بحث رواد الفكر الاقتصادي الاسلامي - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الجامعة و البحث العلمي > الحوار الأكاديمي والطلابي > قسم أرشيف منتديات الجامعة

قسم أرشيف منتديات الجامعة القسم مغلق بحيث يحوي مواضيع الاستفسارات و الطلبات المجاب عنها .....

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

بحث رواد الفكر الاقتصادي الاسلامي

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2009-01-01, 20:46   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
s.hocine
عضو نشيط
 
الصورة الرمزية s.hocine
 

 

 
الأوسمة
وسام تشجيع في مسابقة رمضان وسام المسابقة اليومية وسام الاستحقاق 
إحصائية العضو










افتراضي بحث رواد الفكر الاقتصادي الاسلامي

رواد الفكر الاقتصادي الاسلامي.. ابن خلدون (7)
نظرية القيمة: انطلاقاً من مفهوم ابن خلدون السابق للعمل يصل إلى نتيجة مفادها إن العمل أساسي لإعاشة الإفراد وتكوين رؤوس الأموال ووصل به الأمر إلى اعتبار العمل المصدر الحقيقي للقيمة «إن المنتجات والسلع هي نتاج العمل الإنساني فالمنافع (القيمة الاستعمالية) أصلها ومصدرها العمل. ان المفادات والمكتسبات (السلع والمنتجات) كلها أو أكثرها إنما هي قيمة الإعمال الإنسانية المقدمة».
وهنا يوضح ابن خلدون مرة أخرى إن العمل الإنساني يتجسد في قيم استعماليه (منافع) لسد الحاجات البشرية والتي تتفق والطبيعة الإنسانية، ولكن بعض المنافع وان كانت ضرورية وتسد حاجة إنسانية إلا أنها قد لا تكون من نتاج عمل الإنسان كالهواء والماء والشمس.. الخ.
وبالطبع قد طورت هذه الفكرة من قبل المدرسة الكلاسيكية الاقتصادية وإضافاتها عند التفريق بين القيم الاستعمالية الناجمة عن العمل وبين القيم الاستعمالية الناشئة من فعل الطبيعة إن المدرسة الكلاسيكية الجديدة (الحرية) فقد صنفت السلع الناشئة من الطبيعة بالسلع الحرة.
إن أرسطو الذي يعده البعض مؤسس علم الاقتصاد يرى إن للسلعة قيمتين: قيمة استعماليه تقدر بمقدار المنافع الممكن الحصول عليها نتيجة لاقتناء تلك السلعة. والمنفعة هنا مقياس شخصي وذاتي. وقيمة تبادلية تقدر بمقدار السلع الممكن مبادلتها بالسوق بتلك السلعة. إن أرسطو يقف عند هذا الحد ولم يقطع شوطاً ابعد في تحليله للقيمة. إنما ابن خلدون يتساءل ما إذا كانت الأشياء المتبادلة مختلفة عن بعضها كقيم استعماليه وهي الشكل الغالب في التبادل فما هو الأساس أو الخاصية الكامنة في الأشياء التي تجعلها قابلة للقياس والتي على أساسها تنسب الأشياء بعضها البعض؟
إن ابن خلدون ـ في رأينا ـ استطاع ولأول مرة في التاريخ إن يفسر القيمة تفسيراً ابعد بكثير من أرسطو، ويقدم مقياساً مشتركاً وموضوعياً بين جميع السلع المنتجة من اجل معادلتها عند التبادل. ويرى في ذلك كمية العمل المبذولة في إنتاج كل سلعة او بضاعة، وتصبح المبادلة ممكنة بين بضاعتين عند تعادل كميتي العمل المبذولة في السلعة أو المجسدة فيها.
ومع تقدم درجة العمران واتساع النشاط الاقتصادي للدولة المتحضرة تزداد السلع التي يرغب الإفراد بمبادلتها في الداخل او الخارج وقد اشار ابن خلدون في مقدمته (فصل الحجرين المعدنيين ـ أي الذهب والفضة) ورأى ان الذهب والفضة هي قيمة كل متمول. وبهذا يكون قد اقترب من مفهوم السعر هو التعبير النقدي للقيمة.
وحيث ان السعر لا يظهر إلا في الاقتصاد المكسبي (الذي غرضه الكسب والربح) والاقتصاد الطبيعي هو القائم على المقايضة هو اقتصاد بسيط ولابد ان يتحول النوع الثاني إلى الأول. لذلك يكون ابن خلدون قد سبق السير ويليام بيتي في تحديد مفهوم القيمة والسعر باكثر من ثلاثة فروق والكلاسيك والاشتراكيين بحوالي خمسة قرون.
نظريته في الريع: من ادق ملاحظة ابن خلدون في نفقات الانتاج الزراعي، هو ان بعض الدول اذا ما اضطرت لزراعة اراض غير خصبة لسبب زيادة الطلب على المواد الغذائية، فإن هذه الاراضي تتطلب نفقات انتاج اكثر من الاراضي الخصبة ونفقات الانتاج هذه تصبح شيئاً مهماً لان المنتجين (الزراع) يدخلوها في اثمان المنتجات الزراعية. ان نفقات الانتاج العالية في الاراضي غير الخصبة تعني بالضرورة ان الاراضي الخصبة تحقق عائداً اعلى وبالتالي تحقق ريعاً اكبر. ولم يقف ابن خلدون عند الريع الناجم عن فرق الخصوبة في انواع الاراضي المختلفة بل يتعداه إلى الريع الناشيء عن الموقع وعن التطور الاجتماعي. لقد لاحظ ابن خلدون عند وجود دولة محدودة النشاط الاقتصادي فإن ثمن الاراضي والعقارات تكون منخفضة الثمن بسبب نقص الطلب على المواد الزراعية ولكن عندما يزداد النشاط الاقتصادي وتقوى الدولة ويزداد عدد السكان. كل ذلك يؤدي إلى زيادة الطلب الكلي.
وهنا يرى ابن خلدون انه «تنتظم للبلد احوال رائعة حقه يحصل معها الضبطة في العقار والضياع لكثرة منافقها فتعظم قيمتها ويك لها اهمية وخطر لم يكن لها في البداية. فالفرق بين ثمن العقارات في البداية عند رخصها وثمنها عند زيادة العمران هو ما يعرف اليوم باسم الريع.. ان هذا التحليل بهذا الاسلوب العلمي الرصين، يكون به ابن خلدون قد سبق ريكاردو وهنري جورج في نظرية الريع ـ حسب رأينا ـ التي تنسب لهما اليوم. ويتريث على ذلك من تحليل ابن خلدون لمسألة الريع الحقائق التالية.
اولاً: ان الريع حصل بسبب السعر وليس هو جزءاً منه كما يشار اليه في بعض النظريات الحديثة.
ثانياً ـ ان الريع قد نشأ بفعل عوامل اجتماعية (زيادة العمران والسكان والتقدم). وليس ففعل الانسان. ولذلك وجدنا من يطالب حتى في الدول الرأسمالية المعاصرة بوضع ضرائب عالية على هذا الريع لدرجة تصل إلى ما يشبه المصادرة.
ثالثاً ـ ان الريع لا يتماشى مع قانون تناغم المصالح بين الفئات والتراكيب الاجتماعية المختلفة، بل العكس فإن مصلحة فئة او وظيفة في المجتمع تكون قد تكونت بفعله (الريع) على حساب فئة او طبقة اخرى في المجتمع. وهذه الحقائق هي التي نراها اليوم في التحليل الاقتصادي لنظرية الريع.
لا شك ان نظريتي القيمة والريع من النظريات الاقتصادية الهامة اليوم في الاقتصاد الحديث. ان لم تكن اهمها على الاطلاق، وعندما يتصدى ابن خلدون ولهذا العمق لاحظ نظريتين اقتصاديتين.. فإنه يكون برأينا قد فاق عصره وما بعد عصره بكثير. ولذلك لاغرابة في الحديث عن مدرسة فكرية اقتصادية خلدونية، شأنها شأن اية مدرسة فكرية حديثة. ان لم تكن تفوقها ولكن للاسف فإن دراسات جدية من الجانب العربي والاسلامي لم تظهر بعد الكشف عن هذه الحقيقة.
بقلم: أ.د. محمد عارف كيالي _ استاذ اقتصاد جامعي
نظرية القيمة وفائض القيمة
إن مكتسبات الحضارة هي، في التحليل الأخير، رهن بتزايد إنتاجية العمل. فما دام إنتاج فئة من الناس يكفي بالكاد لاستمرار حياة المنتجين، وما دام ليس ثمة فائض يفوق هذا الناتج الضروري، فليس ثمة إمكان لتقسيم العمل، أي لظهور الحرفيين والفنانين أو العلماء. ومن باب أولى، فليس ثمة إمكان لنمو تقنيات تتطلب مثل هذا التخصص.
فائض الناتج الاجتماعي
وما دامت إنتاجية العمل بهذه الدرجة من الانخفاض بحيث لا يكفي ناتج عمل الإنسان إلاّ لاستمراره في الحياة، لا يبقى ثمة مجال للتقسيم الاجتماعي، ولا لوجود التمايز داخل المجتمع. فالناس جميعا منتجون، وهم جميعا في سوية واحدة من الإملاق.
إن أي نمو في إنتاجية العمل يفوق هذا المستوى الأدنى يخلق إمكانية ظهور فائض صغير، وما أن يوجد فائض من المنتجات، وما أن ينتج ذراعان أكثر مما يتطلبه استمرار وجود صاحبها، حتى يمكن أن يظهر إمكان الصراع من أجل توزيع هذا الفائض.
وبدءا من هذه اللحظة لا يعود مجموع العمل في الجماعة عملا موجها بالضرورة وحصرا لضمان استمرار المنتجين. إن جزءا من هذا العمل يمكن أن يوجه إلى تحرير جزء آخر من المجتمع من ضرورة العمل ليحافظ على استمراره.
وعندما يتحقق هذا الإمكان يمكن لجزء من المجتمع أن يكوّن طبقة مسيطرة، تتصف بأنها متحررة من ضرورة العمل لتحافظ على استمرارها.
ومنذ ذلك الحين يمكن رد عمل المنتجين إلى جزئين، جزء من هذا العمل يتم كالسابق ليحافظ المنتجون على استمرارهم، ونطلق عليه العمل الضروري، ويستخدم الجزء الآخر من العمل لتأمين استمرار الطبقة الحاكمة، فنسميه فائض العمل.
لنأخذ مثلا جليا واضحا، وهو الرق في المزارع، سواء في بعض المناطق وبعض العصور في الإمبراطورية الرومانية، أم في المزارع الكبيرة، اعتبارا من القرن السابع عشر، في جزر الهند الغربية أو في الجزر البرتغالية الإفريقية. وبوجه الإجمال، فإن المالك، في جميع المناطق الاستوائية، لا يقدم حتى الغذاء للرقيق، فعلى هذا الأخير أن ينتج غذاءه بنفسه، يوم الأحد، بالعمل في قطعة صغيرة من الأرض، تخصص منتجاتها لتغذيته. ويعمل الرقيق ستة أيام في الأسبوع في المزرعة، وهذا عمل لا ترتد ثماره إليه، عملا يخلق فائض إنتاج اجتماعي، يتخلى عنه الرقيق بمجرد تكونه، ويستأثر به حصرا سادة الرقيق.
إن أسبوع العمل، وهو في هذه الحالة من سبعة أيام، ينقسم إذن إلى جزئين: عمل يوم واحد، يوم الأحد، هو عمل ضروري، عمل ينتج الرقيق أثناءه المنتجات التي يستلزمها استمرار بقائه، ليبقى حيا هو وعائلته، وعمل خلال ستة أيام في الأسبوع، هو فائض عمل، عمل ترتد ثماره حصرا إلى السادة، ويستخدم لإعالة السادة وتأمين استمرار بقائهم، ولاغنائهم أيضا.
ومثل آخر، نستمده من الملكيات والاقطاعات الكبيرة في مطلع القرون الوسطى. إن أراضي هذه الاقطاعات كانت تنقسم إلى ثلاثة أجزاء: فهناك الأراضي المشاعة، أي الأراضي التي بقيت ملكيتها جماعية، كالغابات والمروج والمستنقعات وسواها. وهناك الأراضي التي يعمل فيها القن لإعالة أسرته وذاته. وهناك أخيرا الأرض التي يعمل فيها القن لإعالة السيد الإقطاعي. ويتكون أسبوع العمل في هذه الحالة من ستة أيام لا سبعة، ينقسم إلى جزئين متساويين: فيعمل القن ثلاثة أيام في الأسبوع في الأرض التي يمتلك ثمارها، ويعمل ثلاثة أيام في الأسبوع في أرض السيد الإقطاعي، بدون أي مقابل، أي أنه يقدم عملا مجانيا للطبقة المسيطرة.
وفي وسعنا أن ندل على ناتج كل من نوعي العمل هذين الشديدي التباين باصطلاحين مختلفين. إن المنتج عندما يقوم بالعمل الضروري، إنما ينتج الناتج الضروري، وعندما يقوم بفائض عمل إنما ينتج فائض إنتاج اجتماعي.
ففائض الناتج الاجتماعي هو إذن جزء من الناتج الاجتماعي، تستحوذ عليه الطبقة المسيطرة، رغم كونه نتاج طبقة المنتجين، بأي شكل كان، سواء بشكل محاصيل طبيعية، أو بشكل سلع معدة للبيع، أو بشكل مال.
إذن، ففائض القيمة ليس إلاّ الشكل النقدي لفائض الناتج الاجتماعي. وعندما تتملك الطبقة المسيطرة جزءا من إنتاج المجتمع، أطلقنا عليه من قبل اسم "فائض الناتج"، بشكل مال حصرا، فإن الحديث لا ينصرف آنذاك إلى فائض الناتج، بل يطلق على هذا الجزء "فائض القيمة".
ليس هذا في الواقع إلاّ تعريفا أوليا لفائض القيمة سنعود إليه فيما بعد.
ما هو أصل فائض الناتج الاجتماعي؟ إن فائض الناتج الاجتماعي يبدوا كحصيلة لتملك الطبقة المسيطرة جزءا من إنتاج الطبقة المنتجة مجانا - فهو إذن تملك دون أي مقابل في القيمة. إن الرقيق حين يعمل يومين في الأسبوع في مزرعة سادته، ويحتكر هذا المالك كل حصيلة هذا العمل دون أن يكون ثمة أية مكافئة مقابل ذلك، فإن أصل فائض الناتج الاجتماعي إنما يكون العمل المجاني، أي العمل بدون مقابل، الذي يقدمه الرقيق لمالكيه. وحين يعمل القن ثلاثة أيام في الأسبوع في أرض السيد، فإن أصل هذا الدخل، فائض الناتج الاجتماعي هذا، إنما يكون أيضا عملا بدون أجر، عملا مجانيا يقدمه القن.
وسنرى فيما بعد أن أصل فائض القيمة الرأسمالي، أي دخل الطبقة البرجوازية في المجتمع الرأسمالي، هو من المنشأ ذاته تماما: إنه العمل غير المكافأ، العمل المجاني، العمل الذي يقدمه الكادح، المأجور، إلى الرأسمالي دون مقابل.
السلع، قيمة الاستعمال وقيمة التبادل
هذه التعريفات الأساسية التي أوردناها هي أدوات سنستخدمها في الدروس الثلاثة التي تتكون منها مجموعة هذه المحاضرات.
إن كل ثمرة العمل البشري ينبغي أن تقترن عادة بمنفعة، أي أن تكون قادرة على إشباع حاجة بشرية. ويمكن القول إذن إن لكل ثمرة من ثمار العمل الإنساني قيمة استعمال. على أن اصطلاح "قيمة الاستعمال" سيستخدم بمدلولين مختلفين. فنتحدث عن قيمة استعمال سلعة ما، كما سنتحدث عن قيم استعمال، فنقول إن في هذا المجتمع أو ذاك لا تنتج إلاّ قيم استعمال، أي منتجات معدة للاستهلاك المباشر من قبل الذين يتملكونها (من منتجين أو طبقة حاكمة).
بيد أن ثمرة العمل البشري يمكن أن يكون لها، فضلا عن قيمة الاستعمال هذه، قيمة أخرى، قيمة تبادل، إذ يمكن أن تُنتج لا بقصد الاستهلاك الفوري من قبل المنتجين أو الطبقات المالكة، بل بقصد التبادل في السوق، بقصد البيع. ولا تكوّن كتلة المنتجات المعدة للبيع إنتاجا له قيم استعمال وحسب، بل إنتاجا لسلع.
فالسلعة هي إذن ناتج لم يخلق بهدف استهلاكه مباشرة، بل ،هدف تبادله في السوق. وكل سلعة ينبغي بالتالي أن يكون لها قيمة استعمال وقيمة تبادل في آن واحد.
يبقى أن يكون لها قيمة استعمال، إذ لو لم يتوافر لها ذلك، لما وجد شخص يشتريها، إذ لا تشترى سلعة إلاّ بقصد استهلاكها في النهاية، بقصد إشباع حاجة ما عن طريق هذا الشراء. وإذا وجدت سلعة ما ليس لها قيمة استعمال بالنسبة لأي شخص كان فمعنى ذلك أنها غير قابلة للبيع. لقد أنتجت عبثا، وليس لها قيمة في التبادل بالذات لأنها غير ذات قيمة في الاستعمال.
وبالمقابل، ليس لكل سلعة، ذات قيمة استعمال، قيمة في التبادل. وهي لا تملك قيمة في التبادل أصلا إلاّ بقدر ما تكون منتجة في مجتمع يقوم على التبادل، في مجتمع يمارس التبادل عموما.
هل توجد مجتمعات ليس للمنتجات فيها قيمة تبادل؟ إن قيمة التبادل تقوم، كما تقوم من باب أولى التجارة والسوق، على توافر مستوى معين من تقسيم العمل. ولكي لا تستهلك المنتجات فورا من قبل منتجيها، ينبغي ألاّ ينتج كل الناس الشيء ذاته. ومن الجلي الواضح أنه لا مبرر لظهور التبادل في جماعة معينة لا وجود لتقسيم العمل فيها، أو أن تقسيم العمل فيها بدائي تماما. وفي الأحوال العادية فإن منتج القمح لا يجد ما يبادله مع منتج آخر للقمح، ولكن ما أن يوجد تقسيم العمل، ما أن يوجد اتصال بين فئات اجتماعية تنتج منتجات ذات قيم استعمال مختلفة، حتى يمكن التبادل أن يقوم بصورة عرضية أولا، ويمكن من ثم أن يعمّ. عند ذلك تبدأ في الظهور، شيئا فشيئا، إلى جانب المنتجات المعدة للإستهلاك فقط، منتجات أخرى تنتج بقصد تبادلها، أي سلع.
وفي المجتمع الرأسمالي، بلغ الإنتاج التجاري، أي إنتاج قيم التبادل، ذروة انتشاره. إنه أول مجتمع في تاريخ البشر يتكون الجزء الأكبر من إنتاجه من سلع. ولو أنه لا يمكن القول إن كل الإنتاج في هذا المجتمع هو إنتاج سلع. إذ ثمة فئتان من المنتجات ما تزالان موجودتان فيه ولهما قيمة استعمال وحسب.
أولهما كل ما ينتجه الفلاحون من أجل استهلاكهم الذاتي، كل ما يستهلك مباشرة في المزارع التي تنتج هذه المنتجات. وهذا الإنتاج بقصد الاستهلاك الذاتي موجود حتى في أكثر البلاد الرأسمالية تقدما كالولايات المتحدة، بيد أنه لا يكوّن إلاّ جزءا صغيرا من مجموع الإنتاج الزراعي. وبصورة عامة، بقدر ما تكون الزراعة في بلد ما متأخرة بقدر ما يكون أكبر جزء من الإنتاج الزراعي هو الجزء المعد للاستهلاك الذاتي، مما يثير صعوبات كبيرة عند حساب الدخل القومي لهذه البلاد بدقة.
والفئة الثانية من المنتجات التي ما تزال ذات قيمة استعمال وحسب، وليست سلعة في النظام الرأسمالي، هي كل ما ينتج داخل المنازل. وهذا الإنتاج المنزلي كله، رغم ما يقتضيه من إنفاق كبير في عمل الإنسان، يكون إنتاجا لقيم استعمال، لا إنتاجا لقيم تبادل. إن المرء ينتج حين يعد الحساء أو يثبت أزرارا، إلاّ أنه لا ينتج ذلك من أجل السوق.
إن ظهور إنتاج السلع وتنظيمه وتعميمه قد غيّر بصورة جذرية الطريقة التي يعمل بها البشر وينظمون بها المجتمع.
3- النظرية الماركسية في الاستلاب
لقد سمعتم من قبل أحاديث عن النظرية الماركسية في الاستلاب. إن ظهور الإنتاج المعد للتبادل وتنظيمه وتعميمه يرتبط ارتباطا وثيقا بتوسع ظاهرة الاستلاب هذه.
وليس في وسعنا أن نتبسط هنا في الحديث عن هذا المظهر من مظاهر المسألة. غير أنه أمر بالغ الأهمية أن نتفهم هذه الواقعة، لأن المجتمع السلعي لا يتطابق مع عصر الرأسمالية وحسب، بل يشمل أيضا عصر الإنتاج السلعي الصغير، الذي سنتحدث عنه بعد ظهر هذا اليوم. كما أن ثمة مجتمعا سلعيا بعد رأسمالي، هو المجتمع الإنتقالي بين الرأسمالية والاشتراكية، كالمجتمع السوفييتي الراهن، وهو مجتمع ما يزال يقوم إلى حد كبير على إنتاج قيم تبادل. وحين نحيط ببعض الخصائص الأساسية للمجتمع السلعي ندرك لِمَ لا يمكن التغلب على بعض ظاهرات الاستلاب في الفترة الانتقالية بين الرأسمالية والاشتراكية، كما هو الحال في المجتمع السوفييتي الراهن.
غير أن ظاهرة الاستلاب هذه لا تظهر بصورة جلية -على الأقل بهذا الشكل- في مجتمع يجهل الإنتاج السلعي، في مجتمع يقوم على وحدة الحياة الفردية والنشاط الاجتماعي البدائي تماما. إن الإنسان يعمل، ويعمل عادة لا متفردا، بل في مجموعة جماعية ذات بنية عضوية متفاوتة. ويقوم هذا العمل على تحويل مباشر للأشياء المادية. أي أن نشاط العمل، نشاط الإنتاج، نشاط الاستهلاك، وكذلك العلاقات بين الفرد والمجتمع، ينظمها ضرب من التوازن الدائم إلى حد ما.
يقينا أن ليس من مسوغ لتجميل المجتمع البدائي، الخاضع لضغوط وكوارث دورية بحكم عوزه الشديد. فالتوازن القائم فيه مهدد في أية لحظة بأن تهدمه الندرة والبؤس والكوارث الطبيعية، وما سوى ذلك. غير أن بين هاتين الكارثتين، لا سيما بدءا من مستوى معين في نمو الزراعة، ومن بعض الشروط المناخية الملائمة، فإن هذا التوازن يولد ضربا من الوحدة، ضربا من التوافق، ضربا من التوازن بين جميع وجوه النشاط الإنساني من الناحية العملية.
إن الآثار المدمرة لتقسيم العمل، كالفصل التام بين كل ما هو نشاط جمالي، واندفاعة فنية، وطموح خلاق وبين وجوه النشاط الإنتاجي، الآلية تماما، التي تقوم على التكرار، مثل هذه الآثار لا وجود لها قط في المجتمع البدائي. وعلى العكس من ذلك فإن معظم الفنون، سواء أكانت الموسيقى والنحت أم الرسم والرقص، ترتبط منذ البدء بالإنتاج، بالعمل. فالرغبة في إعطاء شكل مستحب وجميل للمنتجات التي تستهلك إما فرديا أو في الأسرة أو في الجماعة من ذوي القربى أكثر اتساعا، هذه الرغبة كانت تندرج بصورة طبيعية، متوافقة وعضوية بعمل كل يوم.
لم يكن الإنسان يحس بالعمل كالتزام مفروض من الخارج، أولاً لأن هذا النشاط كان أقل توترا بكثير، أقل إرهاقا بكثير من العمل في المجتمع الرأسمالي الراهن، لأنه كان أكثر خضوعا لنسق الجسم البشري ولنسق الطبيعة. فقلما يتجاوز عدد أيام العمل 150 أو 200 في السنة، بينما هو يقارب في المجتمع الرأسمالي 300 يوم تقريبا، ويتجاوزها أحيانا. ولأن الوحدة بين المنتج والناتج واستهلاكه كانت مستمرة، إذ كان المنتج إنما ينتج بصورة عامة من أجل استعماله هو أو استعمال أقاربه، فقد كان العمل يحتفظ بالتالي بمظهر وظيفي مباشر. إن الاستلاب الحديث ينشأ بصورة خاصة من الانفصام بين المنتج ونتاجه، وهو نتيجة تقسيم العمل ونتيجة إنتاج البضائع في آن واحد، أي نتيجة العمل من أجل السوق، من أجل مستهلكين مجهولين، لا من أجل استهلاك المنتج ذاته.
أما الوجه الآخر للمسألة فهو أن مجتمعا لا ينتج سوى قيم استعمال، مجتمعا ينتج سلعا لاستهلاك منتجه وحسب، كان في الماضي على الدوام مجتمعا شديد الفقر. وهو بالتالي مجتمع لا يخضع لتقلبات قوى الطبيعة وحسب، بل مجتمع يقيد الحاجات البشرية إلى أقصى الحدود، تماما بقدر ما هو فقير لا يملك إلاّ تنويعا محدودا من المنتجات. إن حاجات البشر ليست شيئا فطريا في الإنسان، إلاّ في حدود ضيقة جدا. فثمة تفاعل مستمر بين الإنتاج والحاجات، بين نمو القوى الإنتاجية وتفجر الحاجات. وفي مجتمع ينمي إلى الحد الأقصى إنتاجية العمل، وينمي تنويعا غير محدود من المنتجات، في مثل هذا المجتمع فقط يمكن للإنسان أن يشهد نموا غير محدود في حاجاته، نموا لجميع إمكاناته غير المحدودة، نموا متكاملا في إنسانيته.
قانون القيمة
من جملة النتائج المترتبة على ظهور إنتاج السلع وتعميمه تدريجيا، أن العمل ذاته يأخذ في التحول بحيث يصبح منتظما، ومقاسا، أي أن العمل نفسه لا يعود نشاطا مندمجا في نسق الطبيعة، يجري وفق النسق الفيزيولوجي الخاص بالإنسان.
ففي بعض مناطق أوروبا الغربية لم يكن الفلاحون حتى القرن التاسع عشر، بل وحتى القرن العشرين، يعملون بشكل منتظم، ولا يعملون في كل شهر في السنة بنفس الشدة. إنهم يبذلون في بعض فترات سنة العمل مجهودا بالغ الشدة. بيد أنه ستوجد إلى جانب ذلك فجوات كبيرة ينعدم فيها النشاط، لا سيما في الشتاء. وعندما نما المجتمع الرأسمالي، وجد في هذا الجزء الأكثر تأخرا في الزراعة في البلاد الرأسمالية احتياطيا من اليد العاملة بالغة الأهمية، بمعنى أنها يد عاملة تذهب إلى العمل لتعمل ستة شهور من السنة أو أربعة شهور، ويمكنها أن تعمل لقاء أجور أدنى بكثير، نظرا لأن الاستثمار الزراعي المستمر كان يؤمن لها جزءا من قوتها.
وحين نتفحص مزارع أكثر تقدما بكثير وأكثر ازدهارا، كما هو الحال في المزارع المنتشرة حول المدن الكبرى، أي مزارع هي في الحقيقة في طريق التصنيع، نجد فيها عملا أكثر انتظاما بكثير وإنفاقا في العمل أكبر بكثير يجري بشكل منتظم طوال السنة، يلغي شيئا فشيئا فترات العطالة. إن هذا لا يصدق على عصرنا وحسب، بل إنه صحيح بالنسبة للقرون الوسطى، ولنقل اعتبارا من القرن الثاني عشر: فكلما ازداد اقترابنا من المدن، أي من الأسواق، كان عمل الفلاح أكثر اتجاها إلى العمل من أجل السوق، أي موجها نحو إنتاج السلع، وكان العمل أكثر انتظاما، عملا دائما إلى حد ما، كما لو كان عملا في مشروع صناعي.
وبعبارة أخرى: بقدر ما يعمم إنتاج البضائع بقدر ما ينتظم العمل، وبقدر ما يصبح المجتمع منظما على أساس محاسبة تقوم على العمل.
ولو درسنا تقسيم العمل المتقدم إلى حد ما في إحدى النواحي (كومون) في مطلع النمو التجاري والحرفي في القرون الوسطى، أو تأملنا مجتمعات في حضارات كالحضارة البيزنطية والعربية والهندوسية والصينية واليابانية فإن ما يلفت الانتباه في كل الحالات واقعُ تكامل متقدم جدا بين الزراعة ومختلف التقنيات الحرفية ، وانتظام العمل في الريف والمدينة على حد سواء، مما يجعل من المحاسبة على أساس العمل، أي من المحاسبة على أساس ساعات العمل، المحرك الذي ينظم كل نشاط الجماعة، بل وبنيتها: وقد أوردت في الفصل الخاص بقانون العمل في "النظرية الماركسية في الاقتصاد" مجموعة من أمثلة هذه المحاسبة التي تقوم على ساعات العمل. وفي بعض القرى الهندية تحتكر طبقة مغلقة معينة صناعة الحدادة، إلاّ أنها تستمر في الوقت ذاته في فلاحة الأرض لتنتج غدائها الخاص. وفيها القاعدة التالية: حين يقوم الحداد بصنع أداة من أدوات العمل أو سلاح لمزرعة ما، فإن على هذه المزرعة أن تقدم له المواد الأولية، وبينما يعالج الحداد هذه المواد لصنع الأدوات فإن على الفلاح الذي تنتج الأداة لحسابه أن يعمل في أرض الحداد. وهذا يعني أن ثمة تكافؤا في ساعات العمل يحكم المبادلات بصورة جد واضحة.
وفي القرى اليابانية في الق رون الوسطى نجد في نظام الشيوع السائد في القرية محاسبة تقوم على ساعات العمل بالمعنى الحرفي للكلمة. فمحاسب القرية يمسك نوعا من الدفاتر الكبيرة يسجل فيه ساعات العمل التي عمل خلالها مختلف القرويين بالتبادل في حقول الآخرين، ذلك لأن الإنتاج الزراعي كان ما يزال يقوم إلى حد كبير على التعاون في العمل، وبشكل عام يجري الحصاد وبناء المزارع وتربية الحيوانات بجهد مشترك. وتحسب بصورة جد دقيقة عدد ساعات العمل التي قدمها أعضاء أسرة معينة لأعضاء أسرة أخرى. وفي نهاية السنة ينبغي أن يكون ثمة توازن، بمعنى أن أفراد أسرة (ب) ينبغي أن يكونوا قدموا لأسرة (أ) عددا من ساعات العمل يطابق تماما عدد الساعات التي قدمها أفراد أسرة (أ) خلال السنة ذاتها لأفراد الأسرة (ب). بل اليابانيين بلغت بهم الحداقة -منذ حوالي ألف عام!- بحيث كانوا يأخذون في نظر الاعتبار أن الأطفال يقدمون كمية من العمل أقل من البالغين، أي أن ساعة عمل يقوم بها الأطفال لا "تكافئ" سوى نصف ساعة من عمل البالغين، وبذلك تنشأ محاسبة كلية بهذا الشكل.
وهاكم مثلا آخر يتيح لنا أن ندرك مباشرة انتشار هذه المحاسبة التي قوم على اقتصاد وقت العمل: هي استبدال الريع العقاري. ففي المجتمع الإقطاعي يمكن لفائض الإنتاج الزراعي أن يتخذ أشكالا مختلفة: شكل الريع في صورة عمل أو سخرة، شكل الريع العيني، وشكل الريع النقدي.
ومن الواضح أن ثمة عملية استبدال، حين ننتقل من السخرة إلى الريع العيني. فبدلا من أن يقدم الفلاح ثلاثة أيام عمل في الأسبوع للسيد، أصبح الآن يقدم كمية معينة من القمح أو الماشية وسواها في كل موسم زراعي. وتجري عملية استبدال أخرى حين ننتقل من الريع العيني إلى الريع النقدي.
عمليتا الاستبدال هاتان ينبغي أن تبنيا على محاسبة بساعات العمل تكون دقيقة إلى حد ما، إذا لم يقبل أحد الفريقين أن يُضار مباشرة بهذه العملية. وفي خلال مرحلة الاستبدال الأول، أي بدلا من أن يقدم الفلاح للسيد الإقطاعي 150 يوم عمل سنويا، أصبح الفلاح يقدم كمية من القمح، فإذا كان إنتاج هذه الكمية (س) من القمح يقتضي 75 يوم عمل فقط فإن هذا الاستبدال للريع- العمل إلى ريع عيني يؤدي إلى إفقار مفاجئ للمالك الإقطاعي وإثراء سريع جدا للأقنان.
ولذلك كان المالكون العقاريون - وهم أهل للثقة!- يسهرون أثناء عملية الاستبدال هذه ليكون ثمة تكافؤ دقيق نوعا ما بين مختلف أشكال الريع. وطبيعي أن عملية الاستبدال هذه يمكن أن ترتد في النهاية ضد إحدى الطبقتين الموجودتين، مثلا ضد المالكين العقاريين عندما يحصل انهيار مفاجئ في الأسعار الزراعية بعد تحول الريع العيني إلى ريع نقدي، بيد أن الأمر يتعلق عند ذاك بنتيجة عملية تاريخية بكاملها، لا نتيجة الاستبدال نفسه.
ويبدو منشأ هذا الاقتصاد المبني على المحاسبة على أساس ساعات العمل بشكل واضح أيضا من خلال تقسيم العمل بين الزراعة والمهن الحرفية داخل القرية. وخلال حقبة بكاملها يبقى تقسيم العمل بدائيا نوعا ما. فيستمر جزء من الفلاحين في إنتاج جزء من لباسهم خلال فترة طويلة جدا، تمتد في أوروبا الغربية من نشوء المدن في القرون الوسطى حتى القرن التاسع عشر، أي حوالي ألف عام، مما يعني في الحقيقة أن تقنية إنتاج الملابس لم تكن تنطوي على كثير من الإعجاز بالنسبة للفلاح.
وما أن تقوم مبادلات منتظمة بين الفلاحين والحرفيين منتجي المنسوجات حتى تنشأ تكافؤات منتظمة أيضا. مثال ذلك يتم تبادل ولنقل مترا من الجوخ مقابل خمسة كلوات من السمن، لا مقابل 50 كيلو. ومن الواضح تماما أن الفلاحين يعرفون، إنطلاقا من تجربتهم الخاصة، وقت العمل التقريبي اللازم لإنتاج كمية معينة من الجوخ. ولو لم يكن ثمة تكافؤ دقيق إلى حد ما بين زمن العمل اللازم لإنتاج كمية الجوخ التي يجري تبادلها مقابل كمية معينة من السمن، لتعدل تقسيم العمل بشكل فوري. ولو كان الفلاح يجد أن إنتاج الجوخ هو أكثر فائدة له من إنتاج السمن لغيّر فعليا إنتاجه، نظرا لأننا ما نزال في مطلع تقسيم جذري للعمل، وأن الحدود ما تزال مائعة بين التقنيات المختلفة، وإن الانتقال من نشاط اقتصادي إلى آخر ما يزال ممكنا، خاصة إذا كان ينتج فوائد مادية ظاهرة تماما.
وفي داخل المدينة في القرون الوسطى نجد أيضا توازنا يقوم على فهم عميق محسوبا بين المهن المختلفة، تسجله المواثيق، يحدد بالدقة تقريبا زمن العمل الذي ينبغي بذله لانتاج مختلف المنتجات. ولا يعقل، في مثل هذه الشروط، أن يستطيع صانع الأحذية أو الحداد الحصول على نفس المبلغ من النقد مقابل حصيلة نصف زمن العمل الذي يحتاجه النساج أو أي حرفي آخر للحصول على هذا المبلغ مقابل منتجاته الخاصة.
هنا أيضا ندرك جيدا آلية هذه المحاسبة المبنية على ساعات العمل، وسير هذا المجتمع المبني على اقتصاد يقوم على زمن العمل، وهو بصورة عامة سمة مميزة لكل هذه الحقبة (الطور) التي تسمى حقبة الإنتاج السلعي الصغير، التي تتداخل بين مرحلة الاقتصاد الطبيعي البحت التي لا ينتج فيها سوى قيم استخدام، والمجتمع الرأسمالي الذي يشهد إنتاج السلع فيه توسعا بلا حدود.
5- تحديد قيمة تبادل السلع
عندما ندرك بدقة أن إنتاج السلع وتبادلها ينتظمان ويتعممان في مجتمع كان يقوم على اقتصاد مبني على زمن العمل، على محاسبة مبنية على ساعات العمل، نفهم لماذا بني تبادل السلع، بحكم نشأته وطبيعته الخاصة، على هذه المحاسبة القائمة على ساعات العمل ذاتها وأن القاعدة العامة التي تتبع هي إذن التالية: إن قيمة تبادل سلعة ما تتحدد بكمية العمل اللازم لإنتاجها، وتقاس كمية العمل هذه بمدة العمل التي تم إنتاج السلع خلالها.
هذا التعريف العام الذي يكون نظرية القيمة-العمل، وأساس الاقتصاد السياسي الكلاسيكي البرجوازي بين القرن السابع عشر ومطلع القرن التاسع عشر، من ويليام بيسي إلى ريكاردو، وأساس النظرية الاقتصادية الماركسية، التي إستندت إلى نظرية القيمة-العمل ذاتها، وعملت على تحسينها- هذا التعريف ينبغي أن يضاف إليه بعض التحديدات.
التحديد الأول:إن بني البشر لا تتوافر لهم جميعا نفس القدرة على العمل، فهم لا يملكون نفس الطاقة، ولا يملكون جميعا نفس المهارة في مهنتهم. ولو أن قيمة تبادل البضائع كانت تتوقف على كمية العمل وحدها التي ينفقها الفرد، أي المبذولة فعلا من قبل كل فرد لإنتاج سلعة،لانتهينا إلى وضع غير معقول: إذ بقدر ما يكون المنتج عابثا أو عاجزا تزداد ساعات العمل التي ينفقها لإنتاج زوج من الأحذية وتكون قيمة هذا الزوج من الأحذية أكبر! بداهة هذا مستحيل لأن قيمة التبادل ليست مكافأة معنوية على النيات! إنها رابطة موضوعية قائمة بين منتجين مستقلين لتأمين المساواة بين جميع المهن، في مجتمع يقوم بآن واحد على تقسيم العمل وعلى اقتصاد مبني على زمن العمل. في مثل هذا المجتمع يكون تبديد العمل أمرا لا يمكن مكافأته، بل على العكس يعاقب عليه بصورة آلية. وكل من ينفق في سبيل إنتاج زوج من الأحذية عددا من ساعات العمل يفوق المتوسط الضروري -هذا المتوسط الضروري تحدده متوسط إنتاجية العمل ومسجل مثلا في مواثيق المهن- إنما يبدد عملا بشريا، لقد عمل عبثا، بخسارة بحتة، خلال عدد من ساعات العمل هذه، ولن يتلقى شيئا مقابل هذه الساعات المهدورة.
وبعبارة أخرى: إن قيمة تبادل بضاعة ما تتحدد لا بكمية العمل المبذولة لإنتاج هذه السلعة من قبل كل منتج فردي، بل بكمية العمل الضرورية اجتماعيا لإنتاجها. وتعبير "الضرورية اجتماعيا" ينصرف إلى :كمية العمل الضرورية في الشروط المتوسطة لإنتاجية العمل في زمن معين وفي بلد معين.
وفضلا عن ذلك فإن لهذا التحديد أهمية بالغة من حيث التطبيق عندما نتفحص عن قرب اكثر آلية المجتمع الرأسمالي.
بيد أنه لابد من تحديد آخر: ماذا يعني تعبير"كمية العمل" بالضبط. هناك عمال ذوو مهارات متباينة. فهل ثمة تكافؤ كلي بين ساعة عمل كل واحد منهم، بصرف النظر عن هذا الاختلاف في المهارات؟ ومرة أخرى ليس الأمر مسألة أخلاقية، بل مسألة منطق داخلي، في مجتمع يقوم على المساواة بين المهن، يقوم على المساواة في السوق، وأية شروط لعدم المساواة فيما بينها تخل مباشرة بالتوازن الإجتماعي.
ما الذي يحدث مثلا لو أن ساعة عمل العامل اليدوي لم تكن قيمتها تقل عن قيمة ساعة عمل العامل المتخصص المؤهل، اقتضى تأهيله أربع أو ست سنوات؟ لن يرغب أحد بطبيعة الحال في التخصص. فساعات العمل المبذولة لاكتساب التخصص (المهارة) تصبح ساعات عمل أنفقت عبثا، بخسارة بحتة، لن ينال المتمرن الذي أصبح عاملا ماهرا لقاءها أي مقابل.
ولكي يرغب الأحداث بالتخصص في اقتصاد يقوم على محاسبة مبنية على ساعات العمل ينبغي أن يكافأ الزمن الذي ضيعوه في اكتساب تأهيلهم، ينبغي أن ينالوا عوضا لقاء هذا الزمن. ولهذا ينبغي إكمال تعريفنا لقيمة تبادل بضاعة ما على النحو التالي: "إن ساعة عمل لعامل مؤهل ينبغي اعتبارها عملا مركبا، أي ساعة عمل العامل اليدوي مضاعفة، ومعامل الضرب هذا ليس أمرا تعسفيا، بل يقوم ببساطة على تكاليف اكتساب المهارة. ولنقل بصورة عابرة أنه كان في الاتحاد السوفييتي في العهد الستاليني، دوما، شيء من الغموض في تفسير العمل المركب، وهو غموض قليل الشأن لم يصحح منذ ذلك الحين. وما يزال يقال في الاتحاد السوفييتي إن مكافأة العمل ينبغي أن تتم على أساس كمية العمل المبذولة ونوعيته، إلاّ أن فكرة النوعية لا تؤخذ بمدلولها الماركسي، أي نوعية يمكن قياسها كميا بواسطة معامل ضرب معين. وعلى العكس فإن هذه الفكرة تستخدم بمدلولها الأيديولوجي البرجوازي، بحيث تتحدد نوعية العمل بمنفعتها الاجتماعية المزعومة، وعلى هذا النحو يتم تبرير الدخول التي يكسبها مشير أو راقصة أولى أو مدير مؤسسة، وهي دخول تفوق عشرة أضعاف دخول العامل اليدوي. إنها نظرية دفاع لتبرير التفاوتات الكبيرة جدا في المكافآت، وهي تفاوت وجدت في العهد الستاليني وما تزال مستمرة أيضا، وإن يكن في حدود أضيق في الوقت الراهن، في الاتحاد السوفييتي.
إن قيمة تبادل بضاعة ما تتحدد إذن بكمية العمل الضروري اجتماعيا لإنتاجها، مع اعتبار العمل المؤهل كمضاعف العمل البسيط، أي مضروبا بمعامل يمكن قياسه بدرجات متفاوتة الدقة.
ذلك هو قلب النظرية الماركسية في القيمة، وهو أساس النظرية الاقتصادية الماركسية كلها بشكل عام. وعلى النحو ذاته، فإن نظرية فائض الناتج الاجتماعي وفائض العمل، التي تحدثنا عنها في مستهل هذا العرض، تكوّن أساس السوسيولوجيا الماركسية كلها، والجسر الذي يربط بين تحليل ماركس السوسيولوجي والتاريخي، ونظريته في الطبقات وتطور المجتمع بشكل عام، بالنظرية الماركسية الاقتصادية، وبالأحرى بتحليل المجتمع السلعي السابق للرأسمالية والرأسمالية وما بعد الرأسمالي.
6ما هو العمل الضروري اجتماعيا؟
ذكرت لكم قبل قليل أن التعريف الخاص لكمية العمل الضرورية اجتماعيا لإنتاج سلعة ما يجد تطبيقا خاصا جدا وبالغ الأهمية في تحليل المجتمع الرأسمالي. ويبدو لي أن من الخير أن نعالج هذه المسألة، رغم أن مكانها هو في الحديث التالي، لو أننا اتبعنا الترتيب المنطقي.
إن مجموع السلع المنتجة في بلد ما في فترة معينة إنما تم إنتاجها بقصد إشباع حاجات مجموع أعضاء هذا المجتمع. ذلك أن بضاعة لا تسد حاجات أي شخص هي أساسا لا تقبل البيع، أي لا تكون لها أية قيمة في التبادل، إنها لا تكون سلعة بل مجرد حصيلة أهواء المنتج، أو اللعب بلا رغبة في الكسب. ومن جهة أخرى فإن مجموع القوة الشرائية الموجودة في مجتمع معين وزمن معين والمعدة للإنفاق في السوق، أي غير المكتنزة، ينبغي أن توجه لشراء مجموع هذه السلع المنتجة، إذا أريد قيام توازن اقتصادي في المجتمع. هذا التوازن يستلزم إذن أن يوزع مجموع الإنتاج الإجتماعي، مجموع القوى الإنتاجية المتاحة في المجتمع، أي مجموع ساعات العمل المتوافرة لهذا المجتمع، أن يوزع مجموعها بين مختلف الفروع الصناعية على أساس نسبي، على نحو ما يقوم به المستهلكون حين يوزعون قوتهم الشرائية بين مختلف الحاجات التي يمكنهم إشباعها. وعندما لا يتطابق توزيع القوى الإنتاجية مع توزيع الحاجات هذا فإن التوازن الإقتصادي يختل، ويظهر فرط الإنتاج ونقص الإنتاج جنبا إلى جنب.
لنأخذ مثلا مألوفا إلى حد ما: حوالي منتصف القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كان في مدينة مثل باريس صناعة العربات، ولصنع السلع المختلفة التي تتصل بالنقل بالعربات المجرورة، كان يعمل فيها ألوف، إن لم يكن عشرات الألوف من العمال.
وفي الوقت ذاته نشأت صناعة السيارات، وهي، رغم أنها كانت ما تزال صناعة صغيرة جدا، تضم عشرات من صانعي السيارات، ويعمل فيها حوالي عشرة آلاف من العمال.
ما الذي جرى في تلك الفترة؟ بدأ عدد العربات يضمحل وعدد السيارات يتزايد. ونحن نشهد إذن أن الإنتاج المتعلق بالنقل بالعربات يتجه إلى تجاوز الحاجات الإجتماعية، أي الطريقة التي يوزع بمقتضاها مجموع الباريسيين قوتهم الشرائية، كما نشاهد من جهة أخرى أن إنتاج السيارات ما يزال دون مستوى الحاجات الإجتماعية. فما أن قامت صناعة السيارات حتى انتقلت من القلة وتصاعدت حتى ثم التوصل إلى الإنتاج الكبير. لقد كان عدد السيارات المتاح أقل من المتطلبات الموجودة في السوق.
كيف نعبر عن هذه الظاهرة بمصطلحات نظرية القيمة-العمل؟ يمكن القول إنه ينفق في قطاعات صناعة النقل بالجر من العمل أكثر مما هو ضروري اجتماعيا، وإن جزءا من العمل الذي تقوم به مجموع مشروعات صناعة النقل بالعربات هو عمل مهدور اجتماعيا، عمل لا مقابل له في السوق، عمل ينتج بالتالي سلعا لا تباع، وعندما توجد في المجتمع الرأسمالي سلع لا تباع، فمعنى ذلك أنه قد جرى تثمير عمل بشري في فرع من فروع الصناعة تكشف أنه ليس عملا ضروريا اجتماعيا، أي أن ليس ثمة قوة شرائية مقابلة له في السوق. والعمل غير الضروري اجتماعيا هو عمل مبدد، عمل لا ينتج قيمة. وهكذا نرى أن مفهوم العمل الضروري اجتماعيا يغطي مجموعة بكاملها من الظاهرات.
وفيما يتعلق بمنتجات صناعة النقل بالجر، يتجاوز العرض الطلب، فتنخفض الأسعار، وتبقى السلع دون مشترٍ. ويحصل العكس في صناعة السيارات. إذ أن الطلب يتجاوز العرض، ولهذا السبب ترتفع الأسعار، ولأنه يوجد قصور في الإنتاج. إلاّ أن الوقوف عند هذه المعلومات العادية حول العرض والطلب إنما يعني التوقف عند المظهر السيكولوجي والفردي للمسألة. وعلى العكس، إذا تعمقنا في دراسة مظهرها الجماعي والاجتماعي فإننا ندرك ما يكمن وراء هذه الظواهر، في مجتمع يقوم على اقتصاد مبني على زمن العمل. فحين يتجاوز العرض الطلب إنما يعني هذا أن الإنتاج الرأسمالي، وهو إنتاج فوضوي، إنتاج غير مخطط، غير منظم، قد ثمر عشوائيا، أي أنفق في فرع من فروع الصناعة عددا من ساعات العمل أكثر مما هو ضروري اجتماعيا، أي أنه قدم مجموعة من ساعات العمل بخسارة بحتة، أي بدد عملا بشريا، وأن هذا العمل البشري المهدور لن يلقى مكافأة له من المجتمع. وبالعكس، فإن فرعا من فروع الصناعة ما يزال الطلب عليه أكبر من العرض هو، إذا صح التعبير، فرع صناعي متخلف بالنسبة للحاجيات الاجتماعية، وهو بالتالي فرع صناعي أنفق فيه من ساعات العمل عدد أقل مما هو ضروري اجتماعيا، وهو لهذا السبب بالذات يتلقى من المجتمع علاوة لزيادة هذا الإنتاج ورفعه إلى حدود التوازن مع الحاجيات الاجتماعية.
ذلك هو مظهر من مظاهر مسألة العمل الضروري اجتماعيا في النظام الرأسمالي. أما المظهر الآخر فيتصل بحركة إنتاجية العمل. وهنا أيضا لا يختلف الأمر، إلاّ من حيث إغفال الحاجات الإجتماعية، وإغفال مظهر "قيمة استخدام" الإنتاج.
في النظام الرأسمالي تكون إنتاجية العمل في حركة دائمة. يوجد دوما، بوجه الإجمال، أنواع ثلاث من المشروعات (أو الفروع الصناعية) النوع الأول يقف في المستوى الإجتماعي المتوسط للإنتاجية، والنوع الثاني متأخر فات أوانه، فاقد التوازن، إنتاجيتها أدنى من المستوى الإجتماعي المتوسط؛ والنوع الثالث رائد من الناحية التقنية، وإنتاجيته أعلى من المستوى الاجتماعي المتوسط.
ما معنى قولنا إن فرعا أو مشروعا هو فرع أو مشروع متأخر تكنولوجيا، وإن إنتاجية العمل فيه دون متوسط إنتاجية العمل؛ يمكنكم تشبيه هذا الفرع أو المشروع بصانع الأحذية الذي تحدثنا عنه قبل قليل، أي أن فرعا أو مشروعا ينفق 5 ساعات عمل لإنتاج كمية يقتضي المتوسط الاجتماعي للإنتاجية أن تنتج في 3 ساعات عمل. فالساعتان الإضافيتان من العمل قد أنفقتا بخسارة بحتة، إنهما هذر العمل الإجتماعي، وتبديد لجزء من مجموع العمل المتاح للمجتمع، ولن يدفع المجتمع أي عوض لقاء هذا الجزء من العمل المهدور. وهذا يعني أن سعر البيع في هذه الصناعة أو المشروع التي تعمل دون متوسط الإنتاجية يقترب من سعر الكلفة أو أنه قد ينخفض إلى أقل من سعر الكلفة، أي أنها تعمل بمعدل ربح ضئيل جدا، بل وقد تعمل بخسارة.
وبالمقابل، فإن مشروعا أو فرعا صناعيا يتجاوز مستوى إنتاجية المتوسط (على شاكلة صانع الأحذية الذي يستطيع إنتاج زوجي أحذية في ثلاث ساعات، بينما يكون المتوسط الإجتماعي هو زوج من الأحذية في ثلاث ساعات)، إن هذا المشروع أو الفرع الصناعي يوفر في إنفاق العمل الاجتماعي، وسينال تبعا لذلك ربحا إضافيا، أي أن الفرق بين سعر البيع وسعر التكلفة سيكون أعلى من متوسط الربح.
إن السعي وراء هذا الربح الإضافي هو بالتأكيد محرك الاقتصاد الرأسمالي كله. إن كل مشروع رأسمالي يندفع بتأثير المنافسة إلى محاولة الحصول على مزيد من الأرباح، لأنه بذلك فقط يستطيع أن يحسّن باستمرار التكنولوجيا التي يتبعها، أي يحسن إنتاجية العمل لديه. إن المشروعات كلها تندفع إذن في هذا الطريق، مما يعني أن ما كان أولا إنتاجية فوق المتوسط سينتهي إلى أن يصبح إنتاجية متوسطة. وعند ذاك يتلاشى الربح الإضافي. إن كل استراتيجية الصناعة الرأسمالية تقوم على هذا الأساس، تقوم على رغبة كل مشروع في البلد في الوصول إلى إنتاجية فوق المتوسط، بغية الحصول على ربح إضافي، مما يسبب حركة تفضي إلى تلاشي الربح الإضافي بحكم الاتجاه إلى رفع متوسط إنتاجية العمل باستمرار. وبذلك نصل إلى تساوي معدل الربح.
أصل فائض القيمة وطبيعته
ولنتساءل الآن عن فائض القيمة. إذا نظرنا إليه من زاوية النظرية الماركسية في القيمة يمكننا منذ الآن الرد على هذا التساؤل. إن فائض القيمة ليس سوى الشكل النقدي لفائض الإنتاج الاجتماعي. أي الشكل النقدي لهذا الجزء من إنتاج الكادح، يتخلى عنه دون مقابل لمالك وسائل الإنتاج.
كيف يتم عمليا هذا التخلي في المجتمع الرأسمالي؟ إنه يتم عبر التبادل، كما هو شأن كل العمليات الهامة في المجتمع الرأسمالي، التي هي دوما علاقات تبادل. إن الرأسمالي يشتري قوة العمل من العامل، ويتملك، مقابل هذا الأجر، كل الإنتاج الذي يحققه هذا العامل، كل القيمة الجديدة المنتجة التي تتقمص في قيمة هذا الإنتاج.
وتبعا لذلك في وسعنا أن نقول أن فائض القيمة هو الفرق بين القيمة التي أنتجها العامل وقيمة قوة العمل الخاصة به. ما هي قيمة قوة العمل؟ إن قوة العمل هذه سلعة في المجتمع الرأسمالي، وقيمتها ـ شأن قيمة أية سلعة أخرى- هي كمية العمل الضروري اجتماعيا لإنتاجها وتجديدها، أي نفقات إعالة (صيانة) العامل بالمعنى الواسع للكلمة. إن مفهوم الحد الأدنى، من الأجر الضروري للحياة، ومفهوم الأجر المتوسط، ليس مفهوما جامدا. بل ينطوي على حاجات تتغير مع تقدم إنتاجية العمل، حاجات تتجه بصورة عامة إلى التزايد مع تقدم التقنية، ولا يمكن بالتالي المقارنة بينها في أزمان مختلفة. إذ لا يمكن إجراء مقارنة كمية بين الحد الأدنى من الأجر الضروري للحياة عام 1830 والحد الأدنى لعام 1960، وقد تعلم ذلك بعض نظريي الحزب الشيوعي الفرنسي على حسابهم. لا يمكن إجراء مقارنة صحيحة بين سعر دراجة نارية في عام 1960 وسعر عدد من كيلوات اللحم عام 1830 لنخلص إلى أن قيمة الدراجة اقل من قيمة كيلوات اللحم.
بعد أن عرفنا ذلك، نعود فنكرر أن نفقات صيانة العمل تكون إذن قيمة قوة العمل، وإن فائض القيمة يكون الفرق بين القيمة التي أنتجتها قوة العمل والنفقات اللازمة لصيانتها.
إن القيمة التي تنتجها قوة العمل يمكن قياسها فقط بمدة هذا العمل. وإذا عمل عامل 10 ساعات، فإنه يكون قد أنتج قيمة 10 ساعات عمل. وإذا كانت نفقات صيانة العامل تبلغ أيضا 10 ساعات عمل، فلن يكون ثمة فائض قيمة. وليس هذا إلا حالة خاصة لقاعدة أعم: ليس ثمة فائض إنتاج اجتماعي عندما يكون مجموع ناتج العمل مساويا للناتج الضروري لتغذية وبقاء المنتج.
بيد أن درجة إنتاجية العمل، في النظام الرأسمالي، هي بحيث أن نفقات إدامة العمل تكون دوما أدنى من كمية العمل الجديدة المنتجة. أي أن العامل الذي يعمل 10 ساعات لا يحتاج إلى ما يقابل 10 ساعات عمل للاستمرار في الحياة، تبعا لمتوسط حاجات الفترة التي يعيش فيها. وما يقابل الأجر لا يشكل دوما إلاّ جزءا فقط من يوم العمل، وفائض القيمة هو ما يفوق هذا الجزء، أي أنه العمل المجاني الذي يبذله العامل ويتملكه الرأسمالي دون أي مقابل. وأساسا لو لم يكن هذا الفرق موجودا لما استخدم أي رب عمل عاملاً، لأن شراء قوة العمل لن يجلب له آنذاك أي ربح.
صحة نظرية فائض القيمة
وفي الختام نورد ثلاثة براهين تقليدية على نظرية فائض القيمة.البرهان الأول تحليلي، أو، إذا شئتم، تحليل سعر كل سلعة إلى عناصرها الأساسية، الذي يبين أننا إذا تعمقنا بما يكفي فلن نجد إلاّ العمل.
إن سعر جميع السلع يمكن رده إلى عدد من العناصر: اهتلاك الآلات والأبنية، وهو ما نسميه تجديد رأس المال الثابت؛ ثمن المواد الأولية والمنتجات الثانوية المساعدة؛ الأجر؛ وأخيرا كل ما هو فائض قيمة: ربح، فوائد، إيجارات، ضرائب وسواها.
إننا نعلم، فيما يختص بالعنصرين الأخيرين:الأجر وفائض القيمة، أنها عمل وعمل بحت. وفيما يتعلق بالمواد الأولية، فإن معظم أثمانها يمكن رده إلى حد كبير إلى عمل خالص، وعلى سبيل المثال فإن أكثر من 60% من ثمن كلفة الفحم تتكون من أجور. وإذا حللنا، بداءة، متوسط أثمان كلفة البضائع إلى 40% أجور و20% فائض قيمة و30% مواد أولية و10% رأسمال ثابت، وافترضنا أن 60% من ثمن كلفة المواد الأولية يمكن ردها إلى عمل، يصبح 78% من مجموع أثمان الكلفة مرده إلى عمل. إن المتبقى من ثمن كلفة المواد الأولية يمكن رده إلى ثمن مواد أولية أخرى -ترتد بدورها إلى 60% عمل- وثمن اهتلاك الآلات. إن قيمة الآلات تنطوي في جزء هام منها على عمل (مثلا 40%) ومواد أولية (مثلا 40% أيضا). وبذلك ينتقل نصيب العمل في متوسط ثمن البضائع كلها على التوالي من 83% إلى 87% إلى 89.5%، الخ. ومن البديهي أننا كلما تابعنا هذا التحليل، اتجه الثمن كله إلى أن يرتد إلى عمل، وعمل وحسب.
أما البرهان الثاني فبرهان منطقي، وهو الذي نجده في مستهل مؤلف "رأس المال" لكارل ماركس، وقد التبس فهمه على عدد غير قليل من القراء، لأن ماركس لم يتبع بالتأكيد الأسلوب التربوي المبسط لمعالجة المسألة.
يطرح ماركس السؤال التالي: ثمة عدد كبير من السلع. هذه السلع يمكن تبادلها، مما يعني أنه ينبغي أن تتوافر فيها صفة مشتركة، لأن كل ما يمكن تبادله يمكن أن يُقارن، وكل ما يمكن أن يقارن ينبغي أن تتوافر له صفة واحدة مشتركة على الأقل. إن الأشياء، التي ليس لها صفة مشتركة هي بحكم تعريفها لا يمكن المقارنة بينها.
لننظر إلى كل من هذه السلع. ما هي صفاتها؟ إنها تنطوي أولا على جملة من الصفات الطبيعية: وزن، طول، كثافة، لون، عرض، طبيعة جزيئية، باختصار جميع الصفات الطبيعية، فيزيائية وكيماوية.. الخ. هل يمكن أن تقوم قابليتها للمقارنة باعتبارها سلعا على أساس واحدة ما من هذه الصفات المادية، هل يمكن لمثل هذه الصفة أن تكون المقياس المشترك لقيمتها في التبادل؟ من الواضح أن الجواب بالنفي لأن قيمة كيلو من السمن ليست مماثلة لقيمة كيلو من الذهب. هل هو الحجم؟ أم الطول؟ إن الأمثلة تبرهن مباشرة أن لا. الخلاصة أن كل ما هو صفة طبيعية لسلعة ما، كل ما هو صفة فيزيائية أو كيماوية لهذه السلعة، يحدد فعلا قيمة استخدامها، منفعتها النسبية، ولكن لا يحدد قيمتها في التبادل. إن قيمة التبادل ينبغي أن تصرف النظر عن كل ما هو صفة طبيعية، مادية السلعة.
ينبغي أن نجد في هذه السلع صفة مشتركة لا تكون مادية. ويخلص ماركس: إن الصفة المشتركة الوحيدة بين هذه البضائع، وهي صفة غير مادية، هي كونها جميعا منتجات العمل البشري، العمل البشري مأخوذا بالمعنى المجرد للكلمة.
إن العمل البشري يمكن النظر إليه بأسلوبين مختلفين. يمكن النظر إليه كعمل مشخص، نوعي: عمل الخباز، عمل الجزار، عمل الحذاء، عمل النساج، وعمل الحداد وسوى ذلك. بيد أننا ما دمنا نعتبره عملا نوعيا مشخصاً، فإنما ننظر إليه على وجه التحديد كعمل لا ينتج سوى قيم استخدام.
عند ذاك يؤخذ في نظر الاعتبار على وجه التحديد جميع الصفات التي هي مادية والتي لا يمكن المقارنة على أساسها بين السلع. إن الشيء الوحيد الذي تنطوي عليه السلع مما يمكن المقارنة بينها من وجهة نظر قيمة التبادل، هو أنها جميعا نتاج العمل البشري المجرد، بمعنى أنها نتاج منتجين، يرتبطون فيما بينهم بعلاقات تقوم على التكافؤ، مبنية على أنهم ينتجون جميعا سلعا من أجل التبادل. إن الصفة المشتركة بين السلع التي تمدنا بمقياس لقيمتها في التبادل، لإمكان تبادلها، هي إذن كونها حصيلة العمل البشري المجرد. إن نوعية العمل الضروري اجتماعيا لإنتاج السلع هي بالتالي التي تحدد قيمة تبادلها.
ولنضف مباشرة أن محاكمة ماركس هذه هي مجردة وصعبة إلى حد ما بآن واحد، وإنها تفضي إلى التساؤل حاول نقاد للماركسية، لا يقعون تحت حصر، استخدامه دون جدوى على أية حال!
هل حقا أن كون السلع نتاج العمل البشري المجرد هو الصفة المشتركة الوحيدة بينها، بصرف النظر عن صفاتها الطبيعية؟ لقد ظن عدد غير قليل من المؤلفين أنهم اكتشفوا صفات أخرى، ولكنهم انساقوا بشكل عام إلى أن ينتهوا إما إلى صفات مادية أو إلى كون البضائع نتاج العمل المجرد.
أما البرهان الثالث والأخير على صحة نظرية فائض القيمة، فهو البرهان بالاستحالة، وهو أكثر البراهين طرافة و"أحدثها".
لنتخيل لحظة مجتمعا اضمحل فيه العمل البشري الحي كليا، أي أن الإنتاج كله أصبح مؤتمتا 100%. ومن المفهوم أننا ما دمنا في مرحلة انتقالية وهي التي نشهدها حاليا، والتي يوجد فيها عمل مؤتمت كليا، أي أن بعض المعامل لا تستخدم عملا قط، بينما توجد معامل أخرى يستمر استخدام البشر فيها، فليس من مشكلة نظرية خاصة مطروحة، بل مجرد مسألة انتقال فائض القيمة من مشروع إلى آخر. إنها تطبيق لقانون تساوي معدل الربح الذي سندرسه في المرحلة الثانية.
ولكن لنتخيل هذه الحركة وقد وصلت إلى نتيجتها القصوى، فأصبح العمل البشري مستبعدا كليا من جميع أشكال الإنتاج، ومن جميع أشكال الخدمات. هل يمكن في هذه الشروط أن تستمر القيمة؟ ما الذي يكون عليه مجتمع ليس فيه شخص يكتسب دخولا، ولكن البضائع تبقى ذات قيمة وتباع؟ مثل هذا الوضع غير معقول بداهة، إذ تنتج كتلة ضخمة من المنتجات لا يولد إنتاجها أي دخل، ما دام ليس ثمة شخص يتدخل في هذا الإنتاج. ومع ذلك يراد "بيع" هذه المنتجات التي لن يوجد لها أي مشتر! من البديهي أن توزيع المنتجات، في مثل هذا المجتمع، لن يجري بشكل بيع سلع، بيع يغدو غير معقول بسبب الوفرة التي نشأت عن الأتمتة الشاملة.
وبعبارة أخرى، ان مجتمعا يلغي فيه دور العمل البشري في الإنتاج إلغاء كليا، بالمعنى الواسع للكلمة، بما فيها الخدمات، هو مجتمع تتلاشى فيه قيمة التبادل بالتبعية. إن هذا يبرهن على صحة النظرية، فحينما يتلاشى العمل البشري من الإنتاج، تتلاشى معه القيمة.









 


قديم 2009-03-01, 23:16   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
alger1787
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية alger1787
 

 

 
الأوسمة
مميزي المجلة الاقتصادية - الرتبة الأولى - 
إحصائية العضو










افتراضي

بارك الله فيك أخي s.hocine
مشكووووووووووور










 

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 12:14

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2023 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc