيام؟! فتركيا فتحت بودابست عاصمة المجر، وبلاد البوسنة والهرسك، وفتحت بلغاريا، وهزمت فرنسا في قعر دارها، فهذه الدولة نشرت أعلام الإسلام، ثم يأتيها أتاتورك الرجل الصنم الذي أذهب القرآن، وحول مسجد آياصوفيا إلى مطعم آياصوفيا، وألغى لغة القرآن في تركيا، وأراد أن يعتدي على أخت زوجته، وأطلق عليها الرصاص لما رفضت، وحال بينه وبين ذلك خادمه، وأقام سد أتاتورك على منبع الفرات ومنبع دجلة حتى لا يصل الماء إلى سوريا أو العراق، وأغلق المدارس الدينية، ومنع المحجبات من النزول في الشوارع، فكيف لا يغضب الله عز وجل؟! فهذا الزلزال أخذ في لحظة واحدة أربعين ألفاً {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
فلا بد من وقفة للحساب.

(5/6)


نماذج من حياة الخائفين
كان سيدنا مالك بن دينار يقول: لو أن لي أعواناً لفرقتهم في منارات الدنيا يصيحون بالناس: النار، النار! علهم يفيقون من غفلتهم.
ويقول: والله لقد هممت أن آمر إذا أنا مت أن يطرحوني على مزبلة، وأن يضعوا الرماد على وجهي، ويقال: هذا جزاء من عصى الله.
فمن رآني لم يعص ربه.
وهذا خوف الصادقين.
وانظر إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان ربما بكى في الصلاة حتى يسمع لصوت صدره أزيز كأزيز المرجل، وكان إذا تغير الجو دخل وخرج، وعرف ذلك في وجهه، فتقول له السيدة عائشة: إن الناس إذا رأوا المطر استبشروا، فقال: (وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب من الله عز وجل؟).
يقول سيدنا أنس بن مالك: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، وإن كنا لنعدها على عهد رسول الله من الموبقات.
أي: من المهلكات.
وروي أن أحد العباد كان بمكانٍ فغشي عليه، فلما أفاق سألوه: فقال: هذا مكان عصيت الله فيه يوماً من الأيام.
وسيدنا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يقول المولى عز وجل فيه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75] كان إذا ذكر ذنبه تأوه، كما كان يفعل سيدنا داود، يقول: أواه من عذاب الله، قبل أن لا تنفع أواه.
ويقول: يا رب! إني لا أستطيع حر شمسك، فكيف أستطيع حر نارك؟! يا رب! إني لا أستطيع سماع صوت رحمتك وهو الرعد، فكيف أستطيع سماع صوت غضبك؟! فيا عباد الله! ابكوا قبل أن لا ينفع البكاء، وقبل أن تكون الدموع دماً، وقبل أن يؤمر بنا ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي بجبريل كالحلس البالي من خشية الله).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: (ما لي لم أر ميكائيل ضاحكاً؟! فقال: لم يضحك ميكائيل منذ خلقت النار).

(5/7)


أسباب الخوف من الله تعالى

(5/8)


الخوف من الموت قبل التوبة أو من نقضها
والخوف -يا إخوتاه- له أسباب عديدة، منها خوف الموت قبل التوبة، فتخاف أن تموت قبل أن يتوب الله عز وجل عليك، وربما ران الذنب على القلب فمنعك من التوبة، {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56].
فقد يعجل لك الموت قبل التوبة، والنفس قد يخرج ولا يعود، وإن العين قد تطرف ولا تطرف الأخرى إلا بين يدي الله عز وجل.
وهناك الخوف من نقض التوبة: أي أن تتوب إلى الله عز وجل، ثم تعود في توبتك مرة أخرى، أو أن تكون التوبة توبة علة.

(5/9)


الخوف من عدم قبول العمل وعدم الوفاء بأمر الله عز وجل
إن الرجل الصالح قد يفعل العمل الصالح ويخاف عدم القبول، قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
ويخاف من الرياء، ومن أن يكون فعله لغير وجه الله عز وجل، ويخاف أن لا يبقى على هذا العمل إلى موته، كما قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [الأنعام:160] يعني: أتى بها، وصبر على فعلها إلى الموت، فهو يخشى ألا يوفق للطاعة، فهذا خوفهم وهم يعملون الصالحات، فكيف بخوف من يصرون على الموبقات والسيئات؟! وهناك الخوف من عدم الوفاء بأمر الله عز وجل، حيث لم تقدر الله عز وجل حق قدره، ولم تف بأوامر الله عز وجل، وكان بإمكانك أن تفي بها.

(5/10)


الخوف من زوال رقة القلب
وهناك الخوف من زوال رقة القلب، فتقسو القلوب، كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74].
أتى وفد اليمن سيدنا أبا بكر في زمن الخلافة، فلما سمعوا القرآن بكوا، فقال سيدنا أبو بكر: هكذا كنا حتى قست القلوب.
ويقول أبو بكر: يا ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل، يا ليتني كنت شعرة في صدر امرئ مسلم، أو في جنب امرئ مسلم.
قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
وما كان بين إسلامهم وعتاب الله عز وجل لهم بهذه الآية إلا أربعة سنين، وكأن الله عز وجل استبطأ الصحابة فعاجلهم بهذه الآية بعد أربعة سنين فقط.
فحذار -يا أخي- من قسوة القلب، فإن القلب إذا قسا لا تنفع فيه المواعظ أبداً، وإذا حضر قلبك فأقل شيء تراه يذكرك بالله عز وجل، وإن غاب قلبك فإن مائة ألف نبي لا يوصلون إليك موعظة.

(5/11)


الخوف من الميل عن الاستقامة
وهناك خوف من الميل عن الاستقامة على الأمر والنهي، والاستقامة على مذهب أهل السنة والجماعة، والاستقامة على التوحيد، فتخشى من البدعة، وتخشى أن تكون من الذين ظلموا.
وهناك الخوف من استيلاء العادة في اتباع الشهوات، فتطل على شهواتك متبعاً لها حتى تصبح عادة لك لا تستطيع أن تفارقها، ثم بعد ذلك يكلك الله إلى حسناتك، وإن أعظم الخذلان أن يكلك الله عز وجل إلى أعمالك فيصيبك الغرور والعجب، وهو صنو الكفر.
فاقطع كل ما يقطعك عن الله، فإذا ابتليت بصاحب يقطعك عن الله عز وجل فاتركه؛ لأنه قاطع طريق إلى الله عز وجل، وقاطع طريق الآخرة أشد من اللص، فاللص يسرق جيبك، أما هذا فيسرق رأس مالك، ويسرق وقتك مع الله عز وجل.

(5/12)


الخوف من تبعات الذنوب
وهناك بعد ذلك خوف تبعات الذنوب، فتخاف من اغتيابك للناس، ومن خيانتك للناس، ومن غشك للناس، ومن إضمار السوء للناس، فحاسب نفسك لنفسك، فإن غيرك من الأنفس عليها حسيب غيرك.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال له أبو بكر: قد شبت يا رسول الله قبل المشيب! فيقول: (شيبتني هود وأخواتها).

(5/13)


الخوف من الاغترار بالدنيا والركون إليها
ومن أسباب الخوف الخوف من الاغترار بالدنيا والركون إلى الدنيا.
والاغترار بزخرف الدنيا أن تميل إلى فتنة الدنيا، واعلم أن الدنيا إذا حلت أوحلت، وإذا كست أوكست، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل بظل شجرة ثم راح وتركها).

(5/14)


الخوف من الفتن
وهناك الخوف من فتن الدنيا: فالإنسان يخشى على نفسه من الدجال، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر للقلوب الحية -قلوب الصحابة- أمر الدجال فخافوا، حتى قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ظهر وأنا فيكم فأنا حجيجه).
فالصحابة خافوا على أنفسهم من هذه الفتنة، وهي أعظم فتنة من يوم أن خلق الله السماوات والأرض إلى قيام الساعة.

(5/15)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 09:55   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي


الخوف من اطلاع الله على السرائر
وهناك الخوف من اطلاع الله على سريرتك حال الغفلة عنه.
قال تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13] فهو يعلم السر وأخفى من السر.
فخف من الوقوف بين يدي الله عز وجل يوم تبدو السمات فوق الجباه، ويظهر المخفي.
فاتق الله تبارك وتعالى، أما تخاف من اطلاع الله عز وجل على قلبك وأنت تزخرف ظاهرك للناس؟! فإياك أن تكون ولياً لله في العلانية، عدواً له في السر، وأن تكون ولياً لله في العلانية، ولياً للشيطان في السر.
(5/16)
الخوف من سوء الخاتمة
ثم بعد ذلك الخوف من أن يختم لك بخاتمة السوء.
يقول سيدنا سفيان الثوري: بكينا على الذنوب زماناً، ونحن الآن نبكي على الإسلام.
ولما نزل به الموت بكى، فقالوا: لم هذا الجزع؟! قال: والله ما خوفي من الذنوب ولو بلغت ذنوبي أمثال الجبال، وإنما أخاف أن أسلب الإيمان عند الموت.
وأشد من هذا خوف السابقة، فماذا سبق في علم الله لك في اللوح المحفوظ؟! وماذا كتب الله لك قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؟! كان أحد الصالحين يأتي إلى أخيه ويقول: تعال لنبكي لعلم الله فينا؟ أي: ماذا قدر علينا ربنا في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض.
(5/17)
الخوف من سكرات الموت
ثم بعد ذلك الخوف من سكرات الموت، ومن شدة الموت، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات).
(5/18)
الخوف من رؤية ملائكة الموت
والخوف من رؤية ملك الموت، ومعاينة الرسل.
ويروى أن رجلاً وعظ سفيان الثوري، فذكر الله عز وجل حتى رق، فقال سفيان: والله إني لأحب الموت الآن.
فقال: ولكني والله لا أحب الموت، فقال: لمَ؟ قال: لمعاينة الرسل.
ثم قام يبكي يخط الأرض برجله.
يعني بذلك رؤية ملك الموت ولم يره من قبل، ورؤية ملائكة العذاب، أو ملائكة الرحمة.
فالسكرات شيء، ورؤية ملائكة العذاب شيء، وضرب ملائكة العذاب شيء آخر، {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:27].
(5/19)
الخوف من أهوال القبور
ثم بعد ذلك الخوف من القبر: ويروى (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جمعاً من أصحابه قد اجتمعوا، فقال: علام اجتمع هؤلاء؟ فقالوا: يا رسول الله! على قبر يحفرونه.
فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين يدي إخوانه، ثم توجه إلى القبر وبكى حتى بل الثرى من دموعه، وقال: أي إخواني! لمثل هذا اليوم فأعدوا).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه).
فخف هذا اليوم ولا تتغافل عنه، وأعد لرؤية ملك الموت، ونزولك بدار البلاء بين أقوام لا يتكلمون، وأحباء لا يتزاورون، صار عليهم الجديدان سرمداً إلى يوم يبعثون.
فيا خبر! ما أثكلك، وتحتك الدواهي، مر بعسكرهم إن كنت ماراً، وادعهم إن كنت داعياً، وانظر إلى تقارب منازلهم، وسلهم عن الأعين النظرة التي كانوا بها إلى اللذات ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة وعن الأجساد الناعمة.
سلهم عما فعلت الديدان باللحمان تحت الأكفان، سالت الأحداق عن الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وقيحاً وصديداً، واتخذت هوام الأرض وحشراتها في أبدانهم مقيلاً.
يا مغسل الوالد والولد، ويا تاركه في التراب وحده، قل لي: بأي خديك بدأ الثرى؟! وأين كسوتك لصيفك وشتائك؟! وأين ثمارك اليانعة؟! إني سألت التراب ما فعلت بوجوه فيك مبعثره فقال لي صيرت ريحهمو يؤذيك بعد مناظرٍ عطره وأكلت أجساداً منعمة كان النعيم يهزها نظره لم تبق غير جماجم عريت بيض تلوح أو أعظم نخرة ففي يوم من الأيام سيخرج كل منا في رحلة لا يرجع منها أبداً، وسيركب كل منا مركباً لا يركب مثله أبداً، وسنوضع على شفير القبر، فماذا أعددت من النور لهذه الظلمة، وماذا أعددت من الغنى لهذا الفقر، غم الضريح، وردم الصفيح، أفلا يبكيك هذا؟!
(5/20)
الخوف من سؤال الملكين
ثم بعد ذلك الخوف من سؤال الملكين: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم تفتنون في قبوركم قريباً من فتنة المسيح الدجال) يعني: سؤال الملكين عن ربك ودينك ورسولك، فهي فتنة تساوي في هولها فتنة المسيح الدجال.
قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، فإياك أن تقول: هاه هاه لا أدري! فإن كنت لا تدري في دار الدنيا فلن تدري غداً، فيقال لك: لا دريت ولا تليت، على الشك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، فحذار من ليلة تتمخض بنا عن يوم القيامة.
(5/21)
الخوف من عذاب القبر
ثم بعد ذلك الخوف من عذاب القبر: كان الوسيم بن جميل الثقفي عم قتيبة بن سعيد الشيخ الإمام إذا ذكر القبر بكى ويقول: أواه من القبر وظلمته، أواه من القبر وشدته، أواه من القبر وضيقه! وكانت إحدى العابدات إذا أطفأت السراج يبكي زوجها، وعندما تسأله عن ذلك يقول: يذكرني هذا بظلمة القبر.
ففي القبر يفرش لك -إذا هلكت- فراش من نار، ومهاد من نار، وتنظر من طاقة إلى النار، وتعيش كهيئة المنهوش، ويضيق عليك القبر حتى تختلف أضلاعك، فنعوذ بالله من ليلة صباحها يؤدي بنا إلى عرصات القيامة.
ثم بعد ذلك الخوف من القيامة وأهوالها، وهذا أمر سنفرده مع ذكر الخائفين.
(5/22)
الخوف من كشف الستر يوم القيامة
ثم الخوف من كشف الستر أمام الناس: أي: كشف ما ستر من أمرك على الناس في دار الدنيا من القبائح التي لو ظهرت لكانت الذلة والهوان، فستبدو علانية أمام الناس يوم أن يقال: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، فيصيح بك الأشهاد على مرأى من الناس: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18].
ثم بعد ذلك الخوف من المقام بين يدي الله عز وجل.
كان أحد الصالحين يقول: والله ما تكلمت كلمة إلا وأعددت لها موقفاً بين يدي الله عز وجل.
(5/23)
الخوف من المرور على الصراط
ثم بعد ذلك الخوف من المرور على الصراط: فيد تعلق، ورجل تطيش، وإنما الصراط دحض مزلة، فكيف تقوى على المرور عليه؟! قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] فنحن من الورود على يقين، ومن النجاة على حذر.
ولما نزلت هذه الآية بكى سيدنا عمر، فلما سئل عن ذلك قال: إن ربي أنزل على رسوله في كتابه آية ينبئني فيها أني وارد النار، فأنا من الورود على يقين ومن النجاة على حذر.
قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72]
(5/24)
الخوف من السؤال يوم القيامة ومن عذاب النار
ثم الخوف من السؤال عن النقير والفتيل والقطمير، وعن الحلال، وعن الشبهات، وعن المال الذي فيه شبهة، والمال الحرام، ثم تسأل عن الحلال من أين اكتسبته، وفيم أنفقته، ولو لم يكن إلا هذا لكفى.
ثم بعد ذلك الخوف من النار وأغلالها وأهوالها، وأنت ترى ملائكة النار ومعهم الكلاليب والخطاطيف والأغلال، والله عز وجل يقول: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30]، فإذا لم يرحمك أرحم الراحمين فمن سيرحمك؟! قال الشاعر: أنا العبد الذي كسب الذنوبا وصدته الخطايا أن يتوبا أنا العبد الذي أضحى حزيناً على زلاته قلقاً كئيبا أنا العبد الذي سطرت عليه صحائف لم يخف فيها الرقيبا أنا العبد المسيء عصيت سراً فما لي الآن لا أبدي النحيبا أنا الغدار كم عاهدت عهداً وكنت على الوفاء به كذوبا أنا العبد المخلف عن أناسٍ حووا من كل معروف نصيبا أنا العبد الغريق بلج بحرٍ أصيح لربما ألقى مجيبا أنا العبد السقيم من الخطايا وجئت الآن التمس الطبيبا أنا العبد الشريد ظلمت نفسي وقد وافيت بابكمو منيبا أنا العبد الفقير مددت كفي إليكم فادفعوا عني الخطوبا أنا المضطر أرجو منك عفواً ومن يرجو رضاك فلن يخيبا فواأسفا على عمرٍ تقضى ولم أكسب به إلا الذنوبا وأحذر أن يعاجلني مماتٌ يحير هول مطلعه اللبيبا ويا ذلاه من حشري ونشري بيومٍ يجعل الولدان شيبا ويا خوفاه من قبح اكتسابي إذا ما أبدت الصحف العيوبا وذلة موقفٍ وحساب عدلٍ أكون به على نفسي حسيبا ويا خوفاه من نارٍ تلظى إذا دخلت وأقلقت القلوبا فكادوا إذا بدت تنشق غيظاً على من كان ذماماً مريبا فوامن مد في كسب الخطايا أما آن الأوان لأن تتوبا وقال ثان: إذا ما قال لي ربي أما أستتحييت تعصيني وتخفي الذنب عن خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني وقال ثالث: يا من تمتع بالدنيا وزينتها ولا تنام عن اللذات عيناه أفنيت عمرك فيما لست تدركه تقول لله ماذا حين تلقاه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(5/25)
الطريق إلى بيت المقدس
لقد قامت دولة لليهود على أنقاض أمة تهاوى عزها، وسقط لواؤها، وتهدم بنيانها، وانتقضت عراها، وتشتت شملها، وتفرق جمعها، قامت على أنقاض قوم نسوا أو تناسوا عزة قومهم، وإباء أجدادهم، نسوا الفاروق الذي أرعب الصليبيين ونعله في يده، وفي ثوبه ثلاث عشرة رقعة، نسوا صلاح الدين وصوت الأذان وهو يصدح من منائر القدس: حي على الفلاح، نسوا الجهاد والكفاح والنضال والنفاح.
وقد نصت كثير من الآيات البينات، والعديد من الأحاديث الواضحات على فضل بيت المقدس وشرفه، فلابد من إرجاعه إلى حوزة المسلمين.
(6/1)
أحكام شهر رجب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
(6/2)
أسماء شهر رجب
شهر رجب من الأشهر الحرم، وهو بين جمادى وشعبان، والأشهر الحرم سميت بذلك، لأن أهل الجاهلية كانوا يحرمون القتال فيها، ولحرمة وقوع الذنب فيها أكثر من غيرها من الشهور.
ولشهر رجب أسماء منها: رجب من الترجيب، أي: التعظيم؛ لأنه كان يعظم.
ومن أسمائه أيضاً: رجم بالميم، يقولون: إنه كانت ترجم فيه الشياطين.
وسمي أيضاً: شهر رجب الأصم، لأنه لم تكن تسمع فيه قعقعة بسلاح.
وسمي شهر رجب الأصب، قالوا: لأن الرحمة تصب فيه صباً.
وسمي المعكعك، وسمي المعلى، وسمي المقيم؛ لأن حرمته ثابتة مقيمة.
وأما التسمية الشرعية فهي شهر رجب.
(6/3)
حكم الاحتفال بشهر رجب
وأما عن حكم الاحتفال به فقد كره ابن عباس الاحتفال برجب واتخاذه عيداً، وسيدنا عمر بن الخطاب كان يضرب أكف الرجال الصائمين في رجب؛ حتى يضعوها في الطعام، ويقول: ما رجب؟! إن رجباً كان تعظمه الجاهلية فلما كان الإسلام ترك، وكره عمر بن الخطاب أن يتخذ صيامه سنة.
وهناك من علماء السلف من كان يصوم الأربعة الأشهر الحرم، ولا يفطر إلا في يوم عيد الأضحى وأيام التشريق، منهم الحسن البصري وأبو إسحاق السبيعي، ومنهم من كان يكثر الصيام في الأشهر الحرم كـ سفيان الثوري، وكره الإمام أحمد، ويحيى بن سعيد القطان، وأنس رضوان الله عليه، وابن عمر أن يتم الرجل صيام رجب، وكان أبو بكرة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى أهله قد جمعوا السلال والكيزان لمجيء شهر رجب، يقلب السلال، ويكسر الكيزان، ويقول: ماذا؟! أجعلتم رجب كرمضان؟!، ونص الإمام أحمد أنه لا يصوم رجب كرمضان بتمامه إلا من صام الدهر بأكمله.
وورد حديث ضعيف: (أن في الجنة نهر يقال له: رجب، ماؤه أحلى من العسل، وأشد بياضاً من اللبن، من صام يوماً في رجب سقاه الله من ذلك النهر) وقد ضعفه الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه: (تبيين العجب في ما ورد في فضل رجب) وقال: لا يصح في فضل رجب حديث صحيح.
(6/4)
حكم تخصيص صلاة معينة في رجب وذكر من قال إن الإسراء في رجب
ما ترك المبتدعة شهراً إلا وألحقوا به صلاة، وصلاة رجب تسمى صلاة الرغائب، وقد وضع الوضاعون حديثاً نسبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأساسه من علي بن جهضم الذي كان يضع الحديث، وفي هذا الحديث: (أن من صام أول خميس من رجب، وقام في ليلة الجمعة التي تسميها الملائكة الرغائب، وفيها يجتمع الملائكة من أقطار السماوات والأرض حول الكعبة ويسألون الله تبارك وتعالى أن يغفر لصوام رجب)، وقد روى في هذا الموضوع قولاً قال: (إن من صام هذه الليلة وقام ليلها ما بين المغرب والعشاء، كان له ثلاثة: أماناً من الفزع الأكبر، وأن يغفر الله ما تقدم من ذنبه، وأن يعصم في ما بقي).
يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني: والله! إني لأعجب، وإني لأغار لرمضان ولصلاة التراويح من هذه الصلاة، ليس جحداً بهذه الصلاة، بل إن العوام يجتمعون على هذه الصلاة أكثر مما يجتمعون في شهر رمضان، وكثير من الوعاظ يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي، وهذا الحديث فيه أبو بكر بن القاسم، وهو ضعيف لا يصح.
أما حديث صلاة الرغائب، فقد قال الإمام الحافظ عبد الوهاب شيخ الإمام ابن حجر العسقلاني: فتشت عن رجاله في جميع الكتب فلم أجدهم.
يعني: أن أسانيده أسانيد ملفقة، يضعها الوضاعون في فضل صلاة هذا الشهر، وصلاة الرغائب ضعفها شيخ الإسلام الإمام العربي الأنصاري، وضعفها ابن الصنعاني، وابن الزيدي، وابن رجب الحنبلي ولم يصححها إلا ابن الصلاح وهذه سقطة، وسقطات العلماء في بحر جودهم وفي بحر علمهم مغفورة.
يقول الحافظ ابن حجر: وأما ما يقوله القصاص والمفسرون من أن الإسراء والمعراج كان في رجب، فذلك كذب.
ضعفه ابن حجر العسقلاني، وكذلك الإمام الحافظ إبراهيم الحربي، وابن رجب الحنبلي، وقالوا: إن الإسناد إلى القاسم بن محمد لا يصح.
وهناك فريق من العلماء منهم الإمام النووي قالوا: إن الإسراء كان في شهر رجب، وهناك جمع من العلماء قالوا: إن الإسراء كان في شهر رمضان، ومنهم ابن سعد، وهناك جمع من العلماء قالوا: إن الإسراء كان في ربيع الآخر، ومنهم إبراهيم الحربي، فهذا قول العلماء أن الإسراء والمعراج لم يكن في رجب.
وعلى قول من قال: إن الإسراء كان في رجب، أما اختصاصه في السابع والعشرين من رجب فهذا ما قاله إلا العماد ونقل عنه العلامة ابن كثير.
(6/5)
حكم القتال والذبيحة في رجب
تذهب السيدة عائشة إلى أن القتال في رجب منسوخ لقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} [المائدة:2]، ومذهب الجمهور على خلاف مذهب عائشة لقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة:217]، فحكم القتال في رجب غير جائز.
أما بالنسبة للذبيحة في رجب، فهناك حديث للنووي وغيره ورواه الإمام البخاري يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا فرعة، ولا عتيرة)، وورد عند النسائي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من شاء منكم أن يفرع فرع، ومن شاء أن يعتر عتر)، فجمع العلماء بين هذا الحديث وحديث أبي هريرة فقالوا: إن النفي هنا هو نفي الوجوب، أي: أن الذبيحة ليست واجبة، والرأي الأقوى الذي ذهب إليه ابن رجب الحنبلي قال: والعمل على حديث أبي هريرة بكراهية الذبيحة التي كانوا يذبحونها في رجب العتيرة، والنهي أولى، ويقدم حديث أبي هريرة في هذا الباب فحديثه أصح.
(6/6)
ذكر ما وقع من حوادث تاريخية في رجب
في هذا الشهر العظيم وقعت حادثتان عظيمتان: فتح بيت المقدس في رجب في السنة السادسة عشر للهجرة، وتحرير صلاح الدين الأيوبي لبيت المقدس في يوم الجمعة الموافق 27 رجب سنة 583 هجرية.
القدس تحتل مكان القلب من قلب كل امرئ مسلم قديسة التاريخ والآباء والذكر الحسن يا عطر كل الأنبياء المخلصين يا زهر كل الأولياء المتقين من قال اسمك يمتهن يا قدسنا يا عشقنا يا صهرنا قاتلت فيك ولم يزل يحلو السفر.
(6/7)
ذكر ما ورد من فضائل بيت القدس من الكتاب والسنة
القدس بنت السماء التي ضمت النور بالساعدين، ومسجدها وأذانها يحتل مكان القلب، ويقعان في قلب كل مسلم، هذه الأرض التي باركها وقدسها الله تبارك وتعالى، وألقى على ظلالها الطهر، هذه الأرض التي جاءت آيات كثيرة في بركتها، يقول الله تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1].
وجبريل حاد لمشرودة تقاصر عنها خيال الزمان ونور ينادي ونور يلبي ونور يضاء به المشرقان وفاض الذي لا تراه العيون يراه محمد رؤيا عيان ويقول الله تبارك وتعالى في كتابه على لسان موسى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21].
ويقول الله تبارك وتعالى عن بيت المقدس: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137].
ويقول الله تبارك وتعالى عن الشام وبيت المقدس: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:18].
ويقول الله تبارك وتعالى عن الشام وبيت المقدس فيما جاء عن إبراهيم: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:71].
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81].
ويقول الله تبارك وتعالى عن عيسى وعن أمه عليهما السلام: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50].
قال قتادة والسدي: إنها بيت المقدس.
ويقول الله تبارك وتعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36].
قال عكرمة: هي المساجد الأربعة: الكعبة، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى، ومسجد قباء.
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114].
نزلت هذه بقول علماء التفسير في بيت المقدس.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس، سأل ربه ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يأتي إلا للصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أما اثنتين فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة) هذا الحديث رواه الإمام ابن ماجه في سننه، وصححه الشيخ الألباني في صحيح ابن ماجه وفي صحيح الجامع الصغير.
فقوله: (لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس) أي: من تجديد بناء البيت؛ لأن الذي بناه يعقوب، وكان بين بناء المسجد الأقصى وبين بناء أول بيت وضع للناس أربعون سنة كما جاء في الصحيحين.
وقوله: (سأل ربه ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه) أي: حكماً يوافق حكم الله تبارك وتعالى، كما قال الله تبارك وتعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79].
وقوله: (وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده) أي: وملكاً لا يكون لأحد من بعده، والمعجزة التي أعطيها سيدنا سليمان كانت في الملك والنعم التي أعطاها الله تبارك وتعالى لسليمان، فما أعطى الله تبارك وتعالى ملك سليمان لأحد من قبله ولا لأحد من بعده.
وقوله: (وألا يأتي هذا المسجد) أي: بيت المقدس، (أحد لا يأتي إلا للصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه).
وروى الإمام البخاري والإمام مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا لثلاث: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى).
وروى الإمام النسائي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتيت بالبراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس، ثم ربطته في الحلقة التي يربط فيها الأنبياء، ثم دخلت المسجد)، لو لم يكن لبيت المقدس إلا هذه الفضيلة لكفى.
وعن جنادة الأزدي عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الدجال ويقول في الدجال: (فيمكث في الأرض أربعين صباحاً، يبلغ ملكه كل منهل، لا يأتي أربعة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد الطور، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم).
وعن ميمونة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: (قلت: يا رسول الله! أفتنا في بيت المقدس، قال: أرض المحشر والمنشر).
أي: يحشر الناس إليها ومنها ينشرون.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره، قالت: قلت: يا رسول الله! أرأيت إن لم أستطع أن أتحمل إليه، قال: فاهدوا له زيتاً يسرج فيه، فمن فعل فهو كمن أتاه).
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق:41]، قالوا: ينادي -وهو إسرافيل- يقف على صخرة المقدس، وينادي الناس للنشر وللوقوف أمام الله تبارك وتعالى في عرفات القيامة.
الجراحات تستغيث وتشكو مل سمع الوجود أين صلاح مررت بالمسجد المحزون أسأله هل في المصلى أو المحراب مروان تغير المسجد المحزون واختلفت على المنابر أحرار وعبدان فلا الأذان أذان في منائره من حيث يتلى ولا الآذان آذان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد من رواية أبي الدرداء: (بينا أنا نائم رأيت عمود الكتاب قد احتمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري فعمد به إلى الشام) قال ابن حجر: سنده صحيح.
وذلك لأن ملك النبوة في آخر الزمان سيكون في الشام، بل الخلافة الإسلامية سيكون مركزها في القدس، لما رواه الإمام أحمد والإمام أبو داود والحاكم في مستدركه عن ابن حوالة الأزدي قال: (وضع رسول الله صلى الله وسلم يده على رأسي -أو على هامتي- وقال: يا ابن حوالة! إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة -أي: فلسطين- فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام، وللساعة يومئذ أقرب للناس من يدي هذه من رأسك) وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني.
(6/8)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 09:56   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي


اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ببيت المقدس
المسجد الأقصى بيت المقدس وجه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم ناظره، وفي غزوة مؤتة ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف مقاتل ليذهبوا إلى مؤتة حيث يعسكر جحافل الروم، وكانوا قد أخذوا الشام ومنها بيت المقدس، وفي مؤتة من أرض الشام سالت دماء زكية لأطهر الصحابة، سالت دماء زيد بن حارثة، وسالت دماء جعفر الطيار الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشبهت خلقي وخلقي)، وسالت دماء عبد الله بن رواحة.
يقول الشاعر: وفيها دماء الطهر لابن رواحة وفيها قضى زيد العوالي وجعفر وفي السنة التاسعة من الهجرة قاد النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة ثلاثين ألف مقاتل، حتى وصل إلى تبوك وفرت جحافل الروم، وبعد أن طهر البيت الحرام مما فيه من الأصنام والأوثان، يمم الرسول الله صلى الله عليه وسلم وجهته إلى المسجد الأقصى، فعقد اللواء بيديه لـ أسامة، ليؤدب عساكر الروم وجحافلها، فمنعه مرض الموت من ذلك، وعسكر أسامة هناك، ومات الرسول صلى الله عليه وسلم، فأراد بعض الناس من أبي بكر أن يستعيد هذا الجيش لقتال المرتدين، فقال: والله! لا أفكن لواءً عقده بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي عهد أبي بكر الصديق استطاع المسلمون أن يستنفذوا من براثن الصليبية بعض مدن فلسطين، وأرسل إليهم خالد بن الوليد الذي قال فيه الصديق: والله لأذهبن وساوس الروم بسيف خالد، ولما وصل إلى قنسرين والتقى بالروم قال خالد بن الوليد سيف الله لجحافل الروم: والله! لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم، أو لأنزلكم إلينا حتى نقاتلكم.
ولما سمع عمر هذه الكلمة فيما بعد قال: يرحم الله أبا بكر، لقد كان أعلم بالرجال مني.
(6/9)
استلام عمر بن الخطاب مفاتيح بيت المقدس
أرسل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عمرو بن العاص داهية العرب وذكي الصحابة إلى أرطبون ملك الروم، وأراد عمرو بن العاص أن يتحسس بنفسه مواقع جيش الروم، فذهب على أنه رسول من عمرو بن العاص إلى أرطبون قائد جيوش الروم، فلما وصل إلى أرطبون، قال لما رأى من ذكاء هذا الرجل إما أن يكون مستشاراً لـ عمرو بن العاص وإما أن يكون هو بذاته عمرو، فلأقتلنه بعد أن يمضي إلى الصحراء، وحدث بذلك قائداً من قواده، وشعر عمرو بن العاص بالخطر، فقال له: أيها الملك! إن سيدي عمرو له عشرة من المستشارين غيري أنا أقلهم أو كلهم على شاكلتي، فأشار الملك إلى الرجل الذي أمره بقتل عمرو بأن لا تفعل؛ فربما كان هذا أحد مستشاري عمرو، فلما وصل عمرو إلى مأمنه أرسل إلى أرطبون أن الذي كان يحدثك هو عمرو بن العاص.
وعسكرت الجيوش الإسلامية الوضيئة -وكان عددهم خمسة عشر ألف مقاتل- أربعة أشهر على آثار القدس، خمسة آلاف تحت قيادة أبي عبيدة، وخمسة آلاف تحت قيادة يزيد بن أبي سفيان، وخمسة آلاف تحت قيادة شرحبيل بن حسنة، فأرسل بطاريك القدس: والله لا نسلم المفتاح إلا لـ عمر، وأتى عمر ليتسلم المفتاح، فجاء سيدنا عمر إلى الشام بنفسه ولم يلبس قميص صوف، ولم يضع على رأسه عمامة، تلوح صلعته للشمس، راكباً على جمله، فلما وصل إلى الشام ترجل عمر وترجل أبو عبيدة وهمّ أبو عبيدة أن يقبل يد عمر، فهم عمر أن يقبل رجل أبي عبيدة، فامتنع أبو عبيدة وامتنع عمر، فقال له أبو عبيدة لما رأى قميصه مرقعاً قد اتسخ: يا أمير المؤمنين! إنك تأتي إلى قوم ذوي شأن فلا يصلح أن تأتيهم بهذه الهيئة، ثم أعطاه برذوناً، فلما ركب عمر فوق البرذون تاه به البرذون وتبختر في مشيته، فنزل عنه وقال: والله! ما كنت أظن أن الشياطين تركب قبل اليوم، علي بقميصي، ووجدوا بين كتفيه وبين منكبيه ثلاث عشرة رقعة.
فلما مضى إلى القدس ليدخلها خاض في الوحل، فنزع نعليه ووضعهما في يد، وهو يخطم الجمل باليد الأخرى، وخاض في الوحل، فقال أبو عبيدة: ما رأيت مثل اليوم منظراً، فضربه عمر في صدره، وقال: لو قالها غيرك يا أبا عبيدة! لقد كنا أحقر وأذل الناس، فأعزنا الله بالإسلام، فلو طلبنا العزة في غيره لأذلنا الله.
ثم سار إلى الصخرة، فقال لـ كعب: أرني موقع الصخرة، وكانت المرأة إذا حاضت حيضاً أرسلت بخرقة الحيض إلى مكان الصخرة، وهي قبلة اليهود التي يزعمون، حتى قال لـ هرقل: والله! لأنتم أحرى بالقتل على ما فعلتم بهذا المسجد من اليهود على قتل يحيى وعلى بني يحيى، فكان عمر يضع القمامات في جلبابه وفي قميصه ويخرجها خارج المسجد، ومن خلفه المسلمون.
ومن الشروط التي اشترطها النصارى على أنفسهم قولهم لـ عمر: أن تدق الأجراس في جوف الكنائس دقاً خفيفاً بحيث لا يسمعه المسلمون، وأن نقوم للمسلمين من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس، وألا نتشبه بالمسلمين في فرق شعر ولا في لباس نعل، وألا نضع السرج على الخيل، وأن نركب الخيل من شق واحد، وأن نلزم زنارنا حيث كنا.
أيا عمر الفاروق هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجندك في حطين صلوا وكبروا وتبكيك من شوق المآذن مكة وتبكيك بدر يا حبيبي وخيبر نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقصر وليمون يافا يابس في حقوله وهل شجر في قبضة الظلم يثمر وقال الآخر: وكأنني وابن الوليد وجنده وبكل كف لامع الأنصال نشروا على أرض الخليل لواءهم فغدا يظلل أطهر الأطلال وعن اليمين أبو عبيدة قد أتى وأتى صلاح الدين صوب شمال يسعى بجند قد شَرَوْا أرواحهم لله يوم تسابق لقتال فهم الأعزة في كتاب خالد ما بعد قول الله من أقوال ولما تولى معاوية الخلافة، أخذ العهد بالخلافة في بيت المقدس، ثم جعل دمشق عاصمة لخلافته، وفي عهد عبد الملك بن مروان أخذ البيعة بالخلافة في بيت المقدس، وأوقف عبد الملك بن مروان خراج مصر سبع سنوات على تجديد المسجدين، وعمر بن عبد العزيز لما تولى الخلافة طلب من الجميع أن يذهبوا إلى بيت المقدس ويقسموا هناك بين ربوعه يمين الولاء والطاعة والعدل بين الرعية.
(6/10)
سقوط القدس ثم استرجاعها على يد صلاح الدين
لم تسقط القدس إلا في سنة 482هـ في عهد الفاطميين غلاة الشيعة، أحفاد عبد الله بن سبأ اليهودي المؤسس الحقيقي لدين الشيعة، وقد سقطت القدس في عهد الخليفة المستعلي بالله لا أعلاه الله، وقد حاصروا القدس أربعين يوماً، وذلك عندما أتى إلى القدس سامعان الثاني وبطرس الناسك وبابا روما، فقاد الجيوش الصليبية، ومنهم ملوك أوروبا الوسطى وأوروبا الغربية، وفرضوا حصاراً حول القدس أربعين يوماً، حتى سلم قائد الجيش الفاطمي مستشار الدولة القدس، ورابط ألف ألف مقاتل صليبي، وقتل في المعارك حول القدس آلاف المسلمين، وامتلأت أرضية المسجد بدماء ستين ألف مقاتل مسلم، حتى خاض قائد الجيوش الصليبية في جثث المسلمين إلى ركبتيه، إذ لم يروا حرمة لهذه المدينة الطيبة ولا حرمة لمسلم، فقد قتلوا من قتلوا، وذبحوا من ذبحوا، ورفعوا الصليب على مسجد الصخرة.
وكم من مسجد جعلوه ديراً على محرابه نصب الصليب دم الخنزير فيه لهم خلوف وتحريق المصاحف فيه طيب وظلت القدس أسيرة إحدى وتسعين سنة، وجعلوا من قبة الصخرة مرتعاً لكلابهم، وربطوا الخيل والخنازير في أرجاء المسجد، حتى عسكر صلاح الدين الأيوبي في الخامس عشر من رجب، وفرض حصاراً حول القدس، ولما صارحوه على أن تفتح القدس بطريقة اشترطوها، قال: والله! لا تفتح إلا عنوة كما أخذت عنوة، فقال له مقدم النصارى الذي في القدس: إذاً نقتل من بأيدينا من أسرى المسلمين -وهم أربعة آلاف أسير مسلم- ونقتل أولادنا ونساءنا وجوارينا، ثم نهدم القدس وقبة الصخرة، ثم نخرج إلى العراء نقاتلكم قتال الموت، وهنا استجاب صلاح الدين إلى مطالبهم على أن يخرج كل رجل ويدفع عشرة دنانير، وكل امرأة خمسة دنانير، وعن كل صبي أو صبية ديناران، ومن يمكث أربعين يوماً ولا يخرج يقع أسيراً في أيدي المسلمين، وتم أسر ستة عشر ألف رجل وامرأة وولد، ودخلت جيوش المسلمين القدس بعد طول غيبة، في يوم الجمعة 27 من شهر رجب سنة 593هـ، دخل صلاح الدين الأيوبي، واهتموا بإزالة ما فيه من الصلبان والقساوسة والرهبان والخنازير، ثم غسلوا المسجد بالماء الطاهر، ثم بعد ذلك غسلوه مرة ثانية وقبة الصخرة بماء الورد والمسك الفاخر، وصدر المرسوم الصلاحي بأن يكون خطيب الجمعة في يوم الجمعة 4 شعبان هو القاضي القرشي ابن الزكي.
ما أجمل عودة الأرض إلى أهلها! وما أجمل عودة الأرض إلى الذين جادوا بأنفسهم لله تبارك وتعالى! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يقتتل المسلمون واليهود، وحتى يختبئ اليهودي خلف الحجر والشجر، وينطق الحجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، إلا شجر الغرقد فإنه من شجرهم) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد الفتح بثمان، أي: في اليوم الرابع من شعبان علا صوت الأذان، وخسئ القسيسون والرهبان، وصمتت النواقيس والرهبان، وقرئ القرآن، وعلقت القناديل، وتلي التنزيل، وتنوعت العبادات، وكثرت الدعوات، وكبر الله تبارك وتعالى الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد؛ كبره كل قائم وقاعد، وكل راكع وساجد، وامتلأ الجامع، وسالت لرقة القلوب المدامع.
كما قال العلامة ابن كثير: وصعد القاضي المنبر، فكان أول ما قال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]، ثم أتى بجميع المحامد أي: آيات الحمد التي في القرآن الكريم.
فما أحلاها من عظة! ما تمسك المسلمون بدينهم إلا وأعزهم الله تبارك وتعالى، وما فرطوا فيه إلا وأذلهم الله تبارك وتعالى.
(6/11)
نكبة اغتصاب اليهود لفلسطين مرة أخرى
بعد سنوات عديدة سقط المسجد مرة ثانية في أيدي اليهود المشردين المشتتين، هؤلاء اليهود إخوان القردة والخنازير يحتلون أرض بيت المقدس، وكان احتلالهم لبيت المقدس لوعد بلفور عام 1917م.
تقول كاتبة مذكرات بلفور: إن بلفور كان يؤمن بالتوراة إيماناً عميقاً، ويؤمن بها إيماناً حرفياً، ولإيمانه بالتوراة أعطى اليهود فلسطين على أساس أنها ستكون لهم، كما جاء في التوراة المحرفة، فما أعطاها نظام تولي فقط، وإنما أعطاها لإيمانه العميق بالتوراة المحرفة، وقبلها لينين زعيم الشيوعية وكلبهم الأحمر، إذ أعطى فلسطين عام 1917م لرفاقه اليهود الذين شاركوه في الثورة، وأصدر منشوراً بإعطاء موطناً لليهود في فلسطين.
وقبل سنة 1798م قال نابليون بونابرت في الحملة الفرنسية على مصر أمام يهود العالم: أيها الإسرائيليون! أيها الشعب المختار! يا ورثة فلسطين الحقيقيين! هذه اللحظة قد لا تعود لآلاف السنين، فانتهزوا هذه اللحظة لإقامة وطن قومي لكم في فلسطين.
فـ نابليون بونابرت وعد اليهود قبل أن يعدهم لينين.
واجتمعت جحافل الصليبيين والشيوعيين على الغدر بفلسطين وأقيمت الدولة اليهودية، وما استطاع أهلها أن يقاتلوا إذ لم يكن لهم من يقودهم ويأمرهم، فقائد القوات الأردنية لم يكن أردنياً، وإنما كان إنجليزياً، وحين لاقى الجيش المصري العدو في الفالوجة أشار عليهم القائد الإنجليزي أن يلبسوا ملابس النساء إذا أرادوا أن يخرجوا من الفالوجة، فامتنعوا من ذلك.
وأول سيارة دخلت إلى سينا نزل منها الجنود والضباط الإسرائيليون، وقبلوا الأرض الذي تسلم فيها موسى التوراة من ربه، أو التي كلم موسى فيها ربه.
إن ما بيننا وبين هؤلاء اليهود حرب دينية بحتة، ففي عام 1956م كانت أول سيارة جيب تخترق أرض سينا محملة بنسخة كبيرة من التوراة، ووراء هذا الكتاب حاخام يهودي يتلو على الجنود الإسرائيليين: يا أبناء إسرائيل! إنكم الآن تدخلون الأرض المقدسة، إنكم الآن أتيتم إلى الأرض التي تسلم موسى فيها رسالة من ربه، فقاتلوا أعداء موسى.
وفي سنة 1967م ألفت بنت موشي ديان كتاباً يسمى كتاب (جندي من إسرائيل) -وكانت ممن اشترك في الحرب- تقول فيه: وكان ينتابني الرعب، ويعتصر قلوبنا الخوف من لقاء الجبهة الجنوبية لجيش مصر، فكان إذا أتانا الحاخام وتلا علينا نصوصاً من التوراة، استحال الخوف أمناً، بينما كانت إذاعة العدو تردد للجنود المصريين: قاتلوا من أجل الربيع، قاتلوا من أجل عشاق الحياة، قاتلوا من أجل صناع الحياة، وأم كلثوم معهم في المعركة، يا خيبة الأمل! وبعد المعركة تساقطت سبعمائة وخمسون طائرة، حتى إن جمال عبد الناصر أرسل إلى الملك حسين وقال له: أسقطنا ثلثي طائرات العدو، طائراتنا فوق تل أبيب، اطمئن يا جلالة الملك! التوقيع سلمي.
أنقل هذا الكلام سخرية من رجالات العرب.
كوكب الشرق لا تذوبي غراماً ودلالاً وحرقة وهياما ففلسطين لا تحب السكارى وربى القدس لا تريد النياما كوكب الشرق ضاع قومي لما تاه في حبك القطيع وهاما ولو أن الخيام يبعث حياً هوت الكأس من يديه حطاما
(6/12)
العداء الديني بين المسلمين واليهود
ما بيننا وبين هؤلاء اليهود حرب دينية بحتة، يقول الله تبارك وتعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، فهذه آية لا يستطيع أي كذاب أن ينكرها.
فاليهود قتلة الأنبياء قتلوا يحيى وقتلوا قبله أباه زكريا، وأرادوا أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ دست امرأة زعيم من زعماء اليهود السم في ذراع الشاة، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الشاة تخبرني أنها مسمومة).
ومات من أكل هذه الأكلة بشر بن البراء الصحابي الجليل، بل قال كثير من العلماء: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات من أثر السم، لأنه قال لأخت بشر بن البراء في مرض الموت: (هذا أوان انقطاع أبهري من أثر الأكلة).
ومن اليهود عليهم اللعنة من الله، منهم كعب بن الأشرف الذي سب أمهات المؤمنين، ومنهم عبد الله بن سبأ مؤسس دين الشيعة الأكبر، ومنهم مدحت باشا مثير النعرات القومية، والذي كان سبباً في إسقاط دولة الخلافة على يد اليهودي الأصل مصطفى كمال أتاتورك؛ لأنه كان من يهود الدونمة.
ومنهم كارل ماركس زعيم الشيوعية، ومن اليهود أيضاً جامبل كرتر، وقبائحهم لا تنقضي ولا تعد، فما بيننا وبين اليهود حرب دينية بحتة، ودولة إسرائيل دولة دينية، وشعارها شعار ديني، وتسمى بإسرائيل وهو نبي الله يعقوب، وحدودها كما جاء في الإصحاح الخامس عشر من التوراة المحرفة: (ما بين النيل إلى الفرات لنسلك هذه الأرض)، من نهر النيل إلى النهر الكبير؛ نهر الفرات، وعلمهم أيضاً فيه شعار ديني: خطان أزرقان يشيران إلى النيل والفرات وبينهما مسجد داود إشارة إلى ملك إسرائيل لهذه الأرض.
(6/13)
العمالة الهابطة ودورها في سقوط الأرض
وعلى الطرف الآخر تجد الجميع يتساقطون، وأول من يتساقط أصحاب الأرض؛ منظمة فتح التي عقدت كامب غزة وأريحا، هذه المنظمة العلمانية التي لا دين لها، عند كل عملية فدائية كلمة السر سب دين الله تبارك وتعالى أو سب الرسول، كان يقول القائل منهم إن تسل عن نسبي أنا ماركسي لينيني أمي.
وهذا ياسر عرفات حينما اشتكى لـ ديفيد كاسترو قال له: وأنت مرشدنا وزعيمنا الروحي، وجعل محمود درويش مستشاراً له، وحينما نزل إلى مطار القاهرة الدولي إذا بآلاف مؤلفة يستمعون إلى محمود درويش الشيوعي المرتد، وقد كان مستشاراً ولكن عرفات أقاله من منصبه، وقد نظم محمود درويش قصيدة بعنوان: للحقيقة وجهان ولون الثلج أسود، يقول فيها: لم تقاتل لأنك تخشى الشهادة لكن نعشك عرشك تحمل العرش إن أردت العرش يا ملك الانتظار لم يترك لنا هذا السلام إلا حفنة من غبار ويقول محمود درويش: أنا من قرية عزلاء منفية كل رجالها في الحقل والمعمل يحبون الشيوعية وقال في ياسر عرفات: أنا يا أخي! آمنت بالشعب المقلد والمكبل وحملت رشاشي لتحمل بعدنا الأجيال منجل شعار الشيوعية وقال أيضاً: نامي فعين الله نائمة عنا وأسراب الشحارير ويقول في قصيدته مديح الظل العالي: يا خالقي في هذه الساعات من عدم تجلّى -يعني: ظهر وبان-.
فلعل لي رباً لأعبده لعلَّ أما رشاد حسين شاعر من شعراء منظمة فتح يقول: الله أصبح غائباً يا سيدي صابر إذاً حتى بساط المسجد أما سميح القاسم عضو الكنيست الإسرائيلي وشاعر من شعراء الثورة الفلسطينية: يقول في قصيدته: (التعاويذ المضادة للطائرات): والله نحن نشاؤه بغرورنا شيئاً له قسماتنا الشوهاء ترسمه أنانياتنا ويقول محمود توفيق زياد في قصيدته (عيوني إليك المراكشية) يقول: وكان الله جندياً يحمل الحجارة ويعزل الإسمنت بيديه ويصطاد السمك لأطفال فلسطين ويقول محمود بسيسو المرتد الملحد في قصيدة له (إلى سائحة): وآخر ديك قد ذبحناه بقي الله هؤلاء هم أصحاب الردة، وشعراء الإباحية والزندقة، كلهم مستشارو عرفات، فالعلمانية لا دين لها، وهي التي احتفلت بـ لينين الذي أعطى أول وعد لليهود في فلسطين.
يقول محمود توفيق زياد: أمامه وقفت خاشع الجبين ضريحك المنصوب في القيود يا لينين يكفيك أن عدانا أهدروا دمانا ونحن من دمنا نحسو ونحتلب
(6/14)
أمريكا وإسرائيل
إن ما بين أمريكا وبين إسرائيل حبل سري لا ينقطع أبداً إلا إذا ماتت إحدى الدولتين كما يقولون.
فأمريكا يغلب عليها مذهب البروتستانت الذي يؤمن بالتوراة إيماناً حرفياً، ويؤمن بالعهد القديم وبالتوراة المحرفة، وفي التوراة المحرفة: أن الله تبارك وتعالى يورث أرض كنعان -يعني: أرض العرب- لأولاد سام ويافث، ويعطي لإسرائيل ولنسله الأرض، يقول: لتسجد لك شعوب، لتسجد لك قبائل، ليكن كنعان وأولاد كنعان لك.
فهم يؤمنون بالتوراة.
فسبعة من رؤساء أمريكا كلهم يؤمنون بالصهيونية الإنجيلية، أو المذهب عند البروتستانت يؤمن به ريجن، ويؤمن به نيكسون، ويؤمن به بوش، وكان يؤمن به قبل ذلك جونسون من أربعة قرون، ويؤمنون أن اليهود لهم الحق في إقامة وطن ديني لهم في فلسطين، بل ويؤمنون أيضاً بخرافة ينسبونها إلى التوراة المحرفة، تقول: إن معركة سيقودها المسيح تسمى معركة هرمجدون في سهل مجيدو في فلسطين.
ويقولون: إن رؤساء العالم ويهوده يجتمع منهم حوالي أربعمائة مليون يقاتلون الوثنيين أو العرب المسلمين، وهناك ينصرهم دين المسيح حتى يرفع عرايا شيكاغو وعرايا باريس.
ويقولون: إن المسيح سينزل بعد ألف سنة فيحكم الأرض ألف سنة، وفيها تقع معركة هرمجدون، فلما تأخر نزوله عن الألف الأولى قالوا: تأخر نزوله إلى الألف الثانية، وهناك كتاباً اسمه: 1999مسلم بلا حرب، وستسيطر أمريكا سيطرة كاملة على العالم ويبقى ما بقى على السيد المسيح.
أما ريجن فيقول: أظن أن السوفيت سيتورطون في معركة هرمجدون، ويعلن أمام التلفاز والبيت الأبيض وأمام مجلس الشيوخ إحدى عشرة ألف مرة إيمانه بهذه المعركة.
ويقول جونسون رئيس أمريكا أثناء الحرب العالمية الأولى: إنه يتوجب على ابن راعي الكنيسة كما قال في التوراة أن ينشئ وطناً دينياً لليهود في فلسطين.
وأما كارتر فيقول في خطابه في تاريخ 5/ 1/1973: إن إنشاء دولة إسرائيل وقيامها أولاً وقبل كل شيء تحقيق للنبوءة التوراتية، وتحقيق للوطن التوراتي لليهود في فلسطين، وقيام دولة إسرائيل هو منشأ النبوءة التوراتية وجوهرها فهؤلاء يعتقدون اعتقاداً دينياً أنه لا بد من تسليم القدس لليهود، تمهيداً لعودة المسيح إلى الأرض، ونحن نقول هذا الكلام حتى يفيق الناس من سباتهم، وحتى يعودوا إلى الله تبارك وتعالى، وعليكم أن تعلموا أولادكم أن بين أمريكا وإسرائيل وفاقاً دينياً كبيراً شديد الصلة كالحبل السري، كما قال أحد ساساتهم أمام مجلس الشيوخ الأمريكي.
فاتقوا الله تبارك وتعالى فينا وفي أولاد المسلمين، واتقوا الله تبارك وتعالى في كل مسجد ذبيح، وفي كل أذان صابر، وفي كل شبر من الأرض.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى عن المنكر، رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك توابين منيبين، تقبل توبتنا، وأجب دعوتنا، واسلل سخائم صدورنا، اللهم إن علمت الصدق منا فارزقنا شهادة في سبيلك، اللهم احشرنا إليك من حواصل الطيور وبطون السباع، اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك.
وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(6/15)
بكاء الأفئدة من نار الله الموقدة
إن النار مخلوق من مخلوقات الله عز وجل، لا تفنى ولا تبيد، وقد أعدها الله لمن عصاه، وخالف أمره، وكذب رسله وأنبياءه، فمن خافها في الدنيا، وتجنب كل عمل يقربه منها أمنه الله منها يوم القيامة.
ومن لم يخف منها، واقترف ما يقربه منها خوفه الله منها يوم القيامة.
(7/1)
من أخبار البكائين من النار
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد: فإن عنوان هذا الموضوع هو: بكاء الأفئدة من نار الله الموقدة.
ما ظنك أيها المفرط في عمره، المقصر في دهره بسكان هذه الدار الضيقة الأرجاء، المظلمة المسالك، دار يخلد فيها الأشقياء، ويوقد فيها السعير، طعام أهلها الزقوم، وشرابهم الحميم، هذه والله دار الذل والهوان، والعذاب والخذلان، دار الشهيق والزفرات، والأنين والعبرات، دار أهلها أهل الندامة والشقاء، والتعاسة والبكاء.
أحدثك عن دار غم قرارها، مظلمة أقطارها، حامية قدورها، فظيعة أمورها، سلاسل وأغلال، ومقامع وأنكال، والله لم ينذر العباد بشيء أدهى منها، كما قال الحسن البصري رحمه الله: بكى من ذكرها الصالحون، بل ومات من ذكرها الصالحون، هذا علي بن الفضيل بن عياض يقوم في تهجده فيقرأ قول الله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27] فظل يرددها حتى خرجت روحه، فيأتيه والده الفضيل فيقول: أي ابناه! واقتيل النار! واقتيل القرآن! واقتيل جهنماه! والله ما قتل ابني إلا الخوف من عذاب الله.
ويبكي يزيد الرقاشي، ثم يعاتب في كثرة البكاء ويقال له: لو لم تخلق النار إلا لك لما كان في بكائك مزيد، فيقول: وهل خلقت النار إلا لي ولإخواني من الجن والإنس، أما تسمع قول الله عز وجل: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن:31]، ثم ظل يقرأ من سورة الرحمن حتى وصل إلى قول الله عز وجل: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:43 - 44]، فظل يجول في الدار ويصيح ويبكي.
يقول مالك بن دينار رحمه الله: لو وليت من أمر الناس شيئاً لأقمت رجالاً على منارات الدنيا يصيحون في الناس: النار النار.
رأى مالك بن دينار رحمه الله جويرية متعبدة تطوف بالكعبة وتقول: يا رب! أما كان لك عذاب تعذب به من عصاك إلا النار؟! وظل هذا دأبها وقولها من الصباح، فوضع مالك يده على رأسه وقال: يا ثكلاه! ثكلت أم مالك مالكاً، ثكلت أم مالك مالكاً، إذا كان هذا قول الجويرية فما ظنك بـ مالك.
ولما بكى يزيد بن مرثد قال يزيد بن جابر: لم البكاء؟ قال: وما مسألتك عن هذا؟ قال: عسى الله أن ينفعني به، قال: إن هذا الأمر ليعرض لي حين أدخل إلى أهلي، فيحول بيني وبين ما أريد، إن هذا الأمر ليعرض لي حين يقدم إلي الطعام فأبكي وتبكي صبيتي، وتبكي الزوجة، حتى تقول: ويحي وما اختصصت به من طول الحزن معك، لا تقر لي معك عين في دار الدنيا.
(7/2)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 09:57   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

صفة النار وأهلها
انظر يا أخي إلى صفة جر النار، وإلى صفة الإتيان بها، سيدنا عمر بن الخطاب قال لـ كعب الأحبار فيما رواه ابن القيم بسند حسن: إن هذه القلوب قد استرسلت فاقبضها بذكر النار، قال: يا أمير المؤمنين! يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فإذا زفرت زفرة فما من دمعة في العيون إلا وبدت، وإذا زفرت الأخرى فما من نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا وجثا على ركبتيه، وقال: نفسي نفسي، حتى لو كان لك يا أمير المؤمنين عمل سبعين نبياً إلى عملك لظننت أنك لا تنجو.
وفي الصحيح الذي أشار إلى صحته الحافظ ابن حجر في (المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج عنق من النار له لسان فصيح، وعينان تبصران، وأذنان تسمعان، يقول: إني وكلت بكل جبار عنيد، فيلتقطهم من الموقف لقط الطير حب السمسم، ثم يخرج مرة ثانية فيقول: إني وكلت بكل من دعا مع الله إلهاً آخر، فيلتقطهم من الموقف لقط الطير حب السمسم، ثم يخرج مرة ثالثة، فيقول: إني وكلت بالمصورين، فإذا حبس هؤلاء في النار أتي بالصحف وجيء بالموازين، واستعد الناس للحساب) صححه الألباني.
وكما أن هناك سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، ومع كل ألف سبعون ألفاً فهناك آخرون يجرون إلى النار بغير حساب، {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41]، والحديث يدل على هذا.
قال الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22].
وقال الله تبارك وتعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97].
وقال الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر على صورة الناس، يغشاهم الذل من كل مكان، تعلوهم نار الأنوار، يساقون إلى سجن في جهنم يسمى: بولس، يسقون من عصارة أهل النار (طينة الخبال)) والحديث صحيح.
يقول الله تبارك وتعالى عن النار: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12]، يخلق الله عز وجل للنار إدراكاً وإحساساً، فهي نار تتكلم، {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30].
والنار قد أعدها الله تبارك وتعالى للكافرين، وهيئت وجهزت، وهذا الإعداد إعداد حقيقي خلافاً لقول المعتزلة أن الإعداد هنا بمعنى التقدير، فجهنم موجودة الآن، وهو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً لقول المعتزلة الذين أنكروا وجود النار الآن.
وأما عن كيفية مجيء النار ففي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) معنى ذلك أن الملائكة المكلفين بجر النار أربعة آلاف مليون وتسعمائة مليون ملك، مع أن خزنة النار تسعة عشر.
وأما ما في النار أجارنا الله وأعاذنا الله منها ففي (المطالب العالية) فيما أشار إلى حسنه الحافظ ابن حجر العسقلاني قال: (لو أن في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون، وفيهم واحد من أهل النار فتنفس لاحترق المسجد بمن فيه).

(7/3)


طعام أهل النار
طعام أهل النار أربعة أصناف: الطعام الأول من الشجرة المعلونة الزقوم، قال الله تبارك وتعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الصافات:62 - 66].
هذه الشجرة الملعونة جعلها الله فتنة للظالمين، وعهد أبناء الدنيا أن النار تأكل الشجر، فما بالك بهذه الشجرة التي لا تترعرع إلا في النار، ويكون مستقرها في قعر الجحيم، ومع هذا لا يزيدها ذلك إلا ترعرعاً في قعرها {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:64].
وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43 - 46].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم) فكيف بمن يكون الزقوم طعامه وشرابه؟!! وأما الصنف الثاني فهو الضريع، والضريع نبات تعرفه العرب، فإذا كان أخضر تعافه الماشية، فإذا كان يابساً صار سماً خالصاً، سبحان الله! فمعنى هذا أن طعام أهل النار الثاني وهو الضريع طعام تعافه الماشية في دار الدنيا.
أما الطعام الثالث فلقد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:12 - 13]، فهو الطعام بالغصة، قال سعيد بن جبير: إنها حجارة من كبريت، وقال ابن عباس: شكوك يلتقمه أهل النار فيأخذ بعروق الحلوق، لا يدخل ولا يخرج.
فتصور لو أن إنساناً أكل لقمة فوقفت عند لسان المزمار لا تدخل ولا تخرج، إذا دخلت في الجهاز التنفسي مات بسببها الرجل، أو تتردد عند لسان المزمار فيكون في حالة ما بين الموت والحياة، هذا بلقمة، فما ظنك بشوك يأخذ بعروق الحلوق لا يدخل ولا يخرج.
من غص داوى بشرب الماء غصته فكيف يفعل من قد غص بالماء والطعام الذي بعد ذلك: هو الغسلين، قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله: لو دلي من غسلين دلو في مشرق الشمس لغلت منه جماجم قوم في مغربها.
والغسلين هذا يسيل من قروح وقيح وصديد أهل النار.
أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي

(7/4)


شراب أهل النار
أما عن شراب أهل النار فقد قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]، فهو ماء أسود كعكر الزيت المغلي، جهنم سوداء وماؤها أسود، وشجرها أسود، وأهلها سود مقبوحون {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} [يونس:27].
قال الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:15 - 17].
وهناك الزمهرير، وهو الشراب البارد الذي يحرق من شدة البرد، وهناك الحميم، وهو الذي بلغ أقصى درجات الغليان، {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:43 - 44]، وشراب أهل النار طينة الخبال.
فهذا طعامهم وهذا شرابهم.

(7/5)


ثياب أهل النار
أما عن ثيابهم فقد قطعت لهم ثياب من نار، كما قال الله عز وجل: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} [إبراهيم:50]، قال سعيد بن جبير: قطران الإبل، وقال ابن عباس: إنه الرصاص المذاب.
وهو الذي يذوب من شدة الغليان.
وقال الله تبارك وتعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} [الأعراف:41] أي: الأسرة من نار، {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41] واللحف أيضاً من نار، وحذيت لهم نعال من نار، وسرابيل من قطران، وأطبقت عليهم الأبواب، وغضب عليهم المولى عز وجل.
ألبسوا النضيج من النحاس، ومنعوا خروج الأنفاس، فالأنفاس في أجوافهم تتردد، والنيران على أبدانهم تتوقد، يا نار كلي، يا نار أنضجي، كلي ولا تقتلي.

(7/6)


بكاء أهل النار
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بكاء أهل النار: (إن أهل النار يبكون الدمع، ثم يبكون الدم حتى لو سيرت فيه السفن لجرت).
وكان من دعاء داود: يا رب! إني لا أستطيع حر شمسك فكيف أستطيع حر نارك؟! يا رب! إني لا أستطيع سماع صوت رحمتك -وهو الرعد- فكيف أستطيع سماع صوت غضبك؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: إن كانت لكافية يا رسول الله، قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها ونارها).
أما حديث: (إن جهنم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، وألف سنة حتى احمرت، وألف سنة حتى اسودت).
فهذا حديث ضعفه الشيخ الألباني، كما ضعفه أهل العلم.

(7/7)


قبح وبشاعة أهل النار
أما عن قبح وبشاعة أهل النار -أجارنا الله منها- فإن الفضيل بن عياض في موعظته للرشيد كان يقول: يا مليح الوجه حذار من نار الله عز وجل، حذار من نار الله عز وجل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضرس الكافر في النار مثل جبل أحد، وبعد ما بين منكبيه مسيرة ثلاثة أيام، وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام).
ونحن أطباء أمراض الدنيا نقول: عندنا في الطب أن الجلد هو مركز الإحساس الأول في الجسم، وتنتهي فيه كل أطراف الأعصاب، فإذا زادت درجة الحرارة على أطراف الأعصاب تتلف هذه الأعصاب، فلا يحس الإنسان لا بحرارة ولا ببرودة، ولذا يقول الله عز وجل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]، وكلما سمك الجلد أحس الإنسان بألم العذاب أكثر، {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ:30].
وفي حديث صحيح صححه الشيخ الألباني قال صلى الله عليه وسلم: (مقعد الكافر من النار ما بين مكة والمدينة، وعضده مثل البيضاء، وفخذه مثل الورقاء) وهي جبال في الجزيرة العربية.
قال ابن عباس: ما بين شحمة أذن أحدهم وعاتقه مسيرة أربعين خريفاً، وأودية قيح ودم قيل: أنهار؟ قال: لا، بل أودية.
وقال عمرو بن ميمون الأودي يسمع لصوت الدود ما بين جلد الكافر وما بين عظمه جلبة كجلبة الوحش.
قال أبو هريرة: شفاههم على صدورهم، مقبوحون مرذولون، تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ككلوح الرأس النضيج.

(7/8)


سلاسل أهل النار
أما عن السلاسل التي أعدت لهم فكما قال الله عز وجل: {لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25 - 26].
هذه الأغلال والقيود ما سمع بها البشر.
وقال الله تبارك وتعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41]، قال أهل العلم بالتأويل: يجمع ما بين ناصية الرجل -أعلى الرأس- وما بين قدمه بسلسلة، ومعلوم أنه لا يستطيع أحد حتى الذين يلعبون الجنباز أو غيرهم أن يؤتى برأسه إلى جنب قدمه، ولكن هذه السلسلة تجمع ما بين الناصية وما بين القدم من الخلف، بحيث لا تتكسر الفقار.
جمع النواصي مع الأقدام صيرهم كالقوس محنية من شدة الوتر قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا} [المزمل:12]، والأنكال هي القيود والسلاسل التي توضع بالرجل.
إن أسير الدنيا يوماً من الأيام تفك قيوده، وتفصم غلوله، أما أسير الآخرة فلا تفك قيوده أبداً، ولا تفصم غلوله أبداً، فهو الأسير حقاً، والله ما سلسلهم الله عز وجل خوفاً من انفلاتهم، ولا خوفاً من هربهم، وإنما سلسلهم زيادة في ذلهم، قال الله عز وجل: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر:70 - 71]، فتجمع اليد إلى العنق بالأغلال.
ولكل رجل منهم مقمع من حديد يضرب به، ولكل رجل غل مكتوب عليه اسمه كما قال علماء السلف.
فهي أغلال توضع بالعنق، وأنكال توضع بالرجل، وسلسلة تجمع ما بين النواصي والأقدام، وهذا عذاب ما سمع به البشر.
ونعيم بن حماد شيخ الإمام البخاري قيدوه وسلسلوه في محنة خلق القرآن ثم ألقوه في حفرة، فقال: إني امرئ مخاصم أمضي إلى الله عز وجل بسلاسلي وقيودي، فقالوا: فوالله ما غسلوه، وإنما ألقوه في حفرة بسلاسله.
وأما ما عند الله من قيود وسلاسل فلا يعرفها البشر، قال الله عز وجل: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32]، قال وهب بن منبه: الذراع سبعون باعاً، والباع أبعد مما بين مكة والكوفة، فطول السلسلة أربعة آلاف وتسعمائة باع، قال أهل العلم: لا يقوم لها حديد الدنيا.
قال الله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] أي: ضعوا الأغلال في عنقه، فيبتدره مائة ألف ملك أو يزيدون كلهم يريد أن يضع الغل في عنقه، فيقول: ألا ترحموني؟! فيقولون: كيف ولم يرحمك أرحم الراحمين! تخيل لو أن واحداً يجري خلفه مائة ألف معهم سلاسل وقيود يريدون أن يضعوا الأغلال في عنقه!! فهذا صنف من العذاب.
ثم أتى بـ (ثُم) وهي هنا للتأخر والترتيب، فقال: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:31]، والتصلية بالنار هي الغمس الكامل في النار.
ثم تأتي منزلة أعلى في العذاب، قال تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32] يعني: سلك السلسلة فيه أشد من التصلية بالنار، فالسلك في اللغة أن تدخل قطراً صغيراً في داخل قطر أكبر، فإن كانت هذه السلسلة لا يقوم لها حديد الدنيا فكيف تدخل من استه وتخرج من فمه أو من منخريه، وهذا ما عرفه أهل الدنيا، وإنما أعد خصيصاً لأهل النار {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32].

(7/9)


كفر التابعين بالمتبوعين في النار
هؤلاء الذين كان يملي بعضهم لبعض في الضلال يكفر بعضهم ببعض يوم القيامة، ويلعن بعضهم بعضاً، {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38]، {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29].
شعارهم: {لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} [ص:59].
قال الله عز وجل: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59] أي: تفرقوا اليوم أيها المجرمون، فكل منهم في تابوت من نار لا يرى ولا يُرى، قال الله عز وجل: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] يعني: أهل المصائب حين تجمع بينهم المصيبة الواحدة هذا يهون البلاء عليهم كما قالت الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي والمعنى: أنهم يبكون لكن لا يبكون مثل أخي، والذي مات ليس كأخي، لكن نحن في مصيبة واحدة.
وأما أهل النار فقد انقطع التواصل بينهم، {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39].
قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:49 - 50].
والكذاب كذاب إلى يوم القيامة، يقول الله عز وجل لسيدنا نوح: يا نوح! هل بلغت؟ يقول: بلى، فيقول الله تبارك وتعالى لأمة نوح: هل بلغكم نوح؟ يقولون: ما جاءنا من نذير، فيكذبون وهم أمام الله عز وجل؟!! وهناك مثل في مصر يقول: (نهيتك وما انتهيت، والطبع فيك غالب، وذيل الكلب ما ينعدل ولو علقوا فيه مائة قالب).

(7/10)


نداء أهل النار مالكاً
قال الله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، ومالك ملَك كريه المرءى كأكره ما أنت راءٍ من الرجال، وإذا غضب على النار أكل بعضها بعضاً، وأخذت تجري منه إلى الأبواب، يطول صمت مالك مئات السنين، فإذا أجابهم قال: إنكم ماكثون، بعد هذه المدة يكون هذا الجواب، ما أطول المدة وما أمر الجواب!

(7/11)


خطيب جهنم ونداءات أهل النار
خطيب أهل الجنة سيدنا داود، وإذا تلى القرآن في الجنة أنسى أهل الجنة نعيم الجنان، وهؤلاء في جهنم خطيبهم الشيطان، {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22] بعد أن أوردهم المهالك؟! وإذا سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم، فينادون: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10]، فينادون ربهم: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} [إبراهيم:44] فيجيبهم الله عز وجل: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} [إبراهيم:44 - 45].
يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37]، فيجيبهم الله عز وجل: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37].
يقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106 - 107]، فيجيبهم الله عز وجل: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
فلا يبقى لهم بعد ذلك إلا أنين الرجل المدنف، وهم يصطرخون فيها، وأول أمرهم زفير، ونهاية أمرهم شهيق كصوت الحمار.
هذه منزلة أهل النار عياذاً بالله أن نكون منهم.

(7/12)


متفرقات من عذاب النار
قال الله تبارك وتعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر:17] أي: يكلفون بصعود جبل من نار، فإذا وصلوا إلى نهايته ردوا بمقامع من حديد إلى قعر النار.
قال الله عز وجل عن ناره: {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر:28] أي: لا تبقي لحماً، ولا تبقي مخاً، ولا تبقي عظماً، قال: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر:29] أي: حراقة للجلد، أو تلفح وجوههم فتدعها أشد سواداً من الليل البهيم.
قال الله تبارك وتعالى: {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات:30 - 31] هذا الظل الذي من يحموم لا بارد ولا كريم، ظل أسود حار يأخذ بالأنفاس، يكاد يزهق أرواحهم، وعهد الناس بالظل في دار الدنيا أنهم يستريحون فيه ويتفيئون نعيمه، فما بال هذا الظل؟! وعلى الطرف الآخر شجرة طوبى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة تسمى شجرة طوبى يسير الراكب بالجواد المسرع في ظلها مائة عام ولا ينتهي ظلها)، فانظر إلى هذا الظل من ذياك الظل!! أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي يقول الله عز وجل: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات:32] فشرر النار يشبه القصور العظيمة.
وهذه النار لا تفنى أبداً، كما قال العلامة ابن القيم: دار جمعت الطيب وأهله الطيبين، ودار جمعت الخبث وأهله، لا تستويان أبداً، ولا تبيدان أبداً.
قال مجاهد: يلقى الجرب على أهل النار فيحتكون حتى تبدوا عظامهم، فيقال: لماذا هذا؟ يقال: لأذاكم للمؤمنين.

(7/13)


صفة الجنة
وعلى الطرف الآخر دار غرس غراسها الرحمن بيده.
إن جنة عدن كما قال سيدنا عبد الله بن عمر في الصحيح الموقوف عليه وله حكم الرفع: (رحم الله أقواماً علموا أن الرحمن غرس الجنة بيده، فقدروا قطع الغرس، إنما خلقنا لنحيا مع الخالق، دار غرس غراسها الرحمن بيده، حصباؤها المسك، وترابها الزعفران، ولبناتها الفضة والذهب، وجيرانها أنبياء الله، وزوارها ملائكة الرحمن، الطوافون عليهم فيها الولدان المخلدون، سقفها نور عرش الرحمن).
فنعيم الجنة نعيم يتكلم، وأما عن أرض الجنة فتصور لو أن رجلاً فرش بيته بالحصير، ثم أراد أن يفرشه بالموكيت أو بالسجاجيد ربما يوهم عائلته أنه قد غير الحصير بالسجاد، فما ظنك بدار أرضها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرض الجنة مسك خالص) فبالله عليك خبرني كيف يمشي الإنسان على المسك! وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تربتها الزعفران).
وقال ابن عباس: أرض الجنة من مرمرة بيضاء من فضة كأنها المرآة، فضة ليست مصمتة كفضة الدنيا، وإنما فضة هي في صفاء الزجاج.
وأرض الجنة مسك خالص، هذه الأرض التي يمشي ويسير عليها أولياء الله عز وجل.

(7/14)


آخر من يخرج من النار ويدخل الجنة
آخر من يدخل الجنة وآخر من يخرج من النار -ولا يخرج منها إلا حبواً كما جاء في الحديث الصحيح- هذا الرجل الذي ينسيه الخوف من النار أن يسأل المولى عز وجل الجنة، يقول: يا رب! -كما جاء في الحديث الصحيح- اصرف وجهي عن النار لا أسألك شيئاً غير ذلك.
فيأخذ الله تبارك وتعالى عليه العهد والميثاق ألا يسأله شيئاً غير أن يصرف وجهه عن النار، ثم يمثل له شجرة ذات ظل، فيقول: يا رب! قربني من هذه الشجرة أكن في ظلها، يقول: ما أغدرك يا ابن آدم، ألم آخذ عليك العهد والميثاق ألا تسألني شيئاً غير ذلك؟! يقول: يا رب! لا تجعلني أشقى خلقك.
ثم يمثل له شجرة ذات ظل وثمر، يقول: يا رب! قربني من هذه الشجرة أكن في ظلها وآكل من ثمرها، فيقربه، ثم يمثل له شجرة ذات ظل وثمر وماء -يعني: تحتها نبع ماء- فيقول: يا رب! قربني من هذه الشجرة أكن في ظلها وآكل من ثمرها، ثم يرى باب الجنة ويشم رائحتها، وإن رائحة الجنة لتشم من على مسيرة خمسمائة عام، كما جاء في الحديث الصحيح.
فإذا دخل الجنة يقول: هذا لي وهذا لي، وهذا لي، وهذا لي، ثم تنقطع به الأماني؛ لأنه رآى ما لا قبل لعينه به، ورأى أشياء لا يعرفها، فتنقطع به الأماني، فيقول له المولى عز وجل: تمن من كذا، وتمن من كذا، وتمن من كذا، ثم يقول المولى عز وجل: ولك عشرة أمثال الدنيا من يوم خلقتها حتى أفنيها، هذا آخر من يدخل الجنة! وفي الحديث الصحيح الذي صححه الحافظ ابن حجر والإمام المنذري وغيرهما من أهل العلم في كتاب السنة للإمام عبد الله بن الإمام أحمد قال: (ثم يمثل له قصر من در أبيض فيسجد، فيقال: مه، ارفع رأسك، يقول: كأنما رأيت ربي، أو كأنما تراءى لي ربي، فيقال: إنما هذا قصر من قصورك، ثم يمشي فيرى رجلاً من أهل الجنة فيهم بالسجود، فيقال: مه، ارفع رأسك، يقول: كأنك ملك، يقول: إنا كهرمانك -يعني: خادمك- وتحت يدي ألف كهرمان على مثل ما أنا عليه) هذا آخر من يدخل الجنة! وينظر إلى وجه زوجته ثم يعرض عنها ويلتفت إليها مرة أخرى فتزيد في عينيه سبعين ضعفاً، ويزيد في عينيها سبعين ضعفاً، ويرى صفحة خده في خدها، وترى صفحة خدها في خده، هذا آخر من يدخل الجنة! هذا نعيم حسي، فما ظنك بالنعيم الروحي: إن داود عليه السلام إذا تلى القرآن في الجنة أنسى أهل الجنة نعيم الجنان، فما ظنك برؤية الملك العلام! إن من النعيم في الجنة أن تمر السحابة من المسك بأهل الجنة فتقول: ماذا أمطركم؟ قال يحيى بن أبي كثير: أشهد الله أن لو أراني هذا الموقف لأمرت السحابة أن تمطر علينا حوراً مزينات.
ومن أنهار الجنة كما قال مجاهد كما روى أبو نعيم في صفة الجنة قال: يخرج أولياء الله عز وجل إلى شواطئ أنهار الجنة، ثم تخرج الحور العين، فإذا أعجب الرجل منهن بواحدة لمسها فتتبعه وتمشي خلفه.
فهذه أنهار تنبت الأبكار لا تنبت الحشائش، لبن لا يحلب من الأبقار، وعسل لا يجنى من الأزهار، وخمر لا يعصر بيد الخمار، كل هذا يجري كالأنهار برحمة العزيز الغفار، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة:31]، ماء يجري في غير أخدود، سبحان مثبت العقول!! وأنهار تجري في غير أخدود، أمسك الله حافتيها بقباب اللؤلؤ المجوف.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يدنينا من الجنة، وأن يبغض إلينا كل عمل يقربنا من النار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

(7/15)


حسن الخلق
لقد دعا الإسلام إلى التخلق بمكارم الأخلاق، والابتعاد عن الأخلاق السيئة، ولقد كان النبي عليه الصلاة والسلام القدوة العظمى للأمة في حسن الخلق، واقتدى به أصحابه الكرام وأتباعه وأتباعهم إلى يوم الدين.
وقصص الصحابة والسلف الصالح في تمسكهم بمكارم الأخلاق والابتعاد عن سيئها شيء عظيم عجيب.

(8/1)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 09:57   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

التزكية وحسن الخلق
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
موضوعنا عن التزكية وحسن الخلق، ولله در من قال: يا من تنهش في أحشائي.
يا من مني.
يا من جزءاً من أجزائي.
يا من تبدو للجهال كأنك دائي.
إني أعلم أنك حتماً فيك شفائي.
قل لي هل يأتيك ندائي؟ إنك مني.
أنت كأني لست أرائي.
أنت كأني حين شقائي.
حين جهلت طريق إلهي من عند الألف إلى الياء.
حين تصورت الدنيا حسي وغذائي وكسائي.
إنك مني.
إنك مسلم تشهد أن إلهك واحد.
إنك فيها من شركائي.
لكنك دوماً تطعنني من خلفي وفي كعب حذائي.
حين أراك تقوم بهذا يغرقني خجلي وحيائي.
ووشاة القوم إذا بانوا تسري الطعنة في أحشائي.
قل لي هل يأتيك ندائي؟ أبغ العزة عند إلهك.
ليس العز دمي وبكائي.
وغداً من قواك يميتك، إن أنت أهملت ندائي.
الكلام عن حسن الخلق في هذه الأيام كما يقول جمال الدين القاسمي علامة الشام: هذا وقت تسكب فيه العبرات، فهذا موضع تسكب فيه العبرات، والله عز وجل أقسم أحد عشر قسماً متتالية في سورة واحدة من كتابه، أن المطلوب صلاح النفوس بالتزكية، قال تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:1 - 9].
وتزكية النفوس: تحليتها بالفضائل وبالأخلاق الجميلة؛ بالعفو مع الكتمان وبالصفح وبالحلم وبالتغافل وبقبول ظاهر الناس وترك سرائرهم إلى الله عز وجل، فهذه أخلاق طيبة قامت عليها ربع الرسالة المحمدية، كما قال الله تبارك وتعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:151].
ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)، فمطلب عظيم بعد التوحيد تحلية النفس بالأخلاق الحسنة، كما أمر الله تبارك وتعالى كليمه موسى أن يذهب إلى فرعون، يقول الله تبارك وتعالى له: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:18 - 19]، ففي البداية يكون الوعظ الحسن.
ثم يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:75 - 76] فجعل الله عز وجل الجنات العلى لمن تزكى.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن تزكية النفس إحدى موجبات ذوق حلاوة الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يجد العبد طعم الإيمان إلا بثلاث: أن يشهد أن الله وحده لا شريك له، وأن يؤدي زكاة ماله طيبة بها نفسه، ولا يعطي الدرنة ولا الهرمة ولا المريضة ولكن من أوسط أموالكم، وأن يزكي نفسه، قيل: وما تزكية النفس يا رسول الله؟! قال: أن يعلم أن الله معه حيث كان).
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تزكية النفس إحدى ثلاث لذوق طعم الإيمان، وأعلى درجات الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
وتزكية النفوس وسلامة القلوب أمر مسلم إلى الرسل وإلى الأنبياء لا يخضع إلى مجرد المجاهدة، ولا إلى مجرد الرياضة بدون علم نبوي وتزكية نبوية، فلا يستطيع الإنسان أن يعالج نفسه بدون وجود طبيب، أو يخضع جسده لمجرد التجارب بدون علم وبدون طب، وإلا فإن الشريعة قد ضمنت الطبيب الجاهل الذي ليس عنده علم، ومن يتلف عضواً فعليه دفع الدية لذلك العضو الذي أتلفه، فكيف بطب القلوب؟! فلا يسلم إلى الناس ولا إلى الصوفية ولا إلى أصحاب المواجيد، وإنما يسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
والعنصر الأخلاقي عنصر متين في شرع الله عز وجل، فقد أثنى الله على نبيه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، قال ابن عباس: وإنك على دين عظيم لا دين أحب إلي وأكرم عندي مما أنت عليه.
وقد سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالت: (كان خلقه القرآن).
وأصالة هذا الدين ثبتت في أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الثناء العلوي، وهذا التكريم العظيم من الكبير المتعال لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا عظمة العظمات أن يتلقى رسولنا صلى الله عليه وسلم هذا الثناء العلوي، وهذا التكريم العظيم، وهو يعلم من عظم ربه ما لا يحيط به أحد من البشر سواه، ويعلم قائل هذه الآيات، ومتى قيلت، في أعظم كتاب من كتب الله عز وجل، تتجاوب فيه أصداء الوجود، يبقى ما بقت الأيام، ثم لا يفخر رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت وطأة هذه الكلمات العظيمة، بل لا تزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نوراً على نور، وتواضعاً ورحمة.
قال سيد قطب: هذه عظمة العظمات في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يعني: سيدنا رسول الله وهو بشر، وسيد البشر كان يثني على أحد من أصحابه فمن هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بشر لا يستطيع الصحابي إلا أن يفتخر على الصحابة بهذا الثناء.
سيدنا سعد بن أبي وقاص وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، قال له سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم: (ارم سعد فداك أبي وأمي) فقال سيدنا سعد مفتخراً على الصحابة: لقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبويه.
فبهذا الثناء كان يفتخر به على الصحابة، فإذا كان من مناقب سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (ارم سعد فداك أبي وأمي) فما ظنك برسول الله وهو يسمع هذا الكلام العطر ينزل به جبريل في سجل الله الخالد، وهو قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].

(8/2)


أحاديث تبين فضيلة حسن الخلق
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حاثاً على حسن الخلق مع العوام والخواص: (عليك بحسن الخلق، وبطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما تجملت الخلائق بمثلهما).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أثقل شيء في الميزان: الخلق الحسن).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أعطي الناس شيئاً خيراً من الخلق الحسن).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء -أي: لجدال- وإن كان محقاً، وأنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وأنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه).
فترك المراء من حسن الخلق، وترك الكذب مازحاً من حسن الخلق، ثم ينص رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: (وأنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك به الصدر وخشيت أن يطلع عليه الناس) وهذا حديث النواس بن سمعان.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقاً).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل المؤمنين أحسنهم خلقاً).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، وأبعدكم مني مجالس يوم القيامة الثرثارون المتشدقون المتفيهقون، قيل: ما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل الظامئ بالهواجر).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن المسدد ليدرك بحسن خلقه، وكرم ضريبته ما يبلغه درجة قائم الليل، وصائم النهار).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كريم يحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تعالى آنية في الأرض، وآنية الله قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان سهلاً هيناً ليناً حرمه الله على النار).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون هينون لينون كالجمل الأنف، إذا انقيد انقاد، وإذا استنيخ على صخرة أناخ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من يرجى خيره، ويؤمن شره، وشركم من لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره).
فهذه أحاديث عطرة في حسن الخلق.

(8/3)


مرجع مكارم الأخلاق
والإمام ابن القيم أرجع مكارم الأخلاق كلها إلى أربعة: الصبر، والشجاعة، والعفة، والعدل.
فالصبر: أن الإنسان يصبر على أذى الغير، ويكظم غيظه، ولا يظلم غيره، ولا يتعجل.
والعفة تدعوه إلى الحياء، وهو رأس كل خير.
والشجاعة تدعوه إلى مكارم الأخلاق.
والعدل يكون وسطاً بين حدي الأمر.
فالشجاعة وسط بين الجبن والتهور، فهي وسط في الأمور.
والإمام الهروي قال: مرجع مكارم الأخلاق كلها إلى العلم، فإن الرجل إذا لم يكن عالماً بمكارم الأخلاق: بحسنها من سيئها، وضع السيف في موضع الندى، فالعلم يبين مكارم الأخلاق من سيئها.
وإذا كان الرجل شريفاً فإنه يسامح ويتغاضى عن حقوقه، ويصبر على أذى الناس.
والخلق الحسن يمكن اكتسابه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها)، وقال: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت).
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الحلم بالتحلم، وإنما العلم بالتعلم).

(8/4)


مشاهد حسن الخلق مع المخلوقين
حسن الخلق يكون مع الخلق ومع الحق، أما حسن الخلق مع الخلق: فلك فيهم أحد عشر مشهداً مما يصيبك من أذى الخلق: أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي الأول: إذا اعتدى عليه رجل، أو سبه، أو ظلمه، أو شتمه يشهد مشهد القدر، يعني: ينظر إلى ظلم غيره له كما ينظر إلى وقوع المطر ووقوع البرد ووقوع ألم الجراح عليه، فيقول: هذا من قضاء الله عز وجل علي وعليه، ومن قدر الله في وفيه، فينظر إلى القدر في حق نفسه لا في حق ربه.
والدليل على ذلك: أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربه، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً بيده: خادماً ولا أمة ولا دابة إلا أن يجاهد في سبيل الله).
وقالت السيدة عائشة: (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط إلا في حق من حقوق الله عز وجل، فلا يقوم لغضبه شيء حتى ينتقم لربه)، أما في حق نفسه فيسامح.
وكما قال سيدنا أنس رضي الله عنه: (والله ما لمست ديباجاً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شممت عطراً أطيب من طيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا قال لي لشيء لم أفعله: لم لم تفعله؟ وكان إذا عاتبني بعض أهله قال: دعوه، فلو قضي شيء لكان).
إذاً: تفنى عن حق نفسك، وتنظر إلى مشهد القدر في حق غيرك.
المشهد الثاني: مشهد الصبر، وأنت تعلم جزاء وثواب الصابرين، وقد قال فيه صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كضم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه أتى الله به على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين، فيزوجه منها ما يشاء).
وحديث آخر قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كضم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة).
وسيدنا سلمان الفارس أتى إليه رجل فشتمه فقال: يا هذا! إن ثقلت موازيني فأنا خير مما تقول، وإن خفت موازيني فأنا شر مما تقول.
وشتم رجل الربيع بن خثيم تلميذ سيدنا عبد الله بن مسعود، الذي قال فيه سيدنا عبد الله بن مسعود: أما والله لو رآك محمد صلى الله عليه وسلم يا ربيع لفرح بك.
وكان إذا رآه يقول: وبشر المخبتين، جلس خمس عشرة سنة في بيت سيدنا عبد الله بن مسعود والجارية التي على الباب لا تعرف أنه صحيح البصر، وكانت تقول: يا سيدي! صاحبك الأعمى الربيع بن خثيم أتى، فكانت تظن أنه أعمى من كثرة غض بصره إلى الأرض.
والربيع بن خثيم أتى إليه رجل فشتمه فقال له: يا هذا! إن دون الجنة عقبة إن جزتها فأنا خير مما تقول، وإن لم أجتزها فأنا شر مما تقول.
وأتى رجل إلى سيدنا عمر بن عبد العزيز وهو خليفة فشتمه فأنصفه وصبر سيدنا عمر بن عبد العزيز، ثم قال له: أردت اليوم أن يستفزني الشيطان بعز السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً، هذا والله لن يكون.
وقد قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، وثواب الصبر كالماء المنهمر كما قال ميمون بن مهران: لا حد له.
المشهد الثالث: مشهد العفو والحلم والصفح، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما ازداد عبد بعفو إلا عزاً).
ليس أحد يعفو إلا ويزيده الله رفعة في الدنيا والآخرة، والأمثلة على ذلك ما يلي: السيدة أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب أتت مولاة لها إلى سيدنا عمر وقالت له: إن صفية تفضل السبت على الجمعة، وتصل قوماً من اليهود، فسيدنا عمر أرسل إلى السيدة صفية يسألها فقالت: والله ما أحب السبت بعد أن أبدلني الله خيراً منه الجمعة، أما صلتي لليهود: فإن لي فيهم رحماً، ثم أتت إلى مولاتها فقالت: يا بنيتي! ما حملك على أن تقولي ما قلت؟ اذهبي فأنت حرة لوجه الله.
وسيدنا عبد الله بن عون كان له جمل يحمل عليه ويحج عليه وكان به معجباً، فأتى مولى من مواليه فلطم الجمل فأسال عينه، فقال الناس: إن كان ثأر من عبد الله بن عون فسيكون اليوم، فلما أتى إليه قال: يا بني! ألا غير الوجه يرحمك الله؟ اذهب فأنت حر لوجه الله.
وسيدنا الأحنف بن قيس يضرب به المثل في الحلم، سيد أهل المشرق كما قال فيه سيدنا عمر بن الخطاب، أتى إليه رجل فقال: علمني الحلم، قال: أن تصبر على الذل يا بني! وأتى إليه رجل فشتمه، ثم شتمه مرة ثانية وهو ساكت، ثم شتمه للمرة الثالثة وهو ساكت، فبكى الرجل الذي كان يشتم وقال: والله ما يمنعك من الرد علي إلا هواني عليك، يعني: أنت تستخف بي.
وأتى إليه رجل فشتمه في الطريق، حتى أوصله إلى خيام أهله فقال: يا هذا! إن كان عندك شيء فأت به، فقد أتيت إلى مضارب قومي ولا آمن عليك سفهاء الحي أن يؤذوك.
وقالوا للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم المنقري الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا سيد أهل الوبر).
وقد بلغ من حلمه بينما هو جالس مع رضيع له يداعبه إذ أتت مولاة له بلحم مشوي على حديد محمى فوقع على الولد فقتله، فارتاعت الجارية فقال: لا روع عليك، أنت حرة لوجه الله.
وبينما هو في حبوته - يعني: جامع يديه إلى ركبتيه- إذ أتوا بابن أخ له قد قادوه مكتوف الأيدي وقد قتل ابنه، قالوا: فوالله ما حل حبوته ولا تغير وجهه، وإنما قال: أذعرتم الفتى، ثم قال: يا ابن أخي! أنقصت عددك، وأثمت بربك، وأسأت إلى قومك، وقتلت نفسك بيدك، ثم قال: حلوه، ثم قال: اذهبوا إلى أم ولدي فادفعوا الدية لها فإنها غريبة.
يقول مثل ما قال سيدنا يوسف: {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92].
وهذا نبي الله يوسف عليه السلام حتى مجرد تذكيرهم بالإساءة وما عملوه فيه لما جمع الله بينه وبين إخوته وبين أبيه، قال يوسف: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100] ولم يقل: إذ أخرجني من الجب؛ لأن إخوته كانوا جالسين، فلم يذكرهم بغدراتهم به.
المشهد الرابع: مشهد الرضا، كما يقول الشاعر: من أجلك جعلت خدي أرضا للشامت والحسود حتى ترضى وهو أن ترضى بقضاء الله عز وجل عليك، فالرضا بعذابه فيك عذب.
سيدنا عمر بن عبد العزيز علم من سمه من مواليه في اليوم الذي سمه، ثم قال رضي الله عنه: والله لو أعلم أن شفائي في مد أصبعي ما مددتها، أحبه إلى الله أحبه إلي.
عذابه فيك عذب وبعده فيك قرب وأنت عندي كروحي بل أنت منها أحب حسبي من الحب أني لما تحب أحب المشهد الخامس: مشهد الإحسان، وهو أعلى درجة من مشهد الرضا، وهو أن الرجل إذا أساء إليك تحسن إليه، فكما قال العلماء: اقتضاء الثواب الهبة، فالرجل إذا وهبك شيئاً فأنت تجازيه وتحسن إليه، إذاً: من ظلمك تحسن إليه.
وهناك أمثلة: فسيدنا أبو بكر الصديق كان ينفق على مسطح بن أثاثة، فلما قال في عائشة ما قال وتكلم في عرضها وهي زوج رسول الله، حلف أبو بكر الصديق ألا ينفق عليه، فلما نزلت قوله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] عاد أبو بكر إلى النفقة على مسطح.
وإبراهيم بن أدهم كان في المقابر فمر عليه جندي وقال له: يا رجل! أين العمران؟ فأشار إلى المقابر، فعلاه بالسوط فشق رأسه، ثم أراد أن يدخله المدينة من أجل أن يراه الناس، لأنه يقول له: أين العمران؟ فيشير إلى المقابر، فتلقاه أهل المدينة بالبشاشة والاحترام؛ لأنهم يعلمون مكانة إبراهيم بن أدهم وجعلوا يقبلون رأسه، فلما نظر الجندي إلى الناس وهم يقبلونه أراد أن يقبل يده ورجله، فقال: لا يا بني، والله ما علوتني بالسوط حتى دعوت الله لك بالجنة؛ لأني أعلم أن ثواب صبري الجنة، فما أردت أن يكون نصيبي منك الجنة ونصيبك مني الأذى.
وقال الفضيل بن عياض: من أفضل من قابلتهم رجل كان في الحج، وبين هو في الطواف إذ سرق ماله فظل يبكي إلى قبيل الغروب، فقلت له: أمن أجل المال تبكي؟ قال: لا والله، وإنما تذكرت هذا الذي سرقني وضعف حجته بين يدي الله عز وجل، فبكيت رحمة له.
والربيع بن خثيم اشترى فرساً بثلاثين ألف درهم وأراد أن يغزو عليها، وعندما انصرف الغلام قام الربيع ليصلي، فأتى السارق فسرق فرس الربيع، فلما أتى الغلام قال: يا ربيع! أين الفرس؟ قال: سرقت، قال: سرقت وأنت تنظر إليها؟ قال: ما كان شغل يشغلني عن الصلاة، ثم رفع يده إلى السماء، وقال: اللهم إنه سرقني ولم أكن لأسرقه، اللهم إن كان غنياً فاهده وإن كان فقيراً فاغنه.
فهذه الأخلاق موجودة في عوام المسلمين، وفي أعضاء الحركات الإسلامية غير موجودة، وأقسم بالله على هذا إلا النادر، وبهم يرفع البلاء عن أهل الأرض.
فمشهد الإحسان: أن تحسن إلى من أساء إليك وهو في موقف ذلة، وجاء يعتذر إليك، فالجزاء من جنس العمل، وستكون يوم القيامة في موقف ذلة وتحتاج إلى ربك ليحسن إليك، والجزاء من جنس العمل، ومن لا يرحم لا يرحم.
المشهد السادس: مشهد سلامة القلب وبرد القلب، وهو أن تنام وليس في قلبك غل لأحد من المسلمين، فتنام س

(8/5)


علو الهمة
ندب الله عباده إلى المسابقة في الخيرات، والتنافس فيما يقربهم إليها، وما وصل السابقون إلى ما وصلوا إليه إلا بعلو هممهم وقوة عزائمهم، ولذلك فإننا بحاجة إلى أن نشد العزم فهي بداية الطريق الصحيح، وإن مما يساعد على ذلك مطالعة سير السلف وما كانوا عليه، وأخذ النفس بها حتى تستقيم على ذلك.

(9/1)


الحث على المسارعة إلى الخيرات والتنافس فيها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد: قال الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وقال تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل:8]، أي: انقطع إليه انقطاعاً.
وقال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148].
وقال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50].
وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133].
وقال تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا).
وفي الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها).
ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي حسنه الألباني: (من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده).
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي حسنه الأرنؤوط وضعفه غيره من العلماء: (لست من دد وليس الدد مني)، والدد: هو اللعب.
ويقول الشاعر: إن لم تكن للحق أنت فمن يكون والناس في محراب لذات الدنايا عاكفون والموت غاب عن العيون والحور والجنات أضحت كالظنون فاهتف بكل النائمين أتصدقون؟ أتصدقون؟ فإلى متى يا قلب تغشاك الظنون؟ ويقول الشاعر: لإسلامي أعيش أنا لتوحيدي وذا ديني نقشت حروفه تعلو على كل العناوين بخط بارز يسمو على كل الميادين لإسلامي ولو حتى إلى الجدران شدوني لإسلامي ولو حتى إلى النيران زفوني لإسلامي لإسلامي ولو في السوق باعوني وثارات لإسلامي تعايشني تغذيني تبث النور في روحي وتنبض في شراييني وإسلامي له عرق له نبضي وتكويني أنا ماذا أكون أنا بلا رب بلا دين أنا ماذا أكون أنا أجيبوني أجيبوني وتقول حفصة بنت سيرين: يا معشر الشباب! اعملوا فإني رأيت العمل في الشباب.
ويحيى بن زكريا المذكور في قول الله عز وجل: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12] جاء في تفسيرها: أنه لما قيل له: اذهب بنا نلعب قال: أوللعب خلقنا؟ وجاء من هذه الأمة من يترجمون ما قاله يحيى بن زكريا عليه السلام.
فـ الربيع بن خثيم تلميذ عبد الله بن مسعود الذي كان يقول له: أما والله لو رآك محمد صلى الله عليه وسلم يا ربيع لفرح بك، تقول له ابنته: يا أبت ألعب؟ فيقول لها: اذهبي فاصنعي خيراً، فيقولون له: أو ما تقول لها: اذهبي فالعبي، فيقول: والله لا تكتب في صحائف أعمالي أني قلت لها: اذهبي فالعبي.
فكان يحترز من كلمة اللعب.
وكان أحد السلف يسف خبزه سفاً ويقول: بين السف والمضغ خمسون تسبيحة.
وكان يحيى بن معاذ الواعظ يقول: لا يزال العبد مقيماً على حب الأماني؛ وما جعل أحد الأماني تقوده إلا كان أثقل الناس خطوة وعدم الماء وقت العطش، ووجد السراب الخادع.
ومن كان متسلحاً بالدعاء وجدته على خير دائماً، وعلى ري دائماً، وسباق إلى الخير دائماً، فإن كان ذا قوة استقى لنفسه أو استسقى، فيمده الله بقوة من السماء، وإن كان مستضعفاً وجد وريثاً لموسى عليه السلام يسقي له ويزاحم الرعاء.
وكان الجيلاني -أحد أئمة الحنابلة وأحد أئمة السلفيين وعدو المتصوفة-؛ قالوا له: هل كان هناك ولي لله على غير اعتقاد ابن حنبل؟ أي: على غير عقيدة السلف، فقال: ما كان هذا -أي: ما كان هذا في الماضي- ولا يكون.
وكان يقول: سيروا مع الهمم العالية.
ويقول ابن القيم: قيمة كل امرئ ما يحسن.

(9/2)


أنواع الهمم
والهمة همتان: همة تدور حول الأنتان والحش، وهمة ترتبط بمن فوق العرش.
فالهمة التي تدور حول الأنتان والحش ينادى صاحبها إلى الدار الآخرة وإلى الله عز وجل من مكان قريب فلا يجيب النداء، فالدنيا تصمه عما سوى الباطل وتعميه، وذكر الله حبسه وموته، وذكر الناس فاكهته وقوته، ينادى إلى الله عز وجل وإلى الدار الآخرة من مكان قريب فلا يجيب النداء، فمصاحبة هذا الرجل هلاك، والقرب منه سم ناقع كما قال العلماء، فإن ابتليت به فأعطه ظاهرك، وترحل عنه بقلبك، كما يقول القائل: وشغلت عن فهم الحديث سوى ما كان عنك فإنه شغلي وأديم نحو محدثي وجهي ليرى أن قد عقلت وعندكم عقلي.
والأخرى ارتبطت بمن فوق العرش إرادة وطلباً وإخباتاً وشوقاً.

(9/3)


علو الهمة في اغتنام الأوقات
أنفاس الدعاة وقف على الله عز وجل، ودقائق الليل غالية فلا ترخصوها بالغفلة، ولو قال لك الكسالى والبطالون: لو تفرغت لنا! فقل لهم: وأين الفراغ، قد ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله عز وجل.
أو قل لهم مقالة إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل حيث يقول: يا بني! لقد أعطيت المجهود من نفسي.
الراحة للرجال غفلة، وأنفاس الدعاة وقف على الله عز وجل، وهمم الأحرار تحيي الرمم، ونفحة الأبرار تحيي الأمم.

(9/4)


علو الهمة في التوبة والرجوع إلى الله
إن انتصار الدعوة لا يكمن في كثرة الرق المنشور، بل بالرجعة إلى الله عز وجل، وبالتوبة إليه عز وجل، فما لنا وكأن قد احتجب عنا من في السماء؛ لأننا نادينا من وراء الحجرات، وزأرنا رافعين أصواتنا نوجب على الله عز وجل لنا نصراً بإجلال، نبيعه ولا نرى علينا حقاً عادلاً في الثمن، ودون أن نقدم بين يديه دمعاً مدراراً في جوف الأسحار، ولا مناجاة في جوف الليل.
وانظروا إلى أبي مسلم الخولاني رحمه الله -وقد كان سيداً من سادات التابعين- لما ألقاه الأسود العنسي في النار فخرج منها سالماً، ثم أتى إلى المدينة ودخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فصلى خلف سارية، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بالله عليك أنت صاحب الكذاب الذي خرج من النار سالماً، فقال: أنا هو، فقال: الحمد لله الذي لم يمت عمر حتى أراه الله من أمة محمد من صنع الله به صنيع خليله إبراهيم.

(9/5)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 09:59   رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

علو الهمة في المسارعة إلى الخيرات
وكان لـ أبي مسلم الخولاني ثوب يعلقه في المسجد، وكان إذا تعبت قدمه من القيام يضربها بالسوط، ويقول لها: قومي يا مأوى كل سوء! أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يسبقونا عليه؟ والله لأزاحمنهم عليه حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالاً! لا تقرنن بذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد نزلوا بمكة في قبائل هاشم ونزلت بالبيداء أبعد منزل ويقول الإمام العلامة ابن رجب الحنبلي: لما سمع القوم قول الله عز وجل: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وقوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] فهموا أن المراد أن يكون كل واحد منهم هو السابق لأخيه إلى بلوغ المنازل العليا من الجنة، فكان تنافسهم في الآخرة حين كان تنافس الناس في الدنيا.
ولذا يقول الحسن البصري: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره.
ويقول بعضهم: إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل.
ويقول أحد العباد: لو أن رجلاً سمع برجل هو أسرع لله منه فمات ذلك الرجل غماً ما كان ذلك بكثير على من يريد أن يرث الفردوس.
قال رجل لـ مالك بن دينار: رأيت فيما يرى النائم أن رجلاً وقف على حلقة مثل حلقاتنا هذه فقال: أيها الناس! الرحيل الرحيل -يعني: إلى الجنة-، فلم يقم إلا محمد بن واسع، فغشي على مالك بن دينار.
وأما عمر بن عبد العزيز رحمه الله فكان يقول: إن لي نفساً تواقة، ما نالت شيئاً من الدنيا إلا واشتاقت إلى ما هو أعلى منه، فلما نالت ما نالت -أي: الخلافة، وهي أجل منصب في الدنيا- اشتاقت إلى ما عند الله عز وجل.
وأتته مولاة له تقول له: يا أمير المؤمنين! رأيت فيما يرى النائم وكأن الصراط قد نصب على جهنم، ورأيت أناساً يتساقطون فيها، ورأيتك يا أمير المؤمنين وقد جيء بك، فلم تتم كلمتها حتى غشي عليه، فجعلت تصيح في أذنه: رأيتك والله قد نجوت، رأيتك والله قد نجوت.

(9/6)


علو الهمة في التشمير للآخرة
ولما علم الصالحون قصر العمر وحث الحادي سارعوا وطووا مراحل الليل مع النهار؛ اغتناماً للأوقات، فأصغ يا أخي! سمعك لنداء ربك، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50]، وبادر قبل طي صحيفتك، واحسر عن رأسك قناع الغافلين، وشمر للسباق غداً، فإن الدنيا ميدان المتسابقين، واعلم أننا خلقنا لنحيا في دار غرس غراسها الرحمن بيده، وفي الصحيح الموقوف: (إن الله عز وجل غرس جنة عدن بيده)، فرحم الله قوماً علموا أن الرحمن غرس جنة عدن بيده، فاشتاقوا إلى الغارس واشتاقوا إلى المغروس.
فيا إخواتاه سيروا إلى ربكم سيراً جميلاً.
أيا صاح! هذا الركب قد سار مسرعاً ونحن قعود ما الذي أنت صانع أترضى بأن كنت المخلف بعده رهين الأماني والغرام ينازع على نفسه فليبك من كان باكياً أيذهب وقت وهو في اللهو ضائع فحيهلاً إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق يطوي المراحلا وقل لمنادي حبهم ورضاهم إذا ما دعا لبيك ألفاً كواملا ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا قال صاحب كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: إن أهل الجنة رفع لهم علم فشمروا إليه، ووضع لهم صراطها المستقيم فاستقاموا عليه، ورأوا أن من أعظم الغدر بيع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في أبد لا يزول ولا ينفذ، بعيش إنما هو كأضغاث أحلام، أو كطيف زار في المنام، مشوب بالكدر وممزوج بالغصص، إن أضحك قليلاً أبكى كثيراً، وإن سر يوماً أحزن شهوراً، آلامه تزيد على لذاته، وأحزانه أضعاف أضعاف مسراته، أوله مخاوف وآخره مهالك، أتبيع جنة عرضها الأرض والسماوات بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات؟ أتبيع مساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار، بمساكن ضيقة آخرها الخراب والبوار؟ أتبيع الحور اللاتي خلقن أبكاراً {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:37] كأنهن الياقوت والمرجان، بسيئات الأخلاق المشاقات أو المتخذات أخداناً.
وذكر العلامة ابن القيم: أن نساء الجنة خلقن من الزعفران.
دع المفرغات من ماء وطين واشغل هواك بحور عين وغفل أبو سليمان الداراني يوماً عن قيام الليل، فرأى فيما يرى النائم أن امرأة من أهل الجنة حوراء تقول له: أتنام والملك يقظان؟ بؤساً لعين آثرت لذة نوم على مناجاة الملك العلام، أتنام وأنا أربى في الخدور منذ آلاف الأعوام؟ ثم أنشدته شعراً حفظ منه: أتطلب مثلي وعني تنام ونوم المحبين عنا حرام لأنا خلقنا لكل امرئ كثير الصلاة كثير القيام

(9/7)


بيان حقارة الدنيا ومن ركن إليها
وإلى المتكالبين على الدنيا نقول لهم: ما الدنيا إلا مأكول أو مشروب أو ملبوس أو منكوح.
فأما المأكول فأفضله العسل، وهو بزقة ذبابة، وأما الملبوس فأفضله الحرير وهو صنع دودة، وأما المشموم فأفضله المسك وهو دم فأرة؛ لأنه يتخذ من عنق الغزال، وأما المنكوح فهن النساء، فإن أعرضت عن طريق الله عز وجل فهي مبال في مبال، تتزين بأجمل الثياب ويراد منها أقبح الأماكن.
إن الذي يعتز بشيء من حطام الدنيا نقول له: جدك البعيد تراب رميم، وأبوك القريب ماء مهين، وأنت خرجت من مجرى البول مرتين؛ أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين هذا وذاك تحمل العذرة.
أنف يسيل وأذن ريحها سهك والعين مرفضة والثغر ملعوب يا ابن التراب ومأكول التراب غداً أقصر فإنك مأكول ومشروب إن أعرضت عن طريق الله عز وجل وكنت عند الناس من كنت فإنك لا تساوي شيئاً من ملك الله، وأنت تعلم ما يخرج من بطنك، والنحلة أعلم بما يخرج من بطنها، فيا ليت قومي يعلمون.

(9/8)


همة السلف رضي الله عنهم
تلمح القوم الوجود وفهموا المقصود، فأجمعوا الرحيل قبل الرحيل، وصاحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملأ الأعلى، أما تسمعون قول الصحابي الجليل أنس بن النضر يقول لـ سعد بن معاذ: والله يا سعد! إني لأشم رائحة الجنة من دون أحد.
وهذا شم حسي! يا ابن النظر طهرت أنوفكم فاشتاقت إلى ما عند الله عز وجل، ونحن زكمت أنوفنا بالدنيا وبعطر الكاسيات العاريات، فلم يبق فيها مكان لشم رائحة الجنة.
خذني إلى بيتي أرح خدي على عتباته وأبوس مقبض بابه خذني إلى وطن أموت مشرداً إن لم أكحل ناظري بترابه هؤلاء علت هممهم في كل شيء: في الدعوة إلى الله عز وجل على بصيرة، وفي طلب العلوم الشرعية، وفي الذكر، وفي قراءة القرآن، وفي الصلاة، وفي الصدقات، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(9/9)


همة السلف في طلب العلم
أما في تعلم العلوم الشرعية فتجد السلفي يتابع المكتبات ويشتري الكتب، ويستلف ويستدين، وتلقاه ماشياً واضعاً الكتاب تحت إبطه، والبعض يسخر ويقول: انظروا إلى هذا، إن لحيته تسع أربعة آلاف حديث ويسأل عن مسألة فلا يجيب! فهؤلاء علت همتهم في طلب العلوم الشرعية؛ حتى يعبدوا الله عز وجل على بصيرة، وكما بوب الإمام البخاري: (باب العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، وقول الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108]، أي: على علم).
فتعالوا لننظر إلى مدى بلوغ همتهم في طلب العلوم الشرعية، فهذا الإمام الزهري كانت تقول زوجه عنه: والله لمطالعة الزهري لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر، يعني: يا ليته تزوج ثلاث نساء ولم يطالع الليل والنهار في هذه الكتب.
الإمام ابن الباغندي الحافظ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: يا رسول الله! منصور أحفظ أم شعبة؟ فيقول: منصور، منصور.
الإمام ابن الباغندي كان ربما دخل الصلاة وهو يقول: الله أكبر، وبعد أن يكبر يقول: حدثنا فلان عن فلان حتى يذكر أنه في صلاة.
وابن أبي حاتم الرازي الإمام الجليل يقول: اشتهينا سمكة فاشتريناها، ولم يكن عندنا وقت لنطبخها، كنا في النهار نطوف على الشيوخ، وفي الليل ننسخ ونقابل، فمكثت عندنا ثلاثة أيام فأكلناها نيئة.
وشعبة بن الحجاج الضخم الذي كان يحدث عن الضخام كانت ثيابه بلون التراب، واليوم أحدنا إذا اغبرت ثيابه قال: لا بد أن تكون الغترة مكوية، والجلابية مكوية، وكذا وكذا والإمام أحمد بن حنبل كان يقول: مع المحبرة إلى المقبرة.
وكان الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله وهو يخيط قميصه يصنع كماً ضيقاً وكماً واسعاً، أما الكم الواسع فكان يضع فيه الكتب حتى يقرأها وهو في الطريق.
ومصعب الزبيري أعطاه يحيى بن زكريا كتب محدث آخر فأكلتها الفأرة وبالت عليها، فجعل يقرأ ما بقي من أكل الفأرة.
وأبو بكر الأنباري كان يقرأ في الأسبوع 10.
000 صفحة.
وابن تيمية الجد كان يدخل إلى الخلاء ثم يقول لابنه: اقرأ علي بصوت عال حتى أسمعك وأنا بالداخل.
هذه هي همة السلف في تعلم العلوم الشرعية.

(9/10)


بيان أدب السلف مع مشايخهم
وأما همتهم في تأدبهم مع مشايخهم: فالإمام الشافعي كان يقول: كنت أقلب الصفحة بين يدي مالك تقليباً خفيفاً؛ حتى لا يحس بها مالك.
فكان جزاؤه من جنس عمله، فـ الربيع بن سليمان كان يقول: والله ما استطعت أن أشرب الماء في حضرة الشافعي.
طهرتم فطهرنا بفاضل طهوركم وطبتم فمن أنفاس طيبكم طبنا والربيع بن سليمان كان تلميذ الإمام الشافعي.

(9/11)


همة السلف في الدعوة
وأما همتهم في الدعوة إلى الله عز وجل فحدث عنها ولا حرج، فالتربة التي يرقد فيها الآن أبو أيوب الأنصاري هي بالقرب من أسوار القسطنطينية، وأم حرام مدفونة في جزيرة قبرص، وبلال الحبشي مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفون تحت أسوار دمشق، وعقبة بن نافع في إفريقيا.
وهم حجة علينا.
هؤلاء هم الذين حملوا الإسلام غضاً طرياً، فقد حملوه في عيونهم، وأما نحن فنستحيي من ديننا، ونستحيي من هذه البضاعة التي نحملها ونعرضها على الناس، وأما هم فعاشوا للإسلام.
يقول أبو حازم الأعرج: قد رضينا من أحدكم أن يحافظ على دينه كما يحافظ على نعله، لا تقل: دينك لحمك، دينك دمك، إن الرجل منا إذا اتسخ ثوبه قام يغسله.
فما بال دينك ترضى أن تمزقه وثوبك الدهر محمي من الدنس؟ نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع أصبح دين أحدنا لعقة على لسانه، يقول: أؤمن بيوم القيامة، وكذب ومَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ! يقول الشاعر: أدمت سياط حزيران ظهورهم فأدمنوها وباسوا كف من ضربا وهذا من شعر نزار قباني، وشعره عفن لكن البيت الوحيد الذي صدق فيه على العرب هو هذا.
وعندما قاتل العرب ضد جنود أمريكا وفرنسا وغيرهم قال فيهم نزار فصدق وهو كذوب: متى تفهم؟ متى تفهم؟ متى يا أيها المتخم أيا جملاً من الصحراء لم يلجم ويا من يأكل الجدري منك الوجه والمعصم متى تفهم؟ أيا من تخجل الصحراء حتى من نداءاتك نسيت الوشم فوق يديك نسيت ثقوب خيماتك وبعت الله بعت القدس بعت رماد أمواتك وانظروا في المعارك الإسلامية في اليرموك وفي القادسية وفي سقوط المدائن.

(9/12)


نماذج من علو الهمة

(9/13)


علو الهمة في الغزو والجهاد
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فقد أشار علي شيخنا وقرة العين الشيخ محمد بن إسماعيل بأن أكتب رسالة تسمى: صلاح الأمة في علو الهمة، وهذه من بركات مولانا الشيخ محمد بن إسماعيل، حفظه الله لدعوته.
وإن شاء الله سآتي بمقتطفات من كل مبحث.
فمثلاً في باب الغزو والجهاد: تجد نور الدين محمود زنكي القسيم بن القسيم، قاهر الصليبيين والذي فعل بجحافلهم ما فعل كان يتمنى الشهادة في سبيل الله، فقال له قطب الدين النيسابوري شيخ علماء الحنفية: بالله عليك يا مولانا السلطان! لا تخاطر؛ فأنت سور الإسلام، فإنك إن قتلت أخذت الديار، فيقول له: اسكت يا قطب الدين! فهذه إساءة أدب مع الله عز وجل، فمن كان يحفظ البلاد والعباد قبل نور الدين محمود زنكي.
ومن منا لم يسمع بـ أبي ثور عمرو بن معد كرب الزبيدي وفعله في معركة القادسية سنة (100هـ) أو سنة (106هـ)، ومن منا لم يسمع بـ طليحة بن خويلد الأسدي الذي ادعى النبوة، ثم ختم الله له بالشهادة؛ لبطولته.
وكذلك القعقاع بن عمرو التميمي الذي سمل أعين الفيلة في معركة القادسية، وقتل القائد الذي كان يتولى قيادة القلب في جيش الفرس.
فلا القعقاع يهتف بالسرايا فتخشى ساحة الهيجا نزاله ولا حطين يبعثها صلاح طوى الجبناء في خور هلاله فلا صوت المؤذن في حمانا وقد سقطت مآذننا بلاله وهم الشعب صك أو رغيف وجل مناه أن يرضي جماله وألفاظ يتيه بها قرود وليس لها معان أو دلاله سيادته هوان في هوان وقد رفعت معانيه السفاله سعادته شقاء في شقاء سماحته يعيش مع الضلاله فخامته هزيل ليس يدري بأن الناس قد صدحوا هزاله ودولته يعيش على الأماني ويخشى أن تفاجئه الإقاله

(9/14)


علو الهمة في الصلاة
وفي باب الصلاة: تجد الأخ أول ما يلتزم مع الاتجاه الإسلامي مواظباً على صلاة الفجر في الصف الأول، ثم بعد مرور شهرين تجده متأخراً.
وفي الحركة الإسلامية ناس تفوتهم الركعة الأولى والثانية والثالثة، بل لو حضر الجماعة الأولى فقد كثر خيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي حسنه الألباني في صحيح الجامع: (من واظب على تكبيرة الإحرام أربعين يوماً كتبت له براءتان، براءة من النفاق وبراءة من النار).
وأما السلف فقد كانت أحوالهم عند الوضوء على أعلى الهمم، وكانوا يستحضرون فيه أنهم سيدخلون على حضرة الملك.
فـ علي زين العابدين كان إذا توضأ اصفر وجهه وارتعد وكان يقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقف؟ وذلك من شدة خشوعهم في صلاتهم.
وعبد الله بن الزبير كان يسمى حمامة المسجد، وكان إذا ركع أو سجد أتى الطير فحط على ظهره من شدة خشوعه.
ومنصور بن المعتمر كان يقوم الليل على سطح بيته، وكانت بنت الجيران تصعد فتجد شيئاً منصوباً تظنه خشبة، فلما مات منصور بن المعتمر فقدت الخشبة، فقالت لأمها: يا أماه! المشجب الذي كان على سطح جارنا أين ذهب؟ فقالت لها: ذاك المشجب قد مضى إلى ربه.
فـ منصور بن المعتمر هو ذاك المشجب، وقد مضى إلى ربه.
ولما سئل أبو زرعة الرازي عن حكم الكتابة في المحاريب قال: قد كرهها قوم، فقالوا: هناك كتابة في محراب مسجدك، قال: إني منذ 20 سنة أصلي في هذا المسجد لا أشعر أن هناك كتابة.
وسعيد بن المسيب يقول: منذ أربعين سنة ما فاتتني تكبيرة الإحرام في المسجد.
والربيع بن خثيم يقول: والله إني لآنس بصوت عصفور المسجد أشد من أنسي بزوجتي.
وأحدهم كان في صلاته، فضاعت له مخلاة فيها شعير، فجعل يفتش عنها فلم يجدها ولم يجدها الخادم، وبعد أن قضى صلاته قال: المخلاة في المكان الفلاني، فقال: أعد صلاتك؛ فإنك كنت تفتش عن المخلاة.
والعبد اليوم يستوفي مكيال شهواته ولا يطفف فيها، ثم يطفف في مكيال دينه وصلاته.
فإذا هانت عليك صلاتك فأي شيء يعز عليك من دينك؟ قال تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود:95].
وإمام من أئمة السلف وهو الربيع بن خثيم خرج في غزاة ومعه غلامه يسار، فخرج يحتش بالفرس وقام الربيع بن خثيم إلى صلاته، فسرقت الفرس، ولما أتى الغلام قال: يا سيدي! أين الفرس؟ قال: سرقت، قال: سرقت وأنت تنظر إليها؟ قال: ما كان هناك شيء يشغلني عن الصلاة.
ثم قال بأدبه: اللهم إنه سرقني ولم أكن لأسرقه، اللهم إن كان غنياً فاهده، وإن فقيراً فأغنه.
وكان عمر بن الخطاب ينعس من قيام الليل وهو قاعد، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ألا ترقد؟ ألا تنام؟ فيقول: وكيف لي بالرقاد، إن نمت بالنهار ضيعت مصالح الرعية، وإن نمت بالليل ضيعت حظي مع الله.
وكأن لسان حاله يقول: لست أدري أطال ليلي أم لا كيف يدري بذاك من يتقلى لو تفرغت لاستطالة ليلي أو لرعي النجوم كنت مخلا والصحابي الجليل أبو ريحانة كان في الغزو، ولما رجع من الغزو أعدت له زوجه طعاماً للعشاء، فأكل، ثم صف قدمه في محرابه إلى الصباح، ثم أخذ مخلاته وذهب إلى الجيش، فأمسكته زوجه وقالت له: يا أبا ريحانة! غزوت ثم عدت، أفما كان لنا فيك نصيب؟ قال: والله لو خطرت لي على بال لكان لك في نصيب! بعدما غاب شهرين أو ثلاثة عن زوجته يقول لها: لو خطرت لي على بال.
قالت: يرحمك الله! وما الذي يشغلك عنا؟ قال: إني نظرت في كتاب الله عز وجل وإلى ما أعد الله عز وجل لعباده في الجنة من سندسها وإستبرقها فذاك الذي شغلني عنك.

(9/15)


علو الهمة عند أهل الكرامات
ولذلك كان هؤلاء الناس لهم دلالة على الله عز وجل، حكى ابن سيد الناس في المقامات الجلية في كرامات الصحابة: أن أبا ريحانة هذا سقطت إبرته في البحر، فلما وقعت قال: يا رب! عزمت عليك إلا أرجعت لي إبرتي، فعلت الإبرة على سطح الموجة فأخذها.
وفي الحديث الذي حسنه الشيخ الألباني عن محمد بن المنكدر قال: (إن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع في أسر الروم، ثم هرب، فبينما هو في الطريق تصدى له الأسد، فقال له: يا أبا الحارث -وهذه كنية الأسد- أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أمري كيت وكيت وكيت، فحرك الأسد ذنبه يميناً ويساراً ثم أوصله إلى مأمنه).
وهذا بنان الجمال جلس يأمر أحمد بن طولون بالمعروف وينهاه عن المنكر فحبسه، ثم جوع أسداً وألقاه إليه، فقالوا: كيف كان قلبك حين دخل الأسد عليك وكان الأسد يشمك، فقال: كنت أفكر في اختلاف العلماء في سؤر السباع، أي: كان يفكر في مسألة فقهية.
وهذه القصة حكاها الذهبي في سير أعلام النبلاء وابن كثير في البداية والنهاية.
والمصطفى صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها فيما حكاه ابن حجر في الإصابة، قال: (فلما طلقها حثا عمر بن الخطاب التراب على رأسه ومشى باكياً في المدينة وقال: ما أصبح الله يبالي بـ عمر ولا بابنة عمر، فنزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له كما في حديث الذي حسنه الألباني -: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة؛ لأنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة).
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ويزرع إلا في منابته النخل

(9/16)


قيام الليل عند السلف
وكان للصحابة أمور عجيبة في قيام الليل، واليوم يأتي شخص ويقول: والله أنا أخ سلفي، ولكن شغلي الحديث والعلل والمتون والأسانيد وتحقيق الكتب عن قيام الليل، وليس عندي وقت لقيامه.
فنقول له: هل أنت أحسن من أبي هريرة، فإنه اتخذ الليل جملاً هو وخادمه وزوجته: ثلث يصليه الخادم، وثلث يصليه هو، وثلث تصليه زوجته، فإذا جلس إلى الشروق بعد الفجر كان له 12.
000 ألف تسبيحة.
قال الأرنؤوط: صحيح.
وكان مع ذلك من أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما الجفاف الذي عندنا فهذا من مطالعة الكتب، وإذابته يكون بالذكر وبقيام الليل.
ومسروق بن عبد الرحمن المفسر الجليل تقول عنه زوجه: كان يقوم الليل، وما كان يأتي صلاته إلا زحفاً كما يزحف البعير، وإن قدماه لمنتفختان من أثر القيام، وكنت أجلس خلفه أبكي له رحمة مما يصنع بنفسه.
والإمام الأوزاعي إمام أهل الشام دخلت امرأة ذات صباح على زوجته فوجدت بللاً في مصلى الشيخ على السجادة التي يصلي عليها، فقالت لها: ثكلتك أمك! تركت الصبيان حتى بالوا في مصلى الشيخ، فقالت: والله ما هذا بول الصبيان، وإنما دموع الأوزاعي.
وهذه امرأة تأتي بابنها وتريه حفره في البيت وتقول له: هذا موضع دموع أبيك.
أي: إن أباه كان يبكي هنا حتى عمل حفرة لدموعه.
وإن تعجب فاعجب من عمر بن الخطاب الذي كان في وجهه خطان أسودان من كثرة البكاء! نزف البكاء دموع عينك فاستعر عيناً لغيرك دمعها مدرار من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عيناً للدموع تعار وابن الأثير لما ترجم لـ نور الدين محمود زنكي الذي دوخ الصليبيين قال عنه: كان مدمناً لقيام الليل.
وهذا غير المدمن على الأفيون والهروين والكوكايين المخرب للبيوت.
يقول: وكذلك كانت زوجه عصمة الدين بنت الأتابك خاتون.
كذاك الفخر يا همم الرجال تعالي فانظري كيف التعالي أفما لك بالرجال أسوة؟ أتسبقك امرأة وأنت رجل؟ وعصمة الدين هذه زوجة نور الدين محمود زنكي قامت ذات ليلة غضبى من نومها، فسألها عن سر غضبها -ألأنه لا يوجد دقيق جاء من إيطاليا، أم لم يأت لباسها من بيوت الأزياء في باريس- فقالت: فاتني ورد البارحة، فلم أصل من الليل شيئاً، فأمر بصنع طبلقانة تضرب للناس لمن يريد أن يقوم في السحر.
فلما مات عنها نور الدين محمود زنكي تزوجها صلاح الدين الأيوبي، فامرأة كهذه لا تكون إلا تحت صلاح الدين الأيوبي أو نور الدين محمود زنكي.

(9/17)


علو الهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أما في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا الإمام أبو بكر بن النابلسي شيخ علماء الحديث في مصر لما أتى المعز الفاطمي العبيدي الإسماعيلي وكان من أحفاد ميمون القداح اليهودي، الذي مدحه ابن هانئ الأندلسي بقوله: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار وقبل أن يموت بسنتين اختفى في سرداب، فقال المصريون: المعز في السحاب.
قال ابن كثير: قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]-أتى إلى ابن النابلسي - الإمام الحافظ هذا فقال: أيها الرجل! بلغنا أنك تقول: لو كانت عندي عشرة أسهم لرميت اليهود والنصارى بتسعة والرافضة بواحد.
قال: والله ما هكذا قلت، ولكن قلت: والله لو كانت عندي عشرة أسهم لأبقيت تسعة للرافضة، ثم أبقيت العاشر أيضاً للرافضة، قال: لماذا أيها الرجل؟! قال: لأنكم غيرتم دين الأمة وأطفأتم نور السنة وادعيتم ما ليس لكم.
فأمر المعز يهودياً أن يسلخه فسلخه، وهو يقول: وكان أمر الله قدراً مقدوراً، فلما وصل السلخ إلى القلب أشفق عليه اليهودي فطعنه برمح في قلبه فمات وروى الذهبي: فقال: والله لقد سمع صوت القرآن من جوفه بعد أن قتلوه.
إذا أردنا النصر فلتعل هممنا في كل شيء، في طلب العلوم الشرعية، وفي الدعوة إلى الله عز وجل، وفي العمل بهذا العلم، وفي التحلي بأخلاق الإسلام، وفي الذكر، وفي ختم القرآن ولو مرة كل أسبوع، وفي قيام الليل، وفي الصيام.

(9/18)


علو الهمة في الصيام
وفي الصيام مثلاً: إبراهيم بن النيسابوري تلميذ الإمام أحمد بن حنبل، يقول الإمام أحمد بن حنبل لابنه إسحاق: يا إسحاق! والله لا أستطيع ما يستطيع والدك.
وعندما جاءه الموت كان صائماً، فقال لابنه: ارفع الصدر يا بني! قال: الصدر مرفوع يا والدي! فقال: اسقوني، فلما أتوا بالماء قال: هل غابت الشمس؟ فقالوا له: لا، فأمسك بيديه -هكذا- حتى يموت وهو صائم، ثم لما جاءته السكرات قال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61].
ومن هممهم كان أحدهم يأتي إلى جرحه ويمسكه ويقول: إنك لصغير، وقد يبارك الله في الصغير فيصبح كبيراً، يعني: حتى يقتلني.
ومن الهمة العالية همة سيدنا موسى لما بكى كما في حديث الإسراء فيما يرويه الإمام البخاري، ولما سئل عن سر بكائه قال: (أبكي أن نبياً يبعث من بعدي ويدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخل من أمتي) فهذا بكاء الرجال.
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاح وبعد: فيا داعية الإسلام؛ من جد وجد، ومن صحت بدايته صحت نهايته، وليس من سهر كمن رقد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

(9/19)


قبض العلماء
إن العلماء هم حراس العقيدة، وحماة التوحيد، وبهم يحفظ الله هذا الدين، وتصان حرمات المسلمين.
فإذا مات العالم خسر المسلمون حارساً من حراس عقيدتهم، وموت العلماء علامة على قبض العلم، وانتشار الجهل، وتولي الجهال على مقاليد أمور المسلمين، وهو ثلمة في الدين لا يزال الناس يشعرون بالنقص بعده.

(10/1)


ترجمة الإمام ابن باز
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: يقول الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد: لو بدا لرجل أن يسمى شيخ الإسلام فأولى الناس به الشيخ الشنقيطي، فما ظنك بالعلامة إمام عصره بلا منازع فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
يقول الشاعر أبو عمر المقدسي: العام عام ترجل الفرسان من شيخنا البازي للألباني دخل الجزيرة والشآم مواجع ومدامع تربوا على الطوفان علماء قد حملوا الهداية معلماً للحق يهدي حائر الثقلان همُ في الوجود صحائف قد سطرت بمداد أفئدة الهدى الرباني هم في الوجود موانئ لسفائن التوحيد تسري لدوحة الإيمان عادوا بها بيضاء بعد غشاوة وسموا بها عن مجمع البهتان رغم العدا علماؤنا لم يرحلوا فهواء مسجدنا غدا ألباني رغم العدا فرساننا لم يرحلوا سرب البزاة سحائب البلدان يا ناصر الدين الحنيف محارباً ومنابذاً بدع البغيض الجاني وإذا سألت عن الحديث وأهله فاسأل يجبك عن السؤال بياني علم الحديث رواية ودراية في عصرنا ربانه الألباني إن شيخنا الإمام عبد العزيز بن باز قد مثل في شخصه الكريم مشيخة الإسلام في هذا العصر، فهو إمام أهل السنة، والمحقق الأثري الفقيه النابغة، مفتي الديار السعودية، ومرجع المستفتين من أنحاء العالم يرحمه الله.
يقول بعض السلف: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز، ومن رأى جنازة الشيخ ابن باز ونحيب كبار الشيوخ بالمملكة بصوت عال كالأطفال، ولا أبالغ إذا قلت: أكثر من تسعمائة ألف يسير خلف جنازة الشيخ ابن باز، من رأى ذلك علم صحة المقالة السابقة.
فهذه لحظات نعيشها مع الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى، حفظ الشيخ القرآن عن ظهر قلب قبل أن يبدأ مرحلة البلوغ، وبحفظه لكتاب الله عز وجل باشر انطلاقه في طلب العلم، ولم يحبس الشيخ نفسه على أستاذ واحد، بل اتصل بالعديد من المشايخ وتلقى عنهم العلم كل في حدود تخصصه، كالشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن والشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن والشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، حيث لم يألوا جهداً في تشجيعه على المثابرة في تحصيل الخير والعمل والتبحر في عقائد السلف.
ومن مشايخه أيضاً الشيخ سعد بن حمد آل عتيق والشيخ حمد بن فارس، والشيخ سعد البخاري الذي أخذ عنه علم التجويد، على أن أطول سني الشيخ الدراسية تلك التي قضاها في التتلمذ كانت على سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية سابقاً، حيث استمر ملازماً له عشر سنوات كاملة، وطول ملازمة الشيوخ تعين طالب العلم على الأدب، ولذلك قالوا: إن الشيخ من حدثك بلحظه قبل أن يحدثك بلفظه.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أولياء الله الذين إذا رءوا ذكر الله تعالى برؤيتهم)، فما ظنك بالتتلمذ على أيديهم وطول معاشرتهم.
فهذا محمد بن المنكدر يقول عن أحد العباد: والله إن رؤيته لتنفعني في ديني.
وعبد الله بن المبارك يقول عن الفضيل بن عياض: كنت كلما قسا قلبي نظرت إلى وجه الفضيل فيجدد لي الحفظ فأمقت نفسي.
والذين عاشوا مع الشيخ ابن باز يقولون مثل ذلك عنه وعن رؤية محياه، مثل الشيخ عبد الرزاق عفيفي والشيخ عبد الله بن غديان وغيره يقولون: كان الشيخ يأتي الصبح وعلى جبينه أثر السجود وفي رجليه انتفاخ من أثر القيام، يعني: إذا رأوه وجدوا قدميه وقد انتفختا من أثر القيام، ووجدوا آثار دموع الليل على جبين الشيخ عبد العزيز بن باز، فهذا الذي جعل الشيوخ ينتحبون على موت الشيخ ابن باز.
فقد الشيخ عبد العزيز بن باز بصره في التاسعة عشرة من عمره، واستمر يطلب العلم بعد فقده لعينيه، ولكن قلبه ازداد نوراً وعوضه الله عز وجل بذكاء في القلب، وبصبر على العلم ومصابرة وذكاء منقطع النظير، فالشيخ حافظ العصر في علم الحديث، وإذا سألته عن حديث من الكتب الستة أو من عند غيرهم ففي الغالب تجده يستحضر الحديث سنداً ومتناً، ومن تكلم فيه من أهل العلم سنداً ومتناً، وإن أتيته بالإسناد أتاك بالمتن، وإن أتيته بالمتن أتاك بالإسناد، ويذكر لك مقالات أهل الجرح والتعديل في كل حديث، فائتوني يا أهل العيون المبصرة برجل كالشيخ كـ ابن باز في علمه وفي فقهه!! يقول الشيخ عائض القرني في ترجمة الشيخ ابن باز في كتابه الممتاز في مناقب ابن باز: وتستمر حالة الشيخ فلا يفتأ ليلاً ولا نهاراً يبحث عن العلم ويطلبه من مظانه، مع قلة ذات اليد ومع الفقر ومع العمل ومع عوزه للمال، وكان يقصد الله عز وجل في طلب العلم.
أول الطريق إلى آخره بذل الروح والصدق مع الله عز وجل، بهذا ارتفع الخير وإلا فدع عنك الترهات.
الإمام أحمد عندما كان يسأل عن الصدق والإخلاص فيقول: بهذا ارتفع الخير.
فالشيخ صدق الله عز وجل في طلبه للعلم مع فقده للبصر.
قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].

(10/2)


وقفات مع جهود بعض أهل العلم في تحصيل العلم على كبر السن
كثير من أهل العلم طلبوا العلم وهم كبار، ولكنهم صدقوا الله عز وجل فصدقهم، منهم شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك فقد طلب العلم وهو ابن عشرين سنة، وأول ما بدأ يطلب العلم قالوا له: إن الربيع بن أنس موجود في السجن، فاحتال عليه حتى دخل السجن فأخذ منه أربعين حديثاً.
والإمام البخاري يعنون في كتابه: من طلب العلم وهو كبير.
والإمام القفال ذهب إلى أحد الأمصار في طلب العلم وعمره أربعون سنة، فقال: متى أطلب العلم، ومتى أحفظ، ومتى أعلم الناس، فمر بصاحب ساقية يسوق البقر وكان الحبل يقطع الصخرة من كثرة مروره عليها، فقال: أطلبه وأتفرغ لطلبه، واستمر يطلب العلم وعمره ثنتان وأربعون سنة حتى أصبح من كبار أئمة الشافعية ومن جهابذة الدنيا.
يقول تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]، ونحن لا نألّي الإخوة بطلب العلم ولكن كل وإمكانيته وما أعطاه الله عز وجل، ويمكن أن يفيد المسلمين في مجال آخر كبناء المساجد، وكفالة الأيتام، فلا يحقر نفسه، فعلى الإنسان أن يكون ذا طموح وهمة عالية.
والإمام بقي بن مخلد إمام أهل الدنيا وصاحب أكبر مسند في التاريخ، يسير على قدميه من المغرب إلى بغداد ليصل إلى إمام أهل السنة، يقول: وكنت أقتات بما تلقيه النساء على طول الشاطئ من أوراق القرنفل، فلما وصلت إلى بغداد قيل لي: إن الإمام أحمد ممنوع من الدرس، فقلت: دلوني على بيت الإمام أحمد، ثم طرقت عليه الباب، فقلت: يا إمام طالب علم جئت إليك من بلاد بعيدة، قال: من إفريقيا أم من تونس؟ قال: بل أجوز بحراً من بلادي حتى أصل إلى تونس أنا من الأندلس، قال: مثلك يرحب لطلب العلم، ولكنك تعلم أني ممنوع من الدرس، قال: عندي فكرة، قال: وما هي؟ قال: سوف آتي إليك في زي السؤال وأنادي وأنت تخرج إلي، فأسمع منك الحديث، قال: بشرط ألا تجلس إلى أحد من أهل الحديث، قال: لك هذا، قال: فلما كان في الغد جعلت الأوراق في كمي وأتيت بخرقة وجعلتها عمامتي، ثم جعلت أقول: السؤال هنا والأجر هنالك إن شاء الله، قال: فيعطيني الحديث والاثنين والثلاثة فأسمع لذلك، قال: واستمر الحال على ذلك ستة أشهر حتى انتهت المحنة.
يقول الإمام ابن أبي حاتم الرازي: اشتهينا سمكة، فمكثت عندنا أياماً، كنا في النهار نطوف على الشيوخ وفي الليل ننسخ ونقابل، فمكثت عندنا أياماً ولم يكن عندنا وقت لطبخها.
والإمام محمد بن جرير الطبري والإمام محمد بن نصر المروزي والإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة دخلوا لتحصيل بعض الأحاديث من عند المصريين، فانتهت عليهم النفقة واضطروا إلى أن يسألوا الناس، فقالوا: نجري قرعة ومن خرجت عليه القرعة يخرج ويسأل الناس، فخرجت القرعة على إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب كتاب الصحيح، فقال: ذروني حتى أصلي ركعتين، وبينا هو يصلي إذ دق الباب رسول لـ أحمد بن طولون فقال: أيكم محمد بن جرير الطبري؟ فدفع إليه صرة فيها خمسون ديناراً، ثم قال: أيكم محمد بن إبراهيم؟ فدفع إليه صرة فيها خمسون ديناراً، وأعطى لكل رجل خمسين ديناراً، فقالوا: ما قصتك؟ قال: أتى أحمد بن طولون آت في المنام فقال له: إن المحمدين جياع فأطعمهم، وهو يستحلفكم بالله إن انتهت النفقة أن تعلموه حتى يأتيكم بغيرها.
فلا بد من الصدق في طلب العلم.
لا تدبر لك أمراً فأولو التدبير هلكى سلم الأمر تجدنا نحن أولى بك منكا

(10/3)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:00   رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

جهود الشيخ ابن باز في تعلم العلم وتعليمه
كان الشيخ ابن باز يجيد اللغة العربية الفصحى، ويشرحها ويلقيها على طلابه، وله في الفرائض والمواريث قدم، أما في الحديث فهو محدث الدهر، ويعرف الرجال.
يقول عنه الشيخ عائض القرني: سألته قبل ما يقارب أربع سنوات عن الحجاج بن أرطأه، فقال: ضعيف ومدلس، قال: فهو يحفظ آلاف الرجال في ذهنه، فإذا سألته عن الرجل أخبرك عنه، وما قيل فيه.
ويتابع كثيراً في (تهذيب التهذيب) لـ ابن حجر، وهو كتابه المفضل لديه، يقول لبعض محبيه: ربما حفظت 80% من تهذيب التهذيب الذي كله أسماء رجال، والذي يتكون من ثلاثة عشر مجلداً.
يقول: ويحفظ (فتح الباري)، وقد قرأه مرات عديدة من وقت طلبه للعلم إلى الآن، وهو الذي تولى الإشراف على إخراجه وتحقيقه للناس.
هذا الكتاب الذي مكث فيه ابن حجر يؤلفه اثنتين وثلاثين سنة.
وواصل الشيخ مشواره في تعليم طلبة العلم من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، فيدرس فتح الباري، وفتاوى ابن تيمية، وبلوغ المرام، ثم يدرس الكتب الستة وشروحها، ثم يدرس شرح العقيدة الطحاوية، ويدرس تفسير ابن كثير، والبداية والنهاية، وجامع العلوم والحكم.
يقول عنه محمد المجذوب: روى عنك أهل الفضل كل فضيلة فقلنا حديث الحب ضرب من الوهم فلما تلاقينا وجدناك فوق ما سمعنا به في العلم والأدب الجم فلم أر بازاً قط قبلك شيخنا يصيد فلا يؤذي المصيد ولا يدمي والباز: هو الصقر.
ويقول الشيخ عائض في مديح الشيخ عبد العزيز بن باز: قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي عفواً لك الشيخ قد أحببت طلعتكم لأنها ذكرتني سير أسلافي يا دمع حسبك بخلاً لا تجود لمن أجرى الدموع كدمع الوابل السافي يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي أغراهم المال والدنيا تجاذبهم ما بين منتعل منهم ومن حافِ مجالس اللغو ممشاهم وروضتهم أكل اللحوم كأكل الأغطف العافي وأنت جالست أهل العلم فانتظمت لك المعاني ولم تولع بإرجاف بين الصحيحين تغدو في خمائلها كما غدا الظل في إشراقه الصافي يكفي محياك أن القلب يعمره من حبكم ولدي أضعاف أضعاف أراك كالضوء تجري في محاجرنا فلا تراك عيون الأغلف الجافي كالشجو تملك أشواقي وتأسرها بنغمة الوحي من طه ومن قاف وثد اجتمعت في الشيخ عبد العزيز بن باز خصال ما اجتمعت في غيره.
والشيخ لم يحبس نفسه في مكتبه فقط، وإنما كان رجل عامة، وهذا نادر قل أن تجده في طبقات الرجال، فالإمام أحمد كان رجل عامة، والأوزاعي كان رجل عامة، أما سفيان الثوري فكان رجل خاصة، فكان ينتفع به وبعلمه العلماء والمحدثون فقط، أما الأوزاعي فكان كالبحر يلج إليه كل الناس وينتفعون بعلمه.
وكان أبو إسحاق الفزاري رجل عامة يختلط بعوام الناس، ويعلمهم السنن، ويؤدبهم، ويحملهم على الجادة، ويعلمهم عقيدة أهل السنة والجماعة، وكذلك كان الشيخ ابن باز، كانوا يدخلون عليه في أي وقت.
وهو الشيخ الذي ما تغدى وما تعشى مع أولاده طيلة خمس وأربعين سنة، وفي هذه الفترة كان بابه مفتوحاً لكل الناس، ومائدة الطعام في بيته يأكل منها الناس، فيستفيدون من علم الشيخ ويأكلون من أكل الشيخ.
حدثني الشيخ عمر العيد وهو دكتور في جامعة محمد بن سعود بالرياض يقول: كان الشيخ ابن باز يقترض الآلاف المؤلفة من العام إلى العام، فإذا علمت الحكومة السعودية تدفعها عنه؛ لأنها تعلم أن الشيخ كان ينفق حوالي ثلاثة آلاف ريال على بعض طلبة العلم يخصهم بالنفقة الشهرية.
يقول أحد طلبة العلم: كان الشيخ يعرفني من صوتي، فإذا غبت يرسل إلي من يسأل عن أخباري ويعطيني المال من الفترة إلى الفترة يعينني على الدنيا من غير أن يدري أحد، يقول: إنك تجد الشيخ ابن باز يجلس وسط إخوانه ووسط طلابه يختلط بهم ويعرف حاجاتهم، ويؤدبهم بمخالطته، ويستفيدون من لحظه قبل أن يستفيدوا من لفظه، وهذه غاية عظيمة.
فالشيخ وهو جالس وسط الناس يربيهم ويعلمهم ويحملهم على السنة.
وكان صدر الشيخ ابن باز يتسع للمخالف أيما اتساع، وربما تجد طالب علم متحمساً لنصرة الإسلام، فيقول عن الشيخ الكلام الجاف الذي لا يقوله طالب علم في طالب علم، ولحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة.
كان يقول للمخالفين: هذا الأمر يحتاج إلى جهاد أمة بأسرها، وينصح الطلاب المتحمسين المندفعين بالتروي وبسؤال أهل العلم، ولو أن الناس اتبعوه في هذا لوفروا على الدعوات الإسلامية في كافة الأقطار الإسلامية الكثير والكثير.
وينطبق على الشيخ أنه العالم العامل، والإمام الذهبي في السير ترجم لمائتين وخمسين يطلق عليهم لقب شيخ الإسلام، ويقول عن بعضهم: وكان سيد العلماء العاملين في وقته.
فكان الشيخ من أعبد الناس، ومن أشدهم تطبيقاً للعلم.
وأما على مآس المسلمين فتجده بكاء كالأم الشفوق أو كالأب الشفوق، فإذا سمع بمصائب المسلمين في البوسنة أو الهرسك أو كوسوفا يبكي كالطفل، وهذا يعلمه القاصي والداني عن الشيخ ابن باز، فبمجرد أن يخبر عن أحوال المسلمين تجده يبكي بكاء مراً، فهو يحس بواقع المسلمين وليس بعيداً عنهم، ويعلم واقع المسلمين في مصر، وفي الجزائر وفي غيرها من الدول.
وهذا هو الشيخ الذي دان له الجميع بالفضل.

(10/4)


القصيدة البازية
هذه القصيدة قيلت في مديح الشيخ عبد العزيز بن باز، وهي قصيدة عظيمة، وتسمى القصيدة البازية.
يا رائد العلم في هذا الزمان ويا مجدد العصر في علم وأعمال وحاتم في عطاياه وجودته في بحركم لا يساوي عشر مثقال في الجود مدرسة في البذل مملكة في العلم نابغة أستاذ أجيال الحق مذهبه والنصح يعجبه والذكر يطربه يحيا به تالي العلم مؤنسه والله يحرسه ما كان مجلسه للقيل والقال بالنص فتواه بالرفق ممشاه من فيض تقواه مخشوشن الحال لم ينتقص أحداً لم يمتلئ حسداً لم يفتتن أبداً بالمنصب العالي العين دامعة والكف ضارعة والنفس خاشعة من خشية الوالي المال ينفقه والوعد ينجزه والشهد منطقه مستعذب حالي يا درة العصر يا بحر العلوم فما رأت لك العين من ندٍ وأمثال حقاً فقد عرف التاريخ كوكبة مضيئة من صناديد وأبطال مثل ابن حنبل أو مثل ابن تيمية أو البخاري في إسناده العالي لكننا يا حبيب القلب نبصرهم كأنما مثلوا في شخصك الغالي فهذا قليل من فيض كثير قيل عن الشيخ عبد العزيز بن باز.

(10/5)


رثاء الشيخ ابن باز
هذه قصيدة للشيخ عبد الرحمن العشماوي، وقد رثى بها الشيخ ابن باز فقال: خفقان قلب الشعر أم خفقاني أم أنه لهب من الأحزان ماذا يقول محدثي أحقيقة ما قال أم ضرب من الهذيان ما لي أرى ألفاظه كحجارة ترمي بها الأفواه للآذان يعني: عندما قيل له: الشيخ مات.
الشيخ مات عبارة ما خلتها إلا كصاعقة على الوجدان أو أنها موج عنيف جاءني يقتاد نحوي ثورة البركان يا ليتني استوقفت رنة هاتفي قبل استماع نداء من ناداني أو أنني أغلقت كل خطوطه متخلصاً من صوته الرنان الشيخ مات أما لديك عبارة أخرى تعيد بها اتزان جناني قل لي بربك أي شيء ربما أنقذتني من هذه الأشجان قل لي بربك أي شيء قال لي عجباً لأمرك يا فتى الفتيان أنسيت أن الموت حق واقع ونهاية كتبت على الإنسان أنسيت لا والله لكني إلى باب الرجاء هربت من أحزاني الشيخ مات صدقت إني مؤمن بالله مجبول على الإذعان الشيخ لا بل قلعة العلم التي ملئت برأي صائب وبيان هو قلعة العلم التي بنيت على ثقة بعون الخالق المنان وأمامها هدمت دعاوى ملحد وارتد موت البغي والبهتان وتطايرت شبه العقول لأنها وجدت بناء ثابت الأركان أنست بها نجد ومهبط وحينا واسترشد القاصي بها والداني هو قلعة ظلت تحاط بروضة خضراء من ذكر ومن قرآني صان الإله بها عقيدة أمة في عصرنا المتذبذب الحيران ماذا تقول قصائد الشعر التي صارت بلا سطر ولا أوزان ماذا تقول عن ابن باز إنها ستظل عاجزة عن التبيان ماذا تقول عن التواضع شامخاً وعن الشموخ يحاط بالإيمان ماذا تقول عن السماحة والنهى عن فقه هذا العالم الرباني مات ابن باز للقصائد أن ترى حزن القلوب وأدمع الأجفان في عين طيبة أدمع فياضة تلقى دموع الطائف الولهان والخرج تسأل والرياض ومكة عن قصة مشهورة العنوان عن قصة الرجل الذي منحت له كل القلوب مشاعر اطمئنان ما زالت أذكر صوته يسري إلى أعماقنا بمودة وحنان يفتي وينصح مرشداً وموجهاً ومعلماً للناس دون توان نور على الدرب ارتوى من فقهه وسرت منابعه إلى الظمآن يا رب قد أصغت إليك قلوبنا وتعلقت بك يا عظيم الشان الشيخ مات عليه أندى رحمة وأجل مغفرة من الرحمن ظل الشيخ ابن باز طيلة عمره يدافع عن العقيدة السلفية، وهو الشيخ الكبير الذي ترجع إليه جميع الأمة الإسلامية في الفتوى، فموته كان من المصائب التي أصيب بها المسلمون.
نسأل الله عز وجل أن يجعل شيخنا ابن عثيمين خلفاً عن شيخنا ابن باز، وأن يسير به على دربه، ويرحم شيخنا الشيخ ابن باز أحلى رحمة وأرق رحمة.
اللهم أبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، اللهم اغسله بالثلج والماء والبرد، وأكرم نزله، وأكرم مدخله، واجعله مع العلماء الربانيين.

(10/6)


الإمام الألباني خادم السنة
كان الشيخ الألباني إماماً في السنة كما كان إماماً في الحديث.
وقد وضع شيخنا الألباني قواعد في كيفية التصفية والتربية؛ تصفية كل العلوم الإسلامية مما علق بها، وتصفية التوحيد مما شابه من أرباب التأويل والتعطيل والتشبيه، وتصفية التفسير مما شابه من إسرائيليات، وتصفية كتب الحديث وتمييز الصحيح من الضعيف.
قيل لـ عبد الله بن المبارك: هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة ما تصنع فيها؟ قال: يعيش لها الجهابذة من الرجال؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
والتربية هي تربية هذه الأجيال على الإسلام المصفى.

(10/7)


محبة الله
إن محبة الله سبحانه وتعالى من أعظم العبادات والقرب التي يتقرب بها إليه، فهي مفرجة للهموم، وكاشفة للكروب، ومعينة على العبادات، ومقربة من رب الأرض والسماوات، ولذا كان لابد على الإنسان أن يعلم الأسباب الجالبة لمحبة الله فيتقرب بها إلى ربه، ويظفر بالنيل من قربه ووده سبحانه وتعالى.

(11/1)


فضل محبة الله وأسبابها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله وعليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: فاعلم يا أخي! أن منزلة المحبة منزلة عظيمة.
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجيء في الأول المحبة: هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخصت أبصار العاملين، وبروح نسيمها تروح العابدون، هي قوت القلوب، وحياة الأرواح، ونعيم القلوب والنفوس، هذه المنزلة العظيمة هي وسط العقد -كما قالوا- بين مقدماتها وثمراتها، فكل مقام من مقام الإيمان موصل إليها، أو متفرع منها، فما التوبة والمحاسبة والزهد إلا مقدمات المحبة، وما الرضا والشوق إلا ثمرات لهذه المنزلة العظمى، ولقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنها رأس الواجبات، وأصل أصول الحسنات، وما من متحرك في الكون إلا ويتحرك بمحبة مذمومة أو محمودة.
والمحبة لله تبارك وتعالى: هي رأس مال المسلم، وتجارته مع الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].
وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار).
وحتى يعلم العبد منزلة المحبة ينظر إلى قول سيدنا أنس رضي الله عنه أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: ما أعددت لها؟ قال: والله يا رسول الله! ما أعددت لها كبير صلاة ولا صوم، ولكني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت).
قال سيدنا أنس: فما فرحنا بعد الإسلام بشيء فرحنا بقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: (أنت مع من أحببت).
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه وقد صححه الشيخ الألباني، يقول في ثنايا الحديث في إحدى رواياته: (رأيت ربي فيما يرى النائم في أحسن حلة، فقال: أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟! قلت: لا أدري أي رب، فوضع يده بين منكبي حتى أحسست بردها بين الثديين، فعلمت كل شيء، قلت: في الكفارات والدرجات، والكفارات: نقل الخطا إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء على المكاره، قال: صدقت يا محمد، من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ثم قال: يا محمد! إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني وتتوب علي، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يبلغني حبك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهن حق، فتعلموهن وادرسوهن).
أي: هذه الكلمات، أن تدعو الله عز وجل أن يبلغك حبه، قال: (إنهن حق، فتعلموهن وادرسوهن).
ولقد تكلمنا قبل ذلك هاهنا عن الشق الأول من المحبة، فإذا أردت أن تحب فاعقل من تحب، أو إذا أردت أن تخدم فاعقل من تخدم، ثم اخدم بعد ذلك، فحينئذ تصيب الخدمة.
تكلمنا عن الثناء على الله عز وجل، وأن الله عز وجل يحب لشيئين: أولاهما: لذاته، فهو أهل لأن يحب، حتى ولو لم يخلق جنة ولا ناراً، فإن له نعوت الجمال، وصفات الكمال.
السبب الثاني: لنعم الله عز وجل وآلائه الواصلة إلى الإنسان آناء الليل وأطراف النهار، شيئان يدعواك لحب الله عز وجل، وشأن عظيم أن تحب مولاك، وأعظم منه: أن يحبك الله عز وجل.
فما هي الأسباب الجالبة للمحبة؟ أطيب الحياة -كما قال الإمام ابن القيم - أن تكون محباً محبوباً، تتقرب إلى الله عز وجل وهو منك قريب، فتكون متقرباً إلى الله عز وجل وأنت قريب منه، إذا تقربت إلى الله عز وجل في دار الدنيا قربك إليه في دار الدنيا قبل الآخرة، مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أجمل ما فيها، إنها لذة الأنس بالله عز وجل، إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها القلب طرباً، وأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب! لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف، هذا قول أهل العلم وهم قوم تخللهم زهو بسيدهم، والعبد يزهو على مقدار مولاه.
تاهوا به عمن سواه له يا حسن رؤيتهم في حسن ما تاهوا وكما يقول الشاعر: وإذا نظرت إلى حبيبي زادني حباً له نظري إلى الأمراء

(11/2)


نعيم أهل محبة الله في الآخرة
أما في دار الآخرة فانظر إلى بصيص من نعيمهم، قال الله تبارك وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11].
فهم محمولون على بساط القرب إلى الله عز وجل، ((وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)) كما قال الله عز وجل: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31] قربت منهم الجنة، والقرب هناك على قدر القرب هنا، من أحسن في ليله كوفئ في نهاره، من أحسن في نهاره كوفئ في ليله، وإنما يكان للعبد كما كان، فهم في جنان العرسان في دار الدنيا، وفي جوار الرحمن في دار الآخرة، شأن عظيم أن تحب، وأعظم منه أن تحب.

(11/3)


الأسباب الجالبة لمحبة الله

(11/4)


قراءة القرآن بتدبر
فما هي الأسباب الجالبة للمحبة؟ السبب الأول: قراءة القرآن يتدبر وتفهم لمعانيه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي حسنه الألباني: (من سره أن يحب الله ورسوله فلينظر في المصحف).
فرحم الله أقواماً قرءوا القرآن على أنه رسائل من ربهم إليهم، فقدروا قدر المرسل، وقدروا قدر هذه الرسائل، ولو طهرت قلوبكم لما شبعتم من كلام ربكم، هذا قول ذي النورين.
فتقرب إلى الله ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه، وكما يقول ابن الصلاح فيما روى عنه الإمام السيوطي في الإتقان: وقراءة القرآن كرامة اختص الله بها البشر دون الملائكة -إلا سيدنا جبريل؛ لأنه النازل بالوحي- ولهذا تحب الملائكة سماعه من البشر.
ومن رحمة الله عز وجل: أنه سهل الفهم لمعرفة معاني كلامه، وهذا لطف من الله عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:22]، فبصيص من معاني القرآن الكريم ينسيك نفسك، كما قيل: مزامير الأنس، من حضرة القدس، بألحان التوحيد في رياض التمجيد، هذا طعم الخبر فكيف طعم النظر؟! آيات منزلة من فوق العرش، الأرض منها سماء، وهي منها كواكب، إذا رقت فأمساس الحياة الآخرة، وإذا هدرت فأمواج البحار الزاخرة كما قال أديب الإسلام الرافعي: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23].
وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
وقال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21].
وقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
فضل الله: هو الإسلام، ورحمته: أن جعل لكم من أهل القرآن، كما قال ابن عباس، أو فضل الله: هو القرآن، ورحمته: الإسلام كما قال أبو سعيد الخدري.
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51].
هذه الألسنة تحتاج إلى ملايين المرات من التوبة قبل أن تنطق بآية من آيات الله عز وجل، وهذه الألسن تحتاج إلى آلاف المرات من الطهارة والنظافة قبل أن تنطق باسم الله عز وجل، وليس العجب من قول الله عز وجل: (اذكروني) فهذا حق لله عز وجل، وإنما العجب من قوله تعالى: {أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152].
يا غفول يا جهول! لو سمعت صرير الأقلام في اللوح المحفوظ وهي تكتب اسمك عند ذكرك لمولاك لمت شوقاً إلى مولاك، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرفع بهذا الكلام أقواماً، ويضع به آخرين).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية كنت تقرؤها).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من علم آية من كتاب الله فله ثوابها ما تليت).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له به أجران).
يقول أحمد بن أبي الحواري: إني لأعجب لقراء القرآن كيف يهنيهم النوم ومعهم القرآن؟! أما والله لو علموا ما حملوا لطار عنهم النوم فرحاً بما رزقوا.
وقيل للحسن البصري: إن هنا رجلاً يحفظ كتاب الله ثم ينام عنه، قال: ذاك رجل يتوسد القرآن.
أي: ينام على القرآن ويجعله وسادة وهو كلام يقطع نياط القلوب الطاهرة.
قال محمد بن مسعدة: القرآن بستان العارفين، فأينما حلوا منه حلوا في رياض نضرة.
وقال مالك بن دينار: إن الصديقين إذا تلي عليهم كلام الله عز وجل قربت قلوبهم، واشتاقت إلى ما عند الله عز وجل، ثم يقول: اسمعوا إلى ما يقول الصادق من فوق عرشه: رحم الله أقواماً كان القرآن نعيمهم وعنوانهم، أنسهم وميدانهم، نزهتهم وبستانهم.
يقول شيخ لتلميذه: أتحفظ القرآن؟ قال: لا، فيقول: يا غوثاه! فبم تترنم؟ وبم تشدو؟ وبم تناجي مولاك؟ لو أن الإنسان قرأ القرآن على أنه رسائل نازلة من فوق السموات السبع، كما يقول كعب، يقول: القرآن أحدث الكتب نزولاً من عند ربكم.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حين ينزل المطر يشمر بثوبه ويقول: (إنه حديث عهد بربه)، فما ظنك بالقرآن؟ وعلى هذا القول يفهم قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يستمع القرآن غضاً طرياً كما أنزل فليستمعه من ابن أم عبد: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]).
قال مطرف بن عبد الله: هذه آية القرآن التي وضعها الله تبارك وتعالى لقراء القرآن.
وفي الصحيح الموقوف على أبي هريرة وابن عمر وله حكم الرفع: (يأتي القرآن يوم القيامة يقول: يا رب! إن لكل عامل عمالة فما عمالتي؟ ثم يقول: يا رب! هذه حلة الكرامة، يا رب! ألبسه تاج الكرامة، يا رب! ارض عنه، فليس بعد رضاك شيء).
وفي الحديث الذي رواه ابن ماجة وسيدنا الشيخ الألباني شفاه الله عز وجل وعافاه، وأمد الله في عمره وفي حياته، وأخرجه من المحنة التي يمر بها، يقول عنه: إن إسناده محتمل للتحسين (إن الرجل حين يخرج من قبره يتلقاه صاحب له فيقول: من أنت؟ يقول: أنا الذي أظمأت هواجرك، وأسهرت ليلك، أنا القرآن، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإني اليوم لك من وراء كل تجارة، ثم يقال: اقبض بهذه الخلد، وبهذه النعيم، ثم يكسى تاج الكرامة، ويحلى والديه حلة لا تقوم لهما الدنيا).
أطيلوا على السبع الطوال وقوفكم تدر عليكم بالعلوم سحاب وفي طي أثناء المثاني نفائس يطيب بها نشر ويفتح باب تلا فصلت لما أتاه مجادل فأبلس حتى ما يكون جواب أقر بأن القول فيه طلاوة ويعلو ولا يعلو عليه خطاب يقول بشر بن السري: مثل القرآن مثل الثمرة، فالثمرة كلما مضغتها وجدت حلاوتها.
قال مالك بن دينار معلقاً رحمه الله: صدق، فإنما أتي الناس من أنهم يريدون آخر السورة، يكون هم الواحد منهم أن ينتهي من السورة، وقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم ربما وقف عند الآية يرددها إلى الصباح مثل قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118].
وكم من علماء السلف من وقف الليل بآية يرددها إلى الصباح، كما حدث مع الربيع بن خثيم حيث كان يردد قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، وثبت ذلك عن سعيد بن جبير وعن غيره من العباد والعلماء.
فهذه أيام ذكر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل أيام الدنيا أيام العشر)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله تبارك وتعالى من أيامكم هذه، فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: (ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله عز وجل فيهن من أيامكم هذه، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء).
فيكون مطلق الذكر في هذه الأيام أفضل من كل أنواع الجهاد.
يقول ابن رجب: ويستحب للإنسان أن يختم القرآن في يوم وليلة.
وهذا قول جمهور أهل العلم كما نقله الإمام النووي والإمام ابن رجب وغيره من أهل العلم.

(11/5)


التقرب إلى الله بالنوافل
السبب الثاني: التقرب إلى الله تبارك وتعالى بالنوافل بعد الفرائض، فإنها توصلك إلى درجة المحبوبية، فتكون محبوباً لله عز وجل، كما قال الله عز وجل: (وما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها).
ولابد من أداء الفرائض أولاً قبل النوافل، فصلاة الفجر مقدمة على قيام الليل، فإذا أديت صلاة الفجر فهذا خير وبركة، والناس كلهم يصلون الفجر، ويواظبون عليها، لكن المراد أن النوافل كقراءة القرآن تجعل الرجل من وفد الله، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن لله أهلين من الناس، قالوا: من هم يا رسول الله؟! قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته).
فالتقرب إلى الله عز وجل بأداء الفجر في جماعة يجعلك من أهل وفد الله، وإن الملك ليغدو برايته كما قال سيدنا رسول الله مع أول من يدخل المسجد، يخرج مصاحباً له حتى يدخله المسجد، ثم يخرج معه حتى يوصله إلى بيته.
فبداية التقرب إلى الله عز وجل بالفرائض، ثم بعدها بالنوافل، فيكون هذا دائماً حال الواحد منا.
ثم بعد الفرائض تأتي النوافل، ودرجات القرب من الله عز وجل لا يحيط بها عقل البشر، وإنما مثل الرسول صلى الله عليه وسلم بأمثلة فقط، ولم يذكر درجات، عندما يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (من تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً) ومن تقرب منه باعاً سكت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقرب درجات لا تحيط بها عقول البشر: (ومن أتاني يمشي أتيته هرولة) و (من أتاني هرولة) سكت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: خل الهوى لأناس يعرفون به قد كابد الحب حتى لان أصعبه أو كما يقول العلامة ابن القيم: ما زلت أنزل من ودادك منزلاً تتحير الألباب عند نزوله فدرجات القرب هذه: لا يحيط بها عقل بشري.
يقول: وليس القرب في هذه المراتب كلها قرب مسافة حسية، ولا مماسة، بل هو قرب حقيقي، والرب تبارك وتعالى فوق سمواته، والعبد في الأرض، وهذا الموضع هو سر السلوك، وحقيقة العبودية، وملاك هذا الأمر هو: إخلاص التقرب إلى الله أولاً، ثم التقرب ثانياً، ثم حال القرب ثالثاً، وهو الانبعاث بالكلية إلى الحبيب.
يعني: من تقرب إلى الله عز وجل بالجوارح، (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها).
كذلك نوافل الصيام والصدقة، فمن صلى اثنتا عشرة ركعة في يوم واحد بنى الله له بيتاً في الجنة، وهي السنن الرواتب، ثم بعد ذلك صلاة الوتر والمحافظة عليها، قال الإمام أحمد: واعلم أن من استمر على ترك صلاة الوتر فهو فاسق ترد شهادته.
ثم هناك بعد ذلك تطوعات: كصلاة الضحى، يقول صلى الله عليه وسلم: (من مشى إلى المسجد في نافلة) قال أهل العلم: هي صلاة الضحى (كانت له كأجر عمرة).
ثم يواصل الصيام وليس الإثنين والخميس فقط، أو صوم يوم عرفة فقط، أو عاشوراء فقط، أو صوم يوم وإفطار يوم، بل إن النوافل التي وردت في الصوم كثيرة ومتعددة منها: صيام وإفطار يوم، وهذا صيام نبي الله داود، وهو أفضل الصوم، وكذلك صيام السبت والأحد والإثنين من شهر، والثلاثاء والأربعاء والخميس من شهر كما كانت تفعل السيدة عائشة، أو صيام أربعة أيام في الشهر، أو خمسة، أو سبعة أو تسعة أو عشرة، كل هذا ورد في السنة.
كذلك التقرب إلى الله عز وجل بالصدقات، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا أردت أن يلين قلبك، وتدرك حاجتك امسح رأس اليتيم، وأدنه منك، وأطعمه من طعامك، وأسقيه من شرابك).
كذلك تعليم العلم وتعلمه، فتعلم الناس مثلاً شرح العقيدة الواسطية، وكثير من طلبة العلم يغفل عن التدريس يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) يعني: مفروض أنكم تجلسون جلسات لحفظ القرآن وتعليمه، ولابد لكل طالب علم أن يأخذ مجموعة من التلاميذ يعلمهم كتاب الله تبارك وتعالى.
كذلك النساء لابد لهن من دور في ذلك، ولابد أن نصلح مجال المرأة في الدعوة إلى الله عز وجل، فالمرأة المصرية أم إسماعيل شرف الله بها الكون، ونزل جبريل أمين وحي السماء تتويجاً لصدقها يضرب الأرض بعقبه، فتتفجر زمزم فهي ينبوع الرحمة في صحراء الجدب، وقد قالت لإبراهيم: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً: فلن يضيعنا، فهي أعظم امرأة رسمت معاني التوكل على الله.
يا درة حفظت بالأمس غالية واليوم يرجونها للهو واللعب هل يستوي من رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب وأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطى حمالة الحطب فلو أن كل أخ عمل لزوجته برنامجاً يقول لها: احفظي آيتين عند الفجر، وآيتين عند الظهر، وآيتين عند المغرب، وآيتين عند العشاء، ثم تقوم الليل وهي ماسكة المصحف تكرر العشر الآيات إن شاء الله ستين مرة يُكتب لها حظها من قيام الليل ومن قراءة القرآن، وعشر آيات تحفظها في اليوم والليلة، ولا يمر عليها سنتان بالضبط حتى تكون حافظة للقرآن كله، وتكون صادقة مع ربها ولا ينفع إلا الصدق مع الله عز وجل.
سئل الإمام أحمد عن الصدق والإخلاص؟ قال: بهذا ارتفع القوم.
فالتصدق بتعليم الناس القرآن والعلوم الشرعية يعتبر أولى من أن يتصدق الرجل ببدنه وجاهه، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (خير الناس عند الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تقضي عنه ديناً، أو تطعمه خبزاً) أو في رواية: (أو تطرد عنه جوعاً).

(11/6)


دوام ذكر الله بالقلب واللسان
السبب الثالث: دوام ذكر الله عز وجل بالقلب واللسان، والعمل والحال، ونصيبك من المحبة على قدر نصيبك من الذكر، قال ذو النون: من شغل قلبه ولسانه بالذكر قذف في قلبه نور الاشتياق إليه.
وقال إبراهيم بن الجنيد: كان يقال: من علامات المحبة لله دوام الذكر بالقلب واللسان والجوارح.
وقال إبراهيم بن أدهم: أعلى الدرجات: أن يكون ذكر الله عندك أحلى من العسل، وأشهى من الماء العذب الصافي عند العطشان في اليوم الصائف.
وقال مالك بن دينار: ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42].
وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45].
يا من يذكرني بعهد أحبتي طاب الحديث بذكرهم ويطيب أعد الحديث علي من جنباته إن الحديث عن الحبيب حبيب وكما يقول الشاعر: خطرات ذكري تستثير مودتي وأحس منها في القلوب دبيباً لا عضو لي إلا وفيه صبابة فكأن أعضائي خلقن قلوباً يقول ابن معاذ الرازي: عفوه يستغرق الذنوب فكيف رضوانه؟! ورضوانه يسع الآمال، فكيف وده؟! ووده ينسي ما دونه فكيف حبه؟! وحبه يدهش العقول فكيف لطفه؟! يقولون يحيى جن من بعد صحة ولا يعلم العذال ما في حشائيا إذا كان دار المرء حب مليكه فمن غيره يرجو طبيباً مداويا مع الله أقضي دهره متلذذاً تراه مطيعاً كان أو كان عاصيا ألا فاهجروني وارغبوا في قطيعتي ولا تكشفوا عما يجن فؤاديا ألا فاهجروني وارغبوا في قطيعتي وخلوا عناني نحو مولى المواليا يقول يحيى بن معاذ الرازي: لو أدركت القلوب كنه المحبة لخالقها لانخلعت مفاصلها ولهاً، ولطارت الأرواح إليه من أبدانها دهشاً، سبحان من أغفل الخليقة عن كل هذه الأشياء، وألهاهم بالوصف عن حقيقة هذه الأنباء.
ويقول رحمه الله: يا من رباني في الطريق بنعمه! وأشار لي في الورود إلى كرمه، معرفتي بك دليل عليك، وحبي لك شفيع إليك.
هذا الإمام الذاكر العابد لله تبارك وتعالى يقول: إلهي إني مقيم بفنائك، مشغول بثنائك، فقير أخذتني إليك، سربلتني بمعرفتك، وأمكنتني من لطفك، ونقلتني في الأحوال، وقيدتني في الأعمال ستراً وتوبة، وزهداً وشوقاً ورضاً ورضاء وحباً، تسقيني من حياضك، وترويني في رياضك، ملازماً لأمرك، مشغوفاً بقولك، ولما طر شاربي، ولاح طائري، فكيف أنصرف اليوم عنك كبيراً، وقد اعتدت هذا منك صغيراً؟! فلي ما بقيت حولك دندنة، وبالضراعة إليك همهمة؛ لأني محب، وكل محب بحبيبه مشغوف، وعن غير حبيبه مصروف.
وفي الحديث الذي حسنه الشيخ الألباني: (أكثر من ذكر الله حتى يقال إنك مجنون).
إذا كان حب الهائمين من الورى بليلى وسعدى يسلب اللب والعقل فماذا عساه يصنع الهائم الذي سرى قلبه شوقاً إلى العالم الأعلى أحن بأطراف النهار صبابة وفي الليل يدعوني الجوى فأجيب وأيامنا تفنى وشوقي زائد كأن زمان الشوق ليس يغيب تملكتمو عقلي وطرفي ومسمعي وروحي وأحشائي وأعضاي باجمعي وتيهتموني في بديع جمالكم ولم أدر في بحر الهوى أين موضعي هذه أيام ذكر، والإنسان يردد بالذكر في هذه الأيام قائلاً: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك وسعديك والخير في يديك، لبيك والرغباء إليك والعمل، لبيك إله الحق، لبيك إنما العيش عيش الآخرة، لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواضل.
ومعنى التلبية: متقرب إليك، مخلص لك، محب لك، مقيم على طاعتك، اتجاهي وقصدي إليك.
وقد اختلف أهل العلم هل تشرع التلبية بالتسبيح والأذكار والتهليل والتدبير في هذه الأيام أم لا؟ فاستحبه الإمام أحمد على الإطلاق، وقيده الشافعي برؤية بهيمة الأنعام.
وروى الإمام البخاري أن أبا هريرة وابن عمر كان يدخلان السوق فيكبران ويكبر أهل السوق لذلك.
وكان العلماء سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهد يدخلون السوق فيكبرون لا يدخلون إلا لذلك.
فهذه أيام ذكر لله عز وجل.
كما أنها أيام صوم، فهذه الأيام التسع كان يصومها عبد الله بن عمر ويكملها صوماً، والغالب من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصل الصوم في هذه الأيام، وهذه أيام ذكر لله عز وجل، فأكثر من ذكر الله عز وجل، وسيدنا أبو هريرة كانت له في اليوم والليلة اثنتا عشرة ألف تسبيحة.
وكانت رابعة بنت إسماعيل -زوجة الإمام أحمد بن أبي الحواري تليمذ الإمام أحمد - ريحانة الشام إذا طبخت قدراً من الطبيخ تقول لزوجها: كله يا سيدي، فوالله ما نضج إلا بالتسبيح.
وعندما تجلس زوجة الواحد منا بجوار (البوتجاز) وهي مشغولة بذكر الله عز وجل يغرس لها نخل في الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة).
وما عرف التاريخ اسم زوجة الإمام البخاري، ولا اسم زوجة سفيان الثوري، ولا أنهما كانتا تجيدان المصطلح، وهذا الكلام لو أجدته لكان شرفاً عظيماً جداً، لكن الأساس أنها تعرف ما يصح به العقيدة، وجانب العبادات، ثم نريدها بعد ذلك عابدة، وبعدما تكون عابدة لو أخذت هذا العلم فهو خير عظيم، لكن أقل شيء أن يكون لها حال مع الله عز وجل في العبادة، فعندما يكثر منها الذكر، وقراءة القرآن، والصيام والقيام، والصمت، تتنزل عليها الرحمات، وتطيع زوجها، بعد هذا ممكن لها أن تطلب العلم، فيكون نزل على أرض صالحة للزراعة، ولكن أن تهتم بالعلم بدون عبادة ما ينفع، هذا ما ينفع عند الرجال فكيف عند النساء؟ نريدها عابدة، كما يقول أحمد بن أبي الحواري: والله إني ليرق قلبي بالنظر إلى وجه امرأتي أكثر مما يرق بالحديث مع إخواني؛ لما أرى عليها من كثرة الذكر والعبادة.
أما في هذا الوقت فإن الواحد منا أول ما تولد له زوجته ولداً ويبدأ يخطو تضيع عليه الركعة الأولى، وأول ما يقرأ ويكتب تضيع عليه الجماعة الأولى، وأول ما يتزوج فقد ركب السفينة، وأول ما يخلف وينجب من زوجته تقول له زوجته: ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الولد مجبنة مبخلة)؟ وهذا شيء مفروض وهو حب الولد، وحصر المساجد قد أخذت منك وقتاً كبيراً، وأنت من زمان تصلي جماعة، والجمهور يقولون بجواز الصلاة جماعة في البيوت، وأنا وأنت جماعة! واسأل الله أن يحفظ لنا ولدنا، ويمكن أن يكون مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، أو ابن باز أو الألباني! فالشيطان قد يأتي من هنا، فكيف سيكون كذلك وأبوه استنوق الجمل، وتمخض الجبل فولد فأراً، لما أبوه ناخ هو يطلع ابن تيمية!! وقد قيل: إن فساد البداية علامة على فساد النهاية.
قيل لـ وهيب بن الورد: فلان عرف طريق الله ثم عاد منه، قال: لو وصلوا إليه ما رجعوا.
وتذكر أن امرأة فيها ضعف النساء تقول: يا إبراهيم آلله أمرك بهذا؟ فيقول: نعم.
فتقول: إذاً فلن يضيعنا.
فالأمر يحتاج إلى صدق مع الله عز وجل، هذه الدعوة تحتاج منا إلى الكثير والكثير، سيدنا إبراهيم عليه السلام ضحى بابنه الذي أعطيه على الكبر، فأبقى الله له هذا الولد الطيب، وأعطاه أخاً له وابن أخيه، فمتعه الله بولد ولده في حياته، بل جعل النبوة والكتاب فيهما فقط، وأعطاه يعقوب، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده) فيسأل الله عز وجل درجة الإيثار وأعلاها لأولي العزم: للخليلين إبراهيم ورسولنا صلى الله عليه وسلم، فيقوم بدين الله كله كما كان سيدنا إبراهيم عليه السلام، فقد قدم ماله للضيفان، وولده للقربان، وجسمه للنيران، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أوقف الأنفاس والحركات والسكنات والهم لله عز وجل، فإيثار محاب الله على محابك عند غلبات الهوى، والتسنم إلى مراقيه وإن صعب المرتقى، ثم بعد ذلك مطالعة القلب للأسماء والصفات، ومشاهدتها ومعرفتها.
يقول الإمام ابن القيم: المعرفة: فعل القلب أن يعلم الإنسان ثم يطبق ما يعلم، فيبقى علمه مصحوباً بعمل، كما قال الإمام ابن القيم علم مصحوب بعمل؛ لما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلمكم بالله).
وفي رواية: (أعرفكم بالله).
قال الإمام البخاري: المعرفة: فعل القلب، أو عمل القلب، أن تعرف أسماء الله عز وجل وصفاته، وأن تعمل بها، وتتقلب في بساتين ورياض هذه المعرفة، وهذا العلم من أشرف العلوم الشرعية، فعلم الأسماء والصفات ليس مجرد ذكر للأسماء والصفات، أو أنك تقول: بدون تأويل ولا تحريف ولا تعطيل، ولا تفويض، فاسم الله الملك يعني: أن الله عز وجل له ملك الدنيا والآخرة، له ملك السماوات السبع، والأراضين السبع وما بينهما، وما تحت الثرى، وما فوق السماوات السبع، فهو المالك وهو الملك، تعلم هذا، وتعلم أن كل من نازع الله عز وجل في كبريائه أو في ردائه قصمه الله عز وجل، عندما تقف طويلاً أمام اسم مثل الملك، وأن ملك الله عز وجل غير محدود، وملك غيره محدود وفانٍ، وملكه سبحانه لا ينقص منه شيء رغم جوده وكرمه، وكيف ينقص ملك هو قيمه، أبخيل فيبخله عبده؟! أليست الدنيا والآخرة والكرم والجود والفضل بيده؟ عندما تنظر في اسم الملك تعرف منه دينونة الكائنات كلها لله عز وجل ورب عليم بذات الصدور يدين لعزته الكابر يدين له الفرخ في عشه ونسر السماء الجارح الكاسر يدين له النجم في أفقه

(11/7)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:01   رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي


الحياء
الحياء خلق عظيم من أخلاق الإسلام، وهو صفة من صفات الصالحين الصادقين، وهو مما أدركنا من كلام النبوة الأولى.
وما انتشرت الفواحش والمعاصي والذنوب إلا بسبب نزع الحياء من قلوب الخلق.
(12/1)
رقابة الله على عباده توجب الحياء منه سبحانه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وسلم، وبعد: أخي! اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، وخضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه.
فالحياء على قدر حياة القلب، وكلما كان القلب أحيا كان الحياء أتم.
وأشد آية باعثة على الحياء قول الله عز وجل: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14].
وقول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] أي: وملائكتنا أقرب إليه من حبل الوريد، وهذا بإجماع علماء التفسير.
ويقول الله عز وجل: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80].
ويقول الله عز وجل: {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت:54].
وقال الله عز وجل: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6].
وقال الله عز وجل: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب:52].
وقال الله عز وجل: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13].
وقال الله عز وجل: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].
ومن أسماء الله عز وجل الرقيب والعليم والخبير والحكيم والمحصي والشهيد، وكلها خاصة بعلم الله عز وجل.
فالعليم: الذي يعلم جميع المعلومات.
والحكيم: الذي يعلم دقائق العلم.
والشهيد: الذي يعلم ما غاب وما حضر، والمحصي: الذي لا تغيب عن علمه غائبة.
والخبير: الذي يعلم دقائق العلم، ويعلم الكليات كما يعلم الجزئيات، وكلها خاصة بصفة العلم لله تبارك وتعالى.
وعلم الله عز وجل ليس كعلم المخلوقين، فالله تبارك وتعالى يعلم ما كان وما هو كائن وما لم يكن لو كان كيف يكون.
وهو العليم أحاط علماً بالذي في الكون من سر ومن إعلان وكذاك يعلم ما يكون غداً وما قد كان والموجود في ذا الآن وكذاك أمر لم يكن لو كان كيـ ـف يكون ذا الأمر ذا إمكان فعلم المخلوقين قاصر، مبدوء بجهل ويعتريه النسيان، وأما علم الله عز وجل فهو علم كامل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من فعلهن فقد طعم بهن طعم الإيمان: من عبد الله وحده، وعلم أنه لا إله إلا هو، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة، ولكن من أواسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره)، وزاد البيهقي في روايته التي صححها الشيخ الألباني قال: (وزكى نفسه، فقال رجل: وما زكى نفسه يا رسول الله؟! قال: أن يعلم أن الله عز وجل معه حيث كان).
وقال سيدنا عبد الله بن عمر: لا يجد عبد صريح الإيمان حتى يعلم أن الله عز وجل معه، ويعلم أن الله تعالى يراه، فلا يعمل سراً يفتضح به يوم القيامة.
والحياء رؤية آلاء الله تبارك وتعالى عليك، ورؤية التقصير منك في حق الله عز وجل، فيتولد منهما وبينهما خُلق يبعث على ترك القبيح.
فرؤية الآلاء والتقصير يتولد منهما خُلق يسمى الحياء، يبعث على ترك القبيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
وفي الرواية الأخرى: (آخر ما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
وهذه الجملة: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) تندرج تحتها ملايين الأمثلة.
كريمان حمزة كانت مذيعة تلفزيونية، وكانت تقدم البرامج الدينية، ولخصت تجربتها مع التلفاز في كتاب سمته: لله يا زمن.
و (لله يا زمن) هو مثل، فقد كان رجل موسيقار يقف أمام كل بيت يعزف، فتخرج المرأة وتعطيه شيئاً، وفي يوم من الأيام وقف أمام جامع، وهو يظنه قصراً كبيراً لرجل غني، فقال: سأمكث هنا أعزف حتى الصباح، فمكث يعزف طول النهار فلم يعط شيئاً، فقال له شخص: ما هذا؟ قال: أليس هذا قصر كبير من الكبراء؟ قال له: يا عم! إن هذا مسجد! فقال: لله يا زمن، يعني: تعبه ذهب على قلة الصيد مثلما يقولون.
فهي تقول: إنها كانت تعد برنامجاً عن العشرة المبشرين بالجنة، فقال لها رئيس التلفاز السابق الذي ذهب إلى الحضيض: هذا البرنامج لن يمر إلا على جثتي إن مر.
ثم سألها: لماذا تعملين العشرة المبشرين بالجنة كلهم من الصحابة، اعملي خمسة من هنا وخمسة من العشرة، وقد كان هذا أيام عاطف صدقي رحمه الله رئيس الوزراء السابق، فسألنا: لماذا لا يكون وزير الإعلام منهم؟ بل إن هناك مصدراً صحفياً أبلغ الوزير أن العشرة هؤلاء كلهم كانوا من الإرهابيين المتطرفين؛ من أجل ألا تصل هذه المعلومات إلى الناس، وقد سجلت هذا بخطها في كتابها: لله يا زمن.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، وهذا مثلما يقول بعض الناس: إن اليهود أبناء عمومته، في حين أن هؤلاء اليهود جاءوا من الاتحاد السوفيتي، ومن الحبشة، وهم ليسوا من بني إسرائيل، وقد كانوا يقولون: إن لنا حقاً تاريخياً في القدس، فإذا سئلوا: لماذا؟ قالوا: نحن بنو إسرائيل -أي يعقوب- وبنو يعقوب قد انقرضوا، أما هؤلاء اليهود فنصفهم أو ثلاثة أرباعهم جاءوا من الاتحاد السوفيتي، ومنهم من أتى من أواسط أفريقيا وأوربا، وليس هناك أي صلة تجمع بينهم وبين نبي الله يعقوب، فهؤلاء ليسوا بني إسرائيل من الناحية التاريخية.
وأما من الناحية الدينية: فيعقوب بريء منهم، فقد قالوا عنه ما قالوا، قالوا: إن يعقوب سرق مواشي حميه وهرب بها ليلاً.
وقالوا: إن رهابيل بن يعقوب الأكبر زنى بامرأة أبيه، وإن يعقوب علم بذلك وسكت.
وقالوا: إن يهوذا بن يعقوب زنى بامرأة ابنه بعد موته، يعني: جعلوا من بيت يعقوب نبي الله بيت دعارة وزنا بالمحارم! ونحن أولى بيعقوب منهم، قال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67].
فسيدنا يعقوب وذريته من بعده مسلمون خلص، وهم أبعد الناس عن يهود هذا الزمان.
وأجمع علماء المسلمين على أن اليهود والنصارى الآن كافرون مشركون، وهذا هو القول الفصل، وفي سورة النساء في الآية مائة وواحد وخمسين حكم فاصل في هذه المسألة ونص واضح صريح جلي.
(12/2)
فضل الحياء
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل دين خلقاً وإن خلق الإسلام الحياء).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الحياء خير كله).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الحياء والإيمان قرنا جميعاً، إذا رفع أحدهما رفع الآخر).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون شعبه، والحياء شعبة من شعب الإيمان).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الحياء والعي) والعي: سكوت الإنسان كثيراً وعدم نطقه كثيراً؛ خشية الوقوع في الخطأ والمعصية.
(الحياء والعي شعبتان من شعب الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من شعب النفاق).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه، وما كان الحياء في شيء قط إلا زانه).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي ستير يستحي أن يرفع العبد إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي ستير يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر).
فالحياء صفة من صفات الله تبارك وتعالى، وحياء الله تبارك وتعالى لا تكيفه الأفهام ولا تحيط به العقول، فالله حيي ستير، يستحيي أن يعذب عبده المؤمن بعدما شاب في الإسلام، ويستحي من عبده الذي يرفع إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين، ويستر على العاصي والجاني ولا يفضحه.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: من وافق الله في صفة من صفاته قادته تلك الصفة إلى الله عز وجل بزمامه، وأدخلته على ربه، وأدنته وقربته من رحمته، وصيرته محبوباً له، فإن الله حيي يحب أهل الحياء، جميل يحب الجمال، رحيم يحب الرحماء، كريم جواد يحب الجود، قوي يحب المؤمن القوي.
(12/3)
أقسام الحياء
والحياء يا إخوتاه! على عشرة أقسام: حياء الجناية، وحياء التقصير، وحياء الإجلال، وحياء الكرم، وحياء الحشمة، وحياء استصغار النفس، وحياء النفوس الكبيرة، وحياء المحبة، وحياء العبودية، وحياء المستحيي من نفسه، وسنشرح هذه الأقسام العشرة قبل أن نتكلم عن الحياء.
(12/4)
حياء الجناية
أما حياء الجناية فهو ناشئ عن المعصية، فإذا عصى العبد ربه وعلم أن الله ناظر إليه ومطلع عليه استحيا من ربه، مثل حياء آدم عليه السلام لما أكل من الشجرة وفر في الجنة، فقال له الله عز وجل: يا آدم! أفراراً مني؟ قال: لا، بل حياء منك يا رب! ومن هذا القسم حياء الأنبياء في عرصات القيامة، كما جاء في الحديث الصحيح عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، قال: فيأتون آدم فيقولون: أنت آدم أبو الخلق، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا عند ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم، فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي منها).
وهنا لنا وقفة: فقد أخطأ الشيخ طارق حينما نفى النبوة عن آدم، وتكلم في ذلك علماء السعودية الأجلاء الكبار أهل العلم؛ وفي الصحيح أنه سئل صلى الله عليه وسلم: (أنبياً كان آدم يا رسول الله؟! قال: نبياً مكلماً)، يعني: اختصه الله بالتكليم كما اختص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما اختص موسى عليه السلام بالتكليم.
قال صلى الله عليه وسلم: (فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي منها)، وفي هذا الحديث أن كل نبي يذكر خطيئته، فقال عن سيدنا نوح عليه السلام: (فيذكره خطيئته التي أصاب فيستحيي منها، فيقول: لست هناكم اذهبوا إلى إبراهيم، ويذكر خطيئته التي أصاب).
(12/5)
مذهب أهل السنة في وقوع المعاصي من الأنبياء
ومن قواعد أهل السنة والجماعة في العقيدة: جواز الصغيرة على الأنبياء بعد النبوة، ولكنهم إذا فعلوها أقلعوا عنها في الحال، وكان حالهم بعد التوبة أكمل من حالهم قبل التوبة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا مذهب السلف لا يعرف لهم مذهب سواه.
فلا تجوز الكبيرة أو الكفر على الأنبياء بعد النبوة، ولكنهم تجوز عليهم الصغيرة، والفرق بينهم وبين البشر: أنهم إذا فعلوا الصغيرة تابوا منها في الحال وأقلعوا عنها، وكان حالهم بعد التوبة أكمل من حالهم قبل التوبة؛ لقول الله عز وجل: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، والغواية لا تكون إلا عن معصية.
الفضيل بن عياض وهو من سادات أهل السنة والجماعة وكان سيدنا سفيان بن عيينة إذا لقيه يقبل رأسه ويده، وكان صاحب الكلمة الطيبة في هضم النفس، ولما أخذ بيد سفيان بن عيينة إلى خارج الحرم قال له: إن كنت تظن أنه قد بقى على وجه الأرض من هو شر مني ومنك فبئس ما تظن، يعني: أنا وأنت شر اثنين في المسلمين.
هكذا كانت أخلاق السادة، وكان يقول: لو خيرت بين أن أبعث فأدخل الجنة وبين ألا أبعث لاخترت ألا أبعث، فقيل لـ محمد بن أبي حاتم: مم هذا؟ قال: من الحياء، يعني: حياء من الله عز وجل، وحياء من مقابلته عز وجل.
وشهد الفضيل بن عياض عرفات وإذا بدموعه تتساقط على وجنتيه، وكان يقول طيلة اليوم: واسوءتاه منك وإن عفوت! يا خشية العبد من إحسان سيده يا حسرة القلب من ألطاف معناه فكم أسأت وبالإحسان قابلني واخجلتي واحيائي حين ألقاه يا نفس كم بخفي اللطف عاملني وكم رآني على ما ليس يرضاه يا نفس كم زلة زلت بها قدمي وما أقال عثاري ثم إلا هو والأسود بن يزيد عندما احتضر بكى وجزع، فقيل له: لم الجزع؟ قال: ومن أحق بالجزع مني، والله لو أتيت بالمغفرة من ربي لأهمني الحياء منه، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعلم أنه قد عفا عنه فيستحيي منه عند لقائه.
وقال الحسن البصري: لو لم يكن البكاء إلا من هذا لكان حرياً أن يطول بنا البكاء.
والإمام أحمد دخل عليه أبو حامد القلقاني فقال له: ما تقول في الشعر؟ قال: مثل ماذا؟ قال: مثل قول القائل: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفى الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني فيقصيني فجر الإمام أحمد ثوبه وأخذ نعله، ثم أغلق عليه باب الدار وسمع نحيبه من خلف الباب، وهو يقول: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني يا من تمتع بالدنيا وزينتها ولا تنام على اللذات عيناه أفنيت عمرك فيما لست تدركه تقول لله ماذا حين تلقاه؟
(12/6)
حياء التقصير
والنوع الثاني من الحياء: حياء التقصير، كحياء الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك.
وكذلك حياء الصالحين من الله عز وجل ورؤيتهم لتقصيرهم في حقه، وأن جنابه عزيز كريم.
وما قدروا الله حق قدره.
من هذا الباب نظروا في أحوالهم بعين الدعاوى، وفي أعمالهم بعين التقصير، وكان إمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي عمره ويجعل أنفاسه وقفاً على الدعوة إلى الله عز وجل، حتى إذا قرب الموت منه قال له الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3].
وهذا إعلام من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بقرب وفاته وأمر له بالاستغفار.
ونوح عليه السلام بعد أن قضى في الدعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28].
وكان دعاء نبينا صلى الله عليه وسلم بعد التحلل من الصلاة: (غفرانك، غفرانك)، يعني: كأن هذه العبادة قاصرة عن مقام الله العظيم.
وكان إذا توضأ قال: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين).
وقال تعالى لمن انصرف من الحج: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199].
وقد كانوا يمدون صلاتهم طيلة الليل، فإذا كان السحر وقرب الفجر أنزلوا أنفسهم منزلة العصاة وكأنهم أسرفوا طيلة ليلهم في الجرائم، يقول الله تبارك وتعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17]، بل إنهم يستغفرون بعد الموت في عرصات القيامة حين مرورهم على الصراط، حين يكون دعاء النبيين والمرسلين والمؤمنين: الله سلم سلم، فهم يقولون: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا} [التحريم:8].
والمؤمن أسير الحق لا يزول عنه خوفه، ولا يسكن اضطرابه حتى يخلف جسر جهنم وراءه، ومن ربك الفضل والكرم.
(12/7)
حياء الإجلال
حياء الإجلال، وهذا يكون على قدر العلم والمعرفة، كحياء سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال رضي الله عنه: والله إن كنت لأشد الناس حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ملأت عيني من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا راجعته بما أريد حتى لحق بالله عز وجل؛ حياء منه.
ويقول أيضاً في رواية: إنه لم يكن شخص أبغض إلي من النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أسلمت لم يكن شخص أحب إلي منه ولا أجل في عيني منه، ولو سئلت أن أصفه لكم ما استطعت؛ لأني لم أكن أملأ عيني؛ إجلالاً له.
وهذا كما قال الشاعر: أشتاقه فإذا بدا أطرقت من إجلاله لا خيفة بل هيبة وصيانة لجماله الموت في إدباره والسعد في إقباله وأصد عنه إذا بدا وأروم طيف خياله فلم يكن يرفع نظره إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ إجلالاً لمقام النبوة، وحياء من النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذا فعل سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شجرة تشبه المسلم، فوقع الصحابة في شجر البادية، وقال سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت لمقام كبار الصحابة، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
فهذا حياء الإجلال.
ومنه حياء سيدنا عبد الرحمن بن مهدي -أمير المؤمنين في الحديث- من شيخه سفيان الثوري، فقد كان عبد الرحمن بن مهدي يحضر درسه تسعون ألفاً ومعهم المحابر، وكان إذا لقي شيخه سفيان الثوري لا يستطيع أن يرفع نظره إليه؛ هيبة وإجلالاً له.
فهذا الذي كان يحضر له تسعون ألفاً ما كان يستطيع أن يرفع نظره في وجه شيخه سفيان الثوري، مع أن سيدنا سفيان الثوري قال عنه يحيى بن أبي غنية: كان أصفق الناس وجهاً في ذات الله عز وجل، يعني: كما يقولون: وجهه منزوع منه الحياء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يعرف فيه حتى أباه.
ودخل مرة على الخليفة المهدي وهو من هو، فأغلظ له القول، وأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، فقال له وزير الخليفة أبو عبيد الله: لقد شققت على أمير المؤمنين بمثل هذا؟ فقال: اسكت، فما أهلك فرعون إلا هامان، وبعد أن انصرف سفيان الثوري قال الوزير أبو عبيد الله: يا أمير المؤمنين! ائذن لي أن أضرب عنقه، قال: اسكت، وهل بقي في الأرض من يستحيا منه غير هذا؟ يقول: كلما جاءنا رجل أو عالم يعظنا ويزهدنا في دنيانا إذا ما قدمنا له شيئاً من دنيانا قبله، إلا سفيان فإنه ما أخذ من دنيانا شيئاً، فهو أجرأ الناس علينا من أجل هذا.
(12/8)
حياء الكرم
وحياء الكرم، كحياء النبي صلى الله عليه وسلم لما صنع وليمة في عرس زينب وأتى الناس إليه وأطالوا عنده الجلوس، فاستحيا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالانصراف حتى عاتبهم الله عز وجل بقوله: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} [الأحزاب:53].
وتجد بعض الإخوة مثلاً يعلمون حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا سمر بعد العشاء إلا في حضرة ضيف أو عرس).
ومع ذلك يحضر إخوانه على الشاي والكركديه والحلوى، وإن كان عنده عشاء عشاهم، ونريد أن يترك وقتاً هكذا للتهجد وللخلوة بالله تبارك وتعالى.
وأنت لا تستغل كرم أخيك وتضيع له عمره، كما أتى جماعة إلى عابد من العباد وطولوا عنده الجلوس فقال لهم: إن ملك الشمس يسوقها، فمتى تريدون القيام.
وأتى عابد إلى أخ له فوجد عنده قوماً قد أطالوا الجلوس، فقال له: صرت مناخ البطالين لا أجالسك أبداً! فهذا الوقت جواهر تملأ بها خزائنك يوم القيامة، والتسبيحة الواحدة تغرس لك بها نخلة في الجنة، ولو أن أحداً منعك من نخلة ذهب أو جلس معك خمس دقائق وضيع عليك مثلاً عشرة مليون جنيه، فإنك ستأخذه من يده ورجله وتقول له: اخرج، تضيع علي عشرة مليون جنيه في ربع ساعة؟! فما ظنك بنخل الجنة وهي بتسبيحة واحدة؟ والتسبيحة الواحدة بنفس، فمن قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة.
فداوم على هذا كل يوم، ولا تنفض عنها، فالدنيا كلها عمل.
والعلم موقوف على العمل، والعمل موقوف على الإخلاص لله، والإخلاص لله يورث الفهم عن الله تبارك وتعالى.
فلا تقل إن هذا الأخ أراد أن يتعشى أو يشرب شاياً، وإنما قل له: أنا أعطيتك ما تريد، ثم اذهب فأنا مشغول.
(12/9)
حياء الحشمة
حياء الحشمة، وهذا ارتفع تماماً من دنيا الناس إلا من رحم الله؛ بسبب التلفاز، ومن حياء الحشمة حياء سيدنا علي بن أبي طالب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (كنت رجلاً مذاء فأمرت المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني، فسأله فقال: فيه الوضوء).
يعني: الشيء المتعلق بأمر النساء والجماع لا تسأل نسيبك عنه، فلا يجلس الرجل يتكلم مع نسبه ويحكي النكت أو يتحدث في الكلام المتعلق بالفراش، فما ظنك بالذي يحضر ابنته بجانبه وهو يشاهد فيلم السهرة! ثم بعد ذلك يظهر منظر خادش للحياء فيقول لها: انهضي حتى لا تشاهدي هذا المنظر، أنت قليلة أدب، وإنما هو قليل الأدب؛ فهي ستقوم وتترك المكان ولكنها ستراه لا زال جالساً، أفلا يستحي هو؟ وقديماً قبل أن تعرف النساء الحجاب أو النقاب كانت الواحدة لا تستطيع أن تمشي في الشارع إلا وهي واضعة للطرحة على رأسها؛ من أجل أن عمها في أول الشارع ومعه بعض الرجال، وفي هذا الوقت من تمام الإيتكيت أن العريس يأخذ عروسه إلى المسرح ويرقص معها، فارتفع حياء الحشمة نهائياً من دنيا الناس إلا من رحم الله تبارك وتعالى.
(12/10)
حياء استحقار النفس
حياء الاستحقار واستصغار النفس، وهو أن الإنسان إذا كانت له نفس علية يستحي أن يصدر منه الشيء الصغير، مثل الرجل الذي قدم له غني من أبناء الدنيا مالاً فقال: إني والله أستحي من ربي أن أسأله الدنيا وهو خالقها ومالكها، فكيف أسألها من غير مالكها؟! ويأتي إليك شاب طويل وعريض وهو مكروب مهموم، فتسأله: ما لك يا أخي! هل أنت تعد خطة حربية مثلاً للاستيلاء على مدينة وضاعت منك في آخر لحظة؟ فيقول لك: لا، وإنما في هذا اليوم يمكن أن إبراهيم حسن لن يلعب مع الزمالك.
وهناك إخوة كثيرون يستيقظون الصبح وليس همهم غير المباريات، وسيدنا أبو موسى الأشعري قال لما رأى الناس قد بدت عوراتهم: لأن أموت ثم أنشر ثم أموت ثم أنشر ثم أموت ثم أنشر خير لي من أن أرى عورة رجل أو يرى رجل عورتي.
وقد اختلف العلماء في حد العورة: هل هي من السرة إلى الركبة أو العورة المغلظة فقط؟ والذي لا يهتم إلا بالمباريات هو الرجل الصفر، وكما يقول الشيخ إبراهيم الدويش: الرجل الصفر ليس له مكانة، سواء وضعته على اليمين أو على الشمال، فهو الصفر موضوع على الشمال، وهو ليس مثل أم الشيخ محمد رشيد رضا، فقد كانت إذا لقيت ابنها مهموماً تقول له: ما بك يا محمد! هل مات اليوم أحد من المسلمين في الصين أو فلسطين؟! ومن حقارة النفس أن يشغل الإنسان نفسه بتوافه الأمور، والدنيا تصب جام غضبها على المسلمين في كل مكان: بيروت في اليم ماتت قدسنا ذبحت ونحن في العار نسقي وحلنا طينا أي الحكايا ستروى عارنا جلل نحن الهوان وذل القدس يكفينا القدس في القيد تبكي من فوارسها دمع المنابر يشكو للمصلينا وعظائم الأمور عندما تحل بالأمم تجعلها تفيق من غفلتها ومن نومها الثقيل، والإنسان عندما يجد بيته قد انهدم واحترق وأولاده في الشارع يصحو، فما باله إذا رأى أن أخوته يقتلون ويذبحون كل يوم لا يحرك ساكناً؟ وإن الرجل يقول: لو فتح باب الجهاد فكلنا سنخرج، وربما خانتك نفسك بسبب المعاصي، ولا تقدر أن تخرج بسبب الذنوب، فاتق الله عز وجل.
(12/11)
حياء المحبة
وحياء المحبة بالنسبة لمحبة المبشر مثل شخص عاقد ينظر إلى زوجته أول مرة، ويجلس معها بعد العقد، فهي زوجته ورغم هذا تلقى وجهه أحمر ورجليه تضرب في بعضها وينسى الكلام، فتسأله: ما اسمك؟ فيخرج البطاقة وينظر، وهي زوجته! فهذا يسمى حياء المحبة.
يقول الشاعر: فما هي إلا أن أراها فجاءة فأبهت حتى ما أكاد أجيب وإني لتعروني لذكراك هزة لها بين جلدي والعظام دبيب أعاذنا الله عز وجل وإياكم من المحبة المحرمة.
والمحبة في الله عز وجل لون آخر يليق بقدر الله عز وجل، فمن علم أن الله قريب منه يستحيي منه أن يراه ساكناً إلى خلقه، فيبغض إليه كثرة المخالطة للخلق ويحبب إليه الخلوة بالله تبارك وتعالى وألذ الأوقات عنده أوقات المناجاة وساعات التنزل الإلهي، وقد خلا كل حبيب بحبيبه، وغلقت الملوك أبوابها، وباب ملك الملوك مفتوح لمن دعاه، فمن ذا الذي أملك لنائبة فقطعت به دونها؟ أم من ذا الذي رجاك لعظيم جرمه فلم تغفر له؟ يا مؤنس الأبرار في خلواتهم يا خير من حطت به النزال قيل لعابد: ما أطيب شيء؟ قال: سرداب أخلو به فيه، وكان ابن تيمية رجلاً ربانياً من هذا الطراز، فكان إذا صلى الفجر خرج إلى الصحراء، ويقول: وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك القلب بالسر خاليا وأحلى أوقات المناجاة جوف الليل الآخر، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مؤمن يسأل الله عز وجل شيئاً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك في كل ليلة) فبعد ما ينام الخليون يقوم العابدون إلى محاريبهم تتقاطر دموعهم على خدودهم، ويشرف الجليل من السماء ويقول كما في الأثر عن الفضيل بن عياض: يا جبريل! بعيني من تلذذ بكلامي، واستراح لذكري، لم لا تنادي فيهم يا جبريل! ما هذا البكاء؟ هل رأيتم حبيباً يعذب أحبابه، أم كيف يجمل بي أن آخذ قوماً إذا جنّهم الليل خلوا بمناجاتي؟ والله لأكشفن لهم عن وجهي وأنظر إليهم يوم القيامة.
فإذا علمت بقرب الله عز وجل منك فيدفعك هذا القرب إلى الاستيحاش من البعيد عنك، ويبغض إليك كثرة المخالطة للخلق، ويحبب إليك الخلوة والمناجاة بمولاك تبارك وتعالى.
(12/12)
حياء العبودية
وحياء العبودية هو حياء يجمع ما بين المحبة والخوف ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده، فيرى أن عبوديته ناقصة قاصرة عرجاء، كالذي كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه ولا يأتي فراشه إلا زحفاً، ثم يقول لنفسه: قومي يا مأوى كل سوء! وهل رضيتك لله طرفة عين؟! زين القراء محمد بن واسع لما قال: واشوقاه إلى إخواني، قيل له: أليس قد نشأ شباب يعلمون السنة؟ فتفل ثم قال: أفسدهم العجب، ضيعهم الكبر الذي عندهم.
ومثقال ذرة من كبر تحول بينك وبين دخول الجنة.
(12/13)









رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
tags


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 22:04

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc