المطلب الأول
تقرير الرقابة القضائية على دستورية القوانين
إن سمو الدستور سيكون كلمة بلا معنى إذا كان من الممكن انتهاكه من جانب السلطة التشريعية أو التنفيذية، وذلك إذا لم تخضع أعمالها للرقابة على دستورية القوانين واللوائح ( )، ولا شك أن الرقابة القضائية هي الرقابة الفاعلة باعتبار وظيفة القضاء الطبيعية في حماية الحقوق والحريات وحراسة الشرعية في الدولة، ولكن بسط القضاء رقابته على دستورية القوانين تقف أمامها عقبات أهمها ما يثيره المعترضون من أن اختصاص القضاء بهذه الرقابة يعد خروجا عن مهمته في تطبيق القانون، وخرقا بالتالي لمبدأ فصل السلطات، خصوصا وان الدستور أوكل اختصاص رقابة الدستورية للمجلس الدستوري، فكل ذلك مانعا من هذه الرقابة القضائية، ولكن ألا تعد القواعد الدستورية قواعد قانونية فتندرج ضمن القواعد التي يطالب القاضي بتطبيقها؟ وإذا وقع التعارض بينها وبين القواعد القانونية الأخرى فكيف يتصرف القاضي مع هذا التعارض؟ وماذا يفعل القاضي أمام الدفع بعدم دستورية قانون معين؟ هل يحيل الدفع للمجلس الدستوري؟ أليس هذا الحل ممنوعا عليه؟ فما الحل أمام التزامه بالرد على الدفوع؟ ثم هل حقا مبدأ فصل السلطات يعد عائقا أمام بسط القاضي لرقابته على دستورية القوانين؟
إن سلطة القضاء في رقابة دستورية القوانين يستمدها من التزامه بتطبيق القانون (الفرع الأول) والتزامه باحترام حقوق الدفاع وبالتالي إلزامية الرد على الدفوع (الفرع الثاني) ويتدعم هذا بالنظر للمدلول الحقيقي لمبدأ فصل السلطات والذي سيقود للنتيجة السابقة وليس العكس(الفرع الثالث).
الفرع الأول
التـزام القاضـي بتطبيـق القانـون
الاتفاق حاصل على كون وظيفة القاضي هي تطبيق القانون للفصل في النزاعات المعروضة عليه، ولا شك أن القانون المقصود هو القانون بمعناه الواسع، فيندرج ضمنه كل القواعد القانونية المكتوبة منها وغير المكتوبة، والمادة الأولى من القانون المدني تؤكد ذلك، فتندرج القواعد الدستورية ضمن مضمون القانون الذي يلتزم القاضي بتطبيقه( )، وهذا الأمر لا إشكال فيه إذ يعد سليما من الناحية النظرية ويسلم به الفقه والقضاء، ولكن المسألة تصبح محل نظر عند التعارض بين نص دستوري ونص تشريعي، فهنا كيف يتصرف القاضي؟ هل سيطبق النص التشريعي تماشيا مع الرأي القائل بامتناع القاضي عن التعرض لمسألة صحة القانون من الناحية الموضوعية، وإن جاز له فحصه من الناحية الإجرائية ؟ أم أن القاضي سوف يوازن بين النصين فإذا وجد التعارض ثابتا بينهما أعمل مبدأ التدرج الذي يفرض إهمال النص الأدنى والفصل في النزاع طبقا للنص الأعلى؟
إن الاتجاه الغالب في الفقه والقضاء المقارن يرى أن القضاء عليه أن يقوم بالرقابة على دستورية القوانين، إذ يعد ذلك من صميم عمله القضائي فيكون ذلك التزاما وجوبيا لا جوازيا، لأن مهمته تشمل أية ناحية تتعلق بتطبيق القوانين ومراعاة ترتيبها، فالمهمة الأساسية للقاضي تقوم على تطبيق القانون فيلتزم أولا بتعيين القاعدة التي يجب مراعاتها، وتغدو مهمته التي لا يستطيع التهرب منها منصبة على حل المناقضات التي يمكن أن تثور أمامه بين القواعد القانونية، وهذا في الواقع ما يعمله بصورة مستمرة إذ أنه يفصل في النزاع بين القانون القديم والقانون الجديد، وبين القانون العام والقانون الخاص، وبين القانون الوطني و القانون الأجنبي، وعلى ذلك فالتزام القاضي بتطبيق القانون يندرج ضمنه التزامه بإزالة التعارض بين القوانين بتغليب القانون الأعلى واستبعاد القانون الأدنى، وبالتالي فإذا كان التعارض بين الدستور والقانون فإنه يستبعد القانون لصالح الدستور، وهو في أدائه هذا الدور لم يخرج عن دوره في تطبيق القانون لاندراج أحكام الدستور ضمن مفهوم القانون الذي يخاطب القاضي بتطبيقه( )، وفي نفس الإطار يرى بعض الفقه أن القانون المخالف للدستور لا يعد موجود أصلا( ) فلا يقع على القضاة عبء تطبيقه مادام مخالفا للدستور أي منعدما، فالقاضي ملزم بتطبيق القانون طالما صدر وفقا للقواعد الدستورية، فإذا جاء خرقا لها فإنه يعد غير نافذ ولا يلتزم القاضي بتطبيقه، لأن واضعه خرج عن الشرعية الدستورية للقانون، وهذا هو مقتضى مبدأ تدرج القواعد القانونية وسمو الدستور.
وفي هذا تقول المحكمة الدستورية العليا المصرية( ): " إن نصوص الدستور تمثل القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم في الدولة، ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التي يتعين التزامها ومراعاتها باعتبارها أسمى القواعد الآمرة وإهدار ما يخالفها من تشريعات بغية الحفاظ على مبادئه(الدستور) وصون أحكامه من الخروج عليها " وتؤكد ذات المحكمة حتمية الرقابة القضائية على دستورية القوانين بقولها: "إن مبدأ الشرعية وسيادة القانون وهو المبدأ الذي يوجب خضوع سلطات الدولة للقانون والتزام حدوده في كافة أعمالها وتصرفاتها، هذا المبدأ لن ينتج أثره إلا بقيام مبدأ آخر يكمله ويعتبر ضروري مثله لأن الإخلال به يودي بمبدأ المشروعية ويسلمه إلى العدم، ذلك هو مبدأ الرقابة القضائية على دستورية القوانين من جهة، وعلى مشروعية القرارات الإدارية من جهة أخرى لأن هذه الرقابة القضائية هي المظهر العملي الفعال لحماية الشرعية وهي التي تكفل تقييد السلطات العامة بقواعد القانون، كما تكفل رد هذه السلطات إلى حدود المشروعية إن هي تجاوزت تلك الحدود وغني عن البيان أن أي تضييق في تلك الرقابة ولو اقتصر التضييق على دعوى الإلغاء سوف يؤدي حتما إلى الحد من مبدأ الشرعية وسيادة القانون ولذا يتعين أن تقف سلطة المشرع إزاء حق التقاضي عند حد التنظيم فلا تجاوزه إلى الحظر أو الإهدار"( ) وبالتالي فطاعة القانون لا تمنع من رقابة مطابقته للدستور. وفي حكم "مارشال"( ) الذي يربط الفقه بينه وبين نشأة مبدأ الرقابة القضائية على دستورية القوانين والذي صدر عام 1803 جاء فيه: "من واجب الهيئة القضائية أن تفسر القانون وتطبقه وعندما يتعارض نص تشريعي أو قانون مع الدستور فإن السمو والبقاء يكون للدستور " وهو ما تم تكريسه لاحقا في قضاء عديد الدول، ومنها القضاء الروماني حيث أصدرت المحكمة العليا الرومانية حكما سنة 1912( ) جاء فيه: "حيث انه في حالة التعارض يكون من حق القاضي التثبت من دستورية القانون العادي فإذا اتضح له مخالفته للدستور وجب عليه تفضيل النصوص الدستورية، ولا يمكن القول أن القاضي في هذه الحالة قد خرج عن اختصاصه واعتدى على اختصاص السلطة التشريعية، بل بالعكس إن القاضي بعمله هذا إنما يقوم بوظيفته القانونية وهي معرفته أي قانون يجب تطبيقه في النزاع المعروض عليه" وعلى ذلك فالسلطة الدستورية المقررة للمحاكم في تفسير وتطبيق القوانين، تفترض المفاضلة بين القوانين المطلوب تطبيقها على النزاع، بحيث ترجح القانون الأعلى مرتبة وتهمل القانون الأدنى، ومن ثم إذا ما تعارض حكم القانون مع الدستور وجب إعلاء الأخير وإهمال الأول، ذلك أن السيادة دائما يجب أن تكون للدستور.
ومعنى هذا جميعه أن عمل القضاء ونشاطه من اجل تطبيق القانون يجب أن يتم في إطار المفهوم الذي سبق تحديده لمبدأ تدرج القواعد القانونية، حيث انتهينا إلى اعتبار القواعد الدستورية مصدرا للمشروعية العليا في الدولة، فتقف على قمة درجات أو طبقات النظام القانوني، وعلى ذلك فإن القاضي باعتباره السلطة المنوط بها تفسير القانون وتطبيقه، عليه إذا ما عرض له عارض أي إذا ما اكتشف تعارضا بين التشريع الذي يهم بتطبيقه وبين الدستور أن يتصدى لهذا العارض ويسعى إلى إزالته ليمهد السبيل إلى التطبيق الصحيح للقانون.
الفرع الثاني
التزام القاضي باحترام حقوق الدفاع
يعتبر مبدأ احترام حقوق الدفاع( ) أحد الدعائم الإجرائية الأساسية في كل الأنظمة الإجرائية،ولهذا تتشدد المحاكم العليا في مختلف الدول في الرقابة على الأحكام التي تتجاهل حق الدفاع باعتبار ذلك مسألة قانون تخضع لاختصاصها، واستنادا لحق الدفاع فإن القاضي يلتزم بالرد على الدفوع المبداة أمامه سواء منها المدنية أو الإدارية أو الجزائية طالما كانت جدية، وهذا تحت طائلة عدم التسبيب الذي يجعل حكمه عرضة للنقض والإبطال من الجهات القضائية العليا، وهو ما كرسته المحكمة العليا في قرارها الصادر بتاريخ 21 /05/1984( ) الذي جاء فيه: "من المقرر قانونا أن القرار الذي لا يستجيب في تسبيبه إلى طلبات أو دفوع احد أطراف الدعوى فإن هذا القرار يكون مشوبا بانعدام التسبيب" وكذالك القرار المؤرخ في 26/11/1984( ) الذي جاء فيه: "من المقرر قانونا أن كل قرار يجب أن يتضمن الإجابة عـلى كافة الطلبات والدفوع المقدمة من أطراف الدعوى دون تفرقة أو تمييز بالأوجه المستظهر بها لتأييد طلب أو دفع والقضاء بما يخالف هذا المبدأ يجعله مشوبا بعدم التسبيب"
ومن الدفوع التي قد تثار أمام القاضي الدفع بعد دستورية القانون المراد تطبيقه في النزاع فكيف يتصرف القاضي ؟
تفرض القوانين الإجرائية سواء منها المدنية أو الجزائية على القاضي الرد على الدفوع ومناقشتها، إذ يستشف من المادة 38 والمادة 144 من قانون الإجراءات المدنية، والمادة 330 و331 من قانون الإجراءات الجزائية، أن الجهة القضائية ملزمة بالاستماع للدفوع المقدمة إليها وبمناقشتها وتدوينها في حكمها والرد عليها تحت طائلة عدم التسبيب، ولا شك أن القاضي سيجد نفسه أمام موقفين قد يتخذهما أمام الدفوع الجدية، فهو إما يجيب على هذه الدفوع ولو كان غير مختص بها طبقا لقاعدة(قاضي الأصل هو قاضي الفرع) أو(قاضي الدعوى هو قاضي الدفع) وهو مقتضى المادة 330من قانون الإجراءات الجزائية، أو أنه يوقف الفصل في الدعوى، ويحيل الإطراف للجهة القضائية المختصة لتفصل في هذا الدفع طالما وجد مانعا من الفصل فيه من طرفه، وهو ما تقرره المادة 331 من قانون الإجراءات الجزائية، فأي الموقفين يسلكه القاضي بالنسبة للدفع بعدم دستورية القوانين ؟
الأصل أن يتحدد اختصاص المحكمة بطلب المدعي الأصلي وبالخصومة الناشئة عنه، إلا أن اختصاص المحكمـة يمتد كثيرا إلى مسائل أخرى، إذ قد تتفرع الخصومـة بما يثار فيها من مسـائل، والتي منها المسائل الفرعية أو الطارئة التي تثور أثناء نظر الدعوى وتختص بها المحكمة بما لها ولاية ممتدة أو تكميلية لولايتها الأصلية بنظر الطلب الأصلي، وهناك أيضا الدفوع التي تثار أثناء سير الخصومة، وتختص بها أيضا المحكمة التي تنظر الطلب الأصلي على أساس تمتعها بولاية تكميلية وأن من اختص بالأصل له أن ينظر الفرع المتولد عنه، ولكن امتداد اختصاص محكمة الأصل لتلك المسائل الفرعية أو الدفوع إنما يكون في حدود معينة، إذا أن قاعدة قاضي الدعوى هو قاضي الدفع تمنح للمحكمة سلطة الفصل في الدفوع المبداة أمامها مالم ينتج عن الدفع مسألة أولية تخرج عن اختصاص المحكمة، فهنا لا تنظرها محكمة الدعوى الأصلية، والمسألة الأولية هي مسألة يتوقف الحكم في الدعوى على الفصل فيها، والأصل أن قاضي الدعوى الأصلية لا يفصل فيها رغم تلازمها مع الطلب الأصلي لكونها لا تدخل في اختصاصه، ومن المسائل التي يعتبرها الفقه أولية(مسألة دستورية القوانين) فإذا كانت إحدى المحاكم تنظر نزاعا وستطبق نصا معينا على هذا النزاع ووجد أحد الخصوم أن هذا النص غير دستوري فله أن يثير مسألة عدم الدستورية، ناهيك عن انه لو اعتبرناها من النظام العام فسيثيرها القاضي من تلقاء نفسه، وهنا تتوقف المحكمة عن الفصل في النزاع إلى أن تحسم مسألة دستورية هذا النص( )، هذا بالنسبة للدول التي تفسح المجال لإحالة تلك المسألة لمحكمة دستورية متخصصة كمصر وسوريا، أما في الجزائر فلا توجد مكحمة دستورية بل مجلس دستوري ولا يملك القضاء أو الأفراد حق إخطاره، فماذا يفعل القاضي أمام الدفع بعدم دستورية القانون ؟
إنه نظرا لغياب محكمة مختصة بالفصل في دستورية القوانين فقد اختلف الفقه حول مدى سلطة القاضي تجاه القوانين المخالفة للدستور، فهناك من ذهب إلى أن القاضي يجب عليه أن يمتنع عن تطبيق القانون المخالف للدستور، وهناك من ذهب إلى عكس ذلك نظرا لالتزام القاضي بتطبيق القانون دون مراقبة مطابقته للدستور، وعلى ذلك فالمسألة تحتاج إلى وقفة تحليلية عميقة .
إن الاتفاق حاصل لدى الفقه والقضاء على أن القاضي عندما يخول النظر في نزاع معين ملزم – مالم يمنع بنص صريح – بالفصل في جميع المسائل المادية والقانونية التي يعتبر حلها ضروريا لإصدار الحكم في النزاع( )، وهذا مقتضى مبدأ (قاضي الأصل هو قاضي الفرع) فعند ما يدلي بقبوله سبب يتعلق بعدم دستورية قانون ما عن طريق الدفع يكون الحكم بالضرورة عكس الإدلاء به بطريق الدعوى، فيحتاج القاضي لقبول الدعوى نصا يخوله الاختصاص بالفصل فيها، أما الدفع فإنه يكون دائما مقبولا أمام القاضي، إذ الفصل في الدفوع هو اختصاص يتقرر بحكم اختصاصه بالدعوى لا بنص خاص في القانون، وطالما لم يوجد نص قانوني في الجزائر يمنع القاضي من الرد على الدفع بعدم السدتورية، فإن معنى ذلك هو إلزامية قيام القاضي بمناقشة هذا الدفع والرد عليه إيجابا أو سلبا( ). وهذه المسألة من المفروض أن لا تثير إشكالا في الجزائر لكون الدستور الجزائري لم يوجد محكمة دستورية خاصة، ولا فتح المجال لإحالة الدفع بعدم الدستورية إلى المجلس الدستوري من طرف القضاء أو الأفراد، إضافـة إلى أن الدستـور لم يمنع صراحة أو ضمنا الدفع بمخالفة القانون للدستور، ولا منع القاضي من الفصل فيه، ولهذا يكون الدفع مقبولا، والقاضي عند ما يأخذ بالدفع لا يساق إلى إبطال القانون بل يقف بوجه تطبيقه على النزاع المطروح عليه، ومن ثمة فطالما لم ينشئ المشرع الدستوري هيئة قضائية خاصة بالرقابة على دستورية القوانين، ولم يفتح المجال لوقف الدعوى وإحالة الأطراف إلى المجلس الدستوري، فإنه لا يسوغ للقاضي الجزائري إلا حلا واحدا وهو أن يفصل في هذا الدفع، لا بأن يحكم بعدم اختصاصه بل بان يبسط رقابته على دستورية القانون المطعون فيه، وإلا كان حكمه معيبا في تسبيبه ( ).
على أن أشد ما في الأمر أن القاضي لا يستطيع جهارة التهرب من أداء مهمته وإن كان يستطيع أن يخونها، فمادام الدستور لا يتضمن نصا يحظر بحث الدفع بعدم دستورية القانون وقد عمد القاضي إلى رده بصورة مستمرة، فتكون النتيجة مهما أراد الدفاع عن خطته امتناعا عن تطبيق أحكام الدستور وتفضيل القانون العادي المتعارض معه، فيكون في الواقع قد فصل في التنازع بين القواعد القانونية المعروضة عليه ولكنه أخطـأ في قضائه، إذ انه ضحى بالقـاعدة العليـا أي الـدستور بعدم مراعاتها، واعتمد القاعدة الدنيا أي القانون العادي( ).
ومفاد ذلك أن القاضي الجزائري يجد نفسه بين أمرين لا يمكنه تجنبنهما فإما أن ينظر إلى دستور بلاده بصورة جدية واضعا أحكامه في المرتبة العليا من القواعد القانونية، بحيث تتغلب على أية قاعدة أخرى ويقبل حينئذ الدفع بعدم دستورية القانون، وإما أن يرفض الدفع بعدم دستورية القانون، وفي هذه الحالة ينكر في الواقع كل قوة قانونية لأحكام الدستور، ويعكس بالتالي الترتيب الطبيعي للقواعد القانونية . ويصلح في هذا الإطار الاستدلال بما جاء في إحدى إحكام المكحمة العليا الليبية في الطعن المدني رقم 3 /36( ) إذ جاء: "إن المشرع وإن نزع من المحكمة العليا اختصاصها في الرقابة على دستورية القوانين...إلا انه لم يمنع القاضي من النظر في الدفع بعدم صحة التشريع المعين في الدعوى الماثلة أمامه إذا تعارض مع تشريع آخر انطلاقا من وظيفته الأصلية في تفسير القانون وليس له في هذه الحالة أن يوقف النظر في الدعوى انتظارا لتشريع ثالث يزيل التعارض بينهما لأن وقف الدعوى في مثل هذه الحالة يعد امتناع عن الفصل فيها وهو ما يحرمه المشرع على القاضي "
ويلاحظ أن حق الدفع بعد دستورية القوانين أمر يكاد أن يكون مقررا في الدولة القانونية، وأن القضاء في عديد الدول اعتمد هذا المبدأ وكرس حق القضاء في الفصل فيه، باستثناء القضاء الفرنسي الذي مازال مصرا على التمسك برأيه المتمثل في انه: " لا يجوز له النظر في الدفع الفرعي الخاص بعدم دستورية القانون " ولقد أنحى الفقه الفرنسي في شبه إجماع باللائمة على موقف القضاء الفرنسي ونادى بضرورة تقرير رقابة القضاء لدستورية القوانين بطريق الدفع .
وعلى خلاف القضاء الفرنسي أبدى القضاء المصري شجاعة نادرة في التمسك باختصاصه برقابة الدستورية عن طريق الدفع رغم عم وجود نص يسمح له بذلك، بل ورغم وجود المحكمة الدستورية العليا، فالرقابة الدستورية عن طريق الدفع هي رقابة عامة يختص بها أي قاضي تم الدفع بعدم الدستورية أمامه ودون حاجة إلى نص يسمح للقاضي بذلك، وهو ما جاء في الحكم الصادر عن محكمة مصر الابتدائية بتاريخ 1/05/1946( )إذ جاء فيه بأن: "للمحاكم جميعها حق الرقابة على دستورية القوانين واللوائح " وهو الحكم الذي ألغته محكمة الاستئناف( )، لكن القضاء المصري بنوعيه – العادي والإداري – ظل مصرا على انتزاع هذه الولاية، لأنه لا يجوز وفقا لمبدأ تدرج القوانين وعند تعارض قانون عادي مع الدستور إلا تغليب هذا الأخير والامتناع عن تطبيق القانون العادي، إذ قرر مجلس الدولة المصري في حكمه الصادر بتاريخ10/02/1948( ): "انه ليس في القانون المصري ما يمنع المحاكم المصرية من التصدي لبحث دستورية القوانين سواء من ناحية الشكل أو الموضوع " وبالنسبة للقضاء الجزائري فيحسن به تقرير حقه بالفصل في الدفع بعدم دستورية القوانين إذ لا يوجد نص دستوري أو تشريع يمنعه عن ذلك .
الفرع الثالث
مبدأ فصل السلطات يؤكد حق القضاء في الرقابة الدستورية
رغم كون السمو الدستوري وما يترتب عليه من بطلان القوانين المخالفة له، ورغم الأسانيد السالفة الذكر التي تؤسس بما لا يدع مجالا لشك حق القضاء في رقابة دستورية القوانين، فإن المعترضين يقفون في وجه هذا الرأي بالاستناد إلى مبدأ فصل السلطات، فبحسبانهم إن قيام القاضي برقابة الدستورية يعد تدخلا في اختصاص السلطة التشريعية من جهة، وتعدي على اختصاص المجلس الدستوري باعتباره مكلفا برقابة الدستورية من جهة أخرى، وهذا الطرح مردود عليه، إذ الفهم الصحيح لمدلول مبدأ فصل السلطات سوف يقود إلى عكس تلك النتيجة، فلا تعد رقابة القضاء للدستورية تدخلا في التشريع(أولا) ورقابة المجلس الدستوري لا تمنع رقابة القضاء (ثانيا) .
أولا: رقابة القضاء لا تعد تدخلا في التشريع:
بالنظر إلى الجدل الدائر بين أنصار الرقابة القضائية ومعارضيها حول علاقة مبدأ فصل السلطات بمسألة رقابة القضاء على الدستورية، فإنه يتوجب تحديد مدلول هذا المبدأ في الدستور الجزائري.
لقد ارتبط مبدأ فصل السلطات( ) بالفقيه "مونتسكيو" الذي صاغه صياغة متميزة في كتابه "روح القوانين" وحسب رأيه فإن الأخذ بهذا المبدأ يضمن ممارسة واحترام الحقوق والحريات الفردية لكونه يقتضي توزيع وظائف الدولة الثالث (التشريع والتنفيذ والقضاء) على هيئات ثلاث تسمى سلطات، فتباشر السلطة التشريعية التشريع، وتباشر السلطـة التنفـيذية مهـمة تنفيذ القانون، وتقوم السلطة القضائية بتطبيق القانون على كل ما يطرح أمامها من منازعات، وهذا المبدأ يمثل إحدى ضمانات دولة القانون، ذلك انه يعد وسيلة فعالة لمنع الاستبداد وصيانة الحريات وتحقيق شرعية الدولة، لأنه يوجد رقابة متبادلة بين السلطات، مما يكفل احترام القانون من طرفـها جميعا، وعلى ذلك فمبدأ الفصل لا ينافي مبدأ الرقابة المتبادلة بين سلطات الدولة( )، بل على العكس من ذلك يعد ذلك المبدأ إحدى مضامينه وأهدافه الأساسية، إذ لا معنى للفصل إذا لم يفتح المجال للرقابة المتبادلة بما يكفل خضوع الدولة للقانون بكامل سلطاتها وأجهزتها، فهذا المبدأ يشير إلى نوع من التخصص في الوظيفة في ما بين السلطات، بحيث لا يباح كأصل عام لأي سلطة منها أن تعتدي عن الوظيفة التي تختص بها سلطة أخرى، ومع هذا التخصص الوظيفي يوجد نوع من التعاون والرقابة المتبادلة، لأن ذلك لا يتنافى مع استقلال كل منها، وليس له أدنى مساس بالتخصص الوظيفي ،فالرقابة المتبادلة لا تعد خرقا لمبدأ الفصل بل تعد إحدى مقتضياته، لأنها تؤدي إلى ضمان اعتدال السلطات وتكفل حماية حقوق وحريات الأفراد ،وبذلك يكون هذا المبدأ يعني تخصص وظيفي من جهة، ورقابة متبادلة من جهة أخرى، وقد تضمن الدستور الجزائري الأمرين معا فمع اعترافه بوجود السلطات الثلاث وتخصص كل سلطة بوظيفة تخصها،فإنه تضمن وجوها للرقابة المتبادلة بين تلك السلطات، إذ تملك السلطة التنفيذية حق الاعتراض على القوانين وإرجاعها لإجراء مداولـة ثانية، وحق إخطـار المجلس الدستوري، بل وتملك حق حل البرلمـان، ومقابل ذلك تملك السلطة التشريعية حق مراقبة الحكومة عن طريق الأسئلة والاستجواب وسحب الثقة وغيرها من الوسائل في مواجهة الحكومة، لكن أجل أنواع الرقابة وأبعدها أثرا في علاقة السلطات بعضها ببعض تلك الرقابة المعروفة باسم الرقابة على دستورية القوانين والرقابة على مشروعية اللوائح الممنوحين للقضاء، ورغم الاعتراف الكامل بالثانية فلا تزال الرقابة الدستورية محل جدل في مختلف الدول( )، وبالنسبة للدستور الجزائري فإنه لم يواجه مشكلة الرقابة القضائية على دستورية القوانين في نصوصه لا بالمنع ولا بالإجازة فما هو الحل ؟
إن مبدأ تدرج القواعد القانونية يقتضي تفاوتا في القوة بحيث يتحتم تقيد كل قاعدة دنيا بالقاعدة التي تسمو عليها في مدارج السلم القانوني، وينبني على ذلك لزوما تقيد القانون بالقواعد الدستورية، ولذلك يكون من الضروري والطبيعي خلق آليات لرقابة الدستورية، ونظرا لمقابلة هذا الأمر بأمر آخر يتعلق بضرورة سيادة البرلمان في المجال التشريعي، فإن الرأي اتجه في الكثير من الدول إلى تنظيم الرقابة في حدود معقولة، توفق بين مبدأ إجراءها وبين عدم إقحام القاضي في صميم عمل السلطة التشريعية، وفي نطاق هذه الحدود قد تختلف أساليب هذه الرقابة بين دولة وأخرى، وقد تقتصر بعضها على الرقابة السياسية وحدها، ولكن أثبتت التجارب أنها لم تحقق الأغراض المقصودة منها( )، ولذلك اعترف الفقه انه من الضروري بسط القضاء لرقابته على دستورية القوانين، وتختلف هذه الرقابة إلى صورتين رقابة امتناع ورقابة إلغاء، فالرقابة الأولى تقف عند حد الامتناع عن تطبيق القانون على النزاع المعروض على القاضي، أما الثانية فتصل إلى حد إبطال القانون بحكم يكون حجة على الكافة كما يلغى القرار الإداري سواء بسواء .
والقضاء بصفته موئل الحريات الحصين هو الجهة الطبيعة للرقابة على دستورية القوانين، فهذه الرقابة مما يلتئم مع طبائع الأشياء، ويتفق مع طبيعة وضيفة القاضي أن يكون هو الجهة التي تنبعث منها الرقابة الدستورية، لأنه سلطة مستقلة يملك أن يرد أي سلطة أخرى إلى حدودها إذا ما خرجت عن الحدود المرسومة في الدستور، امتثالا لمقتضى عبارة "مونتسكيو"( ) الشهيرة: "إن كل إنسان يتمتع بسلطة يسئ استعمالها في العادة إذ يتمادى في استعمالها حتى يظهر من يوقفه عند حده...والفضيلة ذاتها في حاجة إلى حدود ولضمان عدم إساءة استعمال السلطة ينبغي أن يكون النظام مؤسس على أن السلطة تحد السلطة Seul le pouvoir arrête le pouvoir "
ومن الناحية النظرية لا تقوم أية عقبة قانونية من شأنها الحيلولة دون رقابة القضاء الجزائري على دستورية القوانين، ولكن الواقع هو أن القضاء الجزائري لم يسلم بحقه في هذه الرقابة متأسيا بالقضاء الفرنـسي الذي رفض اختصاصه بالرقـابـة الدستـورية سـواء بطريـق الدعـوى أو الدفع( )، وعلى العكس من ذلك كانت عدة مناسبات للقضاء العربي، ومنه القضاء المصري ليبسط رقابته بجرأة على دستورية القوانين عن طريق الامتناع، ومن ذلك حكما شهيرا لمجلس الدولة المصري وقد صدر هذا الحكم في 10/02/1948 ومما جاء فيه : " ومن حيث أن محامي الحكومة دفع بان المحكمة لا تملك التصدي لبحث دستورية القوانين موضوعا وكل ما تستطيعه هو التحقق من توافر الأركان الشكلية للقانون فإذا ظهر أنها متوافرة فيه فقد امتنع عليها البحث في دستوريته من حيث مطابقته أو عدم مطابقته للمبادئ المقررة في الدستور وذلك إعمالا لمبدأ فصل السلطات الذي يقوم على استقلال كل سلطة عن الأخرى في عملها وعدم التدخل فيه أو تعطيله.
ومن حيث انه ليس في القانون المصري ما يمنع المحاكم المصرية من التصدي لبحث دستورية القوانين سواء من ناحية الشكل أو الموضوع، أما القول بان هذا التصدي إهدار لمبدأ فصل السلطات بتدخل السلطة القضائية في عمل السلطة التشريعية بما يعطل تنفيذه فإنه يقوم على حجة داحضة إذ على العكس من ذلك فإن في التصدي إعمال لهذا المبدأ ووضع للأمور في نصابها الدستوري الصحيح بما يؤكده ويثبته ذلك أن الدستور المصري وإن قرر المبدأ المذكور ضمنا حين حدد لكل سلطة من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية المجال الذي تعمل فيه فقد قرنه بمبدأ أخر أكده ضمنا وجعله متلازما معه حين قرر أن استعمال السلطات يكون على الوجه المبين في الدستور فالمبدآن متلازمان يسيران جنبا لجنب ويكمل احدهما الأخر وبغير ذلك لا تنتظم الحياة الدستورية لأنه يستتبع ذلك أنه إذا أهدرت إحدى السلطات أي مبدأ من مبادئ الدستور فإنها تكون قد خرجت عن دائرة المجال المحدد لاستعمال سلطتها، وإذا جاء لها أن تتخذ من مبدأ فصل السلطات تعلة تتذرع بها في إصدارها الدستور لانتهى الأمر إلى فوضى لا ضابط لها.
ومن حيث انه بعد أن تحدد معنى مبدأ فصل السلطات بحسب روح الدستور أخذا من دلالة المقابلة بين نصوصه وتفهم مراميها، يتعين بعد ذلك تحديد وظيفة المحاكم إزاء تعارض قانون من القوانين العادية مع الدستور نصا أو روحا و ما الذي ينبغي على المحاكم عمله وما تكييف عملها في هذه الحالة.
ومن حيث أن الدستور المصري إذ قرر أن السلطة القضائية تتولاها المحاكم قد ناط بها تفسير القوانين و تطبيقها فيما يعرض عليها من شتى المنازعات ،و يتفرع عن ذلك أنها تملك الفصل عند تعارض القوانين في أيها هو الواجب التطبيق إذ لا يعدو أن يكون هذا التعارض صعوبة قانونية مما يتولد من المنازعة فتشملها سلطة المحكمة في التقدير و في الفصل لأن قاضي الأصل هو قاضي الفرع.
و من حيث أنه لا جدال في أن الأمر الملكي رقم 42 لسنة 1923 بوضع نظام دستوري للدولة المصرية هو أحد القوانين التي يجب على المحاكم تطبيقها، و لكن يتميز عن سائر القوانين بما له من طبيعة خاصة تضفي عليه صفة العلو و تسمه بالسيادة بحسبانه كفيل الحريات و موئلها و مناط الحياة الدستورية و نظام عقدها، و يستتبع ذلك أنه إذا تعارض قانون عادي مع الدستور في منازعة من المنازعات التي تطرح على المحاكم و قامت بذلك لديها صعوبة مثارها أي القوانين هو الأجدر بالتطبيق وجب عليها بحكم وظيفتها القضائية بناء على مقتضى أصول هذه الوظيفة وفي حدوده الدستورية المرسومة لها و لا ريب في إنه يتعين عليها عند قيام هذا التعارض أن تطرح القانون العادي و تهمله و تغلب عليه الدستور و تطبقه بحسابه القانون الأعلى الأجدر بالإتباع و هي في ذلك لا تعتدي على السلطة التشريعية مادامت المحكمة لا تضع بنفسها قانونا ولا تقضي بإلغاء قانون و لا تأمر بوقف تنفيذه، و غاية الأمر أنها تفاضل بين قانونين قد تعارضا فتفصل في هذه الصعوبة و تقرر أيها الأولى بالتطبيق، و إذا كان القانون العادي قد أهمل فمرد ذلك في الحقيقة إلى سيادة الدستور العليا على سائر القوانين تلك السيادة التي يجب أن يلتزمها كل من القاضي و الشارع على حد سواء "( ).
و عليه فإن حق المحاكم في قبول الدفع بعدم دستورية القوانين و إن كان يبدو للوهلة الأولى فيه بعض المساس بمبدأ الفصل بين السلطات، و ما يقتضيه من ضرورة امتناع القضاء عن التعرض لأعمال السلطة التشريعية، إلا أنه عند التعمق نجد أنه عند تعارض قانون عادي مع قانون أساسي يكون من الواجب على المحاكم تطبيق هذا دون ذاك، و لا يعتبر هذا تدخلا منها في أعمال السلطة التشريعية، لأنها لا تقرر إبطال القانون ولا تقول بعدم الدستورية بصفة عامة، بل تقول بعدم إمكانية تطبيقه على المنازعة المعروضة أمامها لتعارضه مع القـانون الأساسي الـواجب الاحترام. ( )
ثانيا: اختصاص المجلس الدستوري لا يمنع الرقابة القضائية:
يرى بعض الفقه أنه طالما أن المشرع الدستوري أوكل اختصاص الرقابة على دستورية القوانين للمجلس الدستوري، فمؤدى ذلك أن رقابته هذه تمنع رقابة الهيئـات الأخـرى وخصوصا القضـاء، ويرد الاتجاه الغالب في الفقه على هذا الرأي بكون رقابة المجلس الدستوري لا تمنع رقابة القضاء بل تكملها و تسندها، و يستندون في ذلك إلى حجج أهمها أن رقابة المجلس الدستوري سياسية (I) وأنها بالنظر إلى آلياتها و طريقة تحريكها قاصرة (II) .
I-الطابع السياسي لرقابة المجلس الدستوري: إن تقييم فعالية رقابة المجلس الدستوري، و كفايتها في التجسيد الفعلي لسمو الدستور، يفرض التعرض لطبيعة هذه الرقابة: هل هي رقابة سياسية أم قانونية؟ وما يترتب على هذه التفرقة من آثار تتعلق باستقلالية المجلس الدستوري و مصداقية أعماله؟
و نظرا لكون الدستور الجزائري لم يحدد طبيعة هذه الرقابة، و لا تم معالجتها ضمن أحكام النظام الداخلي للمجلس الدستوري، فإن ذلك أدى إلى انقسام الفقه إلى اتجاهين( ) رئيسيين: يرى الاتجاه الأول أن المجلس الدستوري هيئة قضائية و ذلك اعتمادا على مقارنته مع نظيره في النظم المقارنة التي اعترفت صراحة بالطبيعة القضائية للهيئة المكلفة بالسهر على احترام الدستور كالنمـسا وإيطاليـا وإسبانيا، كما استـندوا إلى حجج عـدة منهـا الشكـلية و منها الموضوعية( )، ومنها أن المشرع الدستوري بتأسيسه المجلس الدستوري وتكليفه باحترام الدستور فهو قد مال إلى تبني نموذج القضاء الدستوري Une justice constitutionnelle وقد عبر عن هذا الأستاذ وليد العقون( ) قائلا:
« Un instituant un conseil constitutionnel chargé de veiller au respect de la constitution le constituant Algérien semble se ranger sur le modèle de justice constitutionnelle en adaptant ses éléments constitutifs. Ceux-ci s’ordonnent autour de deux postulats qui se combinent : la position suprême de l’organe de contrôle (conseil constitutionnel) fondée sur la supériorité de la norme de référence (la constitution (»
و هذا إضافة إلى أن كون المجلس الدستوري يتمتع بنفس الضمانات الممنوحة للقضاة كالاستقلالية و الحياد و عدم إمكانية الجمع بين العضوية في المجلس ووظائف أخرى، و أن الآراء و القرارات التي تصدر عن المجلس تشبه كثيرا الأحكام و القرارات القضائية، وهذا الاتجاه لو سايرناه سوف يؤدي بنا إلى نتيجة مفادها عدم اختصاص القضاء بالرقابة على دستورية القوانين، طالما تم إيكالها للمجلس الدستوري و هو هيئة قضائية، و لكن هذا الطرح ليس مسلما من غالب الفقه و الذي يؤكد الطابع السياسي لرقابة المجلس الدستوري مستندا إلى حجج و أسانيد منها أن المشرع الدستوري نظم أحكام المجلس الدستوري في الفصل الأول من الباب الثالث تحت عنوان الرقابة بينما نظم
السلطة القضائية في الباب الثاني الفصل الثالث، و هو ما يجعل المجلس الدستوري مستقلا تماما عن السلطة القضائية سوءا من الناحية العضوية أو المـوضوعية و هذه الملاحظة الشكـلية جعلت البعض يـذهب إلى القـول بأن رقـابة المجلـس الدستوري لا تنتـمي إلى الـوظيفة القضائية « le contrôle constitutionnel en Algérie né participe pas de l’exercice de fonction juridictionnelle » و أن تشكيلة المجلس الدستوري حسب المادة 164 من الدستور يغلب على اختيار أعضائها الطابع السياسي، إذ يعين ثلاثة من بينهم الرئيس من طرف رئيس الجمهورية، و ينتخب أربعة أعضاء من طرف البرلمان، و لا يغير من هذه الطبيعة أن عضوين تنتخبهما المحكمة العليا و مجلس الدولة، ضف إلى ذلك أن تحريك المجلس الدستوري لا يكون بطريقة الدعوى التي يحرك بها القضاء بل بواسطة الإخطار المحتكر من طرف ثلاثة شخصيات في الدولة فحسب ،و ليسوا هم بالطبيعة أطراف النزاع، كما أن موضوع الآراء و القرارات الصادرة علن المجلس الدستوري تختلف من حيث موضوعها مع الأحكام القضائية، إذ تقتصر على التصريح بوجود مخالفة للدستور أم لا فهي لا تنشئ حقا و لا تقرره، و هو ما يجعل آليات تنفيذها تختلف عن آليات تنفيذ الأحكام و القرارات القضائية، و يخلص هذا الاتجاه إلى القول بان المجلس الدستوري هيئة سياسية و رقابته على دستورية القوانين سياسية( )، و بالتالي فهي لا تتعارض مع بسط القضاء لرقابته على دستورية القوانين لاختلاف الرقابتين في الأهداف و الوسائل فتكون احداهما سندا للأخرى لا متعارضة معها ، خصوصا و أن النصوص الدستورية المتعلقة بالمجلس الدستوري لم تمنع رقابة القضاء.
II-عدم فعالية رقابة المجلس الدستوري:قصر الدستور حق تحريك المجلس الدستوري على ثلاثة شخصيات في الدولة و هم رئيس الجمهورية و رئيس المجلس الشعبي الوطني و رئيس مجلس الأمة، و هو ما يجعل المجلس الدستوري لا يختص تلقائيا، وأن بابه مغلق أمام باقي الأشخاص و الهيئات بما فيها الهيئات القضائية التي لا يمكنها إخطار المجلس الدستوري إذا تقدم أمامها الأطراف بطلب أو دفع يرمي إلى فحص دستورية القانون المراد تطبيقه عليهم في نزاعاتهم المنشورة أمام القضاء، و هذا أحد أوجه القصور في الرقابة الدستورية التي يقوم بها المجلس الدستوري، و الوجه الآخر أنه لا يوجد ما يلزم الأشخاص الثلاثة المختصون بالإخطار بتحريك هذه الرقابة، اللهم إلا فيما يتعلق ببعض الحالات التي يوجد فيها نص خاص يلزمهم بالإخطار كحالة القوانين العضوية و بعض المعاهدات الدولية، و هو ما يجعل الرقابة الدستورية التي يقوم بها المجلس الدستوري تخضع لأهواء الشخصيات الثلاثة السابقة ، و يؤكد قصور هذه الرقابة في حماية الشرعية الدستورية من انحراف السلطة التشريعية و يجعل بالتالي مبدأ تدرج القوانين و مبدأ سمو الدستور بدون معنى( )، و يفرض بالتـالي البحث عن آليات أخرى كفيلة بتحقيق هذا الهدف و يأتي على رأس هذه الآليات الرقابة القضائية، و معنى ذلك كله أن رقابة المجلس الدستوري لا تمنع رقابة القضاء بل بالعكس هي تؤكدها نظرا لطابعها السياسي و لقصورها عن كفالة سمو الدستور.
والخلاصة أن كل الأسانيد والحجج تؤكد أن القاضي الجزائري مختص للفصل في دستورية القوانين، والقول بغير ذلك يؤدي للقول بأن القانون أسمى من الدستور وينقلب بالتالي الأساس الطبيعي للترتيب، ويؤدي بالنتيجة لإخضاع السلطة التأسيسية إلى رغبة السلطة التشريعيةK وهو ما عبر عنه الفقيه ربير( ): "إن غياب الرقابة القضائية يؤدي إلى النتيجة الغريبة التالية و هي تكريس سيادة القانون على الدستور في حين أن السلطة التشريعية مؤلفة من مجموعة هيئات أوجدها الدستور مع غيرها من السلطات الأخرى و أنها مثل هذه السلطات خاضعة إلى الميثاق الأساسي" ومما يؤكد هذا الطرح ما قضت به المادة 116 من قانون العقوبات الجزائري التي نصت على أنه: "يعاقب بالسجن المؤقت مرتكبو جريمة الخيانة من خمس إلى عشر سنوات:
1-القضاة و ضباط الشرطة القضائية الذين يتدخلون في أعمال الوظيفة التشريعية سوءا بإصدار قرارات تتضمن نصوصا تشريعية بمنع وقف تنفيذ قانون أو أكثر أو بالمداولة لمعرفة ما إذا كانت القوانين ستنشر أو تنفذ " فهذه المادة تمنع تدخل القضاء في اخـتصاص السلـطة التشريعية، سواء بإصدار نصوص تشريعية أومنع أو وقف تنفيذ القوانين أو بالمداولة التي تتعلق بمسالة نشر القانون أو تنفيذه، وهي الأفعال التي لا يندرج ضمنها قيام القاضي بمراقبة دستورية القانون، إذ منتهاها أن يمتنع عن الفصل في النزاع بواسطة هذا القانون إذا وجده مخالفا للدستور ،ويفصل في النزاع باعتماد قواعد قانونية أخرى( ).
المطلب الثاني
سلطات القاضي عند فحص دستوريه القوانين
بعد أن توصلنا إلى انه ليس أمام القاضي الجزائري إلا أن يقرر اختصاصه برقـابة دستورية القوانين، لاندراج ذلك ضمن وظيفته الطبيعية المتمثلة في تطبيق القانون على النزاعات المروضة أمامه، فإن تم الدفع أمامه بمسألة الدستورية ولم يتمسك باختصاصه بالرد عليها فإنه يكون منكرا للعدالة أو مخلا بحقوق الدفاع، وبالطبع فإن القاضي لا ينتظر أن يثير المتقاضين مخالفة القانون المراد تطبيقه على النزاع للدستور، بل عليه إثارته تلقائيا فكل المسائل المتعلقة بانسجام القوانين وخضوع لدنى منها للأعلى وسمو الدساتير هي من النظام العام، لاندراجها ضمن قواعد المشروعية الحامية للحقوق والحريات. ومادام أن القاضي قد يصل لكون القانون غير دستوري، وبالتالي فالقاضي يحكم بذلك فما هي أثار هذا الحكم؟ وهل يمكن للقاضي تطبيق النصوص الدستورية مباشرة للفصل في النزاع ؟ وبالتالي هل يطبقها ويفسرها مثلا يفعل مع النصوص التشريعية العادية ؟
إن الحكم الصادر بعدم دستورية قانون ما يترتب عليه استبعاده عن حكم النزاع (الفرع الأول) وإمكانية التطبيق المباشر للنص الدستوري من اجل الفصل في النزاع (الفرع الثاني).
الفرع الأول
استبعاد القانون المخالف للدستور عن حكم النزاع
يفرض مبدأ تدرج القواعد القانونية أنه إذا كان القانون مخالفا للدستور كان باطلا، وكان على القاضي أن يتمتع عن تطبيقه طالما كان مخالفا للقاعـدة الدستورية من الناحية الشكـلية أو الموضوعية، وهذا هو الفارق بين هذا النوع من الرقابة القضائية أي الرقابة عن طريق الدفع أو الامتناع والرقابة عن طريق الدعوى، التي قد تصل نتيجتها إلى أحد إلغاء القانون غير الدستوري، وهو ما يعد بحق تدخلا في المجال المخصص للسلطة التشريعية، ولذلك لم تلق إقبالا ،ولا لا تمارس إلا بنص في الدستور يقررها، عكس رقابة الامتناع التي لاقت اهتماما واسعا، فهي تمارس بدون نص لاندراجها ضمن وظيفة القضاء في تطبيق القانون، ولا تعد خرقا لمبدأ الفصل يبين السلطات.ولذلك فالقاضي الجزائري إذا تبين له مخالفة القانون للدستور لا يمكنه إلغاء القانون ولا وقف تنفيذه (أولا) بل عليه الامتناع عن تطبيقه بصدد ذلك النزاع فقط (ثانيا)
أولا : القاضي لا يلغي القانون المخالف للدستور:
هناك من الدول من كرست في دستورها الرقابة القضائية الدستورية للقوانين عن طريق الدعوى، إذ شكلت محكمة خاصة أو أعلى محكمة في البلاد ومنحتها الاختصاص بالحكم ببطلان القانون المخالف للدستور، وبالتالي إلغاء ذلك القانون وجعله في حكم العدم، ويكون لحكمها حجية في مواجهة الجميع بحيث لا يجوز الاستناد عليه في المستقبل( )، ومن الدول التي أخذت بهذا الأسلـوب الرقابي نجد تركيا، تشيكوسلوفاكيا، سويسرا، أسيا، النمسا وإيطاليا، ومن الدول العربية نجد مصر، سوريا، ليبيا والسودان، والحقيقة أن الإلغاء يعد تدخلا في عمل السلطة التشريعية، التي لها وحدها حق إلغاء التشريع، فالقضاء لا يختص بهذا الدور إلا بموجب نص خاص يمنحه هذا الاختصاص، وفي غياب مثل هذا النص لا يكون أمام القاضي الذي يعرض للرقابة على الدستورية المثارة أمامه بدفع إلا أن يقرر إما دستورية القانون وتطبيقه للفصل في النزاع ( )، أو عدم دستوريته واستبعاده من حكم ذلك النزاع. ونظر لاندراج هذا الأمر ضمن وظيفته في تطبيق القانون وتفسيره -كما تبين سابقا – فإن المحاكم بمختلف أنواعها ودرجاتها تختص برقابة دستورية القوانين غير الدستورية، والفصل في النزاع من خلال القواعد القانونية الأخرىK وخلافا لذلك ، فقد ذهبت محكمة النقض المصرية إلى حد إلغاء القانون الذي تبين لها عدم دستوريته دون وجود نص يمنحها هذا الاختصاص وذلك في حكم لها سنة 1972 وهو القانون رقم 83 لسنة 69 المتعلق بإعادة تشكيل الهيئات القضائية والذي كان قد عزل استنادا له 169 قاضيا فيما يعرف بمذبحة القضاء( ).
ثانيا: إمكانية تطبيق ذات القانون في نزاعات أخرى:
خلافا للحكم الصادر بإلغاء القانون المخالف للدستور، والذي يتمتع بحجية مطلقة في مواجهة الكافة بالنسبة للأنظمة التي اعتمدت الرقابة الدستورية بطريق الدعوى، فإن الحكم الصادر بعدم دستورية قانون ما عند الفصل في الدفع المثار أمام القاضي أثناء فصله في النزاعات المعروضة عليه له حجية نسبية، بحيث يتوقف أثره على النزاع الذي تم إثارة الدفع بعدم الدستورية في إطاره، دون باقي النزاعات التي لا تنصرف حجية الحكم إليها، وبالتالي فلا حجية له على باقي القضاة، بل ولا على باقي النزاعات المعروضة على ذات القاضي، إذ أن حجيته نسبية تتوقف على النزاع المعروض على القاضي، فيمكنه في نزاع آخر أن يقرر دستورية ذلك القانون ويطبقه عليه، وهو ما قررته محكمة تلا- الجزئية- المصرية في جانفي 926 ( )إذ جاء فيه :"اتفق علماء القوانين الدستورية حتى الذين مذهبهم أن للمحاكم حق البحث في دستورية القوانين...أنهم مع اعترافهم بحق المحاكم في تقدير دستورية القوانين لا يخولونها حق إلغاء هذه القوانين غير الدستورية عملا بنظرية فصل السلطات بل كل ما للمحاكم هو أن تمتنع عن تنفيذ القانون لعدم دستوريته، وبدون أن يغير ذلك من قيام القانون المذكور واحتمال أن تحكم محاكم أخرى بدستوريته" فالحكم في الدفع بعدم الدستورية أيا كانت طبيعته غير ملزم لأية محكمة أخرى، ولا حتى لنفس المحكمة التي أصدرته، وهو ما يطلق عليه الفقه (نسبية الأحكام الصادرة في الدفوع بعدم الدستورية) ( ) وبالتالي فالقانون قد يعتبر في آن واحد دستوريا وتطبقه بعض المحاكم، وغير دستوري تمتنع عن تطبيقه محاكم أخرى، وهذه إحدى الانتقادات الموجهة للرقابة الدستورية بطريق الدفع، إذ أن نسبية الأحكام الصادرة في هذا الإطار، قد تخلق جوا من عدم الثقة في أحكام القضاء وعدم استقرار المراكز القانونية، لكن هذا المأخذ يصدق أيضا بصدد أي مسألة يفصل فيها القاضي نظرا للحجية النسبية لأحكام القضاء، وهو ما ينتج عنه – بل وقع فعلا – إمكانية اختلاف هذه الأحكام بصدد نفس المسألة بل نفس القاضي قد يصدر حكمين متناقضين في نزاعين لهما نفس الموضوع والسبب، فهذا المأخذ لا يجوز أن يوجه إلى بسط القضاء رقابته على دستورية القوانين، بل بالنسبة لكل أحكام القضاء، ويكفي للتدليل على ذلك الإشارة إلى تناقض القضاء بمختلف درجاته حتى المحكمة العليا ومجلس الدولة، حول مسألة شهر عريضة الدعوى العقارية، فبعضهم مع إلزامية الشهر كقيد على طائفة من الدعاوى العقارية، والآخرون يرون خلاف ذلك، ونفس الشيء بالنسبة لدعاوى الحيازة والتقادم المكسب فالقضاء على خلاف شديد حوله.
وبعد هذا، فإن هذا الأخذ مردود عليه، لكون القانون أوجد آلية الغرف المجتمعة للمحكمة العليا ومجلس الدولة لتوحيد الاجتهاد القضائي، إذ يكون حكمها حينذاك ملزما لجميع الجهات القضائية .
الفرع الثاني
التزام القاضي بتطبيق النص الدستوري للفصل في النزاع
تقود النتيجة السابقة المتعلقة بضرورة استبعاد القانون المقضي بعدم دستوريته عن حكم النزاع، إلى تقرير نتيجة أخرى وهي ضرورة تطبيق الدستور للفصل في النزاع، فهذا مقتضى مبدأ تدرج القوانين، الذي يفرض على القضاء تطبيق القانون الأعلى في المرتبة عند تعارض التشريعات المختلفة في الدرجة في موضوع معين، فإذا تعارض مرسوم مع قانون وجب تطبيق القانون، وإذا تعارض القانون مع المعاهدات وجب تطبيق المعاهدة ،و بالمثل فإذا تعارض القانون أو المعاهدة مع الدستور وجب تطبيق الدستور، ومثل هذه النتيجة قد تبدو وطبيعته إذ اعتبرنا أن الدستور يندرج ضمن مفهوم القانون، وهو الرأي المتفق عليه فقها وقضاء وتشريعا، وبالطبع سيصنف ضمن القانون العام لا القانون الخاص، وهو ما يجعله يتعلق بالنظام العام،وبالتالي يجب مراعاته دائما تحت طائلة البطلان، لكن دون تجسيد هذه النتيجة مصاعب عدة تتعلق بمدى صلاحية النص الدستوري للتطبيق المباشر (أولا) ومدى اختصاص القاضي بتفسيره ووسائله في ذلك (ثانيا)
أولا: التطبيق المباشر للنص الدستوري:
لا شك أن اعتبار الدستور مصدرا للمشروعية باعتباره القانون الأساسي في الدولة، سيقود إلى اعتبار القواعد التي يتضمنها قواعد قانونية يتوجب على القاضي تطبيقها، ويختلف الوضع بين القاضي الجنائي (I)والقاضي العادي (II).
I-بالنسبة للقاضي الجزائي: إن القاضي الجزائري إذا تقرر لديه أن القانون الذي توبع به المتهم غير دستوري، عليه أن يحكم بالبراءة طبقا لمبدأ الشرعية، الذي يقضي بأنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص تشريعي صادر عن البرلمان، وطالما قرر القاضي عدم دستوريته وامتنع عن تطبيقه، فإنه لم يبق لديه أساسا قانونيا للمتابعة، وتوجب عليه تبرئة المتهم( )، وهو ما كرسته محكمة النقض المصرية في حكم لها إذ حكمت ببراءة محافظ الجيزة الأسبق عبد الحميد حسن على سند من قضائها الذي امتنعت فيه عن تطبيق قانون الكسب غير المشروع، لقيام الإدانة فيه على قرائن افترضها المشرع من واقعة زيادة ثروة الموظف العام مع عجزه عن التدليل على أسباب هذه الزيادة، بما يخالف افتراض البراءة في المتهم الذي نص عليه الدستور( ).
ويضاف إلى ذلك، أن القاضي الجنائي يعتمد على النص الدستوري عند قيامه بتفسير النصوص الجزائية، حتى يكون مضمونها مطابقا للدستور، ولا يقتصر الأمر على مجرد تحقيق هذه المطابقة بل يتجاوزه إلى تحقيق مصداقية التفسير التي تعبر عن إرادة المشرع الواعية المتطورة، فالحقوق والحريات تستقي حمايتها من الدستور ذاته، وما التشريع إلا منظما لهذه الحماية، وعلى ذلك فمن المقرر أن القاضي حين يطبق النصوص التشريعية يجب عليه تفسيرها وفق للمعنى المطابق للدستور طالما أن نصوص التشريع تتسع لذلك( )، فإذا خلا نص تشريعي من ذكر ضمان أورده الدستور، فلا يفسر هذا الخلو بعيدا عن النص الدستوري بل يجب تطبيق نصوص الدستور مباشرة لتوفير هذا الضمان( )، والقاضي الجنائي يتعين عليه في تفسيره لنصوص التجريم التي استوحاها المشرع من الدستور، بالروح التي أملت على المشرع الدستوري حماية نوع من القيم الدستورية، التي اتخذها المشرع العادي محلا للتجريم، ذلك أن الدستور يقرر التجريم كأسلوب لحماية بعض الحقوق والحريات( )، إذ ينص في بعض نصوصه صراحة على تجريم الاعتداء على نوع من الحقوق والحريات أو غيرها من القيم الدستورية، من مثل المادة 25: "يعاقب القانون على المخالفات المرتكبة ضد الحقوق والحريات وعلى كل ما يمس سلامة الإنسان البد نية والمعنوية " ففي مثل هذه الحالة يستعين القاضي- كما سبق الذكر- في تفسير نصوص التجريم بهذه النصوص الدستورية.
II-بالنسبة للقاضي العادي: والذي عليه التزام بالفصل في النزاع وإلا كان منكرا للعدالة،وطالما انه استبعد القانون عن حكم النزاع فماذا سيطبق؟
بالطبع إنه سيطبق أحكام الدستور باعتبار كونها قواعد قانونية ملزمة، ولكن هل أحكام الدستور صالحة للتطبيق المباشر من طرف القاضي للفصل في النزاعات المعروضة أمامه؟
يجب التمييز في هذا الصدد بين نوعين من القواعد الدستورية، يتمثل النوع الأول في النصوص الدستورية التي تقرر قاعدة قانونية تصلح للتطبيق المباشر، وهي النصوص التي تقرر حقوقا مباشرة للأفراد، مما يجعلها تصلح أساسا للفصل في النزاع المعروض على القاضي، ففي هذه الحالة لا يكون تطبيق النص الدستوري معلقا على نص قانوني أو تنظيمي يكفل تطبيقه ،ومن ذلك نص المادة 17 من الدستور التي تنص على:"الملكية العامة هي ملك المجموعة الوطنية وتشمل باطن الأرض والمناجم والمقالع والموارد الطبيعية للطاقة والثروات المعدنية الطبيعية والحية في مختلف مناطق الأملاك الوطنية البحرية والمياه والغابات كما تشمل النقل بالسكك الحديدية والنقل البحري والجوي والبريد والمواصلات السلكية واللاسلكية وأملاكا أخرى محددة في القانون" فإذا تعلق النزاع بواحد من الأملاك العامة المذكورة في نص هذه المادة فإن القاضي بغض النظر عن القانون أو التنظيمات، سوف يمكنه اعتماد نص هذه المادة مباشرة للحكم بمقتضاه، وإبطال كل تصرف يخالف الطبيعة العامة لهذه الأملاك، بحيث لا يجوز التصرف فيها ولا تملكها بالتنازل عنها أو بالتقادم ولا ترتيب أي حق عيني عليها. ونص المادة 38/ 3 :" لا يجوز حجر أي مطبوع أو تسجيل أو أية وسيلة أخرى من وسائل التبليغ و الإعلام إلا بمقتضى أمر قضائي" فهذه المادة تصلح أساسا للفصل في النزاع المتعلق بقيام الإدارة بحجر أيا من الأشياء المذكورة فيها، بحيث يبطل القاضي ذلك الحجر طالما تم بدون أمر قضائي.ونص المادة 143 : " ينظر القضاء في الطعن في قرارات السلطات الإدارية " فيعتمد القضاء على هذه المادة لتقرير اختصاصه دون حاجة إلى نص قانوني آخر، وغير ذلك من النصوص الدستورية التي يطبقها القاضي مباشرة للفصل في النزاع لكونها تقرر حقوقا أو حريات للأفراد وجاءت واضحة قابلة للتطبيق ولم تعلق على قانون أو تنظيم لتطبيقها. وبالمثل فإنه يحق للمتقاضين حينئذ تأسيس طلباتهم ود فوعهم مباشرة على نص أو مبدأ دستوري، إذا كان هذا الأخير هو مصدر الحق المطالب به ( ).
وأما النوع الثاني فهو النصوص الدستورية التي لا يمكن تطبيقها إلا بعد صدور تشريع أو تنظيم يكفل لها القابلية للتطبيق، ففي هذه الحالة يلتزم القاضي بالفصل في النزاع بالرجوع لمصادر القانون الأخرى، التي منها المبادئ العامة للقانون حيث قد يستخلصها من ديباجة الدستور ذاته أو من المصادر المشار إليها في نصوصه، كمبادئ التشريعية الإسلامية والمعاهدات الدولية، إضافة إلى ما ذكرته المادة الأولى من القانون المدني كالعرف ومبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، إذ في هذه الحالة يكون القاضي أمام حالة انعدام التشريع، وهو ما يجعله يلجأ إلى مصادر القانون الأخرى، ومثال ذلك تلك النصوص الدستورية التي تحيل على القانون أو التنظيم مباشرة كنص المادة 38/2 :"حقوق المؤلف يحميها القانون" و نص المادة 3/3:" يحدد القانون شروط وكيفيات إنشاء الجمعيات" ففي هذه النصوص الدستورية ومثيلاتها، يكتفي الدستور بوضع المبدأ محيلا للقانون لتنظيمه،وبالتالي فلا تصلح مثل هذه النصوص للتطبيق المباشر، ولذلك يلجأ القاضي حينئذ للمصادر الأخرى للقواعد القانونية حسب التدرج المشار إليه في الفصل الأول.
ثانيا: سلطة القاضي في تفسير النص الدستوري:
لا شك أن تفسير القواعد القانونية لتحديد مدلولها الذي يتبادر من ألفاظها أو فحواها هو الخطوة الأولى نحو تطبيق هذه القواعد على الوقائع التي تحكمها تطبيقا صحيحا عادلا( ).والقواعد الدستورية طالما كانت قواعد قانونية فإنها لا تحيا بمعزل عن القواعد القانونية الأخرى، بمعنى أن جوهر القواعد الدستورية وغاياتها لا يتم التعرف عليها بعيدا عن النظريات القانونية التي تنمو وتزدهر في نطاق فروع القانون الأخرى، طالما يوجد لم يوجد تعارض بين نتائج هذه النظريات مع جوهر القاعدة الدستورية وغايات القانون الدستوري، ومفاد ذلك أنه لا تعارض بين قواعد تفسير القانون بوجه عام وقواعد تفسير القانوني الدستوري بوجه خاص، فكافة نظريات وقواعد التفسير تنطبق في المجال الدستوري ، وإن كان هذا لا يتعارض مع وجود قواعد أو نظريات خاصة بالقانون الدستوري ، ومنها قواعد التفسير، ومعنى ذلك أن تفسير القانون الدستوري لا يثير أي إشكالية فالقاضي يختص به مثلما يختص بتفسير أي قاعدة قانونية أخرى( )، ويتبع في ذلك نفس قواعد ونظريات التفسير التي يتبعها بصدد تفسير أي قاعدة أخرى، ولكن نظرا لكون مسألة تفسير القواعد الدستورية لها علاقة بمسألة بسط رقابة القاضي على دستورية القوانين، فإنها خلافا للقواعد العامة في التفسير تثير بعض الحذر إذ لن تكون يد القاضي طليقة هكذا بحيث يستطيع أن يقرر بمحض اجتهاده ما إذا كان التشريع متوائما مع الدستور أو متعارض معه، بل لا بد من رعاية قواعد ثابتة وضوابط أكيدة تضمن حسن التزامه لدائرته، وتكفل سداد خطوه، ولذلك يثور التساؤل هل للقاضي أن يتفحص الدستور تفحصا يدخله اجتهادا كبيرا بحيث يستطيع تحكيم المصادر الدستورية الأخرى غير الوثيقة الدستورية كالعرف الدستوري ؟ أم يقتصر على مجرد فهم النصوص؟ وبصيغة أخرى هل يستطيع القاضي مراقبة التشريع من حيث مخالفته لعبارة النص الدستوري فقط؟ أم يستطيع كذلك مراقبته حتى لو خالف روح تلك النصوص أو خالف عرفا دستوريا أو مبدأ عاما غير مكتوب؟
من المسلم به في النظم التي تجير رقابة دستورية القوانين أن للقاضي مراقبة نص التشريع، من حيث مخالفته لعبارة نص الدستور، ولكن يختلف بعد ذلك في ما إذا كان يمكن مراقبة مخالفة التشريع لروح الدستور ومبادئه العامة المستقاة من ديباجته أم لا، فذهب قول إلى الجواز حتى في هذه الحال استنادا إلى الانحراف الذي يحتمل أن يقع فيه المشرع، ولكن دون إعمال هذا الرأي مصاعب جمة تظهر من خلال دراسة موضوع التفسير القضائي للنصوص الدستورية ( ).
لا شك أن القاضي يختص بتفسير النصوص الدستورية ما دام هو المختص بتطبيقها أو معاينة مدى مطابقة التشريع لها، ومما يؤكد ذلك أن الدستور سكت عن تحديد جهة محددة لتفسير النصوص الدستورية. على أنه رغم كون القواعد الدستورية هي قواعد قانونية فإنه قد تختلف طريقة تفسيرها عن طرق الفقه المعتادة لتفسير القواعد القانونية الأخرى في البحث عن النوايا والجري وراء البواعث والرجوع للأعمال التحضيرية مثلا، بل ينبغي أن تستهدف تفسير النصوص الدستورية اعتبارات سياسية وأخرى اجتماعية واقتصادية في ظل المصلحة العليا للأمة ، لأن الدستور وثيقة لتنظيم كل هذا فلا يكيفن القاضي النصوص الدستورية بمعاييره وضوابطه المعتادة في تفسير النصوص الأخرى، بل يجب عليه إستيحاء أفكار وضوابط مختلفة كثيرا وان يستصحبها دائما بما لا يجعل الدستور أداة جامدة معطلة والأمة تتطور، أو يجعله آلة صماء لا تجاري الأوضاع الجديدة و أهداف الأمة، وهذا معناه انه على القاضي أن لا يفرض سلطانه على المشرع تحت ستار دستورية القوانين فتصير الدستورية هذه وسيلة لتسلط القضاة على المشرع ذاته. وهذا معناه أن تفسير الدستور يختلف عن التفاسير الأخرى، لأنه وإن كان طائفة نصوص قانونية إلا أن تطبيقها الكثير ومرتعها الخصيب هو البيئة البرلمانية ورئيس الدولة، فهم الذين يتعاملون معه ويضطرون لمواجهة مشكلاته كثيرا ويصدرون التشريعات وفق أحكامه، بينما يقتصر القاضي على فحص دستورية القانون إذا ما أثير أمامه دفعا بعدم الدستورية فإنه سيتولى تفسير النصوص الدستورية المثار مخالفة القانون لها، ومما يفرض على القاضي أن لا يتوسع في التفسير والانطلاقة فيه، وان لا ينصب نفسه وصيا حقيقيا على المشرع لا مجرد حام لحقوق الأفراد وحرياتهم المكفولة دستوريا، فالقضاء وإن كان حقا حامي الحريات والحقوق فإنه ليس خصما للمشرع، ولا يجوز له أن يتولى تفسير النصوص الدستورية بما يسمو به على حقيقة وضعه ويعيد النظر في العلاقة بين السلطات العامة المبنية على الفصل والتعاون وليس الخضوع والتبعية .
وعلى هذا فإن القانون يكون غير دستوري إذا ما خالف نصا في الدستور أو مقتضى نص أو خالف المبادئ العامة المستقاة من ذات النصوص كذلك، وهنا ينبغي أن نحدد المقصود بروح الدستور( ) لأن الإطلاق في استعمال كلمة روح هذه سوف تؤدي إلى توسع كبير وغير مقبول . إن المقصود من روح الدستور هو المعاني المستقاة من دلالات المنطوق، واستلهام هذه الدلالات ذاتها في استخلاص المبادئ العامة للدستور لفهم نصوصه مجتمعة ومرتبطة لا مجزئة، أما الدلالات الأخرى كدلالة الاقتضاء ودلالة المقابلة ودلالة الإشارة والتي يراد بها استبطان مكنونات النص وخفياته فإنها قد تقود على أمور غير مقبولة .
المبحث الثاني
الرقابة القضائية على تدرج القواعد القانونية الأخرى
إنه لا معنى لما سبق تقريره من سمو القواعد الاتفاقية الدولية على القانون أو سمو القانون على اللوائح طالما لم توجد آليات تكفل هذا الترتيب، وتحرس قواعد المشروعية، واستنادا على ذلك يتفق الفقهاء على كون الرقابة القضائية على مدى احترام هذا التدرج أمر لازم وعدوه إحدى عناصر وضمانات دولة القانون، ولذلك فإنه لا مناص أمام القضاء الجزائري إلا أن يتمسك باختصاصه الرقابي على مدى خضوع القواعد الأدنى للقواعد الأعلى، بأن يبسط رقابته على اتفاقية القواعد التشريعية واللائحية (المطلب الأول) وكذلك على مشروعية القواعد اللائحية(المطلب الثاني) .
المطلب الأول
الرقابة القضائية على اتفاقية القواعد التشريعية واللائحية
ترتيبا على القيمة القانونية للقواعد الاتفاقية الدولية وسموها على القواعد التشريعية طبقا لمادة 132 من دستور 1996، فإن هذه القواعد الدولية تكون واجبة التطبيق أمام القضاء الداخلي متى تم التصديق عليها وفق للشروط والإجراءات الدستورية، وهو ما ذهب إليه المجلس الدستوري الجزائري في قراره الأول لسنة 1989 ( ) إذ جاء في إحدى حيثياته :" ونظرا لكون أية اتفاقية بعد المصادقة عليها ونشرها تندرج في القانون الوطني وتكتسب بمقتضى المادة 123 من الدستور – لسنة 1989 والمقابلة للمادة 132 من دستور 1996 – سلطة السمو على القوانين وتخول كل مواطن جزائري أن يتذرع بها أمام الجهات القضائية " وهو ما استجاب له القضاء المقارن – وخصوصا الفرنسي ( )– وبعده القضاء الجزائري إذ اعتمد على المعاهدات كمصدر للمشروعية وقام بتطبيقها واستبعد القواعد التشريعية أو اللائحية الداخلية التي جاءت متعارضة مع تلك المعاهدات، ولكن هذا الاجتهاد القضائي
مازال محل جدل وتردد إن في ساحة الفقه أو القضاء حول اختصاص القضاء الداخلي برقابة مطابقة القانون للمعاهدات (الفرع الأول) وسلطات القضاء في تكريس سمو المعاهدات (الفرع الثاني) وطرق حل الإشكاليات التي تثار أمام القضاء في هذا الصدد (الفرع الثالث) .
الفرع الأول
تكريس اختصاص القضاء برقابة اتفاقية القانون
إن تحقيق سمو المعاهدات على القانون،وبالتالي عدم مخالفة القوانين واللوائح للمعاهدات الدولية التي صادقت عليها الجزائر وفق الشروط و الإجراءات الدستورية، يفرض وجود نظام رقابي يكفل مطابقة القوانين الداخلية لتلك المعاهدات، فما هي الجهة المختصة بهذه الرقابة ؟
إن الإجابة عن هذا التساؤل تفرض تحديد طبيعة العيب الذي يلحق القانون أو اللوائح إذا جاءت مخالفة للقواعد الاتفاقية الدولية والذي يسميه الفقه بعيب عدم الاتفاقية( ) le vice d l’inconditionnalité هل هو عيب عدم الدستورية أم عيب عدم المشروعية؟
بالرجوع إلى الاجتهاد القضائي الفرنسي باعتباره السباق في هذا المجال فإن الملاحظة التي نكتشفها هي أن موقفه كان يكتنفه الغموض إلى غاية صدور قرار: Nicolo الشهير في سنة 1989 والذي اعترف فيه مجلس الدولة الفرنسي بدوره في رقابة احترام سمو المعاهدات على القوانين، فبصدد الطعن الذي رفعه السيد Nicolo واستند فيه إلى مخالفة القانون الداخلي الفرنسي للاتفاقية المؤسسة للإتحاد الأوربي ، واجه مجلس الدولة إشكالية من حيث تسبيب الحكم فهل يستبعد الوجه المثار أي لا يفحص تماشي القانون مع اتفاقية روما مثل ما ذهب إليه في اجتهاده السابق؟ أم يغير اجتهاده ويفصل في هذا الدفع؟ كان الرأي الذي اقترحه مفوض الحكومةFrydman هو أن يراجع المجلس قضاءه ومما قال :
« En considérant que cette loi n’est applicable que parce qu‘elle est précisent conforme a ce traité »( )
وهو ما فعله مجلس الدولة بالفعل، إذ قضى بأن القانون المؤرخ في 7/7/1977 المتعلق بالانتخابات يطبق لعدم تعارضه مع اتفاقية روما، وكان هذا قرارا مبدئيا، وشكل انقلابا قضائيا لكونه أول قرار ينظر فيه المجلس في مدى تطابق القانون الداخلي مع معاهدة سابقة، وفتح الاحتمال أمام إمكانية استبعاده إذا كان مخالفا لاتفاقية نافذة ولو كانت سابقة على القانون، لقد ألقى هذا القضاء بعبء كبير على القاضي الإداري ذلك أن سمو المعاهدات يستمد أساسه من نص دستوري، وهو ما قد يؤدي إلى فحص مسائل دستورية، حال كون المستقر عليه في قضاء مجلس الدولة انه غير مختص بذلك، ولهذا كان مجلس الدولة يرفض رقابة مطابقة القانون اللاحق لمعاهدة سابقة، لكن بمنسابة قضية Nicolo رأى المجلس بأن تهربه من مواجهة الموقف سيؤدي إلى شل تطبيق نص المادة 55 من الدستور التي تكرس سمو المعاهدات على القوانين، لذلك كان مضطرا إلى استبعاد القوانين اللاحقة التي تخالف معاهدة نافذة متخذا موقفا مشابها لموقف استقر عليه القضاء العادي منذ 1931 في قضية Matter( ) ومسايرا للدعوى غير المباشرة للمجلس الدستوري الذي أعلن عدم اختصاصه بالموضوع إذ صرح في قراره( ) رقم 74/54 المؤرخ في 15/01/1975 بأن قانونا متعارضا مع المعاهدة لا يعني انه مخالف للدستور، وبذلك استبعد الاتفاقيات من بين القواعد المرجعية للرقابة الدستورية، وقد أسس المجلس الدستوري موقفه هذا على أن قراراته المتعلقة بالرقابة تحوز طابعا مطلقا ونهائيا بينما سمو المعاهدات على القوانين المكرس بالمادة 55 من الدستور يعد ذا طابع نسبي ومحدود، إضافة إلى أن تطبيقه معلق على شرط المعاملة بالمثل .
إن موقف مجلس الدولة في قضية Nicolo قد أثار نقاشات حادة خاصة في ما يتعلق بالنتائج الناجمة عن هذا الاتجاه الجديد ، فإعطاء نص المادة 55 امتدادها الطبيعي من حيث التطبيق يؤدي إلى خرق نص مادة دستورية أخرى وهي المادة 21 وذلك من خلال التعديل غير المباشر لإلتزمات السلطة التنفيذية تجاه القانون،فيكون مجلس الدولة أعطى الأولوية لمبدأ تدرج القوانين على مبدأ تدرج السلطات( )
"Le juge administratif fait prévaloir le principe de hiérarchie des normes sur la hiérarchie des organes normateurs , il semble même établi une hiérarchie entre différentes normes constitutionnelles au profit de l’article 55 de la continuation" ( )
وبعد عرض الموقف الفرنسي، يثار التساؤل عن الجهة التي تضمن احترام القوانين واللوائح للمعاهدات في الجزائر في ظل دستور 1996 ؟
لعل أول ما يبرز في هذا المجال هو موقف المجلس الدستوري الجزائري في قراره رقم 01 لسنة 1989 والمتعلق بدستورية المادة 86 من قانون الانتخابات لسنة 1989 والتي تحدد الشروط الواجبة في المترشحين لانتخابات المجلس الشعبي الوطني، ورغم كون إخطار المجلس كان يستهدف مدى مطابقة المادة 86 لقواعد الدستور فإنه لم يكتفي بذلك إذ أعلن عدم مطابقة المادة المذكورة للمادتين 27 و 47 من الدستور، وأضاف تبريرا إضافيا يتعلق بعدم مطابقة هذه المادة مع اتفاقيات دولية صادقت عليها الجزائر، ومما جاء فيه:" ونظرا لكون أية اتفاقية بعد المصادقة عليها ونشرها تندرج في القانون الوطني وتكتسب بمقتضى المادة 123 من الدستور - لسنة 1989 و تقابل المادة 132 من دستور 1996- سلطة السمو على القوانين وتخول كل مواطن جزائري أن يتذرع بها أمام الجهات القضائية" و بعد أن قرر المجلس أن عهدي الأمم المتحدة لسنة 1966 والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان " تمنع منعا صريحا كل تمييز مهما كان نوعه " وتأسيسا على ذلك نطق المجلس بعدم دستورية المادة 86 من قانون الانتخابات، فالمجلس الدستوري قام بمراقبة دستورية قانون الانتخابات ليس فقط بالنظر على الدستور وإنما أيضا على ضوء المعاهدات الدولية التي أبرمتها الجزائر.
وهذا الموقف يقودنا إلى النتائج التالية :
-1إقحام المعاهدات في الكتلة الدستورية، وهو ما يجعل رقابة المطابقة بين القوانين والمعاهدات من اختصاص المجلس الدستوري .
-2دعوة الجهات القضائية للاضطلاع بصلاحية إعمال مبدأ أولوية تطبيق المعاهدات على القوانين في حالة التعارض، وذلك من خلال السماح للموطنين الجزائريين بالاحتجاج بأحكامها أمام القضاء الوطني، وبالتأكيد لم يكن قصد المجلس الدستوري تخويل هذا الحق للمواطن الجزائري وحده دون الأجانب ، وإلا عد ذلك تمييزا قد يرتب المسؤولية الدولية للجزائر، ولكن سياق هذا القرار كان يتعلق بممارسة إحدى الحريات العامة المكفولة للمواطنين دون الأجانب.
ولا شك أن هذا القرار يثير التساؤل عن حجيته في ظل دستور 1996 ؟
إنه من خـلال الفصل الأول يتبين أن الكتلة الدستوريـة تتضمن الدستـور بديبـاجته ونصـوص مواده، إضافة إلى المبادئ العامة للقانون ذات القيمة الدستورية، أما القواعد الاتفاقية الدولية فهي تخضع للقواعد الدستورية كونها أقل منها من حيث المرتبة الإلزامية، فلا يمكن إدماجها في نفس الكتلة، ضف إلى ذلك أن المعاهـدات تخضع للرقابة على دستوريتها من طرف المجلس الدستوري، وأن إدماج المعاهدات ضمن الكتلة الدستورية سوف يفرض على المجلس الدستوري فحص مطابقة القوانين واللوائح المعروضة عليه لكل المعاهدات النافذة في الجزائر، وهو ما سيؤدي إلى شل أعمال المجلس الدستوري .
واستنادا إلى قرار المجلس الدستوري سالف الذكر، فإن المحكمة العليا كرست في عديد قراراتها اختصاصا برقابة مدى مطابقة القوانين الداخلية للمعاهدات النافذة بالجـزائر، ومن هـذه القرارات، القرار المؤرخ في 22/02/2000 ( )، والذي اعتمدت فيه المعاهدات كمصدر للشرعية الجنائية إذ قضت الغرفة الجزائية بصحة الحكم بمصادرة المبالغ المحجوزة والتي حصل عليها المتهمون من خلال بيع المخدرات، فاعتبرت المصادرة عقوبة مشروعة، نظرا للنص عليها في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية التي صادقت عليها الجزائر بموجب المرسوم الرئاسي رقم : 95 /41 المؤرخ في 28 /01 /1995 وهذا رغم النص عليها في قانون الصحة رقم 85/05 الذي توبع المتهمون. والقرار الثاني صدر عن الغرفة المدنية للمحكمة العليا في 05/09/2001( ) والذي استبعدت فيه المحكمة العليا نص المادة 407 من قانون الإجراءات المدنية المتعلقة بالإكراه البدني لمخالفته لنص المادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وهو ما أكدته بقرار لا حق بتاريخ :11/12/2002.( ) فالمحكمة العليا تمسكت باختصاصها برقابة مدى مطابقة القوانين للاتفاقيات الدولية النافذة بالجزائر تلقائيا ووصلت لحد استبعاد القانون المعارض للاتفاقية، بل إلى حد التطبيق المباشر لنص من المعاهدة وفي الميدان الجزائي الذي يخضع لمبدأ الشرعية حسب المادة الأولى من قانون العقوبات.ولا شك أن مجلس الدولة سوف يمشي في نفس الطريق لو طرح عليه الأمر.
الفرع الثاني
سلطات القضاء في رقابة اتفاقية القانون
خلافا للقاضي العادي الذي لا يملك سوى استبعاد القانون أو اللائحة المخالفة للاتفاقيات، يملك القضاء الإداري عدة وسائل في إطار رقابته على اتفاقية القوانين واللوائح وذلك من خلال المنازعات المعروضة عليه، سوء في إطار رقابته الشرعية (أولا) أو المسؤولية (ثانيا) ولذلك سوف نركز على سلطات القاضي الإداري( ) .
أولا : سلطات القضاء الإدراي في إطار منازعات المشروعية :
ترى الأستاذة Etienne picard بأن أثار تصريح القاضي بمخالفة نص ما لاتفاقية دولية تختلف اعتبارا لأربعة عوامل هي طبيعية القاعدة (دولية أم لائحية)، شكل قـاعدة الداخليـة (قانون أم لائحة)، تاريخ سن هذه القاعدة الداخلية مقارنة بالمعاهدة ، موضوع الطعن أمام القاضي.
والجمع بين هذه العناصر يضع القاضي الإداري أمام عدة حالات :
الحالة الأولى: إذا تعلق الأمر بقرار إداري لا حق بمعاهدة دولية ، وتعارض معها ، فإن القاضي ملزم بإلغائه إذا كان الطعن فيه متعلقا بفحص المشروعية .
الحالة الثانية: إذا تعلق الأمر بقرار سابق على معاهدة دولية وكان متعارضا معها ، فإن هذه المعاهدة قد تؤدي إلى إلغائه ضمنا وقد لا تؤدي إلى ذلك ، فإذا كان القرار تنظيما فإنه يمكن للقاضي وقف سريانه طالما أن القاعدة الدولية كانت نافذة :
« Si l’acte est réglementaire il pour oit en effet n’être que supendu tant que la règle internationale resterait applicable dans l’ordre interne »
لكن القاضي ملزم بالتصريح بالإلغاء وإبطال كل المراسيم التنفيذية التي تصدر بصفة لاحقة للمعاهدة ، وتكون مخالفة لها.
الحالة الثالثة: إذا تعلق الأمر مخالفة قانون لمعاهدة فإن سلطة القاضي تبدو ضيقة، فإذا كان القانون سابقا للمعاهدة فلا يملك القاضي إلا معاينة الإلغاء، وذلك منذ إدماج القاعدة الدولية في النظام الداخلي، ومن ثم فمن واجب القاضي الإداري التصريح ببطلان كل المراسيم التنفيذية لهذه القوانين.
الحالة الرابعة: أما إذا صرح القاضي بطريقة غير عادية بسمو قاعدة دولية على تشريع نافذ، فلا يمكنه في أفضل الأحوال إلا أن يصرح بعدم إمكانية تطبيق هذا الأخير( ). ويبقى التساؤل قائما حول الحجية التي يتمتع بها هذا التصريح ؟
وبالتأكيد فإن أوجه الإلغاء أو عدم المشروعية هي نفسها المتعلقـة بمخالفة القـرارات للقوانين الداخلية، أي عيب عدم الاختصاص أو عيب الشكل والإجراءات أو عيب مخالفة القانون أو عيب السبب أو الانحراف بالسلطة، ومرد هذا التشابه هو تقارب القواعد الدولية مع القواعد الداخلية من حيث المحتوى.
ثانيا: سلطات القضاء الإداري في إطار منازعات المسؤولية:
ويختلف الوضع حسب حالتين، تتمثل الأولى في المسؤولية عن أعمال السلطة التشريعية (I) والثانية المسؤولية عن أعمال السلطة التنفيذية (II)
-Iالمسؤولية عن أعمال السلطة التشريعية: لقد صرح مجلس الدولة الفرنسي منذ قراره في قضية Driancout( ) أن كل حالة عدم مشروعية تشكل خطأ، فهل أن كل خرق من المشرع لأحكام اتفاقية ما يشكل خطأ يؤدي بالنتيجة إلى مسؤولية الدولة ؟
لقد تردد مجلس الدولة في الحسم في هذا الأمر، فلم يصرح بالمسؤولية المباشرة للدولة عن أعمال السلطة التشريعية، إلا في مجال فرق مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة، كما فعل في قضية لافلورات( ) الشهيرة، وهي فرضية لا تنطبق إلا على حالات قليلة لخرق القواعد الدولية .
ومرد ذلك إلى كون القانون يمثل تعبيرا عن الإرادة العامة فاستفاد هذا الأخير (القانون) بنظـام تفضيلي، سيما على صعيد المسؤولية على حد تعبير Morange :
«la loi a longtemps bénéficie d’un régie juridique de foreux y compris en matière de la responsabilité »
إن نظام المسؤولية بدون خطأ عن أعمال السلطة التشريعية يبدو محدد الأفق ليس فقط بسبب قلة السوابق في هذا المجال فقط- 03 حالات حسب الأستاذ Michelet - ولكن بسبب الشروط الخاصة لإقامة هذه المسؤولية، والتي لا تتماشى مع اغلب حالات القوانين المخالفة للاتفاقيات، وخاصة فيما يتعلق بشروط الضرر، الذي يستوجب القضاء أن يكون جسيما جسامة غير عادية، وذا خطورة استثنائية préjudice caractère anormal et spéciale وعلى ذلك فإن مسؤولية الدولية عن القوانين المخالفة للاتفاقيات لا تجد لها أساسا في نظام المسؤولية الإدارية، بل تبدو فقط نتيجة منطقية أفرزها قرار Nicolo.
ومن هنا نخلص إلى أن الأساس الحالي للمسؤولية عن طريق مبدأ سمو القواعد الاتفاقية الدولية إنما يتمثل في المسؤولية الخطئية عن قواعد تنظيمية غير مشروعة la responsabilité pour faute
du fait de l’application d’un règlement ( )
-IIالمسؤولية عن إعمال السلطة التنفيذية: وهي المسؤولية التي كرسها مجلس الدولة الفرنسي في قراره المبدئي الصادر سنة 1992 في قضية ( Société Arizona Tobacco produits ) حيث
رتب المجلس مسؤولية الإدارة على أساس الضرر الناجم عن المرسوم التطبيقي الصادر في 31/12/1976 الذي يحدد أسعار بيع التبغ بطريقة تتعارض مع تعليمة دولية صادرة في 19/12/1972، علما أن هذا المرسوم إنما صدر مجرد تطبيق لقانون داخلي تضمن أحكاما تتعارض مع الاتفاقية، وعليه يظهر أن القاضي قد أجبر على تحليل هذا الضرر بأنه ناتج عن المرسوم بينما عدم مشروعية هذا الأخير إنما هي نتيجة لتعارض القانون الذي سعى إلى تطبيقه مع تلك التعليمة الدولية .
نخلص إلى القول أن مسؤولية الدولة عن القوانين التي تخرق المعاهدات لا تجد أساسها في المبادئ التقليدية للمسؤولية الإدارية ، التي بات من الواجب توسيع إطارها لتحتوي التغيرات الحديثة للعلاقات الدولية المتجسدة باتفاقيات دولية في شتى المجالات القانونية، ولعله يصلح في هذا الإطار ما قررته محكمة العدل للمجموعة الأوربية في قضية فرانكوفيتش، فقد اعتبرت أن قانون الاتحاد الأوربي يفرض على الدول الأعضاء إصلاح الأضرار اللاحقة بالأفراد نتيجة خرق القانون الاتحادي، وذلك من خلال تبني نظام تعويض خاص بكل دولة ، شريطة أن يكون هذا النظام فعالا ، إذا جاء في حيثياته:
« C’est dans le cadre du droit national de la responsabilité qu’il incombe l’état de réparer les conséquences du préjudice cause » ( )
وبعد أن تم عرض عصارة اجتهاد القضاء الإداري الفرنسي، فإنه يمكن القول أنها تصلح للاستعانة بها من طرف القضاء الإداري الجزائري فيما قد يطرح عليه من نزاعات، خصوصا في ظل تزايد عدد المعاهدات المصادق عليها من طرف الدولة الجزائرية، فتسمح له بأن يكون ضمانة حقيقية لحماية مبدأ التدرج القانوني الذي يعد احد دعائم دولة القانون.
الفرع الثالث
الإشكاليات التي تثار أمام القاضي بصدد رقابة اتفاقية القانون
إنه من السهل أن نقول بان المعاهدة تصير قانونا بتمام الإجراءات المقررة لحصولها على ذات قوة القانون، فتتداعى بذلك النتائج وتحل المشكلة التي يثيرها الفقه بصدد اختلاف الطبيعة ما بين المعاهدات والقوانين الداخلية، ولكن الحقيقة غير ذلك فإنشـاء القـانون شيء واستعـارة قوته شيء أخر، ولا يستوي في النهاية وبإطلاق ما أنشأته إرادة دولة واحدة بنتاج توافق إرادات الدول، والنص الدستوري نفسه لم يقل أن المعاهدة قانونا، وإنما فقط واستجابة لطبيعتها الخاصة منحها قوته تتقدم بها في التطبيق فوق القانون الصادر عن البرلمان في تدرج القواعد القانونية، وعندما تسمو المعاهدة على القانون لا يكون لها ذلك إلا بنص في الدستور، وما كانت المعاهدة لتحتاجه لو كانت بطبيعة ذاتية تغنيها عنه، وما اشترطه الدستور من إجراءات تدخل بها المعاهدة في النظام الداخلي هو إعلان بان قدومها هو بإذن السيادة الوطنية وليس مفروضا لمقتضى خضوع مباشر للقواعد الدولية، يؤكد أيضا أن المعاهدة تخالف في النهاية القانون الداخلي، ولا شك أن هذه الطبيعة المتميزة للمعاهدات تثير أمام القاضي وهو يتعامل معها إشكاليات تتميز بخصوصياتها عن الإشكاليات التقليدية التي كان يواجهها القضاء، وهو ما يفرض على القاضي لعب ادوار جديدة لحل تلك الإشكاليات، والتي قد تتعلق بمسائل خارجة عن مضمون المعاهدة (أولا) أو متعلقة بمضمونها (ثانيا) .
أولا: الإشكاليات غير المتعلقة بمضمون المعاهدة:
يواجه القاضي أثناء تعامله مع المعاهدات عدة مسائل تتعلق بمدى إلزامية تطبيقها ( )، وتتمثل في :
- إشكالية إجراءات التصديق التي فرض الدستور توفرها كشروط لصيرورة المعاهدة أقوى من القانون، وبالتالي فهل للقضاء الولاية لمراقبة مرسوم المصادقة؟ هل جاء صحيحا أي تم احترام الإجراءات الدستورية السابقة المتمثلة في الموافقة البرلمانية الصريحة أو عرضها على المجلس الدستوري وقراره أنها مطابقة للدستور؟
- وهناك إشكالية النشر، فهل يشترط لنفاذ المعاهدة أم لا ؟ و هي الإشكالية التي سبق عرضها سابقا.
- وإشكالية التحفظ، فمن حق الدولة أثناء إعلان التزامها بالمعاهدة أن تقرر بإرادتها المنفردة تحديد آثار بعض البنود من المعاهدة أو استبعادها، فما هو دور القاضي حيال هذا الوضع؟ ألا يعد ملزما به لكونه من أعمال السيادة؟ وإذا صدرت إعلانات تفسيرية في شكله لكنه في حقيقته تحفظ، فما دور القاضي هنا ؟
ثانيا: الإشكاليات المتعلقة بمضمون المعاهدة:
فإذا خلص القاضي من الإشكاليات والمصاعب سالفة الذكر واستطاع حلها، فإنه سيقف أمام إشكاليات أخرى تتعلق بمضمون المعاهدة وتتمثل في إشكالية التفسير(I) وإشكالية القابلية للتطبيق المباشر(II)
I- إشكالية التفسير( ): فهل يختص القاضي به أم لا؟ وكيف سيقوم بتفسير النص الاتفاقي الدولي؟
باعتبار أن الاتفاقيات تبرم من قبل السلطة التنفيذية، فقد اعتبر أنهـا الهـيئة الوحيدة المؤهلة لتفسيرها، وخوفا من التدخل في العلاقات الدولية بين السلطة التنفيذية والسلطات الأجنبية، حرص القاضي على إحالة مسألة التفسير إلى وزارة الشؤون الخارجية وكان ملزما به، وهو ما درج عليه القضاء الفرنسي التقليدي، لكن قضية Gisti ( ) كانت المناسبة التي تمسك فيها مجلس الدولة الفرنسي باختصاصه في تفسير النصوص الاتفاقية الدولية،حيث أعطى المجلس التفسير الذي رآه ملائما دون أن يرى نفسه ملزما بالتفسير الوزاري، وبقراره هذا أكد مجلس الدولة الفرنسي أن هناك مشكلة تفسير كانت قائمة في هذا الخصوص، وان المجلس قد سمح لنفسه بتقدير مدى صحة التفسير الوزاري، ليستخلص بالتبعية ما يراه هو نفسه من تفسير للنصوص محل النزاع ويبني قضاءه عليه، وانه تبعا لذلك يكون قد استقر مبدأ اختصاص القاضي الإداري بتفسير المعاهدات الدولية، ومعنى ذلك أن مسألة تفسير المعاهدات قد خرجت من طائفة أعمال السيادة وفقدت حصانتها.
وبالنسبة للقضاء الجزائري فالمحكمة العليا كانت لها مناسبة للتمسك باختصاصها بالتفسير، ويتعلق الأمر بالقرار المؤرخ في 11/12/2002 ( ) والذي يتعلق بطعن بالنقض في قرار وقع الإكراه البدني عليه لعدم وفائه بدين تجاري وأسس قضاة المجلس قرارهم على أن المادة 11 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية تتعلق بالحقوق المدنية فحسب، فقامت المحكمة العليا بتفسير نص المادة 11من الاتفاقية المذكورة، ومما جاء في القرار:
"وبعد الإطلاع على أحكام المادة 11 من الاتفاقية المذكورة أعلاه والتي جاء فيها ما يلي: (لا يجوز سجن أي إنسان لمجرد عجزه عن الوفاء بالتزام تعاقدي) وتبعا لذلك أصبح من غير الجائز توقيع الإكراه البدني لعدم تنفيذ المدين لالتزامه التعاقدي.
وحيث أن مصادر الالتزامات ، تنقسم إلى مصادر إرادية ومصادر غير إرادية ، وأصبح -ومنذ انضمام الجزائر إلى تلك الاتفاقية - غير جائز تنفيذ الالتزامات الإرادية - سواء كان مصدرها معاملة مدنية أو تجارية – عن طريق الإكراه البدني.
وحيث انه كما هو ثابت في وقائع القضية أن الالتزام المراد تنفيذه مصدره معاملة تجارية أي عقد تجاري.
وحيث أن المادة 11 المشار إليها أعلاه لا تميز بين الالتزام التعاقدي التجاري وغير التجاري، فيكفي أن يكون هناك التزام تعاقدي سواء كان موضوع هذا الالتزام معاملة مدنية أو تجارية، فيمتنع تنفيذ هذا الالتزام عن طريق الإكراه البدني ..."
II-إشكالية القابلية للتطبيق المباشر: فإذا خلص من مشكلة التفسير، واجهته مشكلة أخرى، وهي كيفية التعامل مع المعاهدة أي مدى إمكانية تطبيق نصوصها مباشرة؟ أم ينتظر صدور القوانين والتنظيمات الكفيلة بذلك؟
لقد كانت قضية Yeter Cinnar ( ) المناسبة لمجلس الدولة الفرنسي لتغيير اجتهاده بصدد مسألة التطبيق المباشر للمعاهـدات، إذ بدل الارتكـاز على معايـير عادة ما عرقلت مسألة التطبيق المباشر، وخصوصا المعيار الشخصي والمتمثل في البحث في نية الأطراف، بالرجوع إلى الأعمال التحضيرية مثلا ، فقد انصب اهتمام مجلس الدولة على دراسة مضمون نص المعاهدة المطروح عليه تطبيقها، فاعتمد على المعيار الموضوعي، والمتمثل في دقة ووضوح هذا النص، والغرض منه هدف ملموس، وهي المعالجة القانونية التي أدت به إلى الفصـل بيـن نوعين مـن القـواعد الاتفاقية الدولية، فبعضها تطبق تطبيقا مباشرا، والأخرى لا يمكن تطبيقها مباشرة، فقرار سينار أعلن عن عهد قانوني وقضائي جديد في مجال التعامل المباشر مع المعاهدات الدولية.
ولعل الموقف القضائي الجزائري في القرارات الصادرة عن المحكمة العليا بغرفتيها المدنية والجزائية -سالفة الذكر- دليل آخر على أن القضاء صار متمسكا بأهليته للتطبيق المباشر لنصوص المعاهدات الدولية طالما كانت قابلة لذلك، دونما انتظار للقوانين أو التنظيمات الداخلية التي تجعلها نافذة .
المطلب الثاني
الرقابة القضائية على مشروعية القواعد اللائحية
تطبيقا لمبدأ المشروعية ومقتضياته، ومنها مبدأ تدرج القواعد القانونية، فإن أعمال السلطة التنفيذية -سواء منها الفردية أو اللائحية- تخضع وتتقيد بالقانون بمعناه الواسع ، وكل مخالفة لذلك تجعل عملها باطلا وقابلا للطعن فيه أمام القضاء، وعلى ذلك فإن اللوائح الصادرة عن السلطة التنفيذية – مهما كان نوعها والظروف التي صدرت فيها- تخضع للرقابة القضائية باعتبارها أعمالا إدارية، وتطبيقا للمادة 143 من الدستور "ينظر القضاء في الطعن قرارات السلطات الإدارية "
وقد أثبتت عملية الرقابة القضائية جدواها وفاعليتها في النظم القانونية المقارنة، حيث استطاع القضاء عن طريق صور وأنواع الرقابة القضائية التي بسطها على اللوائح أن يوفر ضمانات جدية وفعالة لحماية الشرعية وحريات الأفراد وحقوقهم في مواجهة السلطة التنفيذية، التي أجبرها القضاء على الخضوع للقانون واحترام مبدأ المشروعية، وتتخذ رقابة القضاء على اللوائح عدة صور حسب الجهة التي تتولاها، فقد تكون رقابة إلغاء من طرف القضاء الإداري ، وقد يختص بها القاضي العادي عن طريق الدفع بعدم الشرعية فيختص بها طبقا لمبدأ تدرج القواعد القانونية ( ).
غير انه يتعين ملاحظة انه بصدد فحص مشروعية اللوائح بمطابقتها للقواعد الدستورية فإن ذلك وجها آخر للرقابة القضائية على مشروعية اللوائح، عمد إليها القاضي لتوسيع مساحة رقابته على أعمال السلطة التنفيذية، هذا إضافة إلى إنشائه نظرية المبادئ العامة للقانون لتوسيع سلطته الرقابية على تلك الأعمال.
ولذلك فقد تكون الرقابة القضائية على مشروعية اللوائح بواسطة دعوى الإلغاء (الفرع الأول) أو عن طريق الدفع بعدم الشرعية (الفرع الثاني) إضافة إلى الوسائل التي ابتدعها القاضي لتوسيع مجال رقابته عليها (الفرع الثالث).
الفــرع الأول
رقــابــة الإلـغـــاء
يختص بنظر هذه الدعوى القضاء الإداري فقط دون القضاء العادي، طبقا لنص المادة 01 من القانون 98/ 02 المؤرخ في 30 ماي 1998 المتعلق بالمحاكم الإدارية التي تنص على انه" تنشأ محاكم إدارية كجهات قضائية للقانون العام في المادة الإدارية " والمواد 9 و10 و 11 من القانون العضوي 98 /01 المؤرخ في 30 ماي 1998 المتعلق باختصاصات مجلس الدولة وتنظيمه وعمله والتي تجعله مختصا بالنظر في المنازعات المتعلقة بالطعـون بالإلغـاء المرفوعة ضد القرارات التنظيمية أو الفردية الصادرة عن السلطات المركزية والهيـئات العمومية الـوطنية والمنظـمات المهنية الوطنية، والطعون الخاصة بالتفسير ومدى شرعية القرارات التي تكون نزاعاتها من اختصاص مجلس الدولة، إضافة إلى كون جهة استئناف ونقض في أحكام وقرارات الجهات القضائية الإدارية، وكذا في قرارات مجلس المحاسبة، وعلى ذلك فيملك أي فرد أو هيئة الطعن في اللوائح إذا ما شابها عيبا من عيوب المشروعية كعدم الاختصاص أو عيب الشكل والإجـراءات أو مخالفة القوانين بمعناها الواسع أو الخطأ في تطبيقها أو تأويلها أو عيب إساءة استعمال السلطة أو الانحراف أو عيب السبب( ). والملاحظ من خلال الإطلاع على قرارات مجلس الدولة المنشورة في مجلة مجلس الدولة، أن مجلس الدولة يرتب جزاءات مختلفة على القرارات الإدارية المخالفة للمشروعية، ومرد ذلك هو درجة جسامة المخالفة ، فإن كانت لا تمثل خروجا كبيرا على مبدأ المشروعية كان القرار الإداري باطلا، أما إذا بلغت المخالفة حدا كبيرا من الجسامة كان القرار الإدراي معدوما ( )، فمثلا في القرار الإداري الفاصل في مسألة تدخل أصلا في اختصاص القضاء عده المجلس قرارا باطلا لتجاوزه السلطة، وفي القرار رقم 169417 الصادر بتاريخ 27/07/1998 انتهي مجلس الدولة إلى اعتبار القرار الإداري الصادر من جهة غير مختصة منعدما ، ونلاحظ في ذلك خلطا كبيرا إذ الصواب خلاف ذلك حسب المستقر عليه فقها وقضاء( ).
ويترتب على ذلك اختلاف الآثار المترتبة على الانعدام عن تلك المترتبة على البطلان، إذ أن تنفيذ القرار الإداري المنعدم يشكل اعتداء ماديا une voie de fait ، وهو ما يغير قواعد الاختصاص إذ يصبح القضاء الإستعجالي الإداري والعادي مختصين بالنظر فيه إضافة لقضـاء المـوضوع الإداري، وذلك لكون القرار المعدوم تنتفي فيه مواصفات العمل القانوني المستحق للحماية، ونظرا لكون الانعدام من النظام العام، فإنه يمكن إثارته في أي درجة للتقاضي، وتثيره المحكمة تلقائيا، وان هذا القرار لا يستفيد من الحصانة بعد انقضاء المدة القانونية لرفع دعوى الإلغاء أو السحب من طرف الإدارة، ضف إلى ذلك أن مبدأ فصل السلطات يمنع على القاضي الإداري توجيه أوامر للإدارة، بينما إذا ثبت أن عمل الإدارة يشكل خروجا جسميا على قواعد المشروعية، وبالتالي اعتباره منعدما وعدم استحقاقه للحماية القانونية، فان للقضاء توجيه أوامر للإدارة للكف عن كل ما من شانه أن يضع العمل المتخذ حيز التنفيذ( )، ففي القرار الصادر عن مجلس الدولة بتاريخ: 11/05/2004 ( ) بعد أن أثبت عدم مشروعية قرار الإدارة، وان تنفيذها المباشر إياه يمثل تعديا يمنح الاختصاص للقاضي الإستعجالي قام بإلزام الإدارة بوضع حد لفعل التحدي ومما جاء في هذا القرار:
"مما يجعلها فعلا قد قامت بفعل التعدي الذي هو من اختصاص القاضي الإستعجالي، وان الأمر بوضع حد لفعل التعدي لا يمس بأصل النزاع وحقوق الأطراف، لأن كل طرف له الحق في استعمال الإجراءات القانونية الأخرى سواء في الإلغاء أو التوقيف ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن يكون فعل التعدي هو إجراء قانوني يسمح للإدارة أن تستعمله للإضرار بالموطنين.
مما يستوجب إثبات وجود فعل التعدي، وبالتالي القول باختصاص قاضي الاستعجال وإلغاء القرار المستأنف والتصدي من جديد بوضع حد لفعل التعدي " وقد قرر مجلس الدولة في هذا القرار" القضاء بإلغاء القرار المستأنف الصادر عن قسم الاستعجال للغرفة الإدارية ...والتصدي من جديد بإلزام البلدية بوضع حد لفعل التعدي ضد المستأنف ".
الفرع الثاني
الرقابة عن طريق الدفع بعدم الشرعية
يمكن الطعن ضد اللوائح غير الشرعية ولو تحصنت بفوات ميعاد الطعن ، وذلك عند صدور قرارات تنفيذية تطبيقا لها، إذا يمكن الطعن في هذه القرارات على أساس عدم شرعية اللائحة التي تعد مصدرا لها، فحينئذ يتصدى القضاء الإداري باعتباره مختصا بالمنازعات الإدارية المتعلقة بالقرارات التنفيذية اللائحية لفحص اللائحة باعتبارها مسألة فرعيةQuestion préalable ( )، فإذا ثبت له عدم شرعيتها ألغى القرار التنفيذي مع بقاء اللائحة .
وهناك صورة أخرى للدفع بعدم الشرعية، وذلك إذا ما خالف احد الأفراد لائحة يراها معيبة وقدم للمحكمة من اجل هذه المخالفة، فهنا قد يدفع هذا الفرد بعدم مشروعية اللائحة، فهل يعد الدفع في هذه الحالة مسألة أولية يفصل فيها القاضي بنفسه أي القاضي العادي؟ أم يعتبرها مسـالة خارجة عن اختصاصه لكونها مسألة مبدئية أو أوليةquestion préjudicielle فيوقف الدعوى ويحيل الأطراف على القاضي الإداري؟
وقد استقر الأمر في القضاء الفرنسي على اعتبار القضاء الجزائي مختصا بفحص شرعية اللوائح التي يراد تطبيقها على الدعاوى المنظورة أمامه، أما القاضي المـدني فإذا عرضت أمامه مسألـة مبدئية أو فرعية تتعلق بالدفع بعدم شرعية لائحة، فإنه يحيل طلب فحص الشرعية إلى القضاء الإدراي المختص، وأما في الجزائر فالمسألة تحتاج إلى مناقشة جدية، فمن جهة تمثل المحاكم الإدارية جهات القانون العام للمنازعات الإدراية، ومجلس الدولة يختص بكل منازعات الإلغاء والتفسير وفحص المشروعية لقرارات السلطات الإدراية المركزية والهيئات العمومية الوطنية، فمقتضى تمتع القضاء الإدراي بالولاية العامة في المنازعات أن يكون له دون غيره سلطة الفصل في المنازعات الإدراية مالم يوجد نص خاص بخلاف ذلك استثناء من هذه الولاية العامة، وعلى ذلك فإذا طرحت دعوى أمام جهة القضاء العادي، وكان الفصل في هذه الدعوى يستلزم أولا البت في مسألة تدخل بطبيعتها في طائفة المنازعات الإدراية، فإنه يتعين على القاضي، ما لم يكن هناك نص خاص يقتضي باختصاصه بالفصل في هذه المسألة، أن يوقف نظر الدعوى و إحالة هذه المسألة للقضاء الإداري ليفصل فيها بوصفها من المسائل المبدئية، على أن هذا المذهب لم يرق للغرفة المدنية للمحكمة العليا- ربما حتى لا تطيل الإجراءات وتثقل على المتقاضين - ففي قرارها المؤرخ في 09 /10 /2002 ( )استندت إلى مبدأ تدرج القوانين لاستبعاد مرسوم تنفيذي (لائحة تنفيذية) وإهماله لمخالفته القانون، ومما جاء فيه :
"حيث أن المادة 85 من المرسوم المتضمن إنشاء السجل العقاري يلزم المدعي بإشهار عريضة افتتاح الدعوى بالمحافظة العقارية وإلا كانت باطلة.
وحيث أن مثل هذا البطلان مطلق يتعين على المجلس إثارته تلقائيا .
وحيث ثابت من ملف الدعوى أن دعوى المستأنف عليهم الرامية إلى إلغاء عقد رسمي مشهر لم يتم إشهارها.
وحيث أن ما اتجه إليه قضاة الموضوع هو اتجاه خاطئ من أساسه ، ذلك انه بالرجوع إلى الأمر المتضمن إعداد مسح الأراضي العام وتأسيس السجل العقاري المؤرخ في 12 نوفمبر 1975 لا ينص على إجراء شهر العريضة الافتتاحية بالمحافظة العقارية قبل قيدها بكتابة ضبط المحكمة ، ولا قانون الإجراءات المدنية.
حيث أن إجراء شهر العريضة الافتتاحية للدعوى قد استحدثه مرسوم 76/63 المؤرخ في 25 مارس 1976 الذي يتعلق بتأسيس السجل العقاري ولم ينص عليه كل من قانون الإجراءات المدنية والقانون المتضمن إعداد مسح الأراضي العام وتأسيس السجل العقاري .
وبذلك يكون المرسوم المنوه إليه قد استحدث شرطا جديدا لصحة العريضة الافتتاحية لم يرد لا في قانون الإجراءات المدنية ولا القانون المتضمن إعداد مسح الأراضي العام ، ومن ثمة يوجد التعارض بين القانون والمرسوم المشار إليه.
وحيث انه طبقا لمبدأ تدرج القوانين الذي يقضي بأنه في حالة ما إذا وقع التعارض بين التشريع والتشريع الفرعي فإنه يطبق التشريع الأعلى ويطرح التشريع الأدنى .
وحيث أن قضاة الموضوع عندما طبقوا التشريع الفرعي وطرحوا التشريع الأعلى يكونون قد طبقوا ذلك المبدأ بالمفهوم العكسي " فهذا القرار استبعد المرسوم التنفيذي دون أن يتعرض مباشرة لشرعيته، إذ استبعده باعتباره قانونا فرعيا خالف قانونا عاديا فتطلب طبقا لمبدأ تدرج القوانين استبعاده.
وهذا الاتجاه هو تأكيد لقرار سابق لنفس الغرفة صدر بتاريخ 12/07/1995 ( ) والذي جاء فيه:
"كما أن عدم شهر الدعوى في المحافظة العقارية لا يترتب عليه أي بطلان إذ أن تطبيق المادتين 13 و14 من الأمر 75/74 المؤرخ في 12/11/1975 فقد أحال المشرع تطبيق هاتين المادتين على مرسوم.
وبناء على أحكام المادة 14 / 4 من الأمر المشار إليه أعلاه فقد صدر المرسوم المؤرخ في 25 /03/1976 رقم76 /63 الذي نص في المادة 86 منه على عدم قبول الدعوى إذا لم يتم إشهارها في المحافظة العقارية ، إذ أن اشتراط إشهار العريضة قبل ، تسجيلها لدى كتابة ضبط المحكمة يعد قيدا على رفع الدعوى قد استحدثه هذا المرسوم لكن المشرع قد نص على إجراءات رفع الدعوى وشروط قبولها أمام القضاء في قانون الإجراءات المدنية ولم ينص على هذا القيد بالنسبة للدعاوى العينية العقارية ومن ثمة يوجد تعارض بين أحكام قانون الإجـراءات المدنية وأحكـام هذا المرسوم، وتبعا لذلك فإنه إذا وقع التعارض بين التشريع العادي والتشريع الفرعي يطبق التشريع العادي .."
ففي هذا القرار فحصت المحكمة العليا المرسوم رقم 76/63 باعتباره جاء تطبيقا للمادة 14 من الأمر 75/74 فهو مرسوم تنفيذي أي لائحة تنفيذية، غرضها تقديم كيفيات تطبيق النص التشريعي بدون إضافة ولا تعديل ، إذ تعد حينذاك مخالفة لقواعد الاختصاص الدستورية، لكونها تدخلت في المجال المخصص للبرلمان، فتكون من هذه الزاوية غير دستورية، ومن زاوية المنـازعات الإداريـة منعدمة، وحسب قانون العقوبات في مادته 117 فإن هذا التجاور يعد جريمة يعاقب عليها بالحبس المؤقت من 05 إلى 10 سنوات، وعلى ذلك، فالمحكمة العليا متمثلة في غرفتها المدنية اعتمدت على مبدأ التدرج القانوني للتمسك بفحص شرعية اللوائح، وهو مذهب جرئ ويفيد مقدرة اجتهادية عظيمة إذ يفتح المجال للرقابة القضائية على مشروعية اللوائح عن( طريق المبادئ العامة للقانون ) وهو ما نراه في الفرع التالي.
الفرع الثالث
وسائل القاضي لتوسيع رقابة مشروعية اللوائح
في إطار الدور القضائي المكرس دستوريا والمتمثل في حراسة المشروعية، فإن القضاء ينشئ ويبتدع من الوسائل ما توسع مساحة رقابته على أعمال السلطة العامة، وترتفع عنه القيود التي قام سابقا بوضعها على نفسه مما ضيق من المجال الدستوري الواسع للرقابة القضائية على الإدارة طبقا للمادة 139 من الدستور التي تنص على انه: "تحمي السلطة القضائية المجتمع والحريات وتضمن للجميع ولكل واحد المحافظة على حقوقهم الأساسية" والمادة 143 التي تنص على انه : " ينظر القضاء في الطعن في قرارات السلطات الإدارية " فالمجال الدستوري للرقابة القضائية واسع، لكن القضاء ضيق على نفسه من خلال قيود ابتدعها ومنها نظرية أعمال السيـادة، التي كانت من إنشـاء القضاء الفرنسي، واعتنقها لاحقا القضاء الجزائري. وفي فترة لاحقة انتبه القضاء إلى ضيق مجال رقابة على الإدارة وصار يبتدع وسائل لتوسيعه، ومن هذه الوسائل الاستناد إلى القواعد الدستورية لبسط رقابة المشروعية على اللوائح الإدراية (أولا) وكذلك المبادئ العامة لقانون(ثانيا).
-أولا: الرقابة القضائية بالاستناد إلى القواعد الدستورية:
حسب بعض الفقه ومنهم الأستاذ favoreu أنه من الناحية المنطقية لا يوجد مانع من الاستناد إلى نصوص الدستور لتأسيس الدعاوى الإدارية المختلفة إذ يقول :
« Les normes constitutionnelles ne sont pas utilisée dans le procès administratifs , non pas parce qu’ elles sont utilisables , mais parce que doctrine , juges et avocats pensent qu’elle , son inutilisable » ( )
وبالرجوع لاجتهادات مجلس الدولة الفرنسي فإننا نجده لجأ في عدة مناسبات إلى القواعد الدستورية أثناء رقابة المشروعية لكنه يتقيد بمجموعة من الضوابط أهمها :
- بالنسبة لدعوى الإلغاء: لم يقبل مجلس الدولة الفرنسي دعوى الإلغاء التي تتأسس على وجه عدم دستورية اللائحة محل الطعن لوجود اختصاص مانع للمجلس الدستوري في هذا المجال .
- بالنسبة لدفع بعدم الدستورية: هل يمكن استبعاد تطبيق لائحة أثناء النظر في دعوى إدارية نتيجة الدفع بعدم الدستورية ؟
بصدد هذا السؤال، رفض مجلس الدولة قبول هذا الدافع اعتمادا على نفس الحجة، وهي أن رقابة الدستورية اختصاص مانع للمجلس الدستوري، لكن تيارا فقهيا ظهر بفرنسا يتزعمه كل من ليون دوجي وموريس وهوريو وجيز ينتقد هذا المسلك القضائي ويدعوا لقبول هذا الدفع .
ولو أعملنا مبدأ تدرج القواعد القانونية لقلنا بضرورة استجابة القضاء الإداري لهذا الدفع، والفصل فيه بما يؤكد خضوع القواعد التشريعية واللائحية للدستور، فيكون القضاء وهو يمتنع عن تطبيق القواعد التشريعي المخالفة للدستور، في إطار ممارسة وظيفته في تطبيق القانون والرد على الدفوع وليس ممارسا للرقابة على دستورية القوانين .
-بالنسبة لدعوى فحص المشروعية: وبموجبها يقوم القاضي بمعاينة اللوائح المعروضة عليه من حيث الأركان التي تقوم عليها، ليصرح بمشروعيتها إذا جاءت مواجهة للقواعد القانونية الأسمى منها دستورية كانت أم غيرها، أو العكس إذا كانت غير ذلك، وباعتبار القواعد الدستورية في قمة الهرم القانوني في الدولة فإنه من الواجب على مجلس الدولة التصريح بعدم مشروعيته اللائحة المخالفة للدستور.
ثانيا: توسيع الرقابة القضائية بالاستناد للمبادئ العامة لقانون:
إن الملاحظ مما سبق، أن نظرية الاختصاص المانع للمجلس الدستوري برقابة دستورية اللوائح من اختراع القضاء الإداري الفرنسي، ولذلك فهو الأقدر على إيجاد الآليات والنظريات الكفيلة بالتخلص من القـيود المترتبة عنها، بمـا يسمح للقضاء الإدراي بقـبول دعوى إلغـاء اللوائح المخالفة للدستور، وتوسيع مجال هذه الرقابة، فما هي هذه الآليات؟
بالرجوع إلى القضاء المقارن وخصوصا الفرنسي، نجد أن مجلس الدولة الفرنسي كرس نظرية المبادئ العامة للقانون باعتبارها وسيلة لتوسيع مجال رقابته على اللوائح، وبالتالي التحرر من قبضة الاختصاص المانع للمجلس الدستوري برقابة دستورية اللوائح، ولذلك اعترف مجلس الدولة الفرنسي بالقيمة الدستورية لبعض المبادئ العامة للقانون( ) ، كما سبق تفصيله، وهو ما يصلح اعتماده من قبل القضاء الجزائري لتشابه المعطيات الدستورية والقانونية في النظامين الفرنسي والجزائري، ولذلك نتساءل عن الدور الذي تلعبه المبادئ العامة للقانون ذات القيمة الدستورية في إطار الرقابة على مشروعية اللوائح في الجزائر ؟
لقد كان الدافع وراء الاعتراف بالقيمة الدستورية لبعض المبادئ العامة للقانون هو بسط القضاء في لرقابته على دستورية اللوائح المستقلة من جهة (I) والأوامر التشريعية من جهة أخرى (II) .
-Iالمبادئ العامة للقانون كأساس للرقابة على دستورية اللوائح: لقد أعلن الفقه الفرنسي انزعاجه من المادة 37 من دستور 1958 وهي المقابل للمادة 125 من دستور 1996 الجزائري، لكونها تندرج ضمن الاختصاص المستقل للسلطة التنفيذية وفي نطاق واسع، فالسلطة التنفيذية تختص بإصدار اللوائح دون الاستناد للقانون ولا خضوع لرقابة البرلمان، ولا يجوز لهذا الأخير التشريع في هذا المجال، ومع انزعاجه بحث الفقه عن التقنيات اللازمة لفرض رقابة موضوعية على محتوى ومضمون تلك اللوائح المستقلة من جانب القضاء الإداري، ونظرا لعائق الاختصاص المانع للمجلس الدستوري بالرقابة على الدستورية لم يجد الفقه بدا من إضفاء الطابع الدستوري على بعض المبادئ العامة للقانون، وذلك للاعتماد عليها لاحقا لتفعيل رقابة القاضي الإدراي على دستورية تلك اللوائح، ذلك أنه إذا كانت تلك المبادئ العامة لها قوة القانون فإنه لا يوجد ما يمنع السلطة التنفيذية من مخالفتها أثناء وضعها للوائح المستقلة، وهو ما يفرض الارتقاء بها لتصبح لها قيمة دستورية، فإذا خالفتها تلك اللوائح صارت مشوبة بعيب عدم المشروعية، ويتعين بالتالي على القاضي الإداري التصريح بإلغائها.
-IIالمبادئ العامة للقانون كأساس للرقابة على دستورية الأوامر التشريعية:
وهذه الأوامر تصدر عن رئيس الجمهورية في المجال غير المخصص للقانون طبقا للمادة 124 من الدستور، ولكنها رغم ذلك لا تعدو كونها أعمالا إدارية طبقا المعيار العضوي، فكيف فعل القضاء الإداري لبسط الرقابة على دستوريتها ؟
لقد رأى أن الاحتفاظ للمبادئ العامة للقانون بقيمة القانون، لا تخوله مثل هذه الرقابة، ولذلك اعترف القضاء الإدراي وأيده في ذلك الفقه بالقيمة الدستورية لبعض المبادئ العامة للقانون، وهو ما مكنه عند مخالفة تلك الأوامر لهذه المبادئ التصريح بعدم مشروعيتها وبالتالي إلغائها .
وهو ذات المنطق الذي يمكن تكريسه في الجزائر على الأوامر الصادرة طبقا للمادة 124 من دستور 1996 قبل عرضها على البرلمان أو التي لا يمكن تصور عرضا عليه، إذ تبقى مجرد أعمالا إدارية ومن ثم يمكن للقاضي بسط رقابته عليها اعتمادا على المبادئ العامة للقانون، ومنها مبدأ تدرج القوانين وهذه المبادئ يخلقها القضاء الإداري، مستلهما إياها من المرجعية الدينية والاجتماعية والسياسية للمجتمع، وبالاستناد على مقدمات الدساتير والمواثيق وإعلانات الحقوق، وأنه يصلح للقضاء الاستناد عليها لتقرير اختصاصه برقابة مشروعية الأوامر واللوائح المستقلة، رغم تكريس محتوى هذه المبادئ في نصوص الدستور صراحة، فالقاضي يعتمد عليها كمبادئ عامة للقانون لا باعتبارها نصوصا دستورية.
ومن الضروري التساؤل عن موقف القضاء الإداري الجزائري بخصوص هذه المسألة ؟
لا توجد سابقة قضائية يمكن الاستناد عليها للإجابة عن التساؤل المطروح بخصوص رقابة القضاء الإداري لدستورية اللوائح المستقلة، أو الأوامر التشريعية، اللهم إلا قرارا صادرا عن مجلس الدولة بتاريخ 27/07/1998( ) استند فيه المجلس للفصل في طعن من اجل تجاوز السلطة إلى المبادئ العامة للقانون، وذلك أن قاض صدر ضده قرارا بالعزل من المجلس الأعلى للقضاء مجتمعا في هيئة تأديبية، فقرر مجلس الدولة أن يقبل دعوى الإلغاء ضد هذا القرار مستندا إلى مبدأ عام للقانون سبق لمجلس الدولة الفرنسي أن استنبطه في قضية: Dame La motte ( ) الشهيرة وهو مبدأ عدم حصانة أي قرار إداري ضد رقابة الإلغاء، ولم يستند إلى نص المادة 143 من الدستور التي تصلح أساسا لحكمه نظرا لعمومية صياغتها والتي جاءت في الشكل التالي: "ينظر القضاء في الطعن في قرارات السلطات الإدارية " وهو الموقف الذي أصر عليه مجلس الدولة الجزائري حين أعيد عرض نفس النزاع عليه للمرة الثانية بتاريخ 28/01/2002( ) إذ جاء في الحيثيات: "حيث وبدون حاجة إلى فحص كافة الأوجه المثارة بما في ذلك الوجه المأخوذ من المادة 100 من القانون الأساسي للقضاء الذي قد فصل فيه القرار السابق مصرحا باختصاصه باسم المبادئ العامة للقانون بأن مقرر المجلس الأعلى للقضاء المستأنف هو مقرر غير قانوني لأكثر من سبب " وفضلا عن ذلك استند المجلس إلى مبدأ آخر وهو ما قرره في حيثية أخرى جاء فيها: "المجلس الأعلى للقضاء بكامل هيئته التأديبية قد أهمل الأخذ بعين الاعتبار المبدأ العام للقانون القاضي بأنه لا يمكن الفصل مرتين في قضية بنفس الوقائع" وعلى ذلك فإن المبادئ العامة للقانون يمكن أن تلعب أدوارا عدة في حماية المشروعية، فهي تحل محل القانون الغائب بالنسبة للوائح المستقلة والأوامر التي تضعها السلطة التنفيذية دون ما استناد إلى قانون، فتجيء هذه المبادئ لتحل محله، كما أنها تسمح للقضاء الإداري ببسط رقابته الفاعلة على تلك الأعمال الإدارية وتضمن إخضاعها لسيادة القانون، إذ بالاستناد لهذه المبادئ العامة يخضع القاضي الإداري اللوائح المستقلة التي يصدرها رئيس الجمهورية طبقا لنص المادة 125 من الدستور لرقابته سواء من حيث الشكل و الاختصاص أو من حيث المضمون، كما تصلح أساسا لرقابة القاضي الإداري للأوامر الصادرة عن رئيس الجمهورية في ظل عدم فعالية آليات الرقابة الدستورية، هذا إضافة إلى إمكانية الاستناد لهذه المبادئ العامة لإعادة النصوص القانونية التي تتضمن أحكاما تتنافى مع القواعد الدستورية أو مع قيم المجتمع ومرجعياته الأساسية إلى حظيرة المشروعية، وذلك عن طريق تفسير تلك النصوص القانونية بواسطة المبادئ العامة للقانون تفسيرا ضيقا، بما يجعلها تحمل معنى موافقا لأحكام الدستور وقيم المجتمع، ولذلك فالقضاء يبدو وكأنه يراقب القوانين تحت ستار تفسيرها بالاستناد للمبادئ العامة للقانون ( ).
وتلخيصا لما سبق تقريره بشأن دور القضاء الإداري في رقابة دستورية اللوائح الصادرة عن السلطة التنفيذية، سواء بالاستناد إلى نصوص الدستور أو إلى المبادئ العامة للقانون، فإنه من اللازم التقرير بان اللوائح بطبيعتها ومهما كانت مجرد قرارات إدارية، وقاضيها الطبيعي هو مجلس الدولة، ومن ثم كون نظرية المبـادئ العـامة للقـانون ملاذا لمجلس الدولة لاستعادة اختصاص جوهري انتزع منه أو تنازل هو عنه بغير حق ( ).
الخاتمة
من خلال هذه الدراسة تتبدى أمامنا مفارقة عجيبة مفادها ذلك البون الشاسع بين النظرية والممارسة:
- فمبدأ التدرج القانوني في التنظير – مضمونا ونتائج – يتيح المجال واسعا للطموح والأمل في تحقيق دولة القانون وتجسيدها، لأنه يقدم بالفعل ضمانا أكيدا لخضوع كل النشـاطات العامة للقانون، وذلك بما يضعه من قيود عليها وما يرتبه من جزاءات على تجاوزها .
- وأما في الممارسة، فتكشف الحالات العديدة والخطيرة للتعارض بين التشريعات المتفاوتة في مرتبتها الإلزامية عن تهرب القضاء – وهو السلطة الرقابية الحامية للشرعية في الدولة – من مواجهة المشكلة وتطبيق المبدأ، فلا نجد حالة واحدة تمسك فيها القاضي الجزائري باختصاصه الرقابي على دستورية القوانين ولا للتطبيق المباشر للنص الدستوري، فيما نجد مناسبتين فحسب لتكريس القضاء الجزائري سمو الاتفاقيات على القوانين وإحدى هاتين الحالتين تمثل خطأ فادحا لتعلقها بالميدان الجزائي الذي يقوم على مبدأ الشرعية في التجريم والعقاب بما يخرج المعاهدات من هذا الميدان طالما لم تكرس في قواعد تشريعية صادرة عن البرلمان، والمناسبة الثانية إنما يتعلق الأمر بقانون سابق للمصادقة على المعاهدة، فنكون أمام حالة عادية لإلغاء النص اللاحق للنص السابق أكثر مما نكون أمام رقابة سمو المعاهدات، ولا نجد إلا قرارين فحسب للمحكمة العليا تتعلقان برقابة القضاء العادي لمدى مطابقة اللوائح التنفيذية للقوانين الصادرة عن البرلمان، وكليهما تتعلق بنفس المسألة حيث أعلنت المحكمة العليا صراحة تطبيقها لمبدأ تدرج القوانين وأثارته تلقائيا وحددت بدقة مضمونة ونتائجه، وهو ما يمثل بحق سابقة قضائية جديرة بالتنويه والإشادة.
وفي نفس الإطار كانت مناسبة الطعن في قرار العزل التأديبي الصادرة عن المجلس الأعلى للقضاء ضد احد القضاة الفرصة المواتية لمجلس الدولة، الذي أصدر قرارين حول نفس القضية تجسدان جرأة القاضي الإداري في الخروج عن النص التشريعي إذا كان مجافيا للمبادئ العامة للقانون باعتبارها ذات طبيعة دستورية، ذلك انه اعتمد مبدأ المساواة المكفولة دستوريا لرفض إعمال حصانة قرارات المجلس الأعلى للقضاء في الميدان التأديبي رغم أن النص التشريعي صريح على حصانتها ضد أي طعن.
إنه مما لا شك فيه أن هذه المناسبات رغم قلتها تكشف عن استعداد من القاضي الجزائري للحاق بركب القضاء المقارن، وتكريس مبدأ التدرج القانوني، والتكفل بانشغال إكمال التشريع وتحقيق انسجامه بما يجعل القضاء بحق حاميا للشرعية وضامنا للحقوق والحريات، وهذا ليس معناه أن القاضي الجزائري قد بلغ النضج الكافي في هذا المجال إذ لا يعكس اجتهاده غالبا هذا المبدأ الجوهري فهل معنى ذلك أن القاضي الجزائري يحجم عن الاجتهاد لنقص في الكفاءة أو الشجاعة ؟أم أن في ذلك اقتناع منه بانحصار دوره في تطبيق القانون دون التعرض لصحته ؟ولماذا تخلو أحكام القضاء الجزائري خلافا للقضاء المقارن في التسبيب من مسألة التعارض القانوني ؟ وبعبارة أخرى لماذا لم يهتم القاضي الجزائري بالوقوف على حالات النقص والعيب والتعارض في التشريع ؟ ألا يعد اجتهاد القاضي بما يكمل النقص ويصلح العيب ويزيل التعارض هو وسيلته الوحيدة لتحقيق العدالة وهي مبتغى القاضي وهدفه الوحيد ؟
من الواضح أن تقييم أي نظام قضائي لابد أن يمر عبر قناة من التساؤلات، والتي يتوجب على القضاة مواجهتها وتقديم الإجابات التي ترضى ضمائرهم عنها، ولعل التساؤلات سالفة الذكر بعضا من تلك الأسئلة التي يجب على القضاة مواجهتها، وقد تكون هذه المذكرة فاتحة لهذا الباب .