*«•¨*•.¸¸.»منتدى طلبة اللغة العربية و آدابها «•¨*•.¸¸.»* - الصفحة 18 - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الجامعة و البحث العلمي > منتدى العلوم الإجتماعية و الانسانية > قسم الآدب و اللغات

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

*«•¨*•.¸¸.»منتدى طلبة اللغة العربية و آدابها «•¨*•.¸¸.»*

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2013-03-13, 20:48   رقم المشاركة : 256
معلومات العضو
أماني بلعلى
عضو مشارك
 
إحصائية العضو










افتراضي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيك ، الموضوع قيم . لقد استعملته كمدخل لمذكرتي التي تحمل عنوان : أثر الفحولة في الشعر العربي الجاهلي
هو موضوع ممتاز لكنه صعب نوعا ما في التركيب
وانا خائفة من المناقشة لأن المذكرة فردية .
من فضلك ساعديني









 


رد مع اقتباس
قديم 2013-03-13, 21:23   رقم المشاركة : 257
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أماني بلعلى مشاهدة المشاركة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيك ، الموضوع قيم . لقد استعملته كمدخل لمذكرتي التي تحمل عنوان : أثر الفحولة في الشعر العربي الجاهلي
هو موضوع ممتاز لكنه صعب نوعا ما في التركيب
وانا خائفة من المناقشة لأن المذكرة فردية .
من فضلك ساعديني

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

اهلا بكِ اختي الكريمة

صراحة لم افهم اي موضوع اتخذته مدخلا للمذكرة

بالنسبة لمضمونها فهو ليس بالصعب لان الشعر الجاهلي غني بخاصية الفحولة

يعني المذكرة ستكون غنية والمراجع كذلك

ان احتجت اي شيء فانا هنا

موفقة اخيتي









رد مع اقتباس
قديم 2013-03-21, 18:22   رقم المشاركة : 258
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

موضوع اعجبني فاحببت مشااركتكم به

كيف تكتب خاطرة بمجهودك


تعتبر الخاطرة فن أدبي كغيرها من الفنون الأدبية متشابهة مع القصة والرسالة في مضمونها والأسلوب الناجح لكتابتها بشكل جيد متقارب إلى حد كبير مع أساليب القصة والرسالة والقصيدة النثرية....
.وما يميز الخاطرة بأنها غير محددة برتم أو وزن موسيقي معين أو قافية ..
شلال الشعور الدافئ , وفن التعبير الأدبي هو موهبة وملكه من عند الله ولكن لا يمنع أن ننوه ببعض النقاط التي سوف تعين على معرفة أسلوب الخاطرة الناجحة

1- الوضوح في الأسلوب :
من شروط النجاح فيجب أن يكون الأسلوب واضحاً ومصدر هذا هو عقلية الكاتب بشرط أن لا يكون الوضوح تاما لأنه يسلب الإثارة والدهشة والتفاعل مع الخاطرة .. والوضوح يكون في اختيار الكلمات المؤدية للغرض بحيث تكون دقيقة .


2-العقدة والمغزى :
عندما تحوي الخاطرة هدف معين وتكون ذات معنى يكون هذا داعيا أكبر لكي تحوي الخاطرة في عمقها أحداث متسلسلة وروح حركية تحركها الحروف وتجعل القارئ ينشد لقراءتها ويعيش أجواءها وهذا يحقق أسلوب التشويق وجذب الانتباه المطلوب تواجده في كل خاطرة.

3-طريقة السرد :

فمثلا نستخدم ضمير المتكلم عندما نريد البوح والاعتراف ونستخدم أسلوب ضمير الغائب عندما نريد أن نتحدث عن هموم الغير ونشعر بأحاسيسهم فلكل سرد مزايا معينة .
4-إحياء المواقف :

فعندما تحوي الخاطرة موقف معين يجب على الكاتب أن يجعل في ذهنه
تحويل هذا الموقف عبر مرآة الحروف إلى مشهد يجعلنا نشاهده بأعيننا
وذلك باستخدام الوصف الدقيق الموجز.
5-فصل الخاطرة :

بحيث يجعلها كاتبها مقسمة ومتسلسلة إلى مقدمة يمهد لها وعرض يطرق فيه محوره الرئيسي وخاتمة مؤثرة تحوي لب وخلاصة شعوره المتدفق .


6-التناسق :
بحيث تكون الخاطرة مرتبة الأفكار وتسير في خط معين لا تحيد عنه ويتم إزالة الكلمات الزائدة التي لا تضيف شيئا للخاطرة.


7-الخيال والتصاوير والتشبيهات المجازية:

تجعل للخاطرة رونق ونكهة محببة
ومستساغة فمثلا نجعل القمر يبتسمـ والزهور تتكلمـ والنسيمـ يتراقص وهكذا.


8-العنوان:

ويجب أن يكون معبرا عن الفكرة الرئيسية ويفضل آن يكون مجرد إيحاء أو عا** لثوب الخاطرة ولا بأس أن يكون مقتبس من سياق الخاطرة على أن يكون هذا العنوان قوي التعبير وعميق المعنى ومؤثر في النفوس حتى يجذب الأنتباه.




تحياتي









رد مع اقتباس
قديم 2013-03-21, 18:25   رقم المشاركة : 259
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الأدب الإسلامي: العلامة محمد إقبال أنموذجاً


يعتبر العلامة و الفيلسوف محمد إقبال - رحمة الله عليه - رائدا مـن رواد الأدب ، و مـن أبـرز الشخصيات الاسلامية الموسوعية التي أسهمت في اثراء الفكر الإسلامي، و تقديم فكـر تجديدي لتصحيح حال المسلمين في زمن يرضخ فيه العالم الإسلامي تحت الاستعـمـار.
لقـد اهتم الكثير من الدارسين بفكر إقبال ، و فلسفته الداعية الى الوحدة الاسـلامـية ، و لـم شمل المسلمين ، و نظريته الداعية الى وطـن قـومـي للمسلمين( الأمة الاسلامية) في شبه القارة الهندية ، و التي أوضحها في خطابه ممثلا لرابطة مسلمي عموم الهند عام 1930م ، و أدت الى قيام دولة باكستان الاسلامية على يـد السيد/ محمد علي جناح في عام 1947م . و التي نجد صداها في مؤلفاته في الفكر و الفلسفة الاسلامية بالاضافة الى مؤلفاته الأدبية باللغتين الأردية و الفارسية ، حيث أنـشـد قصائده الشعرية في المحافل الدولية الأدبية و الدينية بغرض ايـقـاظ الـشعـور في قـلـوب المسلمين في كل مكان. و هو المولود في بيت عـلـم في التاسع من نوفمبر لعام 1877م في مدينة سيالكوت في شبة القارة الهندية تحت ظل الاستعمار الانجليزي ، و مـن أسرة براهمية الأصل الا أن الله شرفها بالاسلام منذ ثلاثة قرون قبل مولد اقبال ، و هاجرت الى البنجاب هربا بدينها من الاضطهاد الهندوسي ، و كان نابغـا في دراسته، وقال الشعر في سن مبكرة، وكان ينطق بالحكمة الإسلامية ، و يفتخر أن صوته من عدنان كناية عن انتسابه الى الأمة الاسلامية و لغة القرآن ، حيث يقول :
أرشد براهمة الهنود ليرفعـوا *** الإسلام فوق هياكل الأوثان
ان كان لي نغم الهنود ولحنهم *** لكن هذا الصوت من عدنان
إذا كان شعر إقبال فارسي اللغة، فإن المضمون نابع من الروح الاسلامية ، حـيث القرآن الكريم، و سيرة الرسول عـليه أفضل الصلاة و السلام ، و أمجاد الأمة الإسلامية و تاريخها المجيد ، و هي قواسم مشتركة بين الأدبين العربي و الفارسي نتيجة دخول الاسلام الى بـلاد فـارس و السنـد. و يتم دراسة أدب إقبال في عالمنا العربي مـن واقع الكتب المترجمة إلى اللغة العربية ، و ذلك بمعرفة المختصين في الأدبين العربي و الفارسي .
و أثمرت الترجمة عـن دراسات مـعـمقة في الأدب المقارن، و من أشهر الرواد في هـذا المجال العالم الدكتور عبدالوهاب عـزام – رحمة الله عليه - الذي ترجم مـن الفارسية الى العربية و نخص منها الترجمات الخاصة بمؤلفات إقبال - على سبيل المثال لا الحصر- مثل( تأملات – دعـاء – الله الصمد – الربيع – الوحدة – مختارات من ديوان ضرب الكليم - ديوان أسرار خودى). كما ترجم الشيخ الصاوى علي شعلان – رحمة الله عليه - قصائد اقبال الى العربية، و أشهرها قصيدة حديث الروح، وكان شغوفا الى درجة قوله( اسـقيني من جام أشعار إقبال) تعبيرا لحبه و تقديره لهذه الشخصية الاسلامية. و مـن الدراسات الحديثة في هـذا المجال كتاب الدكتور/ خالد عباس أسدي – باكستاني- المعنون(محمد إقبال – قصائد و دراسات). و القصائد الواردة في هـذا المقال منقولة مـنه ، حيث أرى أنـه مـن أفضل المراجع المعاصرة بسبب إتقان المؤلف للغة العربية بحكم دراسته الطـب في القاهرة . بالإضافة إلى معرفته للواقع الثقافي في شبه القارة الهندية و لغاتها و ظلالها على أدب العلامة محمد إقـبال.

ان العناصر الأساسية للإطار المعرفي في قصائد إقبال، بدءًً من البعد الديني الاسلامي، و التاريخي عربيا و اسلاميا ، و البعد الجغرافي واضح المعالم في نظريته الداعية الى وطن قومي للمسلمين (الأمة الاسلامية)، كذلك قدرته على توظيف ثقافات الشعوب، و التي هضمها أثناء مراحل دراسته الا أن الاسلام دائما ينتصر في النهاية حسب رؤيته الفلسفية و التي يؤمن بها، قصيدة حديث الروح(اذا الايمان ضاع فلا أمان / و لا دنيا لمن لم يـحى دينا ، و من رضى الحياة بغير ديـن/ فقد جعل الفناء لها قرينا ، و في التوحيد للهمم اتحاد/ و لم تبنوا العلا متفرقينا ، ألم يبعث لأمتكم نبي/ يوحَـدكم على نهج الوئام ، و مصحفكم و قبلتكم جميعا / منار للأخوة و السلام ، و فوق الكل رحمن رحيم/ إلـه واحد رب الأنام).

ان الرؤية نابعة من عـقيدته و ايمانه بالله الواحد الأحد الذي يبعث في النفس الراحة و الأمان بالتسليم و التفويض لله . و هـذه الصورة الفنـية عـن المسلم يـقـابـلهـا صـورة أخـرى للكافـر التـائـه نتيجـة التخبط في الحياة و عدم الإيمـان بالله ، و مقارنـته مع المسلم(إنما الكافر حيران/ له الآفاق تيه ، و أرى المؤمن كـونـا / تـاهـت الآفـاق فـيه). و ينقـلـنـا هـذا الأمـر إلى قراءة التجربة الشعورية بما فيها مـن الوجدان و الخواطر المفعمة بالقيم الإسلامية التي تربى عليها في نشأته الأولى في بـيت إسـلامـي تـتـوافـر فـيه الـروافـد التالية :
** القرآن الكريم .
** السنة النبوبة المطهرة.
** التاريخ الإسلامي المجيد.
** المعرفة و التجارب الإنسانية.

الرافد الأول: القرآن الكريم :
يمكن القول أن القرآن الكريم من أهم المصادر الأساسية في رؤاه و فكره حيث الصوت العدناني الذي يفخر بــه مـا هـو إلا اشــارة إلى القرآن الكريم الذي أقـبل عليه يستهلمه منذو نـشـأتـه الأولـى، وكان ان سأل اباه ، وكان عالما تقيا ورعا ، كيف تكون قراءة القرآن بالحفظ ام الفهم؟ بالجهر ام بالخفوت؟ هنالك نصحه الأب بعـبارة بسيطة قال فيها مخاطبا ابـنـه ( اقرأ القرآن كأنه قد انزل عليك)، و في رواية أخرى أن الفضل يعود الى والده حيث يقول( اعتاد أبي أن يسألني كل صباح حين يراني منكبـا أقرأ القرآن، ماذا تصنع؟ فأجيبه:أقرأ القرآن، وظل على ذلك ثلاث سنين يسأل نفس السؤال وأجيب نفس الجواب حتى كان يوماً فقلت له: ولكن لماذا تسألني عن شيء أنت أعلم بجوابه؟ فقال: إنما أردت أن أقول لك اقرأ القرآن وتعمق به واستغرق في معانيه وليست قراءة معتادة فقط ، ومنذ ذلك اليوم بدأت أتفهم القرآن وأُقبل على معانيه)، و هذا المصدر الأول في ثـقـافته نـجـد أثـره في عبارة أوجزها في كلمات إهدائة المصحف الى ملك أفغانستان / نادر شاه ، حيث كتب ( ان هذا الكتاب رأس مال أهل الحق، في ضميره الحياة و في سطوره الحق و العزة و العدل).

الرافد الثاني : السنة النبوية المطهرة :
يعتبر الحديث الشريف و السيرة النبوية المباركة ، المصدر الثاني ، حيث نجـد الكثير من العلامات و الاشارات الدالة على ذلك( نحن أزهار كثير العدد / واحدة الطيب و الرائحة/ لماذا لا أحبه و لا أحسن اليه و أنا انسان ..؟/ و قد بكى لفراقه الجذع ../ و حنت اليه سارية المسجد ../ إن تربة " المدينة " أحب إلـًى من العالم كله ../ و أنعم بمدينة فيها الحبيب). و يحدثنا عـن هذا الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة و السلام في كتابه ( إسرار خو دى ) حيث يقول( ان هذا السيد الذي داست امته تاج كسرى و قيصر كان يرقد على الحصير/ ان هذا السيد الذي نام عبيده على أسرة الملوك كان يبيت ليالي لا يكتحل بنوم)، و في مقطع أخر( اذا كان في الصلاة فعيناه تهملان دمعا / واذا كان في الحرب فسيفه يقطر دما ../ لقد فتح باب الدنيا بمفتاح الدين ../ بـأبي هو و أمى ../ لم تـلـد مثله أم ، و لم تـنجب مثـله الانسانية ..). و كل أفعال النبي عليه أفضل الصلاة و السلام ، نماذج يقتدى بها و يسير على نهجها تاريخياً و إجتماعياً ، حيث يتضمن اطاره المعرفي قصة بنت حاتم الطائي لتكون نموذجاً للسماحة الإسلامية ، بالإضافة إلى صورة الحاتمية مطرقة رأسها لتكون تعبيراً عـن حال المسلمين في عصره شرقاً و غرباً ( جاءته بنت حاتم أسيرة مقيدة سافرة الوجه خجلة مطرقة رأسها .../ فاستحيا النبي منها و ألقى عليها رداءه / و نحن "اليوم" أعرى من السيدة الطائية / نحن عراة أمام أمم العالم ../ نحن المسلمين من الحجاز و الصين و ايران و أقطار مـخـتـلـفة غيض من فيض واحد ).

الرافد الثالث: التاريخ الإسلامي المجيد :
لقد نهل اقبال روح الإسلام منذ نعومة أظفاره ، و باشراف والده معلمه الأول، الذي أدبـه بروح الاسلام ( تذكر يا بني جلال المحشر يوم تجتمع أمة خير البشر ، كن يا بني برعما مزهرا في غصن الملة المحمدية ، و كن زهرة تحيا بنسيم قليل من ربيع المصطفى)، الـزهـرة التي تنبت في بيئة إسلامية ، تكون رمـزاً لتاريخ مجيد ضارب في الأعماق ، و البـدايـة التي شكلت ثقافته و رقة الشعور و بناء الفكرة الصادقة و تـقـلد مفاتيح العلم ، و لا غـرابة في ذلك فهو ابن الاسلام و التاريخ المجيد ، حيث يقول :
قد كان هذا الكون قبل وجودنا ** روضـاً وأزهـاراً بغــير شـميم
لما أطـل محـمـداً زكـت الـربـى ** وأخضر في البستان كل هشيم
هــل أعـلن الـتوحيـد داع قـبـلنا ** وهـدى الشعوب إليك والأنـظار
رحماك رب هـل بـغـير جـباهـنا ** عـرف السجـود ببيتك المعـمور
كانت شفاف قلوبنا لك مصحفاً ** يـحـوي جـلال كتابك المسطور










رد مع اقتباس
قديم 2013-03-21, 18:38   رقم المشاركة : 260
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الأدب الإسلامي: العلامة محمد إقبال أنموذجاً
(2)

ان نظرية الأمتين في شبه القارة الهندية ، نابعة من قناعة إقبال بعقيدته الاسلامية ، و تاريخ الإسلام المجيد ، حـيـث أن العقيدة و اللغة و التاريخ المشترك عوامل أساسية لبناء الأمة ، لذلك نجد التاريخ الإسلامي من المصادر النابضة في شعر إقبال بصور فنية و معبرة عـن ذاكرة الأمة الاسلامية سواء في عـزهـا و قوتها أو تصوير حال دول الاسلام لما آلـت اليه الشعوب الاسلامية في الأنـدلس التي يقول عنها يا ظلَّ حدائق أندلسٍ/ أنسيتَ مواني عشرتنا/ وعلى أغصانك أوكارٌ/ عَمُرت بطلائع نشأتنا). و هي أشبه ما تكون بالبكائيت على الأطلال مثلما نرى ذلك في قصيدة صقلية: ( و غرناطة جنة العالمين/عروس المدائن تاج القرى/ و يوم أطاح ببغداد خطب/ أحل على الآمنين الردى/ جرى دمع سعدى بشيراز شعرا / أهاج القلوب و أدمى الحشى).
و لابد لهذه الوقفة على مدائن الاسلام أن يلحقها تذكير بدولة الاسلام حيث يقول و للعرب كانت هنا دولة/ و مثوى حضارة أم قرى/ عمالقة البيد خاضوا البحار/ فكانت لأسطولهم ملعبا)، الا أن الحقيقة تفرض عليه أن يعود الى واقعه ليختم بها قصيدة صقلية أعـود الى الهند مستعبرا/ بأنبل ذكرى لمجد خلا/ هنا قد بكيت و في الهند أبكى/ و أبكى الصديق معا و العدا / هو القدر اختارني للرثاء / سأرسله صيحة في المـلا).

الرافد الرابع: المعرفة و التجارب الإنسانية:
تعتبر البيئة الإجتماعية في شيه القارة الهندية نموذجاً مصغراً من العالم الإنساني بكافة مناشطة البشرية و الجغرافية ، و الثقافية بما في ذلك العقائد و الأديان المختلفة. و في الوقـت الذي ترزح فيه تحت الإستعمار الإنجليزي ، الذي عمل طوال فـترة و جوده على تقسيم الأرض و إضـاعـة هـوية الإنسان فيها ، و خصوصاً إذا عـلمنا أن الهدف الأساسي من المخططات إنهاء الوجود الحضاري للمسلمين و إبـعـادهـم عـن ديـنـهـم الإسـلام.

و هـذه البيئـة بـتنوعها ، سـاهمت كثيراً في تكوين ذهـنية العلامة محمد إقبال إجتماعيا و جـعـلته أكـثر وعـيـاً بها ، و أكثر تمسكاً بـدينه لأنـه إبـن الثقـافة الإسلامية بالوراثة ، و رجل علم و فلسفة و أستاذ أجيال لأنه صقل موهبته، و نهل من معين الفكر و المعرفة بالدراسة و التجربة ، حيث درس في لاهور، و حصل على درجة الماجستير في الآداب و علم الفلسفة من الكلية الاسلامية ، ثم سافر الى بريطانيا للحصول على الدرجة العلمية في الفلسفة مـن جامعة كامبردج و الدرجة العلمية في القانون من كلية لندن للعلوم السياسية ، و عمل أستاذا للغة العربية في جامعة لندن. و لم يتوقـف حتى حصل على درجة الدكتوراة من جامعة ميونيخ في ألمانيا. و كانت فترة دراسته في أوروبا سانحة ليكون داعية اسلامي و مدافعا عن المسلمين حيث ألقى العديد من المحاضرات في انجلترا عن الإسلام وعظمته.

شارك في المؤتمر الإسلامي عام 1931م ، و تشرف بزيارة القدس الشريف ملبيا دعوة السيد/ أمين الحسيني ، ممثلا لمسلمي الهند ، لأن فلسطين الجذوة التي تنطلق في أعماقه فيرى حال الاســلام و المسلمين لينشد أروع قصائده مطالبا الأمـة بالعودة الى دينها و تاريخها المجيد – قصيدة طلوع الاسلام ( ترنم أيها الشادي و اسمع/ غناءك وامح آثار الطغام / و أيقظ عالم الإسلام و اخلق/ عقاب الجو في جسم الحمام/ و قل هيا فتى الاسلام بادر/ و سر قدما الى نيل المحال / و كن لكتاب ربك ترجمانا / و برهانا لقدرة ذى الجلال )، و هـذا الطلب لا يأتي من فراغ بـل نجـد سـؤالا استنكاريا وكيف تغيرت بكم الليالي؟/ و كيف تفرقت بكم الأماني؟ / تركتم ديـن أحمـد ثم عدتم / ضحايا للهوى و الهـوانِ)، سـؤال استنكاري لابـد أن يتبعه بسؤال أخر أكثر قـوة ، و اثـارة لاشعـال جــذوة الاسـلام في نفوس أبناء الأمــة موضحا السـبب ، و هو القائل (أرى التفكير أدركه الخمول/ و لم تبق العزائم في اشتعال / و أصبح وعظكم من غير سحر/ و نور يطل من المقال/ و عند الناس فلسفة و فكر/ و لكن أين تلقين الغزالى / و جلجلة الأذان بكل أرض / و لكن أين صوت من بلال ؟؟)، و حديث الرسول علي أفضل الصلاة و السلام ( أرحنا يا بلال ) ، و لكن الأصوات التي يسمعها لا يوجد فيها صوت بلال المفعم بالايمان و القوة التي تهز أركان الأرض ، و الآذان الذي يريده رمز مـن رموز انتصاراته و فتوحاته الاسلامية و فيه يقظة الأمة نحن الذين استيقظت بأذانــهم/ دنـيا الخـلـيقـة من تـهـاويـل الكـرى، نحن الذين إذا دعوا لصلاتهـم/ و الحرب تسقى الأرض جاما أحمرا).

و الآذان رسالة تشرق في الكون، و كناية عن الدين الإسلامي الذي يقول عنه اقبال ان المؤمن اذا نادى الآفاق بأذانه أشرق العالم و استيقظ الكون/ ان الدين هو الذي ينظم الحياة / وانه لا يكتسب الا من ابراهيم و محمد عليهما الصلاة و السلام)، و يعبر عن ذلك عن أمجاد دولة الاسلام( بلغت نهاية كل أرض خيلنا/ و كأن أبحرها رمال البيد/ في محفل الأكوان كان هلالنا / بالنحر أوضح من هلال العيد / في كل موقعة رفعنا راية/ للمجد تعلن آيـة التوحيد / أمم البرايا لم تكن من قبلنا/ إلا عـبيدا في إسار عـبيد / بلغت بنا الأجيال حرياتها/ من بعد أصفاد و ذل قيود).
و من هذه الأبيات نتذكر ماضينا و تراثنا حيث اقتباس البيت الأول من قصيدة عمرو بن كلثومملئنا البر حتى ضاق عنا / و ظهر البر نملئه سفينا) ، أما البيت الأخير فهو من مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كنا قوم أذلاء فأعزنا الله بالاسلام، و هي الحقيقة التي يقرها اقبال حيث يخاطب أبناء الأمة موضحا أسباب الانحطاط في صورة فنية معبرة عن حالهم لقد فقد المسلم لوعة القلب/ وانطفأت نار الحياة فيه/ و أصبح ركاما من تراب/ فالصفوف زائغة/ و القلوب مضطربة/ و السجدة لا لذة فيها لأن قلب صاحبها خال من الحنان). و معرفة الأسباب تؤدي الى معالجتها للنهوض بالأمة، لـذلك لم يرضخ لأي من خصومه سواء فـلـسـفـيا أو أدبـيا ، حيث عاش صراعا مع المتصوفة ، و قدم فكرا لمواجهة الاستعمار الانجليزي رافضا الاستعمار و التعايش مع الهندوس ، حيـث يرى وحدته و أمته في الاسـلام. و ألمح الى فكرة قيام الدولة الاسلامية( أضحى الإسلام لنا دينا / و جميع الكون لنـا وطـنـا).

ظل طوال سنوات حياته يهتم بالمجموع ، و اهتمامه بكل ما يعيد للأمة الاسلامية مجدها و حضارتها ، لذلك أستنكر على كمال أتاتورك اسقاطه الخلافة حيث رد عليه بقصيدته المشهورة( خطاب الى مصطفى كمال باشا) في ديوانه رسالة الشرق ( بيام مشرقي) باللغة الفارسية ، حيث عبر عن حزنه على تغريب المجتمع التركي و تقليد أتاتورك للأفكار الغربية بما سماه الاصلاحات ، ليس ذلك فحسب بـل أنـتقـد عـصبة الأمـم المتحـدة في ذلك الوقـت ، و خصوصا أن العالم الذي يرزح في الاستعمار ما هو الا مساحة الأرض للأمة الاسلامية أنذاك إلا أن نجـد الصورة لا تزال حتى الآن ، فكأنما العلامة محمد إقبال ، يعيش بين ظهورنـا:
صور الغاصب عدلا ظلمه *** ما هو التفسير للعدل الجديد
زاد فـي التـحـريـر مـعـنى *** أنه يحكم القيد لتحرير العبيد
قال للطير إذا رمـت الأمان *** فاتخذ في منزل الصياد وكرا
ليس في الأجواء للطير مكان *** و لا تأمن في الصحراء نسرا

و خلاصـة القول: أن أدب العلامة محمد إقبال – رحمة الله عليه - ، مـن الرؤى التي تشكلت على أطرها أسس الأدب الأسلامي، حيث أشرقت البدايات الأولى في شبه القـارة الهندية ، و وجدت أذانا صاغية في العالم الإسلامي للإستفادة من المضامين الإسلامية ، و صياغة الأدب الإسلامي وفق الأسس التي أتبعها العلامة محمد إقبال في صياغة خطابه الأدبي :
** المضمون القرأني فـنـيـاً مـن حيـث الأسلوب و جماليات اللغة.
** المضمون النبـوي و السنة المطهرة مـن حيـث الأفـكـار و أحاديث الرسول عليه أفضل الصلاة و السلام ، و سيرته العطرة.
** المضمون الإنساني مـن حيث العلوم و التجارب الإنسانية بما في ذلك المناهج الأدبية و الرحـلات .

رحل العلامة محمد إقبال – رحمة الله عليه – من دنيانا الفانية مساء الخميس 21/2/1357هـ الموافق 21/4/1938م. و تتجدد ذكـراه كلمـا أشرقـت شمـس أبريل مـن كل عام ، أو التاسع مـن نوفـمـبر ذكرى ميلاده ، و للناس فيما يعشقون مذاهـب. هـكـذا تتجدد ذكـراه ، و أشـعـاره تنبض بين الحين و الآخر في وجـدان الأمـة ، و هـو القائل:
نفحات مضيئة لي هل تعود *** أنسيم من الحجاز يعود

ان النسيم الحجازي أول بشائر الأدب الإسلامي ، حـيث تسمو النفـس مع بارئهـا ، و بالتالي صياغة الخطاب الأدبي ليكون هـمزة وصل و تـعـارف بين الشعوب . قال تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم). سورة الحجرات – أية(13). و التواصل بين الشعوب ثقافة إسلامية عمادها القييم و المبادئ الأصيلة و التي تشكل الصورة العامة في الأدب الإسلامي مـن حيـث الرؤية بغض النظر عـن الأداة التي تختلف وفـق التنوع المكاني و أثـره على الإنسان في شتى مناشط الحياة و إنعكاس ذلك على اللغة و القييم الفنية المصاحبة لها مع الأخذ بعين الإعتبار أن التميز في نهاية الأمـر إن اكرمكم عند الله أتقاكم).

حـقـاً ، يرحل المرء ، و تظل كلماته فـواحـة متى أحسن الإختيار ، و استدل على نسيم الحـجـاز أول دلائل الأدب الإسلامي .









