*** مسلك القرآن الكريم في إثبات البعث *** - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم الكتاب و السنة

قسم الكتاب و السنة تعرض فيه جميع ما يتعلق بعلوم الوحيين من أصول التفسير و مصطلح الحديث ..

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

*** مسلك القرآن الكريم في إثبات البعث ***

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2009-01-26, 02:03   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
عمي صالح
مشرف عام
 
الصورة الرمزية عمي صالح
 

 

 
الأوسمة
المشرف المميز **وسام تقدير** وسام أفضل خاطرة المرتبة  الثانية وسام التميز وسام الحضور المميز في منتدى الأسرة و المجتمع وسام الحفظ 
إحصائية العضو










Flower2 *** مسلك القرآن الكريم في إثبات البعث ***

مسلك القرآن الكريم في إثبات البعث
بـــــــــــــــــــــــــــسم الله الرحـــــــــــــــــــــــــمن الـــــــــــــــــــــــــــــرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:
الـــــــــــــــــــــسلام عــــــــــــــــليكم ورحــــــــــــــمة الله وبـــــــــــــــــركاته
المؤلف: علي بن محمد بن ناصر الفقيهي
نبذة عنه:
قال المؤلف: لما كانت قضية البعث والحساب، وإعادة الحياة إلى الموتى بعد تفتت تلك الأجساد واختلاطها بأجزاء الأرض، من معضلات العقيدة، شأنها في ذلك شأن قضية الوحدانية، في الغرابة والاستبعاد ... لذلك فقد سلك القرآن الكريم لإثباتها مسالك مختلفة في طريقة العرض والاستدلال، فتارة يذكر الشبهة ثم يرد عليها، وأخرى يذكر الدليل أولا وبعد استقامته يورد القضية، وحيناً يخبر عن وقوع ذلك البعث والحساب خبرا قاطعا، مع طي الدليل لوضوحه. وقد تجلى مسلك القرآن الكريم في عرضه للقضية بأسلوبه الفطري السهل الواضح؛ لأنه خطاب للفطرة البشرية بما هو في متناول إدراكها وقد عنى القرآن الكريم بقضية البعث عنايته بقضية الوحدانية، فكما تعددت الآيات الدالة على إثبات الوجود الإلهي ووحدانيته فقد كثرت الآيات التي تقرر البعث. وتؤكد وقوعه.
وقد تم إعداده بثلاث صيغ: صيغة ملف تنفيذي (
exe ) ، وصيغة ملف مساعدة ( chm ) ، وصيغة ( bok ) الخاصة بالموسوعة الشاملة، كما تم توثيقه بترقيم الصفحات ليوافق المطبوع.
رابـــــــــط منتــــــــديات الجــــــــلفة

ص -65- ... مسلك القرآن الكريم
في إثبات البعث
د.علي بن محمد بن جبر الفقيهي
تمهيد:
خلق الله العباد لطاعته، وكلفهم بعبادته، كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (سورة الذاريات آية 56)، وقد رسم لهم سبيل الخير، كما بين لهم طرق الشر، ولما كانت الطبيعة البشرية فيها الاستعداد لقبول الخير والشر، كما قال تعالى {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها} (سورة الشمس آية 7- 8) فقد يطغى جانب الشر أحيانا على جانب الخير، استجابة لداعي الشهوة الموجودة في الطبيعة البشرية، فهي غالبا ما تجنح بصاحبها إلى تعدي الحدود التي يتحتم على المرء ألا يتجاوزها، فيوقع الظلم على الآخرين.
وواقع الحال يبين لنا أن كثيرا ممن ارتكبوا تلك الجرائم في حق غيرهم، وأوقعوا الظلم بالآخرين قد غادروا هذه الحياة الدنيا، ولم ينل المظلوم حقه منهم، مع العلم بأن كل ذلك واقع بعلم الله القوي القادر السميع البصير، الذي يمهل ولا يهمل، والذي حرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرما.
ولما كان الظالم والمظلوم قد غادرا هذه الحياة الدنيا، ولم يأخذ المظلوم حقه من ظالمه ولما كانت عدالة الله تعالى تقتضي القصاص، وأن يأخذ المظلوم حقه من الظالم كان لا بد من حياة أخرى، غير هذه الحياة، يتم فيها تقاضي الحقوق بين العباد ويقتص فيها للمظلوم من

(1/2)
ص -66- ... الظالم. هذه الحياة هي التي تكون في الآخرة، حين يبعث الله الناس من قبورهم، {يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون} (المعارج آية 43) ولذا كان من المحتم على المرء الاعتقاد، بوقوعه وتحققه. وهذا أمر يرشد إليه العقل، و يحتمه المنطق، وتدل عليه النصوص الدينية، قال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون} (المؤمنون آية 115).
وقال تعالى: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} (القيامة الآيات من 36- 40).
لكن كثيرا من الناس قد ضلوا في هذا الباب، فقصرت عقولهم عن إدراك هذا المعنى فأنكروا البعث بعد الموت، بلا دليل، سوى أنه استبعدوا وقوعه بعد تفتت الأجساد وتمزقها.

(1/3)
قضية البعث:
ولما كانت قضية البعث والحساب، وإعادة الحياة إلى الموتى بعد تفتت تلك الأجساد واختلاطها بأجزاء الأرض، من معضلات العقيدة، شأنها في ذلك شأن قضية الوحدانية، في الغرابة والاستبعاد، وقد اقتضى هذا الاستبعاد تعجب المنكرين للبعث ووقوعه، ممن يقولون به، ويؤمنون بوقوعه؛ قال تعالى -مبينا وموضحا تعجب هؤلاء المنكرين-: {ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد} (ق آية 1- 3).
لذلك فقد سلك القرآن الكريم لإثباتها مسالك مختلفة في طريقة العرض والاستدلال، فتارة يذكر الشبهة ثم يرد عليها، وأخرى يذكر الدليل أولا وبعد استقامته يورد القضية، وحينا يخبر عن وقوع ذلك البعث والحساب خبرا قاطعا، مع طي الدليل لوضوحه.
وقد تجلى مسلك القرآن الكريم في عرضه للقضية بأسلوبه الفطري السهل الواضح؛ لأنه خطاب للفطرة البشرية بما هو في متناول إدراكها وقد عنى القرآن الكريم بقضية البعث عنايته بقضية الوحدانية، فكما تعددت الآيات الدالة على إثبات الوجود الإلهي ووحدانيته فقد كثرت الآيات التي تقرر البعث. وتؤكد وقوعه.
وأعظم حجة لدى المنكرين للبعث، والأحرى أن نسميها أعظم شبهة لديهم هي:
استبعاد إعادة الأجسام بعد تمزقها، وتفتتها، ثم اختلاطها بأجزاء الأرض، إذ تصبح متصورة

(1/4)
ص -67- ... بصورة التراب، فكيف يمكن إعادتها إلى حالتها التي كانت عليها من قبل!؟
هذا أمر غريب على عقول المنكرين، وعجيب في نفس الوقت عندهم، والحديث عنه خرافة، والمتحدث به، إما مفتر على الله الكذب، وإما مجنون سلب عقله، فخيل له جنونه ذلك الحديث وأجراه على لسانه.
وقد عبر شاعرهم عن ذلك الإنكار، مبينا أن الحديث عنه خرافة بقوله:
حياة ثم موت ثم نشر ... حديث خرافة يا أم عمرو
أيوعدني ابن كبشه أن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام1

(1/5)
ويقول الحق جل شأنه، مخبرا عن ذلك الجحود العنيد والإنكار الشديد، ونسبتهم إلى قائله الجنون، أو الكذب والافتراء على الله: {وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب} (سبأ آية 7- 9).
فقد عجب كفار قريش من هذا الحديث الذي لم تستوعبه عقولهم، فظنوا أن هذا الإيجاد عبث لأن الحديث عن بعث هذه الأجسام لمجازاتها على أعمالها في حياتها الدنيا حديث خرافة، أو حديث كذب وافتراء على الله، أو مس من جنون أصاب قائله، فأجرى على لسانه هذا الحديث العجيب الغريب، ولذا فقد انطلقوا يخاطب بعضهم بعضا، بهذا القول الذي حكاه الله عنهم، قائلين {هل ندلكم على رجل ينبئكم} أي يحدثكم أو يخبركم بما تتعجبون منه لغرابته، وهو: إنكم إذا مزقتم كل ممزق، فتفرقت أجسامكم، واختلطت بأجزاء الأرض، فأصبحتم ترابا. {إنكم} بعد ذلك كله {لفي خلق جديد}؛ أي ستخلقون خلقا جديدا فتعودون كما كنتم. ثم قالوا بعد ذلك التعجب والاستغراب: إن هذا الحديث الصادر من هذا الرجل، ما هو إلا افتراء على الله وكذب عليه، {أفترى على الله كذبا} أو أن قائله مسلوب العقل فجنونه يوهمه ذلك الأمر ويلقيه على لسانه {أم به جنة}.
وقد بين الله سبحانه وتعالى. أن الأمر ليس كما ذكروا، فليس الرسول صلى الله عليه وسلم مفتريا على الله، كما أنه لم يمسه جنون، وإنما الأمر راجع إليهم هم،

(1/6)
فعدم إيمانهم بالآخرة المترتب على عدم الإيمان بقدرة الله، هو اختلال في العقل، وغاية الضلال عن الفهم الإدراك، لقدرة الخالق وجلال حكمته
(1/7)
ص -68- ... لا سيما وأدلة القدرة على ذلك مشهودة ومعاينة، ثم ذكرهم بتلك الأدلة فقال:{ أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية} الآية: أي دلالة واضحة على قدرة الله، فكيف يستبعد عليه إعادة تلك الأجسام الضعيفة بعد تفرقها، وهو القادر على خلق هذه الآيات العظيمة، من السماء والأرض، ذلك هو دليل البعث؛ لأنه يدل على كمال القدرة، ومن المقدور عليه إعادة خلق الإنسان وإيجاده مرة أخرى، وقد قرن هذا الدليل بالتهديد حيث قال: {إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء}، ثم بين تعالى أن المنتفع بتلك الآيات كل من يرجع إلى ربه، ويتوب إليه، لا من يتمادى في عناده وتعصبه، فقال تعالى: {إن في ذلك لآية لكل عبد منيب}.
مسالك القرآن الكريم:
ذكرنا في التمهيد أن القرآن الكريم في معالجته لقضية البعث والجزاء، تارة يعرض شبهة المنكرين ثم يرد عليها، وأخرى يذكر الدليل على البعث أولا، وبعد أن يتقرر ويتضح يورد القضية، وحينا يخبر عن وقوع البعث والجزاء خبرا قاطعا مع طي الدليل لوضوحه. ولما كان القرآن الكريم قد أستوعب عددا كثيرا من الآيات التي تعالج هذا الموضوع فسنعرض نماذج منها تحت المسالك المشار إليها، إذ لا سبيل إلى استيعاب تلك الآيات كلها في هذا البحث.

(1/8)
المسلك الأول: عرض الشبهة ثم الرد عليها:
أشرنا في التمهيد إلى أن أعظم شبهة عند المنكرين للبعث، هي شبهة الاستبعاد، فقد قالوا: كيف يمكن إعادة الأجسام إلى حالتها الطبيعية التي كانت عليها، بعد أن صارت ترابا؟؟ ذلك أمر غير معقول عندهم.
وفي النموذج التالي عرض لهذه الشبهة، وبيان لإنكارهم وتعجبهم ممن يؤمنون بالبعث، ثم دحض لتلك الشبهة، وبيان لزيفها بالأدلة الواضحة البينة المشهودة.
يقول الله تعالى حاكيا عن المشركين استبعادهم وقوع البعث بعد الموت، وعدم
إمكانه، وتعجبهم من شأنه وشأن القائل به:
{ق والقرآن المجيد}.
{بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب}.

(1/9)
ص -69- ... {أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد} (ق. آية ا- 3).
يقسم تبارك وتعالى بالقرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي هو تنزيل من حكيم حميد، وجواب القسم هو مضمون الكلام الآتي بعد القسم، وهو إثبات النبوة، وإثبات المعاد وتقريره وتحقيقه1 ، ثم يحكي تعجب المشركين من أن يأتيهم منذر منهم، أي بشر من جنسهم، ولم يكون من جنس آخر كالملائكة مثلا ؟
ثم يتبع ذلك بما هو أعجب عندهم من دعوى النبوة، وهو إخبار الرسول لهم، بأن بعد هذه الحياة الدنيا حياة أخرى، وهي بعثهم من قبورهم أحياء، مرة ثانية، للحساب والجزاء على الأعمال الكائنة منهم في تلك الحياة الماضية، إذ كيف يمكن وقوع ذلك الحساب بعد ما تمزقت الأجسام وتفرقت بحيث أصبحت ترابا؟؟.
إن القول برجعة تلك الأجسام مرة أخرى أمر مستبعد، ومستحيل في اعتقادهم،
{أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد}.
لكن هذه الاستحالة وذلك الاستبعاد الذي يعبرون عنه بالنسبة لمن ؟؟
هل يكون بالنسبة للقدرة الإلهية التي إذا أرادت الشيء قالت له كن فيكون في نفس اللحظة من غير توقف على شيء آخر أصلا؟؟.
أو يكون بالنسبة لقدرهم العاجزة؟؟
الواقع أنهم يعبرون بذلك عن أنفسهم، ويستبعدون البعث ووقوعه ظنا منهم أن قدرة الله تشبه قدرتهم، فقاسوا قدرة الله على قدرتهم، وقياس الغائب على الشاهد باطل في نظر العقلاء، ولذلك صور الله عز وجل هذا الظن الخاطئ في قوله تعالى: {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم} (يس آية- 78)، ولذا فقد استعظمت عقولهم هذا الأمر، وجعلته في حكم المستحيل، و إلا فلو نظروا بغير هذه النظرة القاصرة، وتأملوا في أنفسهم في مبدأ خلقهم ، وفيما بين أيديهم من الآيات الدالة على القدرة الإلهية التي لا يعجزها شيء متى ما أرادته لما صدر منهم هذا القول المنكر.
وبعد ذكره

(1/10)
تعالى للشبهة التي يتكئون عليها يبدأ في الرد عليهم فيقول:
{قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ}.
{بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج}.

(1/11)
ص -70- ... أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج}.
{والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج}.
{تبصرة وذكرى لكل عبد منيب}.
{ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد}.
{والنخل باسقات لها طلع نضيد}.
{رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج} (ق الآيات من 4- 11).
فنراه تبارك وتعالى يحشد في هذه الآيات عددا من الأدلة، المعنوية منها والحسية المشاهدة، التي تخاطب العقل وتستثير الوجدان.
أ- الأدلة المعنوية (العقلية):
بين سبحانه وتعالى في الآية الأولى، أنه لا مكان لهذا الجحد، ولا وجه لذلك الاستبعاد، فإعادة الأجسام إلى ما كانت عليه أولا، بعد تمزقها واختلاطها بأجزاء الأرض من الأمور اليسيرة على القدرة الإلهية، ذلك أن إعادة الشيء المتفرق أجزاء، أو المستحيل عن صورته إلى صورة أخرى، كتحول الجسم البشري إلى صورة التراب مثلا، يتوقف على أمرين:
أحدهما: العلم بتلك الأجزاء المتفرقة، أو بتلك الصورة المستحيلة عن صورتها الأصلية.
ثانيهما: القدرة على إعادة تلك الأجزاء- أو تلك الصورة إلى حالتها السابقة وقد أوضحت الآية الكريمة أن علم الله شامل ومحيط، فهو تعالى يعلم أين ذهبت تلك الأجزاء وكيف تفرقت فقد عم علمه جميع الكائنات، صغيرها وكبيرها، حتى انتهى إلى حيث علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى، وتأكل من لحومهم وعظامهم، فإذا كان ذلك معلوما لله تعالى، ومكتوبا ومحفوظا، كما قال تعالى {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ} فكيف يستبعد عليه إعادتهم -بعد حالتهم تلك- أحياء كما كانوا ؟!.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله

(1/12)
عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: ما بين النفختين أربعون، قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يوما، قال: أبيت. قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت قالوا: أربعون شهرا ؟ قال: أبيت. ويبلى كل شيء من الإنسان

(1/13)
ص -71- ... إلا عجب ذنبه فيه يركب الخلق 1 .
فدل الحديث على نقص جسم الإنسان وتحلله، وذهابه في الأرض، إلا ذلك الجزء وهو عجب الذنب، الذي قيل أنه كحبة الخردل 2 ، وفيه يركب الإنسان، فيبقى بعينه، والحديث على ظاهره عند جمهور العلماء. وقد خالف المزني فقال: إن ((إلا)) بمعنى الواو، أي وعجب الذنب أيضا يبلى. ورد قوله هذا بما جاء مصرحا به في رواية مسلم من أن الأرض لا تأكله أبدا. ونص الرواية في صحيح مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن في الإنسان عظما لا تأكله الأرض أبدا فيه يركب يوم القيامة" قالوا: أي عظم هو؟ يا رسول الله قال: "عجب الذنب" 3 ذاك دليل العلم.
أما دليل القدرة على الإعادة، فقد بينته الآيات التالية لهذه الآية، وهى الآيات المشتملة على الأدلة الحسية المشاهدة، كخلق السماء، والأرض، فالقادر على خلقهما مع عظمهما، قادر على إعادة الإنسان الضعيف من باب أولى، ثم إن الإعادة للمعدوم الممكن، من الأمور الممكنة عقلا.
فالعقل لا يمنع من أن من قدر على إيجاد الشيء أولا، قادر على إعادته بعد عدمه ثانيا فإن ذلك من الأمور الممكنة التي لا يستطيع العقل السليم إنكارها.
وبعد أن بين الله لهم شمول علمه، وإحاطته بالجزئيات والكليات -إذ أن العالم بجزئيات الأشياء لا تخفى عليه كلياتها- بين لهم سبب اضطرابهم في أمر البعث وأنه تكذيبهم للحق الذي جاءهم من خلقهم، إذ الأخبار عنه حق، والمخبر به صادق قال تعالى {بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج} أي مضطرب غير مستقر.

(1/14)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محمد بن إسماعيل البخاري صحيح البخاري كتاب التفسير باب ونفخ في الصور ... رقم الحديث 4814 من فتح الباري ج 8 ص 551.
وقول أبو هريرة (( أبيت )) معناه أبيت أن أجزم بأن المراد أربعون يوما ...الخ بل الذي أجزم به أنها أربعون مجملة وذلك الذي سمعت.
وقد روى الحديث الإمام مسلم في صحيحه في/كتاب الفتن/باب 28 ما بين النفختين/رقم الحديث 141 ج4 ص227 ترقيم عبد الباقي وفيه ((ثم ينزل الله من السماء فينبتون كما ينبت البقل)) وبهذه الزيادة رواه البخاري أيضا في كتاب التفسير/باب يوم ينفخ في الصور ج8 ص689 في فتح الباري رقم الحديث 4935.
(2) جاء ذلك في حديث أبي سعيد عند الحاكم وأبي يعلى قيل يا رسول الله ما عجب الذنب؟ قال "مثل حبة خردل" والعجب بفتح المهملة وسكون الجيم بعدها موحدة ويقال له ((عجم)) بالميم أيضا عوض الباء وهو: عظم لطيف في أصل الصلب، وهو رأس العصعص، وهو مكان في رأس الذنب من ذوات الأربع فتح الباري ج8 ص552.
(3) مسلم صحيح مسلم /كتاب الفتن وأشراط الساعة/ باب ما بين النفختين رقم الحديث 143ج4ص2271 ترقيم عبد الباقي.

(1/15)
ص -72- ... ب- الأدلة الحسية: وبعد ذكره تعالى لشمول علمه واحاطته، ثم بيانه لسبب اضطرا بهم في أمر البعث، اتجه إلى نوع آخر من الأدلة، وهي الأدلة الحسية المشاهدة، الدالة على كمال قدرته سبحانه وتعالى، فقال تعالى منكرا عليهم عدم اعتبارهم بهذه الأدلة المشهودة على القدرة الإلهية: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج} فهذه السماء التي يدرجون تحتها أفلا ينظرون إلى إبداعها وحسنها، وأحكام بنائها، وما زينت به من كواكب ثابتة وسيارة، ألم يأخذوا منها دليلا على القدرة المبدعة التي لا يعجزها شيء.
وهذه الأرض التي يسعون عليها، أفلا ينظرون إليها، كيف مدت لهم وأرسيت بالجبال لئلا تضطرب بهم، وما أنبتنا فيها من الأنواع المختلفة الطعوم والأشكال رزقا للعباد قال تعالى: {والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج}، ثم بين تعالى أن هذه الآيات الكونية جميعها أوجدها تبارك وتعالى {تبصرة وذكرى} أي تبصيرا وتذكيرا {لكل عبد منيب} راجع إلى ربه متفكر في بدائع صنعه.
ثم تابع الأدلة الحسية على البعث، فضرب لهم مثلا بإحياء الأرض بعد موتها فقال:
{ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج}.
فهذا مثل ضربه الله لمنكري البعث بما يشاهدونه من حال الأرض قبل نزول المطر عليها وهى جدباء مقفرة، فحين ينزل عليها الماء تهتز وتربو فتنبت من كل زوج بهيج، أي: حسن المنظر، وذلك بعد ما كانت يابسة لإنبات فيها، فأصبحت تهتز خضراء 1 .
فهذا مثال للبعث والإحياء بعد الموت والهلاك، ولذلك يقول جل شأنه {كذلك الخروج} يقول

(1/16)
جل شأنه أي مثل ذلك الإخراج للنبات من الأرض يحيي الله الموتى فيخرجهم من قبورهم أحياء للحساب والثواب والعقاب.
فهذا المشاهد بالإحساس من آثار قدرته تعالى أعظم مما أنكره الجاحدون للبعث؛ كخلق السماء والأرض قال تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير} (الأحقاف آية 33) وإحياء الأرض بعد موتها كما قال تعالى {ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير} (فصلت آية 39).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن كثير،التفسير، ص222.

(1/17)
ص -73- ... وكما رأينا في هذا العرض لبراهين القرآن الكريم على إثبات البعث، تلك البراهين التي لا تدع مجالا للشك عند العقل الفطري السليم في إمكان وقوعه وعدم استبعاده.
فبالمقابل، ليست لدى المنكرين لوقوعه حجة يستندون إليها في إنكارهم إلا الاستبعاد المستند إلى الوهم والظن، كما قال تعالى {وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا}(الجن آية 7) إذ ليس هناك علم يقيني بامتناع البعث بعد الموت وعدم إمكانه، وإنما هناك ظن ووهم ناتج عن تكذيبهم بالحق الذي جاءهم من الله تبارك وتعالى، فالله هو الحق وقوله الحق، وليس بعد الحق إلا الضلال المبين، ولذلك فإن المكذب بالحق مضطرب ليس لديه أساس متين يستند إليه قال تعالى {بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج} أي مضطرب غير مستقر.
النموذج الثاني- من المسلك الأول:
وقد أوضحت الآيات التالية من سورة يس، ذلك الإنكار الشديد المستند إلى شبهة استبعاد إعادة الأجساد إلى حالتها الأولى بعد أن أصبحت عظاما رميما تذروها الرياح
يقول تعالى:
{خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين}.
{وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم}.
{قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم}.
{الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون}.
{أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم}.
{إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}.
{ فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون} (يس الآيات 77-83)
من 77- 83).
سبب نزول الآيات:
ذكر المفسرون

(1/18)
لهذه الآيات، أن أبي بن خلف أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم يفته ويذروه في الهواء، وهو يقول: يا محمد أتزعم أنه الله يبعث هذا ؟؟ فقال رسول الله: "نعم يميتك الله تعالى، ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار". فنزلت الآيات من آخر سورة يس.
(1/19)
ص -74- ... وفي رواية أن العاص بن وائل السهيمي، أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ففته بين يديه، فقال: يا محمد أيبعث الله هذا حيا بعد ما أرم؟؟
قال: "نعم يبعث الله هذا، ثم يميتك ثم يحييك، ثم يدخلك نار جهنم" فنزلت الآيات 1 فقد تبين لنا من أسباب النزول اعتراض بعض المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم في تقريره البعث، وقد أكدوا إنكارهم ذلك بما ضربوه من المثل لله تعالى، فكان ضروريا أن يرد عليهم إنكارهم، وأن يبطل لهم مثلهم، والآيات وإن كان سبب نزولها خاصا، فهي عامة في كل منكر للبعث، لما هو مقرر في الأصول من أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، والألف واللام في قوله {أولم ير الإنسان} للجنس فيعم كل منكر.
بينت الآيات أن استبعاد الإعادة للأجسام بعد الموت آت من إنسان لم ينظر في مبدأ خلقه أولا، إذ لو نظر في نشأته الأولى نظر تبصر واعتبار، لكفاه خلقه من نطفة، ضعيفة حقيرة، دليلا على إعادته بعد موته، فنسيانه لمبدأ خلقه من تلك النطفة هو الذي دعاه لهذا الإنكار، ثم ضربه المثل لله القادر، بقدرة الإنسان العاجز {أولم ير الإنسان} نشأته، أي ألم يعلم {أنا خلقناه} أي ابتدأنا خلقه وإيجاده {من نطفة} من مني يمنى وما أضعف النطفة وأعجزها {فإذا هو} بعد العجز والضعف إنسان قوي ناطق {خصيم مبين}؛ أي: بعد تلك الأطوار الضعيفة أصبح يخاصم ويجادل أبين جدال وأبلغ خصام، ومن ذلك خصامه وجداله في أمر البعث والجزاء، ينكر قدرة خالقه الذي أنشأه أول مرة، ويدعى عدم قدرته على إعادته ثانيا، {وضرب لنا مثلا} أي صفة غريبة عجيبة يعارض بها قدرتنا الثابتة بالدليل القاطع على إعادته، فجعل لنا مثلا ونظيرا من الخلق وقاس قدرتنا على قدرتهم، ثم بين تعالى أن سبب ذلك هو ذهوله وعدم التفاته إلى خلقه الأول فقال: {ونسي خلقه} وكان من حقه ألا ينسى فيستدل به على إمكان

(1/20)
عودته كما بدأه، ولو تأمل في ذلك لعلم أن القدرة التي سوته أولا لا يعجزها بأي حال إعادته ثانيا بعد أن صار كما يرى عظما رميما مفتتا، وأن تلك الرجعة ليست بعيدة على القوى القادر، وقد قدم قوله {ونسي خلقه} على ضرب مثله تنبيها على جهله وغبائه وغفلته، عما في نفسه وبين يديه من الأدلة، وماذا قال في مثله الذي يعتمد عليه في تأييد دعواه؟؟ (قال: من يحيى العظام وهى رميم) بالية متفتتة. فقد أتى ذلك المنكر للبعث المستبعد لوقوعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم آخذا بيده عظما رميما يفته ويذروه في الهواء، قائلا للنبي صلى الله عليه وسلم: أترى يحيى الله هذا العظم بعد ما أرم؟؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محمد بن جرير الطبري، التفسير ج 23ص 31.30. الطبعة الثانية سنة 1373هـ وابن كثير التفسير ج3 ص 581، 1954مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.

(1/21)
ص -75- ... فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم ويدخلك النار". وقد دفع سبحانه وتعالى هذه الشبهة بقوله {قل} أمر للنبي صلى الله عليه وسلم أي ذكر هذا الناسي لفطرته الدالة على حقيقة الأمر وكمال القدرة {يحييها} أي يخلق الحياة فيها {الذي أنشأها} أوجدها من العدم {أول مرة} في بدء الخلق والنشأة، فهو الذي أنشأ هذا العظم الذي تفته بيدك من نطفة ماء- لا عظم فيه، فالقادر على إنشائه أولا، ثم إحلال الحياة فيه لا يعجزه إعادته مرة أخرى، كما قال تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه..}
يقول الفخر الرازي: (ومنهم- أي المنكرين- من ذكر شبهة، وإن كانت في آخرها تعود إلى مجرد الاستبعاد، وهي على وجهين: أحدهما أنه بعد العدم لم يبق شيئا فكيف يصح على العدم الحكم بالوجود؟ وثانيها أن من تفرقت أجزاؤه في مشارق العالم ومغاربه وصار بعضه في أبدان السباع وبعضه في جدران الرباع كيف يجمع؟ بل لو أكل إنسان إنسانا آخر فكيف الإعادة ؟ وقد رد على الشبهة الأولى بقوله {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} يعني كما خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا، كذلك يعيده وإن لم يبق شيئا مذكورا.
أما الشبهة الثانية فقد أبطلها بقوله {وهو بكل خلق عليم} ثم ذكر الأجزاء الأصلية في الإنسان، والأجزاء الفضيلة، والله عالم بكل ذلك فهو يعيد كل جزء إلى صاحبه ثم يعيد فيه الحياة) 1 .
فعلم الله شامل بتفاصيل كيفيات الخلق والإيجاد- إنشاء وإعادة محيط بجميع الأجزاء المتفتتة المتبددة لكل شخص من الأشخاص أصولها وفروعها، كما قال تعالى: { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ} قادر على إعادتها على النمط السابق الذي كانت عليه كما قال تعالى: {بلى قادرين على أن نسوي بنانه} والبنان أدق شيء في الإنسان وأصغره.
ثم أتبع

(1/22)
ذلك بالأدلة المحسوسة الدالة على كمال القدرة الإلهية مبينا لهم أنه لا وجه لهذا الاستبعاد، إذ كيف يكون ذلك وبين أيديهم من الآيات الكونية الدالة على أن الخالق لا يعجزه شيء ما يكفيهم لو نظروا فيه بعين البصيرة والتأمل.
فقال تعالى {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون}.
فهذه آية عظيمة دالة على كمال القدرة الإلهية التي توجد الضد من ضده، فهذا الشجر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الفخر الرازي التفسير الكبير ج 26 ص109 الطبعة الثانية الناشر دار الكتب العلمية طهران.

(1/23)
ص -76- ... الغض الذي يقطر ماء، أحدث منه الخالق القادر هذه النار المضادة له، وهذا أمر أعجب وأغرب من إعادة الغضاضة إلى ما كان غضا فطرأت عليه اليبوسة والبلى.
كما أن هذه الآية متضمنة للرد على شبهة يوردها المنكر لإعادة الحياة بعد الموت؛ ذلك أن الموت بارد يابس، والحياة طبعها الرطوبة والحرارة، فإذا حل الموت لم يكن أن تحل فيه الحياة بعد ذلك لما بينها من التضاد.
والحقيقة أن الشبهة واهية وغير واردة على موضوع البعث أصلا، ذلك أن الممتنع هو الجمع بين الضدين في آن واحد، أي بأن يكون الجسم حيا وميتا في وقت واحد، والبعث بعد الموت ليس من هذا الباب، لأنه حياة بعد موت، لا مع موت، فحينما حل بالجسم الموت ارتفعت الحياة فبقى ميتا إلى حين وقت البعث، فلما عادت إليه الحياة مرة ثانية ارتفع الموت. فليس هناك جمع بين ضدين.
وقد تابع أدلة الرد على المنكرين للبعث والحساب، منكرا على الإنسان استبعاد وقع البعث الجسماني وإمكانه قائلا: {أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} ومتى قدر على ذلك فهو قادر على إعادة أعيانهم- ولو اتجه الإنسان مع فطرته الصحيحة التي فطره الله عليها، لأجاب بقوله {بلى} أي هو قادر على ذلك؛ لأن هذه الإجابة هي مقتضي ما يعترفون به ولا ينكرونه {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون}(سورة العنكبوت آية 61).
ولأنه تعالى {هو الخلاق العليم} أي كثير الخلق، وكثرة الخلق ناشئ عن كمال القدرة، وهو {العليم} الذي لا يخفى عليه شيء، فعلمه شامل بجزئيات الأشياء وكلياتها. كما قال تعالى {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات

(1/24)
ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين } (سورة سبأ آية 3).
وقال تعالى {فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين} (سورة الأعراف آية 7)
ثم دل على كمال قدرته ونفاذ مشيئته فقال {إنما أمره} أي شأنه، (إذا أراد شيئا من الأشياء {أن يقول له كن فيكون} أي فيحدث ما أراده من غير توقف على شيء آخر فكيف يصعب على من هذه قدرته إعادة هذا الإنسان بعد بلاه وتمزقه.

(1/25)
ص -77- ... روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه ذكر رجلا فيمن سلف أو فيمن كان قبلكم- قال كلمة1 يعني أعطاه الله مالا وولدا، فلما حضرت الوفاة قال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب. قال: فانه لم يبتئر 2 -أو لم يبتئر عند الله خيرا وإن يقدر الله عليه يعذبه، فانظروا إذا مت فأحرقوني حتى إذا صرت فحما فاسحقوني- أو قال فاسحكوني- فإذا كان يوم ريح عاصف فأذروني فيها. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: فأخذ مواثيقهم على ذلك وربي، ففعلوا ثم أذروه في يوم عاصف، فقال الله عز وجل، كن فإذا هو رجل قائم. قال الله: أي عبدي ما حملك على أن فعلت ما فعلت ؟ قال: مخافتك- أو فرق منك- قالت: فما تلافاه أن رحمه عندها، وقال مرة أخرى: فما تلافاه غيرها"، فحدثت به أبا عثمان فقال: سمعت هذا من سلمان غير أنه زاد فيه: "أذروني في البحر أو كما حدث"3.
فقد دل هذا الحديث على كمال القدرة التي لا يعجزها شيء فكل ما أراده الله عز وجل متوقف على قوله له {كن} فإذا هو كائن كما أراد.
وقد أورد ابن كثير في تفسير قوله تعالى {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}حديثا رواه الإمام أحمد عن أبى ذر رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله تعالى يقول يا عبادي كلكم مذنب إلا من عافيت فاستغفروني أغفر لكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت، إني جواد ماجد واجد، أفعل ما أشاء، عطائي كلام، وعذابي كلام، إذا أردت شيئا فإنما أقو ل له كن فيكون"4 ثم نزه نفسه عما ينسبه إليه الكافرون من العجز؛ فقال {فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون} فبيده مقاليد السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله، وإليه ترجع العباد في يوم المعاد، فيجازي كل عامل بعمله.
النموذج الثالث- من المسلك الأول:
وفي سورة الإسراء يذكر الله عز وجل تلك المحاورة بين منكري

(1/26)
البعث والرسول صلى الله عليه وسلم فيقول تعالى:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قوله قال كلمة فسرها بقوله: أعطاه الله مالا وولدا أي الكلمة التي قالها قبل ذكر القصة.
(2) لم يبتئر فسره قتادة لم يدخر.
(3) محمد إسماعيل البخاري صحيح البخاري كتاب التوحيد/باب 35 قول الله تعالى {يريدون أن يبدلوا كلام الله} من فتح الباري ج13 ص466-467 رقم الحديث 7508 ورواه في كتاب الرقاق/باب 25 الخوف من الله/من فتح الباري ج11ص312،313 رقم الحديث 6481. رواه مسلم في كتاب التوبة/باب 4 في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه رقم الحديث 25. ورواه الإمام أحمد في سند ج5 ص269.
(4) ابن كثير التفسير ج3 ص582.

(1/27)
ص -78- ... {وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا قل كونوا حجارة أو حديدا}.
{أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا}.
{يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا} (الإسراء آية 49- 52).
فقد حكى شبهة منكري البعث في الآية الأولى، تلك الشبهة هي استبعاد وقوع المعاد فإن عقولهم لم تتصور إمكان الإعادة ووقوعها، بعد تمزق الأجساد وتفرقها. وقد بين لهم عز وجل أنه لا مكان لهذا الاستبعاد، ولا مجال له مع القدرة الإلهية، ولهذا وبخهم بهذا الأسلوب التعجيزي ، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم بقوله: (قل) يا محمد مجيبا هؤلاء المنكرين لقدرتنا، على إعادة أجسامهم الضعيفة إلى حالتها الأول التي أوجدناها عليها، {كونوا حجارة أو حديدا} أو أي نوع يعظم عندكم عن قبول الحياة، لكمال المباينة، والمنافاة بينهما وبينه، فإنكم مبعوثون، ومعادون للمجازاة على أعمالكم لا محالة، ولكنهم بعدما سمعوا، أمعنوا في جحودهم، فقالوا: إذا كنا كذلك من حجارة أو حديد، (من يعيدنا)؟ فجاءهم الجواب بما هو مسلم عندهم لو عقلوا {قل الذي فطركم أول مرة}. أي هو الذي أنشأكم أولا، ولم تكونوا شيئا مذكورا، هو القادر على إعادتكم ثانيا، وأنتم تعترفون بأنه خالقكم، ومنشئكم {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ...} (الزخرف آية 87) فكيف تستبعد عليه الإعادة؟؟
غير أنهم لم يعيروا هذا الدليل اهتماما. ولذا فهم يحركون رؤسهم استهزاء وسخرية قائلين استبعادا لوقوعه (متى هو؟ ) أي متى سيكون هذا الأمر الغريب الذي تعدنا به، فبين

(1/28)
لهم سبحانه أنه قريب، ذلك لأنه آت، وكل آت قريب، {قل عسى أن يكون قريبا} وذلك يوم يدعو الله الخلائق فيستجيبون لتلك الدعوة. قال تعالى:{ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} (الروم آية 35) أي إذا أمركم بالخروج منها، فإنه لا يخالف أمره ولا يمانع، {وتظنون إن لبثتم إلا قليلا} حين تكون ما وعدتم به؛ كقوله تعالى {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} النازعات آية 46) ومثل هذه الآيات في السورة نفسها قوله تعالى: { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا أولم يروا أن
(1/29)
ص -79- ... الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا} (الإسراء آية 97- 99).
فقد أخبر تعالى في الآية الأولى عن حشر المنكرين للبعث على أقبح صورة جزاء لهم على كفرهم به تعالى، وإنكارهم لآياته وتكذيبهم لأنبيائه، ولما استعظموا إعادتهم خلقا جديدا بعد أن صاروا رفاتا؛ أي: مفتتة أجسادهم، أجابهم بما يقرون به وهو خلق السموات والأرض وهي أعظم من خلقهم، فالقادر على إيجادها قادر على إعادتهم من باب أولى، إذ القادر على خلق الأكبر، لا يعجزه خلق أو إيجاد ما هو أصغر منه في بدائه العقول {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون}(غافر آية 57) فقال { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم...} ومتى قدر على خلق مثلهم فهو قادر على إعادة أعيانهم، كما قال تعالى {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه...} (الروم آية 27).

(1/30)
المسلك الثاني: تقديم الدليل، ثم إيراد القضية بعد استقامته ووضوحه:
النموذج الأول:
يقول الله تعالى، من سورة المؤمنون: {ولقد خلقنا الأنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} (المؤمنون آية 13- 16).
في هذه الآيات قدم الله سبحانه وتعالى الاستدلال على إمكان البعث والجزاء يوم القيامة، بخلق الإنسان في أطواره المتعددة حيث خلقه من طين، والمراد به آدم عليه السلام، ثم جعل نسله، أي ولده من بعده من ماء مهين، كما قال تعالى في سورة السجدة: {الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين} (السجدة آية 7- 8).
وقيل المراد بالإنسان، الجنس في ضمن خلق آدم.
ثم شرع يبين تلك الأطوار المتعددة التي مر بها خلق الإنسان إلى أن أصبح بشرا سويا، عاقلا ناطقا فقال {ثم جعلناه نطفة} ماء، وهو المني المهين أي الممتهن {في قرار مكين} أي مستقر؛ وهو الرحم: ثم بين تحول هذه النطفة من حالة إلى أخرى، خلقها علقة، أي دما جامدا، ثم خلق العلقة مضغة لحم لا تمايز فيها، ثم خلق تلك المضغة عظاما، بأن جعلها عمودا للبدن على هيئات وأوضاع مخصوصة تقتضيها الحكمة الإلهية، ثم كسوة تلك

(1/31)
ص -80- ... العظام لحما على مقدار ما يناسب كل عضو. ويليق بهيئته حتى يكون خلق الإنسان في أحسن تقويم وأجمله، كل ذلك التحول من حالة إلى أخرى يتم في ذلك المكان المظلم الضيق، بقدرة العليم الحكيم {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث} (الزمر آية 6).
ثم تحويله إلى خلق آخر مباين للخلق الأول، مباينة ما أبعدها، فقد أصبح إنسانا حيا، سميعا بصيرا، متكلما عاقلا، بعدما كان جمادا، نقلة هائلة بين النطفة الضعيفة الميتة، وبين الإنسان الحي الناطق، فلا علاقة عقلية، ولا تلازم بينهما، اللهم إلا القدرة الإلهية، التي تقول لشيء كن فيكون؟ {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي} (الروم أية 19).
ولما كانت هذه الأطوار لخلق الإنسان، من أعظم الدلائل على القدرة الإلهية والحكمة الربانية، فقد أثنى سبحانه وتعالى على نفسه بقوله {فتبارك الله أحسن الخالقين}.
هكذا يعرض الله تبارك وتعالى، هذا الدليل على المخاطبين بحيث لا يمكنهم إنكاره لأنه من مشاهداتهم، فمن منهم لا يعرف عن كيفية خلق الإنسان شيئا، كل واحد منهم يعلم من نفسه أنه وجد على هذه الأطوار التي ذكرها القرآن الكريم، كما يعلم ذلك عن طريق مشاهداته، لوجود أبنائه، وأبناء جنسه.
وهكذا بعد أن اتضح الدليل واستقر، وهو أنه تعالى، قادر على الإنشاء و الإيجاد من العدم، أورد قضية البعث بعد الموت في يوم القيامة، فقال: {ثم إنكم بعد ذلك لميتون} أي بعد تمام خلقكم. ثم خروجكم من بطون أمهاتكم، واستيفائكم آجالكم {ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} أحياء من قبوركم، فتحاسبون على أعمالكم، وتنالون جزاءكم، قال تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل

(1/32)
أتينا بها وكفى بنا حاسبين} (الأنبياء آية 47).
2- النموذج الثاني: من المسلك الثاني:
يقول تعالى من سورة السجدة: {الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون}
{ وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون ولو ترى إذ المجرمون ناكسو

(1/33)
ص -81- ... رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون} (السجدة الآيات 7- 13)، يخبر تعالى أنه أحسن الأشياء التي خلقها فأتقنها وأحكمها، كما قال تعالى {صنع الله الذي أتقن كل شيء} ومن تلك الأشياء المخلوقة المتجلية فيها بدائع الصنعة خلق الإنسان، ثم شرع في بيان بدء خلقه فقال {وبدأ خلق الإنسان من طين}.
ويعني به خلق آدم عليه السلام كما قال تعالى {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين} ثم جعل نسله، أي قدر خلق ذريته من تلك النطفة التي تخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة مذكرا لهم بنعمه التي منحهم إياها، من السمع والبصر والعقول، كل تلك القوى التي قل شكرهم لله عليها أنشأها من تلك النطفة التي عبر عنها بالشيء الممتهن لحقارته، وبعد ذكره تعالى لنشأتهم الأولى المتمثلة في خلق أبيهم آدم. ثم بيانه لكيفية تناسلهم من بعده- وما أنعم به عليهم من القوى الظاهرة والباطنة مما يدلهم على قدرته وحكمته، أورد قضية البعث، إذ لا يعقل- إن كانوا يعقلون- أن يخلقهم الله ويعدهم هذا الإعداد عبثا، ذلك ظن الذين كفروا.
فقال: {وقالوا أإذا ضللنا في الأرض} أي اختلطت أجسامنا بعد تمزقها وتفتتها بأجزاء الأرض، من قولهم- ضل السمن في الطعام- أي اختلط به، {أإنا لفي خلق جديد} أي: أ إنا لنعود بعد تلك الحال إلى حالتنا السابقة، استبعادا منهم لذلك الأمر، وهذا الاستبعاد الذي يعبرون عنه، هو بالنسبة لقدرهم العاجزة، إذ قصرت عقولهم فظنوا أن قدرة الخالق كقدرهم كما قال تعالى حكاية عنهم {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه..} (يس آية 78).
- وضارب المثل بعضهم لكنهم متفقون على ذلك- فسبب الإنكار المستند إلى شبهة الاستبعاد ناشئ عن نسيان الخلق الأول، ولذا فالمولى عز وجل يذكرهم بتلك

(1/34)
النشأة قال تعالى حكاية عنهم {ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا} (مريم آية 66- 67).
ولو أنهم التفتوا إلى مبدأ خلقهم لعلموا أن القدرة التي أنشأتهم أولا لا يعجزها إعادتهم ثانيا.
ولما كان استبعادهم لإعادتهم للحياة مرة أخرى بعدما شاهدوا من الأدلة لا مكان له، أتبعه بالإخبار القاطع بوقوعها فقال: (قل) أمر للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: قل يا محمد مخبرا ومنذرا منكري البعث {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون} فهو إخبار قاطع بتلك الإعادة مستند إلى الدليل السابق، وهو النشأة الأولى، مؤكد بتلك الحالة التي يكونون عليها بعد رجوعهم إلى ربهم، في حالة كونهم معترفين بذنبهم، طالبين الرجوع

(1/35)
ص -82- ... إلى الحياة الدنيا مرة أخرى. ليصلحوا أعمالهم، بعد أن رأوا الخبر اليقين. قال تعالى حاكيا تلك الحالة عنهم وما يقولونه {ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم} قائلين {ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون} والله يعلم أنهم لكاذبون في دعواهم إصلاح أعمالهم إذا رجعوا للحياة مرة أخرى. قال تعالى { ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} (الأنعام آية 37- 38).
2- النموذج الثالث: من المسلك الثاني:
وفي مطلع سورة الرعد نموذج، يهز المشاعر ويستثير الوجدان، إذ يحتوى على آيات الله الكونية التي يعترف المخاطبون بأنها أنشئت بقدرة الله القوى العزيز يقول تعالى:
{ الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون}
{وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}.
{وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}.
{وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا

(1/36)
أإنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (الرعد الآيات من 2-5).
تبدأ الآيات الكريمة برسم المشاهد الكونية الدالة على القدرة الإلهية، السماء وما شملت من أفلاك، والأرض وما حوت من أنهار وجبال، وما أخرجت من ثمار، ثم التعجب من حال من ينكر البعث والحياة مرة أخرى بعد أن شاهد هذه الآيات المعروضة على العقول والأبصار، يقول تعالى:{الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها} وهو إخبار منه تعالى عن كمال القدرة وعظيم السلطان، فبأمره رفع السموات عن الأرض، هذه السموات التي لا يحيط بها البصر إدراكا، ولا يعلم مقدار سعتها وعظمتها، إلا خالقها رفعها بأمره، ويمسكها بقدرته أن تزول، مستشهدا على ذلك برؤية المخاطبين لها مرفوعة بغير عمد تسندها، محكمة البناء لا شقوق فيها ولا تصدع، فنحن نكرر النظر إليها مرات ومرات، فترجع أبصارنا كآلة من غير أن تدرك شيئا مخلا، في هذا البناء الهائل والسقف المرفوع، وإنما تدرك فيه الإبداع والاتقان

(1/37)
ص -83- ... المنبئين عن الحكمة والتدبير {ثم استوى على العرش}، والعرش من الأمور المغيبة عنا، والله هو وحده العالم بسعته وعظمته وقد استوى عليه استواء يليق بجلاله كما أخبر. وتنقلنا الآيات من معهد السماء المرفوعة بغير عمد، إلى مشهد التسخير والتقدير {وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى} فقد خلقهما بقدرته وسخرهما بإرادته يجريان، دائبين لا يفتران، إلى أجلهما المسمى، وقد خص كلا منهما بخاصته فجعل الشمس سراجا وهاجا، وجعل القمر نورا، كلاهما ترتبط بها حياة الإنسان في نفسه، وفي جميع شئون حياته اليومية والشهرية والسنوية، أمور تلمس القلوب وتخاطب المشاعر بما يحسه الإنسان ويدركه كجزء من حياته.
{يدبر الأمر} كله، فله الخلق والأمر، فمن تدبيره: خلق السموات وحفظها، ومن تدبيره وتقديره: خلق الشمس والقمر، وتسخيرهما يجريان إلى أجلهما المسمى.
{يفصل الآيات} الكونية المشاهدة الدالة على عظيم القدرة ونفاذها، والآيات الدينية المبينة للطريق السوي الذي يلزم المكلف سلوكه والحقائق الغيبية التي لابد من الإيمان بها، واعتقادها، {لعلكم بلقاء ربكم توقنون}.
{لعلكم} حين رؤيتكم لآياته الكونية المفصلة، و إدراككم لما فيها من إتقان وإحكام، دالين على قدرة من فصلها وبينها {توقنون} بأن وراء هذا التدبير المحكم مدبرا حكيما، وأن لهذا التفصيل والتوضيح مفصلا عليما حكيما لا بد من لقائه، في الحياة الأخرى. لمجازاتكم على أعمالكم، فذلك اللقاء، وتلك المجازاة، مما يوحي به ذلك التدبير والتفصيل، فالخلق يكون عبثا إن لم تكن هناك مجازاة على الإحسان والإساءة، قال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون}.
تلك مشاهد العلو الكونية، عرضت على المخاطبين، ذلك العرض الموحى بالقدرة المبدعة من ورائها، ليأخذ منها

(1/38)
الإنسان المنكر للبعث، أن خالقها، وحافظها، قادر على إعادته بعد موته.
ثم تأخذ الآيات القرآنية بيد المخاطب، إلى هذه الأرض التي يعيش عليها، قائلة، إذا لم تكتف أيها المرتاب في قدرة خالقك، بما تشاهده ببصرك من فوقك، فالتفت إلى ما تحت قدميك، وما هو مبسوط أمام عينيك، من هذه الأرض التي مدت، فوسعت، وأرسيت فاستقرت، وشقت بالأنهار الجارية. وأنبتت من كل الثمرات. ثم تعاقب الليل والنهار المستمر لما فيه سعادتك وقوام حياتك، كل هذه آيات تدعو الإنسان للتفكير فيها وفيما توحي به.

(1/39)
ص -84- ... {إن في ذلك} المتقدم ذكره من رفع السماء بلا عمد وتسخير الشمس والقمر، وخلق الأرض، ومدها وحفظها وشق أنهارها، واخرج زروعها وثمارها، {لآيات لقوم يتفكرون}.
وتمضى الآيات القرآنية، في توضيحها لآيات الله الكونية، فبعد عرضها الإجمالي لما تنبته الأرض، من أزواج الثمار المختلفة.
تعود إلى توضيح جزئية منها، لتضع المنكر للبعث أمام القدرة الإلهية، تلك الجزئية التي يشاهدها الإنسان ببصره، ويمارس عمليتها بيده، ويتذوق ثمارها بفمه، فهو دليل تبصره العين، وتلمسه اليد، ويذوقه الفم، فأي دليل أقرب وأمس بحياة الإنسان، من هذا الدليل الذي يلمسه الإنسان بنفسه، فيقول تعالى موضعا ذلك: {وفي الأرض قطع متجاورات} بعضها لاصق في بعض لا يفصل بينهما جنس غريب من غير جنسهما، {وجنات} تحمل أنواعا من الأشجار المختلفة، ففيها الأعناب، والزروع، والنخيل الصنوان وغير الصنوان، هذه الأنواع كلها {يسقى بماء واحد} إما من السماء كماء المطر- أو المستخرج من الأرض، كماء الآبار، والعيون وتنبت في تربة واحدة، وصلة الأحوال الطبيعية بها، كالحرارة والبرودة واحدة، ومع ذلك، تأتي ثمارها مختلفة الطعوم، وألوانها مختلفة الأشكال، فمن أين جاء لها ذلك الاختلاف في اللون والشكل، وتفضيل بعضها على بعض في الطعم والذوق، مع أن كل الأسباب الظاهرة واحدة؟؟.
ليس من الجواب على هذا السؤال، إلا أن ذلك من فعل الخالق العليم، والمدبر الحكيم، {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} لآيات، أي دلالات واضحات على كمال القدرة المبدعة، لمن أعمل فكره وعقله، في مخلوقات الله تعالى.
هذه الآيات الكونية، العلوية منها والسفلية، تهدي المتفكر فيها، المستعمل لعقله الفطري، الذي فطره عليه خالقه، على أنها قد أوجدت، وأحكمت، ونظمت بتدبير حكيم عليم قادر، تقتضي حكمته رجوع الخلائق إليه، وملاقاتهم له، وتدل دلالة واضحة على

(1/40)
أن من طلب دليلا غير هذه الأدلة، على قدرة الله لإعادته للحياة مرة أخرى أنه ممن يعجب من قوله، ويستهزأ من طلبه، وهكذا نرى أن الله تبارك وتعالى، بعد أن عرض هذه الأدلة على المخاطبين المنكرين للبعث، وبعد أن اتضح الدليل لديهم بما لا يدع مجالا للشك في قدرة الخالق على إعادتهم، أورد قضية البعث معجبا رسوله صلى الله عليه وسلم من الجاحدين لقدرته تعالى، على إعادتهم خلقا جديدا، بعد أن تفتت أجسامهم فصارت ترابا، فيقول جل شأنه، {وإن تعجب} يا محمد {فعجب قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد}، ولم يكن هذا الإنكار الصادر منهم لعدم الدليل على البعث، وإنما كان بسبب كفرهم المتأصل في نفوسهم.
(1/41)
ص -85- ... فاستحقوا أن يحكم الله عليهم، بعد أن أقام عليهم الحجة البالغة، بالأغلال في أعناقهم، والسلاسل يسحبون بها في النار المصاحبة لهم، المستمرة معهم، {أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} فيخلدون فيها جزاء لهم على كفرهم وعنادهم، كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها ليذوقوا العذاب.
قال تعالى: {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما} (النساء آية 56).
النموذج الرابع: من المسلك الثاني:
يقول تعالى في سورة الحج:
{يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور}. (الحج آية 5- 7).
إن أسلوب القرآن في مخاطبة الناس لإقامة حججه وبراهينه لا يختص بفئة من الناس ذات صفات معينة، ذلك لأنه يخاطب الفطرة البشرية في عموم أفرادها. وكل فرد منهم

(1/42)
يستطيع أن يأخذ من ذلك الخطاب الموجه بقدر ما أوتى من ذكاء وفطنة.
وهذه الآية الكريمة من سورة الحج تمثل هذا الأسلوب القرآني الواضح فهي تقوم على مقدمات صادقة، ترتبت عليها نتائج قطعية، مع ما تمتاز به من السهولة والوضوح في إدراك ما تضمنته من معان من غير كد ذهني أو إجهاد فكري، وذلك لبعدها عن أقيسة المناطقة وتعقيدات الفلاسفة.
يقول تعالى موجها خطابه للناس جميعا، والمقصود الذين يتشككون في أمر البعث فيستبعدون وقوعه، بعد أن تفرقت الأجسام وتلاشت فذهبت في الأرض، وصارت ترابا، يقول لهؤلاء {إن كنتم في ريب} أي في شك من قدرتنا على إعادة هذه الأجسام، المختلطة بالتراب، استبعادا لإمكان ذلك وشكا في وقوعه، فانظروا في بدء خلقكم الأول فإنا خلقناكم من تراب وذلك في ضمن خلق أبيكم آدم عليه السلام ثم جعلنا خلقكم بعده في صورة أغرب ما خلق الإنسان من تراب، فقد خلقناكم من نطفة ماء، ثم أخذت تلك النطفة أطوارها

(1/43)
ص -86- ... المتعددة وصورها المختلفة، فقد كان هذا الإنسان الجاحد لإعادته مرة أخرى، نطفة ماء، ثم تحولت تلك النطفة إلى علقة أي دم جامد ثم تحولت إلى مضغة لحم، مخلقة، أي متبينة الخلق مصورة، وغير مخلقة لم يبين خلقها وصورتها، تلك أطوار النطفة التي تمر بها في رحلتها إلا أن تصبح جنينا يتحرك في ذلك القرار المكين {من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم} قدرتنا على الخلق والإعادة، {ونقر في الأرحام} من تلك النطف بعد تمام الخلق {ما نشاء إلى أجل مسمى} وهو وقت الوضع {ثم نخرجكم طفلا} أي أطفالا تتنسمون الحياة، مزودين بجميع الوسائل اللازمة لمواجهة الحياة الجديدة على هذه الأرض من رئة يتنفس بها، ويسمع، ويبصر وأيد يبطش بها، وأرجل يمضي بها. الخ ما هنالك من صفات وأعضاء وضعها الخالق العظيم في الإنسان مما يدل دلالة قطعية على أن هذا الإنسان قد أعد إعداده هذا عن علم وحكمة، وبعد خروجه لهذه الحياة رباه خالقه بنعمه إلى أن أصبح شخصا قويا،{ثم لتبلغوا أشدكم}.
{ومنكم من يتوفى} أي فيخترم الله بالوفاة في أجله المعلوم من يشاء، ويعمر من يعمر منكم حتى يبلغ من العمر أرذله، فيرتد عقله وتصوراته ومشاعره إلى حالة الطفولة الأولى، فيجهل بعد العلم، ويضعف بعد القوة {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا}، تماما مثل يوم خلق وبرز وجوده لهذه الحياة طفلا. فالآية الكريمة تخاطب المنكر للبعث، قائلة له: إن من كانت هذه قدرته في خلقك وإنشائك، في حياتك الأولى، وفي أطوارها المتعددة التي مرت بها أيعجزها إحياؤك بعد موتك، وإعادتك بعد فنائك ؟؟
كيف يكون ذلك وهو القادر على كل شيء وهو الخلاق

(1/44)
العليم.
وبعد أن استكملت الآية الاستدلال بالعالم الإنساني في نشأته الأولى، وكيفية تنقله في أطوار خلقه المتعددة، أتبعه باستدلال آخر، يكثر ضربه في القرآن، استدلالا به على البعث؛ ذلك هو احياء الأرض بعد موتها.
فقال تعالى: {وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج}.
فهمود الأرض عبارة عن يبسها، وإقفارها من النبات، بمنزلة الذات المسلوبة الحياة، فهي ميتة يابسة، لا نبات لها.
واهتزازها وربوها وتحركها بالنبات بعد نزول المطر عليها، بمنزلة الحياة تسرى في الموات، فتنبت من كل زوج بهيجا وذلك بمنزلة خروج الأموات من قبورهم.

(1/45)
ص -87- ... وبعد أن يتقرر الدليل ويتضح لدى المخاطبين بما لا يدع مجالا للشك في قبول النتيجة يورد القضية المستدل عليها فيقول {ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير} فالله هو الموجود بذاته لذاته، ومن شأنه إحياء الموتى، فهو الذي خلق الموت والحياة. وهو القادر على الخلق بدءا وإعادة، لأنه على كل شيء قدير {وأن الساعة} وهى موعد الحياة الثانية {آتية لا ريب فيها} لوضوح دلائلها، ثم ختمت الآية بالنتيجة المطلوب، وهى القضية التي يرتاب فيها المنكرون للبعث، فقال تعالى {وأن الله يبعث من في القبور} تلك القبور التي تحتوي على أجساد الموتى، التي تفتت، ورمت، واختلطت بغيرها. ذلك أن الله تعالى قادر على إعادتها، ليوفيها الحساب على عمدها في الحياة الدنيا.
(1/46)
المسلك الثالث: هو إخبار الله تعالى بوقع البعث من غير أن يذكر الدليل على ذلك.
ذكرنا في أول هذا المبحث، أن أعظم شبهة يستند إليها منكروا البعث، هي استبعادهم إعادة الأجسام إلى ما كانت عليه، بعد أن صارت ترابا، واختلط بعضها ببعض: وعرفنا مسلك القرآن الكريم لعلاج تلك الشبهة ودحضها في المسلكين السابقين. وهما: إما أن يورد الشبهة أولا ثم يبين بطلانها بالدليل.
وإما أن يذكر الدليل على البعث والإعادة أولا، وبعد وضوحه وتقريره يورد القضية وهناك مسلك ثالث سلكه القرآن الكريم في قضية البعث، وهو أنه يذكر رأي المنكرين للبعث من غير أن يذكر شبهتهم، بل يذكر دعواهم مجردة عن الدليل، ثم ينكر القرآن على هذه الدعوى بالرفض والإبطال، ويبين أن البعث واقع لا محالة، ويؤيد هذا الوقوع بالقسم منه جل وعلا، ولعله لم يذكر الدليل في هذه الآيات، بل طواه، نظرا لأنه ذكره أكثر من مرة في آيات متعددة، وليس بلازم أن يذكر الدليل عند كل مناسبة. فإن القرآن يفسر بعضه بعضا.
وسأذكر هنا نماذج لهذا المسلك في القرآن الكريم
أولا: أقسام المنكرين للبعث بأن الله لا يبعث من يموت.
يقول تعالى في سورة النحل:
{وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (النحل الآيات من 37- 40).

(1/47)
ص -88- ... فالآية الأولى تصور لنا هذا الإنكار الشديد المؤكد بالأيمان المغلظة بأن الله لا يبعث من يموت أبدا، فنراهم يجزمون بعدم وقوع البعث. بعد الموت وينفونه نفيا قاطعا بلا شك عندهم ولا تردد، من غير أن يرد في كلامهم ما يتضمن شبهة لذلك النفي، قال تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت}.
ولعل هذا الإنكار الصادر منهم مستند إلى الشبهة الأولى، وهى شبهة استبعاد أن يعيد الله الموتى مرة ثانية ولكنها لم تذكر هنا لظهورها واستقرارها عند المنكرين.
ولما كان قولهم هذا يتضمن الطعن في الحكمة الإلهية، ونسبة العبث إلى الله في خلقه العباد وتركهم سدي، إذ يقتضي ذلك التسوية بين المحسن والمسيء وبين الخير والشر، وهما لا يستويان عند الله، كما قال تعالى: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} (الجاثية آية 31) وقال تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون} (غافر آية 58) وقال تعالى: {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون} (السجدة آية 18).
لذلك فقد رد الله عليهم شبهتهم هذه وأكد لهم أن البعث أمر محتم، لابد من وقوعه، فهو وعد عليه حقا، لابد من إنجازه، ذلك لأن الله تعالى قد وعد به، ووعده حق ثابت لابد من وقوعه، قال تعالى {بلى وعدا عليه حقا}.
وإنما كان البعث حقا وواقعا، لأن هذه الحياة الدنيا، ليست هي النهاية بل هي وسيلة إلى حياة أخرى، ومعبر يعبر عليه الإنسان إلى الحياة الباقية، كي يجازى فيها على ما عمله في هذه الحياة {ولكن أكثر الناس} وهم المنكرون للبعث لجهلهم بالله تعالى {لا يعلمون} ما

(1/48)
يتضمنه البعث من العدل بين العباد.
تم بين لهم حكمته في المعاد، فقال تعالى: {ليبين لهم الذي يختلفون فيه} ففي ذلك اليوم يظهر لكل مخالف في شيء (ما) الحق فيما خالف فيه، ويجازي فيه كل عامل على عمله، كما قال تعالى {… ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} (النجم آية 31).
{وليعلم} في ذلك اليوم {الذين كفروا} بالله وكذبوا رسله فيما أخبروهم به من البعث والجزاء على الأعمال. {أنهم كانوا كاذبين} في أيمانهم تلك التي أكدوا بها إنكارهم للبعث بعد الموت، وأن البعث واقع، والجزاء حق وعدل.

(1/49)
ص -89- ... ثم أخبر تعالى عن قدرته على ذلك. وأنه لا يخرج على مشيئته وإرادته فقال: {إنما قولنا لشيء} في الأرض أو في السماء {إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} ومن ذلك المعاد، فإذا أراد الله وقوعه، فإنما يأمر به مرة واحدة؛ إذ لا يحتاج أمره بالشيء إلى تكرار، كما قال تعالى {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} وقال مخبرا عن تلك القدرة {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} وقال الشاعر:
إذا ما أراد الله أمرا فإنما ... يقول له كن قولة فيكون 1

(1/50)
ثانيا: نفيهم مجيء الساعة، وزعمهم عدم وقوع البعث:
يقول تعالى من سورة سبأ.
{وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم} (سبأ آية 3- 3).
ويقول تعالى من سورة التغابن:
{زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير} (التغابن آية 7).
يخبر تبارك وتعالى، عن إنكار الكفار للآخرة، ذلك الإنكار الناشئ عن عدم إدراكهم لحكمة الله تعالى وتقديره، فحكمته لا تترك الناس سدى، يحسن من شاء منهم أن يحسن، ويسيء من شاء ذلك، ثم لا يجازي أحدا منهم على عمله.
ولذلك فهم ينكرون مجيء الساعة التي وعد الله بمجيئها، والتى ينال فيها كل إنسان جزاء عمله، فيقولون:{لا تأتينا الساعة} ينفون مجيئها نفيا جازما بدون دليل، مع أن مجيء ساعة، ووقتها من الأمور الغيبية وهم لا يعلمون من الغيب شيئا.
فيرد الله عليهم إنكارهم هذا ردا مؤكدا جازما، فيأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه على إتيانها ووقوعها قسما مؤكدا فيقولا: {قل} يا محمد مخاطبا هؤلاء الجاحدين للساعة النافين لمجيئها {بلى وربي لتأتينكم}فهو إخبار مؤكد بوقوعها من عالم الغيب، وقد تبع ذلك بما لله عز وجل من صفة العلم المحيطة وشاملة لما في هذا الكون كله كبيره وصغيره {عالم الغيب لا يعزب} أي لا يغيب {عنه مثقال ذرة في

(1/51)
السماوات ولا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن كثير: التفسير ج2 ص569

(1/52)
ص -90- ... في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر} فمن كان عمله محيطا بدقائق الأمور بحيث لا يخفى عليه شيء منها، كيف يعجزه إعادة الخلق إلى ما كانوا عليه مرة أخرى؟؟.
ثم بين الحكمة من البعث وقيام الساعة فقال:{ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك} المؤمنون العاملون{لهم مغفرة} لما بدر منهم، {ورزق كريم} لا من فيه ولا تعب.
كما يجازي الله الكافرين به والمكذبين لرسله الساعين للصد عن سبيله بالعذاب المهين{والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم} والرجز سوء العذاب كما قال قتادة 1.
وفي آية التغابن، يحكى الله تبارك وتعالى، إنكار الكفار للبعث بعد الموت وقد عبر عن ذلك الإنكار بالزعم، فقال {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا} أي المنكرين منهم للبعث، والزعم يشعر بعدم التأكد والجزم من القائل بما يقوله لعدم علمه من أن قوله هذا يوافق الحق والصواب، ولذلك كان الزعم كنية الكذب، كما يقوله ابن عمر 2رضي الله عنه.
وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يرد على ذلك الزعم الباطل، ويؤكد نفيه بالقسم بربه على تحقق البعث ووقوعه، ويبين لهم ما يترتب على ذلك البعث من جزاء وهو أنهم سينبؤون بما عملوا، ثم يجازون على أعمالهم التي عملوها في الدنيا، قال تعالى: {قل} يا محمد {بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير}.
ويقول ابن كثير في تفسير هذه الآية { ... قل بلى وربي لتأتينكم} ما نصه:
(هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابع لهن، مما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم، على وقوع المعاد، لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد، فإحداهن في سورة يونس عليه السلام وهي قوله تعالى: {ويستنبئونك

(1/53)
أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين}.
والثانية هذه {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم}.
والثالثة في سورة التغابن وهي قوله تعالى: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير} (التغابن آية 7).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو السعود بن محمد العمادي الحنفي، التفسير ج 4ص242
2 ابن جرير الطبري، التفسير ج28ص121

(1/54)
ص -91- ... ثالثا: الإخبار بقيامهم من قبورهم:
يقول تعالى من سورة يس:
{ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون}(يس الآيات من 31- 34).
تصور لنا هذه الآيات هذا المشهد العظيم من مشاهد يوم القيامة، وذلك حين النفخ في الصور المؤذن بانتشار الناس من القبور {ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث} هي القبور {إلى ربهم ينسلون} أي يمشون مسرعين كما قال تعالى: في سورة المعارج {يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون} (المعارج آية 43) قائلين بعد خروجهم من قبورهم {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} أي من قبورنا، التي كنا نرقد فيها، ونعتقد أننا سوف لا نخرج منها أحياء مرة أخرى أبدا، فلما ظهر صدق ما كذبوا به، قالوا: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا؟ ثم قال الله تعالى:{هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} وهذا القول… الخ. إما حكاية عن المنكرين للبعث، إذ علموا عند المعاينة أن ما أخبرتهم به الرسل صدق وحق وإما من قول المؤمنين لهم ذلك، وهذا ما اختاره ابن جرير في تفسيره الآية 1.
ثم بين تعالى أن جمع الخلائق جميعا في ذلك اليوم من الأمور اليسيرة على القدرة الإلهية فما هي إلا صيحة واحدة توجه إليهم، فإذا هم في اللحظة محضرون عند خالقهم {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} كما قال تعالى {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} (القمر آية 50). في

(1/55)
ذلك اليوم يقام ميزان العدل بين العباد فلا تظلم نفس شيئا، وإنما تجازي على عملها الذي أسلفته في حياتها الدنيا، {فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون} هذا مسلك القرآن في إثبات البعث، وسنتبعه بآراء العلماء في ذلك لا للمقارنة، وإنما ليتبين للقارئ سهولة أسلوب القرآن الكريم في مخاطبته البشرية على اختلاف مستوياتهم، لقول القائل: فبضدها تتبين الأشياء.
آراء العلماء في البعث
سأتناول هذا الموضوع بالدراسة من ناحيتين:
الأولى: ذكر آراء العلماء في حقيقة البعث، هل هو جسماني فقط، أو روحاني فقط، أو روحاني وجسماني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن جرير الطبري،التفسير. ج23ص17.

(1/56)
ص -92- ... الثانية: بيان كيفية البعث (الإعادة) عند من يقول بإعادة الأجسام.
أولا: آراء العلماء في حقيقة البعث:
بعد أن عرضنا مسلك القرآن الكريم في إثبات البعث، وهو المقصود من هذا البحث، فقد رأينا من المناسب أن نذكر أقوال العلماء في هذا الموضوع باختصار، لنرى مدى موافقة هذه الأقوال، أو مخالفتها لما جاء في القرآن الكريم في موضع البعث، فأقول وبالله التوفيق: إن الأقوال الواردة في البعث، والمذكورة في كتب العقائد الإسلامية خمسة أقوال:
الأول: ثبوت المعاد الروحاني فقط.
الثاني: ثبوت المعاد الروحاني والجسماني.
الثالث: ثبوت المعاد الجسماني فقط.
الرابع: عدم ثبوت شيء من ذلك.
الخامس: التوقف في هذه الأقسام جميعا 1
وأما القول الأول: وهو ثبوت المعاد الروحاني فقط، فهو قول الفلاسفة الإلهيين. وذلك لأن البعث عندهم، عبارة عن مفارقة النفس لبدنها. واتصالها بالعالم العقلي، الذي هو عالم المجردات. وسعادتها، وشقاوتها، إنما تكون بفضائلها النفسانية ورذائلها 2
يقول ابن سينا في كتابه: الإشارات والتنبيهات، النمط الثامن:
(والعارفون المتنزهون إذا وضع عنهم درن مقارفة البدن، وانفكوا عن الشواغل خلصوا إلى عالم القدس والسعادة، وانشغلوا بالكمال الأعلى، وحصلت لهم اللذة العليا وقد عرفتها.
وأما البله فإنهم إذا تنزهوا خلصوا من البدن إلى سعادة تليق بهم، ولعلهم لا يستغنون فيها عن معاونة جسم يكون موضوعا لتخيلات لهم، ولا يمنع أن يكون ذلك جسما سماويا، أو ما يشبهه، ولعل ذلك يفضي بهم آخر الأمر إلى الاستعداد للاتصال المسعد الذي للعارفين) 3
وأما القول الثاني: وهو ثبوت المعاد الروحاني والجسماني معا، فهو قول منسوب إلى الحليمي، والغزالي. والراغب، وأبي زيد الدبوسى، ومعمر من قدماء المعتزلة، وجمهور

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1الايجي شرح المواقف ج 8 ص 297، الطبعة الأولى سنة 1325هـ 1907م مطبعة السعادة بجوار

(1/57)
محافظة مصر
2 الايجي،شرح المواقف ج 8 ص 297
3ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، النمط الثامن ص 774-778 تحقيق د.سليمان دنيا/ملتزم الطبع والنشر دار المعارف بمصر 1960م

(1/58)
ص -93- ... من متأخري الإمامية، وكثير من الصوفية، فإنهم قالوا: إن الإنسان بالحقيقة هو النفس الناطقة، وهى المكلف، والمطيع والعاصي، والمثاب، والمعاقب، والبدن يجري منها مجرى الآلة، والنفس باقية بعد فساد البدن. فإذا أراد الله تعالى حشر الخلائق، خلق لكل واحد من الأرواح بدنا يتعلق به، ويتصرف فيه كما كان في الدنيا 1.
وأما القول الثالث: وهو ثبوت المعاد الجسماني فقط، فهذا القول منسوب لأكثر المتكلمين النافين للنفس الناطقة وهو قول أهل السنة.
وأما القول الرابع: وهو إنكار المعاد الروحاني والجسماني جميعا، فهو قول القدماء من الفلاسفة الطبيعيين.
والقول الخامس: وهو التوقف في هذه الأقسام كلها، فهو المنقول عن جالينوس، فإنه قال: لم يتبين لي أن النفس هل هي المزاج، فينعدم عند الموت فيستحيل إعادتها، أو هي جوهر باق بعد فساد البنية، فيمكن المعاد حينئذ.
هذه هي أقوال العلماء المحكية عنهم في حقيقة البعث، فما مدى موافقتها أو مخالفتها
لما جاء به القرآن الكريم في ذلك؟
نقول ومن الله التوفيق:
إن القول الرابع- وهو إنكار البعث مطلقا، والقول الخامس وهو الشك في وقوعه، فسنضرب صفحا عن الرد عليهما ومناقشتهما وذلك لأن مسلك القرآن الكريم الذي سبق أن عرضناه، فيه الكفاية، لدحض شبه المنكرين لإمكان البعث، والمتشككين في وقوعه، لأن إنكار البعث حلقة متصلة اعتنقها المكذبون لأنبيائهم من كل أمة كما قال تعالى حكاية عنهم، {بل قالوا مثل ما قال الأولون قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين} (المؤمنون: آية 81- 83).
فالشبهة واحدة ورد القرآن على طائفة واحدة، هو رد على كل طائفة منكرة للبعث، أو متشككة في وقوعه، فلو ناقشنا هذين القولين وبينا فسادهما، ووجه الرد عليهما، لاعتبر ذلك تكرار

(1/59)
لما سبق وإنما الذي سنناقشه هنا، هي الأقوال الثلاثة الأخرى، القائلة بالبعث. فهى التي يمكن أن ننظر في مدى موافقتها، أو مخالفتها لما جاء به القرآن الكريم في موضوع البعث، وسنبدأ برأي الفلاسفة حسب ترتيبنا لهذه الأقوال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1الايجي،شرح الموافق جـ8 ص 297

(1/60)
ص -94- ... أولا: رأي الفلاسفة:
أما قول الفلاسفة الإلهيين إن البعث روحاني فقط، وإنكارهم للمعاد الجسماني فلا شك في مصادمته للنصوص الشرعية الواردة في الكتاب العزيز، والثابتة في السنة النبوية، فالمنكرون للبعث الذين رد عليهم القرآن الكريم، لم ينكروا إلا إعادة هذه الأجسام بعد استحالتها ترابا. وأوردوا شبههم استبعادا لتلك الإعادة، فرد عليهم القرآن الكريم وبين لهم زيف شبهتهم، ووضح أن الإعادة ممكنة.
ثم إن كلامهم هذا يتضمن إنكار كل شيء محسوس، كالجنة والنار، والصراط والميزان. وكل الحقائق الأخروية التي أخبر الشارع عنها، ولذلك كفرهم العلماء.
وأمما قول القائلين: بأن المعاد روحاني وجسماني فإنه مبنى على القول بأن الروح جوهر مجرد ليس بجسم، ولا قوة حالة بالجسم، وإنما تتعلق بالجسم تعلق التدبير والتصرف، وأنها لا تفنى بفناء البدن، وعليه فالمعاد شيئان، جسم- وروح تعاد إليه. ولكن هل الجسم المعاد هو عين الأول أو غيره؟
الكلام الذي نقلناه عن شرح المواقف والذي نسبه إلى الحليمي. والراغب والغزالي وآخرين يوحي بأن الجسم المعاد غير الأول، نأخذ ذلك من قوله حكاية عنهم، أو نسبة إليهم: "فإذا أراد الله تعالى حصر الخلائق خلق لكل واحد من الأرواح بدنا يتعلق ويتصرف فيه كما كان في الدنيا".
وهذا القول -وإن كانت نسبته لا تصح إلى الإمام الغزالي، كما يأتي توضيح ذلك. ولا نعلم مدى صحة نسبته إلى الآخرين لعدم المراجع المتوفرة بأيدينا حاليا-. فإنه قول قد قيل ومتداول في كتب العقائد، ولذلك فإننا سنبحث الموضوع من حيث هو؛ لنبين مدى موافقته أو مخالفته لما جاء به القرآن الكريم، بغض النظر عن نسبته إلى قائله، فنقول وبالله التوفيق: إن مشكلة البعث التي عالجها القرآن بطرقه المختلفة، مع المنكرين له المستبعدين لوقوعه. هي إعادة هذه الأجسام بعينها مرة أخرى بعد أن أصبحت عظاما بالية مفتتة مختلطة اختلاطا كليا بأجزاء الأرض، كما قال تعالى

(1/61)
حكاية عنهم:
(1) {أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد}. (ق: آية 3).
(3) {وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد}.(السجدة: 10)
(3) {وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد} (سبأ: آية 7).

(1/62)
ص -95- ... فالآيات تحكى أقوالهم الصادرة منهم في إنكارهم للبعث، وإعادة الحياة بعد الموت مرة أخرى لهذه الأجسام المتفتتة، فلم تتسع عقولهم ومداركهم، لإعادة هذه العظام خلقا جديدا، بعد أن صارت ترابا، فمنهم من لم ينكروا على الله عز وجل قدرته على إيجاد خلق جديد وإنشاؤه لأنهم يعلمون أنه خالق السموات والأرض، وخالقهم وهم يشاهدون مخلوقاته تحدث باستمرار أمام أعينهم، قال تعالى:{ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله}. فالخلق والإيجاد مستمر، وإنما أنكروا الإعادة لعظام تفتت، كما قال تعالى حكاية عنهم:{وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم}. وقد أشرنا في سبب نزولها، أن أبي بن خلف جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم وهو يفته ويذروه في الهواء وهو يقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم يميتك الله تعالى ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار".
هذا ما أنكروه على الرسول صلى الله عليه وسلم واستبعدوا وقوعه، حينما دعاهم إلى الإيمان بالبعث والجزاء في اليوم الآخر، ولذلك فقد رد الله على شبههم تلك- فقال ردا على قولهم: {من يحيي العظام وهي رميم} ؟ {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم}.
وقال تعالى ردا على قولهم: {أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد} بقوله: {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ}.
وقال تعالى:{أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه} (القيامة: آية 3، 4)، وقال تعالى في سورة الحج:{ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية

(1/63)
لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور} (الحج: آية 706) وفي القبور تلك العظام المفتتة، فهو القادر على إعادتها ومما يؤكد ذلك ويزيده وضوحا، من أن المعاد هو عين الأول، لا مثله، قوله تعالى.
{ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون} (فصلت: آية 19- 33).

(1/64)
ص -96- ... فهذه الآيات تدل صراحة على أن أعضاء الإنسان، وجوارحه التي كانت في الدنيا هي نفس التي تبعث، فتشهد عليه يوم القيامة بما اقترف من سيئات متسترا عن أعين الناس، ظنا منه أن الله لا يعلم عمله ذلك. ولم يدر بخلده أن أعضاءه ستشهد عليه يوم القيامة، بكل ما اقترف في الحياة الدنيا، {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم}. ومن رحمة الله وعدله أن لا يؤاخذ عباده، إلا ببينة تشهد عليهم بما عملوا وإن كان هو يعلم السر وأخفى. ولذا فقد جعل مع كل إنسان من يدون عليه حركاته وسكناته، قال تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} (ق: آية 18).
وقال الله تعالى: {كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون} (الانفطار: آية 11- 13).
وشرط الشهادة، أن يكون الشاهد حاضرا ومطلعا على ما يشهد به؛ فدلا ذلك على أن هذه الأعضاء التي تشهد على الإنسان، هي الأعضاء الموجودة في الدنيا حين اقترف تلك الجريمة. لا أعضاء جديدة وجدت، إلا لقالب صاحبها، لخالقه: إن هذه الأعضاء لم تكن حاضرة معي في الدنيا حتى تشهد علي.
أما نسبة القول -بخلق أجسام جديدة غير التي كانت في الدنيا- إلى من أشار إليهم شارح المواقف، ومنهم الغزالي، فالذي يبدو إن نسبة هذا القول للغزالي خطأ. ذلك أن قوله صريح في أن المعاد هو عين الأول لا مثله، وما نقل عنه من القول بإعادة بدن جديد تتعلق به الروح كما هو مذكور في كتابه: تهافت الفلاسفة- فقد صرح في كتابه- الاقتصاد في الاعتقاد- أن ذلك على سبيل الإلزام منه للفلاسفة بما يعتقدون. ولا أنه هو المذهب الحق الذي يعتقده، ولكون الغزالي متهما في هذه المسألة حتى من أتباعه. فسننقل عنه ما ذكره في كتابه المشار إليه -وإن طال لبيان الحقيقة- يقوله تحت فصل- في باب قضاء العقل بما جاء الشرع به من الحشر النشر:
(أما الحشر فيعنى به إعادة

(1/65)
الخلق. وقد دلت عليه القواطع الشرعية، وهو ممكن بدليل الابتداء فإن الإعادة خلق ثان، ولا فرق بينه وبين الابتداء وإنما يسمى الإعادة بالإضافة إلى الابتداء السابق، والقادر على الإنشاء والابتداء قادر على الإعادة، وهو المعنى بقوله:{قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} فإن قيل فما تقولون ؟ أتعدم الجواهر والأعراض ثم يعادان جميعا. أو تعدم الأعراض دون الجواهر، وإنما تعاد الأعراض.
قلنا كل ذلك ممكن وليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد هذه الممكنات. وأحد الوجهين أن تعدم الأعراض ويبقى جسم الإنسان متصورا بصورة التراب -مثلا- فتكون قد زالت منه الحياة واللون والرطوبة والتركيب والهيئة وجملة من الأعراض، ويكون معنى

(1/66)
ص -97- ... إعادتها أن تعاد إليها تلك الأعراض بعينها أو تعاد إليها أمثالها، فإن العرض عندنا لا يبقى، والحياة عرض، والموجود عندنا في كل ساعة عرض آخر، والإنسان هو ذلك الإنسان باعتبار جسمها فإنه واحد، لا باعتبار أعراضها فإن كل عرض يتجدد هو غير الآخرة، فليس من شرط الإعادة فرض إعادة الأعراض، وإنما ذكرنا هذا المصير بعض الأصحاب إلى استحالة إعادة الأعراض. وذلك باطل: ولكن القول في إبطاله يطول.
والوجه الآخر: أن تعدم الأجسام أيضا، ثم تعاد الأجسام بأن تخترع مرة ثانية، فإن قيل فبم يتميز المعاد عن مثل الأول؟ وما معنى قولكم إن المعاد هو عين الأول، ولم يبق للمعدوم عين حتى تعاد ؟؟
قلنا المعدوم منقسم في علم الله إلى ما سبق له وجود، وإلى ما لم يسبق له وجود. كما أن العدم في الأزل ينقسم إلى ما سيكون له وجود، وإلى ما علم الله تعالى أنه لا يوجد، فهذا الانقسام في علم الله لا سبيل إلى إنكاره، والعلم شامل والقدرة واسعة، فمعنى الإعادة أن نبدل بالوجود العدم الذي سبق له وجود، ومعنى المثل أن يخترع الوجود لعدم لم يسبق له وجود. فهذا معنى الإعادة، ومهما قدر الجسم باقيا ورد الأمر إلى تجديد أعراض تماثل الأول حصل تصديق الشرع، ووقع الخلاص عن أشكال الإعادة، وتمييز المعاد عن المثل. وقد أطنبنا في هذه المسألة في كتابنا التهافت، ومسلكنا في أبطال مذهبهم تقرير بقاء النفس التي هي غير متحيز عندهم. وتقدير عود تدبيرها إلى البدن سواء كان ذلك البدن هو عين جسم الإنسان أو غيره، وذلك إلزام لا يوافق ما نعتقده. فإن ذلك الكتاب مصنف لإ بطال مذهبهم، لا لإثبات المذهب الحق) 1. وقد أشار إلى هذا المعنى في كتاب الأحياء ج 4 ص 213.
وأما القول الثالث: وهو أن المعاد جسماني، فقط، فهو مبنى على القول بأن الروح جسم لطيف سار في البدن. فالمعاد وهو كل من الروح والبدن جسم، فيكون المعاد جسمانيا فقط. ودليل أن الروح جسم قوله صلى الله عليه وسلم في

(1/67)
صحيح مسلم: "إن الروح إذا قبض تبعه البصر". وفي رواية أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره، قالوا: بلى. قال: فذلك حين يتبع بصره 2 نفسه" وقوله تعالى: {فادخلي في عبادي} (الفجر: آية 29).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1محمد أبي حامد الغزالي،كتاب الاقتصاد في الاعتقاد ص96.الطبعة الأولى سنة 1320هـ تصحيح مصطفى القباني الدمشقي.
2مسلم صحيح مسلم،كتاب الجنائز/باب/في إغماض الميت والدعاء له إذ حضر،و/باب/شخوص بصر الميت يتبع نفسه، رقم الحدثين 920،921.جـ 2ص 632،635. ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي.

(1/68)
ص -98- ... فدل ذلك على أن الروح جسم يرى بالعين. كما أن الدخول في الأبدان ينافى التجرد، لأن المجرد يكون داخلا في البدن- لا بكونه جزء منه ولا قوة حالة فيه، وإنما هو عبارة عما ليس بجسم، ولا قوة حالة بالجسم، بل المجرد لا مكاني فلا يقبل إشارة حسية) 1
وهذا القول الذي هو إعادة الجسم بعينه، ثم حلول الروح فيه، هو الذي دل عليه القرآن، وبين أنه واقع لا محالة، وذلك لأنه هو الذي استبعد المنكرون للبعث إمكانه.
الناحية الثانية: هل الإعادة عند القائلين بإعادة الجسم، عن عدم محض، أو عن تفريق؟
للعلماء في كيفية الإعادة بعد الموت مذهبان:
المذهب الأول: أن تنعدم أجزاء البدن انعداما كليا بحيث لا يبقى لها أثر أصلا، ثم أن الله تبارك وتعالى يعيد تلك الأجزاء بعينها بعد فنائها، ويوجدها إيجادا ثانيا، كما كانت أولا، ذلك أن الإيجاد الثاني للبدن بعد عدمه الطارئ عليه، كالإيجاد الأول، من حيث أنه ليس ممتنعا لذاته، ولا لشيء من لوازم ذاته، قال تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده}. فالموجود ثانيا، هو الموجود أولا أعيد بعينه، على وفق علمه تعالى، فهو بكل خلق عليم، وقد استدل القائلون بهذا الرأي بآيات من القرآن الكريم، كقوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه}.
وقوله تعالى: {كل من عليها فان}.
على معنى إنما الهلاك والفناء- إعدام عين الشيء وزواله، لا تغير صورته التي كان عينها في الدنيا إلى صورة أخرى مباينة لتلك الصورة.
المذهب الثاني: أن الأجزاء التي يتألف منها البدن، لا تنعدم، وإنما تتفرق فتكون متصورة بصورة التراب مثلا، وإنما الذي يزول عنها الحياة واللون، والهيئة والتركيب.
فإذا جاء يوم المعاد، جمع الله سبحانه وتعالى بقدرته تلك الأجزاء، المتفرقة وألفها تم أعادها كما كانت في الدنيا وذلك أن الأجزاء قابلة للجمع، والله سبحانه وتعالى عالم بجميع الأجزاء لأي بدن من الأبدان. لعموم علمه

(1/69)
وإحاطته بكل شيء علما قال تعالى: {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم} وقال تعالى: {وهو بكل خلق عليم} 2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1كمال الدين محمد بن محمد بن أبي شرف القدسي، شرح المسايرة ص 23
2 الايجي، شرح المواقف جـ8 ص 295،الغزالي، الاقتصاد في علم الاعتقاد ص96

(1/70)
ص -99- ... وقد استدل القائلون بهذا.. القول من القرآن الكريم بقصة إبراهيم عليه السلام، في إحياء الطير إذ كان جمعا لأجزائها بعد تفرقها. فإن إبراهيم عليه السلام قطع تلك الطيور أجزاء، كما أمره الله تبارك وتعالى، وخلط بعضها مع بعض، ثم فرقها على رؤوس الجبال المجاورة له، ثم دعاها، فاجتمع كل جزء إلى الجزء الآخر وتألفت تلك الأجزاء طيورا، كما كانت أولا، ثم جاءته حية تسعى.
موقف القرآن:
إذا نظرنا في كتاب الله الكريم، نجد آيات كثيرة تدل على القول بتفرق الأبدان ثم إعادتها إلى حالتها التي كانت عليها، فمن تلك الآيات قصة إبراهيم عليه السلام في إحياء الطير السابق ذكرها ونص الآية كما يقول تعالى:{وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم} (البقرة: آية 360) فدلت الآية على أن إحياء هذه الطيور وإعادة أجسامها كان بجمع أجزائها المتفرقة، وضم بعضها إلى بعض فإن واهب الحياة أمر إبراهيم أن يدعو تلك الطيور. فاجتمع كل جزء مع الجزء الآخر، ثم جاءته حية تسعى.
ثانيا: قصة الرجل الذي مر على القرية الخاوية على عروشها، وقد استبعد إعادتها إلى ما كانت عليه بعد مشاهدته لما حل بها إذ قال: {أنى يحيي هذه الله بعد موتها}. وقد أراه الله تعالى آياته الدالة على قدرته رؤية عيان ومشاهدة، فأماته مائة عام ثم بعثه، وأراه كيف يجمع العظام بعضها إلى بعض وهى أجزاء حماره المتفرقة عنه يمينا وشمالا، ثم كسوتها لحما بعد اجتماعها، وإعادة الحياة إليها، يقول تعالى مخبرا عن تلك الواقعة.
{أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على

(1/71)
عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} (البقرة: آية 359).
وهناك آيات تحكى عن المنكرين للبعث، وصفهم للحالة التي يصيرون إليها. كتمزق أبدانهم قطعا. وتحلل أجزائها واختلاطها بأجزاء الأرض. وصيرورتهم عظاما مفتتة، وأخرى تصف تصورهم بصورة التراب.

(1/72)
ص -100- ... ومن تلك الآيات قوله تعالى:
1-{وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد} (سبأ: آية 7).
3- { وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون} (ا لسجدة: آية 10).
3- {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم} (يس: آية 78).
4- {أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد} (ق: آية 3).
فهذه الآيات جميعا تحكي عن الجاحدين استبعادهم لإعادتهم بعد تفرق أبدانهم وتحولها عن هيئتها وتركيبها، وزوال صورتها الأصلية البشرية إلى الحالة التي وصلت إليها، إذ أصبحت أجزاء مختلطة بغيرها. وأبلغ تغير هو تحولها إلى صورة التراب بحيث لا يستطيع الإنسان تميز أجزائها من أجزائه، وليس في هذا دليل على الإعدام النهائي المطلق، وإنما هو دليل على التغير الكامل. لأنهم صاروا ترابا والتراب شيء موجود. وهو أصلهم الذي أنشئوا منه. ثم أعيدوا إليه. وأخيرا يخرجون منه تارة أخرى، يقول تعالى: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى}(طه: آية 55).
وهناك آيات أخرى هي نص صريح في موضوع الجمع، من الله تبارك وتعالى، يقول تعالى في سورة الحج. بعد ذكره دليل الإعادة.
{ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور}.
ومعلوم أن الذي في القبور أجزاء الموتى بعد أن تفتت، واختلطت بأجزاء الأرض فالله قادر على تمييزها. ثم تأليفها إعادتها إلى حالتها الأولى.
وفي سورة القيامة آيتان صريحتان في جمع أجزاء الإنسان المتفرقة. بل إنهما أقوى دليل

(1/73)
على ذلك وأبلغ دليل في تصوير القدرة الإلهية. يقول تعالى:{أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه} (القيامة آية 3).
فقد صرحت الآية بجمع عظام الإنسان المتفرقة، كما نصت على تسمية بنانه، وقد كشفت العلوم الحديثة عن هذا السر، إذ تبين أن البشرية بأسرها، قد ميز الله العليم القادر بين جميع أفرادها بميزة لا يمكن أن يشترك فيها اثنان منهم، حتى الأب مع ابنه، تلك

(1/74)
ص -101- ... الميزة هي اختلاف البنان، تلك الخطوط الدقيقة في أنامل كل إنسان. فقد ثبت علميا اختلاف بصمات أفراد البشرية في هذا العالم كله- أي اختلاف بنانهم.
وإذا كان الأمر كذلك، وقد أخبر تعالى ( أنه قادر على جمع عظام الإنسان وإعادة بنان كل فرد بهيئته وشكله وصورته، فكيف يستبعد الجاحد على من هذه قدرته، إعادته إلى الحياة مرة أخر ى.
وبالتالي فالآية نص صريح في جمع الأجزاء المتفرقة حتى أصغر جزء منها، ودليل على أن بدن الإنسان يتفرق ولا ينعدم.
الراجح من القولين:
وبعد عرض هذه الآيات من القرآن الكريم، يتبين لنا أن الأولى بالترجيح هو القول بتفرق بدن الإنسان، لا إعدامه، ذلك التفرق الذي تذهب معه الصورة الأصلية لأجزاء بدن الإنسان وتتغير تغيرا كليا، بحيث تصبح متصورة بصورة التراب، وهذا ليس معناه عدما فإن التراب موجود، وهو أصل مادة الإنسان فمنه وجد وإليه يعاد ومنه يخرج مرة أخرى. قال تعالى: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} (طه: الآية 55) إلا ما نصت السنة الصحيحة على بقائه بعينه، وعدم تحوله عن صورته.
أولا: عجب الذنب: الذي منه يركب خلق الإنسان، فقد ثبت في الصحيحين بقاؤه بعينه، وأن الأرض لا تأكله أبدا. ففي صحيح البخاري. عن أبى هريرة رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين النفختين أربعون. قالوا: أربعون يوما؟ قال: أ بيت. قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أ بيت. قالوا: أربعون سنة.؟ قال: أ بيت. ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب. ومنه يركب الخلق يوم القيامة" 1.
وفي رواية مسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الإنسان عظم لا تأكله الأرض أبدا. فيه يركب يوم القيامة. قالوا: أي عظم هو؟ يا رسول الله. قال: عجب الذنب"2.

(1/75)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1محمد بن إسماعيل البخاري.
2 صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب يوم ينفخ في صور فتأتون أفوجا ، رقم الحديث 4935،من فتح الباري جـ 8ص 689.690،ومسلم في كتاب الفتن/باب ما بين النفختين،رقم الحديث 141جـ 4ص2271 ترقيم عبد الباقي.

(1/76)
ص -102- ... ثانيا:- أجساد الأنبياء فقد حرم الله على الأرضي أن تأكلها.
فقد روى النسائي وأبو داود من حديث أوس بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم عليه السلام، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فإن صلاتكم معروضة علي قالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ أي يقولون قد بليت. قال: إن الله عز وجل. قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم السلام" 1.
ويقول ابن القيم في مفتاح دار السعادة ما ملخصه:
(( ما خلقه الله سبحانه وتعالى فقد أوجده لحكمة في إيجاده، فإذا اقتضت حكمته إعدامه جملة واحدة، أو تغييره وتحويله من صورة إلى صورة، بدله وغيره وحوله، ولم يعدمه جملة، قال: ومن فهم هذا فهم مسألة المعاد، وما جاءت به الرسل فيه، فإن القرآن والسنة، إنما دلا على تغيير العالم وتحويله وتبديله لا جعله عدما محضا وإعدامه بالكلية، فدل على تبديل الأرض غير الأرض والسموات، و على تشقق السماء وانفطارها وتكوير الشمس، وانتشار الكواكب، وسجر البحار، وإنزال المطر على أجزاء بنى آدم المختلطة بالتراب، فينبتون كما ينبت النبات، وترد تلك الأرواح بعينها، إلى تلك الأجساد التي أحيلت، ثم أنشئت نشأة أخرى... فهذا هو الذي أخبر به القرآن والسنة، ولا سبيل لأحد من الملاحدة الفلاسفة وغيرهم إلى الاعتراض على هذا المعاد الذي جاءت به الرسل بحرف واحد.
وإنما اعتراضاتهم على المعاد الذي عليه طائفة من المتكلمين أن الرسل جاؤوا به، وهو أن الله يعدم أجزاء العالم العلوي والسفلي كلها فيجعلها عدما محقا، ثم يعيد ذلك العدم وجودا، ويا ليت شعري أين في القرآن والسنة أن الله يعدم ذرات العالم وأجزاءه جملة ثم يقلب ذلك العدم وجودا.
وهذا هو المعاد الذي أنكره الفلاسفة، ورمته بأنواع الاعتراضات، وضروب الالزمات، واحتاج المتكلمون إلى تعسف الجواب وتقريره

(1/77)
بأنواع المكابرات، وأما المعاد الذي أخبرت به الرسل، فبريء من ذلك كله، مصون عنه لا مطمع لعقل في الاعتراض عليه، لا يقدح فيه شبهة واحدة وقد أخبر سبحانه أنه يحيي العظام بعد ما صارت رميما، وأنه قد علم ما تنقص

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1النسائي، سنن المجتبي، كتاب الصلاة/فضل يوم الجمعة جـ3 ص 75الطبعة الأولى 1383هـ –1964.
قال المناوي في فيض القدير، قال الحاكم على شرط البخاري، انتهى، وليس كما قال الحافظ المنذري وغيره ليس له علة دقيقة أشار أليها البخاري وغيره وعقل عنها من صححه كالننوي في الرياض والأذكار جـ2 ص 535 رقم الحديث 2480

(1/78)
ص -103- ... الأرض من لحوم بنى آدم وعظامهم، فيرد ذلك إليهم عند النشأة الثانية، وأنه ينشئ تلك الأجساد بعينها بعدما بليت نشأة أخرى، ويرد إليها تلك الأرواح... الخ 1.
وإذا كنا رجحنا القول بأن الإعادة عن تفريق، لاعن عدم محض، وأن الله عز وجل يفرق أجزاء الأجسام، ثم يعيدها، فما هو الجواب على ما استدل به القائلون بانعدام الأبدان، من قوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه}(القصص: آية 88). وقوله تعالى: {كل من عليها فان} (الرحمن: آية 26).
يرى القائلون بتفرق الأبدان أن الاستدلال بهاتين الآيتين على انعدام الأبدان كلية ضعيف. ذلك أن التفريق هلاك كالإعدام، لأن هلاك الشيء هو خروجه عن صفاته التي كان عليها وزوال التأليف والتركيب الذي به تصلح الأجزاء لأفعالها وتتم به منافعها ومثل الهلاك الفناء عرفا، فإن البدن إذا تغير بحيث أصبح ترابا، فقد صار في حكم المعدوم من حيث تغير صورته، وكل ما يمتاز به من مقوماته، وقد قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {كل من عليها فان} إنه إخبار من الله تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون، أجمعون. وكذلك أهل السماوات إلا من شاء الله، ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم فإن الرب تعالى. هو الحي الذي لا يموت. قال: وهذه الآية كقوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} 2 فعلى هذا التفسير يتضح أن المقصود من الآيتين هو موت الأحياء جميعا،وتغير صورهم، بل وصور الأشياء جميعا، كما تقدم توضيحه في كلام ابن القيم.
والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ابن القيم،مفتاح دار السعادة جـ 2ص 53
2ابن كثير، التفسير جـ 4 ص372، 373

والـــــــــــــــــــــسلام عــــــــــــــــليكم ورحــــــــــــــمة الله وبـــــــــــــــــركاته








 


آخر تعديل عمي صالح 2017-10-17 في 13:53.
رد مع اقتباس
قديم 2009-01-26, 10:29   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
homida ahmed
عضو مجتهـد
 
إحصائية العضو










افتراضي

وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته
جزاك الله عنا خير الجزاء انت منور المنتدى










رد مع اقتباس
قديم 2009-01-29, 19:00   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
عمي صالح
مشرف عام
 
الصورة الرمزية عمي صالح
 

 

 
الأوسمة
المشرف المميز **وسام تقدير** وسام أفضل خاطرة المرتبة  الثانية وسام التميز وسام الحضور المميز في منتدى الأسرة و المجتمع وسام الحفظ 
إحصائية العضو










Flower2

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة homida ahmed مشاهدة المشاركة
وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته
جزاك الله عنا خير الجزاء انت منور المنتدى












رد مع اقتباس
قديم 2009-01-30, 19:07   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
زهيرة
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية زهيرة
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

بارك الله فيك عمي صالح وجعله في ميزان حسناتك بحول الله









رد مع اقتباس
قديم 2009-02-02, 09:52   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
نايل الهضاب
مشرف سابق
 
الصورة الرمزية نايل الهضاب
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي










رد مع اقتباس
قديم 2009-02-16, 17:05   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
عمي صالح
مشرف عام
 
الصورة الرمزية عمي صالح
 

 

 
الأوسمة
المشرف المميز **وسام تقدير** وسام أفضل خاطرة المرتبة  الثانية وسام التميز وسام الحضور المميز في منتدى الأسرة و المجتمع وسام الحفظ 
إحصائية العضو










Flower2

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة zahira2008 مشاهدة المشاركة
بارك الله فيك عمي صالح وجعله في ميزان حسناتك بحول الله

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزأك الله خيرا أسعدني مرورك الكريم وملاحظاتك القيمة بارك الله فيك
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته









رد مع اقتباس
قديم 2009-02-16, 20:56   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
ليتيم الشافعي
مشرف سابق
 
الصورة الرمزية ليتيم الشافعي
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بارك الله فيك وجزاك الله خيرا.










رد مع اقتباس
قديم 2009-02-20, 10:07   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
الأخ سعيد
قدماء المنتدى
 
الصورة الرمزية الأخ سعيد
 

 

 
الأوسمة
وسام التميز وسام المصمم المحترف وسام الحضور المميز في منتدى الأسرة و المجتمع 
إحصائية العضو










افتراضي










رد مع اقتباس
قديم 2009-02-23, 20:04   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
عمي صالح
مشرف عام
 
الصورة الرمزية عمي صالح
 

 

 
الأوسمة
المشرف المميز **وسام تقدير** وسام أفضل خاطرة المرتبة  الثانية وسام التميز وسام الحضور المميز في منتدى الأسرة و المجتمع وسام الحفظ 
إحصائية العضو










Flower2

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نايل الهضاب مشاهدة المشاركة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزأك الله خيرا أسعدني مرورك الكريم وملاحظاتك القيمة بارك الله فيك
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته









رد مع اقتباس
قديم 2009-03-10, 03:44   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
عمي صالح
مشرف عام
 
الصورة الرمزية عمي صالح
 

 

 
الأوسمة
المشرف المميز **وسام تقدير** وسام أفضل خاطرة المرتبة  الثانية وسام التميز وسام الحضور المميز في منتدى الأسرة و المجتمع وسام الحفظ 
إحصائية العضو










Flower2

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ليتيم شافعى مشاهدة المشاركة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بارك الله فيك وجزاك الله خيرا.

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزأك الله خيراأسعدني مرورك الكريموملاحظاتك القيمة بارك الله فيك
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته









رد مع اقتباس
قديم 2009-03-10, 12:14   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
chouan
عضو محترف
 
الصورة الرمزية chouan
 

 

 
الأوسمة
المرتبة الثانية المرتبة الثالثة في مسابقة نبع الثقافة وسام القلم المميّز 
إحصائية العضو










افتراضي

جزا الله خيرا كل ساع إليه .










رد مع اقتباس
قديم 2009-03-14, 13:17   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
هبةالرحمان1982
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية هبةالرحمان1982
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

بارك الله فيك على الموضوع المفيد والمتميز










رد مع اقتباس
قديم 2009-03-15, 15:23   رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
bousalah1970
عضو نشيط
 
الصورة الرمزية bousalah1970
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي











رد مع اقتباس
قديم 2009-03-15, 23:20   رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
bbomar3
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية bbomar3
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

بارك الله فيك










رد مع اقتباس
قديم 2009-03-22, 02:23   رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
عمي صالح
مشرف عام
 
الصورة الرمزية عمي صالح
 

 

 
الأوسمة
المشرف المميز **وسام تقدير** وسام أفضل خاطرة المرتبة  الثانية وسام التميز وسام الحضور المميز في منتدى الأسرة و المجتمع وسام الحفظ 
إحصائية العضو










Flower2

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة said0326 مشاهدة المشاركة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزأك الله خيراأسعدني مرورك الكريموملاحظاتك القيمة بارك الله فيك
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته









رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 01:30

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2023 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc