"حرب الاستنزاف" الطلقة الأخيرة في الجعبة الأمريكية
يبدو أن أكثر ما يميز المرحلة الحالية من الصراع على سورية القناعة الأمريكية بأن الحرب التي قادتها من خلال العديد من التنظيمات الإرهابية التي تعد جزءاً أساسياً من منظومتها العسكرية لن تحقق أهدافها، وأن المناورات السياسية لم تعد ذات جدوى، حتى لم يبقَ في جعبة واشنطن إلا «حرب الاستنزاف»، وعلى الرغم من إدراك الإدارة الأمريكية ويقينها بعدم قدرة كل تلك الجحافل الإرهابية على أن تقهر إرادة الجيش السوري، وفق ما أعلنه مدير استخباراتها «أن لدى سورية جيشاً حقيقياً وقوياً ومسلحاً بقوة نارية كبيرة منذ وقت طويل ولا يمكن للمعارضة أن تحسم معركتها عسكرياً»، إلا أنها بدأت تخوض بهم حرب استنزاف طويلة الأمد كخيار بديل عن عجزها في تحقيق الحسم العسكري المباشر أو عبر أذرعها، في محاولة لتحقيق أهداف حربها على سورية البعيدة منها والقريبة، وربما تندرج ضمن محاولة تعطيل أو عرقلة الانتخابات الرئاسية السورية التي تحمل من مدلولات الثبات والقوة والصمود والثقة بالذات الشيء الكثير، ما دفع الأخضر الإبراهيمي إلى أن يطلق التحذيرات من خطورة إتمام العملية الانتخابية للرئاسة السورية!!.
من هنا يتضح أن الخيار الأمريكي في التصعيد تحت عنوان ظاهره توفير شروط الحل السلمي المزعوم بإعادة تغيير «التوازن العسكري» على الأرض، وباطنه –كما أشرنا– عملية استنزاف ممنهج لمقدرات سورية العسكرية والمدنية، وإلى ذلك الوقت الذي لن يأتي تبدو واشنطن غير معنية بالحل السلمي، وبناءً على ذلك جاء تعطيلها لبيان في مجلس الأمن يدعو إلى استئناف مفاوضات جنيف، كما أعلن فيتالي تشوركين مندوب روسيا في مجلس الأمن.
يدرك المتابع البسيط أن خيار قلب الموازين العسكرية على الأرض يشكل تحدياً كبيراً لأمريكا، إذ إن المجموعات الإرهابية التي تقاتل الدولة السورية، تخوض مواجهات عنيفة فيما بينها، وتفتقر إلى وحدة الهدف والقيادة وإلى دعم دولي موحد، وإن عملية توحيدها أمر صعب المنال لاختلاف استراتيجياتها وأهدافها السياسية التي تترجم أهداف واستراتيجيات الدول المشغلة لها.
إذاً وسط هذا المشهد المعقد، ولاسيما انقسام ما يسمى «المعارضة» والاقتتال بين المجموعات الإرهابية، لا يمكن لواشنطن أن تحقق ذلك التوازن المنشود، وما جرى تسريبه عن تزويد واشنطن لإرهابيي «القاعدة» بصواريخ «تاو» وغيرها، والتي أتت مباشرة بعد زيارة أوباما إلى الرياض لا يمكن أن يندرج إلا في إطار الحرب النفسية التي تستهدف الداخل السوري، ومحاولة لتقوية الموقف السعودي الذي يعاني اختلالاً في البنية السياسية بسبب المعارك المتعددة الاتجاهات التي تهدد استقرار الداخل السعودي الهش والمتصدع أصلاً بفعل الأزمة الضارية في الصراع على الحكم.
وبناءً على ما سبق، ندرك الأسباب التي دعت واشنطن إلى إعلانها على الملأ ومطالبتها تل أبيب باستهداف المواقع السورية وتأمين الحماية لمواقع الإرهابيين، وفي الوقت نفسه إعلان رئيس هيئة الأركان الصهيوني أن «على الثوار السوريين أن يعرفوا أننا خلفهم ونساندهم مثلما وقفنا معهم وساندناهم في البداية»، مشهد يؤكد بما لا يقبل الشك، أن الوهن والعجز قد أصابا من يقود تنفيذ أجندة العدوان، وأن «إسرائيل» قد أصبحت حجر الرحى والخيار الأخير في قيادة المعركة عبر ما يسمى «الجبهة الجنوبية». لكن ثمة مفاجآت ستجعل من دول العدوان، كما في كل مرة، تغرق أكثر فأكثر في تداعيات وارتدادات إمعانها في تأجيج الصراع وتغذيته بالمزيد المزيد من مرتزقة الأرض، هي أن الدولة السورية لم تتصدع، والجيش العربي السوري بات أقوى مما كان، لا بل اكتسب في هذه الحرب خبرات قتالية في نماذج مختلفة من المواجهات لم يكن يمتلكها كجيش تقليدي، وأن من استطاع أن يحيط بمخططات العدو بإمكانه أن يبتكر أساليب جديدة لمواجهتها، وأن الشعب السوري مصمّم أكثر بكثير من ذي قبل على المواجهة، وقد أدرك أن كل قيمه الدينية والمجتمعية وكل مصيره في مختبر الصهيونية بما يخدم أهدافها، وأن العبث باستقرار سورية جعل المنطقة كلها مقبلة على تطورات خطرة جداً، تدرك واشنطن جيداً أنها غير قادرة على حماية حلفائها من تركيا إلى السعودية إلى دول الجوار السوري كلها.
في ظل تلك الوقائع تبدو الدولة السورية، وعلى نحو أحبط أعداءها، تسير بثقة وفق خريطة طريق منسوجة بإحكام، قوامها فهم تام لخطط العدو وأهدافه المرحلية والإستراتيجية، وتعي جيداً نية هذا العدو تحويل الصراع إلى حرب استنزاف، وأن ليس كل ما تريده أمريكا يمكن لها أن تحققه، لأننا أصبحنا في عالم متعدد الأقطاب، وسورية دولة محورية في قطب أثبت حتى الآن امتلاكه السبل الكفيلة بإيلام الخصم وتهديد وجوده واستقراره.
خريطة طريق تبدأ من السيطرة الميدانية، مروراً باجتثاث الإرهاب أينما وجد، وصولاً إلى إنجاز كل ما يسهم في تدعيم بنيان الدولة السورية من مصالحات بين أبنائها وتلبية رغبتهم في ترسيخ الأمن والاستقرار والمضي قدماً في إنجاز الاستحقاقات الدستورية القادمة وأهمها الانتخابات الرئاسية، إلى إعلان الرئيس بشار الأسد بأن نهاية العمليات النشطة تنتهي بنهاية العام الحالي.
إن هذه المؤشرات تدل وتؤكد أن القيادة السورية التي أدارت المعركة بمقدرة ومسؤولية عالية ومن خلفها الشعب السوري، قد امتلكت مفاتيح حل الأزمة والذي أعلنته غير مرة أنه لن يكون إلا حلاً سورياً- سورياً ومن قلب العاصمة دمشق، منطلقة من أنها تخوض معركة مصيرية فُرضت عليها، وإن تنوعت تكتيكاتها، فإما تكون أو لا تكون، ولم تعتد سورية إلا أن تكون, بمشيئة أبنائها ومتانة تحالفاتها، الرقم الصعب في الخريطة الدولية والإقليمية التي يجري رسمها من جديد.
عن صحيفة تشرين