الآفاق الدلالية الواسعة للقرآن
ليس القرآن كتاب تاريخ ولا كتاب قوانين، ولكنّه كتاب "حياة"، يعرض حقائق الغيب وشرائع الدين وقصص الأنبياء والأمم وأحداث السيرة بعبارة مؤثّرة تخاطب النفس الإنسانية في كل عصر. قال سبحانه: "وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَظ°ذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ". وهي ميزة لا تتوفّر في أي كتاب وضعي، فهو يخاطب النفس الإنسانية في جميع حالاتها، ومن ثم فإذا تدبّر الإنسانُ كتاب الله انكشفتْ له وجوهٌ متجدّدة من الدلالات والعبر والفوائد على المستوى الفردي والجماعي.
إنّ هذا الأفق الدلالي الشامل في النصّ القرآني هو أحد عوامل دفع أي ملل يمكن أن يتطرّق إلى نفس مَن يتلوه بتدبّر؛ فالتدبّر يشتمل على التفكّر في مواعظ القرآن للاعتبار بها (تفسير بحر العلوم، السمرقندي)، والنفس الإنسانية تتقلّب بين حالات الحزن والفرح والضجر والفراغ والقلق واليأس والتفاؤل والتشاؤم، وتتأثّر حالتها المزاجية بأحداث حياتها اليومية وما يجدّ لها من أمور. ومن هنا سيجد القارئ في القرآن "مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ"؛ فالعَزَبُ الفقير الذي يقرأ قوله تعالى "رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ" يعتملُ في قلبه من معاني الرجاء ما لا يعتمل في قلب غيره. والشارد الآبق المتردّد في التوبة، يشعر حين يقرأ قوله تعالى "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ" بما لا يشعر به الآخرون، فتتفتّح نفسُه للأوْبِ بعد طول الشرود. بل حتى الموغل في العبادة والعمل، المهمل لصحّته ونفسه، قد يجدُ لفتة لطيفة وتذكرة كان يحتاجها حين يقرأ قوله تعالى "وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا". وغيرها من الدلالات التي يتفتّق عنها النصّ القرآنيّ، ممّا يجعل تلاوته الدورية أمرًا محبّبا على نفس المؤمن، ولا يتطرّق إليه الملل.
الأنسُ بكلام خالق الإنسان
لا يمكن أن نُغفل أثر قُدسية القرآن وكونه كلام الله في دفع أي مللٍ عن قارئ القرآن. وإنّ اللحظة التي يتدبّر فيها المؤمن كلام الله هي لحظة استنارة قلبه بنور القرآن. يقول الحكيم الترمذي في كتابه "الأمثال من الكتاب والسنّة" عن معنى الإنسان: "ثمَّ سمّاهُ إنسانا، وسمّى أولادهُ النَّاس، فقال: "لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ"؛ لأنّه لمّا خلق من الطين أنسَ به وبقربه فبقيتْ تلك الأنسية فِينَا، فليسَ أحدٌ من أولاده برٌّ ولا فاجرٌ إلا يأنسُ بربّه في المنافع والمضارّ، وإليه يلجأ وإليه يفزع وبذكْره يأنس في جميع أحواله وأموره. إلا أنّه إِذا وَجد بُغيته وأدركَ نهمته من حاله اشتغل بالحاجة والبغية ولَها عنه، إلا عصابة من الموحّدين". انتهى.
وكيف يملّ إنسانٌ مؤمن من كلام ربّه عزّ وجلّ حين يقرؤه متدبّرا ومستحضرا أنّه كلام الله الخالق، وأنّه خطابه سبحانه إليه، وأنّه يجري بلسانه وتصدح به أوتاره؟ كيف لا يكون ممتنّا مأخوذًا بالهيبة والخشوع مِن هذا التفضّل مِن الله المنعم الكريم؟ وهل تبقى مساحة من الملل إلا في النفوس اللاهية الغافلة التي لم تحفظ للقرآن مكانته الحقيقية، فغفلتْ عن معانيه وعن خطاب الله الكامن فيه؟!
يقول تعالى: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا". ويقول سبحانه: "قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ". فلا بدّ من تدبّر القرآن ليدخل نوره إلى القلوب، وليأنس العبد ويشعر بالقرب من ربّه وخالقه. وحينئذ فقط تصبح تلاوة القرآن رغبةً مُلحّةً من قلبٍ يخشى أن يفقد النور والأنسَ بكلام ربّ العالمين.. يخشى أن يصبح قلبُه كالبيت الخرب لا بركة فيه ولا سرور، فيرتّلُ القرآن راجيًا من الله أن يجعله ربيع قلبه، ونور صدره، وجلاء حزنه، وذهاب همّه. وكيف يملّ عبدٌ هذا حاله من تلاوة القرآن؟ وما حالنا نحن المساكين الزائغون عن تحصيل بركة القرآن؟!