في فوائد العزلة وغوائلها وكشف الحق في فضلها - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > القسم الاسلامي العام

القسم الاسلامي العام للمواضيع الإسلامية العامة كالآداب و الأخلاق الاسلامية ...

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

في فوائد العزلة وغوائلها وكشف الحق في فضلها

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2015-07-19, 20:32   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
بوزيد.
عضو مشارك
 
الصورة الرمزية بوزيد.
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي في فوائد العزلة وغوائلها وكشف الحق في فضلها

في فوائد العزلة وغوائلها وكشف الحق في فضلها.

اعلم أن اختلاف الناس في هذا يضاهي اختلافهم في فضيلة النكاح والعزوبة.وقد ذكرنا أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص بحسب ما فصلناه من آفات النكاح وفوائده، فكذلك القول فيما نحن فيه.فلنذكر أولا فوائد العزلة وهي تنقسم الى فوائد دينية ودنيوية.والدينية تنقسم إلى ما يمكن من تحصيل الطاعات في الخلوة والمواظبة على العبادة والفكر وتربية العلم،وإلى تخلص من إرتكاب المناهي التي يتعرض الإنسان لها بالمخالطة،كالرياء والغيبة والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة والأعمال الخبيثة من جلساء السوء.وأما الدنيوية فتنقسم إلى ما يمكن من التحصيل بالخلوة؛كتمكن المحترف في خلوته إلى ما يخلص من محذورات يتعرض لها بالمخالطة،كالنظر إلى زهرة الدنيا وإقبال الخلق عليها وطمعه في الناس وطمع الناس فيه وانكشاف ستر مروءته بالمخالطة والتأذي بسوء خلق الجليس في مرائه أو سوء ظنه أو نميمته أو محاسدته أو التأذي بثقله وتشويه خلقته.وإلى هذا ترجع مجامع فوائد العزلة فالنحصرها في ست فوائد.

الفائدة الأولى

التفرّغ للعبادة والفكر والاستئناس بمناجاة اللّه

تعالى عن مناجاة الخلق، والاشتغال باستكشاف أسرار اللّه تعالى في أمر الدنيا والآخرة وملكوت السموات والأرض

فإن ذلك يستدعي فراغاً ولا فراغ مع المخالطة، فالعزلة وسيلة اليه. ولهذا قال بعض الحكماء: لا يتمكن أحد من الخلوة إلا بالتمسك بكتاب الله تعالى. والمتمسكون بكتاب اللّه تعالى هم الذين استراحوا من الدنيا بذكر اللّه الذاكرون اللّه باللّه عاشوا بذكر اللّه وماتوا بذكر اللّه ولقوا اللّه بذكر اللّه.ولا شك في أن هؤلاء تمنعهم المخالطة عن الذكر والفكر فالعزلة أولى بهم.ولذلك كان صلى اللّه عليه وسلم في ابتداء أمره يتبتل في جبل حراء وينعزل إليه حتى قوي فيه نور النبوة فكان الخلق لايحجبونه عن اللّه فكان ببدنه مع الخلق وبقلبه مقبلاً على اللّه تعالى حتى كان الناس يظنون أن أبا بكر خليله.فأخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم عن استغراق همه باللّه فقال"لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل اللّه"ولن يسع الجمع بين مخالطة الناس ظاهراً و الإقبال على اللّه سراً إلا قوة النبوة فلا ينبغي أن يغتر كل ضعيف بنفسه فيطمع في ذلك،ولا يبعد أن تنتهي درجة بعض الأولياء إليه.فقد نقل عن الجنيد أنه قال:أنا أكلم اللّه منذ ثلاثين سنة والناس يظنون أني أكلمهم.وهذا إنما يتيسر للمستغرق بحب اللّه استغراقاً لا يبقي لغيره فيه متسع وذلك غير منكر،ففي المشتهرين بحب الخلق من يخالط الناس ببدنه وهو لا يدري ما يقول ولا ما يقال له لفرط عشقه لمحبوبته.بل الذي دهاه ملم يشوّش عليه أمراً من أمور دنياه فقد يستغرقه الهم بحيث يخالط الناس ولا يحس بهم ولا يسمع أصواتهم لشدة استغراقه.وأمر الآخرة أعظم عند العقلاء فلا تستحيل ذلك فيه ولكن الأولى بالأكثرين الاستعانة بالعزلة.ولذك قيل لبعض الحكماء?ما الذي أرادوا بالخلوة واختيار العزلة?فقال:يستدعون بذلك دوام الفكرة وتثبت العلوم في قلوبهم ليحيوا حياة طيبة ويذوقوا حلاوة المعرفة.وقيل لبعض الرهبان:ما أصبرك على الوحدة!فقال:ما أنا وحدي أنا جليس اللّه تعالى إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه وإذا شئت أن أناجيه صليت.وقيل لبعض الحكماء:إلى أي شئ أفضى بكم الزهد والخلوة?فقال:إلى الأنس باللّه.وقال سفيان بن عيينة:لقيت ابراهيم بن أدهم رحمه الله في بلاد الشام فقلت له:يا إبراهيم تركت خراسان?فقال:ما تهنأت بالعيش إلا ههنا أفرّ بديني من شاهق الى شاهق،فمن يراني يقول موسوس أو حمال أو ملاح.وقيل لغزوان الرقاشي:هبك لا تضحك فما يمنعك من مجالسة إخوانك?قال:إني أصيب راحة قلبي في مجالسة من عنده حاجتي.وقيل للحسن يا أبا سعيد:ههنا رجل لم تره قط جالساً إلا وحده خلف سارية.فقال الحسن:إذا رأيتموه فأخبروني به؛فنظروا إليه ذات يوم فقالوا للحسن:هذا الرجل الذي أخبرناك به?وأشاروا إليه؛فمضى إليه الحسن وقال له:يا عبد اللّه أراك قد حببت إليك العزلة فما يمنعك من مجالسة الناس?فقال:فما يمنعك أن تأتي هذا الرجل الذي يقال له الحسن فتجلس إليه?فقال أمر شغلني عن الناس.وعن الحسن:فقال له الحسن وما ذاك الشغل يرحمك الله?فقال:إني أصبح وأمسي بين نعمة وذنب فرأيت أن أشغل نفسي بشكر اللّه تعالى على النعمة والإستغفار من الذنب فقال له الحسن:أنت ياعبد اللّه أفقه عندي من الحسن فالزم ما أنت عليه.وقيل:بينما أويس القرني جالس إذ أتاه هرم بن حيان فقال له أويس:ما جاء بك?قال:جئت لآنس بك،فقال أويس:ما كنت أرى أن أحداً يعرف ربه فيأنس بغيره؛وقال الفضيل:إذا رأيت الليل مقبلاً فرحت به وقلت أخلو بربي،وإذا رأيت الصبح أدركني استرجعت كراهية لفاء الناس وأن يجيئني من يشغلني عن ربي.وقال عبد اللّه بن زيد:طوبى لمن عاش في الدنيا وعاش في الآخرة،قيل له: وكيف ذلك? قال: يناجي اللّه في الدنيا ويجاوره في الآخرة.وقال ذو النون المصري:سرور المؤمن ولذته في الخلوة بمناجاة ربه.وقال مالك بن دينار:من لم يأنس بمحادثة المخلوقين فقد قل علمه وعمي قلبه وضيع عمره.وقال ابن مبارك:ما أحب حال من انقطع الى اللّه تعالى!ويروى عن بعض الصالحين أنه قال:بينما أنا أسير في بعض بلاد الشام إذا أنا بعابد خارج من بعض تلك الجبال فلما نظر إلىي تنحى الى أصل شجرة وتستر بها فقلت:سبحان اللّه تبخل علي بالنظر إليك?فقال:هذا إني أقمت في هذا الجبل دهراً طويلاً أعالج قلبي في الصبر عن الدنيا وأهلها فطال في ذلك تعبي وفني فيه عمري فسألت اللّه تعالى أن لا يجعل من أيامي في مجاهدة قلبي،فسكنه اللّه عن الإضطراب وألفه الوحدة والإنفراد،فلما نظرت إليك خفت أن أقع في الأمر الأول لإغليك عني فإني أعوذ من شرك برب العارفين وحبيب القانتين،ثم صاح:وا غماه من طول المكث في الدنيا،ثم حوّل وجهه عني،ثم نفض يديه وقال:إليك عني يا دنيا لغيري فتزيني وأهلك فغري،ثم قال:سبحان من أذاق قلوب العارفين من لذة الخدمة وحلاوة الإنقطاع إليه ما ألهى قلوبهم عن ذكر الجنان وعن الحور الحسان،وجمع همهم في ذكره فلا شئ ألذعندهم من مناجاته.ثم مضى وهو يقول:قدوس قدوس.فإذاً في الخلوة أنس بذكر اللّه واستكثار من معرفة اللّه وفي مثل ذلك قيل : وإني لأستغشى وما بي غشوة لعل خيالاً منك يلقى خيالـيا

وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا

ولذلك قال بعض الحكماء:إنما يستوحش الإنسان من نفسه لخلق ذاته عن الفضيلة فيكثر حينئذ ملاقاة الناس ويطرد الوحشة عن نفسه بالكون معهم،فإذا كانت ذاته فاضلة طلب الوحدة ليستعين بها على الفكرة ويستخرج العلم والحكمة.وقد قيل الإستئناس من علامات الإفلاس فإذاً هذه فائدة جزيلة ولكن في حق بعض الخواص ومن يتيسر له بدوام الذكر الأنس باللّه أو بدوام الفكر التحقق في معرفة اللّه فالتجرد له أفضل من كل ما يتعلق بالمخالطة.فإن غاية العبادات وثمرة المعاملات أن يموت الإنسان محباً للّه عارفاً باللّه ولا محبة الا بالأنس الحاصل بدوام الذكر ولا معرفة إلا بدوام الفكر.وفراغ القلب شرط في كل واحد منهما ولا فراغ مع المخالطة.

الفائدة الثانية

التخلص بالعزلة عن المعاصي

التي يتعرض الإنسان لها غالبا بالمخالطة ويسلم منها في الخلوة

وهي أربعة:الغيبة والنميمة،والرياء والسكوت عن الإمر بالمعروف والنهي عن المنكر،ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة والأعمال الخبيثة التي يوجبها الحرص على الدنيا.

أما الغيبة فإذا عرفت من كتاب آفات اللسان من ربع المهلكات وجوهها عرفت أن التحرز عنها مع المخالطة عظيم لا ينجو منها إلا الصدّيقون.فإن عادة الناس كافة التمضمض بأعراض الناس والتفكه بها والتنفل بحلاوتها وهي طعمتهم ولذتهم وإليها يستروحون من وحشتهم في الخلوة.فإن خالطهم ووافقتهم أثمت وتعرضت لسخط اللّه تعالى،وإن سكت كنت شريكا،والمستمع أحد المغتابين،وإن أنكرت أبغضوك وتركوا ذلك المغتاب واغتابوك فازدادوا غيبة إلى غيبة،وربما زادوا على الغيبة وانتهوا إلى الإستخفاف والشتم.

وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو من أصول الدين وهو واجب - كما سيأتي بيانه في آخر هذا الربع - ومن خالط الناس فلا يخلو عن مشاهدة المنكرات فإن سكت عصى اللّه به.وإن أنكر تعرض لأنواع من الضرر إذ ربما يجره طلب الخلاص عنها إلى معاص أكبر مما نهى عنه ابتداء.وفي العزلة خلاص من هذا فإن الأمر في إهماله شديد والقيام به شاق.وقدم قام أبو بكر رضي اللّه عنه عند خطيبا وقال"أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية" أيها الذين آمنواعليكم أنفسكم لايضركم من ضل إذا اهتديتم"وإنكم تضعونها في غير موضعها وإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول"إذا رأى الناس المنكر فلم يغيروه أو شك أن يعمهم اللّه بعقاب"وقد قال صلى اللّه عليه وسلم"إن اللّه ليسأل العبد حتى يقول له ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره فإذا لقن اللّه لعبد حجته قال يا رب رجوتك وخفت الناس"وهذا إذا خاف من ضرب أو أمر لايطاق.ومعرفة حدود ذلك مشكلة وفيه خطر.وفي العزلة خلاص وفي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إثارة للخصومات وتحريك لغوائل الصدور كما قيل: وكم سقت في آثاركم من نصيحة وقد يستفيد البغضة المتنـصـح

ومن جرب الأمر بالمعروف ندم عليه غالباً فإنه كجدار مائل يريد الإنسان أن يقيمه فيوشك أن يسقط عليه؛فإذا سقط عليه يقول ياليتني تركته مائلاً نعم لو وجد أعواناً أمسكوا الحائط حتى يحكمه بدعامة لاستقام وأنت اليوم لا تجد الأعوان فدعهم وانج بنفسك .

وأما الرياء فهو الداء العضال الذي يعسر على الأبدال والأوتاد الإحتراز عنه.وكل من خالط الناس داراهم،ومن داراهم راءاهم ومن راءاهم وقع فيما وقعوا فيه وهلك كما هلكوا.وأقل ما يلزم فيه النفاق فإنك إن خالطت متعاديين ولم تلق كل واحد منهما بوجه يوافقه صرت بغيضاً إليهما جميعاً،وإن جاملتهما كنت من شرار الناس.وقال صلى اللّه عليه وسلم"تجدون من شرار الناس ذا الوجهين يأتي هؤلاء بوجه"وأقل ما يجب في مخالطة الناس إظهار الشوق والمبالغة فيه ولا يخلوا ذلك عن كذب إما في الأصل وإما في الزيادة،وإظهار الشفقة بالسؤال عن الأحوال بقولك:كيف أنت? كيف أهلك?وأنت في الباطن فارغ القلب من همومه"وهذا نفاق محض.قال سرى: لو دخل أخ لي فسويت لحيتي بيدي لدخوله لخشيت أن أكتب في جريدة المنافقين.وكان الفضيل جالساً لوحده في المسجد الحرام فجاء إليه أخ له فقال له:ما جاء بك?قال:المؤانسة يا أب علي فقال:هي واللّه بالمواحشة أشبه هل تريد إلا أن تتزين لي وأتزين لك وتكذب لي وأكذب لك?إما أن تقوم عني أو أقوم عنك.وقال بعض العلماء:ما أحب اللّه عبداً إلا أحب أن لايشعر به.ودخل طاوس على الخليفة هشام فقال:كيف أنت يا هشام?فغضب عليه وقال:لم لم تخاطبني بأمير المؤمنين?فقال:لأن جميع المسلمين ما اتفقوا على خلافتك فخشيت أن أكون كاذباً.فمن أمكنه أن يحترز هذا الإحتراز فلايخالط الناس وإلا فليرضى بإثبات اسمه في جريدة المنافقين.فقد كان السلف يتلاقون ويحترزون في قولهم كيف أصبحت وكيف أمسيت?وكيف أنت? وكيف حالك?وفي الجواب عنه.فكان سؤالهم عن أحوال الدين لا عن أحوال الدنيا.قال حاتم الأصم لحامد اللفاف:كيف أنت في نفسك?قال:سالم معافى:فكره حاتم جوابه وقال:يا حامد السلامة من وراء الصراط والعافية في الجنة.وكان إذا قيل لعيسى صلى اللّه عليه وسلم كيف أصبحت?قال أصبحت لا أملك تقديم ما أرجو ولا أستطيع دفع ما أحاذر وأصبحت مرتهناً بعملي و الخير كله في يد غيري ولا فقير أفقر مني وكان الربيع بن خثيم إذا قيل له:كيف أصبحت?قال:أصبحت من ضعفاء مذنبين نستوفي أرزاقنا وننتظر آجالنا.وكان أبا الدرداء إذا قيل له:كيف أصبحت?قال:أصبحت بخير إن نجوت من النار.وكان سفيان الثوري إذا قيل له:كيف أصبحت?يقول:أصبحت أشكر ذا إلى ذا وأذم ذا إلى ذا وأفر من ذا إلى ذا،وقيل لأويس القرني:كيف أصبحت?قال:كيف يصبح رجل إذا أمسى لا يدري أنه يصبح وإذا أصبح لا يدري أنه يمسي?وقيل لمالك بن دينار كيف أصبحت?قال:أصبحت في عمر ينقص وذنوب تزيد.وقيل لبعض الحكماء:كيف أصبحت?قال:أصبحت لا أرضى حياتي لمماتي ولا نفسي لربي.وقيل لحكيم:كيف أصبحت?قال:أصبحت آكل رزق ربي وأطيع عدوه إبليس.وقيل لمحمد بن واسع:كيف أصبحت?قال:ما ظنك برجل يرتحل كل يوم إلى الآخرة مرحلة.وقيل لحامد اللفاف:كيف أصبحت?قال:قال أصبحت أشتهي عافية يوم الى الليل،فقيل له:ألست في عافية في كل الأيام ?فقال:العافية يوم لا أعصى اللّه تعالى فيه.وقيل لرجل وهو يجود بنفسه:ما حالك?فقال:وما حال من يريد سفراً بعيداً بلا زاد ويدخل قبراً موحشاً بلا مؤنس وينطلق إلى ملك عدل بلا حجة.وقيل لحسان ابن أبي سنان:ما حالك?قال:ما حال من يموت ثم يبعث ثم يحاسب.وقال ابن سيرين لرجل:كيف حالك?فقال:وما حال من عليه خمسمائة درهم ديناً وهو معيل?فدخل ابن سيرين منزله فأخرج له ألف درهم فدفعها إليه وقال:خمسمائة اقض بها دينك وخمسمائة عد بها على نفسك وعيالك ولم يكن عنده غيرها - ثم قال:واللّه لا أسأل أحداً عن حاله أبداً.وإنما فعل ذلك لأنه خشي أن يكون سؤاله من غير اهتمام بأمره فيكون بذلك مرائياً منافقاً.فقد كان سؤالهم عن أمور الدين.أحوال القلب في معاملة اللّه وإن سألوا عن أمور الدنيا فعن اهتمام وعزم على القيام بما يظهر لهم من الحاجة.وقال بعضهم:إني لأعرف أقواماً كانوا لا يتلاقون ولو حكم أحدهم على صاحبه بجميع ما يملكه لم يمنعه،وأرى الآن أقواماً يتلاقون ويتسائلون حتى عن الدجاجة في البيت.ولو انبسط أحدهم لحبة من مال صاحبه لمنعه فهل هذا إلا مجرد الرياء و النفاق وآية ذلك أنك ترى هذا يقول كيف أنت?ويقول الآخر كيف أنت?فالسائل لا ينتظر الجواب و المسئول يشتغل بالسؤال ولا يجيب،وذلك لمعرفتهم بأن ذلك عن رياء وتكلف.ولعل القلوب لا تخلو عن ضغائن وأحقاد و الألسنة تنطق بالسؤال.قال الحسن:إنما كانوا يقولون السلام عليكم،إذا سلمت واللّه القلوب،وأما الآن:فكيف أصبحت عافاك اللّه?كيف أنت أصلحك اللّه?فإن أخذنا بقولهم كانت بدعة لا كرامة فإن شاؤا غضبوا علينا،وإن شاؤا لا.وإنما قال ذلك لأن البداية بقولك:كيف أصبحت بدعة.وقال رجل لأبي بكر عياش:كيف أصبحت?فما أجابه.وقال دعونا من هذه البدعة.وقال:إنما حدث هذا في زمان الطاعون الذي كان يعى طاعون عمواس بالشام من الموت الذريع،كان الرجل يلقاه أخوه غدوة فيقول كيف أصبحت من الطاعون?ويلقاه عشية فيقول:كيف أمسيت?والمقصود أن الإلقاء في غالب العادات ليس يخلو عن أنواع التصنع و الرياء والنفاق،وكل ذلك مذموم،بعضه محظور وبعضه مكروه.وفي العزلة الخلاص من ذلك،فإن من لقي الخلق ولم يخالقهم بأخلاقهم مقتوه واستثقلوه واغتابوه وتشمروا لإيذائه فيذهب دينهم فيه ويذهب دينه ودنياه في الإنتقام منهم . !!!!!!

وأما مسارقة الطبع مما يشاهده من أخلاق الناس وأعمالهم فهو داء دفين قلما يتنبه له العقلاء فضلا عن االغافلين،فلا يجالس الإنسان فاسقا مدة مع كونه منكرا عليه في باطنه إلا ولو قاس نفسه إلى ما قبل مجالسته لأدرك بينهما تفرقة في النفرة عن الفساد واستثقاله إذ يصير للفساد بكثرة المشاهدة هينا على الطبع فيسقط وقعه واستعظامه له،وإنما الوازع عنه شدّة وقعه في القلب فإذا صار مستصغرا بطول المشاهدة أوشك أن ننحل القوّة الوازعة ويذعن الطبع للميل إليه أو لما دونه.ومهما طالت مشاهدته للكبائر من غيره استحقر الصغائر من نفسه:ولذلك يزدري الناظر إلى الأغنياء نعمة اللّه عليه فتؤثر مجالستهم في أن يستصغر ما عنده وتؤثر مجالسة الفقراء في استعظام ما أتيح له من النعم.وكذلك النظر إلى المطيعين والعصاة هذا تأثيره في الطبع من يقصر نظره على ملاحظة أحوال الصحابة والتابعين في العبادة و التنزه عن الدنيا فلا يزال ينظر الى نفسه بعين الإستصغار وإلى عبادته بعين الإستحقار:وما دام يرى نفسه مقصراً فلا يخلو عن داعية الاجتهاد رغبة في الاستكمال واستتماماً للاقتداء.ومن نظر الى الأحوال الغالبة على أهل الزمان وإعراضهم عن اللّه وإقبالهم على الدنيا واعتيادهم المعاصي استعظم أمر نفسه بأدنى رغبة في الخير يصادفها في قلبه وذلك هو الهلاك.ويكفي في تغيير الطبع مجرد سماع الخير و الشر فضلاً عن مشاهدته.وبهذه الدقيقة يعرف سر قوله صلى اللّه عليه وسلم"عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة"وإنما الرحمة دخول الجنة ولقاء اللّه وليس ينزل عند الذكر عين ذلك ولكن سببه وهو انبعاث الرغبة من القلب وحركة الحرص على الإقتداء بهم والاستنكاف عما هو ملابس له من القصور و التقصير.ومبدأ الرحمة فعل الخير الرغبة،ومبدأ الرغبة ذكر أحوال الصالحين،فهذا معنى نزول الرحمة.والمفهوم من فحوى هذا الكلام عند الفطن كمفهوم من عكسه وهو أن عند ذكر الفاسقين تنزل اللعنة لأن كثرة ذكرهم تهوّن على الطبع أمر المعاصي،واللعنة هي البعد.ومبدأ البعد من اللّه هو المعاصي،والإعراض عن اللّه بالإقبال على الحظوط العاجلة و الشهوات الحاضرة لا على الوجه المشروع.ومبدأ المعاصي سقوط ثقلها وتفاحشها عن القلب.ومبدأ سقوط الثقل وقوع الأنس بها بكثرة السماع.إذا كان حال ذكر الصالحين والفاسقين فما ظنك بمشاهدتهم?بل قد صرح بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيث قال"مثل جليس السوء كمثل الكير إن لم يحرقك بشرره علق بك من ريحه"فكما أن الريح يعلق بالثوب ولا يشعر به فكذلك يسهل الفساد على القلب وهو لا يشعر به.وقال"مثل الجليس الصالح مثل صاحب المسك إن لم يهب لك تجد ريحه"ولهذا أقول من عرف من عالم زلة حرم عليه حكايتها لعلتين،إحداهما:أنها غيبة،والثانية وهي أعظمها.أن حكايتها تهون على المستمعين أمر تلك الزلّة،ويسقط من قلوبهم استعظامهم الإقدام عليها فيكون ذلك سبباً لتهوين تلك المعصية فإنه مهما وقع فيها فاستنكر ذلك دفع الاستنكار وقال كيف يستبعد هذا منا وكلنا مضطرون الى مثله حتى العلماء والعباد?ولو اعتقد أن مثل ذلك لا يقدم عليه عالم ولا يتعاطاه موفق معتبر لشق عليه الإقدام،فكم من شخص يتكالب على الدنيا ويحرص على جمعها ويتهالك على حب الرياسة وتزيينها ويهوّن على نفسه قبحها ويزعم أن الصحابة رضي اللّه عنهم لم ينزهوا أنفسهم عن حب الرياسة?وربما يستشهد عليه بقتال علي ومعاوية ويخمن في نفسه أن ذلك لم يكن لطلب الحق بل لطلب الرياسة،فهذا الاعتقاد خطأ يهون عليه أمر الرياسة ولوازمها من المعاصي.والطبع الللئيم يميل الى ابتاع الهفوات والإعراض عن الحسنات بل الى تقدير الهفوة فيما لا هفوة فيه بالتنزيل على مقتضى الشهوة ليتعلل به وهو من دقائق مكايد الشيطان،ولذلك وصف اللّه المراغمين للشيطان فيها بقوله"الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه"وضرب صلى اللّه عليه وسلم لذلك مثلاً وقال مثل الذي يجلس يستمع الحكمة ثم لا يعمل إلا بشر ما يستمع كمثل رجل أتى راعياً فقال له يا راعي اجرر لي شاة من غنمك فقال اذهب فخذ خير شاة فيها فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم"وكل من ينقل هفوات الأئمة فهذا مثاله أيضاً.ومما يدل على سقوط وقع الشئ عن القلب بسبب تكرره ومشاهدته أن أكثر الناس إذا رأوا مسلماً أفطر في نهار رمضان استبعدوا ذلك منه استبعاداً يكاد يفضي الى اعتقادهم كفره،وقد يشاهدون من يخرج الصلوات عن أوقاتها ولا تنفر عن طباعهم كنفرتهم عن تأخير الصوم،مع أن صلاة واحدة يقتضى تركها الكفر عند قوم وحز الرقبة عند قوم،وترك صوم رمضان كله لا يقتضيه ولا سبب له إلا أن الصلاة تتكرر و التساهل فيها مما يكثر فيسقط وقعها بالمشاهدة عن القلب.ولذلك لو لبس الفقيه ثوباً من حرير أو خاتماً من ذهب أو شرب من إناء فضة استبعدته النفوس واشتد إنكارها،وقد يشاهد في مجلس طويل لا يتكلم إلا بما هو اغتياب للناس ولا يستبعد منه ذلك.والغيبة أشد من الزنا فكيف لا تكون أشد من لبس الحرير?ولكن كثرة سماع الغيبة ومشاهدة المغتابين أسقط وقعها عن القلوب وهون على النفس أمرها،فتفطن لهذه الدقائق وفرّ من الناس فرارك من الأسد لأنك لا تشاهد منهم إلا ما يزيد في حرصك على الدنيا وغفلتك عن الآخرة ويهون عليك المعصية ويضعف رغبتك في الطاعة.فإن وجدت جليساً يذكرك اللّه رؤيته وسيرته فالزمه ولا تفارقه واغتنمه ولا تستحقره فإنها غنيمة العاقل وضالة المؤمن.وتحقق أن الجليس الصالح خير من الوحدة وأن الوحدة خير من الجليس السوء.ومهما فهمت هذه المعاني ولا حظت طبعك والتفت إلى حال من أردت مخالطته لم يخف عليك أن الأولى التباعد بالعزلة أو التقرب إليه بالخلطة.وإياك أن تحكم مطلقاً على العزلة أو الخلطة بأن إحداهما أولى إذ كل مفصل فإطلاق القول فيه بلا أو نعم خلف من القول محض ولا حق في المفصل إلا الفصيل .

الفائدة الثالثة

الخلاص من الفتن والخصومات وصيانة الدين والنفس

عن الخوض فيها والتعرض لأخطارها وقلما تخلو البلاد عن تعصبات وفتن وخصومات

فالمعتزل عنهم في سلامة منها.قال عبد اللّه بن عمرو بن العاص:لما ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الفتن ووصفها وقال"إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتاهم وكانوا هكذا - وشبك بين أصابعه - قلت:فما تأمرني?فقال"الزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ ما تعرف ودع ما تنكر وعليك بأمر الخاصة ودع عنك أمر العامة"وروى أبو سعيد الخدري أنه صلى اللّه عليه وسلم قال"يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن من شاهق الى شاهق"وروى عبد اللّه بن مسعود أنه صلى اللّه عليه وسلم قال:"سيأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فرّ بدينه من قرية الى قرية ومن شاهق الى شاهق ومن جحر الى جحر كالثعلب الذي يروغ"قيل له:ومتى ذلك يا رسول اللّه?قال"إذا لم تنل المعيشة إلا بمعاصي اللّه تعالى فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة"قالوا:وكيف يا رسول اللّه وقد أمرتنا بالتزويج?قال"إذا كان ذلك الزمان كان هلاك الرجل على يد أبويه فإن لم يكن له أبوان فعلى يدي زوجته وولده فإن لم يكن فعلى يدي قرابته"قالوا:وكيف ذلك يا رسول اللّه?قال"يعيرونه بضيق اليد فيتكلف ما لا يطيق حتى يورده ذلك موارد الهلكة"وهذا الحديث وإن كان في العزوبة فالعزلة مفهومة منه إذ لايستغني المتأهل عن المعيشة و المخالطة ثم لا ينال المعيشة إلا بمعصية اللّه تعالى،ولست أقول:هذا أوان ذلك الزمان فلقد كان هذا بإعصار قبل هذا العصر،ولأجله قال سفيان:واللّه لقد حلت العزلة.وقال ابن مسعود رضي اللّه عنه:ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أيام الفتنة وأيام الهرج قلت:وما الهرج?قال"حين لا يأمن الرجل جليسه"قلت:فيم تأمرني إن أدركت ذلك الزمان?قال"كف نفسك ويدك وادخل دارك"قال:قلت يا رسول اللّه أرأيت إن دخل على داري?قال"فادخل بيتك"قلت فإن دخل على بيتي?قال"فادخل مسجدك واصنع هكذا"وقبض على الكوع "وقل ربي اللّه حتى تموت"وقال سعد - لما دعي الى الخروج أيام معاوية - لا ... إلا أن تعطوني سيفاً له عينان بصيرتان ولسان ينطق بالكافر فأقتله وبالمؤمن فأكف عنه،وقال:مثلنا ومثلكم كمثل قوم كانوا على محجة بيضاء فبينما هم كذلك يسيرون إذ هاجت ريح عجاجة فضلوا الطريق فالتبس عليهم؛فقال بعضهم الطريق ذات اليمين فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا،وقال بعضهم ذات الشمال فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا،وأناخ آخرون وتوقفوا حتى ذهبت الريح وتبينت الطريق فسافروا.فاعتزل سعد وجماعة معه فارقوا الفتن ولم يخالطوا إلا بعد زوال الفتن.وعن ابن عمر رضي اللّه عنهما:أنه لما بلغه أن الحسين رضي اللّه عنه توجه الى العراق تبعه فلحقه على مسيرة ثلاثة أيام فقال له:أين تريد?فقال:العراق.فإذا معه طوامير وكتب؛فقال:هذه كتبهم وبيعتهم فقال:لا تنظر الى كتبهم ولا تأتهم؛فأبى،فقال:إني أحدثك حديثاً؛جبريل أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة على الدنيا وإنك بضعة من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واللّه لا يليها أحد منكم أبداً وما صرفها عنكم إلا للذي هو خير لكم،فأبى أن يرجع، فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال:استودعك اللّه من قتيل أو أسير.وكان في الصحابة عشرة آلاف فما خف أيام الفتنة أكثر من أربعين رجلاً.وجلس طاوس في بيته فقيل له في ذلك فقال:فساد الزمان وجيف الأئمة.ولما بنى عروة قصره بالعقيق ولزمه قيل له:لزمت القصر وتركت مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم?فقال:رأيت مساجدكم لاهية وأسواقكم لاغية والفاحشة في فجاجكم عالية وفيما هناك عما أنتم فيه عافية.فإذن الحذر من الخصومات،ومثارات الفتن إحدى فوائد العزلة .

الفائدة الرابعة

الخلاص من شر الناس

فإنهم يؤذونك مرة بالغيبة ومرة بسوء الظن و التهمة بالاقتراحات والأطماع الكاذبة التي يعسر الوفاء بها،وتارة بالنميمة أو الكذب فربما يرون منك من الأعمال أو الأقوال مالا تبلغ عقولهم كنهه فيتخذون ذلك ذخيرة عندهم يدخرونها لوقت تظهر فرصة للشر،فإذا اعتزلتهم استغنيت من التحفظ عن جميع ذلك.ولذلك قال بعض الحكماء لغيره:أعلمك بيتين خير من عشرة آلاف درهم?ماهما?قال: اخفض الصوت إن نطقت بليل والتفت بالنهار قبل المـقـال

ليس للقول رجعة حين يبـدو بقبيح يكـون أو بـجـمـال

ولاشك أن من اختلط بالناس وشاركهم في أعمالهم لاينفك من حاسد وعدوّ يسئ الظن به ويتوهم أنه يستعد لمعاداته ونصب المكيدة عليه وتدسيس غائلة وراءه فالناس مهما اشتد حرصهم على أمر"يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم"وقد اشتد حرصهم على الدنيا فلا يظنون بغيرهم إلا الحرص عليها.قال المتنبي : إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من تـوهـم

وعادى محبيه بقـول عـداتـه فأصبح في ليل من الشك مظلم

وقد قيل:معاشرة الأشرار تورث سوء الظن بالأبرار.وأنواع الشر الذي يلقاه الإنسان من معارفه وممن يختلط به كثيرة:ولسنا نطول بتفصيلها ففيما ذكرناه إشارة إلى مجامعها،وفي العزلة خلاص من جميعها.والى هذا إشارة الأكثر ممن اختار العزلة.فقال أبو الدرداء:أخبر نقله، يروى مرفوعا.وقال الشاعر: من حمد الناس ولم يبلهم ثم بلاهم ذم من يحمـد

وصار بالوحدة مستأنساً يوحشه الأقرب والأبعد

وقال عمر رضي اللّه عنه:في العزلة راحة من القرين السوء.وقيل لعبد اللّه بن الزبير:ألا تأتي المدينة?فقال:ما بقي فيها إلا حاسد نعمة أو فرح بنقمة.وقال ابن السماك:كتب صاحب لنا،أما بعد فإن الناس كانوا دواء يتداوى به فصاروا داء لا دواء له ففرّ منهم فرارك من الأسد.وكان بعض الأعراب يلازم شجرا ويقول:هو نديم فيه ثلاث خصال،إن سمع مني لم ينم علي.وإن تفلت في وجهه احتمل مني،وإن عربدت عليه لم يغضب.فسمع الرشيد ذلك فقال:زهدنى في الندماء،وكان بعضهم قد لزم الدفاتر والمقابر فقيل له ذلك فقال:لم أر أسلم من وحدة ولا أوعظ من قبر،ولا جليس أمتع من دفتر،وقال الحسن رضي اللّه عنه:أردت الحج فسمع ثابت البناني بذلك - وكان أيضا من أولياء اللّه - فقال:بلغني أنك تريد الحج فأحببت أن أصحبك،فقال له الحسن:ويحك دعنا نتعاشر بستر اللّه علينا إني أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه.وهذه إشارة إلى فائدة أخرى في العزلة وهو بقاء الستر على الدين والمروءة والأخلاق والفقر وسائر العورات.وقد مدح اللّه سبحانه المتسترين فقال"يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف"وقال الشاعر: ولا عار إن زالت عن الحر نعمة ولكن عارا أن يزول التجـمـل

ولا يخلوا الإنسان في دينه ودنياه وأخلاقه وأفعاله عن عورات الأولى في الدين والدنيا سترها ولا تبقى السلامة مع انكشافها.وقال أبو الدرداء:كان الناس ورقا لا شوك فيه فالناس اليوم شوكا لا ورق فيه.إذا كان هذا حكم زمانه وهو في أواخر القرن الأول فلا ينبغي أن يشك في أن الأخير شر.وقال سفيان بن عينية:قال لي سفيان الثوري - في اليقظة في حياته وفي المنام بعد وفاته - أقلل من معرفة الناس فإن التخلص منهم شديد ولا احسب أني رأيت ما أكره إلا ممن عرفت.وقال بعضهم:جئت الى مالك بن دينار وهو قاعد وحده،وإذا كلب قد وضع حنكه على ركبته.فذهبت أطرده فقال:دعه يا هذا لا يضر ولا يؤذي وهو خير من جليس السوء.وقيل لبعضهم:ما حملك على أن تعتزل الناس?قال:خشيت أن أسلب ديني ولا أشعر.وهذه إشارة إلى مسارقة الطبع من أخلاق القرين السوق.وقال أبو الدرداء:اتقوا اللّه و احذروا الناس فإنهم ما ركبوا ظهر بعير إلا أدبروه،ولا ظهر جواد إلا عقروه،ولا قلب مؤمن إلا خربوه.وقال بعضهم:أقلل المعارف فإنه أسلم لدينك وقلبك،وأخف لسقوط الحقوق عنك،لأنه كلما كثرت المعارف كبرت الحقوق وعسر القيام بالجميع.وقال بعضهم:أنكر من تعرف ولا تتعرف الى من لا تعرف.

الفائدة الخامسة

أن ينقطع طمع الناس عنك

وينقطع طمعك عن الناس

فأما انقطاع طمع الناس عنك ففيه فوائد،فإن رضا الناس غاية لا تدرك فاشتغال المرء بإصلاح نفسه أولى ومن أهون الحقوق وأيسرها حضور الجنازة وعيادة المريض وحضور الولائم والإملاكات،وفيها تضيع الأوقات وتعرض للآفات،ثم قد تعوق عن بعضها العوائق وتستقبل فيها المعاذير،ولا يمكن إظهار كل الأعذار فيقولون له قمت بحق فلان وقصرت في حقنا،ويصير ذلك سبب عداوة فقد قيل:من لم يعد مريضاً في وقت العيادة اشتهى موته خيفة من تخجيله إذا صح على تقصيره.ومن عمم الناس كلهم بالحرمان رضوا عنه كلهم،ولو خصص استوحشوا.وتعميمهم بجميع الحقوق لا يقدر عليه المتجرد له طول الليل و النهار فكيف من له مهم يشغله في دين أو دنيا?قال عمرو بن العاص:كثرة الأصدقاء كثرة الغرماء.وقال ابن الرومي: عدوك من صديقك مستفـاد فلا تستكثرون من الصحاب

فإن الداء أكثـر مـا تـراه يكون من الطعام أو الشراب

وقال الشافعي رحمه اللّه:أصل كل عداوة اصطناع المعروف الى اللئام.وأما انقطاع طمعك عنهم فهو أيضاً فائدة جزيلة،فإن من نظر الى زهرة الدنيا وزينتها تحرك حرصه وانبعث بقوّة الحرص طمعه ولا يرى إلا الخيبة في أكثر الأحوال فيتأذى بذلك.ومهما اعتزل لم يشاهد ما يشته ولم يطمع ولذلك قال اللّه تعالى"ولا تمدنّ عينيك الى ما متعنا به أزاوجاً منهم"وقال صلى اللّه عليه وسلم"انظروا الى من هو دونكم ولا تنظروا الى من هو فوقكم فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة اللّه عليكم"وقال عون بن عبد اللّه: كنت أجالس الأغنياء فلم أزل مغموماً،كنت أرى ثوباً أحسن من ثوبي ودابة أفره من دابتي فجالست الفقراء فاسترحت.وحكي أن المزني رحمه اللّه خرج من باب جامع الفسطاط وقد أقبل ابن عبد الحكم في موكبه فبهره ما رأى من حسن حاله وحسن هيئته فتلا قوله تعالى"وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون"قال بلى أصبر وأرضى،وكان فقيراً مقلاً.فالذي هو في بيته لا يبتلى بمثل هذه الفتن.فإن من شاهد زينة الدنيا فأما أن يقوى دينه ويقينه فيصبر الى أن يتجرع مرارة الصبر - وهو أمر من الصبر - أو تنبعث رغبته فيحتال في طلب الدنيا فيهلك هلاكاً مؤبداً،أما في الدنيا فبالطمع الذي يخيب في أكثر الأوقات فليس كل من يطلب الدنيا تتيسر له،وأما الآخرة فإيثاره متاع الدنيا على ذكر اللّه تعالى والتقرب إليه.ولذلك قال ابن الإعرابي: إذا كان باب الذل من جانب الغنـى سموت الى العلياء من جانب الفقر

أشار الى أن الطمع يوجب في الحال ذلاً.

الفائدة السادسة

الخلاص من مشاهد الثقلاء والحمقى

ومقاساة حمقهم وأخلاقهم

فإن رؤية الثقيل هي العمى الأصغر.قيل للأعمش:مم عمشت عيناك?قال:من النظر الى الثقلاء.ويحكى أنه دخل عليه أبو حنيفة فقال:في الخبر"إن من سلب اللّه كريمتيه عوضه اللّه عنهما ما هو خير منهما"فما الذي عوضك?فقال - في معرض المطايبة - عوضني اللّه منهما أنه كفاني رؤية الثقلاء وأنت منهم.وقال ابن سيرين:سمعت رجلاً يقول نظرت الى ثقيل مرة فغشى علي.وقال جالينوس:لكل شئ حمى وحمى الروح النظر الى الثقلاء.وقال الشافعي رحمه اللّه:ما جالست ثقيلاً إلا وجدت الجانب الذي يليه من بدني كأنه أثقل من الجانب الآخر .

وهذه الفوائد ما سوى الأوليين متعلقة بالمقاصد الدنيوية الحاضرة ولكنها أيضاً تتعلق بالدين.فإن الإنسان مهما تأذى برؤية ثقيل لم يأمن أن يغتابه وأن يستنكر ما هو صنع اللّه،فإذا تأذى من غيره بغيبة أو سوء ظن أو محاسدة أو نميمة أوغير ذلك لم يصبر على مكافأته.وكل ذلك يجر الى فساد الدين وفي العزلة سلامة عن جميع ذلك فليفهم .
كتاب آداب العزلة. وهو الكتاب السادس من ربع العادات من كتب إحياء علوم الدين.








 


رد مع اقتباس
قديم 2015-07-19, 21:21   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
بوزيد.
عضو مشارك
 
الصورة الرمزية بوزيد.
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

العزلة وهل ثبت في ذلك شيء عن الصحابة
والتابعين -للشيخ الالباني- سلسلة الهدى والنور.

اضغط هنا للاستماع للمقطع
https://www.albanyimam.com/play.php?catsmktba=9840


السائل : أحد الإخوة يسأل لقد حدث ما يؤسف له حقا، وهو فكر العزلة
والدعوة إليه، مع العلم أن من يدعو إلى هذه العزلة يحتج بعزلة الإمام
مالك ، ويقول لقد كانت في العزلة بين الصحابة ثم بين التابعين ثم بين تبع
التابعين ما مدى صحة هذا القول وما هو مفهوم العزلة في دين الله
سبحانه وتعالى .
الشيخ : ما أظن هذا حدث، ما حدث أي شيء وهذا مبالغة في القول وإما
ما ينقل عن مالك فالله أعلم به، والعزلة لم يأت زمانها بعد، العزلة إنما
تشرع حينما يكثر الهرج ، وهو القتل بين المسلمين ، بسبب العصبيات
القبلية أو الحزبية أو ما شابه ذلك ، أما العزلة هذه فهي والحمد لله لم يأت
بعد زمانها ، وعسى أن لا ندرك ذلك، وعلى العكس من ذلك يقول عليه
الصلاة و السلام ) المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من
الذي لايخالط الناس ولا يصبر على اذاهم
( والناس طبائعهم مختلفة ،
ناس ينزوون على أنفسهم في كل زمان ولو في عهد الخلفاء الراشدين ،
وناس يحبون المخالطة ولو مع الفجار والفساق والحق بين هؤلاء
وهؤلاء ، فالإنسان يخالط ما لم يجد في مخالطته أذى في نفسه في دينه أو
في بدنه أو في أولاده وذريته فأنا لا أعتقد أن هناك مسلم على علم
بالكتاب والسنة يقول هذا زمان العزلة . نعم .
السائل : هو زمان فتن .
الشيخ : لاشك زمان فتن تمشي بالطرقات فترى التبرج ولكن ليس هو
الزمن الذي يشرع فيه العزلة لأنه إنما يشرع ذلك في زمن اشتداد الفتن
بين المسلمين وتقاتلهم بعضهم مع بعض فهناك يقول الرسول صلى الله
عليه وسلم ) إذا كان عند سيف فاضرب به الصخر (، وانتهى الأمر .
السائل : شيخنا بعض الناس يقول إن الحديث ) المؤمن الذي يصبر على
مخالطة الناس خير من الذي لايخالط الناس ولا يصبر على اذاهم
( ،
فيقول بعضهم أنا لا أستطيع أن أصبر على هذه المخالطة لذلك أرى
الاعتزال لنفسي فهل هذا القول صحيح ؟
الشيخ : أنا قلت آنفا ، آنفا قلت إذا كان هو يجد في نفسه أنه لا يستفيد من
مخالطة الناس بل قد يتضرر فهذا شأنه لكن هذا لا يصبح دعوة عامة
للمسلمين ، قلت هذا في الأزمنة الصالحة ، قد يكون الإنسان منعزلا عن
الناس جميعا لا يستطيع مخالطة الناس .
السائل : إذا لا يجوز بث هذا الفكر الذي يقتنع به هو نفسه بين إخوانه .
الشيخ : أي نعم .
السائل : أو حمل إخوانه على هذا الأمر .
الشيخ : أي نعم ما يجوز لاسيما إذا كان يقول هذا القيد فمعنى ذلك أن
الآخرين لا يأخذون هذا الحكم . نعم .
السائل : هناك قول أن الإمام مالك كان عند مرض باسور وقول آخر أنه
كان محجور عليه ممنوع من الخروج
الشيخ : ما عندي علم، ما عندي علم بهذه القضايا .
*****************










رد مع اقتباس
قديم 2015-07-19, 21:39   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
أمَةُ الرحمان
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية أمَةُ الرحمان
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

السَّلام عليكم
شكرا على هذا الموضوع
لقد قرأتث فقط رؤوس الأقلام (العناوين العريضة) ة ان شاء الله لي عودة إلى موضوعك الذي أراى انَّهُ قَيِّم
و من خلالها أشكرك و أقول انه فعلا للعزلة كل هذه الفوائد و رثبّضما أكثر و شخصيا في عُزلتي أرتاح كثيرا
على الاقلّْ الإنسان يحجب عينيه و لسانه و أثذنيه عن المعصية بانواعها
بارك الله فيك










رد مع اقتباس
قديم 2015-07-19, 23:21   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
بوزيد.
عضو مشارك
 
الصورة الرمزية بوزيد.
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة hanaar مشاهدة المشاركة
السَّلام عليكم
شكرا على هذا الموضوع
لقد قرأتث فقط رؤوس الأقلام (العناوين العريضة) ة ان شاء الله لي عودة إلى موضوعك الذي أراى انَّهُ قَيِّم
و من خلالها أشكرك و أقول انه فعلا للعزلة كل هذه الفوائد و رثبّضما أكثر و شخصيا في عُزلتي أرتاح كثيرا
على الاقلّْ الإنسان يحجب عينيه و لسانه و أثذنيه عن المعصية بانواعها
بارك الله فيك
وعليكم السلام ورحمة الله
وفيكم بارك الله










رد مع اقتباس
قديم 2015-07-20, 02:01   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
nina2381741
عضو مشارك
 
إحصائية العضو










افتراضي

بارك الله فيك










رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
الحق, العصمة, فوائد, فضلها, وغوائلها, نكشف


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 07:04

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc