للطبيعة صدىً واسع في حياة العربي في مشرقه ومغربه ، فهي مؤثرة في ثقافته وفكره . فللأندلس طبيعة وافرة الجمال،... كل ذلك له أثره وهذا ولا شك ما جعل الشعراء الأندلسيين يتحسسون الطبيعة الساحرة الحية الجميلة وتغريد طيورها والجامدة ..ب جبالها الجميلة الخضراء وسهولها وكان قسما منها هم منتجوه تمثل بمعالم التحضر وبناء القصور، المدن والبرك الجميلة لتكون موطنا للوصف البديع الرائق من خلال مجالس الترف ، فوردت في شعرهم معالم الطبيعة ، فكان منها وصف للرياض بأزهارها وورودها وأشجارها وطيورها وأصناف الرياحين فيها ، ووصف للبرك والأنهار والتغني بقصورهم ومدنهم مما فاق وصفهم لمعطيات الطبيعة الصامتة بجبالها وأنهارها وبحرها...الخ .
وأبرز سمات هذا الوصف التمازج بين أطياف الطبيعة بما يحويه المنظر الجميل وبين جمال اللغة ورقة الألفاظ والمعاني والتعابير الدقيقة فازدحم بصور متنوعة ملونة تمثل البيئة الطبيعية في هذه الرقعة المسماة بالأندلس. ومن هنا تشكلت صورة الأندلس في الأذهان متقاربة في أوصافها وألوانها وقسماتها...
هذه الصورة على العموم تأخذ عطرها وعبقها وملامحها وألوانها من الطبيعة, فهي أقرب إلى ل فنية ناطقة وهذا ماجعل الأندلسيين متفوقين في شعر الطبيعة على المشارقة لان معطيات الطبيعة في البيئتين مختلفة,.
يا أهــل الأندلس لله دركـــــم ماء وظل وأنـــــهار وأشـجار ماجنة الخلد إلا في دياركم ولو تخيرت هذا كنت اختار
ولم يكن وصف الطبيعة وقفا على الشعر بل انه تعداه إلى النثر فهناك مؤلفات نثرية كثر ومنها رسائل في أصناف الزهور والتفضيل فيما بينها ، أضف إلى ذلك انعكاس مظاهر الطبيعة على المنتج التاليفي فهناك كتاب الحدائق وكتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وغيرها كثير .
ويصف الدارسون عصر الطوائف بعصر الازدهار والترف والغنى والغناء وهذا الوصف يبدو ملائماً لما ورد في وصف الطبيعة في هذا العصر. ولكون عصر الطوائف يمثل عصراً وسيطاً بين نشوء الدولة العربية الإسلامية وبين سقوطها في نهاية عصر بني الأحمر وانشغال عصر بني أمية في هذه النشأة وانشغال عصر بني الأحمر في الحفاظ على ما تبقى منها . لم يكن وصف الطبيعة هاجساً يثير انتباه الشعراء في هذين العصرين أكثر من فخرهم وغزلهم وهجائهم ومدحهم ، لذا كان في طليعة الأسباب أن يأخذ وصف الطبيعة حيزاً في عصر الطوائف هو الاستقرار السياسي الداخلي والترف المادي والفكري والغناء وصفاء النفوس .
فمن النصوص الواردة في هذا الموضوع بيتا شعر لعبد الرحمن الأوسط من مقطوعة قصيرة يرد فيها ارتجالا على شاعر بلاطه ابن الشمر ، وقد قرن وصفه للطبيعة بجمال حبيبته ، فيقول له:
ترى الوردَ فوق الياسمينِ بخدِّها
فلو أنني مُلِّكْتُ قلبي وناظري
كما فَوَّف الروضُ المنَوَّرُ بالزهرِ ()
نَظَمْتُها منها على الجيد والنحرِ
ثم يخاطبه وقد استعمل جمال القطر وعليل النسيم وطيب الروائح أدوات إغراء للإقبال عليه من دون عذر أو بطء ، فيقول له:
ما تراهُ في اصطباحٍ
ونسيمُ الروض يختا
كلما حاول سَيْقاً
لا تكُنْ مِِهْمَالةً واسْـ
وعُقُودُ القَطْر تُنْثَرْ ؟
ل على مسكٍ وعَنْبَرْ
فهوَ في الرَّيحَانِ يَعْثُرْ
ـبقْ فما في البُطْءِ تُعْذَرْ
وقد انماز وصفهم بتكثيف الصور وتلاحقها ، فابن رزين ذو الرياستين عنى في إخراج الصورة عناية فائقة إذ يقول في وصف روض في قصيدة منها, قوله :
وروضٍ كساه الطلُّ وشياً مجدَّدَا
إذا صافحتْه الريح ظلتْ غصونُهُ
إذا ما انسيابُ الماء عاينتَ خِلتَهُ ،
فأضحى مُقيماً للنفوس ومُقعدَا
رواقصَ في خُضرٍ من العَصْبِ مُيَّدَا
وقد كسَّرتْهُ راحةُ الريح ، مِبردا
فالشاعر في كل بيت من أبياته صرف عنايته إلى إخراج صورته بدقة مستعملآ اللغة الجميلة ، والألفاظ العذبة ، والتعابير الدقيقة . فرصـــد كـلَّ حركات المنظر من رقة الأغصان وانسياب الماء وحركة الريح ، جاعلاً صورة الترغيب للنفوس مدخلاً لقصيدته ونهاية لها .
في حين لجأ المعتصم بن صمادح في وصف روضه إلى الوصف المحاكاتي / التشخيص وهو خلع الحالات الإنسانية على الأشياء ، فالروض يشرب والأنوار تنسكب:
الرّوضُ يَشربُ والأنوارُ تنْسكبُ
وللبهار على أفنانِهِ زهرٌ
والشَّمسُ تَظْهرُ أحياناً وتَحتَجبُ
كأنّهُ فِضَّةٌ من فَوقِها ذَهبُ
فالمجتمع الأندلسي يتمتع بمدخلات ثقافية قائمة على علوم العربية وآدابها،ومدخلات بصرية تمثلت بما رآه الأندلسي من طبيعة تستثير العواطف وتحرك الخيال، كل ذلك جعل الشعر مادة هذا المجتمع طبعًا وسليقة فبلغ فن وصف الطبيعة في الأندلس - ولاسيما في منتصف القرن الرابع الهجري وما بعده - مبلغاً متقدماً إذ تمازج مع العرف الاجتماعي . فصار وصف الطبيعة جزءاً من هذا العرف ، إذ إنهم يستعملون البيت أو البيتين منه / مقطوعة صغيرة كبطاقة دعوة أو بطاقات يتبادلها الأصدقاء والملوك والوجهاء ، تجد فيها الابتكار والصورة الجميلة
فجعل من الطبيعة إغراء للحضور وترغيباً بمجلسهِ . ومن جميل الاقتران تشبيه جمال الطبيعة بجمال غلام لمحمد بن هشام المهدي ولعل ما قادَه إليه كون الطبيعة والغلام كليهما من نتاج هذه البيئة فوحد بينهما قائلاً:
أهْديتَ شِِبْهَ قَوَامك الميَّاسِ
وكأنَّما يَحْكيك في حَرَكاته
غُصناً رطيباً ناعماً من آسِ
وكأنَّما تحكيه في الأنفاسِ
وقلما نجد مقطوعة خالصة في وصف الطبيعة ، فغالباً ما يقترن هذا الوصف بما يبعث الأنس والنشوة ، كالخمر وجمال الحبيبة أو وسامة غلام ، ذلك في السياق الزمني الأول لشعر الطبيعة قبل أن يكون غرضاً مستقلاً إبان عصر الطوائف وما بعد ذلك .
فالمعتضد في مقطعاته الشعرية يحسن صناعة هذا الاقتران (الطبيعة والخمر والمرأة) فيقول:
شرِبنا وجفنُ الليل يغسلُ كحلَه
مُعتقةٌ كالتبَر ، إما بخارهُا
بماءِ صباحٍ والنسيمُ رقيق
فضخمٌ وإما جسمُها فدقيق
أما عن اقترانها بالمرأة ، فيقول ابن زيدون:
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا
والروض عن مائه الفضي مبتسم
والأفق طلق ومرأى الأرض قد راقا
كما شققت عن اللبات أطواقا
وله وللشعراء في ذلك كثير .
وتبقى الطبيعة هاجسا من هواجس النفس الأندلسية هذا الهاجس قاد بقدر ما إلى التحرر من معاني البداوة التي عكف عليها الشعر العربي في الأندلس وتحديداً بعد القرن الرابع الهجري .
وصف الطبيعة من ابرز أغراض الشعر عند شعراء الأندلس،حيث تهيئت لهم أسباب الشعر ودواعيه فشغفت بها القلوب وهامت بها النفوس.
ومن هنا نجد تَعَلُّق الأندلسيين بها، يسرحون النظر في خمائلها، وأخذ الشعراء والكتاب ينظمون درراً في وصف رياضها ومباهج جنانها.:
حـبذا أنـدلسٍ من بـلدٍ لم تـزل تنتج لـي كل سـرورْ
طـائرٌ شادٍ وظـلٌ وارفٌ ومـياهٌ سائحـاتٌ وقـصــور
ولم يكن جمال الطبيعة في الأندلس هو وحده الذي ساعد على ازدهار شعر الطبيعة هذا، بل أن حياة المجتمع الأندلسي أثرت أيضاً في هذا الشعر، الذي يمثل تعلق الشعراء الأندلسيين ببيئتهم وتفضيلها على غيرها من البيئات، ولكون الشعر عندهم يصف طبيعة الأندلس سواء الطبيعية أو الصناعية، فهم يصورونها عن طريق الطبيعة كما أبدعها الله في الحقول والرياض والأنهار والجبال والسماء والنجوم، ويصفونها كما صورها الفن لديهم في القصور والمساجد والبرك والأحواض وغيرها
و قد كان وصف الطبيعة في الشعر العربي منذ العصر الجاهلي إذ وصف الشعراء صحراءهم وتفننوا في وصفها لكن هذا الوصف لم يتعد الجانب المادي وفي العصر الأموي والعباسي عندما انتقل العرب المسلمون إلى البلدان المفتوحة وارتقت حياتهم الاجتماعية أضافت على وصف الطبيعة وصف المظاهر المدنيَّة والحضارة وتفننوا , فمن ذلك فقد وصف الطبيعة عند الشعراء العباسيين أمثال النجدي والصنوبري وأبي تمام وأبي بكر النجدي الذي عاش في بيئة حلب ولكن ما الجديد الذي جاء به الأندلسيون بحيث أن هذا الموضوع أصبح من الأغراض والموضوعات التي عرف بها أصل الأندلس.
• عوامل ازدهار شعر الطبيعة في الشعر الأندلسي:
ازدهار الحضارة العربية في الأندلس ازدهارا كبيرا وهذا الازدهار الذي شمل جميع جوانب الحياة الأندلسية .
• جمال الطبيعة الأندلسية التي افتتن بها شعراء الأندلس وتعلقوا بها وفصَّلوا في وصفها والتغني بمفاتنها .
• ازدهار مجالس الأنس والبهجة واللهو حيث كانت هذه المجالس تُعقدُ في أحضان الطبيعة .
• خصائص شعر الطبيعة
أفرد شعراء الطبيعة في الأندلس قصائد مستقلة ومقطوعات شعرية خاصة في هذا الغرض بحيث تستطيع هذه القصائد باستيعاب طاقة الشاعر التصويرية وخياله التصوري , غير الالتزام الذي تسير عليه القصيدة العربية فلم يترك الشاعر زاوية من زوايا الطبيعة إلا وطرقها .
• يعتبر شعر الطبيعة في الأندلس صورة دقيقة لبيئة الأندلس ومرآة صادقة لطبيعتها وسحرها وجمالها فقد وصفوا طبيعة الأندلس الطبيعية والصناعية مُمَثَّلة في الحقول والرياض والأنهار والجبال وفي القصور والبرك والأحواض .
• تُعد قصائد الطبيعة في الأندلس لوحات بارعة الرسم أنيقة الألوان محكمة الظلال تشد انتباه القارئ وتثير اهتمامه .
• أصبح شعراء الطبيعة نظراً للاهتمام به يحل محل أبيات النسيب في قصائد المديح , بل إن قصيدة الرثاء لا تخلو من جانب من وصف الطبيعة .
• أصبحت الطبيعة بالنسبة لشعراء الأندلس ملاذاً وملجأ لهم يبثونها همومهم وأحزانهم وأفراحهم وأتراحهم إلا أن جانب الفرح والطرب غلب على وصف الطبيعة فتفرح كما يفرحون وتحزن كما يحزنون .
• وصف الطبيعة عند شعراء الأندلس مرتبطاً ومتصلاً بالغزل والخمر ارتباطاً وثيقاً فوصف الطبيعة هو الطريق إليها فكانت مجالس الغزل والخمر لا تعقد إلا في أحضان الطبيعة .
• المرأة في الأندلس صورة من محاسن الطبيعة , والطبيعة ترى في المرأة ظلها وجمالها فقد وصفوا المرأة بالجنة والشمس , بل إنهم إذا تغزلوا صاغوا من الورد خدوداً ومن النرجس عيوناً ومن السفرجل نهوداً ومن قصب السكر قدوداً ومن ابنة العنب ( الخمر ) رضابا.
أصناف من الوصف في شعر الطبيعة:
هنا سنعرض بض الأصناف التي امتاز الشعراء في وصفها وتصويرها حتى ان قارئ القصيدة يسلتهم جمالها وكأنه يراها أمامه, وقد استقراء الشعراء مجال البيئة وتضاريسها ومعطيات الحيات الكونية فيها.
وسنستهل تلك الأصناف بمايلى:-
الروضييات.
وهو الشعر المختص في الرياض وما يتصل بها.
سنستهل الكلام عن الروّضِيات بهذه الأبيات الرائعة وهذه أبيات جميلة للشاعر الوزير عبدا لله بن سماك والذي يقول فيها:
الروض مخضرٌ الربى متجملٌ للناظرين بأجمل الألوانِ
وكأنما بسطت هناك شوارها خودٌ زهت بقلائد العقيانِ
والطير تسجع في الغصون كأنما نقرُالقِيان حنت على العيدانِ
والماء مطَّردٌ يسيل لعابه كسلاسلٍ من فضةٍ وجمانِ
بهجات حسنٍ أُكملت فكأنها حسن اليقين وبهجة الإيمانِ
الزهريات : الشعر المختص بالأزاهير .
وقد وصف الأندلسيون الأزهار وأكثروا في هذا النوع من الوصف فوصفوا الورد والنرجس والشقائق والنيلوفر والياسمين والقرنفل واللوز وغير ذلك مما وقعت عليه عيونهم في تلك الطبيعة الخلابة من زهريات وسنستعرض بعض
الأمثلة الجميلة التي قيلت في بعض منها,فهذا ابن حمديس يرثي باقة ورد أصابها الذبول فتحرق حزناً وأسى عليها فقال هذين البيتين
يا باقة في يميني بالردى ذبلت أذاب قلبي عليها الحزن والأسفُ
ألم تكوني لتاج الحسن جوهرةً لما غرقتِ،فهلاَّ صانك الصدفُ .
الثمريات
وهو الشعر المختص بالأثمار,والبقول,وما يتصل بها.
وصف الأندلسيين للثمرة نفسها فقد وصفوا التفاحة والسفرجل والرمانة والعنب وحتى الباذنجان !! وأبدعوا في ذلك كثيرا فقال أبو عثمان ألمصحفي وقد تأمل ثمرة السفرجل الأبيات التالية الرائعة المحبوكة في نسيج رائع, ولفظ رقيق ومعنى أنيق موشى بلوعة حب وشكوى صب رغم إنه شطح في آخرها قليلاً ( وزودها ) حتى نسي إن ما بين يديه ما هو إلا حبة من السفرجل!!ويقول:
ومصفرَّةٍ تختال في ثوب نرجس وتــعبق عن مسك زكيِّ التنفس
لها ريح محبوبٍ وقسوة قلــــــبه ولونُ محبٍ حُلَّةَ السُــقم مـكتسي
المائيات
الشعر المختص بوصف الأنهار,والبرك, والسواقي.
كانت الأنهار الكثيرة الوفيرة المياه،وما يتشعب عنها من برك،وخلجان,وغدران،وما ينبت على شواطئها,من حدائق،ورياض،وما يصاحبها من ظواهر طبيعية كمد,وجزر,وفجر,ونهار,وليل,وشمس,وأصيل من مظاهر الطبيعة الخلابة في بلاد الأندلس؛وكانت أكبر المدن مثل قرطبة وأشبيلية وغرناطة تقع على تلك الأنهار,التي كانت ترفد الأرض بالخصب,والعطاء فاتخذ الأندلسيون من ضفافها مراتع للمتعة,واللهو,ومن صفحاتها ساحات تمرح عليها زوارقهم,وأشرعتهم,وهم في هذه وتلك يعزفون أعذب الألحان,ويتغنون باعذب الشعر وأرقه....
وهذه الأبيات الرائعة لابن حمديس في وصف بركة من الماء في أحد القصور وقد احتوت على تماثيل لأسود تقذف الماء من أفواهها...
ولعل لفن النقش والنحت والزخرفة الذي كأن سائداً آنذاك أثر كبير في جمال هذه الصورة التي رسمها الشاعر بكل براعة:
وضراغمٍ سكنت عرين رياسة ٍتركت خرير الماء فيه زئيرا
فكأنما غشَّى النُّضارُ جسومَها وأذاب في أفواهها البلورا
الثلجيات
الشعر المختص في الثلج والبرد...
ننتقل الآن إلى الثلج الجميل الذي يكسو الأرض والسطوح والسفوح والأغصان العارية,بغلالة بيضاء نظيفة ناصعة وطاهرة,وكإنه قطن مندوف فيبعث في النفس بهجة ما لها مثيل, وعلى كل حال يبقى ما قيل في الثلجيات أقل مما قيل في الروضيات والمائيات حيث بدأ هذا النوع من الوصف متأخراً في بلاد الأندلس كمثيله في الشرق ومن الأبيات الرائعة التي قيلت في الثلج تلك التي قالها أبو جعفر بن سلام المعا فري المتوفى عام 550م وقال فيها:
ولم أر مثل الثلج في حسن منظر تقر به عينٌ وتشْنَؤه نفسُ
فنارٌ بلا نور يضيء له سناً وقطرٌ بلا ماءٍ يقلِّبه اللمسُ
إن "شعر الطبيعة" كمصطلح تعبير جديد في أدبنا، لكن "شعر الطبيعة" كظاهرة وغرض وفن، موجود في الشعر العربي من قديم، لكن الجديد الذي أدخله الغربيون هو المصطلح فقط؛ فـ"شعر الطبيعة" تعبير جديد في أدبنا، أطلقه الغربيون على الشعر الذي كان من أهم مظاهر الحركة الإبداعية الرومانسية في أواخر القرن الثامن عشر، وقد وجد الشعراء في الطبيعة تربةً خصبةً لنمو العواطف الإنسانية، وواحة للنفوس المتعبة القلقة، وشعر الطبيعة في فجره عند العرب كان صورةً لما تراه العين، أكثر من كونه مشاركةً للعواطف التي توحي بها الطبيعة، وانفعالًا ذاتيًّا للشعور.
وفي ظلال العباسيين استطاع بعض فحول الشعر أن يضيفوا إلى الأوصاف المادية للطبيعة حسًّا وذوقًا؛ فائتلفوا معها -أي: مع الطبيعة- واستغرقوا في نشوة جمالها، وبادلوها عاطفةً بعاطفة وحبًّا بحب، ومن هؤلاء الشعراء العباسيين، الذين أضافوا إلى الأوصاف المادية حسًّا وذوقًا: "أبو تمام" و"البحتري" و"ابن الرومي" و"ابن المعتز" و"الصنوبري
و من رواد شعر الطبيعة في الأندلس الشاعر (ابن خفاجة), و قد قال في الجبل حين راح يتأمله و يفضي اليه:
وأرعن طماح الذؤابة باذخ يطاول أعنان السماء بغارب
وقور على ظهر الفلاة كأنه طوال الليالي مفكر في العواقب
أصغت إليه وهو أخرس صامتٌ فحدثني ليل الثرى بالعجائب
فأسمعني من وعظه كل عبرةٍ يتجرمها عنه لسان التجارب
فسلى بما أبكى وسر بما شجى وكان على ليل الثرى خير صاحب
قد كان "ابن خفاجة" بارعًا في تصوير هذا الجبل الأخرس، ومزج مشاعره به، مما جعل الصور التي عرضها له نابضةً حية، تثير فينا شتى الخواطر والتأولات، والأحاسيس والخواطر والأفكار، ووجدنا ما في تصوير "ابن خفاجة" من التحليل والاستقصاء، وإكثار الرجل من الصور الخيالية، و جاءت قصيدة الجبل عند "ابن خفاجة" نسقًا شعريًّا متكاملًا ذا شعابٍ وأفانين، لقد تألق الأندلسيون في هذا الروض الإبداعي -وهذا شيء يذكر لهم- حين رأيناهم يمزجون في شعر الطبيعة بين الطبيعة والحب، ورأوا في مظاهر الطبيعة صفات من يحبون، واتخذوا من مباهج الطبيعة أداة للتذكر،
أما ابن زيدون فهو أهم شاعر وجداني في الأندلس
وهو أول من اعتصر فؤاده شعرًا فيه جوًى وحرقة وهوى ولوعة، وتلوح لأولي البصر عبقريته الفذة ونضجه الشعري بعد أن صهرته محنة السجن، وعذاب الصدود والهجر، فكانت تجربته الشعرية عصارة نفس متألمة أو صرخة إنسانية لهيفة ارتفعت بتجربة الشعر على جناح الطبيعة إلى مستوًى فنيًّ رفيع، وقد عرفنا إن مجال إبداع الأندلسيين في هذا المجال أنهم مزجوا بين الطبيعة والحب، هذه الصرخة الإنسانية اللهيفة عند "ابن زيدون" ارتفعت بتجربة الحب على جناح الطبيعة إلى مستوًى فني رفيع، لم نعهده في أدب المشرق وقتذاك، فتجربة ابن زيدون تجربة نفسية وجدانية متكاملة، تكاد ترى نفس "ابن زيدون" ذائبة في حواشيها حسرة وشوقًا، على أنه من أروع ما وفق إليه شاعر الأندلس الملهم براعته الفائقة في تشخيص مظاهر الطبيعة، وتحولها على يديه إلى أحياء ينفعلون ويتحركون على مسرح الفن الشعري، فهي -أي الطبيعة- في خياله وحضوره العاطفي المتوهج تنبض بالحياة، وتفيض بالمشاعر، بل وتشاركه آلامه وآماله في مشاركة وجدانية رائعة، وتلاحم عاطفي أكثر روعة ندر في شعر المشارقة وقلّ في شعر الأندلسيين، وقصيدته القافية تؤكد هذا الجانب الإبداعي عند "ابن زيدون" والتي منها:
إني ذكرتك بالزهراء مشتاق والأُفق طلقٌ ووجه الأرض قد راق
وللنسيم اعتلال في أصائله كأنه رقّ لي فاعتل إشفاق
والروض عن مائه الفضي مبتسم كما شققت عن اللبات أطواق
إنها رسالة أو صرخة إنسانية لهيفة، بعث بها على جناح الطبيعة إل "ولادة
لقد كان "ابن زيدون" بهذه الخاصية الإبداعية رائدًا إلى الشعر الرومانسي في القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي، والذي عرفته الآداب الأوربية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، فابن زيدون بوصف الطبيعة من خلال نوازعه العاطفية وأشجان حبه الذاتية يمثل خطوة رائدة في أدب الطبيعة عند العرب، ويعد مظهرًا من أبرز مظاهر التجديد في شعر الطبيعة الأندلسي، بل يمكننا أن نعتبر ابن زيدون مصدرًا عربيًّا عريقًا للأدب العالمي في الاتجاه نحو الطبيعة، وتوظيفها في الفن الشعري بعامة والنسيب منه بخاصة، ولا نقول ذلك رجمًا بالغيب، أو تعصبًا لأبناء جلدتنا من العرب، أو حميةً لأبناء عقيدتنا من المسلمين، بل هو استنتاج ورأي نشفعه بالدليل، أليس تمثل الطبيعة والاندماج فيها وتقمصها تقمصًا وجدانيًّا في الشعر الغنائي، الذي رأينا أنموذجه عند "ابن زيدون" في القرن الحادي عشر الميلادي هو ما أراده النقد الأدبي الرومانسي في أوربا بعد ذلك في القرن التاسع عشر عند حديثه عن أثر الطبيعة ودورها الفاعل في الأدب والإبداع الفني؟
اختي تفضلي يمكنك تلخيص ما تحتاجينه من هنا فهو موضوع شامل
وفقك الله