رد مع اقتباس
قديم 2013-03-21, 18:42   رقم المشاركة : 261
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

مفهوم الخيال عند الشعراء واشكاليته في** نظرية المحاكاة**
------------------------------------------



1_ لم يظهربشكل مستقر وثابت مفهوم الخيال من خلال الرؤى الحديثه والمثمره _ وهو انهانفعالية توليد الصوره والتي وظيفتها تصوير الحقائق الفسيه والادبيه بكافةاطيافها _ الا من فلاسفة الرومانتيكية والفيلسوف (( كانت )) ، ونجد ان النقدالقديم كان بعيدا عن هذا الفهم والمنهجية الحديثه التي نتداولها هذه الايام . حتى ان ارسطو ذلك الفيلسوف المفكر والداهية قلل من شأن الخيال وافترض وصايةالعقل والمنطق عليه حتى اني من خلال قراءاتي لافكاره والمدونه في كتبهالفلسفيه اجد انه لديه _ أي ارسطو _ اشكالية وخلط بين مفهوم الخيال والوهموشتان مابين الاثنين . الا ان مايحز في النفس ان هذه الاشكاليه انتقلت الىفلاسفة المسلمين اولا مما ادى الى ظهورها ومن ثم تأثيرها في النقدالادبيالعربي القديم .ليطالعنا ابن سينا من خلال احدى منهجيات والتي يفترض بها انالكلام المخيل (هو الذي ينفعل به المرء انفعالاً نفسانيا غير فكري ، وان كانمتيقن الكذب ) وقد كان ابن سينا يحذر من عملية الخيال بكافة فنونها واطلقعليه مجازا التخيل أي اصطناع الفكره دون ان تهطل بذاتها على الاديب وهذا ماكان يحذر منه الفيلسوف اليوناني ارسطو في اغلب دراساته ناهيك عن الكلاسيكيونوالاوروبيون
ولننظر هنا ما خطه ابن سينا في ( رسالة حي بن يقظان ) حيثيقول ( وفي حركة تطلب المعارف العليا يستعين الانسان بالعقل الفعال الذييهديه عن طريق المنطق والفلسفه ، ويفضل مصر المعارف والذي هو مصدر النفسالملكية.وهذا العقل الفعال قدسي) نجد هنا ان ابن سينا لديه مفهومه الخاص بهوهو التحذير من رفقة العقل الفعال والذي يقصد به القوى الحسية الاخرى ، ويصفابن سينا منهب التخيل قائلاً: ( واما الذي امامك فباهت مهذار ، يلفق الباطلتلفيقاً ، ويختلق الزور أختلاقاً ، ويأتيك بأخبار مالم تزود، قد درن حقهابالباطل ، وضرب صدقها بالكذب . وانك لمبتلى بانتقاد حتى ذلك من باطله والتقاطصدقه من زوره .. )
ونجد الانعكاسيه على اثر هذا المفهوم الادراكي للخيالفي النقد العربي عند عبد الظاهر فيما سماه أي الخيال بالتخييل او الايهامبالكذب ... لذا اجدني هنا انا كاتب هذه الدراسه عاجزاً عن ربط الخيال بالصورهفي النقد العربي القديم واجعله حقيقة ضرب من ضروب العبث لاستقلال كل منهمابمفهوم خاص به ومميز عن الاخر ولم يكن بينهما رابطا الا منذ عهد قريب _ فيمفهومنا الحديث _ اما فروع البلاغه والتي قد تكون لها علاقه واضحه بالصورهومتصله بها اجدها قاصره الى الان في تحديد الربط الحسي والادراكي بين الصورهوالخيال فلم اجدها عند بعض النقاد مرتبطه بشكل جلي وواضح وانما كان الاساسللاغلبية هو القدر والذي فهموه من خلال نظرية المحاكاة برؤية افلاطونيهوارسطويه ان جاز لي تسميتهما بذلك .

2_ وقد ربط النقاد العرب المحاكاةبالمجاز والذي اعني به التشبيه والاستعاره والكناية ويستحضرني هنا قول بن رشد (( والمحاكاة في الاقاويل الشعرية تكون من قبل ثلاثة اشياء : من قبل النغمالمتفقه ، ومن قبل الوزن ، ومن قبل التشبيه نفسه . وهذه قد يوجد كل واحدامنها مفردا عن صاحبه ، مثل وجود النغم في المزامير ، والوزن في الرقص ،والمحاكاة في اللفظ ... وقد تجتمع هذه الثلاثه بأسرها ، مثلما يوجد عندنا فيالنوع الذي يسمى بالموشحات والازجال . وهي الاشعار التي استنبطها في هذااللسان العربي اهل الجزيره ( الاندلس ) وهذا ماوجدته انا في استعراضي وقراءتيلملخص كتاب ( ارسطو طاليس في الشعر ) ومما اثار في نفسي الكثير من الاشكالياتواحداها اننا اذا سلمنا بقول بن رشد هنا في ان المحاكاة قد توافرت فيالموشحات والازجال ، فاننا بذلك نكون قد نسفنا او بتعبير اكثر وضوحا قوضناالنظرية اليونانية من اساسها .
ووجدت ايضا ان الفلاسفة العرب كانو يميلونبشكل كبير الى الفيلسوف اليوناني افلاطون عندما يتعرضون لمفهوم المحاكاةواشكالية مصدر الشعر وهل هو الهام ام فن والذي اعتبره افلاطون انه الهام الهيمن ربة الشعر ويستحضرني هنا قول ابي سليمان المنطقي فيما يحكيه ابو حيانالتوحيدي : (( وقد علمنا ان الصناعة الفنية تحكي الطبيعه ، وتروم اللحاق بهاوالقرب منها ، على سقوطها دونها .. وهذا راي صحيح وقول مشروح . وانما حكتها ،وتبعت رسمها ، وقصت اثرها ، لانحطاط رتبتها عنها )) .
ويتضح هنا تفسيرللعلاقه بين نوعين من الصناعه وهما الصناعه الفنيه والصناعه الطبيعيه علىاعتبار ان الطبيعه تعتبر النموذج الامثل والمحتذى به وعلى الفن ان يحاكيهولكن القصور عن محاكاته كما يقول افلاطون هو العجز عن الوقوف عند الظواهرالطبيعية _ على ان هذا القول لم يرتبط بقائله بمباديء ذات قيمه في صلتهبالشعر او حتى بالفن مما يدل على ان النص السابق ماثور عن الاوليين .
ويرىبعض نقاد الادب من العرب ان الانسان قادر على المحاكاة متاثرا بالاقدميين منقبله وهذا ما يقوله الجاحظ في (( البيان والتبيين )) : ( ولذالك زعمت الاوائلان الانسان انما قيل له : العالم الصغير سليل العالم الكبير ، لانه يصوربيديه كل صوره ، ويحكي بفمه كل حكايه .. وانما تهيأ وامكن الحاكية لجميعمخارج الامم ، لما اعطى الله الانسان من الاستطاعه والتمكين ، وحين فضله علىجميع الحيوان بالمنطق والعقل والاستقامه ) ونجد هنا ان الجاحظ يدور حول احدىمبادئ ارسطو حينما قال ان الانسان اقدر الحيوانات على المحاكاة الا ان ارسطوربط ذلك بالشعر ونشأته ونموه على ان الجاحظ استطرد في قوله مبدأ معين وهو انالانسان يملك من القدره مما يؤهله ان يحاكي مختلف الناس والحيوان .
وقداستطيع هنا ان ابين ان الشعر الغنائي وسطوته على الادب العربي كان له اثراسلبيا على النقاد العرب انذاك من محاولة استفادتهم من نظرية المحاكاة كما جرتعلى فم افلاطون وارسطو الا اننا نريد هنا ان نوضح امرا مهما للغايه وهو اننظرية المحاكاة وان كانت لم تؤثر تاثيرا بالغا في ثقافة الادباء والنقادالعرب الا اننا ومن باب العداله يجب ان نوضح هنا امرا جليا حتى لانظلم النقادالعرب من باب عدم استفادتهم من تلك النظريه وهو ان احدى البوابات المنبثقه مننظرية المحاكاة والتي اطلق عليها ارسطو فكريا صلة الشعر بالفنون الاخرى كانلها تاثيرا واضحا وهاما في ادوات الناقد العربي حيث يقول ارسطو ان الشعروالفنون الاخرى انما هي جميعا تصور لجوهر الاشياء لا مظاهرها راداً بذلك علىاستاذه افلاطون ومن هذا المنطلق نجد ان متى بن يونس ذكر ان الناس (يحاكون) بالوان واشكال كثيره ومنهم من يشبهون بالاصوات ، وكذلك بالحركات ( واضح انذلك في الرسم والموسيقى والرقص على ماقال ارسطو ) ، كما يشبهون في الكلامالموزون بالشعر ، هذا ما استدليت عليه من خلال قراءتي لترجمة متى بن يونسللدكتور عبدالرحمن بدوي واجدني هنا ملزما بايراد كلام بن رشد حيث يقول (( وكذلك الحال في الصنائع المحاكيه لصناعة الشعر التي هي الضرب بالعيدان ،والزمر والرقص _ اعني انها معده بالطبع لهذين الغرضين )) ثم يسترسل بعد ذلكليقول ان (( الناس بالطبع يخيلون ويحاكون بعضهم بعضاً بالالوان والاشكال ( فيالفنون التصويرية ) والاصوات ( في الموسيقى ) )) الا اننا نجد ان النقادالعرب لم يستقر او يرسخ في اذهانهم سوى ارتباط الشعر بالفنون التصويريه ولميحاولو ان يربطو الشعر ذاته بالفنون الاخرى مثل الرقص والموسيقى لانها اساساهي بعيده عن اذهانهم وكانوا يضعونها تحت مظلة الفنون الجميله وربما هذا عائدالى التاثيرات البيئية والتي جعلت من الفنون كالرقص والموسيقى ليست من ضمنالفنون التصويريه وانما جعلوا الفنون النفعية كالنحت والنجاره والنقش هياركان تلك الفنون . ويستحضرني هنا ثلاثة من كبار نقاد العرب اجد علي لازاماًان استعرض اراءهم في علاقة الشعر بالفنون الاخرى وبالسيكيولوجية الذاتيه لدىالشعراء واستهل هنا بالناقد الاجتماعي المفكر الاديب الجاحط حيث يقول مرجحاًالصيانه على المعاني محتجا بان الشعر (( صياغه ، وضرب من النسخ ، وجنس منالتصوير )) ويؤيده بذلك قدامه بن جعفر حين يقول في قضية الصدق واهميته فيالشعر بحيث لايؤدي الى تناقض بين الشاعر وما هو عليه من حاله فقدامه بن جعفرلايلقي للنبل الموجود بالنص أي اهميه بقدر ما يولي الاهميه لصدق المضمونوجودة الصنعه لانه انما يحكم عليه بصورته التي هطل بها مستشهدا بالنجار والذيلايعاب صنعه برداءة الخشب بذاته انما بصناعته فيه ، لان الشعر شانه شانالصياغه والتصوير والنقشويستشهد قدامه بما روي عن الاصمعي انه سئل : من أشعرالناس ؟ فاجاب : (( من ياتي الى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيراً ، او الىالكبر ، فيجعله بلفظه خسيسا )) ويعرج الى قول اليونان بان (( ااحسن الشعراكذبه )) بل قد يسنده الى ارسطو نفسه وهو قد يكون غير واقعي ولايستند الىادله وليس له اساسا من الصحه
وقد يكون مصدره غير محدد من احدالسوفسطائيين والذين اطلع على ارائهم .
وباعتقادي هنا ان عبدالقادرالجرجاني هو اكبر المستفيدين من ربط الشعر بالفنون الاخرى ويتبين ذلك من خلالنظريته في (( النظم )) حينما اورد واقر ان الطريق للمعنى هو الطريق الذي يقعفيه التصوير والصياغه لايمانه ان الصياغه متوحده مع المعنى بكل اشكاله لانالتغيير في جملتان مترادفتان في الدلاله قد يكونا لهما معنى اخر اذا تغيرتالتراكيب اللغويه في ذات الجملتين مما ينتج عنه اختلاف ضمني بالصوره المرادايصالها للمتلقي وقد تطرق من ذك الى وجوه حسن الصوره في اتساق الكلام . وعندهان الجمل التي لاتؤلف الصوره الواحده حتى لو اتفقت بالمعنى الظاهري ليس بينهاأي وحده بالتصوير وايضا يرى ان هناك جملا لها سياق لغوي واحد واتساق صوريواحد وهذه هي التي تجتمع في حقيقة الوصول للهدف النهائي ولم اجد ان هناك احدمن النقاد العرب استطاع ان يصل الى ما وصل اليه الجرجاني في فهم الصورهوصلتها بالتعبير ، متعمداً في كل ذلك اساسا على فكرته في عقد الصله بين الشعروالفنون النفعية وطرق النقش والتصوير وكما ارى ان التجديد الخصب في بعض محاورالنظرية السابقه والمتاثره على نحو كبير بالبيئه والتراث العالمي القديم بداالى جانب ذلك الاتجاه التقليدي المحافظ في حديث نقاد العرب في عمود الشعروالذي يعني به نقاد العرب وجوه الشعر والتي استنتجت من النصوص الشعريه فيالعصر الجاهلي ومن ثم عصر صدر الاسلام والعصر الاموي .
3_ عمود الشعر
ونجد هنا ان منهجية النقاد العرب اختلفت بشكل كبير عن نظرة ارسطو لانارسطو كان يضع معايير تراثيه تختص بالتراث اليوناني القديم وابقى على ادواتومعاني واعتبرها انها هي الانموذج الذي يجب عدم تخطيه عند الحاله الكتابيهلذلك عاب ارسطو كبار شعراء اليونان من خلال هذه الالية التي عمل عليها وكذلكرفع الشعراء الادنيين مكانة مستخدما نفس منطقه السابق وفي الجهة المقابله نجدان النقاد العرب كانو في عمود الشعر اسارى التقاليد لما ورثوا من تراث شعريحيث وضعوا اللفظ ليكون هو المسؤول من حيث الجرس والمعنى في موضعه في البيتومنه مايتعلق بمفهوم المعنى الجزئي في تاليف القصيده ، ثم منه مايختص فيتصوير المعاني الجزئية وصلتها ببعضها البعض في بناء القصيده وكانوا النقادالعرب يشددون على طلب الجزاله والاستقامه والمشاكله للمعنى وشدة اقتضائهللقافيه من ناحية اللفظ ومما كان يتبادر الى ذهنهم عند الوقوف على اللفظ هوالاهتمام بالمعنى الجزئي والذي يعتبرونه بمقام شرف المعنى والذي يوصل الىالصحه في تركيبته أي اللفظ والاصابه من خلاله الى اقصى درجات الجمال الوصفيواما ما يختص في تصوير المعاني الجزئية في بنية القصيده فانهم يعتبرونه يقعفي زاوية المقاربه بالتشبيه ، ومناسبة المستعار منه للمستعار له ومن ثمالتحام النظم والتئامها وقد اكون صائباً هنا اذ اردت ان استعرض مع الشرحوالتعليق بعض النقاط والسمات الهامه والتي تعنى باللفظ كونه من اعمد الشعرواهمها على الاطلاق ولنبدأ بهذه السمه وهي
- جزالة اللفظ :
وتتوافرهذه الجزاله عندما يخلو اللفظ من امور تعيبه مثل السوقيه والابتذال والغرابهويكون المعيار هنا هو معرفة العامه باللفظ الذي تسمعه ولا تستعمله فيمحاوراتها وعلني اورد هنا مثالاً شعرياً بسيطا ً لتوضيح المضمون السابق يقولالحطيئه :
يسوسون احلاماً بعيدا اناتها=وان غضبوا جاء الحفيظة والجد
أقلواعليهم- لا ابا لأبيكم=من اللوم او سدوا المكان الذي سدوا
اولائك قوم انبنوا احسنوا البنى=وان عاهدو اوفو وان عقدوا شدوا
ومن منظور هذه القاعده عاب كثير من النقاد شعر المحدثين ونجد ان اكتسابالالفاظ نبلا هنا يشبه النبل الطبقي مما يؤدي الى اغفال لموقع اللفظ منالجمله ولكن اثارني ما قراته ل عبد القاهر والذي يقول فيه ان استقراء الشعرالشعر العربي استقراء سليما يكذب هذه القاعده .

- استقامة اللفظ :
وتعتمد اعتمادا كليا على الجرس او على الدلاله او التجانس مع قرائنه منالالفاظ .
فيجب ان يكون اللفظ خاليا من تنافر الحروف مستقيما بسلامتهاللغويه الا انني اعتبر ان هذا المقياس هو نسبي بالدرجه الاولى وذلك لاختلافالالفاظ بين بيئه واخرى ناهيك عن اختلاف اللهجات بذاتها ومما ينتج عنه اختلافالاذواق ايضاً على ان الخطأ هنا هو ان الالفاظ الثقيله قد تكون جميله في بعضالاحيان اذا وضعت في موضعها الصحيح ودون تكلف .
وللدلاله اللفظيه اهميهقصوى في ايصال المعنى بشكل محدد وواضح والا انتفت الاستقامه من اللفظ واصبحالشاعر في موقع لايحسد عليه من ضعف في ايصال ما اراد ايصاله وهذا ما وجدته فيشعر البحتري في احد ابياته حيث يقول :
تشقعليه الريح كل عشية=جيوب الغمام ، بين بكر وأيم .
فالايم التي لازوج لها سواء سبق لها الزواج ام لا وهذا مارجعت اليه في كتاب ( سر الفصاحه ) لابن سنان الخفاجي ص 73 فالمقابله بين الايم والبكر غير مستقيمةالمعنى وهذه القاعده سليمه هنا لاغبار عليها .
وعندما يتجانس اللفظ معقرائنه من الالفاظ يكون واضحا وجميلا الا ان عدم التجانس بينهم يؤدي الى انيكون اللفظ معابا وهذا ما اخذ على مسلم بن الوليد في قوله :
فاذهبكما ذهبت غوادي مزنه=يثني عليها السهل والاوعار
فكان من الاجدر بمسلم ان يقول السهل والوعر او حتى السهول والاوعار حتى يصل الى بناء لفظي واحد سواء بالتثنيه او بالجمع على حد سواء


- مشاكلةاللفظ المعنى :
وهو يكون موقع اللفظ يحمل المعنى دون زيادة او نقصان بحيثيكون المعنى واضحا وجليا وقاطعا دون قصران ومن الشعراء الذين اخذ عليهم هذاالمحور عيبا الاعشى حيث يقول :

استأثرالله بالوفاء وبالعد=ل وولى الملامة الرجلا
فلو انه اختار الانسان كلفظ كان له افضل من اختياره للرجل بديلا عنه لانالملامه تتجه للجنسين سواء كان المخاطب رجلا ام انثى وعلى خط مغاير للاعشىيمدح النقاد بيت للحطيئه اجاد فيه من الناحية والتي نتعرض لها الان وهيمشاكلة اللفظ للمعنى حيث يقول :
همالقوم الذين اذا ألمت=من الايام مظلمة اضاءوا
فالاضاءه هنا اتت كلفظ موفق واعطي معنى واضحاً لان الظلام يتطلب تلك الاضاءه .
ويمدحون النقاد في المعنى ان يكون شريفاً ... وشرف المعنى يقصد به توجهالشاعر الى الاغراب ، وان يختار السمات المثلى في المدح بحيث ان الشاعرلايبالي بواقعية التصوير فعند وصف الفرس مثلا فانه ينعته بالكرم وي صفه تطلقفي الواقع على الانسان الا ان الاغراب اعطى الصفه طيفا اخر عندما ربطت بذاتالفرس واذا تغزل بمحبوبته فانه قد يعطيها من الصفات التي قد تكون من الامورالغير واقعيه وذلك ليبين مدى شغفه بمحبوبته وهيامه بها واذا مدح الشاعر فعليهان يذكر ما يدل على شرف المقام ابداعاً واغراباً دون ان يراعي الواقعيه فيصفات الممدوح .
_صحة المعنى :
ويقصد به ان الشاعر اذا اورد معنى معينايختص بحدث زماني او مكاني يجب ان يكون صحيحا من الناحية التاريخيه مثلاً وهذهالقاعده لها علاقه وثيقه بلا شك في ثقافة الشاعر الذاتيه وتجربته الزمانيهومما يحضرني الان في ما يعاب على بعض الشعراء من ايراد معاني لاصحة لها هوقول الاعشى في احد ابياته :

فتنتجلكم غلامان اشأم كلهم=كأحمر عاد ثم تنتج فتتئم
ومما عاب الامدي على الشاعر البحتري في قوله :
نصرتلها الشوق اللجوج بادمع=تلاحقن في اعقاب وصل تصرما
وهنا يتضح الخطأ على حسب لعرف السائد وذلك لان المدي يرى ان الشوق يشفيهالبكاء ولايزيد منه وكذلك يطالعنا من ناحية مخالفة العرف اللغوي ابي تمامعندما يقول :
اذامارحى دارت ادرت سماحة=رحى كل انجاز على كل موعد
ومما يعاب عليه انه أي ابي تمام جعل انجاز الوعد كالطحن بالرحى وهو قضاء عليهوهذا في العرف اللغوي لا يكون الا للاخلاف .
_ الاصابة في الوصف :
وهيذكر المعاني التي هي الصق بمثال الموصوف مثلاً كان مصيباً لا لانه مدح هرم بنسنان بصفاته الخاصه بل لانه مدح بصفات عامه للرجل الكريم وكان عمر الفاروقيقول ((كان لايمدح الرجل بما لايكون في الرجال )) .
-المقاربه في التشبيه : واصدقه ( مالاينقص عند العكس ) كتشبيه الخد بالورد او العكس وقد ذكرالمرزوقي في شرح ديوان الحماسه واحسنه ما اوقع بين شيئين اشتراكهما بالصفاتاكثرمن انفرادهما كي يبين وجه الشبه بلا كلفهالا ان يكون المراد من التشبيهاشهر صفات المشبه به واملكها لانه حينئذ يدل على نفسه ويحميه من الغموضوالالتباس ).
-مناسبة المستعار منه للمستعار له :
بحيث تكون الصله بينالمستعار منه للمستعار له واضحه وواقعيه وبينهما اشياء مشتركه لا ان تكونالعلاقه بعيده بين الاثنين لان ذلك يكون عيبا في استخدام مبدأ الاستعاره منالطرفين وهذا ماوقع به ابي نواس حين قال :

بحصوت المال مما=منك يشكو ويبوح
فالشاعر هنا يريد ان المال يشكو من يدي الكريم من شدة العطاء الا انالاستعاره هنا كانت غير موفقه لان المال والانسان لاصلة بينهما .
_التحاماجزاء النظم والتئامها :
وهو الانتقال من جزء في القصيده التقليديه الىجزء اخر دون الاخلال في الوحده العضوية للقصيده ويكون الانتقال بشكل جيد الااننا نرى ان النصوص الشعريه في العصر الجاهلي لم تراعي هذا الامر فالشاعرالجاهلي كان يتنقل من موضوع الى اخر كالاستهلال بالغزل ثم المدح او البكاءعلى الاطلال ومن ثم التوجه لموضوع اخر مغاير تماما لما استهل به الشاعر الاان مايحسب بشكل عام لشعراء ذلك العصر واقصد به هنا الجاهلي هو حرفية الانتقالبين المواضيع بشكل جيد حتى ان النقاد العرب شفعوا للشعراء في العصور التاليهوحتى الحديث منها هذا التقطيع في مواضع القيده لانهم وباختصار اخذوا النصالجاهلي انموذجاً للنقد .
_ عمود الشعر :
وحول عمود الشعر وما انبثقمنه من امور النقد والياته نجد ان مسائل الخصومه بين القدماء والمحدثينوالذين انحرفوا عن قليلاً في صناعتهم عما يقتضيه عمود الشعر من اصول وقد كانهناك فريقا من النقاد العرب الذين تعصبوا للقديم لقدمه ونجد ذلك عند الرواةواللغويين بشكل خاص ، كابي عمرو بن العلاء والاصمعي ، وكان ابو عمر لايحتجببيت من الشعر الاسلامي ، وكان يقول (( حتى ان هممت ان امر فتيانا بروايته )) ولا قيمة لهذه الاراء الا ان القول الفصل في هذه الاشكاليه كانت لابن قتيبه: (( .. ولا نظرت الى المتقدم منهم بعين الحلالة لتقدمه ، ولا المتاخر منهمبعين الاحتقار لتاخره ، بل نظرت بعين العدل للفريقين ، واعطيت كلا حقه .. ولميقصر الله العلم والشعر والبلاغه على زمن دون زمن ولا خص به قوما دون قوم )) وقد انتبه النقاد العرب الى في موازنتهم بين الشعراء والتي من خلالها ظهرتالخصومه بين القديم والحديث الى التاثير البيئي والمكاني والزماني ايضافالاختلاف بين بيئة البدو وجزالة الالفاظ عندهم وقوة الاعراب وبين الحضروسهولة الالفاظ والمعاني وخاصة بعد الاسلام حين اتسعت رقعة الدوله الاسلاميهوشملت ممالك وحاضرات جديده ونزوح البدو الى اجواء المدينه والحضاره الجديدهبالنسبة لهم بدأ الناس هنا يستسيغون الالفاظ السهله والمعاني العذبه لسهولةانتشارها بين ارجاء المعموره واتذكر هنا انه كان من اوائل من تعرض للتاثيرالبيئي في الشعر هو ابن سلام الجمحي في طبقاته فهو من استعرض شعر عدي بن زيدوبين سهولة الالفاظ لديه ولينها الى بيئته المتمثله بالحيره وريفها وعلل قلةشعر اهل الطائف وقريش بسبب قلة الحروب لديهم .
وبعد ان استعرضنا هذهالاتجاهات الادبيه ارجو ان اكون قد اعطيت الدراسه حقها واستطعت ان اوضح نقاطاربما تكون في الماضي مبهمه على البعض ... هذا وان اخطأت فمن نفسي والشيطانوان اصبت فمن الله عزوجل .










رد مع اقتباس
قديم 2013-03-21, 18:50   رقم المشاركة : 262
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الأدب والترجمة وحوار الحضارات

أمل زاهد









تلعب الآداب الإنسانية والفنون دورا بارزا ومهما في التواصل بين الشعوب، والتقريب بين الثقافات المختلفة والعبور إلى رؤية الآخر ومحاولة التماس مع معاناته والاقتراب من تخوم آلامه والاطلاع على حياته من خلال ما يتم وضعه تحت مجهر العرض عبر تلك الآداب والفنون. من خلال الآداب الإنسانية نستطيع أيضا أن نعزز نزعة الأنسنة التي باتت ضرورة ملحة في وقتنا الحاضر، فعالمنا المجتاح بالمد الأصولي بكافة أنماطه ومختلف صوره، والمتلظي بنيران العنف الديني والواقع تحت وطأة الصراعات القائمة على النزعات الدينية والمذهبية والشوفينية والعرقية أحوج ما يكون إلى أن نبذر في تربته ثقافة تقبل الآخر ومحاولة فهم طريقة تفكيره والتعرف على معاناته من منظور يُعنى بتصوير تلك المعاناة الإنسانية كهم كوني وشأن عالمي. فيصل المتلقي إلى المعرفة اليقينية أن الإنسان هو الإنسان بكل ما يعتريه من هموم وشجون، وما ينتابه من ألم وقلق وهواجس، وما يتأجج في أعماقه من أسئلة شائكة تتعلق بوجوده والهدف منه وموقعه من الكون ورؤيته للحياة وموقفه منها، وبكل ما يحفل به تكوينه أيضا من تناقضات ومن نوازع نفسية متباينة مهما نأت المسافات أو تباينت الأديان أو اختلفت الثقافات.

يأتي الأدب ليهشم الحدود الجغرافية ويحطم حدود الزمان والمكان، ويحرر المتلقي من الدوائر الثقافية المغلقة.. تلك الدوائر التي تجعله يدور في أفلاك أحادية غير قادر على رؤية ما يدور على الشاطيء الآخر، فيمرق من خلال عالم الأدب الساحر وعبر امتطاء صهوة الخيال المجنحة إلى عالم لم يكن ليعرف عنه شيئا لولا حميمية الحروف وثراء الكلمات والتعابير وقدرتها على فك شيفرة معاناة الإنسان ونقلها كصور حية ثرية مفعمة بالحياة وحافلة بمدها وجزرها.. فرحها وحزنها. فيتم له كشف النقاب عن ثقافة مختلفة والاطلاع على تفاصيل حياة وطرق تفكير وأساليب معيشة تختلف عما يعايشه في حياته اليومية، فيعبر من فوق جسر الأداب والفنون لينتقل إلى عالم جديد زاخر بالمتعة ومفعم بالجدة والاختلاف.

والأدب يؤكد لنا من خلال ما يعرضه علينا من شخصيات مختلفة وأنساق ثقافية متابينة وأنماط اجتماعية متمايزة أن الإنسان يهجس بما يهجس به أخوه الإنسان ذلك القريب منه أو الآخر القابع على الجزء المقابل من الكرة الأرضية والمنتمي إلى ثقافة مختلفة، وأنه يحمل نفس الهم والقلق والخوف والوحدة والحنين إلى الإحساس بالأمان والتوق إلى الانعتاق. ذلك الإنسان المشتعل وجدانه بحب الأوطان والذي يشكو من عقوق الأوطان ومن تنكرها لأبنائها المخلصين في بقع كثيرة من الأرض ..الإنسان الذي يمزقه الظلم ويتناهشه الاضطهاد ويروم العدالة والحرية والمساواة.. الإنسان الذي يبحث عن الحب والدفء والعلاقات الحميمة التي توفر له قدرا من الطمأنينة وتشحن أعماقه بحب الحياة وبالقدرة على ابتلاع قسوتها وبشاعتها.. الإنسان الذي تطحنه الحروب ويمزقه التناحر على السلطة والهيمنة، وتنتهك أرضه وكرامته وتمارس عليه أبشع أنواع الإذلال والتعذيب.. الإنسان الذي يعذبه صراع الخير والشر الدائر في أعماقه أبدا والمتطلع إلى المثالية والمتشوق إلى الكمال والهاجس بالخير والحق والجمال.

وحين نقرأ الأعمال الأدبية العظيمة على اختلاف كتابها والزمان والمكان المنتمين إليه، وعلى تباين خلفياتهم الثقافية ومشاربهم الفكرية، لا نملك إلى أن نتعجب حين نرى ملامح وقسمات بعض شخصياتها في شخوص نشاهدها ونراها ونقابلها في حياتنا اليومية. وندهش أكثر حين نرى كيف يتمكن المبدع من تصوير مشاعر انتابتنا وآلام صالت وجالت داخل نفوسنا بحرفية واقتدار ومهارة، وكيف يتمكن من سبر أغوار المنولوج الداخلي للنفس البشرية والإبحار في أعماقها وتصوير خلجاتها ونحت تداعياتها حين تتعرض لحدث جلل أو لإشكالية مفصلية تغير مسارها أو تهز قناعاتها أو تبدل ملامحها. وهنا تكمن عبقرية الأدب..فاستحضار شخصيات نلمس فيها معاناتنا ونتحسس فيها أوجاعنا قادر دائما على شدنا وجذبنا إلى مجاله المغناطيسي الساحر فالأدب القادر على اعتقال حالة وجدانية إنسانية تعتري النفس البشرية في كل زمن ومكان، ثم وضع هذه الحالة في إطار فني لغوي هو دون شك أدب خالد لا يبليه قدم عهد ولا يقلل من أهميته وتميزه مرور زمن !!

تتحدث الدكتورة (ايزابيلا كامرا) أستاذة كرسي الأدب العربي في كلية الدراسات الشرقية بروما في حوار لها في جريدة الوطن السعودية عن أهمية التعرف على أدب الآخر حتى يتم تفعيل حوار الحضارات، فترجمة الأدب تساعد الغرب على فهم العرب وتعلي من قيم الحوار والتبادل المعرفي بين الشعوب. وتؤكد الدكتورة ايزابيلا أنها لم تتلق أي دعم من المؤسسات الإيطالية أو العربية، ولكنها قابلت في عام 1993 مالك دار نشر هو( جوفينس ) واقترح عليها البدء في ترجمات من الأدب العربي المعاصر، وقد ترجمت الدكتورة ايزابيلا روايات وقصص لأهم الكتاب العرب كنجبيب محفوظ وغسان كنفاني وعبد الرحمن منيف وأميل حبيبي وجمال الغيطاني وغادة السمان وغيرهم وقامت أخيرا بترجمة عدد من القصص القصيرة لأديبات سعوديات. وتقول أن ترجمتها لروايات غسان كنفاني إبان الثمانينيات ساعدت العديد من القراء في فهم القضية الفلسطينة.

ولكننا لا نزال غير مدركين لأهمية عرض قضايانا وتعريف العالم بها وإجلاء صورتنا وتبييض معالمها التي شوهتها أحداث 11 سبتمبر عن طريق الأدب والفن وعن طريق ترجمة أدبنا إلى اللغات الأخرى، فما يتم ترجمته من وإلى العربية في العالم العربي بأسره لا يضعنا في مقارنة مع أصغر الدول الأوربية مساحة وأقلها سكانا وأضعفها اقتصادا، ناهيك بالطبع عما تقوم به دولة كإسرائيل من جهود لتأطير صورتها من خلال الإعلام. وقد ظل المخرج العربي العالمي الراحل ( مصطفى العقاد ) يبحث لسنين طويلة عن ممول أو مؤسسة تساعده في إنتاج فيلم عن صلاح الدين الأيوبي ورحل ولم يتمكن من تحقيق ذلك الحلم الذي راوده لمدة طويلة. بينما ينفق اليهود مليارات الدولارات على الإنتاج السينمائي حتى يتم لهم حقن الرأي العام العالمي بما يريدونه، وانتزاع تعاطفه وتأليب مشاعره ضد العنف الذي وقع عليهم إبان المحرقة النازية، فأقاموا الدنيا ولم يقعدوها بسببها وتمكنوا من حشد المشاعر الغربية في صفهم من خلال مهارتهم في عرض تلك القضية. ولإدراكهم أهمية فن السينما ومدى تأثيره في الناس في وقتنا الحالي، ضغطوا على مخرج فيلم ( آلام المسيح ) ( ميل جبسون ) حتى يحذف عبارة من الترجمة الإنجليزية تؤكد مسؤليتهم عن دم المسيح، فتم حذفها من الترجمة بينما بقيت العبارة صوتا فقط باللغة الآرامية في الفيلم كما ذكرت في الإنجيل.

تمت ترجمة الكثير من الأعمال الأدبية المصرية إلى العبرية ومعظم هذه الترجمات تتم لأغراض استطلاعية أو استخبارية وذلك للتعرف على طبيعة المجتمع المصري ورؤية قاعه عن كثب، وغالبا ما تنفذ هذه الترجمات دون الحصول على موافقة كاتب العمل وهو ما عبر عنه الروائي يوسف القعيد ب ( اغتصاب التطبيع )، وآخر من تعرض عمله لاغتصاب الترجمة هو علاء الأسواني فقد ترجمت روايته ( عمارة يعقوبيان ) إلى العبرية دون موافقته وذلك حسب ما ورد في تحقيق في منتدى صحيفة الشرق الأوسط الثقافي عن ترجمة الأدب العربي للعبرية.










رد مع اقتباس
قديم 2013-03-21, 18:52   رقم المشاركة : 263
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

إطلالة على السخرية عند أبي العلاء المعري -* فوزي معروف *



السخرية سلاح الروح العظيمة لقهر المتاعب، ولعل المثل المعروف الأقدم هو "سقراط الذي سخر من قاتله وهو يتجرع كأس السمِّ قائلاً يرد على تلاميذه الذين كانوا يرددون: "من المؤسف أيها المعلم أن تموت دون ذنبٍ ارتكبته" "وهل تظنون أن الموت كان يمكن أن يكون أسهل لو كنتُ مذنباً" ضحك تلاميذه بين دموعهم وثار حقد أعدائه أكثر.


أحد رجال الثورة الفرنسية قال قبيل إطلاق الرصاص عليه: "رصاصة واحدة تكفيني دع الباقي لبريء آخر" أضحك قولهُ الحاضرين بينما أثار حنق خصومه.


السخرية العميقة قدرُ العظماء من بني البشر من سقراط أول الساخرين المعروفين إلى الجاحظ والمعري إلى برناردشو ومارك توين...


ويتميز الساخر العظيم بأنه يضع يده على القاع الروحي لمن يعيشون حوله وهذا يكاد يكون واحداً عند معظم شعوب الأرض.. ولعل هذا الأمر يكمن وراء تشابه الأدب الساخر عند كثير من الشعوب وبخاصة تلك المتقاربة جغرافياً التي تتقاطع في نصوصها الساخرة هموم مشتركة ومشاكل متشابهة.


والأدب الساخر أدب عالمي لا يخلو منه تراث أمة حيّة.. فالإنسان أينما كان يعالج نواقصه عندما يسخر منها... وكثيرون من الناس يؤمن أن السخرية إحدى الطرق لتغيير الواقع، أو هي أحد أشكال المقاومة، والأدب الساخر لا يقصد الإضحاك فقد بل له أهداف وغايات من أهمها: الحفاظ على قيم المجتمع العليا، تكريس السلوك القويم، تعديل مجرى اتجاه متطرف.. لأن السخرية تهاجم دائماً التصلب في الفكر والطبع والسلوك ساعية لجعل طباع المجتمع أكثر مرونة كما أن السخرية تترجم حالة روحية حين تنحرف القيم ويسود الزيف.


وكثيرون يرون أن السخرية سلاح يحمي الروح من ضعفها كما يرون فيها تعبيراً عن مأساة هي أكبر من أن يتحملها الضمير الإنساني كما يحدث الآن في الأراضي العربية والعراق المحتلة إذ معظم التعبير عن الواقع العربي الآن يميل إلى السخرية.


تتوهج السخرية حين يمر الإنسان بظروف تشعل الروح وتمزق الأعصاب.. وهذا ما كان مع (غوغول) حين وصل الواقع الروسي إلى حدٍ من السوء لا يُطاق إذ ذاك ظهرت سمة بارزة في أدبه هي "الضحك من بين الدموع" كما قال ناقده "بيلنسكي" آمن بالإضحاك الهادف وتولت السخرية عنده نقل الرسالة المرة في نقد الواقع نقداً إيجابياً.


حين تصبح الآلام هائلة يبتسم المبدعون الكبار بدل البكاء لكنها ابتسامة أفظع من الدموع. تنعكس في كلمات ومواقف ساخرة كما عند ابن الرومي والمعري والجاحظ في تراثنا. والمازني ومحمد الماغوط في واقعنا المعاصر.


الأدب الساخر لون صعب الأداء يتطلب موهبة خاصة وذكاءً حاداً وبديهةً حاضرة(1). وهو وليد المرحلة العمرية الأكثر نضجاً التي تتحرر من العواطف العنيفة...


السخرية الحقة لا تكون إلا مع وجود التوازن الشاق الجميل والنظرة المستوعبة للطبيعة والإنسان ومن أجل ذلك لا تقع السخرية الناجحة النافذة في مرحلة مبكرة من العمر الإبداعي.. إذ لا بد كي تنجح السخرية من يقظة في الروح وهذه قلَّما تتوفر مع حماسة الشباب" ولعل هذا هو السبب في خلو آثار شباب المعري من السخرية العميقة ووجودها بكثافة وعمق في نتاج المرحلة المتأخرة من عمره اللزوميات رسالة الغفران.


الكتابة الساخرة الناجحة، فنٌ صعب المراس، يتوفر لقلة قليلة من بداياتهم الكتابية إذ لا بد من النضج الفكري والاجتماعي حتى يصل الكاتب إلى درجة معينة تؤهله لأن يصير كاتباً ساخراً.. ولعل أعمق الكتابات الساخرة وأبقاها على الزمن هي تلك التي توج بها بعضُ المبدعين حياتَهم بحيث يمكن القول: إن السخرية الناجحة فنُّ المرحلة المتأخرة من العمر نذكر أمثلة منها أفلاطون يقول وقد قارب الشيخوخة "علمتني الحياة أن الجد والصراحة لا مكان لهما في العلاقات الإنسانية".


بعد استقراء نماذج الكتابة الساخرة عند بعض أعلامها يلاحظ المرء أنها تتطلب درجة عالية من المهارة والرهافة...


المهارة: التي تبقي على الشعرة الدقيقة الفاصلة بين المسموح به والمنهي عن التصريح به. باللقطة المحايدة في الظاهر، الوصف الذي يُنطق الحال على نحو غير مباشر والتعليق البريء على مستوى السطح بما يضفي حياداً مراوغاً في وصف المشاهد أو صوغ الحوارات جنباً إلى جنب.


الرهافة: التي تنفر من الإعلان المباشر عن المواقف أو الآراء، فتؤثر التلميح الذكي على التصريح الفج متجنبة العبارات النابية والجمل العاطفية رافضة الاستسلام لغواية أي حال من حالات الهشاشة الوجدانية في البوح، لذلك تبدو اللقطات الإنسانية عند هؤلاء وأمثالهم رهيفة تنطق بأكثر مما تؤديه الكلمات.


ويُلاحظ هنا إن كتابة المعري المتأخرة بخاصة لا تخلو من الوجه الآخر للجد المتجهم... وهو السخرية التي تعطي مذاقاً لاذعاً لكتابته. السخرية سلاح ناوش به مفاسد الواقع حيث ما كان يملك وهو على الحال التي نعرف سوى السخرية لمواجهة واقع أفسده القمع والخوف والسرقة.


إذاً واجه المعري الحياة ومحنتها الدائمة بالسخرية مرة والنفاذ بالوعي والحكمة إلى صميمها مرة أخرى واصلاً إلى ما ظنه اليقين عندما يعلن إيمانه بالعقل وثقته المطلقة فيه دليلاً وهادياً وإماماً.


كذب الظن لا إمام سوى العقل


مشيراً في صبحه والمساء


هذا الذي تقدم لا يعني أن المعري يُعلن أنه يقدم أو قدم نصاً في السخرية ولكننا نستخلص أقواله التي تشير إلى روحه الساخرة في ثنايا ما كتب لتكون فقط عيّنة من أدبه الساخر.. المعري يشبه الجاحظ في سخرياته المقنعة بالجد المتعالية عن الكثيرين من عامة الناس.


هذا المبدع الذي حاول أن يفرَّ من سجونه إلى الجحيم والجنة ليتحدث هناك بحرية ويعطي رأيه بكل ما في الحياة حوله وكان بذلك باراً بقسمه الشهير:


إني وإن كنتُ الأخيرَ زمانه


لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل


إن الكثير من لقطات المعري الساخرة تستند إلى آلية المفارقة اللغوية التي تجعل العلاقة بين الدلالة المباشرة والدلالة المنزاحة علاقة قائمة على التقابل الدلالي لأن بنية السخرية تتحقق بوجود دال ومدلولين يكون الأول مباشراً ويكون الثاني ضمنياً... يكون المدلول الأول حرفياً وظاهراً بينما يكون المدلول الثاني قصدياً وضمنياً ولا بد والحال كذلك لكي تحقق السخرية الهدف منها على مستوى الكتابة.. لا بد من تفاعل العنصرين: الكاتب والمتلقي لأن السخرية تحضر في النص من خلال مؤشرات وقرائن فقط يأتي بعد ذلك دور المتلقي في تشييدها لتصبح محققة...


وعند المعري كما عند غيره من كبار الساخرين نجد أن السخرية العميقة هي التي تتحقق بواسطة عدد قليل من المؤشرات إذ تستطيع بهذه المؤشرات القليلة توليد الأثر الساخر الذي يبتعد عن الابتذال.


المقياس الحقيقي للرجل الكبير.. ابتسامته.. روحه المرحة.. قدرته على السخرية من المتاعب.. والمعري واحد من هؤلاء مع أستاذه الجاحظ سيد الأدب الساخر في تراثنا المتوفى عام 255ه وبخاصة في المرحلة المتأخرة من حياته في كتاب البخلاء، ورسالة التربيع والتدوير..


هكذا كان المعري الذي عاش بين عامي 363 449 ه/ 973 1058م/ الشاعر الفيلسوف المتجهم النظرة إلى الحياة والناس.. كان في آثاره التي كتبها بعد مرحلة الشباب من كبار الساخرين في التراث الإنساني تميز بأسلوبه الساخر ذي الدعابة الدكناء التي لم يخلُ منها حتى اسمه الذي قال فيه:


دُعيت أبا العلاء وذاك مينٌ


ولكن الصحيح أبو النزول


***


وأحمد سماني كبيري وقلما


فعلتُ سوى ما أستحق به الذمّا
السخرية عند المعري موقف من العالم، يهجو نقائصه يركز الضوء على أبرز مفارقاته.. موقف يُدمي الروح في اللحظة ذاتها التي يضحك فيها الكائن البشري على ضعفه وتخاذله وخساسته وابتذاله.. قبل أن يضحك بسببها على الآخرين وفي مأثورنا العربي (شر البلية ما يضحك) البلية في كل زمان ومكان من حولنا التي قد نواجهها بأسلحة متعددة ومنها السخرية التي هي أعرق أسلحة البشر وألطفها.


وحين تأتي السخرية من أمثال المعري يسمو الإعجاب إلى درجة عالية، إذ ليس هنا ما هو أشد من سجون أبي العلاء الثلاثة التي عبر عنها بقوله:


أراني في الثلاثة من سجوني


فلا تسأل عن النبأ الخبيث


لفقدي ناظري ولزوم بيتي


وكون النفس في الجسم الخبيث


لأنه كان من الممكن لهذه السجون أن تؤدي كما كان متوقعاً إلى مزاج سوداوي أو غضب عارم على البشر أو مرارة تفحّ بسمومها في وجه الآخرين..


بالعكس إن هذه السجون طهرته من أوضار الحياة وجعلته أبعد ما يكون عن هوس الدنيا وفتنتها، كما جعلته أبعد عن أشراكها.


هذه السجون قادته مع الميل القابع فيه إلى الفلسفة، قادته إلى الحقيقة الإنسانية المتمثلة في التجرد (العزلة) والمشاركة فقد أصبح اتساع عقله الرحب المتفتح ووجدانه الخصب الممتلئ لكل ما يشمل الآخرين صفةً من أبرز صفات المعري وتوجهاً أساسياً يفيض عنه:


فأي الناس أجعله صديقاً


وأي الأرض أسلكه ارتيادا


كأني في لسان الدهر لفظٌ


تضمن منه أغراضاً بعادا


يكررني ليفهمني رجالٌ


كما كررتَ معنىً مستعادا


ولو أني حُبيتُ الخلد فرداً


لما أحببتُ بالخلد انفرادا


فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي


سحائب ليس تنتظم البلادا


ولي نفسٌ تحلُّ بي الروابي


وتأبى أن تحل بي الوهادا


السخرية من المتبجحين:


الواسطة التي ترفع غير المستحقين إلى أماكن لا يستحقونها، والتي قضت على أس الأساس لكل تقدم حقيقي وهو "الرجل المناسب في المكان المناسب"... يسخر المعري منها بطريقته في رسالة الغفران حين يقول على لسان "أوس بن حجر".. ولقد دخل الجنة من هو شرٌّ منّي ولكن المغفرة أرزاق، كأنها النشب في الدار العاجلة...".


كما يسخر المعري من الجاهلين الذين يعيشون نعمة الجهل مبتعدين بأنفسهم عن عذاب الفكر واستخدام العقل حين يقول على لسان "طرفة بن العبد" وددتُ أني لم أنطق مصراعاً ودخلتُ الجنة مع الهمج والطغام"(2). وسخر كذلك من أدعياء الشعر والضعفة الذين قالوا ما لا قيمة له ومثل لهم بالرجّاز ولعلهم الذين اختاروا بحر الرجز لقصائدهم مُفْرِداً لهم حديثاً خاصاً بل وجنّة خاصة جمع فيها الرجّاز واختار لهم فيها مكاناً متواضعاً ومن هؤلاء ذكر: الأغلب العجلي العجاج رؤبة حميد الأرقط.. ويتصور المعري في رسالته أن أحد هؤلاء يعترض على رأيه فيهم فيكون رده العنيف: "لو سُبك رجزك ورجزُ أبيك لم تخرج منه قصيدة مستحسنة"


ولا ينجو المدّعون المتبجحون الذين يُعطون أنفسهم ما لا يستحقونها ويضعونها في غير أماكنها من سخريته ومثّل لهؤلاء بأبي القاسم الذي ذكره المعري في بيتين من الشعر فجعله نموذجاً لكثيرين من بني البشر في كل العصور يقول:


هذا أبو القاسم أعجوبة


لكل من يدري ولا يدري


لا ينظم الشعر ولا يحفظ ال


قرآن وهو الشاعر المُقري


ومعظم الناس عند المعري غير عادلين أو منصفين لا يعطون صاحب الحق حقه، أو يبالغون في الثناء على من لا يستحق.. لقد ضاق بأمثال هؤلاء واشتاق إلى بشر يُعطون الحق لأصحابه:


من لي أن لا أقيم في بلدٍ


أذكر فيه بغير ما يجب


يُظن بي اليُسر والديانة والعلمُ


وبيني وبينها حجب


أقررت بجهلي وادّعى فهمي


قوم فأمري وأمرهم عجب


ولعل الناس في زمن المعري مثلهم في زمننا هذا تشغلهم المظاهر ودائماً لا يعبّر مظهرهم عن حقيقتهم.. لذلك سخر من ناس زمنه وفضل عليهم الحجر:


يُحسن مرأى لبني آدم


وكلهم في الذوق لا يعذب


ما فيهم بَرُّ ولا ناسكٌ


إلا إلى نفعٍ له يجذب


أفضلُ من أفضلهم صخرةٌ


لا تظلم الناس ولا تكذب(3)


ولا يغيب عن ذاكرة المتلقي الحادثة التي سخر منها المعري من الجنس البشري الذي لا يفارقه الطمع حتى وهو في الجنة، حين يقف ابن القارح أمام سفرجلة فتتحول من فاكهة إلى جارية حوراء ولكنها نحيلة ضاوية فيسجد صاحبها شكراً لله.. ويخطر بباله وهو ساجد أن جاريته ذات جسم ضاوٍ... وما إن رفع رأسه من سجوده حتى صار ردفاها يُضاهي كلٌّ منهما كثبان عالج وأنقاء الدهناء (مكانان ضخمان في الجزيرة العربية).. فيقع ساجداً مرة ثانية تمجيداً لقدرة الله.. وهو يسمع أصداء أصوات تخبره تحويلها على الإرادة.


معرفة المعري بإنسان عصره وصلت به إلى حد فقدان الثقة الذي عبر عنه بقوله:


عصاً في يد الأعمى يروم بها الهُدى


أبرُّ له من كلِّ خدنٍ وصاحبِ


السخرية من بعض رواة الشعر:


يعقد أبو العلاء في رسالة الغفران مجلساً طريفاً يسخر فيه من طريقة بعض الرواة في الرواية لنصوص الشعر طارحاً في الوقت ذاته الطريقة التي يراها مناسبة... حين يذكر بطله (ابن القارح) بيتين من الشعر للبكري.. يهتف هاتف قائلاً: "أتشعر أيها العبد المغفور له؟ لمن هذا الشعر؟ فيقول الشيخ: نعم حدثنا أهل ثقتنا عن أهل ثقتهم يتوارثون ذلك كابراً عن كابر حتى يصلوه بأبي عمرو بن العلاء فيرويه لهم عن أشياخ العرب.. عن وعن أنّ هذا الشعر لميمون بن قيس(4)


ثم يعرض المعري موكباً من الشعراء يسألهم عما نُسب إليهم من شعر، فينكرون ويتهمون رواته.. يلتفت ابن القارح إلى أعشى قيس فيقول له: يا أبا بصير أنشدنا قولك:


أمن قتلة بالأنقا


ء دار غير محلوله


فيقول أعشى قيس ما هذا مما صدر مني وإنك منذ اليوم لمولَعٌ بالمنحولات!!


وجاء بأبينا (آدم) يسأله عما نُسب إليه من شعر قائلاً: يا أبانا قد روى لنا عنك شعرٌ منه قولك:


نحن بنو الأرض وسكانها


منها خلقنا وإليها نعود


فيقول آدم: إن هذا لقول حق، وما نطقه إلا بعض الحكماء؛ ولكني لم أسمع به حتى الساعة. فيقول: فلعلك يا أبانا قلته ثم نسيت، فقد علمتُ أن النسيان متسرع إليك وحسبك شهيداً على ذلك الآية: ولقد عَهدْنا إلى آدم من قبلُ فَنَسِيَ ولم نجد له عزما(5) فيقول آدم: أبيتم إلا عقوقاً وأذية إنما كنت أتكلم بالعربية وأنا في الجنة، فلما هبطت إلى الأرض، نُقل لساني إلى السريانية فلم أنطق بغيرها إلى أن هلكت، فلما ردني الله إلى الجنة عادت عليّ العربية فأي حين نظمت هذا الشعر؟ في العاجلة أم الآجلة؟ والذي قال ذلك يجب أن يكون قاله وهو في الدار (الماكرة)... ثم يسأل ابن القارح آدم (عليه السلام) عن شعر نُسب إليه لما قتلَ قابيلُ هابيلاً وهو:










رد مع اقتباس
قديم 2013-03-21, 18:53   رقم المشاركة : 264
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

تغيرت البلاد ومن عليها


فوجهُ الأرض مغبرٌ قبيحُ


فيقول آدم: "... إنكم في الضلالة متهوّكون آليت ما نطقتُ بهذا النظيم ولا نُطق في عصري وإنما نظمهُ بعض (الفارغين) فلا حول ولا قوة إلا بالله!! كذبتم على خالقكم ربكم، ثم على آدم أبيكم، ثم على حواء أمكم، وكذب بعضكم على بعض ومآلكم في ذلك إلى الأرض"(6).


السخرية من الكلام دون فعل:


ما قال المعري شيئاً لم يطبقه في سلوكه فقد كان قدوة نادرة في المطابقة بين القول والعمل إذا ما نهى عن شيء وفعله.. ولعله من هذا الإيمان في المطابقة بين القول والعمل سخر كثيراً من هؤلاء الذين لا يعملون بل يعتمدون على الدعاء، هؤلاء الذين يكثرون القول دون القيام بأي فعل ولعل هذا ما قصد إليه في (الصاهل والشاحج) حين هدد البعيرُ البغلَ بالدعاء عليه فكان ردُّ البغل: "أما تخويفك إياي بدعائك، فإن الوحش الراتعة تبتهل على سيد الغابة مذ كانت الخليقة، وما لقي من دعائها إلا خيراً وكذلك صغار الطير يدعون على الباز والأجدل (الصقر) وما يزدادان بذلك إلا رغبة في صيدهن، والظباء والسُماسم (صغار الثعالب) يرغبن إلى ربهم في هلاك الذئب والكلب الصائد فما سُمع منهن دعاء"(7).


لو كان المعري بيننا اليوم لما احتاج أن يقول غير هذا الذي قاله أمام العجز العربي الذي يكتفي فقط بالدعاء على الأشرار والسفاحين بالموت.


يسخر المعري من هذا الإجماع على الذل والهزيمة وتلقي الإهانات بصدر رحب فيقول:


على الذم بتنا مجمعين وحالنا


من الرعب حالُ المجمعين على الشكر


ونتساءل هل قرأ المعري المستقبل الذي نحن فيه حيث وصلنا إلى العالم الجديد الذي يتساوى فيه الإرهابي مع المدافع عن حقوقه (المقاوم) يتساوى فيه الشهيد مع المقتول. يتساوى فيه الجلاد والضحية حين ذكر الحادثة التالية:


".. وبعد أن صار ملك الحيوانات من أهل الجنة، يفترس ما شاء الله مما حوله، فلا تتأذى الفريسة التي تجد من اللذة وهي تؤكل كاللذة التي يجدها ملك الحيوان وهو يأكل!!


يسخر من الجهل والتقليد:


لقد ساد الجهل بين الناس لدرجة صاروا معها يقبلون ما ترفضه العقول ويصور ذلك بسخريته:


لقد صدّق الناسُ ما الألبابُ تبطله


حتى لظنوا عجوزاً تحلب القمرا


أناقة هم أم شاة فيمنحها


عساً تغيثُ به الأضياف أو غمرا؟


ساد الجهل حتى تساوى المبصرون مع العميان.. ولعل المعري يثأر لعماه حتى يُكثر من السخرية بالمبصرين الذين لا يريدون الاستفادة من نعمة الإبصار التي وهبها الخالق لهم، يقول:


وبصيرُ الأقوام مثلي أعمى


فهلموا في حندسٍ نتصادم!


وأما المقلد الذي يعتمد النقل دون العقل، والذي لا يعمل فكره في شيء يعرض له يتناوله المعري بقوله:


في كل أمرك تقليدٌ رضيت به


حتى مقالك: ربي واحدٌ أحدُ


يؤمن المعري بقدرة الإنسان العقل على الإبداع المتجدد بتجدد الحياة، ويسخر من أولئك الذين يقولون في كل زمان: ما ترك الأول للآخر شيئاً.. يسخر قائلاً: "ليس أضرَ على العلم من قول القائل ما ترك الأول للآخر شيئاً" وقد عبر عن إيمانه هذا ببيته الشعري الأشهر


إني وإن كنت الأخير زمانه


لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل


السخرية من شعراء التكسب:


يسخر شاعرنا من شعراء التكسب فلا يسلم أحد من صورة ساخرة نالته يقول:


تكسب الناس بالأجساد فامتهنوا


أرواحهم بالرزايا في الصناعات


وحاولوا الرزق بالأفواه فاجتهدوا


في جذب نفع بنظمٍ أو سجاعات(8)


ويعتبر المتكسب بالشعر إهانة أو وصمة عار على جبين الشعر الحقيقي:


ومغرم بالمخازي طالب صلة


مغرى بتنفيق أشعار له كسد(9)


ويقول: إذا سار شعر التكسب وانتشر بين الناس فإن الشعر الحقيقي يُصاب بالكساد:


يحق كساد الشعر في كل موطن


إذا نفقت هذي العروض الكواسد(10)


في كتابه (الصاهل والشاحج) يتحدث عن شعر التكسب على لسان الشاحج (البغل) فيقول:


"فإني كرهتُ أن أتصور بصور أهل النظم المكتسبين الذين لم يترك سؤال الناس في وجوههم قطرة من الحياء، ولا طولُ الطمع في نفوسهم أنفة من قبيح الأفعال".


لأن الشعر عند المعري "إذا جُعل مكسباً لم يترك للشاعر حسباً، وإذا كان لغير مكسب حَسُنَ في الصفات والنسب".


ولا يسلم (ابن القارح) بطلُ رسالة الغفران من سخرية أبي العلاء حين حاول أن يتوسل طمعاً بدخول الجنة يقول المعري على لسان بطله: "... زينتْ لي النفسُ الكاذبة أن أنظم أبياتاً في (رضوان) خازن الجنة عملتها على وزن:


قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان


ورسم عفت آياته منذ أزمان


ووسمتها ب (رضوان) ثم ضانكت الناس، حتى وقفت منه بحيث يسمع ويرى فما حفل بي ولا أظنه أبهَ لما أقول..


ثم عملتُ أبياتاً على وزن:


بان الخليط ولو طووعتُ ما بانا


وقطعوا من حبال الوصل أقرانا


ووسمتها برضوان ثم دنوت منه ففعلتُ كفعلي الأول.. فلم أزل أتتبع الأوزان التي يمكن أن يوسم بها رضوان حتى أفنيتها وأنا لا أجد عنده مغوثة ولا ظننته فهم ما أقول؟!


لم يستجب (رضوان) فملأ اليأس والحزن روح ابن القارح فصاح بأعلى صوته وقال:


"قد مدحتك بأشعار كثيرة ووسمتها باسمك.." فقال: ما الأشعار فإني لم أسمع بهذه الكلمة قط إلا الساعة؟ فقلت الأشعارُ جمعُ شعر والشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط...


وكان أهل العاجلة يتقربون به إلى الملوك والسادات..".


ولكن رضوان طرده فانصرف إلى خازن آخر يتوسل إليه بالشعر ولقي منه ما لقي من الأول... ولعل هذا الموقف صرف ابن القارح عن الاهتمام بآداب الجن معللاً بذلك بقوله: "لقد شقيتُ في الدار العاجلة بجمع الأدب ولم أحظ منه بطائل، وإنما كنتُ أتقرب به إلى الرؤساء فاحتلب منهم درّبكي.."(11).


يتساوى المدح والهجاء عند المعري حين يبالغ المادحون (الشعراء) فيسبغون على الممدوح صفات ليست فيه يقول:


إذا أثنى عليّ المرء يوماً


بخير ليس فيَّ فذاك هاجِ(12)


***


سيّان عندي مادح متخرص


في قوله وأخو الهجاء إذا ثلب(13)


أما إذا بالغ المادح في إضفاء صفات ليست لبني البشر على ممدوحه فإن الهجاء في هذه الحالة يكون أفضل:


إذا كان التقارض من محال


فأحسنُ من تمادحنا التهاجي(14)


يقبل المعري الهجاء من (الحطيئة) لأن الهجاء عند هذا الشاعر يمثل الوجه الحقيقي لنفسه، ولعل هذا الصدق مع النفس والانسجام مع الذات هو الذي جعل مؤلف رسالة الغفران يجمع بطله (ابن القارح) مع الحطيئة ليصفه بالصدق في هجوه لنفسه.. وحين يذكره بممدوحه الزبرقان بن بدر يقول الحطيئة:


"انتفع بهجائي ولم ينتفع غيره بمديحي"(15)


السخرية من شعر المدح جعلت المعري يتنكر لشعر المدح الذي قال بعضاً منه في ديوان صباه (سقط الزند). قال في مرحلة عزلته ونضجه: "مدحت فيه نفسي فأنا أكره سماعه" ويقول تلميذه التبريزي "رأيته يكره أن يُقْرأ عليه شعر صباه في (سقط الزند) وكان يحثني على الاشتغال بغيره من كتبه مثل "لزوم ما لا يلزم"(16).


سخريته من الأدباء المتكسبين:


أمام عجز الأدباء والمفكرين العرب عما يجري في الوطن العربي.. وأمام شجاعة بعض أصحاب الضمائر الحية من الأدباء والمفكرين في العالم؛ أمام هذا وذاك تتألق سخرية المعري من أدباء عصره الذين يقودون الناس إلى الكذب والذل:


وما أدب الأقوام في كل بلدةٍ


إلى المين إلا معشر أدباء


بهذا البيت أعاد المعري كلمة أدب إلى معناه الأصلي هو الدعوة إلى الطعام والأدب دائماً دعوة... إلخ... لكنه في بعض العصور صار دعوة إلى الموت لا إلى الطعام


وكل أديب أبي سيدعى إلى الردى


من الأدب لا أن الفتى متأدب(17)


صناعة الأدب الإبداع يربأ بها المعري أن تنزل إلى السوق فتعرض للبيع للطغاة والأغنياء، وهذا ما سخر منه صاحب (رسالة الغفران) في حوار تخيله بين إبليس وأديب حلبي "يقول إبليس: من الرجل؟ فيقول: أنا فلان بن فلان من أهل حلب، كانت صناعتي الأدب أتقرب به إلى الملوك فيقول إبليس: "بئس الصناعة إنها تهب رغفاً من العيش لا يتسع بها العيال وإنها لمزلة بالقدم"(18).


ولا نظن أن المعري يقف بسخريته عند أهل الأدب فقط، بل يتعدى ذلك ليسخر من المجتمع بكافة فئاته وجوانبه الذي لا يقدر المبدعين والأدباء حق قدرهم... لأن السائد في عصر المعري كما في عصرنا هذا أن الجاهلين يعيشون بنعمةٍ وغنى يفوق الحد، بينما لا يجد المبدعون ما يسدُّ رمقهم، ونتساءل هل هذا الواقع كان وراء صرخة المعري البائسة في اللزوميات؟‍!


إنا لِمَا نحنُ فيه من عنت


فكلنا في تحيل ودلس


السخرية من بعض النحويين:


سخر المعري من النحاة واللغويين الذين عقدوا مسالك النحو وأحالوه إلى طلاسم وألغاز بعد أن كان مع الأوائل من النحويين حلو المجتنى يلبي حاجات النطق، حيث لم يكن فيه تكلف أو تصنع على يد أبي الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد، ولكنه صار صعباً مطلوباً لذاته على يد الأخفش والكسائيُ والفراء وأمثالهم الذين عقد لهم في رسالة الغفران مجالس ساخرة وشغلهم بجمهرة من المسائل النحوية والصرفية واللغوية وجعلهم في الفردوس (متحابين) بعد أن كانوا في الدار العاجلة (متباغضين).


فقد غسل صدر أحمد بن يحيى (ثعلب) من الحقد على (محمد بن يزيد (المبرد) فصارا يتصافيان ويتوافيان... وسيبويه قد طهرت سويداء قلبه من الضغن على علي بن حمزة (الكسائي) وأصحابه لما فعلوا به في مجلس البرامكة.


وقد شغل النحاةُ بطلَ رسالة الغفران ابن القارح بكلامهم حتى ضاع منه صك التوبة وجعل يلومهم على هذه الضجة قائلاً: "كنت قد رأيت في المحشر شيخاً لنا كان يدرس النحو في (الدار العاجلة) يعرف ب (أبي علي الفارسي) وقد امترس به قوم يطالبونه ويقولون: تأولت علينا وظلمتنا فلمّا، رآني أشار إليَّ بيده فجئته فإذا عنده طبقة منهم (يزيد بن الحكم الكلابي) وهو يقول: ويحك أنشدت عني هذا البيت برفع (الماء) يعني قوله:


فليت كفافاً كان شرك كلُّه وخيرك عني ما ارتوى (الماء) مرتوي


ولم أقل إلا (الماء) بالنصب، وإذا جماعة من هذا الجنس كلهم يلومونه على تأويله فقلت: يا قوم: إن هذه أمور هينة فلا تعنتوا الشيخ فإنه يمت بكتابه في (القرآن) المعروف ب (كتاب الحجة) وأنه ما سفك لكم دماء ولا احتجن عنكم مالاً فتفرقوا عنه(19).


ويعقد بين اللغويين في جنته حواراً فينصرفون عما هم فيه من نعيم يتجادلون حول اسم (سلال) في الجنة(20).


ومعظم النحاة عند المعري أهل تزيّد ومبالغة لم يتورعوا من الاستشهاد بكلام طفل أو امرأة ليست بذات بال(21)…. وبلغت سخريته بالنحاة أن جعلهم مشغولين ببطونهم بعد أن اطمأنوا لمكانهم في الجنة فأبو عبيدة اشتهى طاووساً مشوياً من طواويس الجنة وقد رآه طائراً يروق من رآه حسناً متمنياً أن يشوى بالخل فيكون كذلك في صفحة من ذهب… وحين تمر إوزة من فوقهم تشرئب أعناقهم فيشتهيها بعضهم مشوية أو كَرْدَناجاً أي كباباً بالفارسية، أو معمولة ب (سماق) أو ب (لبن وخل). فتكون على ما يتمنون، وحين بلغوا ما تمنوه قال أبو عثمان المازني للأصمعي: "يا أبا سعيد. ما وزن إوزة؟ فيقول الأصمعي: "أإليّ تعرّض بهذا يا فُصْعُل؟"(22) وطالما جئت مجلسي بالبصرة وأنت لا يرفع بكَ رأس(23).


وتجلت سخرية المعري بالنحاة حين صور فرح أهل الجنة بضياع النحو.. فرحوا لأنهم عندئذٍ فقط سوف يتكلمون بلغة الأصول النقية التي لم تصلها يدُ نحوي لأن الناس احتاجوا في الدار الفرارة إلى علم النحو واللغة لأن العربية الأولى أصابها تغيير".


بهذه الإشارات الدالة الساخرة يضع المعري أيدينا على فكره اللغوي القائم على العودة إلى الأصول الصافية… وإذا كان يؤمن بضرورة النحو من أجل سلامة اللغة.. فإنه أعلن في جدّه وسخريته عدم ثقته بالنحو المتخم بالتكلف والاصطناع والتأويل، الأمر الذي دعاه لأن يهتف في كتابه "الأيك والغصون" يا نحو يا نحو حُقَ لما كتب فيك المحو"(24).


سخر المعري من النحاة وتخيل جدلهم ونقاشهم مثل هدير الجمل إذ أضاع المتأخرون النحو التقي الأصيل الذي خلفه الأوائل.. فلو عاش الدؤلي حتى يسمع كلام الفارسي في الحجة ما فهمه فيما أحسب إلا فهم الأمة هدير السنداب(25).


بعضُ الشخصيات.. بعضُ القضايا.. تبقى أهميتها براهنيتها وليس بتاريخيتها.. وحديثنا اليوم عن المعري لراهنيته حيث ابتعد بنفسه عن الانشغال باليومي الزائل بأدب المناسبات. وعانقه شوق الكتابة العقلية المفتوحة الآفاق بحيث تتعدد القراءة معها بتعدد القراء…


فمن قرائه منْ وجد في كتابات المعري سيطرة العقل على الإبداع.. ومنهم منْ وجد مرارة السخرية ومنهم منْ وجد الآثار النفسية للحرمان الذي عاشه سجين المعرة الذي لم يستطع التواصل مع الآخرين إلا من خلال الإبداع الذي حاول من خلاله فتح حوار مع الآخرين كما حاول من خلاله تجاوز الهوة التي تفصله عن الآخرين فبنى مملكته من الكلمات والصور "الخيال" ولعل لذة الإبداع والكتابة كانت البديل عن التواصل مع الآخرين.


السجن المركب الذي عاشه فتح خياله الأدبي وحسَّه الفني فانبرى يبدع… فكانت (رسالة الغفران) إحدى الثمرات تميزت بقضايا هامة منها… تمردها على الأجناس الأدبية المعروفة في النثر العربي حتى أيام المعري.. تعدّى فيها المقامة وتعدّى الرسالة الإخوانية كما تعدّى النثر المسجوع. وأعاد للنثر العربي حريته التي عرفها عند (الجاحظ)..


كل ذلك وغيره جعل (رسالة الغفران) مأدبة أدبية متنوعة الأشكال والصنوف والألوان فيها من الترسل طرف ومن الخير الأدبي نصيب ومن الخرافة والأعاجيب ألوان.. فيها المقامة، فيها الشعر بنفحه وإيقاعه…


هذا التنوع غذى (رسالة الغفران) بهذه الشعرية الفذة التي لا تنفك تغذي القراءة وتفتح أبواب البحث والدراسة.


هذه إطلالة مفيدة بحدود الوقت على السخرية عند أبي العلاء (المعري) الذي لم تفارقه الابتسامة طوال رحلته في (رسالة الغفران)…


والواقع أن المعري هو الذي قام بتلك الرحلة وليس صديقه ابن القارح الذي هو هنا في رسالة الغفران قناع للمعري، اسم مستعار له، دريئة يختفي وراءها رغم حقيقته التاريخية.


في هذه الرسالة يبلغ المعري ذروة السخرية الأمر الذي رفعه إلى مصاف الساخرين الإنسانيين العالميين الكبار.. إذ تميز بهذه الرسالة بروعة الخيال وعبقرية السخرية. ودائماً.. العبقرية المبدعة لا مكانية ولا زمانية كما يقول فيتكور هوغو.


المصادر والمراجع


1 أبو العلاء المعري بين الشعر والفلسفة، مصطفى موسى، مقال في مجلة الفصول الأربعة ليبيا السنة الرابعة العدد 27 كانون الأول عام 1984 ص 102 111.


2 أسلوب أبي العلاء، عمر فاخوري، مقال في مجلة الطريق، العدد 18 19 تشرين الأول عام 1944 لمناسبة الذكرى الألفية لمولد أبي العلاء المعري وقد أعيد نشر المقال في مجلة الطريق العدد الثاني، نيسان 1982.


3 بين أبي العلاء وهنري ميشو، رفيق حويجاتي، مقال نشر في مجلة (المعلم العربي) العدد الخامس عام 1983.


4 رسالة الغفران، أبو العلاء المعري. تحقيق الدكتورة عائشة عبد الرحمن، بنت الشاطئ القاهرة. طبعة دار المعارف بمصر 1963.


5 اللزوميات لزوم ما لا يلزم، أبو العلاء المعري، أشرف على الاختيار والتصحيح عمر أبو النصر، بيروت، دار عمر أبو النصر وشركاه. الطبعة الثالثة عام 1971.


________________________________________


* باحث من سورية.


(1) أدونيس مقدمة الشعر العربي ص 41.


(2) رسالة الغفران ص 338 339.


(3) هادي العلوي.. المنتخب من اللزوميات. ص 205.


(4) رسالة الغفران ص 176 177.


(5) سورة طه آية 115.


(6) رسالة الغفران ص 360.


(7) هادي العلوي المنتخب من اللزوميات.


(8) اللزوميات دار عمر أبو النصر وشركاه ص 60.


(9) اللزوميات دار عمر أبو النصر وشركاه 1/233.


(10) اللزوميات دار عمر أبو النصر وشركاه 1/229.


(11) رسالة الغفران بنت الشاطئ 292 293.


(12) اللزوميات دار صادر 1/372.


(13) اللزوميات دار صادر 1/280.


(14) اللزوميات 208.


(15) رسالة الغفران 307.


(16) شروح سقط الزند 1/3.


(17) اللزوميات دار النصر وشركاه 1/71.


(18) رسالة الغفران 309.


(19) رسالة الغفران 254 255.


(20) رسالة الغفران 280 281.


(21) رسالة الغفران 238.










رد مع اقتباس
قديم 2013-03-21, 19:00   رقم المشاركة : 265
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

شيء من الحداثة
محمد الميموني

الظاهرة الحضارية والثقافية التي اختزلت في مصطلح الحداثة هي عبارة عن موجات نهضوية متلاحقة انطلقت في الغرب الأوروبي بقوة دفع رياح الحرية منذ مطالع عصور الأنوار وامتدت على مدى أفق شاسع ، وتجذرت في عمق عمودي غائر وأثمرت عقولا خارقة وأذواقا بديعة ما زال أثرها حيا فاعلا في حياتنا ما ظهر منها وما خفي .
بدأت كحركة نقدية كاسحة شملت كل أساليب الإبداع ومناهج التفكير ومسلمات الفلسفة والأخلاق والدين والقانون والسياسة والاقتصاد .. وأفضت إلى انفتاح الوعي الغربي على أبعاد لا عهد له بها، في النفس الإنسانية وطبيعة الحياة وأسرار العالم . وبفضل هذه الحركة النقدية استيقظ الإنسان الغربي على عالم جديد وأدرك بغتة أنه لا يقف على أرض ثابتة كان قد اطمأن لها طويلا . فقد فتحت الأبحاث العلمية أمامه فضاء جديدا أطل من فجوته على ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من قبل.
وما الإنجازات الباهرة التي تجلت في كل مظاهر التفكير والإبداع والسلوك وممارسة الحياة في الغرب الأوروبي ، إلا ثمار هذا الفهم الجديد للحياة الذي حرر الأذهان من كثير من المعوقات والكوابح، وأطلق طاقات إبداعية مخَصَّـبة بلقاح التجدد الذاتي الواقي من التكلس والعقم وهو اللقاح الذي استقر كعنصر أساس من بنية الحداثة في كل مراحلها .

كانت الموجات النقدية الأولى قد جرفت كثيرا من مسلمات ومعتقدات القرون الوسطى الأوروبية ،ولكنها أفرزت بدورها مسلمات أخرى هيمنت خلال القرن السابع عشر ، على الحياة الفكرية كأساليب في تلقي العالم وفهمه ، ورغم استناد تلك المسلمات على نتائج البحوث العلمية والفلسفية ، فإنها في آخر المطاف مالت نحو الاستقرار في مدار واحد تستقطبه عناصر ثلاثة هي : الثنائية ، والحتمية ، والآلية .وهي العناصر التي كونت محورا جاذبا دارت حوله كل النشاطات الفكرية والعلمية منذ أواخر القرن السادس عشر وطيلة السابع عشر ،وتكرست كمسلمات علمية لا تقبل الجدل
وكان من أبرز مظاهر التفكير الثنائي ، الفصل الصارم بين الذهن والجسد باعتبارهما هويتين مختلفتين إلى حد اختصاص كل واحد منهما بوظائف لا تمت إلى الثاني بصلة . ويعتبر ديكارت ( 1596 ـ1660 ) أبا هذا التفكير الثنائي بقوله إن الدائرة الداخلية ( الخيال ) مختلفة عن الدائرة الخارجية (الطبيعة ) ومفارقة لها ، وإن الذهن يستطيع أن يفكر منطقيا ويحس ويتخيل بمعزل عن الطبيعة ،بينما يخضع عالم الطبيعة للقوانين العلمية الصارمة (الآلية ).وفي هذا الاتجاه سار العالم الرياضي إسحاق نيوتن (1642 ـ 1727 )بصياغته لقانون الميكانيك (الآلية ).
وبلغت الرؤية الحتمية أوجها على يد أوغيست كونت (1798 ـ 1857 ) الذي حسم القول في المقاييس المتينة والحتمية التي تحكم الواقع المشاهد الذي لا واقع بعده.
في هذا السياق انتعشت واقعية متطرفة أحاطت نفسها بحدود صارمة وقررتها حدودا" واقعية" للكون لا يجوز خرقها إطلاقا، واقتنعت بأن رؤيتها للواقع تقوم على مبادئ ثابتة ومستقلة عن كل تقييم ذاتي لأنها قوانين كونية تعلو على كل الأزمان والثقافات، وأن أي رؤية أخرى للعالم وفهمه خارج هذه الحدود "الواقعية" ليست إلا ميتافيزيقا أو خرافة أو شطحات رومانسية .
وكان من نتائج هذه الرؤية الثنائية أن ساد شعور باغتراب رأى الإنسان الغربي نفسه من خلاله مفارقا للعالم مكتفيا بملاحظة ما يجري فيه ، معلبا ضمن حتمية قوانينه .
وربما اقتنع الإنسان من خلال فكرة الفصل بين الذهن والطبيعة أنه معفى من الاشتغال بما ليس من وظائف ذهنه ما دامت قوانين الذهن مفارقة لقوانين الطبيعة ومستقلة عنها .
1

وأكيد أن القول بالزمان الطولي التعاقبي السائر نحو الأحسن ، وبالمكان الثابت بقوة الجاذبية إلى الأرض ،قد أوهَما الإنسانَ الغربي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بالثبات والاستقرار الزائفين والزائدين عن الحد.

على هدي هذه الخريطة الفكرية التي كونها الإنسان الأوروبي عن الحياة والأحياء استشعر مرة أخرى، وبثقة زائدة ،أنه واقف على أرض ثابتة ، وسائر على الطريق الوحيد الواصل إلى المستقبل الأفضل. وعلى خلفيتها صنف ثقافته العقلانية والواقعية في قمة سلم المعرفة ،ووضع ما عداها في أدنى الدرجات باعتبارها غيبية وأسطورية وبدائية .
وعلى أرضية هذه الحركية الآلية المحتومة والأحادية التوجه ، رستْ أسس الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر وأدت إلى توسع المدن ونشوء المعامل الضخمة وبالتالي تفكيك التجمعات البشرية الصغرى والحميمية، واندثار الصناعات اليدوية والفلاحية ذات النكهة والدفء الإنسانيين والطابع الفردي الخاص ،وذلك ما تحول في آخر المطاف إلى ما عرف بالغم الحداثي أو الاستلاب العصري ، المترتب عن العطش الاستهلاكي الذي لا يرتوي .
وكنتيجة لهذا التوسع الصناعي الآلي اجتاح الغربُ المزدهرُ ماديا ،المقتنع بتفوقه معرفيا، مجالَ الآخرين الذين صـنفهم ،وفقا لنظرته الاختزالية للعالم ، في آخر القافلة ،باعتبار العالم آلة تتحرك في المكان ضمن زمان طولي لا غاية له إلا التطور إلى أمام .
بل وصل الأمر ببعض الأوساط العلمية في القرن التاسع عشر وبدايات العشرين ،أن ادعت احتكار الحقيقة ،وأجازت لنفسها تقسيم المعارف الإنسانية إلى حقيقية وزائفة ،ومنحت الأفضلية والتميز للإنسان الأبيض على باقي الأجناس ، في القدرة على المعرفة والاستفادة من نتائجها، بل إنها ميزت ضمن الجنس الأبيض بين الذكر والأنثى ،وبلغ الغلو بها إلى تفضيل الذكور المنشغلين بالعلوم الطبيعية والفيزيائية على أندادهم المهتمين بالعلوم الإنسانية .وبذلك عملوا على تسليح عتاة الامبرياليين بالنظريات التي تبرر لهم استغلال الشعوب الأخرى المغايرة في رؤيتها للعالم وقراءتها للحياة .
ولكن آلية الدفاع الوقائي التي اكتسبها الذهن الغربي عبر قرون من ممارسة النقد والنقد المضاد لم تتوقف قط عن الاشتغال ،فلم يشفع لمسلمات القرن السابع عشر والثامن عشر استنادها على نتائج البحوث العلمية لتسلم من النقد والتعديل والتجريح بل والإلغاء أحيانا . فإن من أهم ما يميز الفكر والثقافة الغربيين هو قابلية التجدد،عبر المرونة المطلقة المنفتحة على كل الآفاق . وهي الميزة التي شكلت مناعة هذا الفكر ضد التيبس المؤدي إلى العقم .وبفضلها دأب الفكر الغربي على تجاوز ذاته وتجديد دمائه بواسطة الإفراز التلقائي لمادته المناعية ضد كل وثوقية أو استفراد تيار ما بالكلمة الفصل مهما كانت النظريات التي يستند إليها أو السلطة التي يستقوي بها.
بفضل هذه الآلية النقدية المرنة تخلخلت الوثوقية الوضعية في بداية القرن العشرين على يد "ألبير اينشتاين Albert Einstein ( 1879 ـ 1955 )الذي راجع الميكانيكية النيوتينية بعد ما هيمنت بإطلاق طيلة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر . وأطلق افتراضاته في النظرية الخاصة والعامة حول نسبية الزمان والمكان المتواصلين والممتدين في عدة اتجاهات ،وصاغ معادلته عن تحول الكتلة إلى طاقة حين تطابق سرعتها ـ أو تكادـ سرعة َ الضوء ..وبرمج في مجال موحَـد طاقات متعددة ومختلفة ..وبذلك أسس لظهور نظريات فلسفية مستمدة من نتائج أبحاثه أثبتت الحاجة إلى تحول مفاهيمي يتجاوز المناهج التقليدية للتفكير في الظواهر الفيزيائية .


2



وكرد فعل للغلو العقلاني لدى بعض تيارات الحداثة برز اتجاهان نقديان : أحدهما إيجابي معتدل يقوم على أساس نقد الحداثة في جانب غلوها العقلاني الصارم .ومسعى هذا الاتجاه
هو التخفيف من حدة العقلنة وصرامتها المفرطة وتوجيه الاهتمام إلى مجالات أخرى من القدرات الإنسانية وفعالياتها في حل المشكلات الفكرية والاجتماعية التي أفرزتها حركات التحديث.
أما الاتجاه الثاني فقد اتخذ موقفا سلبيا ضد العقلانية عامة ، برفضه كل القواعد والتنظيمات والمحددات والأنساق السياسية والاجتماعية والثقافية التي قامت عليها الحداثة منذ نشوئها في القرن السابع عشر وامتدادها طوال الثامن عشر .

ويرى جينيفير ويلسونWilson Jenniferأن السنوات العشرين الأخيرة من القرن الفائت ،شهدت موت النموذج الديكارتي /النيوتيني ( على المستوى الفكري /الثقافي ) بفعل تيارات ما بعد الحداثة التي كثـفت نقدها للأفكار المستندة إلى فيزياء وفلسفة القرن السابع عشر .(الجمالية الكوانتية وتاريخ الفن ص.141 )
وحسب قراءة أكتابيو باث لهذا المسار ( Octavio Paz – La otra voz) تكون ملامح نقد الأفكار التي قامت عليها الحداثة قد بدأت في التبلور مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ويأتي ،مثالا على ذلك ،بنقد فكرتين أساسيتين قامت عليهما الحداثة منذ نشوئها في نهاية القرون الوسطى الغربية : فكرة الزمن المتعاقب الطولي المتجه صوب مستقبل يتحسن باستمرار ،وفكرة التحول التفاضلي ضمن هذا التعاقب الزماني .
الفكرتان معا امتزجتا في إطار الرؤية الحداثية للتاريخ كمسيرة تتخطى الماضي وتنزع عنه القداسة وتضفيها على المستقبل الذي أصبح يحتل لدى منظري الحداثة ، حيزَ الجنة الموعودة .
وكان المظهر الاجتماعي للرؤية التي عبرت عن فكرة التعاقب الطولي والتحول التفاضلي هو التغيرات السياسية والاجتماعية المتواصلة سواء ما يتم منها بسلاسة أو ما يتم بطفرات عنيفة ،فكلها في منظور هذه الرؤية تحولات ثورية تعبر عن تقدم المجتمع نحو المستقبل .

أما في مرحلة ما عُرف بما بعد الحداثة ،فلم يعد المستقبل هو القطب الجاذب ، وتلاشت فكرة الزمن الطولي المتواصل الذي يسعى إلى مستقبل يلمع بإغراء. وتبخرت يوتوبيا الثورة الكبرى التي ألهمت الكثيرين في أوائل القرن العشرين ،واختفت أو فترتْ ،عوامل التماسك الاجتماعي ،وبرزت الفردانية الشرسة والأنانية اللامبالية. وما نشاهده اليوم من انتكاسات في مجال حقوق الإنسان وانهيارات في مبدأ المساواة بين جميع البشر ،ما هو إلا مظهر لسقوط فكرة التطور كما تصورتها عصور الحداثة.
وخلال العقد الثامن من القرن العشرين كان التفكيكيون المابعد حداثيين منشغلين بمفهومي الدال والمدلول في اللغة ،ووصلوا إلى حد إنكار العلاقة الحتمية بينهما. وبضياع العلاقة بين الدال والمدلول قطع التفكيكيون آخر الوشائج بين تفكير ما بعد الحداثة والنظريات الكونية في القرن السابع عشر ،وأعلنوا موت المعنى والحقيقة والأصالة والواقعية بل والواقع ذاته . وقد أحدثت هذه الحملة التدميرية زلزلة في قناعات ومسلمات الرؤى الكونية لعصور الحداثة منذ القرن التاسع عشر ، فأصبح المشهد الفكري في حاجة إلى إعادة ترتيب ...
ولكن آلة النقد ما زالت تدور ..










رد مع اقتباس
قديم 2013-03-21, 19:07   رقم المشاركة : 266
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الأدب العربي بين الأصالة والحداثة - د.مها خير بك ناصر


1. مدخل ومفتاح


مذ وجد الإنسان، ارتبط وجوده بالتساؤل والشك، والبحث عن الحقيقة، فهل كان هذا الوجود انبثاقاً عن حركية يرفض سكونية البقاء وما يتمظهر معها من راحة واستقرار وسلام، أم تحقيقاً للمشيئة الإلهية المتصفة بالقدم والأزل؟


لا تعنيني هذه الإشكالية بقدر ما يعنيني صراع الإنسان مع ذاته من جهة، ومع واقعه من جهةٍ أخرى، والأهم من هذا الصراع ما يتولّد عنه من تجاذب بين طمأنينة القبول وقلق الرفض، مما يكسب وجوده فاعلية الحياة، وما يرافقها من حركة لا نهاية لها.


إذا كان التعايش مع الظروف، والواقع الجديد، نوعاً من العقاب على ما ارتكبه الإنسان من خروجٍ على المألوف والمعهود فهو في شكلٍ آخر دعوة إلى التحدي وإثبات الذات.


والدعوة في معانيها الباطنية حركة تتخطى السكون، والمألوف والراهن، وتتجه نحو مسارات تتمحور حول نقطة واحدة تختزل رغبة الإنسان في رفع الحجاب عن كمونه الإرادي في لحظة التعالي والتسامي على الصعاب وتذليلها. ومن ثم تتولَّد لديه حالة من النشوة، يتحرر معها ويطمح إلى كشف النقاب فيتعرّف إلى ذاته العظيمة، القادرة على القهر، والإذلال، والإخضاع، ويترسّخ إيمانه بقوته وجبروته، مما يدفعه إلى تأسيس مركز قضيته بغية اختراق الشكلي الجاهز وتسيير العالم، ليكون أكثر ملاءمةً وتوافقاً مع طموحاته وأحلامه.


هذه فرضية ليست بالضرورة قابلة للبرهان، ولكنها قابلة للتصديق أو النفي، وبين النفي والتصديق حركة لا تنتهي، حركة تستفز الذات الإنسانية وتدفعها إلى البحث والتنقيب، ثم تنقلها في لحظة تجل وانعتاق إلى حالة من الاندهاش، في عالم مفتوح لا حدود له، ومحجوب مغلق في آن معاً. فتتمخّض الدهشة نطقاً بدائياً يختزل معان إنسانية باطنية لا حصر لها. فكانت الكلمة الأداة الأكثر تعبيراً عن الذات الإنسانية، وعن رغبتها في التواصل، وتقليص مساحات التوحش والاغتراب النفسي.


بعيداً عن التأويل الديني، يمكنني القول إن الإنسان الأول مبدعٌ وخلاق، "فالمسيح كلمة الله". و"في البدء كان الكلمة"، والإنسان القادم من لدن الله استطاع أن يستخدم أداة التبليغ الإلهية-الكلمة-واستعاد بذلك شيئاً من لا محدودية قدرته وعظمته. ألم يطلب الله من الملائكة السجود لآدم؟ ولذلك يمكننا وصفه بالخلاق القادر على جعل الصامت المحتجب ناطقاً يعلن عن انفعالاته، ومشاعره، وأحاسيسه، ورغباته، وتطلعاته بأشكالٍ مختلفة تتفق وحاجات النفس البشرية، الهادفة أبداً إلى تأصيل وجودها، وتكريس طاقاتها إزميلاً لكشف الغطاء عن سرّ الحياة. ومادامت الحياة في سيرورة استباق، فالنفس البشرية المبدعة ستبقى في حركة دائمة تستقصي الحقائق، وتبحث عن الجوهري، معلنة في كل لحظة مضيئة من وجودها عن دأبها الساعي إلى القبض على أسرار الوجود، وترسيخ قوانين الطبيعة علوماً ومعارف تسهم في سيادة الإنسان وتقرير مصيره.


يعتبر الأدب بهذه الرؤيا الخطوة الأساس للمعرفة، وما ينتج عنها من علوم إنسانية تسخّر لخدمة الإنسان، لأنه مركز الكون وقضيته الرئيسية. ولعل الأدب كان التعبير الأول عن حاجات النفس، وعن انفعالاتها واندهاشها المُقنع بالسؤال، فالأدب ليس هواية بل "حاجة أو ضرورة منغرسة في الحياة والإنسان(1)" والقصد منه "الإفصاح عن عوامل الحياة كلها"(2) والكشف عن سر الوجود.


بهذه الرؤيا، يمكننا اعتبار الأدب، المظهر الأسمى المتجلي عن تفجُّر الدهشة، الصادرة عن دأب النفس البشرية لتحقيق ذاتها، لذلك كان لكل مجتمع إنساني تراث أدبي فرضته حقيقة الحياة، وجسّدته فكراً إنسانياً أنجزه تفرّد المبدعين المفعّلين بعمق التجربة وروح الكشف.


ولما كان الإنسان هو الإنسان في كل زمانٍ ومكان، فإن تفرد التجربة الإنسانية يتمخض في كل مجتمع عن فعل كلامي مقنّع بالتساؤل والكشف، جسّده الإنسان العربي بتراثٍ أدبي اختزل اللحظات المضيئة من تاريخه والتي كانت لحظات تأسيسية لأزمنة لا تنتهي، أزمنة تتجاوز ذاتها في حركة دائمة نحو الأمام. فكان الأدب بالنسبة لهم علماً دعاه ابن خلدون "علم الأدب" وعرّفه بقوله: "هذا العلم لا موضوع له، ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة(3)".


فالأدب الحقيقي هو كلمة جوهرية جاءت ثمرة تفاعل الأصيل مع الفرع، ومن أهم ميزاتها الجودة في التعبير عن تجدد الحياة، وعن لهفة الإنسان إلى معرفة ما يجهل، ونقل تجربته الجديدة، بأساليب جديدة تنبئ عن ارتباط أدبه بجوهر الحياة الثابت والمتجدد في آن معاً. وهذا خلق جديد منبثق عن قديم ولكنه مغاير ومختلف.


إن ما تولده الحياة المتجددة من أنماط أدبية جديدة ليس بفرضية يطلب البرهان عليها بل حقيقة ثابتة راسخة أوجدتها سنّة الحياة، وما تصبو إليه من توّحد بين الذات والمعنى، هذا المعنى الجوهري المتصف بالقديم والجديد والمحدث، يلزمه ذات لفظية توازي جدّته وحداثته، وهذا يفرض وجود الإنسان المبدع المحدث القادر على خلق النموذج الأدبي الجديد لفظاً ومعنى ليحدث تغييراً على مستوى الكتابة الأدبية في العصور جميعها، فيقابل النموذج بالرفض أو القبول، ويكون اختلاف بين قديم وحديث، وهذا الاختلاف في رأي طه حسين "أصل من أصول الحياة، يشتد الجهاد بين أولئك، وهؤلاء، حتى يتم انتصار الجديد فيصبح هذا الجديد قديماً، ويظهر جديد آخر يحاربه(4)".


فالحداثة حركة دائمة باتجاه المستقبل، تنبثق عن ماضٍ مضيء، لذلك يكون الكلام على ما بعد الحداثة كلاماً مرفوضاً، فالحداثة ليست لحظة زمنية محددة، إنها الجدّة التي لا تعرف البلى، وهي إبداع لا تَخَلُّق فيه، قديم من حيث الزمن، محدث متجدد من حيث الجوهر والمعنى.


فالحداثة لا تعبّر عن مرحلة آنية، وإنما هي حركة تأسيس واستباق قوامها التساؤل والكشف إنها "معادلة إبداعية بين الثابت والمتغير أي بين الزمني والوقتي فهي تسعى دائماً إلى صقل الموروث لتفرز الجوهري منه فترفعه إلى الزماني بعد أن تزيح كل ما هو وقتي لأنه متغير ومرحلي(5)".


ولذلك لا حداثة من دون تراث تنبثق عن بذوره الحية ثم تتجاوزها لتشكل بذوراً لحداثة أكثر جدّة وتعبيراً عن الحياة المتغيرة في مظاهرها وأشكالها وأنساقها.


ii أنّ التراث والحداثة:


لاشك في إن الإبداع استباق وإضافة، وإذا لم تسهم الحركات الفكرية في إضافة ما، فهي حركات عقيمة لم تقدّم شيئاً على مستوى الإبداع الإنساني. ولم تلامس أحلام الإنسان وتطلعاته، ولم تبشّر بنتاجٍ ثقافي حي.


أن الإبداع وليد مخاض التجربة الذاتية الإنسانية الملقحة بإرث ثقافي حي وفاعل. ومسرح الصرخة الأولى مساحة اللاوعي اللامتناهية، وغير المرئية، وغير الملموسة، فتكون الكلمة الصورة الأصدق والأكثر إيحاءً وتعبيراً عن اصطدام هيولى هذه الروح الجديدة بتموجات أثيرية لا توصف، فتتناغم إيقاعاتها وتتوحّد مع حقائق كونية أزلية لا هوية إقليمية لها.


بهذه الرؤيا أفهم الحداثة، فهي ليست حكراً على زمن محدود أو مكانٍ معيّن. إن نتاج الحداثة منطوق أثيري لا هوية له، يبلّغ رسالة وحي هادفة، أدواتها الكلمة المموسقة بصدق التجربة بغية التواصل اللازماني واللامكاني. فالذي كان محدثاً في شعر الجاهلية، مازال يفعل في نفوسنا وسيبقى فاعلاً في أحاسيس أجيال لم تولد بعد. وما جاء بعد الجاهلية وما بعد صدر الإسلام وحتى يومنا هذا لا يمكن اعتباره محدثاً إلاّ إذا كان ممهوراً بخاصة التفرّد والمغايرة، من دون إعادة الأشكال والأنماط المعهودة.


فالحداثة إذاً ارتباط بالتراث، وهي في الوقت عينه خروج على المألوف، ولذلك رأى أدونيس أن هذه العلاقة حتمية لأن الشاعر العربي المعاصر "لا يكتب في فراغٍ بل يكتب ووراءه الماضي وأمامه المستقبل، فهو ضمن تراثه ومرتبط به، ولكن هذا الارتباط ليس محاكاة للأساليب والنماذج التقليدية، وليس تمشياً معها، ولا بقاءً ضمن قواعدها ومناخها الثقافي الفني-والروحي. فليس التراث عادة في الكتابة، أو موضوعات طُرقت، ومشاعر عُونيت وعُبّر عنها، وإنما هي طاقة معرفة وحيوية خلق، وذكرى في القلب والروح(6)"، ولذلك أعتبر أن للارتباط بالتراث "معنيين (...) ارتباط خلقٍ وإضافةٍ واستباق، (...) وارتباط التقابل والتوازي والتضاد(7)." فالتراث ليس إرثاً مقدّساً بل طاقة تفعِّل عملية الخلق والإبداع، وتحرِّض على إقامة علاقة موضوعية مبنية على النقد والتمحيص والفرز.


والتراث ليس مومياء لا حياة فيها، إنه التربة السليمة لأصالتنا، وفيه تحفِّز كمون الحاضر المعرفي، وتقدح طاقات المبدعين بشرارة فكرية تؤصل للحظة مضيئة في هيكل تفردنا الإنساني، تكون عوناً لأولئك المسكونين بقلق المعرفة والاستباق بغية نزع القشرة عن نواتها، وبعث خلق جديد منبثق عن تنوع الحياة وتناقضاتها.


إن علاقة الأفذاذ بالتراث أشبه بعملية الفصد، إنه جزء من كياننا المعرفي، ولكن يجب التخلص مما ليس سليماً أو صالحاً للحياة. والتحرر من الفاسد لا يكون إلا بالاسئصال، وعملية الاستئصال تتوقف على مهارة المبدعين وقدرتهم على وعي التراث وفهم علاقته بالحاضر والمستقبل.


يمكنني القول إن التراث خَلْف، والتجديد بمفهومه الحداثي أمام، فهل يمكن أن يكون أمامٌ من دون خَلْف؟ وهل الخلفُ بمقطوعٍ عن الأمام؟


إن الحاضر واللحظة اكثر إشراقاً في تلاقي الأمس (التراث) والغد (التجديد). وعلى المبدع أن يستغل فلسفياً وعلمياً وفكرياً وإبداعياً هذه اللحظة الحقيقية، ويمنحها وجوداً متميزاً بالسبق والتأصيل والاستباق، فيكون مفصلاً رئيساً بين ثابتٍ أصيل ومتحرّك متغيّر. فيجعل من هذه اللحظة الحاضرة حلقة تصل ما بين خلف وأمام، وبقدر ما تكون هذه الصلة حقيقية وأصيلة ومبتكرة، تؤسس لنفسها وراءً مضيئاً لا يمكن استئصاله أو رفضه. وبذلك تتكرّس القيمة الإبداعية للفكر الإنساني في لحظة من لحظات انبعاثها، ويثبت هذا الفكر قدرته على خلق أنماطٍ جديدة تتجاوز الأشكال المألوفة وتتجه نحو المستقبل. وهذا التجاوز لا يتحقق إلا بمعرفة سابقة لأن "كل معرفة جديدة تكون بواسطة المعرفة الحاصلة لنا، ولكن ليس كل معروفٍ لنا يؤدي إلى معرفة ما هو مجهول لنا. فلكل مجهول معروف يناسبه، ويمكن بواسطته أن يصبح معروفاً، وكذلك ثمة طريق ينبغي إتباعه للذهاب من المعروف إلى المجهول، حتى يصبح هذا المجهول معروفاً(8). ولذلك لابد لكل كشف من أصل يبني عليه لبلوغ المعرفة، وهذه المعرفة لا يمكن الحصول عليها دفعة واحدة بل لها أساليبها وطرقها، فالمجهول من أسرار النفس البشرية يمكن التعرف إليه وفق طرفي المعادلة الإنسانية التي تحتاج دائماً إلى معلوم مُدرك للتوصل إلى المجهول المحتجب عن طريق الرصد والتناسب بين المرئي والمستتر وبالتناسب يمكننا "الحصول على المجهول من المعلوم الحاصل للنفس.. ولاسيما في أهل الرياضة(9)"، فالتراث هو الطاقة الأساس في استجلاء الطرف المعلوم من معادلة الحياة وما تفرضه من كشف للمجهول عن طريق اختراق قشرة الجمود، والتحقق من وهم الرؤية، وحقيقة الرؤيا، لتتناسل الأفكار رؤىً جديدة مختلفة لها سمتها وخصائصها المتميزة، ليرشح عنها، مستقبلاً، أفكارٌ ورموزٌ ودلالات لا حصر لها.


فالماضي ليس محدداً دلالياً بارتباطه الزماني أو المكاني المحدد، فهو وعاء التراث المخصب بقدرات الفعل البشري غير المقيدة، والمتفاعلة مع سيرورة الحياة وحاجاتها الفكرية وأنماطها الحضارية.


إن موقفنا من التراث هو انعكاس حقيقي عن فهمنا وإدراكنا للوجود والموجودات، وتصوير صادقٍ للخصوبة الفكرية التي تتخذ من التراث مادة أولى للتحليل والكشف ومن ثم إعادة إنتاجه بأدوات العصر وحاجاته وتطلعاته ورؤاه.


إن عملية فرز التراث وتحليله وإعادة إنتاجه تكشف للمبدع العربي الوشائج اللامرئية بين تراثه، وتراث الأمم الأخرى؛ لأن الذات الإنسانية واحدة وبالتالي فإن موروثها الثقافي متشابه ومتداخل ومتشابك من حيث المعنى الدلالي. فالإرث الثقافي الحي يحفظ انفعالات النفس البشرية لحظة احتكاكها بنورٍ معرفي، وهذه اللحظات ما هي إلا زمن انفلت من ذاته المتبلورة، ناشراً فضاء يرتاده المبدعون ليخصبوا قرائحهم، ويبتدعوا فضاء آخر يتمدد ويتواصل من أجل خلق تراث كوني، أسست له لحظات زمنية منفلتة من التعريفات والحدود والانتماءات، إنها اللحظات الأكثر إشراقاً كونياً.


بهذا المفهوم يمكننا النظر إلى إرثنا الثقافي الحي على أنه جزء لا يتجزأ من التراث الإنساني، فإذا تفتقت القرائح العربية عن فعلٍ إبداعي حقيقي فلا يعني ذلك بالضرورة اتباعاً أو تقليداً، فربما وجد مبدع عربي نفسه في إبداعات الغربيين، وإذا ما تشابهت المعاني، فلا يؤدي ذلك إلى رميه بالسرقة والتقليد والتبعية للآخر.


إن النتاج الإنساني يتشابه في جوهره لأنه متفجِّر عن نفس بشرية متوحدة مع الفيض الإشراقي الذي ينهل منه المبدعون على امتداد مستويات الخلق الفني اللامتناهية، وهذا التوحد جسّده بودلير عندما أفصح إلى صديق له عن التقارب الروحي بينه وبين الشاعر الأمريكي "إدغار آلان بو" قائلاً: "أتعرف لماذا ترجمت في صبر ودأب ما كتبه ادغار آلان بو لأنه كان يشبهني. ففي أول مرّة تصفّحت فيها كتاباً من كتبه رأيت فيه ما كان مثار فتنتي وروعتي، ولم أعثر فيه على الموضوعات التي كنت أحلم بها فحسب، ولكنني وجدت فيه كذلك الجمل التي كانت تراود أفكاري وكان له السبق في كتابتها قبلي بعشرين عاماً(10)". وما التشابه إلا دليل على تفتق الفعل الإبداعي عن كمون إنساني واحد من حيث المنهل، ومتعدد في الظواهر الحركية.


إن الموضوعات الإنسانية ثابتة في السلوك البشري والتعبير عنها متغير في الشكل والظاهر، فجاءت الموضوعات متشابهة ومتكاملة، ترشح منها العواطف والمشاعر، ولكنها مختلفة في ظاهر أشكال الأجساد النصية المتأقلمة مع الظروف الاجتماعية والسياسية والبيئية والاقتصادية واللغوية. وهذا الاختلاف في الظاهر الشكلي أوجد تبايناً في عملية تلقي الصور الفاكسية وما يلازمها من تغيير في أنماط التعبير ونقل الرسالة وتلقيح الأفكار. والتباين عينه ولّد حركة كشف واستكشاف تهدف إلى الحصول على معرفة ما، تؤصل التواصل الإنساني وتنتج جينات فكرية جديدة في الشكل، تسهم
في إضافات لا حصر لها على الإرث الإنساني الشامل.

بهذه الرؤيا يمكننا التأكيد على تخليص الحداثة من محدودية الحضور الزماني أو المكاني. فما كان محدثاً في لحظة من الحضور الإبداعي مازالت روحه فاعلة بما هو آت، لأن الحداثة أصل مترسخ وتجاوز متجدد، يخلقها ماضٍ في أثوابِ المستقبل لكأنها أشبه بقول المتنبي:


إذا كان ما تنويه فعلاً مضارعاً *** مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم


نعم إن الحداثة حدث يفرض ذاته، وتفرضه الحياة. إنها كشف دائم عن قضايا إنسانية متلازمة ومترابطة، تنغرس في التراث بقدر ما تتخطى هذا التراث، إنها الفعل الحي الخارج من تراثه، والمندفع باتجاه الآتي.


iii. إشكالية الحداثة والتراث العربي


مما سبق يمكننا القول إن القيمة الإبداعية للفكر الإنساني ترتبط بقدرته على خلق أنماط جديدة تتجاوز الأشكال المألوفة وتتجه نحو المستقبل، فتولد حركة دائمة محفِّزةً بكمون رؤيوي يتمرّد على صنمية التبعية والجمود، ويسعى إلى ابتكار مسار مغير للمسارات المعهودة والمتبعة برضى وقبول تقديس. فيتمخّض الفكر عن فتحٍ جديد، له ميزاته وخصائصه الخارجة على المألوف، والمتمردة على سكونية القبول.


يختزل الفتح الجديد حدثاً مغايراً، ويعلن عن انبثاق حركة جديدة لها أنماطها الأكثر جدّة، وملاءمة للتطورات الحياتية، والاجتماعية والسياسية، وتتميّز بقدرتها على التجاوز والتفاعل والتأسيس. فتعلن هذه الحركة عن تحدث متأصل في تراثه، ومتجاوز له في وقتٍ واحد.


فلا حداثة من دون خصوبة الأصل التراثي ليمنح الأصل الفرع طاقة تساعد على اكتساب خصائص متفرّدة به ومن ثم يكسب نفسه استقلالية وتمايزاً. وتمايزه مرتبط بقدرته على كشف المجهول المحتجب وراء معلوم متأصل وراسخ، ولكنه معلوم يساعد في اكتشاف مجاهيل لا حصر لها في زمن آت له خصائصه وميزاته.


هذه الفاعلية الإبداعية يطلقها روّاد خلاقون لا يعنيهم نقل الحدث بحيثياته المرئية، بل يعيشون تفاصيل الحدث الظاهرة والمستترة، ويلمسون النتائج المرئية وغير المرئية، وينقلون انفعالاتهم ورغبتهم الصادرة عن تجربة ذاتية إنسانية، تفصح عن آلام وآمال وتطلعات النفس البشرية في كل زمانٍ ومكان فينبئ عملهم عن التنقيب في مجاهل الحياة وأسرارها المقدّسة، ويكون لهم فضل السبق في اكتشاف أحد أعمدة الهيكل المحتضن سر الحياة.


النتاج الفكري الإبداعي الحقيقي هو الإنسان، ومن أجل الإنسان. فالإبداع مرادف لجوهر الإنسان وحقيقته، لأن الإنسان كما يقول أدونيس: "ليس قفصاً، بل هو اللانهاية. ليس إقامة، بل سفر دائم. الإنسان هو ما يتجاوز الإنسان، إنه موجود يما يأتي(11)" فهو سر الحداثة، وهو الطاقة المبدعة التي تعني بالتعبير عن روح الثقافة الإنسانية، وهو الخلاق الذي يسكنه الحدث وينغرس فيه، جاعلاً منه الصيغة الأساس التي يبني عليها كيان تعبيري يفصح عن مكنوناته الإنسانية وتطلعاتها.


من أجل هذه القضية لم يقف امرؤ القيس أمام الصحراء عاجزاً، ولم يحتم بإرث والده السلطوي، ولم يتبن عرفاً سائداً، بل خرج على العرف والمألوف وأحدث لرؤاه مساراً مغايراً جعل منه أصلاً لمساراتٍ لا حصر لها. فخرج على المفاهيم المعهودة وغيّر في نظام الأشياء وكيفية رؤيتها، فاخترع من رؤيته وفهمه لمحيطه، معاني صاغها شعراً، لم يسبقه إليه قائل، ثم جاء بعده من استخرج من هذه المعاني صوراً جديدة فأبدعوا. ولذلك وضع ابن رشيق تعريفاً للمخترع، متخذاً من امرئ القيس نموذجاً للمخترع، وواصفاً من جاء بعده من الملقحين بتجربته الشعرية بالمولدين، مدعماً رأيه بالبراهين، قال: "المخترع من الشعر هو: ما لم يسبق إليه قائله، ولا عمل أحد من الشعراء قبله نظيره أو ما يقرب منه، كقول امرئ القيس:

سموت إليها بعدما نام أهلها *** سموّ حباب الماء حالاً على حال









رد مع اقتباس
قديم 2013-03-21, 19:08   رقم المشاركة : 267
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

(...) والتوليد أن يستخرج الشاعر معنى من معنى شاعر تقدّمه أو يزيد فيه (...) والإبداع إتيان الشاعر بالشيء المستظرف (...) فالاختراع للمعنى، والإبداع للفظ(12)".


استطاع امرؤ القيس أن يتبع حركة الواقع من حوله، وأن يرصد بعينه الثالثة ما تولده هذه الحركة من قلق وخوف، إنه الواقع المفجوع بأمنه واستقراره، فضاؤه سراب يشحن إنسانه بالاستسلام والتبعية والعبودية. فالمكوث عنده نهاية والارتحال طريق، وبين المكوث والارتحال تغريب واغتراب وألمٌ ونفي، إنه نفي الذات المصلوبة بألمها عن إنسانها.


رفض امرؤ القيس نفيه الروحي، وتمرّد على أشكال العبودية والاستسلام والتبعية وألّه حريته وموهبته وعظمة الإنسان فيه. فمجّد تفرد ذاته، وتعالى على وحدته بوحدته، ونفى اغترابه باغترابه، وبارك الألم بألمه، وصرع القلق بقلقه. فكشف عن معاناة الإنسان في صحراء تمارس سيادتها على مصيره، تبلوه وتبتليه، فيخضع، وينقاد رابطاً غده بسرابها.


هذا الارتحال القسري الفاجع جابهه امرؤ القيس بفعل يرفض هذه الحركة الارتحالية الاعتباطية المفعّلة بالخوف والقلق، فلم يكن وقوفه على أطلال الأحبّة يهدف إلى البكاء والألم، بقدر ما يهدف إلى خرق العادة، إنه دعوة إلى التأمل وإثبات الذات، بغية فضح الواقع والكشف عن الأسباب المقنعة وراء عجز الجاهلي وانقياده.


كان امرؤ القيس متوحداً مع ذاته العليا، متصالحاً مع نفسه، واثقاً بقدرته على الاختراع، فرفض استسلام الإنسان فيه إلى قدره، وأدرك قدرته على خلق المثال الذي اهتم المقلدون باسمه، وأعرضوا عن معناه. ففي قوله:


قفا نبك من ذكر حبيب ومنزل *** بسقط اللوى بين الدخول فحومل


يبدو لي فعل الأمر "قفا" خروجاً عن عبارة الرحيل، وعلى الاستسلام للقهر والبعد والتخريب، إنه التصوير الأسمى لمشاعر النفس العظيمة في التعبير عن رفضها لحدثان الدهر. إنه الرفض بالتأكيد على القبول، والنظر والفحص والتأمل، كي تبقى الصورة ثابتة في أذهان الصفوة القادرة على التغيير والانتصار.


يشير استخدامه فعل الأمر إلى تحول النفس الإنسانية من حالة الهروب والقبول إلى حالة الثبات والسيادة، فهو لا يتلقى وإنما يأمر. والبكاء ليس ضعفاً إنه من دلالات العطف والشفافية، فهو الآمر والقادر والعارف والعطوف والرحيم. يأمر ويبكي في آن معاً، مسكون بالقسوة، ويسكنه حنين الذكريات، هو المهجّر البعيد والقريب إلى أمكنة يعرفها، والمعرفة طريق لتحطيم صنمية الاستسلام والقهر.


لم يأت تمرده على الواقع ضجيجاً ثورياً، إنه الرفض بالقبول. تستفزه الصعاب ينطقها، تتحداه وحشة الصحراء يؤنسنها، تسخر منه الرياح ورمال الصحراء، يموسقها. فالتجربة عنده عبور نحو ذاته العليا، ليكرِّس وجودها سيادة وحرية، حضورا واستباقاً، كشفاً وبوحاً، تفجراً وتواصلاً وتأسيساً. إنه البحث عن تمجيد ذاته الإنسانية:


فلو أن ما أسعى لأدنى معيشةٍ *** كفاني، ولم أطلب، قليلٌ من المال


ولكنني أسعى لمجدٍ مؤّثلٍ *** وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي(13)


لقد جسّد شعر امرئ القيس انكشاف الأنا على ذاتها، ومن ثم انعتاقها وتحررها في سفرٍ لا زمني اخترق الحاضر الجاهلي وأسس في المستقبل نموذجاً محدثاً لا تتخلق جدّته. وإذا كانت الأثواب قديمة في رأي الناقدين، فهي في الحقيقة أجساد مادية لأرواحٍ لا تعرف الكهولة. وسيجد كل باحث متفرّد مبدع وفي كل زمانٍ ومكان، ومضاً من معانٍ لم يفصح عنها، بعد أن أطلقها امرؤ القيس من أعماق إنسانيته. فكان شعره نموذجاً في الشكل عند الكثير من المولدين والمبدعين والمقلدين، وسيظل تعبيره عن الذات الإنسانية خالداً ومتجدداً، لأنه لم يكن في تجربته ناقلاً بل متخيراً(14).


ولقد أكّد ابن قتيبة(15) توليد الشعراء للمعاني من أقوال امرئ القيس كقوله:


كأن المدام وصوب الغمام *** وريح الخزامى ونشر القطر


يعل به برد أنيابها *** إذا طرب الطائر المستجر


إن اختراع امرئ القيس نموذج الوقوف على الأطلال، أفقده المقلدون خاصته الفنية وتحوّل إلى عرف وقانون لا خروج عليهما، مما دفع بأبي نواس إلى السخرية من هؤلاء الواقفين والباكين، لأنه أدرك "أن الزمن تيار يحرر ويمحو، لكنه قرن هذا الإدراك بمعرفة ثانية هي أن الزمن أيضاً يمنح الأشياء حضورها وقوتها، ويرينا عمق حياتنا الماضية، وأفق حياتنا الآتية، وكثافة حياتنا الحاضرة(16)". فأكسبته هذه المعرفة رؤيا كشفت أمامه رغبة النفس في تجاوز حاضرها، وارتياد المستقبل.


أدرك أبو نُواس قيمة الكشف عن حقيقة الأشياء، وأهمية نقض الموروث المحنَّط وضرورة خلق حضورٍ فكري ثقافي يرفض الصنمية، ويتعالى على جمودية التلقي، ليخرج على العرف والعادة بالبرهان العلمي وبتحقيق فعل ما يضمره النطق الذي يعطي الصورة الحقيقية للمعاني المضمرة والمستترة. فنطق بما أحس وآمن، داعياً إلى التخلي عن كل ما يتنافى مع الفكر ورفض التقليد، فرأى في الوقوف على الأطلال عبودية فكرية لزمن يعينه تاريخياً وتأصلاً، وينفصل عنه تجربة وحياةً، لأنه ينتمي إلى واقعٍ مغاير، له أدواته وظروفه وخصائصه.


فالحياة الجاهلية، وما يتبعها من أساليب معيشية وفكرية متنوعة، لا تعنيه وجدانياً أو عاطفياً، إلا بقدر ما اكتسبه من جينات ساعدته على النمو والتواصل، من دون أن يكرر صور الماضي وأشكاله أو يسجن إنسانه في صدفة لا تجدد فيها. لأن الشعر مع أبي نُواس ليس نقلاً وتصويراً إنه نزوع ومغامرة، الهدف منه رصد حركة الزمن واستجلاء أسراره، فأراد أن يكون شعره تعبيراً صادقاً عن حقيقة العصر، وبوحاً جماعياً ينقل تجربته الذاتية التي تختزل الأنا الإنسانية الجماعية، وتهدم صنمية الموروث، وتبث العالم من حولها حركة لا تنتهي تهدف إلى الكشف الدائم.


بهذه الرؤيا رفض أبو نُواس الوقوف على الأطلال، ونعت أصحاب هذه العادة بالأشقياء(17)، والصنميين والأغبياء(18)، واختار لنفسه أمكنة روحية يسمو بها، ويتعتق. إنها أمكنة منزهة عن المحدودية، واللمس، والدونية، والهدم والزوال(19).


آمن أبو نُواس بتمايز العصور وخصوصيتها، وحقق ذاته بالانتماء إلى عصرٍ جديد له حضارته الخاصة به، له إنسانه المختلف بتفكيره وأساليب عيشه. "فلكل عصرٍ همومه ومشاكله، وقضاياه والإنسان مطالب في كل عصر أن يواجه الحياة بما يلائمها من سلوك، ومن خلال هذه المواجهة تترسّخ قيم العصر وتتبلور مثله(20)".


لذلك حرص على خلق نموذجٍ شعري ينقل تجربته، ويرشح بصدق الشعور، وعمق المعاناة، مستخدماً أثواباً جديدة تستمد موادها من أصالتها وتستمد دلالاتها من إيحاءات الحياة الجديدة، ثم تتفرد بصلاحيتها التي لا تنتهي.


رفض، واخترع، وأبدع، وأسس لفتح جديد هويته التمرّد والرفض بغية ترسيخ رؤية جديدة للكون والحياة، فالشعر عنده "فعل حياتي يعوض عن نقصٍ شامل(21)". فجاء رفضه مقروناً بمعرفة عميقة، ونظرة خاصة إلى الكون والحياة، وبثقافة علمية ودينية واجتماعية دعّم نفسه بها، واستخدمها في حججه وبراهينه. وهذا ما أكّده ابن قتيبة، على شمولية علومه ومعارفه، بقوله: "كان أبو نواس متفنناً في العلم، وقد ضرب في كل نوعٍ منه بنصيب ونظر(22)". فقدح بهذه العلوم طاقاته، وأبطل الفرضيات الخاطئة بالحجة والبراهين، فإن كان من أصحاب النار لفسقه وفجوره، فلماذا أوجد الله الغفران، "وهل خلق الغفران إلا لامرئ في الناس خاطئٍ(23)".


طوع أبو نواس ثقافته العلمية لخدمة المعاني الشعرية، ومنحها صوراً أكثر إبداعاً وجمالاً ودلالة، فجدد وابتكر، وأضاف، وسخر العلم لرمزية الشعر وعالمه اللامتناهي، فطلب أن يكون شفاؤه من المرض بتلقيحه بشيء من ذاك الداء، بعد الامتناع عن اللوم، لأن شفاء المريض نفسياً يكون بالمداراة واللين واللطف وليس بالقمع والتسلط(24) فأكسب شعره ديمومة وحياة واستمرارية..


منهجت علوم أبي نواس، اللغة الشعرية ومنحتها رموزاً ودلالات لا حصر لها، جاعلاً من اللغة المتجددة معبراً يسلكه الشعر النواسي ليخاطب أجيالاً مستقبلية، تعرّف إليها بالتواصل المعرفي الروحي، فجاءت صوره متفتقة عن سموه الإنساني وموسومة بوحدة فنية مترابطة، وممهورة بصدق البوح وحكمة الصفوة، ومنطق العالم، أثبت قدرتها على الحياة في كل زمانٍ ومكان. فكان شعره تأصلاً، وتأصيلاً، واستشرافاً، أحدث زمناً تأسيسياً لحداثة متجددة، تهدف إلى تفعيل قدرة الكشف عن الذات الإنسانية الكونية المحتجبة بأسرارها. فكان الشعر معه "ضرورة ملحة، هي ضرورة السفر إلى أقاصي الكيان البشري والعيش في حالات روحية نادرة، حيث يتلاقى الزمان والأبدية، وينفي كل من الخير والشر الآخر، وحيث لا يتميز الذاتي عن الموضوعي، وحيث يصبح الوهم الذي تخلقه القصيدة أكثر الحقائق يقيناً(25)".


________________________________________


(1) زمن الشعر: أدونيس، دار العودة، ط2، 1978، صفحة 157.


(2) المجموعة الكاملة: ميخائيل نعيمة، دار العلم للملايين، بيروت، 1971، مجلد 3، صفحة 407.


(3) المقدمة لابن خلدون: مكتبة المدرسة، ودار الكتاب اللبناني بيروت، ط3، 1967، صفحة 1069.


(4) حديث الأربعاء: طه حسين، دار المعارف بمصر، ج2، صفحة 5.


(5) تشريح النص: عبد الله محمد الغزالي، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1987، ص 10.


(6) زمن الشعر، أدونيس صفحة 45.


(7) المصدر نفسه.


(8) ابن سينا، القاهرة، مطبعة مذكور، الشفاء، 1952، ج1، ص 17.


(9) المقدّمة، ابن خلدون، ص 288.


(10) الأدب المقارن: محمّد غنيمي هلال، دار العودة بيروت، ط5، صفحة 109.


(11) زمن الشعر: أدونيس، ص 317.


(12) العمدة: ابن رشيق، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة بمصر، ط 2، عام 1955، ج1 ص 262-263-365.


(13) الديوان صفحة 57.


تخيّرني الجن أشعارها *** فما شئت من شعرهن، اصطفيت


(15) الشعر والشعراء: ابن قتيبة، دار الثقافة بيروت، ج1، ص 56-70.


(16) ديوان الشعر العربي: أدونيس، دار المدى للثقافة والنشر، ط 1986، ج2، ص 22.


(17) ديوان، أبي نواس تحقيق أحمد عبد المجيد الغزالي-دار الكتاب العربي، بيروت لبنان، صفحة 46.


(18) المصدر نفسه صفحة 134.


(19) المصدر نفسه صفحة 6.


(20) الشعر العربي المعاصر: د. عز الدين إسماعيل، صفحة 175.


(21) الثابت والمتحول تأصيل الأصول: أدونيس، دار العودة، بيروت.


(22) الشعر والشعراء: ابن قتيبة، ج 2، صفحة 682.


(23) أو قوله عندما يستخدم المحاجة العقلية،


وإن كنت ذا ذنب فعفوك أكبر *** فإن كنت لم أذنب ففيم تعنتي


(24) انظر قصيدة "دع عنك لومي"


(25) ديوان الشعر العربي: أدونيس، ج2، ص 28.


جاء شعر أبي نواس ثورة على المألوف، ودعوة إلى رفض أشكال القمع والسلطة، ومن ثم التحرر من التبعية، والتقليد وخلق عالم أكثر حرية، تعرب فيها النفس عن جوهرها من غير غش أو زيف أو كذب. فأعطى مفهوماً مغايراً للخطيئة وللكفر، وفرغهما من مفهومها الاجتماعي والديني، فصارت الخطيئة مطلباً(1) والكفر غفراناً، والخمر روحاً(2). وتعاطيها راحة وسمواً، فهو المتوحد بها، ولها الجلال والإكرام، وهي خاصة بالكرام:


أنا ابن الخمر، مالي عن غذاها *** إلى وقت المنية من فصام


أجل عن اللئيم الكأس حتى *** كأن الخمر تعصر من عظامي


وأسقيها من الفتيان مثلي *** فتختال الكريمة بالكرام


إن رفض أبي نواس للمفاهيم السائدة، دعوة إلى هدم صنمية القداسة وإعمال العقل في الموروث الديني والاجتماعي الذي يحتاج إلى فحص وتدقيق وتمحيص، فيكتشف الإنسان حقيقته ويصنع قدره. فلقد بدأ الشعر معه "أن يكون نظاماً أخلاقياً، وأن يكون كذلك طريقاً للمعرفة، وهذا يعني أن الشعر لا يهدف إلى تغير الحياة وحسب، وإنما يهدف إلى تغيير الإنسان، وتكمن جدة أبي نُواس إذاً في الكشف عن الطاقات المكبوتة في الإنسان وفي تجاوز الثنائية بين الذات والكون(3)".


أسس أبو نواس فكراً عربياً جديداً قائماً على نقد المفاهيم الفكرية القديمة من غير أن يلغيها، هدفه تغيير الظواهر التي تناقض الحياة الجديدة والعقل، مستخدماً لغة بعيدة عن التعقيد اللفظي، لغة تعكس الحضارة العلمية التي بلغها عصر أبي نواس وتوحي بالغنى الثقافي السائد. فهو لم يتوان عن إغناء اللغة العربية بألفاظٍ أعجمية واشتقاقات ألفاظٍ منها(4)، ولم يكن ذلك بسبب الضعف اللغوي أو التعصب الشعوبي، بل بدافع إحياء اللغة وتطويرها.


هذا الإغناء اللغوي والدلالي، ورفض الأشكال الجاهزة اتخذ مع أبي تمام مساراً متميزاً خاصاً به متجاوزاً الماضي، أسلوباً، وموضوعات، وأسس بشعره أصلاً لرحلة حاضرة لاحقة، مولداً في اللغة نبضاً متميزاً بتفرده واستقلالية، لأنه موسيقى ذاته الطامحة إلى ذاتها. فثار على المألوف وحرر ألفاظه من التقليد والتبعية، فخلق لغة جديدة تغاير لغة الحياة اليومية، ولغة الحياة الشعرية السائدة، وهكذا جاءت معانيه مغايرة للمعاني المألوفة، وجاءت صوره وتعابيره مغايرة للمألوف(5).


كان أبو تمام إنساناً فائقاً، استطاع بقدراته الفنية والثقافية أن ينطق شعره بقيم إنسانية، موظفاً كلمته للكشف عن طاقاته الإبداعية فأسس لبداية جديدة في الشعر العربي لأنه قبل كل شيء، "مسكون بهاجس الفن، فالشعر عنده ليس أسير الحياة بل أسرها، يكيفها ويختارها، ويخلقها على مثال فني خاص(6)"، فأكسب اللفظة الواحدة دلالات فنية، فكان "أكثر المولدين اختراعاً وتوليداً(7)"، منح ألفاظه رمزية متجددة، وأغناها بالاستعارات وأسهم في تواصل إبداعي كان له السبق في إحداثه.


وهكذا نجد أن الحياة الثقافية العربية ظلّت متوهجة بفعلٍ إبداعي يخصب جذور الماضي في حاضرٍ مشرق، حتى يصير هذا الحاضر ماضياً مضيفاً إلى حياتنا الثقافية ضوءاً جديداً له خصائصه.


إن علاقة الحاضر بالماضي علاقة طبيعية حتمية فكما أن الأشجار لا تطيب ثمارها إلا بالعناية بالجذر والفرع والتربة على السواء، فهكذا الحضور الإنساني الأصيل الطامح إلى غده الآتي لن يتلذذ بثمار الغد أن لم يكن له ماضٍ صحيح يخضع للفرز والتقليب. وحاضرٍ يستمد وجوده الأولي من جذره ليتخذ شكلاً مستقلاً في الصورة، ومرتبطاً في المعنى والجوهر.


وكما أن التربة تحتاج دوماً إلى مراقبة وتقليب للتخلص مما أفسده الركود فيها، فكذلك الحال مع التراث الذي يحتاج إلى طاقات الفكر المبدع ليخلصه مما علق به من جمودية التقديس، ويسهم في خلق ثمار قادرة على أن تكون بذاراً صالحاً في المستقبل وبالتالي لا تميز ولا تفرّد إلا بعلاقة صحيحة وسليمة بالتراث، تؤدي إلى تفجير طاقات المبدع، من دون أن يخسر جذوره.


هذا الترسخ والتأصل بين التراث والمبدع وما يولدانه من خلق الجديد والمتميز كانا سبباً لاتهام المتنبي بالسرقة.


وإذا كان المتنبي قد أغنى موروثه الثقافي وحصّنه بمعرفة عميقة بالتراث، فإنه لم يقف عند حدود الاكتساب، بل فعّل وأخصب موروثه بمختبر ذاته الإنسانية مبتكراً شعراً يجسّد عظمة هذه الذات، ويعبر عن ميولاتها وانفعالاتها وقلقها ورفضها وجموحها، فأفصح عن شوقها إلى الكشف والانعتاق، فكان شعره ولا يزال شعر الحداثة واللحظة المتجددة، فأسس لأصالة مازالت فاعلة ومؤثرة في حياتنا الأدبية. لقد أسس المتنبي بتمرده حالة متفردة تعكس عظمة الذات البشرية المتعالية على الصعاب، والواثقة من تفردها، والعالمة بحقيقة جوهرها. هذه العظمة والأنفة التي أنكرت عليه البوح بالشكوى من زمن يصارع فيه حدثان الدهر ومصائبه(8)، فهو الغريب، المتوحد بألوهة تفرده "غريب كصالحٍ في ثمودِ"، سلاحه الإيمان(9) بطاقاته الجسدية والفكرية، إنه إيمان بحقيقة أقرَّت بصحتها الموجودات واعترفت له "الصحراء بما شهدت والأقلام بما كتبت(10)".


لقد كان المتنبي "روحاً جامحة، تياهة تتلاقى فيها أطراف الدنيا. إنه الوحيد، بل الوحيد، فوحدته قدر محتوم؛ لأن الإنسان خليل نفسه. فكل متفرد وحيد، وكل وجود خلاق (...) المتنبي وحدة غاضبة لا يرضيها شيء، لكن وحدته ليست هرباً من العالم (...) إنها وحدة المجابهة(11)".


لم يكن تفرد المتنبي في وحدة المجابهة للكون والحياة، بل كان في خلق لغة تعبيرية بمستوى عظمته وطموحه، لقد عجن اللغة وأخرج منها أشكالاً تميزت بخلقه، حتى ارتبطت أبياتها بشخصيته، وتميَّز إيقاعها بتسامي روحه، مفصحاً عن انعكاسات جوهره الروحي بأسرار الحروف المقدّسة التي شعّت معانيها بلحظات إبداعية، احتضنت توق الشاعر إلى تكريس الكون والحياة لأناه الإنسانية غير المحدودة. فلم يكن الشعر معه صناعة(12) بل خلقاً وابتكاراً وإبداعاً على غير مثال، وهنا تكمن فذوذيته وتفرده.


طوّع المتنبي ثقافته العلمية والحياتية والاجتماعية لأغراضه وطموحاته وأفكاره فكان شعره مزيجاً من ثقافة علمية وقدرة إبداعية وحكمة إنسانية. فأسس لحداثة ما تزال قائمة في جذور تراثنا الأدبي الحي والفاعل، وهذه الحداثة تحتاج إلى فك رموزها، لأن عظمتها وديمومتها تكمن في أسرارها غير المرئية والتي تحتاج إلى الكشف، وكشفها لا يكون بتجاهلها أو تقديسها بل بفك رموزها وفض أسرارها لأن شعره عظيم والقصيدة العظيمة كما يراها أدونيس: "ليست شيئاً مسطحاً تراه وتلمسه وتحيط به دفعة واحدة، إنها عالم ذو أبعاد... عالم متموج، متداخل كثيف بشفافية، عميق بتلألؤ، تعيش فيها، وتعجز عن القبض عليها، تقودك نحو سديم من المشاعر والأحاسيس، سديم يستقل بنظامه الحاضر، تغمرك، وحين تهم أن تحضنها تفلت من بين ذراعيك كالموج(13)"، ولأن شعر المتنبي عظيم سيبقى عامل تحريض في حاضرنا ومستقبلنا الثقافي، نسعى للقبض عليه أو الإحاطة به فيفلت من بين أيدينا كماء المطر، إنه حداثة حياة في أدبنا، تجدد ذاتها كالنور الذي يضيء ولا يلمس.


iv. الحداثة والنموذج:


لقد كثر الكلام على الحداثة، وتعددت التيارات، وانقسم الأدباء، واعتقد بعضهم أن تبني الحداثة نوع من خيانة التراث، وشكلٌ من أشكال الإلحاد.


تظهر الدراسات الأدبية أن تقديسنا للماضي ليس ناتجاً عن دراية وتعقل وتمحيص ووعي حقيقي بالتراث، بل هو نابع من الانقياد الطوعي إلى كل غيبي لا يمكن ملامسته. فالكلام التراثي نسمعه ونقرأه ولكن لا نستطيع لمس قائله، إنه محجوب بهالة من قداسة الماضي التي لا يمكن هتكها بالكشف والنقد. لأن العقل مكبّل بقيد المادة التي لا تعبد الله لذاته، بل رغبة أو رهبة من محجوب غير مرئي وغير منكشف للذوات الضعيفة.


لذا لابد لكل عصر من وجود عدد من المجنحين بروح الكلمة، يتحسسون الغيبي بالروح غير المرئية، ويقرؤون بالعين الثالثة، ويسمعون بالأذن الثالثة. فهؤلاء لا تحجب عنهم رؤية الغيب التي تكسبهم معرفة وقدرة على ملامسة ما هو روحي أبدي، وهؤلاء خميرة لا بدّ من جودها في أزمنة إبداعية، غير مقصورة على عصرٍ واحد. فالله "لم يقصر العلم والشعر والبلاغة على زمنٍ دون زمن، ولا خصَّ به قوماً دون قوم، بل جعل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثاً في عصره (...)(14)"


فالحداثة ليست قضية مستحدثة في تاريخ الفكر الإنساني، لأن الحداثة "رؤية واعية لإقامة دائمة التجدد بين الطرف الإنساني، وبين الجوهري الموروث... إنها صلة استكشاف أبدية في أغوار أبرز الحقائق، الإنسانية(15)"، يؤكد النقاد والدارسون أن الحداثة بمفهومها المعرفي ليست حكراً على مجموعة ما في حقبة زمنية ما، ولو كان ما يعتقده البعض صحيحاً لانتفى وجود عدالة ترعى الفكر الإنساني. وبذلك ألغى ابن قتيبة فكرة تقديس القديم لقدمه، ودعا إلى النظر في النص الأدبي بكونه نصّاً أدبياً من دون ربطه بقائله، فاختزل رأيه بقوله: "ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره.


فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويصفه في متخيره، ويرذل الشعر الرصين، ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه أو أنه رأى قائله(16)".


مشكلة الحداثة، إذاً، ليست مرتبطة زمنياً بهذا العصر، إنها مشكلة قديمة قدم الزمن المتحرك نحو لانهاية، لأن الحياة هي مصدر الفنون كلها، والإنسان المبدع هو الرسول الناطق عن أسرار هذه الحياة. لذلك يرى طه حسين أن مصدر الخلاف بين محدث وقديم، "هو الحياة من حيث هي حياة(17)". وما دامت الحياة في حركة متجددة فستبقى الخصومة قائمة في كل لغة في كل جيل، وحول كل أدب، شريطة "أن يكون للغة والأدب والجيل الذي يتصرف فيهما حظ من الحياة(18)". فلا حداثة بلا تفرد على مستوى التعبير والشكل واللغة، فهذا التفرد يمنح النص الإبداعي قدرة الخروج على المألوف، وخلق نموذج نصي مغاير ومستقل، ولكنه استمرار في وظيفة التعبير عن انفعالات النفس البشرية، في مواجهة واقعها الاجتماعي والحضاري والثقافي، هذه المواجهة التي تفرض حضوراً مميزاً، تمنح المبدع طاقة انغراس في الماضي ليستمد منه الأصالة، وتمنحه أيضاً رؤية استكشاف الآتي.










رد مع اقتباس
قديم 2013-03-21, 19:10   رقم المشاركة : 268
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الحداثة إذاً، انبثاق من الحضور، وانغراس في الماضي، واستشراف للمستقبل، فهي "حركة إبداعٍ تماشي الحياة في تغيرها الدائم، ولا تكون وقفاً على زمن دون آخر، فحينما يطرأ تغيير على الحياة التي نحياها نظرتنا إلى الأشياء، يسارع الشعر إلى التعبير عن ذلك بطرائق خارجة على السلفي والمألوف(19)".


ولما كانت الحياة متجددة في سيرورتها، لزمها أدب ينطق عنها وبها، أدب متجدد يستطيع مواكبة الحياة، واستنطاق أسرارها، أدب حي يعبِّر عن الأنا الإنسانية الكبرى في رقيها الكوني وتواصلها الشمولي، وبالتالي لا يمكننا ربط حداثة نص أدبي بسرعة انتشاره أو استحسان الآتي الوقتي له، بل بقدرة هذا النص على اختراق حجب المستقبل، والتفاعل مع أحاسيس إنسانه، والتأثير بها، لما تختزله من تعبيرٍ صادق عن مشاعره، وهمومه وقلقه، ونظرته إلى الحياة لأن المبدع الحقيقي شاعر يرتقي برؤياه إلى عالم المكاشفة والتوحد مع الإنساني الجوهري والحقيقي.


عرّف ابن رشيق الشاعر المبتكر، بالرائي الذي يرى ما لا يرى غيره فقال: "وإما سمي الشاعر شاعراً، لأنه يشعر به غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استظراف لفظ وابتداعه، أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر، كان اسم الشاعر عليه مجازاً لا حقيقة، ولم يكن له إلاّ فضل الوزن(20)".


تتفق نظرة ابن رشيق إلى الشاعر الحقيقي مع نظرة جبران، الذي اعتبر الشاعر رسولاً يستكشف ويبلَّغ حقيقة غير مرئية وغير مسموعة، لأنه "الوسيط بين قوة الابتكار، والبشر، وهو السلك الذي ينقل ما يحدثه عالم النفس إلى عالم الحب، وما يقرره الفكر إلى عالم الحفظ والتدوين(21)".


والشعر الحقيقي-في رأي جبران-لا ترتبط قيمته بالكم بل بالنوعية التي تنكشف عنها معرفة الجوهر والمجنح بين أزليته وأبدية تلامس توق الإنسان إلى انعتاقه وحريته، وتمجيده لجوهره الروحي، فالشعر هو السجل الصادق الموحي بمشاعر الإنسان، والمعبِّر عن قضاياه بلا غش أو كذب أو تصنع.


أكَّد جبران في مقالته "القصيدتان(22)" ارتباط قيمة الإبداع الشعري بقدرته على نقل انفعالات النفس البشرية، وتصويرها، فالقصيدة الطويلة التي نقلت صورة استعباد الفكر للسلطة فقدت فاعليتها وقيمتها بزوال السلطة، ولم يكتب لها الحياة إلا في بطون الكتب، أما القصيدة التي صورت مشاعر طفل يلعب في حديقة فهي لا تزال "تدور على كل لسان ويرددها الناس بإعجاب وإعجاز".


جسّد جبران في عصر النهضة النموذج الأسمى للحداثة فجاء نتاجه ومضة عظيمة في تراثنا العربي، ومضة تكشف عن قدرة إنساننا العربي على هدم الصنمية وتخطي المألوف، والسير إلى الأمام لأن "الوقوف جبانة، والنظر إلى مدينة الماضي جهالة(23)".


والتخطي الجبراني نابع من إيمان جبران بالإنسان المبدع القابض على مصيره، هذا الإنسان المتوحد مع الكون وبالكون، القادر على خلق فعل إنساني يختزل المفاهيم والمعاني الكونية، ويجسّد رؤاه النفسية، مرتكزاً "على الماضي كمنطلق نحو المستقبل لأنه الفعل الحتمي لولادة الحاضر والمستقبل، وبفهم الماضي واستيعاب مضامينه تتولد قدرة التخلي عن غير الملائم منها، وخلق صيغ جديدة تواكب السير الطبيعي للمجتمعات الحية السائرة نحو الأفضل والأحسن مدفوعة بقوة الابتكار(24)".


إن مفهوم الحداثة، قديماً وحديثاً، مرادف لقوة الخلق والابتكار والإبداع، "تلك القوة الأزلية الأبدية التي تقيم من الحجارة أبناء الله(25)"، فتبث توهج الحياة في الأشياء، والموجودات من غير اقتباس أو تقليد بغية تصحيح الواقع وتغييره، وخلق معادلات إنسانية كونية تنبئ بولادة الإنسان المتجدد بالجسد، والمعانق ذاته الإلهية المتعالية على الصغائر والأحقاد، والطامحة إلى تواصل وتكامل إنساني روحي، فتلغى الحواجز النفسية، وتتلاشى العصبية، والأنانية.


عبّر الأدب الجبراني عن قلق النفس البشرية، وعن ألمها، ورغباتها وأحلامها، فصور استسلام الإنسان لشريعة عمياء، ناقلاً، بدقة الفنان المبدع، النتائج السلبية وغير الإنسانية التي يولدها الاستسلام والجهل. ثم دعا إلى رفض الموروث والخروج على المألوف، بغية ولادة الشكل الأمثل بعيداً عن استبداد الشريعة وتسلطها وظلمها واحتقارها للذوات المبدعة. فكان أدبه رسالة هدم وبناء، رسالة تهدم رموز الشريعة وأشكالها القمعية، وصرحاً إنسانياً قوامه التحرر من تبعية الموروث السلطوي الفاسد، والتسلح بالمعرفة الحقيقية، ليجسّد معنى "العاصفة التي تقتلع الأنصاب التي أنبتتها الأجيال(26)" وتبزغ بعد العاصفة قدرات إنسان الغد المؤمن بعظمته وبانتمائه إلى عالمٍ علوي، فيتحرر من حرق البخور أمام الأصنام ليحرقه أمام نفسه ويقدم الذبائح لذاته لأن الصدر البشري هيكل "لأعظم الآلهة وأبهاهم جمالاً(27)". والإنسان هو القضية الأسمى في هذا الوجود، ولذلك جاء الأدب الجبراني أدب الحلم والشوق، والسمو، أدب الإنسان المتوهج بروح الألوهة، والمتأصل في سر الوجود "فالإنسان كائن منتصب بين اللانهاية في باطنه واللانهاية في محيطه(28)"، وفي هذه الحقيقة تتجسد الوحدة بين الكون والله والإنسان، وهي وحدة معنى لا شكل تحتجب عن البصائر وتدرك بالرؤيا وتمنح الإنسان نعمة الشوق الذي "ينزع نقاب الظواهر عن بصره فيشاهد إذ ذاك ذاته، ومن ير ذاته ير جوهر الحياة المجرّد، فكل ذات هي جوهر الحياة المجرّد(29)".


جاءت الرؤية الجبرانية متأصلة في جوهر العلاقة بين الوجود والموجودات فكانت رؤية رفض واستباق، رؤية مخصَّبة بالتأصل والحضور والحركة، ولذلك كان لابد لهذه الرؤية من لغةٍ إبداعية تصلح لأن تكون أثواباً جديدة لرؤية جديدة، "لأن الخمر الجديدة لا توضع في زقاق عتيقة، فتراق الخمر، بل توضع في زقاق جديدة فتسلم جميعاً(30)"، ولذلك ابتدع جبران جسداً نصياً مغايراً للمألوف، وموافقاً للفكرة والروح التي يتقمّصها.


كانت الفكرة هيولى روحية لا شكل ولا لون لها يحس بها من خلال حركة الجسد النصي المفعّل بلغة حية مستمدة من الماضي ومتفاعلة مع الحاضر، ومستمرة في المستقبل لأنها لغة التأصل والتجاوز، فكان النص الجبراني "ذاتاً حية، كلية، حقق تفرداً وتمايزاً في خروجه على الظرفي الراهن إلى الكوني الأشمل المتغير، فاكتسب النص استقلالية عن سلبية الارتباط، وفعلاً حركياً يسعى إلى المساهمة في صنع المستقبل(31)" لأن اللغة الجبرانية لغة اكتشاف وخلق وذلك من أجل "كشف الحقائق العظمى لتصبح ثوابت مبدئية، ومن ثم السعي إلى تأسيس العلاقة معها على أصول متفاعلة مع طموح الإنسان وهمومه(32)".


جدد جبران في طرح الموضوعات مستخدماً لغة حية نامية، معصومة عن عبودية التقليد متحررة من جمودية التعبير، وهي في الوقت عينه تخضع، برضى المؤمن، لقوانين النحو المنطقية، فانغرس في اللغة وأصولها، ولم ينغرس في أشكالها المحنطة، وصدى المرددين أصواتها، ففتح طريقاً جديداً ممهوراً بأدوات تجربته الذاتية، وهو في الوقت عينه مؤسس على أصالة اللغة وما تختص به من مرونة وتطويع، وإكساب واكتساب، فأعاد إلى اللغة العربية خاصة التطويع والاستيعاب والتعبير عن الحقائق الإنسانية "وفقاً لكل فعل وكل موقف فتحتمل الجديد من الشحنات كلما تجددت الأفعال والمواقف(33)".


إن اللغة الجبرانية لغة حية متحركة، قادرة على النقل والتصوير والتعبير، لغة إبداعية ينتجها مبدعون انغمسوا في تراثهم اللغوي وانبثقوا عنه بفاعلية التجاوز والتغيير، ليغنوا اللغة بمفرداتها، وأشكال صياغتها فلا تجديد من غير أصل ينبثق عنه، والأصل الذي تولد منه وعنه الإبداع الجبراني هو التراث العربي الذي استمد منها ما هو صالح وقادر على التفاعل، جاعلاً منه خميرته الثقافية التي أنضجت موهبته الإبداعية بعد أن ألغى من هذا المخزون التراثي ما ليس جديراً بالتفاعل، والديمومة.


نزع جبران نحو التجديد والتغيير من غير أن يلغي أصالة النسب، فجاء نتاجه فتحاً عظيماً يؤسس لدراسة فكرية متجددة في مكنوناتها وعناصرها، قوامها الحضور الإنساني والتعبير عن حقيقة هذا الحضور بألفاظ لها دلالة ظاهرية، ودلالة باطنية هادفة. فأوجد تياراً فكرياً ريادياً، شق الطريق أمام شعراء الحداثة في الخمسين سنة المنصرمة، ولكنه لم يسلم من النقد والتقريع، شأن كل ريادي مبدع يخلق حركة أدبية تلقى في أي مجتمع الرفض أو القبول.


لقد كان جبران مدرسة قائمة بذاتها، لها مقومات الأصالة والحداثة، استطاعت تفعيل بذور الشك، والتساؤل بغية الحصول على المعرفة، وبالمعرفة يتحد الإنسان بذاته العليا، ويتلاقى مع كل المجنحين بروح الاستكشاف والاستشراف، فمنح عصر النهضة سمات التأصل والتحرر، وكان له شرف الارتباط بالتراث وديمومة الحركة في المستقبل.


شهدت الحداثة، بالإضافة إلى الرفض والقبول، خروجاً على مفهوم الحداثة، إذ قرن بعضهم ماهية الحداثة بالتخلي عن الموزون الشعري، واهتموا بالشكل أكثر من عنايتهم بالجوهر.


والبرهان على هذه الفرضية يلزمها استقراء كامل للشعر العربي الحديث، والحكم عليه بمعايير الحداثة الأصلية، هذه المعايير عينها تثبت ولادة حداثة مغايرة، لها هويتها المتميزة عن نظائرها.


عرف العصر الحديث يقظة فكرية قوامها رؤى إبداعية، وهدفها ترسيخ مفهوم جديد للحداثة، يبدأ من قراءة التراث وفرزه، ونقده، وتفعيل عناصره الحية، وذلك على مسرح اللحظة الحاضرة المؤسسة للمستقبل، ليكرس الحاضر نقطة مضيئة تصل بين ماضٍ مشع وآتي متجدد، وهذه اللحظة يخلقها الإبداع الفني، وما يلازمه من تفرد وفرادة الرواد والنخبة.


وإذا كانت الأخلاق الأدبية والروح النقدية تفرض الاعتراف بفضيلة الرواد النخبة، فإن الموضوعية النقدية وما يلازمها من نزاهة وتجرد تقتضي الكلام على النموذج الأصدق للحداثة العربية المعاصرة والتي مازالت في حركة استباق وإضافة في شعر أدونيس.


جاء الشعر مع أدونيس استشرافاً للمستقبل، وانغراساً في الأصالة، فكان بوح النفس البشرية عن رغبتها في الكشف والتخطي والتجاوز، وسؤالاً يحرض على هتك الحجاب الظاهري للغة، وإعادتها إلى عذريتها لتكون قادرة على التلقيح والإخصاب والتوليد. فتستعيد كمونها في التعبير عن التجربة الإنسانية ورسم، إسقاطاتها النفسية والفكرية، والاجتماعية المرتبطة بالحياة وتجددها فيتمخّض اللفظ عن صورة صادقة تعكس انفعالات النفس البشرية في أسمى حالات التجلي والكشف.


تجاوزت لغة أدونيس الشعرية الأنماط المألوفة واكتسبت طاقة تعبير وإيحاء، وصارت اللفظة عالماً يتموج بدلالات لا تنتهي، لأن اللغة الشعرية في رأيه "تكشف عن الإمكان أو الاحتمال، أي عن المستقبل (...) فاللغة الشعرية تحويل دائم للعالم، وتغيير دائم للواقع والإنسان(34)"، فهي تأشيرة إلى اختراق الحاضر، واستباق الحدث.


ربط أدونيس الإبداع بلغة قادرة على زعزعة الطمأنينة، في النص الأدبي، وإقلاق راحة السكون في الاستسلام للمعاني، وطرح التساؤل عن الروح المحتجبة وراء أسرار الحروف، فمنح نصه الشعري فضائية الرمز، وشرف الدلالة على تجربة الأنا الكونية الصادرة عن اللاوعي الإنساني القابض على أسرار معادلة التواجد:


إنه الريح لا ترجع القهقرى


والماء لا يعود إلى منبعه


يخلق نوعه بدءاً من نفسه


لا أسلاف له وفي خطواته جذوره(35)


إنه الإنسان الرافض الرجعة والتقليد.. إنه الحياة، والحياة لا تعيد ذاتها، ولا تبلغ المنتهى.


أتجه نحو البعيد، والبعيد يبقى. هكذا لا أصل


ولكنني أضيء... إنني بعيد والبعيد وطني(36)


هذا هو سر الإبداع الأدونيسي، هدفه اللامرئي واللا محدود. لا يعنيه الأصل إلا بقدر إضاءته، وتوحده مع البعيد الذي حمله، قضية وملجأً ووطناً. فلا انتماء إلا لذلك البعيد المستقبلي، لذلك يعلن نفسه ثورة، تفجّر قابلية الرغبة، وتفكك الشكل المرئي للعالم. إنها ثورة تهدم لتبني، وتمنح الوجود حضوراً أكثر إشراقاً.فأدونيس يضرب بعصا الإبداع التصلب في الواقع الاجتماعي والثقافي والأدبي، الرفض المحيي.


إنني اللغم والطعم. أقنع الأرض بحضوري


وأفتت العالم كي أمنحه الوجود ضارباً بعصاي الصخر


حيث ينبجس الرفض، وينسل جسد البسيطة معلنَّا


طوفان الرفض معلناً سفر تكوينه(37)


لم يتخل أدونيس عن مخزونه التراثي الثقافي، بل استثمر بذوره الحية، وخصبها في مختبر إبداعه. لأن التراث في نظره ليس شكلاً محدوداً مغلقاً، بل هو "حضورنا الإنساني هو المركز والنبع(38)"، وإذا فقدنا نقطة المركز أصيبت ذرات حضورنا الثقافي بالاضطراب والتشتت والضياع، وخسرنا إحداثيات وجودنا في المستوى الثقافي الكوني. فلا مستقبل إبداعي بعيداً عن التراث، ولا ابتكار إلا من ضمن التراث، "وإذا كان التغيير يفترض هدماً للبنية القديمة التقليدية فإن هذا الهدم لا يجوز أن يكون بآلة من خارج التراث العربي، إنما يجب أن يكون بآلة من داخله، إن هدم الأصل يجب أن يمارس بالأصل ذاته(39)".


يشكل الإبداع الأدونيسي نموذج فرادة، إنه النموذج الأمثل لحداثة مغايرة في عالمنا العربي. حداثة تتجاوز التعريف وتتخطى المعايير المألوفة، ولا تعرب إلا عن نفسها وبنفسها، إنها حداثة التجربة الإبداعية الطامحة إلى كشف الحجاب عن إنسانية الإنسان. وإلى البوح بأسرارها غير الملموسة.


أغنى أدونيس تجربته الإبداعية بتحرير لغته من رتابة الإقامة في زنزانة الإعادة والتكرار، ومن جمودية التقليد والتحنيط، وبث فيها روحاً جديدة، وألبسها جدّةً معنوية ولفظية لا تهرم. فالشاعر المجدد والجديد في رأي أدونيس: "ينتشل الكلمات من الغدير الذي غرقت فيه، ينسلها كلمة كلمة من نسيجها القديم، يخيطها كلمة كلمة في نسيج جديد، إذ يفعل ذلك يفرغها من شحنتها القديمة ومن دلالاتها وتداعياتها ويملؤها بشحنة جديدة، تصبح لغة ثانية لا عهد لنا بها(40)".


منح أدونيس شعره هيكلية نمطه الفكري الإبداعي، ورؤيته الحقيقية للكون وإنسانه، فكان شعره تعبيراً صادقاً عن جوهر الإنسان، وعن تطلعاته وأحلامه.


وقد استمد من التراث ما هو حي ومضيء، ثم فعّله في مختبر التواجد الإنساني مولداً أنماطاً متمايزة بجدتها وديمومتها واستمرارها في الآتي، فعبّر عن أناه الإنسانية الكبرى، وعن توحدها مع ذاتها الكونية في أسمى تجلياتها.


v. كلمة وسؤال


يذكرنا واقع الثقافة في المجتمع العربي بمشهدٍ تنزع فيه الروح إلى التحرر من جسد معذّب فانٍ، فإذا كانت الحداثة بمفهومها التراثي الروح المتجددة في كل زمانٍ ومكان فإن واقعنا الثقافي يشير إلى اهتراء وترهل تطمح معه الحداثة إلى التخلي عن فاعليتها في مجتمعٍ يجهل ذاته.


إن كلامنا على ما بعد الحداثة يدفع بي إلى التمحيص والتفكير بالأسباب الكامنة وراء هذه الطروحات. فيقلقني السؤال: هل شعر روادنا بأنهم بلغوا الدرجة العليا في إبداعاتهم ولا جديد مبتكر بعدهم؟


إذا كانت هذه هي الفرضية التي تبنى عليها نظريات الحداثة المعاصرة، فهي فرضية قابلة للنقض. لأن الحداثة تأسيس على أصل لتكون أصلاً لتأسيس جديد، وبالتالي تثبت هذه الحداثة على لسان بعض روادها بعجزها على أن تكون أصلاً إذا هي ليست بحداثة متأصلة.


إن الحداثة والأصالة وجهان لحقيقة واحدة هي الإبداع والإبداع حالة توهج إنساني لا يتلاشى بريقها لأنه توق النفس الخالدة إلى التعبير عن جوهرها وأصالتها، وهذا التوق تفعله الرغبة في الكشف والاتحاد بذات الشوق.


لا حداثة بلا أصالة ولا أصالة تكشف عن ذاتها إلا بفاعلية الحداثة الإبداعية. فالأصالة تخلص لروح التراث وفروعه الممتدة على الواقع الحاضر، لتؤصل ذاتها لتفريعٍ مستقبلي أكثر تلاؤماً من تطور الحياة.


إن الحداثة بمفهومها الجوهري تتأصل في المستقبل وتؤصل له برسالة إنسانية تدفع بالمدعين إلى الاتحاد بذواتهم الحية، فيأتي نتاجهم متجاوزاً خصوبة الحاضر إلى خصوبة مستقبلية أكثر نماء وحياة.


ولذلك كان امرؤ القيس وأبو نواس والمتنبي وجبران وأدونيس، رسل كلمة إبداعية نطقت بحاجات النفس البشرية وأفصحت عن قلقها، وطموحها وتطلعاتها، وستبقى الحياة الإنسانية في حركة دائمة، تتجه نحو تخصيب حداثة لا زمنية، متحررة من محدودية المكان، مجنحة في فضاءات البوح الإنساني اللامتناهية.


المراجع والمصادر


(1) الأدب المقارن، محمد غنيمي هلال، بيروت، دار العودة، ط6.


(2) إنجيل متى.


(3) تشريح النص، عبد الله محمد الغذامي، بيروت، دار الطليعة، ط1، 1987.


(4) الثابت والمتحول: صدمة الحداثة، أدونيس.


(5) الثابت والمتحول في تأصيل الأصول، أدونيس، بيروت، دار العودة.


(6) جبران أصالة وحداثة، مها خير بك ناصر، بيروت، المؤسسة الحديثة للكتاب، ط1، 2002.


(7) الحداثة في الشعر، يوسف الخال، بيروت، دار الطليعة، ط1، 1998.


(8) حديث الأربعاء، طه حسين، دار المعارف بمصر، 1964.


(9) ديوان أبي تمام.


(10) ديوان أبي نواس/ تحقيق أحمد عبد المجيد الغزالي، بيروت، دار الكتاب العربي.


(11) ديوان الشعر العربي، أدونيس، دار المدى للثقافة والنشر، 1986.


(12) ديوان المتنبي.


(13) الشعر والشعراء، ابن قتيبة، بيروت، دار الثقافة.


(14) الشفاء، ابن سينا، القاهرة، مطبعة مدكور، 1952.


(15) طبقات الشعراء، ابن سلاّم الجمحي.


(16) العمدة/ ابن رشيق، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة بمصر، ط2، 1955.


(17) المجموعة الكاملة العربية لجبران خليل جبران.


(18) المجموعة الكاملة المعربة لجبران خليل جبران.


(19) المجموعة الكاملة لميخائيل نعيمة، بيروت، دار العلم للملايين، 1971.


(20) المقدمة لابن خلدون، بيروت، مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني، ط3، 1967.


________________________________________


(1) انظر قوله:


أصبني منك يا أملي بذنب *** تتيه على الذنوب به ذنوبي


ج


(2)وقوله:


ومازلت أستل روح الدن في لطف *** وأستقي دمه من جوف مجروح


حتى انثنيت ولي روحان في جسد *** والدن منطرح جسماً بلا روح


(3) الثابت والمتحول، تأصيل الأصول: أدونيس، دار العودة، ص 111.


(4) كقوله:


متخرسن دين النصارى دينه *** ذي قرطق لم يتصل ببنائق


(الديوان صفحة 220)


(5) الديوان: أدونيس، ج2، ص 19.


(6) ديوان الشعر العربي: أدونيس، ج2، ص21.


(7) العمدة: ابن رشيق، ج2، ص 244.


(8) ديوان المتنبي، شرح عبد الرحمن البرقوقي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، مج1 ج1، صفحة 252.


(9) المصدر نفسه، صفحة 47-48.


(10) المصدر نفسه، مج2، ج 4، صفحة 83-85.


(11) ديوان الشعر العربي: أدونيس، ج2، ص 29.


(12) يقول ابن سلام في كتابه طبقات فحول الشعراء، ص 5: "الشعر صناعة وثقافة عرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان".


(13) زمن الشعر: أدونيس، ص 159.


(14) الشعر والشعراء: ابن قتيبة، ج1، ص 11.


(15) تشريح النص: عبد الله محمد الغذّامي، ص 18.


(16) الشعر والشعراء: ابن قتيبة، ج2، ص 10.


(17) حديث الأربعاء: طه حسين، ج2، صفحة 252.


(18) المصدر نفسه.


(19) الحداثة في الشعر: يوسف الخال، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1998.


(20) العمدة: ابن رشيق، ج1، ص 116.


(21) المجموعة الكاملة العربية: جبران، دار صادر، د.ت.، ص 56.


(22) المجموعة الكاملة المعربة: جبران، دار صادر، د. ت، صفحة 430-431.


(23) المجموعة الكاملة العربية: جبران، صفحة 299.


(24) انظر مؤلفنا، جبران أصالة وحداثة، المؤسسة الحديثة للكتاب، ط1، 2002، صفحة 49.


(25) المجموعة الكاملة العربية: جبران، صفحة 562.


(26) المرجع السابق، صفحة 424.


(27) المرجع السابق، صفحة 396.


(28) المرجع السابق، صفحة 588.


(29) المرجع السابق، صفحة 285.


(30) انجيل متى، الفصل التاسع، الآية 17.


(31) مؤلفنا، جبران، ص 246.


(32) تشريح النص: عبد الله محمد الغزالي، ص 11.


(33) الشعر العربي المعاصر: عز الدين إسماعيل، ص 175.


(34) صدمة الحداثة: أدونيس، الثابت والمتحول، ص 294.


(35) المجموعة الكاملة: أدونيس، ج1، ص 330.


(36) المصدر نفسه، ص 405.


(37) المجموعة الكاملة: أدونيس، ج1، ص 406.


(38) ومن الشعر: أدونيس، صفحة 228.


(39) الثابت والمتحول والأصول: أدونيس، صفحة 23.


(40) زمن الشعر: أدونيس، ص 163.


مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 96 - السنة الرابعة والعشرون - كانون الأول 2004 - شوال 1425


نزع جبران نحو التجديد والتغيير من غير أن يلغي أصالة النسب، فجاء نتاجه فتحاً عظيماً يؤسس لدراسة فكرية متجددة في مكنوناتها وعناصرها، قوامها الحضور الإنساني والتعبير عن حقيقة هذا الحضور بألفاظ لها دلالة ظاهرية، ودلالة باطنية هادفة. فأوجد تياراً فكرياً ريادياً، شق الطريق أمام شعراء الحداثة في الخمسين سنة المنصرمة، ولكنه لم يسلم من النقد والتقريع، شأن كل ريادي مبدع يخلق حركة أدبية تلقى في أي مجتمع الرفض أو القبول.


لقد كان جبران مدرسة قائمة بذاتها، لها مقومات الأصالة والحداثة، استطاعت تفعيل بذور الشك، والتساؤل بغية الحصول على المعرفة، وبالمعرفة يتحد الإنسان بذاته العليا، ويتلاقى مع كل المجنحين بروح الاستكشاف والاستشراف، فمنح عصر النهضة سمات التأصل والتحرر، وكان له شرف الارتباط بالتراث وديمومة الحركة في المستقبل.


شهدت الحداثة، بالإضافة إلى الرفض والقبول، خروجاً على مفهوم الحداثة، إذ قرن بعضهم ماهية الحداثة بالتخلي عن الموزون الشعري، واهتموا بالشكل أكثر من عنايتهم بالجوهر.


والبرهان على هذه الفرضية يلزمها استقراء كامل للشعر العربي الحديث، والحكم عليه بمعايير الحداثة الأصلية، هذه المعايير عينها تثبت ولادة حداثة مغايرة، لها هويتها المتميزة عن نظائرها.


عرف العصر الحديث يقظة فكرية قوامها رؤى إبداعية، وهدفها ترسيخ مفهوم جديد للحداثة، يبدأ من قراءة التراث وفرزه، ونقده، وتفعيل عناصره الحية، وذلك على مسرح اللحظة الحاضرة المؤسسة للمستقبل، ليكرس الحاضر نقطة مضيئة تصل بين ماضٍ مشع وآتي متجدد، وهذه اللحظة يخلقها الإبداع الفني، وما يلازمه من تفرد وفرادة الرواد والنخبة.


وإذا كانت الأخلاق الأدبية والروح النقدية تفرض الاعتراف بفضيلة الرواد النخبة، فإن الموضوعية النقدية وما يلازمها من نزاهة وتجرد تقتضي الكلام على النموذج الأصدق للحداثة العربية المعاصرة والتي مازالت في حركة استباق وإضافة في شعر أدونيس.


جاء الشعر مع أدونيس استشرافاً للمستقبل، وانغراساً في الأصالة، فكان بوح النفس البشرية عن رغبتها في الكشف والتخطي والتجاوز، وسؤالاً يحرض على هتك الحجاب الظاهري للغة، وإعادتها إلى عذريتها لتكون قادرة على التلقيح والإخصاب والتوليد. فتستعيد كمونها في التعبير عن التجربة الإنسانية ورسم، إسقاطاتها النفسية والفكرية، والاجتماعية المرتبطة بالحياة وتجددها فيتمخّض اللفظ عن صورة صادقة تعكس انفعالات النفس البشرية في أسمى حالات التجلي والكشف.


تجاوزت لغة أدونيس الشعرية الأنماط المألوفة واكتسبت طاقة تعبير وإيحاء، وصارت اللفظة عالماً يتموج بدلالات لا تنتهي، لأن اللغة الشعرية في رأيه "تكشف عن الإمكان أو الاحتمال، أي عن المستقبل (...) فاللغة الشعرية تحويل دائم للعالم، وتغيير دائم للواقع والإنسان(34)"، فهي تأشيرة إلى اختراق الحاضر، واستباق الحدث.


ربط أدونيس الإبداع بلغة قادرة على زعزعة الطمأنينة، في النص الأدبي، وإقلاق راحة السكون في الاستسلام للمعاني، وطرح التساؤل عن الروح المحتجبة وراء أسرار الحروف، فمنح نصه الشعري فضائية الرمز، وشرف الدلالة على تجربة الأنا الكونية الصادرة عن اللاوعي الإنساني القابض على أسرار معادلة التواجد:


إنه الريح لا ترجع القهقرى


والماء لا يعود إلى منبعه


يخلق نوعه بدءاً من نفسه


لا أسلاف له وفي خطواته جذوره(35)


إنه الإنسان الرافض الرجعة والتقليد.. إنه الحياة، والحياة لا تعيد ذاتها، ولا تبلغ المنتهى.


أتجه نحو البعيد، والبعيد يبقى. هكذا لا أصل


ولكنني أضيء... إنني بعيد والبعيد وطني(36)


هذا هو سر الإبداع الأدونيسي، هدفه اللامرئي واللا محدود. لا يعنيه الأصل إلا بقدر إضاءته، وتوحده مع البعيد الذي حمله، قضية وملجأً ووطناً. فلا انتماء إلا لذلك البعيد المستقبلي، لذلك يعلن نفسه ثورة، تفجّر قابلية الرغبة، وتفكك الشكل المرئي للعالم. إنها ثورة تهدم لتبني، وتمنح الوجود حضوراً أكثر إشراقاً.فأدونيس يضرب بعصا الإبداع التصلب في الواقع الاجتماعي والثقافي والأدبي، الرفض المحيي.


إنني اللغم والطعم. أقنع الأرض بحضوري


وأفتت العالم كي أمنحه الوجود ضارباً بعصاي الصخر


حيث ينبجس الرفض، وينسل جسد البسيطة معلنَّا


طوفان الرفض معلناً سفر تكوينه(37)


لم يتخل أدونيس عن مخزونه التراثي الثقافي، بل استثمر بذوره الحية، وخصبها في مختبر إبداعه. لأن التراث في نظره ليس شكلاً محدوداً مغلقاً، بل هو "حضورنا الإنساني هو المركز والنبع(38)"، وإذا فقدنا نقطة المركز أصيبت ذرات حضورنا الثقافي بالاضطراب والتشتت والضياع، وخسرنا إحداثيات وجودنا في المستوى الثقافي الكوني. فلا مستقبل إبداعي بعيداً عن التراث، ولا ابتكار إلا من ضمن التراث، "وإذا كان التغيير يفترض هدماً للبنية القديمة التقليدية فإن هذا الهدم لا يجوز أن يكون بآلة من خارج التراث العربي، إنما يجب أن يكون بآلة من داخله، إن هدم الأصل يجب أن يمارس بالأصل ذاته(39)".


يشكل الإبداع الأدونيسي نموذج فرادة، إنه النموذج الأمثل لحداثة مغايرة في عالمنا العربي. حداثة تتجاوز التعريف وتتخطى المعايير المألوفة، ولا تعرب إلا عن نفسها وبنفسها، إنها حداثة التجربة الإبداعية الطامحة إلى كشف الحجاب عن إنسانية الإنسان. وإلى البوح بأسرارها غير الملموسة.


أغنى أدونيس تجربته الإبداعية بتحرير لغته من رتابة الإقامة في زنزانة الإعادة والتكرار، ومن جمودية التقليد والتحنيط، وبث فيها روحاً جديدة، وألبسها جدّةً معنوية ولفظية لا تهرم. فالشاعر المجدد والجديد في رأي أدونيس: "ينتشل الكلمات من الغدير الذي غرقت فيه، ينسلها كلمة كلمة من نسيجها القديم، يخيطها كلمة كلمة في نسيج جديد، إذ يفعل ذلك يفرغها من شحنتها القديمة ومن دلالاتها وتداعياتها ويملؤها بشحنة جديدة، تصبح لغة ثانية لا عهد لنا بها(40)".


منح أدونيس شعره هيكلية نمطه الفكري الإبداعي، ورؤيته الحقيقية للكون وإنسانه، فكان شعره تعبيراً صادقاً عن جوهر الإنسان، وعن تطلعاته وأحلامه.


وقد استمد من التراث ما هو حي ومضيء، ثم فعّله في مختبر التواجد الإنساني مولداً أنماطاً متمايزة بجدتها وديمومتها واستمرارها في الآتي، فعبّر عن أناه الإنسانية الكبرى، وعن توحدها مع ذاتها الكونية في أسمى تجلياتها.


v. كلمة وسؤال


يذكرنا واقع الثقافة في المجتمع العربي بمشهدٍ تنزع فيه الروح إلى التحرر من جسد معذّب فانٍ، فإذا كانت الحداثة بمفهومها التراثي الروح المتجددة في كل زمانٍ ومكان فإن واقعنا الثقافي يشير إلى اهتراء وترهل تطمح معه الحداثة إلى التخلي عن فاعليتها في مجتمعٍ يجهل ذاته.


إن كلامنا على ما بعد الحداثة يدفع بي إلى التمحيص والتفكير بالأسباب الكامنة وراء هذه الطروحات. فيقلقني السؤال: هل شعر روادنا بأنهم بلغوا الدرجة العليا في إبداعاتهم ولا جديد مبتكر بعدهم؟


إذا كانت هذه هي الفرضية التي تبنى عليها نظريات الحداثة المعاصرة، فهي فرضية قابلة للنقض. لأن الحداثة تأسيس على أصل لتكون أصلاً لتأسيس جديد، وبالتالي تثبت هذه الحداثة على لسان بعض روادها بعجزها على أن تكون أصلاً إذا هي ليست بحداثة متأصلة.


إن الحداثة والأصالة وجهان لحقيقة واحدة هي الإبداع والإبداع حالة توهج إنساني لا يتلاشى بريقها لأنه توق النفس الخالدة إلى التعبير عن جوهرها وأصالتها، وهذا التوق تفعله الرغبة في الكشف والاتحاد بذات الشوق.


لا حداثة بلا أصالة ولا أصالة تكشف عن ذاتها إلا بفاعلية الحداثة الإبداعية. فالأصالة تخلص لروح التراث وفروعه الممتدة على الواقع الحاضر، لتؤصل ذاتها لتفريعٍ مستقبلي أكثر تلاؤماً من تطور الحياة.


إن الحداثة بمفهومها الجوهري تتأصل في المستقبل وتؤصل له برسالة إنسانية تدفع بالمدعين إلى الاتحاد بذواتهم الحية، فيأتي نتاجهم متجاوزاً خصوبة الحاضر إلى خصوبة مستقبلية أكثر نماء وحياة.


ولذلك كان امرؤ القيس وأبو نواس والمتنبي وجبران وأدونيس، رسل كلمة إبداعية نطقت بحاجات النفس البشرية وأفصحت عن قلقها، وطموحها وتطلعاتها، وستبقى الحياة الإنسانية في حركة دائمة، تتجه نحو تخصيب حداثة لا زمنية، متحررة من محدودية المكان، مجنحة في فضاءات البوح الإنساني اللامتناهية.


المراجع والمصادر


(1) الأدب المقارن، محمد غنيمي هلال، بيروت، دار العودة، ط6.


(2) إنجيل متى.


(3) تشريح النص، عبد الله محمد الغذامي، بيروت، دار الطليعة، ط1، 1987.


(4) الثابت والمتحول: صدمة الحداثة، أدونيس.


(5) الثابت والمتحول في تأصيل الأصول، أدونيس، بيروت، دار العودة.


(6) جبران أصالة وحداثة، مها خير بك ناصر، بيروت، المؤسسة الحديثة للكتاب، ط1، 2002.


(7) الحداثة في الشعر، يوسف الخال، بيروت، دار الطليعة، ط1، 1998.


(8) حديث الأربعاء، طه حسين، دار المعارف بمصر، 1964.


(9) ديوان أبي تمام.


(10) ديوان أبي نواس/ تحقيق أحمد عبد المجيد الغزالي، بيروت، دار الكتاب العربي.


(11) ديوان الشعر العربي، أدونيس، دار المدى للثقافة والنشر، 1986.


(12) ديوان المتنبي.


(13) الشعر والشعراء، ابن قتيبة، بيروت، دار الثقافة.


(14) الشفاء، ابن سينا، القاهرة، مطبعة مدكور، 1952.


(15) طبقات الشعراء، ابن سلاّم الجمحي.


(16) العمدة/ ابن رشيق، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة بمصر، ط2، 1955.


(17) المجموعة الكاملة العربية لجبران خليل جبران.


(18) المجموعة الكاملة المعربة لجبران خليل جبران.


(19) المجموعة الكاملة لميخائيل نعيمة، بيروت، دار العلم للملايين، 1971.


(20) المقدمة لابن خلدون، بيروت، مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني، ط3، 1967.


________________________________________


(1) انظر قوله:


أصبني منك يا أملي بذنب *** تتيه على الذنوب به ذنوبي


ج


(2)وقوله:


ومازلت أستل روح الدن في لطف *** وأستقي دمه من جوف مجروح


حتى انثنيت ولي روحان في جسد *** والدن منطرح جسماً بلا روح


(3) الثابت والمتحول، تأصيل الأصول: أدونيس، دار العودة، ص 111.


(4) كقوله:


متخرسن دين النصارى دينه *** ذي قرطق لم يتصل ببنائق


(الديوان صفحة 220)


(5) الديوان: أدونيس، ج2، ص 19.


(6) ديوان الشعر العربي: أدونيس، ج2، ص21.


(7) العمدة: ابن رشيق، ج2، ص 244.


(8) ديوان المتنبي، شرح عبد الرحمن البرقوقي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، مج1 ج1، صفحة 252.


(9) المصدر نفسه، صفحة 47-48.


(10) المصدر نفسه، مج2، ج 4، صفحة 83-85.


(11) ديوان الشعر العربي: أدونيس، ج2، ص 29.


(12) يقول ابن سلام في كتابه طبقات فحول الشعراء، ص 5: "الشعر صناعة وثقافة عرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان".


(13) زمن الشعر: أدونيس، ص 159.


(14) الشعر والشعراء: ابن قتيبة، ج1، ص 11.


(15) تشريح النص: عبد الله محمد الغذّامي، ص 18.


(16) الشعر والشعراء: ابن قتيبة، ج2، ص 10.


(17) حديث الأربعاء: طه حسين، ج2، صفحة 252.


(18) المصدر نفسه.


(19) الحداثة في الشعر: يوسف الخال، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1998.


(20) العمدة: ابن رشيق، ج1، ص 116.


(21) المجموعة الكاملة العربية: جبران، دار صادر، د.ت.، ص 56.


(22) المجموعة الكاملة المعربة: جبران، دار صادر، د. ت، صفحة 430-431.


(23) المجموعة الكاملة العربية: جبران، صفحة 299.


(24) انظر مؤلفنا، جبران أصالة وحداثة، المؤسسة الحديثة للكتاب، ط1، 2002، صفحة 49.


(25) المجموعة الكاملة العربية: جبران، صفحة 562.


(26) المرجع السابق، صفحة 424.


(27) المرجع السابق، صفحة 396.


(28) المرجع السابق، صفحة 588.


(29) المرجع السابق، صفحة 285.


(30) انجيل متى، الفصل التاسع، الآية 17.


(31) مؤلفنا، جبران، ص 246.


(32) تشريح النص: عبد الله محمد الغزالي، ص 11.


(33) الشعر العربي المعاصر: عز الدين إسماعيل، ص 175.


(34) صدمة الحداثة: أدونيس، الثابت والمتحول، ص 294.


(35) المجموعة الكاملة: أدونيس، ج1، ص 330.


(36) المصدر نفسه، ص 405.


(37) المجموعة الكاملة: أدونيس، ج1، ص 406.


(38) ومن الشعر: أدونيس، صفحة 228.


(39) الثابت والمتحول والأصول: أدونيس، صفحة 23.


(40) زمن الشعر: أدونيس، ص 163.


مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 96 - السنة الرابعة والعشرون - كانون الأول 2004 - شوال 1425













رد مع اقتباس
قديم 2013-03-21, 19:11   رقم المشاركة : 269
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

قراءة ما ورائية في بوح الهمسات النفسية
في نص / شرنقة مزقت رعشتي / للشاعرة : سمر سليم الزريعي
الدارسان : حسين الهنداوي – حاتم قاسم
شرنقة مزقت رعشتي بقلم : سمر الزريعي
أيها البحرُ الغريقُ
امضِ لليلي
لتعبرَ الأنفاسُ المتبرعمةُ
من شطآني..
حافياً اركض إليَّ
و سأرتديكَ لأمحو خطواتِها منّي
فأشرقُ منكَ
طفلةً تتشكلُ من جديدٍ
صوفُ أجسادِنا اغزلهُ
بموجِكَ حلوى
تُذوِّبُ شفاهنا
أكتمُ نهري
عندما أراكَ
بجوفي..
فكلُ الحروفِ مائيةٍ
حطت بخيلها على أضلعي
تحرِّرُني
لتجمعَ ماءكَ
من عتمتي
فيمضغني السوادُ بوحدتي
عند أبوابِ همساتِكَ
لملمني
بشرنقةٍ مزقت رعشتي
أيتها الأنفاسُ..
لا تكتمي بوحَكِ
اعصِ سكونَكِ
فللحرفِ
نكهةُ الليلِ المرتعشِ
برعدي
انحري
زهرهُ
بماءِ الحنينِ
استدعي الربيعَ الآنَ
ليلتهمَ فراشةً حنطْتِها
بغرقي
في كأسِ وردِكِ
بنضجِ الليلِ عندَ اشتهائي
احتسي قراءتي لفنجاني
بطراوةِ أملي
في رئتي..
موتي ممتليٌ
بحصى أنفاسٍ هاربةٍ
من تناسلِ وحدتي
اهجري حطامَ خرافتي
بزرقتي
وتنقلي بين قلقِ الكواكبِ
وساعةَ تفتتِ الصفرِ
في يدي


************************************************** **********************

قصيدة النثر كما يسمونها أو كما تتراءى لنا نص لا يعتمد القافية و هي تحمل في نبضاتها ما يختلج في الوجدان لتنبض بتصوير رمزي و إيحائي يفرغه الشاعر على أرض الواقع من خلال مخزون ارثه الثقافي ، فالشكل الشعري الجديد يبدأ من الكلمة و مدلولاتها و إيقاعها ليأخذنا نسبح في عالم الصورة التعبيرية و الرمز و سائر ضروب الإيحاء اللفظي و مدلولاته الكامنة في مناخات اللغة و الموسيقا التي تلون النص بإيقاعها الدافئ تضفي عليه رونقاً جديداً و هذا ما يفتقده قالب الشعر النثري مع الاحتفاظ بسمته الأدبية 0
و النص الذي بين أيدينا بعنوان : / شرنقة مزقت رعشتي / للشاعرة سمر سليم الزريعي هو أحد نصوص النثر فالعنوان يرسم لوحة على جدار الذات ليسبر مغاورها و يتوجس أنفاسها الصاعدة التي تبوح برعشتها 000 لوحة ترتسم مع أمواج البحر لتتلاقى مع أصداء الذات عبر الأنفاس المتبرعمة في شطآن الوهم و الحقيقة 00 وهمٌ يركض حافياً يرتدي الخطوات لكنه يشرق من انفعالاتها حلمٌ طفولي فيه براءة القرنفل و نقاوة الياسمين بولادة جديدة و حلم جديد

(( أيها البحر الغريق
امض لليلي 000
لتعبر الأنفاس المتبرعمة
و سأرتديك لأمحو خطواتها مني
فأشرقت منك
طفلة تتشكل من جديد ))
حركة ديناميكية مستمرة تكسر أعتاب صمتها ببوح السكون لتقف عند حدود الذات ترسم حروفها المائية التي تحمل حيوية متدفقة من شعورها الصادق الباحث عن ظل
واعد في ليل الحياة المظلم 000 إنها انطلاقة جديدة ترسمها الشاعرة بحروفها الملتهبة 000 و همسة راعفة تزجيها إلى أسلاك القلب التائهة في مغاور النفس التي تبحث عن أنفاس جديدة ترتقي بحلمها من عتمة الليل و الوحدة إلى نافذة الهمسات التي تشرق منها بوحاً جديد 0

(( فكل الحروف مائية
حطت بخيلها في أضلعي
تحررني
لتجمع ماءك
من عتمتي 000
فيمضغني السواد بوحدتي
عند أبواب همساتك ))

لكن التدفق الحيوي في لغة الشاعرة لم يقرع باب اليأس بل فتح نافذة الأمل للربيع الذي يجدد الحياة بنسغ ٍ يخضوري يورق في كأس ورد الحبيب يعطر ليل الماضي :
(( استدعي الربيع الآن
ليلتهم فراشة حنطتها 000
بغرفتــي
في كأس ورك ))

و تبقى زفرات الصورة تنقلنا بألوان طيفها قوس قزح يقرأ فنجان قهوتها من رئة ممتلئة بحصى الأنفاس الهاربة من أطياف وحدتها إلى عالم واقعها تاركة أنفاسها المتعبة و صمت وحدتها و أحلامها الخرافية تنكسر على أمواج زرقة البحر لتنقلنا عبر جواز مرور إلى أفق ممتد ٍ في فضاءات رحبة تعلن ميلاد ساعة الصفر 00
الشاعرة باحت بصمتها و بلغتها الوجدانية أفاقاً تخترق حاجز الذات لتسبر معالمه و جعلت من لوحتها البحرية الغريقة في عالم الوجدان رموزاً تولد ُ في كائناتها لتغدو عنصراً فاعلاً في لوحتها 000
( فالبحر الغريق و الأنفاس المتبرعمة ) صور ٌ تتعدى سكون الحركات لتدخل أعماق الذات 0
صورتان متلازمتان ( غرق وولادة ) و لأن عجلة العمر الكوني لا ترجع إلى الوراء ندرك أن بعد الموت ولادة و حياة جديدة 0
فتمتشق من مفرداتها قاموساً ذاتياً يحتوي خصوصية تلقائية ترسم لوحتها في جسم القصيدة فتعابير مثل ( بجوفي – عتمتي – لملمني – برعدي – في رئتي – في يدي )
كائنات حسية ترسم لوحة الذات و تعبر عنها بل تغوص في أعماقها لتسبر بمفرداتها جمالية اللوحة 0 فالوهج و الإحساس الصادق لدى الشاعرة يسبر مغاور نفسها عبر انغماسه في الواقع الحياتي و هذا ما عبرت عنه جلياً في مفرداتها :

(( بنضج الليل عند اشتهائي
احتسي قراءتي لفنجاني ))

نبض صادق يتعالى في صراع مع حواس الجسد لينطلق في أفق الوعي اللامحدود
بخصوبته المترامية في الأفق الطلق يبحث عن معالم جديدة لحلم جديد 0
و من هنا يبدو لنا أن العزف على أوتار قصيدة النثر يحتاج إلى قوة تخزينية للصورة الشعرية بحيث تدهشك معالمها دهشة ً تنقلك دفعة واحدة إلى عالم آخر كما و تحتاج إلى لغة مختزلة ترتقي مفرداتها إلى قاموس ينقلك عبر أثير روح الكلمات ليرسم أبعاد الهدف الذي تتحدث عنه القصيدة 0
هدفان متكاملان و متسارعان في الوصول بالقارئ إلى اللحظة الشعرية الفطرية التي تبعث في النفس حقيقتها ( الصورة الشعرية – اللغة الشعرية ) و كم نتمنى من كتابنا المعاصرين الذين يمتطون صهوة هذا الجنس الأدبي أن يعوا أن حصان الشعر حصان مشاكس يحتاج إلى فارس ٍ ماهر يقوده من صحارى الكلمات إلى واحات الوجدان الشعري الخالص 0
حسين الهنداوي ـــ حاتم قاسم









رد مع اقتباس
قديم 2013-03-21, 19:14   رقم المشاركة : 270
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الهرطقية
في مأزق النقد العربي المعاصر


عبدالرحمن حمادي
دمشق - سوريا

عندما نتحدث عن موقع النقد العربي المعاصر وواقعه، لا يستطيع أحد بالتأكيد أن يلوم ناقدا مثل خلدون الشمعة حينما يقف ويصف النقد العربي بالهرطقة، أو حينما يشن هجوما عنيفا على معظم ما ينشر من نقد واصفا إياه بالهرطقيات، ولا يعني فقط ما ينشر من نقد صحفي يكتفي من الأثر بمراجعة خاطفة تروي ردود فعل المرجع على رواية أو قصيدة دون أن تقدم تعليلا، ودون أن تحشد ما لديها من أدوات الإقناع، أو دون أن تستند في محاجّتها إلى مصطلح نقدي، بل يشمل الشمعة أيضا النقد الأكاديمي الذي كما يقول قد « تردى بدوره في جملة هرطقات نقدية تكّرس واقعا نقديا عربيا يتسم بالتواصل بين مراحله المختلفة.(1).
وخلدون الشمعة هو واحد من عدد كبير من النقاد الذين وقفوا ضد النقد العربي السائد ووصفوه بأنه كتابات تنهض على قاعدة من الجهل أو لكل بعض ما تحقق من تقدم في نظرية النقد الأدبي الحديث، والنقد العربي المعاصر-والقول ما زال للشمعة. ما يزال في جزء يسير منه أسيرا لجملة من الهرطقات التي تفصح عن قصور فاضح في إدراك العلاقة بين النقد والإبداع ، وبين النقد والعصر الذي ينتمي اليه النص المنقود”(2).
وهذا يجب ان نكرر بأن خلدون الشمعة ما هو إلا واحد من عدد كبير من النقاد العرب الذين استلّوا سيف الهجوم على ما ينشر من نقد في السنوات الأخيرة متهمين إياه بالخرف أحيانا، وبالهرطقات أحيانا أخرى، ومن الواضح ان هذا التهجم من النقاد على النقد يوضح بجلاء أن ثمة معركة يحاول النقاد فتحها لاستنباط معالم نقد عربي صحيح وفاعل، ولكن ما ملامح هذا النقد المنشود، وما أسسه ومناهجه؟ وأسئلة أخرى تحولت إلى معركة أخرى بين النقاد العرب في ما بينهم، ولتتعمق أزمة النقد العربي أكثر فأكثر.
ومع ذلك نقول إن ما يثار حول النقد العربي من قبل النقاد العرب هو أمر طبيعي ويشكل في أحد جوانبه رغبة في الخلاص من المأزق النقدي، ولعلنا لا نجافي الحقيقة حينما نرى ان المعارك النقدية الحالية هي امتداد لمنهج العربي القديم(نقد النقد)، فقد مارس النقاد العرب القدماء هذا الشكل من النقد وعلى مستوى مؤلفات كاملة ظهرت لا تنتقد شاعرا و ناثرا، وانما تنتقد ناقدا بالدرجة الأولى، وللتذكير نشير إلى عدد منها، من مثل:
  • <LI dir=rtl>«الرد على ابن جني في شرح ديوان المتنبي» لسعد بن محمد الأزدي.
    <LI dir=rtl>الرد على ابن جني لأبي عباس المهلبي.
    <LI dir=rtl>«تزييف نقد ابن قدامة» لابن رشيق.
    <LI dir=rtl>تبيين غلط ابن قدامة في نقد الشعر «للآمدي.
    <LI dir=rtl>الرد على ابن المعتز فيما عاب فيه أبا تمام «للآمدي.
  • منهاج البلغاء «لحازم القرطاجني.....
وحتى في الغرب عاد (نقد النقد) يطرح نفسه بقوة، إذ لم يعد النقد كما كان في الماضي يحمل على عاتقه تقديم شهادة ميلاد لكاتب يتتبع فيها تاريخه ومراحل حياته ويكشف عن ميوله الشخصية والأدبية، ويحاول أن يضع تحت المجهر البحث سرا من أسراره، كما لم يعد إطنابا يفيض فيه الناقد بمديح أو ذم، بل أصبح النقد كما يرى « جان ايف تادييه» مساويا للأعمال التي يحللها، وأصبح النقاد كتابا بارعين، إنهم يمارسون الكتابة في سطور الآخرين ويخرجون منها إلى سطورهم الخاصة، وقد أدى هذا المعنى إلى أن تقف الكتابة النقدية في مواجهة الكتابة النقدية، وإلى أن تصبح الهوّة عميقة بين العمل العلمي النقدي والشعوذة النقدية. (3)
وأرى أننا بعد هذا قد أزلنا أسباب الحرج في مكاشفة أنفسنا بدوافع نقدنا وملامحه، وهي ملامح غير سارة بالطبع.

  • التصاغر:
أعلم أن هذا العنوان الفرعي (التصاغر) مثير للألم والشفقة معا، ولكنها الحقيقة، فإحدى ملامح النقد العربي المعاصر أنه متصاغر أمام النقد الغربي، وما يزال يرى فيه مثلا أعلى يحتذى باستمرار، فكان المفهوم الغربي النقدي وما زال صاحب تأثير كبير في الخطاب النقدي العربي الذي لم يستطع بسبب ذلك تأسيس منهج خاص به، وبالتالي بقيت الممارسة النقدية متخلفة عن مواكبة الإبداع العربي والتطورات التي طرأت وتطرأ عليه، ولعل المؤتمرات العربية التي تحاول البحث في النقد توضح هذه الإشكالية، فكل مؤتمر يتحول الى معارك بين المدارس والمناهج النقدية الغربية دون الاقتراب من محاولة تأصيل النقد العربي، فهذا يتحدث عن المنهج النفسي وذاك يتحمس للمنهج، الأبستمولوجي، وآخر مع البنيوبة، ورابع مع الجمالية.. إلى أخره.
نحن سعداء بالطبع أن يعي نقادنا المدارس والاتجاهات الغربية في النقد، ولكن إلى الحد الذي يمكننا من تأصيل ثقافتنا النقدية، ودون أن ننسى بأن آداب الأمة العربية وإبداعاتها-بما في ذلك النقد- لا يمكن أن تتطور إلا من داخلها، أما التأثيرات الأجنبية فلا تكون فعالة إلا حين يمكن صهرها وتمثلها في الإبداع الأصلي. المضحك المبكي فعلا والذي يعكس تصاغر نقادنا أمام النقد الغربي وعدم ثقتهم بما لديهم أن أي مؤتمر عربي حول النقد العربي يتحول إلى دروس تعيد شرح المدارس النقدية الغربية بإعجاب وحماس.

  • اللفظيـــة:
إن إحدى إشكاليات النقد العربي المعاصر هو ميله للاستعرض اللفظي، حتى صار ذلك يشكل ظاهرة طريفة في النص النقدي، فيتم حشره بمصطلحات من مثل:الكلاسيكية-الأكاديمية-التجريبية-اللاوعي-البنيوية.... وهذا الحشو الاستعراضي اللفظي يمكن أن نفترض انه يتم لأجل احتمالين:
- الأول: الناقد نفسه لا يفهم معنى هذه المصطلحات، ولكن تقديم نفسه كناقد يتطلب منه هذا الحشو لألفاظ متداولة وأخرى غير متداولة أو معروفة يخترعها من عندياته، وفي هذه الحالة، لا القارئ، ولا صاحب الإبداع المنقود، ولا الناقد نفسه يفهمون ما يعنيه النص النقدي، ومع ذلك يتخاطبون مع بعضهم على مبدأ (حوار الطرشان)، ولي أن اضرب مثلا:
في أمسية شعرية وقف ناقد يعقّب على ما ألقي من شعر، فحشى حديثه بمصطلحات وهو يحلل الشعر الملقى بحديث لم نفهم منه ولا كلمة، فضاق بي، ووقفت معقبا على كلام الناقد بكلام مثله مخترعا عشرات المصطلحات الوهمية والأسماء الأجنبية، ومع ذلك حاورني الناقد مؤيدا بعض ما قلت ونافيا بعضه، وهكذا تحاورنا بحوار، كلانا كنا نخترع فيه الأسماء والمصطلحات، والجمهور المسكين يتظاهر معظمه انه يفهم ما نقوله، ولكم أن تتصوروا سخافة الموقف حينما كاشفت الناقد والجمهور بالحقيقة.
- أما الاحتمال الثاني، ففيه، يكون الناقد ملما بالمصطلحات التي يستعرضها، ومع ذلك يستخدمها ليس للدلالة على معانيها، وإنما لتأكيد تأثيرها العاطفي الهيجاني الذي تحدثه، أي أن الناقد يورد المصطلح ثم يملأه بالمفهوم الذي يلائم رأيه المسبق ونزعته العاطفية بمحبة شيء أو كرهه له، وهكذا يورد الناقد المصطلح بمعزل عن دلالته الحقيقية، وهذه الظاهرة تشكل ضررا بالغا على النقد العربي المعاصر وعلى الإبداع معا؛ لأنها تساهم إسهاما خطيرا في تكريس عادات لغوية تفرغ الفكر العربي من قابليته على الإقناع العقلي وتشيع فيه النزعة الى السحر اللفظي على حساب الدلالات المنطقية للألفاظ.

  • استعراض المقدرة:
حينما يتعامل النقد العربي المعاصر مع الإبداع يقدم نفسه في استعراض وكأنه يحب أن يسبق الأثر المنقود، ولهذا يمعن الناقد في عرض ثقافته الشمولية، خاصة ثقافته في المدارس والمناهج النقدية الغربية، ويسهب في شرح المدارس النقدية الغربية واسماء أعلامها مستشهدا بهم بين الفينة والأخرى، وكل ذلك دون أن يتطرق للنص المنقود إلا لماما، فما ندري: هل نحن إزاء مقالة تنظيرية يطرحها مثقف على المتلقين الذين يفترض هذا (المثقف) انهم أميون، أم إزاء نص نقدي لإبداع ما.
ان استعراض المقدرة بهذا الشكل الذي يستغبي المتلقي هو الذي جعل كل شيء قابلا للنقد على أساس انه إيداع حتى لو كان خرفا لغويا لا علاقة له بعشيرة الإبداع، إذ من المعيب ان يعلن الناقد أن هذا الخرف لا يستحق النقد، بل لابد من تناوله على انه إبداع، وإلا على ماذا سيتكىء الناقد في استعراض مقدرته النقدية، وبذلك يصبح النقد مشجعا للانحدار الذي وصلت إليه بعض الإبداعات، لا سيما في الشعر العربي الحديث، لذلك لم نعد نستغرب جاهزية بعض النقاد للتعامل الفوري مع «القصيدة الإلكترونية» و”القصيدة الكهربائية» و « القصيدة البصرية”.
مثلا، يصدر أحدهم (ديوانا) يتضمن ما اسماه (القصيدة البصرية) وهي تشكيل رسومات من حروف عربية، كأن يشكل صاحب هذا الشيء المسمى ديوانا صورة رجل من الحروف العربية، وبسرعة يتنطع النقد للحديث بإسهاب عن هذه التجربة الشعرية ومضامينها و..و من مثل”وهذا الشكل الكتابي يؤكد الحرية الغائبة ويذكر بها حين ينشدها في تعدد المقترحات الكتابية، فان هذه المقترحات تصبح في الوقت ذاته مأوى للحرية وملجأ لها، ولذا فهي تأوي الى الذات وتلمح الى نفسها من النوافذ، أنها حرية خائفة مهددة، ومن اجل هذا فهي تتجه الى صيغ التعاويذ والرقي والسحر والمخلوقات التي تشبه كتابة سومرية فقط لتحافظ على امتدادها..
هذا مثال، وقس على ذلك عشرات وعشرات الأمثلة التي تطالعنا تحت اسم النقد وتمتلئ بالغريب من المعادلات والمربعات والجداول من مثل :» ان الشاعر في هذا النص معبأ بالانبهارية-الاندفاع لديه لا انتماء للفوق-تحته المنبعثة من التحت-فوقية- حيرة مستمرة تصطدم بديماغوجية لا جمعية= صدام لا ذكوري مع المخزون الذاكوري..
ألا يعرض ما ذكرناه أمامنا مشكلة عويصة يعاني منها النقد العربي؟ وان النقد قد كف عن كونه عنصر كشف وإنارة واستحال الى عنصر تضليل واعاقة؟

  • الفوقيـة:
ان النقد في أحد تعاريفه هو فن يستخدم العلم، واحد صحة علمانيته ان لا يعتقد بأن الإبداع يحدث كي يمارس النقد وظيفته على هذا الإبداع، ولكي يتجه الناقد بخطابه للقارىء قبل ان يتجه به للمبدع، ولكن ما يحدث اليوم في النقد العربي غالبا هو ان الناقد يعتبر نفسه سلطة عليا فوق الإبداع، سلطة « يجب ان تأمر وتنهي فحسب، ولا تقوم النص بقدر ما تعلم صاحب النص أو تشرح له كيف يمكنه أن يحذق فنه وان يصحح مساره، وهكذا فان هذه السلطة المزعومة تتجاوز ما هو قائم من اجل ان نقترح ما يمكن ان يقوم، وكثيرا ما يتوجه الناقد الى الشاعر أو القاص توجها ينطوي على استخذائية وتصغير”.
والناقد في هذه الإشكالية هو كالنبات الطفيلي الذي يتسلق على الإبداع ويرى ان هذا الإبداع يجب ان ينحني له وحده، ويقتصر نشاطه التطبيقي على اختيار نصوص قد اكتسب أصحابها شهرة ويستشهد بها كحجج دامغة يجب ألا تناقش.
أنها بعض ملامح وإشكاليات النقد العربي المعاصر، والإلمام بكافة هذه الإشكاليات يحيلنا الى مثال علبة الحليب، ومفادها ان علبة حليب مجفف عليها صورة طفل يحمل صورة العلبة نفسها، والصورة التي على العلبة فيها صورة الطفل نفسه يحمل العلبة نفسها، وفي الصورة الموجودة في الصورة توجد نفس صورة الطفل وهو يحمل نفس علبة الحليب وعليها صورته وهو يحمل نفس علبة الحليب التي أيضا عليها صورته وهو يحمل نفس علبة الحليب ... وهكذا فثمة متاهة لا تنتهي وتشكل مأزقا لمن يريد الوصول الى الصورة الأخيرة المفيدة.
هذا المثل ينطبق في المحصلة على النقد العربي المعاصر، فالإشكاليات كثيرة، والغريب أن نجد من بين نقادنا من يدافع عن هذه الإشكاليات بادعاء ان النقد يرتبط بالإنتاج «يتقهقر ويتطور بتطور العلم والتقنيات والصنائع، وبين النقد والأدب علاقة، بل علاقات، غير أنها عموما غير مباشرة تمر من خلال عمليات الإنتاج والعلاقات الناتجة عن تطوراته في المجتمع وفي الفكر والعواطف» (7)، ومع ذلك يعترف صاحب هذا الرأي بأن”اكثر الممارسات في النقد العربي اليوم هي تمرينات مدرسية تصلح للتعليم والتدريب اكثر منها ممارسة فعلية لوظيفة النقد الأدبي”.(7)

  • ما العمــل:
[B]لقد ابتعدت عن الأسماء والأمثلة المباشرة لان هدفنا هو نقد النقد كمساهمة في مشروع يؤصل نقدنا العربي المعاصر، أو على الأقل يحاول إخراجه من بعض إشكالياته وأزماته التي جعلت ناقدا مثل جورج طرابيشي يعلن بأن قسما كبيرا من النقد العربي «هو شر ما ابتلى به الإبداع العربي الحديث من آفات... وان أطنانا وأطنانا من الورق المسمى بالنقد يجب ان يلقى في سلة المهملات فيما لو وجدت سلة مهملات تتسع لها، ولعل هذا ما يفسر ضآلة، بل ضحالة دور النقد في حياتنا المعاصرة، فأي جدوى ترجى من نص ناقد ينزل نفسه منزلة النص المنقود ويتخذه مجرد تكأة ليتقول بها بأقاويل ما انزل الله بها من سلطان، وليهذر وليعرف بصدد النص"(9)
بالطبع نحن لا نريد ان نفعل مثل جورج طرابيشي ونستمر بالتهجم على واقع النقد، ولكن نرانا مضطرين الى العودة للسؤال المدرسي وهو: ما هو النقد؟
ربما نضطر الى استحضار تعاريف النقاد العرب القدامى ومنهم أبو حيان التوحيدي الذي عرف النقد بأنه"علم الكلام على الكلام» وهي النتيجة التي توصلت إليها البنيوية في النقد الأدبي، وهذا يعني ان مضمون النقد يجب ان يكون محددا بطبيعة محتوى الإبداع وتعليقا عليه، أي هو فعالية قولية على هامش الأثر الإبداعي، تابع له، ويجب ان يكون كذلك لان تبعيته هذه هي المعيار الأول لمصداقيته» فالناقد ظل المبدع ، وبقدر ما يفلح الظل في ان يبقى لصيق اصله، وهو هنا المبدع، فان صدقه-كما يقول المناطقة- يكتسب المزيد من الكينونة والصلابة(10).
ومن هنا نقول ان إحدى سبل خروج النقد العربي المعاصر من أزمته هي ان لا يكتب الناقد من عنده ليستعرض ثقافته، أو لينظر كفاعلية فوق الإبداع، بل ان يكتب محيلا الى ما هو عند المبدع، فالمبدع هو الشمس التي تضيء، والناقد هو القمر الذي ينير بما ينعكس عليه من ضوء الشمس، وفاعلية النقد في محاولاته ان يستقرئ من النص ولادته الباطنية والصامتة التي لا تزال بحاجة الى ان ترى النور.
وعلى النقاد العرب ان يدركوا بأن آداب الأمم العريقة وإبداعاتها لا يمكنها ان تتطور إلا من داخلها، والتأثيرات الأجنبية لا تكون فعالة إلا بصهرها وتمثلها في الإبداع الأصلي، عند ذلك يتقدم النقد العربي، ويصل الى تحديد الضوابط والملامح الفنية فيه، ومن غير المقبول ان يبقى النقد العربي تابعا للفكر الأجنبي ومناهجه لان ذلك يعني فيما يعنيه خللا في استقلالنا الحضاري، والاستقلال الحضاري جزء لا يتجزأ، في الفكر والفلسفة والعلوم، كما في كل جوانب الإبداع والنقد.

مصادر :[LIST=1"> [/B]
<LI dir=rtl>خلدون الشمعة-هرطقات في النقد-مجلة الموقف الأدبي-العدد 11- دمشق 1974.
<LI dir=rtl>نفس المصدر.
<LI dir=rtl>جان ايف تأدييه. النقد الأدبي في القرن العشرين-ترجمة منذر عياشي-مركز الإنماء الحضاري- دمشق-1996.
<LI dir=rtl>محمد مظلوم في نقده لكتابة ناصر مؤنس-جريدة الثورة السورية-العدد1-170-11-12-1996.
<LI dir=rtl>من نص منشور في إحدى الدوريات الثقافية العربية، وارتأينا عدم ذكر اسم الدورية منعا لتكرار حساسية تلك الدورية عندما انتقدت في بحث لي الهرطقيات التي تنشرها تحت اسم نقد.
<LI dir=rtl>خلدون الشمعة –مصدر سبق ذكره.
<LI dir=rtl>عبد الصمد بلكية-ندوة الإبداع والهوية القومية-مجلة الوحدة-العدد58-59-الرباط-1998.
<LI dir=rtl>نفس المصدر.
<LI dir=rtl>جورج طرابيشي-ندوة الإبداع والهوية القومية-مجلة الوحدة-العدد58-59-الرباط-1998.
نفس المصدر.









رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
*«•¨*•.¸¸.»منتدى, اللغة, العربية, «•¨*•.¸¸.»*, طلبة

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 14:50

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2023 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc