منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - الخطابة في عصرها الذهبي
عرض مشاركة واحدة
قديم 2011-02-21, 19:25   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
fathi.14
محظور
 
إحصائية العضو










افتراضي

المنهجيات الحديثة في نقد النص التراثي
د. عبد الله أبو هيف
(جامعة تشرين – سورية)

تزايدت إشكاليات قراءة النص التراثي وآلياتها من المنهجيات التقليدية إلى المنهجيات الحديثة خلال نصف القرن العشرين الأخير، فهناك تنازعات بين الأصالة والحداثة، وقوام الأصالة مراعاة الخصائص اللغوية والثقافية التي صارت إلى عناصر التمثيل الثقافي الجذرية العريقة وتطوراتها اللغوية، المعجمية والصوتية والصرفية والنحوية والدلالية والرمزية والعلامية...الخ، وتحولاتها الثقافية، الأعراف والطقوس والتقاليد والأديان والمعتقدات والأفكار...الخ، بينما تكاثرت إشكاليات الحداثة وآلياتها من الأدلجة إلى المناهج العديدة كالتقليدية والرومانسية والواقعية والطبيعية والنفسية...الخ، والشكلانية والبنيوية والأسلوبية والنصية والوصفية التحليلية والجمالية والعلامية والرمزية والموضوعية والثقافية والتأويلية والتفكيكية والبنيوية التكوينية....ألخ.
1- خصوصيات النص التراثي اللغوية والثقافية:
آلت إشكاليات قراءة النص التراثي وآلياتها إلى التأثير على الهوية مما دعا الباحثون والنقاد العرب إلى مراعاة التأصيل والتحديث لخصوصيات النص التراثي اللغوية والثقافية والمصطلحية في الوقت نفسه.
1-1- خصوصيات النص التراثي اللغوية والثقافية:
اعتمد النص التراثي على خصائصه اللغوية والثقافية، ولا تفترق اللغة العربية عن مكوناتها التكوينية التركيبية والتعاقبية وتشكلاتها البلاغية والإبلاغية، بلوغاً للمعنى وما وراء المعنى أيضاً، ومراعاة للسياقات التاريخية والاجتماعية والذاتية القومية والوطنية والشخصية، ويستند النص التراثي إلى النصوص الأساسية: القرآن الكريم، والحديث الشريف، والآداب العربية القديمة المتجلية بالخصائص الثقافية من الجاهلية والإسلام والأموي والعباسي والأندلسي إلى العصور التالية حتى العصر الحديث، إذ ينبغي مراعاة الموروثات الأدبية لغة وبلاغة وثقافة عند قراءة النص التراثي، وأولها الشكل، وثانيها المحتوى، ويتطلب ذلك العناية بالفيوضات اللغوية والدلالية والتداولية، وبالتطورات الأدبية وأجناسها الشعرية والنثرية من عصر لآخر، وبالمؤثرات الثقافية على الموروثات الأدبية، ولاسيما الانتماءات السياسية والدينية والبيئية إزاء تحكميات العصر وتحدياته.
إن منهجيات قراءة النص التراثي ونقده مرهونة بهذه الخصائص المشار إليها، واقتصر النقاد والباحثون في قراءة التراث النقدي على مكانة البلاغة، ورأى مصطفى ناصف (مصر) أن البلاغة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بفكرة المقاصد، وأن مدارها تحقيق الأهداف بوساطة اللغة، وجوهرها ضبط نظام التعبير أو قوانينه، وتفضي الدراسة البلاغية إلى "أن الإنسان لا يفكر لوجه التفكير، ولا يشعر لوجه الشعور، وإنما يفكر، ويشعر من أجل التأثير في مخاطب أو التغلب عليه"( ).
إن اللغة وبلاغتها باعثة للوظائف والقيم والمنظورات النصية كلما مثلّت الرؤى والأفكار الثقافية، ووجد محمد الكتاني (المغرب) أن اللغة العربية ذات منهجيات معرفية متصلة بالخصائص الثقافية العربية والإسلامية بما يؤكد على تطابق الرؤية والإنجاز في النص التراثي، وقد "قامت علوم اللغة كلّها على أساس جعل اللغة أداة تواصل وأداة بيان وإحساس جمالي، وهذا هو الأفق العام الذي تحرك فيه النقد الأدبي، لأنه تقرّى مواطن الإثارة الجمالية في الإبداع، وأنشغل بالصياغة الفنية، وسبر عمق اللغة العربية، ووقف على كل طاقاتها الإيحائية، فاستأثرت اللغة في الفكر النقدي بكل اهتمام، نظير ما حدث بالنسبة لمجالات الفكر الأخرى"( ).
أكدت قراءة النص التراثي ونقده على أن ابتعاث وحدة العملية الأدبية وتوظيفها وتوليدها (التداولية) وإبراز الموازنة والمفاضلة في الشكل والمحتوى قائمة على اللغة والبلاغة، ورهن محمد الهادي الطرابلسي (تونس) التفكير البلاغي باللسانية بالتركيز على التداولية، بينما لا تخرج البلاغة العربية عن تحققات التوظيف والتوليد والتحويل في فاعلية اللغة والدلالة والاستعارة والتوريه والانزياح والترميز...الخ.
لقد أفاد الناقد الطرابلسي أن "مرجع البلاغة إلى استخراج صورة النص المنشود من النص الموجود، أو استحضار صورة النص الأمثل، من النص المنجز، كل ذلك عن طريق الاجتهاد الذي يكون بالتوظيف والتوليد في العملية الإبداعية، وبالموازنة والمفاضلة في العملية النقدية، ويكون بالتحسين والتجديد في العملية البلاغية"( ).
1-2- المصطلح النقدي:
هناك مصطلحات في الموروثات اللغوية والنقدية، غير أن الباحثين والنقاد العرب تعاملوا مع المصطلح الغربي بالدرجة الأولى، وسعوا إلى مقاربته للمصطلح العربي، وقد وضع لطفي عبد البديع (مصر)، على سبيل المثال، محاولاته لتسويغ المصطلح النقدي وفق تشكلاته الغربية في بحثة "الاسم والمسمى"، وشرع بإيضاح المقاربات والمفارقات في صوغ المصطلح النقدي وإقراره كأن يذكر "أنطولوجيا اللغة" أو "مركزية المنطق"...الخ، دخولاً في الموروثات النقدية، كتوصيفات المماثلة، والمغايرة، والذوات، والأشياء، ومعاني التسبيح، ومفتاح المعنى، واستقلال الاسم بالوجود وتعاليه على المسمى سواء كان مدلول الاسم الذات من حيث هي أم الذات باعتبار أمر صادق عليها عارض لها ينبيء عنها على ما يؤخذ من الخلاف في هذا الباب، ثم لا معنى لنفي الاشتقاق عنه إلا أنه أصل لذاته غير مسبوق بوجود آخر"( ).
رأى لطفي عبد البديع أن المصطلح مأخوذ من تشاكل اللغة والمعرفة عند مباشرة الكلام والخطاب إلى مجازيته، اعتماداً على العلاقات بين ظاهر اللفظ وكوامنه بالتأويل والاستدلال والتوريه...الخ، على أن اللغة هي أصل المصطلح من الظاهر إلى المجاز، و"للغة مقولاتها التي يقيم الإنسان فيها وجوده، والمسميات لا تبلغ قط مبلغ الأسماء"( ).
إن المصطلح النقدي لا يخرج عن المستويات اللغوية والبلاغية، من الملفوظية إلى المعنى وما وراء المعنى، غير أن الباحثين والنقاد يربطون المصطلح غالباً بالتعريب والترجمة، ويقللون من معاينة الاشتغال اللغوي وإنتاج المعاني والدلالات، مقتصرين على مطابقة المصطلح الغربي الراهن للمفاهيم اللغوية وإنتاجها للمعنى ومعنى المعنى من خلال ملامسة النص التراثي وقراءته وفق المصطلحات المحدثة.
رهن عبد الله المعطاني (السعودية) تحديد المصطلح النقدي الموروث بالبيئة أو عناصر التمثيل الثقافي، وأكد عن حق، أن المصطلح النقدي ولد وتشكل قبل منهجية النقد الأدبي الحديث واستقلاله، لأنه مصاغ من اللفظ دلالة على معنى معين يرتسم في الذهن، ثم بعد ذلك قد تفضي إلى معنى آخر، حسب تسمية اللسانيين التحول الدلالي بالأنزياح وسواه، على أن المصطلح قائم على اللغة وفضاءاتها في حدود المخاطبة ومدلولاتها، أي أن المناهج والمقاييس ناجمة عن خصوصيات الخطاب الأدبي والفكري وعلاقاته بالمبدع والنص والمتلقي، و"الحاجة ملحة إلى دراسة التراث النقدي عند العرب دراسة منهجية فاحصة ترسم بعداً حضارياً للمقاييس والمناهج والمصطلحات النقدية التي تمرس بها نقاد الأدب العربي القديم كي تصلها بمدارس، وقضايا النقد الحديث التي تستوعب نماذج الإبداع في الشعر العربي، فتّطور القديم للوصول به إلى الحديث، ونضرب الحديث في أعماق القديم"( ).
رصد المعطاني تشكلات المصطلح النقدي العربي منذ العصر الجاهلي وتطوراته في العصور التالية وتميزاته من بيئة ثقافية لأخرى بما يعطي جوانب واسعة لخصوصيات هذا المصطلح، الثقافية والأدبية العامة، والشعرية الخاصة، ومدى تداخلها في الدلالة والمنظورات الفكرية، كالاستعارة، والمعاظلة، والتضمين، والتداخل، والتراكب، والفحولة، وتوقف عند مصطلحات الخليل بن أحمد الفراهيدي فيما يخص المصطلح العروضي، كالبيت، والوتد، والسبب، والإيطاء، والسناد، والإكفاء وغير ذلك. وهذه المصطلحات راسخة وأصيلة وفاعلة في صوغ المصطلح النقدي العربي ضمن خصوصياته اللغوية والثقافية وأثر البيئات الثقافية على وجه الخصوص، وهذا جلي في مصطلحات متطورة مثل التفويف، والتسهيم، والترصيع، والتطريز، والتوشيع، والتوشيح، والشعر المتين والغامض والرطب...ألخ.
أما عبد الملك مرتاض (الجزائر) فتقصى المفاهيم النقدية والمصطلحات العامة بين التراث والحداثة، ومصطلحات نظرية، ونص، وأدب، بخاصة. وقارن لفظ المصطلح ومفتاحها وقاعدتها وأصلها وبرهانها بدراسة الافتراض والإتساق والتثبيت إلى جانب الملاحظة والتأمل والبرهنة والخضوع لنظام التحقيق، نحو التنظير والتداول.
عّمق مرتاض تكّون المفاهيم والمصطلحات بالمقارنة مع اللغات الأجنبية عند معالجته لمفهوم النص ومصطلحه "عبر متشابكات من القيم والدلالات والأبعاد والحيزات"( )، وتداول النقاد العرب القدامى مصطلح النسج، بينما ربط النقاد العرب المعاصرون المصطلح بالحداثة العربية ومنهجياته كالعلامية والتفكيكية والأسلوبية والنصية...الخ. وأورد مفاهيم حديثة للنص حسب اللسانيات والملفوظية والتأويل إزاء الصوت والسطح والدلالة والبنية، ثم فصل الرأي في مفاهيم سيميائية للنص ومتعالقاته ومتناصاته مثل ما قبلّية النص، والتسويد، والإنتاجية، والتناصية، والمرجعية، والمخاض الدلالي للنص... الخ، وعندما قارن التكون الاصطلاحي وتطوراته في النقد العربي وفي النقد الغربي، ولاسيما النص والنسج، أكد أن المصطلح النقدي لا ينقطع عن التراث وعن الحداثة، لأن "الفكر النقدي الغربي نفسه لم يتناول مسألة النص الأدبي بهذا الطغيان من العناية إلا من استفحال أمر البنيوية الرواية الجديدة، ثم ظهور السيميائية والتكفيكية، التي أهملت المؤلف، وعُنيت عوضاً عن ذلك بالنص، أي بالنسج الكلامي"( ).
أضاء مرتاض مصطلح "أدب" من مفاهيمه القديمة إلى مفاهيمه الحديثة، ولاسيما الأدب والأدبية، على أن الأدبي أعم وأشمل من الأدبية، "فالأدبية مظهر جمالي أو فني في الأدبي، بينما الأدبي نفسه إنما هو خطاب"( )، ثم اختلف الخطاب الأدبي عن الخطاب التاريخي والخطاب الديني والخطاب السياسي في المرجعية الخيالية والحقيقية، وفي البنية والشكل والجوهر.
كان المصطلح في التراث النقدي أكثر رسوخاً حسب وجهة نظر كمال أبو ديب، لدى دراسته لإنجاز عبد القاهر الجرجاني البياني وتصوراته الأساسية حول طبيعة اللغة والنحو والتعبير الأدبي والصورة والمعاني، وعرض آليتين جوهريتين من آليات التشكيل اللغوي هما تأدية المعنى وتأدية معنى المعنى، ومكانتهما في دراسة أنهاج التصور والتشكيل، وفصل الرأي حول آليات التشكيل الفني بالمقارنة مع نظرية رومان جاكبسون فيما يخص علاقتي المشابهة والمجاورة، وتواصلهما مع الاستعارة والمجاز المرسل، بلوغاً للتشكيل اللغوي أولاً، ثم الأدبي والفني ثانية، وأفضى تحليله إلى تطوير الجرجاني لتحديد عدد من الأنهاج الأساسية للتصور والتشكيل في العمل الأدبي، ومنها:
أ- نهج التناول المباشر الذي يتمثل في تأدية المعنى.
ب- نهج التناول الاستعاري الذي يمثل وجهاً من وجوه تأدية معنى المعنى، ويقوم على عملية استبدال استعارية جوهرها علاقة المشابهة.
ج- نهج التناول الكنائي (وهو أيضاً وجه من تأدية معنى المعنى).
د- نهج التناول المجازي الإلصاقي (الذي يقوم على عملية استبدال لا تستند إلى علاقة المشابهة، بل إلى واحد من الأوجه المتعددة لعلاقات المجاورة).
هـ- نهج التناول التخيلي القائم على التعليل، وفي جوهره علاقة مشابهة مركبة، غالباً ما تكون خفية، وعملية مواجهة فكرية أو ذهنية، أسماها الجرجاني خداعاً للنفس وإيهاماً.
دقق أبو ديب هذه الأنهاج لدى المقارنة بين الجرجاني وجاكبسون، وخلص إلى تقدير مفاهيم الجرجاني الدقيقة والمستوعبة لأنهاج التشكيل المختلفة، فيما هي أعمق وأقرب إلى التراث والحداثة، عند العناية بالتخييل وفهم التصاقه بالنهج الاستعاري والتعبير الرمزي وعلاقة المشابهة، و"بهذا المعنى فإن التخييل، والنهج التخييلي في التصور والتشكيل، هو أشد الأنهاج انضغاطاً واختزالية وكثافة في صيغته اللغوية التطبيقية ولحظة تجليه على مستوى النص الكلي"( ).
إن جوهر دراسة المصطلح في الموروثات اللغوية والنقدية هو العراقة والأصول ضمن مراعاة الخصائص الثقافية والتشكلات الاصطلاحية من التراث إلى الحداثة، بما ينفي مجرد النقل أو التأثير الحديث من الثقافات الأجنبية.
1-3- قراءة التراث النقدي:
انشغل جابر عصفور (مصر) بعملية قراءة التراث النقدي منذ مطلع السبعينيات، وتجلت ممارسته لنقد شعر التراث المستندة لهذه العملية الناشدة للتأصيل والتحديث في كتابيه "الصورة الفنية (1974)، "ومفهوم الشعر، دراسة في التراث النقدي" (1978)، ثم وضع درس المقدمات المنهجية في قراءتها التراث النقدي عام 1988 في الندوة المشار إليها، ووسع دراسته في كتابه "قراءة التراث النقدي" (1994).
ضمّ الكتاب دراسات من نوعين، النوع الأول يجعل هدفه نظرية القراءة مباشرة، من حيث هي مجموعة الاستراتيجيات والقواعد التي تحكم القراءة التطبيقية، فتحكم العلاقة بين القارئ والمقروء، واتجاهات القراءة وأهدافها وحدودها القصوى، وكان القسم الأول من الكتاب بعنوان "مقدمات منهجية"، أما القسم الثاني فهو قراءات تطبيقية يدور أولها حول الخصومة بين القدماء والمحدثين في العصر العباسي، ويدور ثانيها حول الناقد الشاعر ابن المعتز، ويدور ثالثها حول نظرية الفنّ عند الفارابي، ويدور رابعها حول الخيال المتعقل عند الإحيائيين.
نقتصر الحديث حول المقدمات المنهجية وسبل تطبيقها، وقوام النهج القرائي "أن كل نصّ من نصوص التراث النقدي لا يمكن أن نقرأه في عزلة عن غيره من النصوص، فالتراث النقدي وحدة سياقية واحدة، داخل وحدة سياقية أوسع هي التراث كلّه"( ). وأكد عصفور أن الاتجاهات المتميزة في التراث النقدي لا يمكن فصلها عن الاتجاهات الأساسية في التراث من جهة، وعن دلالتها الاجتماعية أو صراعاتها الإيديولوجية من جهة أخرى، مما تتجلى فيه رؤى عالم ينطقها النص المقروء، ويشير إليها في صراعاته وتوازياته ضمن خصوصيات التاريخ وتقاطعه مع المفهوم الموازي للرؤى القديمة والمعاصرة، لتفصح قراءة التراث النقدي عن تقييم ضمني للرؤيا التي ينطقها هذا النص على مستوى العالم التاريخي الخاص بالنص المقروء، وعلى مستوى العالم التاريخي الموازي الخاص بالقارئ في الوقت نفسه"( ).
حدد عصفور ثلاث مشكلات لقراءة التراث النقدي، هي حضور التراث، والعلاقة به، والحدود القصوى لعملية القراءة أو فعلها، وينقسم الحضور إلى قسمين، الأول هناك في تاريخه الخاص، والثاني هنا في قراءته المنجزة الكاشفة عن عالم النص المقروء، بينما تتحول علاقة القارئ بالمقروء إلى علاقة اتصال وانفصال في آن واحد، لإبراز البناء القيمي لعالم القارئ ومخزونه الثقافي وتعالقه مع عالم وعيه المعاصر، وتندغم عملية القراءة أو فعلها مع حدود الشكل والمحتوى في تاريخه وفي استحضاره المعاصر بما ينفع في "توازن العلاقة بين الذات والموضوع في القراءة، ذات القارئ وموضوعها الذي هو النص المقروء"( ).
أفصحت عمليات قراءة التراث النقدي عند عصفور عن ضرورة العناية باللغة ومدلولاتها، وتجاذبها مع التصور المعاصر للقراءة بالتفسير أو التأويل أو العلاقات المتبادلة بين القارئ والمقروء، أو الوعي النظري والتطبيقي في المنظور والمنهج وله ليات القراءة وإجراءاتها. وتتجلى هذه العمليات في ضبط الأبعاد العلائقية التي يشتبك فيها النقد الأدبي القديم مع الحقول المعرفية المتعددية التي يتأثر بها وتتأثر به، والتي تجعل من بعض مفاتيح العلوم في التراث العام مفاتيح للتراث النقدي الخاص"( ).
صنفّت القراءات السائدة من منظور الغاية في المجالات التالية: القراءة الانتقائية التي تحاول التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، والماضي والحاضر، والقراءة التثويرية التي تهدف إلى تقديم مشروع رؤية جديدة، ننتقل بها من التراث إلى الثورة، حسب تعبير طيب تيزيني، أو من العقيدة إلى الثورة، حسب رأي حسن حنفي، أو من الثابت الإتباعي إلى المتحول الإبداعي، حسب رأي أدونيس، أو من الضرورة إلى الحرية، حسب رأي حسين مروة، والقراءة التنويرية التي تسعى إلى الكشف عن "تكوين العقل العربي"، في فكر محمد عابد الجابري، أو الكشف عن المستويات الخطابية السائدة في الفكر العربي بأبعاده العربية الإسلامية في فكر محمد أركون.
تتلازم قراءة التراث النقدي مع المدلولات الأدبية والنقدية والفكرية لتحقق الهوية ووعي الذات على أن المنهجية لا تنفصم عن الأنساق المعرفية والسياقات التاريخية والاجتماعية والثقافية في عناصر القراءة، وأولها القاريء، وثانيها المقروء، وثالثها تلك الأنساق والسياقات، وتتطلب المنهجية عدم الالتزام بالآخر، بل إدراك التطورات الحديثة في قراءة التراث النقدي أو اللغوي أو البلاغي.
أما يحيى بن الوليد (المغرب) فقد درس التراث والقراءة في الخطاب النقدي المعاصر بالمغرب، وعرض التحكميات المعاصرة في قراءة التراث، وأولها الخلفيات الأيديولوجية المختلفة كالسلفية والليبرالية والقومية والماركسية، وثانيها المناهج الحديثة المتنوعة كالجدلية والابستمولوجية والتفكيكية والثقافية، وثالثها التباس أسئلة الهوية والأصالة والخصوصية.
تدبر دلالات الخطاب في تعامله مع النص التراثي بالاستناد إلى التصورات المعرفية والوجودية والجدلية والتاريخية والثقافية في المناهج المعاصرة والفكر القرائي والوعي الذاتي في التراث والحداثة معاً، وألا تقتصر القراءة على العلاقة التأثيرية التي تصل ما بين المكون النقدي والبلاغي وباقي المكونات المشكلة للتراث، بل "يقع هذا في صلب القراءة البينية أو القراءة النسقية التي تختلف عن القراءة القطاعية، ولا تنظر هذه القراءة الأخيرة إلى النقد والبلاغة في الوحدة السياقية الكبرى المحكومة بنسق يوّحد ما بين أنماط أو مكونات التراث، وإنما تحصرها في وحدة سياقية صغرى معزولة عن الأبستيمي (ابستيمي المرحلة الثقافية) إذا جاز توظيف مفهوم ميشال فوكو، فإن أي دعوى من دعاوى تجديد العقل العربي أو نقده لا يمكن لها أن تتغافل عن المكون النقدي والبلاغي داخل التراث" ( ) مارس يحيى بن الوليد قراءة التراث النقدي في مراعاة الخصوصيات اللغوية والثقافية بعامة، والفكرية بخاصة، فيما يخص التشكل والامتداد في الخطاب النقدي بالمغرب، وتشكلاته منذ بدايات القرن العشرين إلى الوقت الحاضر، تحليلاً لقطائعه الثقافية والتاريخية، وإبانة لأسئلة التراث في هذا الخطاب، وعالج التراث والتحليل المعرفي في نقد محمد عابد الجابري التراثي، وصلته بالأدب أو الخيال عامة، وقرأ الجرجانية الجديدة، أي طبيعة القراءات التي عنيت بخطاب البلاغي العربي الفذ عبد القاهر الجرجاني عند نقاد ولغويين عرب كثيرين، وتناول الدراسات الجاحظية وعنايتها بخطاب هذه الشخصية المحيرة في الثقافة العربية التقليدية العريقة لدى نقاد وباحثين آخرين، وخرج في الفصل الخامس من دائرة نقد النقد من أجل البحث في قراءة بعض المفكرين المغاربة لأبن رشد في أفق التسعينيات، فيما يخص التنوير والتفكير وقراءة النص الرشدي وصراع التأويلات. ثم ناقش التراث والمعرفية التشييدية من خلال دراسة قراءة التراث عند محمد مفتاح أحد رواد المشروع الثقافي المغربي، الأندلسي، وبحثت القراءة في مرتكزات المعرفية التشييدية وصلتها بأطروحة المثقف في أثناء تعامله مع التراث.
أكد يحيى بن الوليد أن دائرة نقد النقد في التراث تستدعي الموضوعية والمنهجية عند ضبط العلاقة بين الأصالة والحداثة كذلك، وألا ترتبط بدعاوى الهويات القاتلة أو الأصولية الدينية أو مجرد العودة للتراث والالتزام به، وبالهيمنة الثقافية للعرب، و"قد تكون الثقافة العربية في أمس الحاجة إلى هذا النوع من التحليل خصوصاً من ناحية دراسة التراث، وتداول قيمة في الحاضر"( ). وإذا أمعنا في دراساته التحليلية والتطبيقية نلاحظ أهمية التواصل التراثي والحداثي في منهجيات القراءة والتلقي والتأويل.
2- غلبة المنهجيات التقليدية:
سادت المنهجيات التقليدية في نقد النص التراثي خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات متعالقة مع اللغة والبلاغة والتوصيف بالدرجة الأولى، وأشير إلى أبرز التصنيفات:
2-1- النقد اللغوي:
اعتمد الباحثون والنقاد في نقد النص التراثي على الدراسة اللغوية عند النظر في النظرية الأدبية واتجاهات النقد الأدبي، كما هي الحال في مؤلفات "اتجاهات النقد الأدبي في القرن الرابع الهجري" لأحمد مطلوب (العراق، 1973)، و"أثر القرآن في تطور النقد العربي إلى آخر القرن الرابع الهجري" محمد زغلول سلام (مصر، 1961)، و"الألفاظ اللغوية: خصائصها وأنواعها" لعبد الحميد حسن (مصر، 1971)، و"التطور اللغوي التاريخي" لإبراهيم السامرائي (العراق، 1966)، و"خصائص العربية ومنهجها الأصيل في التجديد والتوليد "لمحمد المبارك (سورية، 1960)، "ودلالة الألفاظ" لإبراهيم أنيس (مصر، 1958)، و"رواية اللغة" لعبد الحميد الشلقاني (مصر، 1974)، و"الرواية والاستشهاد باللغة" لمحمد عيد (مصر، 1972)، و"فصول في فقه اللغة" لرمضان عبد التواب (مصر، 1973)، "واللغة بين المعيارية والوصفية" لتمام حسان (مصر، 1958)، و"اللغة الشاعرة" لعباس محمود العقاد (مصر، 1960)، و"اللغة العربية في ماضيها وحاضرها ومستقبلها "لجورج الكفوري (لبنان، 1948)، و"اللغة والحضارة" لمصطفى مندور (مصر، 1974)، "واللغة والمجتمع" لعلي عبد الواحد وافي (مصر، 1951)، و"مشكلات حياتنا اللغوية" لأمين الخولي (مصر، 1958)، و"النقد عند اللغويين في القرن الثاني" لسنية أحمد محمد (العراق، 1974).
قرن نعمة رحيم العزاوي (العراق) النقد باللغة في كتابه "النقد اللغوي عند العرب حتى نهاية القرن السابع الهجري"، على أن اللغة مادة الفن الأدبي، وأن نبوغ الأديب أو تفوقه يرتبط بطريقته في استخدام اللغة، والتعامل معها، و"معنى ذلك أن الموضوع الأول للنقد هو اللغة، لأن اللغة هي الحقيقة الأولى في الفنّ الأدبي"، "وأن كثيراً من موضوعات النقد وقضاياه يمكن أن تعالج من خلال اللغة، أو تكون اللغة الأساس الذي ينطلق منه الناقد في معالجة تلك الموضوعات"( ).
رهن العزاوي النقد باستخدام اللغة بوصفها مجلس عبقرية الأديب، وقد أدرك النقاد العرب هذه الحقيقة، وفطنوا إلى أهمية اللغة في العمل الأدبي، وأولوها اهتمامهم، وصرفوا إليها عنايتهم، "حتى صار الناقد منهم، كابن الأثير مثلاً، يدل على غيره، بما يستكشف من دقائق اللغة، وأسرار الألفاظ والتراكيب"( )، ومثّلت اللغة في الأدب والنقد، ماهية الشعر، وغايات الأدب، وصفات الناقد، والذوق، ووحدة الموضوع، والطبقات، والخصومة، والخيال، وأجناس الأدب، والطبع، والتكلف، والصدق، والكذب، والموازنات، والسرقات...الخ.
أفاد العزاوي أن المنهج اللغوي هو المنهج الملائم لطبيعة العمل الأدبي، القادر على استكشاف ملامح الاستخدام الفني للغة، وأوضح أن العرب عرفوا المنهج اللغوي في النقد، ودرس العوامل المؤثرة في النقد اللغوي مثل الرواية، والتطور اللغوي، والتعصب القديم، والخصومة، والإعجاز، وأورد المقاييس والنظرات التي أثارها هذا النقد.
درس ضروب المقاييس في النقد اللغوي، ومنها مقاييس الخطأ والصواب، ومقاييس الجودة والرداءة. وأبان قيمة النقد اللغوي، وما له من أهمية وفوائد، وما عليه من مآخذ وعيوب، وما يثيره من قضايا ومشكلات، على أن اللغة تربط بين الفرد وغيره من أبناء الجماعة اللغوية، وهي وسيلة للتعبير والتفاهم وتبادل الآراء والأفكار، ورابطة للأعراف والطقوس والمقاييس الاجتماعية، وأساس الاستخدام الفني والمنهج النقدي بإبراز جمالية اللغة الأدبية في ضوء القواعد والأصول الفنية، ويتعالق المنهج الفني ومحوره النقدي مع المنهج اللغوي والتاريخي والنفسي، و"ما ينفع الناقد، وهو يواجه اللغة، ويجعلها مدار نقده، هو علم اللغة ونظرياتها، ومناهج درسها وفقهها، لأن من شأن هذه العلوم والنظريات أن تزيده علماً بلغة الأدب، وتجعله أبصر بأسرارها، وأقدر على استخراج طاقاتها التعبيرية"( ).
أشاد العزاوي بدعوة محمد مندور (مصر) إلى المنهج اللغوي في درس والأدب ونقده، وطرائق شرحه، وبيان جدواه وأهميته في كتابيه "في الميزان الجديد" (1952)، و"النقد المنهجي عند العرب" (1956) وتعاضد معه الكثير من الباحثين والنقاد عناية بالمنهجيات التقليدية، وأولها النقد اللغوي الذي يعقد جانباً "من جوانب عناية العرب بلغتهم، ووسيلة من الوسائل التي اتخذوها لبيان سحرها، والحفاظ على سلامتها ونقائها." ( ).
وقد انتشر النقد اللغوي في مرحلة مبكرة من العصر الجاهلي، وفي العصور التالية، وأساسه الصياغة والمعاني، ثم ازدهر هذا النقد في القرون الإسلامية، وكانت العوامل المؤثرة فيه هي الرواية (الاستقاء)، والتطور اللغوي من عصر لآخر، عند تدقيق اللحن، والإعراب، والثنائيات اللغوية، والتمازج اللغوي، والانحراف، واستعمال الألفاظ الأجنبية، والقواعد... الخ.
هدف المنهج اللغوي "إلى تنمية لغة الأدباء، والنهوض بأساليبهم، وإمدادهم بما يحسن ويجمل من الألفاظ والعبارات، مع تنبيههم على مناسبة كّل لفظ، والمقام الذي يقال فيه كلّ تعبير"( )، للتخفيف من الازدواج اللغوي أثناء التطور اللغوي في هذه الحقبة التاريخية أو تلك .
أثر التعصب القديم كثيراً في النقد اللغوي، وتمثلت المقاييس التي دفع إليها التعصب القديم في الغرابة والفخامة، ورفض اشتقاق ما يسمح به القياس، ورفض المعرب والدخيل، والتقيد بالعرف اللغوي. وهناك أيضاً عامل الخصومة المؤثر على النقد اللغوي، ويفرز الخصومة الشخصية، والخصومة المذهبية، والاتهام باللحن والخطأ، والعداوة للأديب أو أدبه، وله مظاهر أولها من محاسبة الشاعر على ألفاظ وتراكيب غير متفق عليها، وثانيها التعليقات التي تتسم بالحدة والمبالغة، وثالثها الاختلاق والكذب على الشاعر أو الأديب. غير أن الخصومة والدوافع كانت عاملاً من عوامل تنشيط النقد اللغوي في مجالات الدفاع عن طبيعة النقد اللغوي ومزاياه وتعبيراته عن الخصائص الثقافية.
اندغم الإعجاز كثيراً مع النقد اللغوي في منظوراته الإيجابية، من إعجاز القرآن الكريم، إلى إعجاز الأدب والثقافة، وتبدت قضايا اللفظ في الغرابة والسهولة، وموسيقى اللفظ والتركيب، والفروق بين المترادفات، وأتضح أن "الإعجاز" عامل في إثارة كثير من قضايا النقد اللغوي عند البحث عن الأسرار واستخلاص القوانين التي تقاس بها النصوص والأساليب.
درس العزاوي موضوعات النقد اللغوي ومقاييسه، وأولها مقاييس الخطأ والصواب كالتكفل ببيان سلامة العمل المنقود من الخطأ، ومطابقته للمألوف من قواعد اللغة، والمعهود من نظامه، والكشف عن مواطن الجودة والرداءة في ذلك العمل. وتبدت المقاييس في الأدوات والظروف، وفي تغيير بنية الكلمة، وفي المثنى والجمع وفي الاشتقاق واستعمال الكلمات، وفي المصادر، وفي الندبة والاستغاثة، وفي الإعراب، وفي التعريف والتنكير والتعدي واللزوم.
أما مقاييس الجودة والرداءة فظهرت في المفردات من حيث تأليفها ووزنها طولاً وقصراً وحركات وخروجاً من وزن إلى وزن، وغرابتها، وعاميتها، وجزالتها وسهولتها ورقتها، وإيحاؤها وتخييلها، وأسماء الثمار والمواضع والأعلام، والتلاؤم بين اللفظ والمعنى، والدقة، والإفادة، والاشتراك، والتكرار، وموقع الكلمة، وأسماء الإشارة والموصول والضمائر، وكاف الخطاب، وحروف الصلات، والتصغير، والاصطلاحات.
كانت مقاييس جودة التراكيب ورداءتها مدروسة في الانسياب، والموسيقى والإيقاع، والوضوح والغموض، ووحدة النسج.
تجلت فوائد النقد اللغوي في حماية اللغة، وتهذيبها، وتنميتها بتوسيع قياسها والمقيس عليها وقبول المعرب والدخيل، إلى جانب رصن بعض الظواهر اللغوية كالغريب، والنوادر، والتطور اللغوي للمفردات، والمعرب والدخيل، والمولد، وتصحيح الخطأ، والإرشاد إلى الحسن والأحسن، والدفاع عن المنشيء، والتعجل في الحكم بالخطأ أو الرداءة، واختلاف النظرة إلى لغات القبائل، والتصحيف والتحريف، وجهل بعض النقاد بمراد الشاعر، وجهل بعض النقاد بالإعراب، والكشف عن أسرار التعبير الأدبي وخصوصيته.
اتصلت عيوب النقد اللغوي بالتزمت والجمود كالاحتكام إلى القديم والتقيد بالعرف اللغوي، وعدم التفريق بين الخطأ والتطور، والتمسك بالأفصح، وبالتعصب للمنشيء أو عليه، وبالفصل بين اللفظ والمعنى (الشكل والمضمون)، وبالجزئية في النص المنقود، لأن الأنسب هو "ضرورة مراعاة الكل وعدم الوقوف عند الجزء في عملية النقد والتقويم"( ).
من الواضح أن النقد اللغوي لا يقتصر على اللغة وحدها، بل هو أساس النقد ومنهجيته.
2-2- نقد النثر:
اهتم الباحثون والنقاد بنقد النثر أيضاً، فيما سمي النثر الفني والخطابة والمقامة في أعمال "النثر الفني في القرن الرابع" لزكي مبارك (مصر، 1940)، و"الخطابة في عصرها الذهبي" لإحسان النص (سورية، 1963)، و"فن الخطابة وتطوره في الأدب العربي" لايليا الحاوي (لبنان، 1961)، و"نشأة الكتابة الفنية" لحسين نصار (مصر، 1965) و"الكتابة الفنية في مشرق الدولة الإسلامية في القرن الثالث الهجري" لحسني فاعة (لبنان، 1978)، و"فن القصة والمقامة" لجميل سلطان (سورية، 1943)، و"نشأة المقامة في الأدب العربي" لحسن عباس (مصر، 1970)، و"الفن ومذاهبه في النثر العربي" لشوقي ضيف (مصر، 1959)، و"أدب المعتزلة إلى نهاية القرن الرابع الهجري" لعبد الحكيم بلبع (مصر، 1979)، والنثر الفني وأثر الجاحظ" للمؤلف نفسه (1970)، وشرح مقامات بديع الزمان الهمذاني" لمحمد يحيى الدين عبد الحميد (مصر، 1962)، والخطابة في صدر الإسلام" لمحمد طاهر درويش (مصر، 1964)، و"الخطب والموعظ" لمحمد عبد الغني حسن (مصر، 1966)، و"ملامح التجديد في النثر الأندلسي خلال القرن الخامس الهجري" لمصطفى السيوفي (لبنان، 1985)، "وفن المقامات بين المشرق والمغرب "ليوسف نور الدين عوض (السودان، 1979).
كان كتاب "نقد النثر في تراث العرب النقدي حتى نهاية القرن العباسي 656 هـ" لنبيل خالد رباح أبو علي (فلسطين) هو الأكثر مقاربة لنقد النثر بمنهجياته التقليدية عند الكثير من النقاد والباحثين، والأكثر عناية بإبراز مصادر نقد النثر وتحديد مذاهبها وخصائص مباحثها، وتعلق ألوان النثر وأخباسه بها، في الدراسات التحليلية ومراعاة التقارب الموضوعي والتسلسل التاريخي، وإظهار تدرج المباحث ونقدها وتطورها في فروع النثر، وأولها إعجاز نظم القرآن الكريم، وثانيها الضوابط الأسلوبية للنثر الفني، وثالثها مصادر نقد النثر ومباحثه اللغوية والأدبية، ورابعها كتب شروح النثر وأهميتها وطبيعة مباحثها ومكانتها في الأسسس النقدية، وخاصة الأسلوبية منها.
تناول الكتاب فنون النثر ونظرية النقاد فيها، وتحدث عن وجوه اهتمام العرب بالفنون النثرية المختلفة، وعرض بعض موازناتهم ومفاضلاتهم بين الشعر والنثر، ودرس بالتفصيل نقد الخطابة والرسائل والمقامات، وركّز على أنواع الخطب وأراء النقاد في موضوعاتها المختلفة، والمعايير النقدية لكلّ نوع من تلك الأنواع، وانتقل للحديث عن بناء الخطبة وما يستحب في كلّ جزء من أجزائها، وتوقف عند الضوابط الأسلوبية للخطابة، وتبيان شروطهم في الألفاظ والعبارات، وطرائقهم في الظواهر الأسلوبية وأثرها في وضوح المعاني أو موسيقى الأسلوب الخطابي.
ثم درس الرسائل ونقدها، واستخلص ما استقر من أسسها النقدية، فيما يخص صعوبة ثقافة الكاتب، وموضوعات الرسائل وضوابطها الفنية، وأصول بناء الرسالة وما يشترط في جزء من أجزائها، والضوابط الأسلوبية للرسائل وما بينها وبين ضوابط أسلوب الخطب من فروق مختلفة. وكانت العناية الأوسع بالمقامة وطبيعة نقدها، ولاسيما أصولها، ونظرات النقاد في طريقة بنائها، والآراء النقدية في موضوعاتها وطريقة معالجتها، ولغة هذه المقامات وضوابطها النقدية.
اهتم النقاد والباحثون بالنثر وفنونه باستخراج وضابطه المختلفة، وبالمفاضلة بين الشعر والنثر، "بالإضافة إلى الكثير من الموازنات بين الشعر والنثر دون تفضيل أحدهما عن الآخر، والتي لا يستدعي المقام ذكرها، إذ يكفي ما سبق لإظهار أهمية النثر في حياة العرب، ومكانته من الحركة الأدبية والنقدية"( ).
تميز نقد الخطابة في توضيح الخطيب وصفاته كالفطرة والاستعداد الغريزي، واللسن والفصاحة، وسعة الثقافة، والقدرة على مراعاة مقتضى الحال، والصدق والإقناع بموضوع الخطبة، وشرح أبو علي أنواع الخطب وموضوعاتها وآراء النقاد فيها، كالخطب السياسية والحربية، والخطب الدينية، والخطب الاجتماعية، وخطب المحافل والوفود، وخطب الزواج، وخطب إصلاح ذات البين، والوصايا الاجتماعية، وعرض بناء الخطبة، من المقدمة والموضوع إلى الخاتمة، وركّز على الدراسة الأسلوبية للخطاب مثل دراسة اللفظ، والعبارة أو النظم النثري، والإيجاز والإطناب، والوضوح، والإثارة الوجدانية، والسجع والازدواج وقصر الجمل والمحسنات اللفظية في موسيقى الأسلوب.
قّسم الرسائل إلى صنفين سياسية واجتماعية لحصر أغراضها وجمع شتاتها، وتخلص "مما اختلف فيه الدارسون الذين درجوا على تصنيفها إما إلى ديوانية وإخوانية وأدبية، أو سلطانية وإخوانية وديوانية، أو رسمية وشخصية، أو سياسة واجتماعية ودينية، إلى غير ذلك من التقسيمات التي أشهرها الديوانية والإخوانية"( ).
كانت نتائج نقد النثر في الملاحظات التالية:
‌أ- اهتمام النقاد العرب بالنثر وفنونه، ولم يبلغ هذا الاهتمام درجة اهتمامهم بالشعر، وهذا جلي في الموازنة بين نقد الشعر والنثر، من حيث تاريخ النشأة أو البلاغة أو الشكل والمحتوى.
‌ب- دمج بعض النقاد كلامهم عن الشعر والنثر أثناء درس القضايا المشتركة، كقضية اللفظ والمعنى، وقضية الطبع والصنعة، وقضية السرقات الأدبية.
‌ج- إدعاء بعض النقاد أن نقد النثر مستمد من النقد اليوناني، والتدليل على مجافاة هذا الادعاء، لأن غالبية شغل نقد النثر مستمد من الخصائص اللغوية والثقافية العربية.
‌د- عناية غالبية النقاد بأجناس النثر الفني وألوانه، كالخطاب والرسائل والمقامات، ومدى تمايز هذه الأخباس والألوان بالخيال أو المجاز أو الشكل الفني.
‌ه- غلبة اهتمام النقاد والباحثين بموضوعات النثر وقضاياه، والتقليل من التحليل الفني.
2-3- نقد الشعر:
تركز نقد النص التراثي على الشعر بالدرجة الأولى عند غالبية النقاد والباحثين، ومن أبرز المؤلفات النقدية "تاريخ النقد الأدبي عند العرب، نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن" لأحسان عباس (فلسطين، 1971)، و"نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين من الكندي حتى ابن رشد" لألفت كمال الروبي (مصر، 1983)، و"الثابت والمتحول" لأدونيس (سورية، 1974)، و"نظريات الشعر عند العرب" لمصطفى الجوزو (لبنان، 1981)، و"اتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري" لمحمد مصطفى هدارة (مصر، 1963)، و"الحركة النقدية حول مذهب أبي تمام" لمحمود الربداوي (سورية، 1973)، و"الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي" لجابر عصفور (مصر، 1974)، و"النقد الأدبي وأثره في الشعر العباسي" لناصر الحاني (العراق، 1955)، و"موسيقى الشعر" لإبراهيم أنيس (مصر، 1947).
وتعالق نقد النص التراثي الشعري مع الفكر والفلسفة والمعرفة، وأعرض كتاب محمد لطفي اليوسفي "الشعر والشعرية، الفلاسفة والمفكرون العرب، ما أنجزوه وما هفوا إليه"، على أنه الأشمل في إضاءة نقد الشعر وأبعاده العميقة.
يمّثل كتاب اليوسفي محاولة لقراءة منجزات الفلاسفة والمنظرين العرب في الشعر والشعرية، ووصفه عملاً غايته الإسهام في تأصيل الكتابة النقدية، ورأى أن "التأصيل لا يعني الإحياء. ذلك أنه حركة تتنزل من التاريخ هناك في الصميم. حركة تمضي إلى التراث لتكشف عن خباياه. وغايتها من ذلك ليست الحلول في التراث بل مفارقته، تصبح الأصالة هي الحداثة ذاتها"( ).
انطلق نقد النص التراثي من منظور بنائي بياني، بما يفيد أن إعادة اكتشاف النص القديم ذاته يمكن أن تتم بالنظر في النص الحديث. وثمة قضايا تثري الخطاب النقدي العربي بين الأصالة والمعاصرة، ومنها قضية الدلالة، وقضية الغموض، وقضية الإيقاع، وقضية التمسك بالتراث، وقضية النظرية الأدبية وغيرها، على ألا تنقطع هذه القضايا عن تواصل التراث والحداثة، من خلال البناء الشكلي ومحتوياته، وترسيمات القراءة للخطاب النصّي.
شملت دراسات الكتاب ضبط أصول النظرية العربية، ومدى التداخل مع النص اليوناني وتجلياته في الثقافة العربية، من الصراع إلى الحوار، لإضاءة أبعاد النص القديم، ما دامت النظرية تمتلك وجوداً تاريخياً، و"تشكلت بالنظر في النص من زاوية ما يفي بحاجات وجود العرب وقتها"( ).
انطلق الإنشغال بقضية الشعر والشعراء في مجالين، أحدهما موضوعة الشاعر، أما الثاني فمداره النص وخصوصياته ووظيفته، مثلما تواضع الشاعر والشاعرية مع منابت الشاعرية ومكوناتها ما بين الطبع والغريزة والعاطفة القوية، وتعاضدت هذه المكونات مع الدربة القائمة على الحفظ والرواية وإدامة النظر، وثمة ثراء للشاعرية في العناية بالطبع لاشتغال القوى الفطرية إزاء التهيء للقول، من النفاذ إلى القوانين التوليدية الكامنة في النظام اللغوي إلى إدراك قانون المشاكلة.
تأصلت الشعرية مع حداثة النقد النصي وترابطه العضوي وصياغاته في المستويات الإيقاعية والدلالية والإيصالات الشعرية الناظمة لمنظورات النص وطرائق تشكيله، "على أن الجانب البنائي، أي الصياغة والنسج وجودة المرصف هي جوهر الشعر والصورة التي تحدد قيمته"( ).
أكد اليوسفي أن وظيفة الشعر لا تتم بمعزل عن النظر في مكانة النص، بما في ذلك النص القرآني نفسه، وأثره في الثقافة العربية، وعمّق الرأي في لا تاريخية القراءات التي اهتمت بحضور مؤلف أرسطو في الثقافة العربية، ومشكلات القراءة اللاتاريخية واندغامها بقراءة النص من داخله بالدرجة الأولى، وبتحديد المنهج وعملية الإصغاء إلى النص من داخله، نحو تشكيل رؤاه البيانية والنظام البياني المعرفي والمحمولات الثقافية، ونفعها في الإعلان عن الهوية والماهية.
تقصى اليوسفي كتاب "فن الشعر"، ما قاله وما سكت عنه، وأول مواقف المهتمين بتراثنا الفكري من كتاب الشعر لأرسطو، ولاسيما مفهوم المحاكاة والرؤية والتبويب والقراءة والمنهجية. وأوضح أن للصراع بين النظام المعرفي اليوناني والنظام العربي تاريخيته ومداه، وأن تأثيرات كتاب فن الشعر متصلة بطفح الدلالات، وخبايا مفهوم المحاكاة، وفعلية الشعر (الكاثرسيس)، بينما تباينت التأثيرات لاحقاً إزاء حدوث التأصيل، والصراع بين الرؤى، وخلخلة النظام اليوناني داخل الخصائص الثقافية العربية من خلال إقصاء الحكاية، وإقصاء رؤية أرسطو لعملية الإبلاغ الشعري، وهذا جلي في منجزات الفلاسفة والمفكرين العرب من الشرح إلى الابتداء والتأصيل في تلازم مفهوم الشعر مع الخصائص الثقافية، وأساسه أن الشعر هو فعل الشعر، وأن الشعرية بلا ضفاف، وتقع في الشعر، وتندسّ في النثر، وأن للشعرية وظيفتها الواسعة، وأن للإيقاع مكانته في عملية التصنيف والنمذجة، وفي شكل القراءة، والدفق الدلالي، وفي ماهية الشعر وتخييله. غير أن الفلاسفة العرب سكتوا في نصوصهم عن حضور النظام البياني وصداه في كيفية التمثل، ومكونات الباثّ والرسالة والمتقبل، والتأويل، وقراءة المنهج، وطبيعة الموضوع المدروس.
رأى اليوسفي أن اهتمام الدارسين بالشاعر لا يقلّ أهمية عن اهتمامهم بالنص وبحثهم عن القوانين التي تؤسس مجتمعة علم الشعر. وأن العوامل الخارجية التي تعين على إخراج الشاعرية من حّيز الوجود بالقوة إلى حّيز الوجود بالفعل هي المهيئات والبواعث، وأن المكونات المتسترة على نفسها في ذات الشاعر هي القوة الحافظة، والقوة المائزة، لاستدعاء المقاصد الكلية، وأسلوب إيراد تلك المقاصد وطرائق تشكيلها، وترتيب المعاني وفق ما يتطلبه الأسلوب المتخير، وصياغة المعاني في عبارات، وتخّيل المعاني وفق ما يتطلبه الغرض من تواتر وتراتب، ومكّملات المعاني وزينتها، وملاءمة تلك المعاني للإيقاع، وملاءمة المعنى الملحق بالمعنى الأصلي لاكتمال البيت الواحد.
صارت قراءة النص الشعري راسخة مع الخصوصيات الثقافية العربية من التقاط القانون إلى تأصيله، وتأصيل مقولات السلف، وتجلى ذلك في العدول الإيقاعي الخارجي والداخلي، والمستوى الدلالي عند ضبط المحاكاة والتخييل وقضية الإيصال الشعري ووظيفة الشعر، وعند تحديد أنماط المحاكاة من حيث مقاربة الواقع، وفاعلية التخييل في صلب الخطاب الشعري وتحولاته الدلالية (المعنى ومعنى المعنى)، وتراتبية الغرابة والغموض في الجانب البنائي للخطاب الشعري، ومدى التخييل وتأثيره في المتلقي كالإمتاع والمؤانسة، ومساهمة المتلقي في عملية الإبداع.
استنتج اليوسفي في دراسته الواسعة والعميقة نظرية العرب الخاصة في الشعر والشعرية من المؤثرات إلى التأصيل، على أن نظرية العرب في الشعرية فعل وجود، وأن النظرية تمتلك وجوداً تاريخياً والنص الشعري يوجد وجوداً لا تاريخياً، أما لحظات اندفاع النظرية فمتجلية باحتواء النص الشعري، بينما تبدت لحظات الانكفاء بأحوال احتجاب النظرية في أقوال النص، ثم صارت العلاقة بين النصين القديم والمعاصر علاقة تنامٍ في التغاير، حسب الخصوصيات الثقافية العربية، دعوة إلى رسوخ تأصيل النص بالكشف عما لم يكشف عنه القدامى، وتأصيل الذات بدفعها على درب الحيرة والسؤال، وتأصيل النظرية العربية القديمة، و"هذا يعني أننا مطالبون بإعادة بناء شعريته بالنظر في النص الحديث ذاته. فالنص الحديث لا كلّ نصّ، بل ذاك المؤسس الأصيل، إنما يستمد شرعية وجوده بيننا، وقدرته على الفعل فينا، من وقوعه على تلك الشعرية المقفلة على ذاتها في النص القديم، إنه حركة تنامٍ للقديم، وليس هدماً له"( ).
تلازم نقد النص التراثي في الشعر بين التأصيل والتحديث توجهاً نحو صوغ منهجيات معرفية لا تخرج عن الخصوصيات الثقافية العربية.
3- المنهجيات الحديثة:
مارس الباحثون والنقاد الأكاديميون المنهجيات الحديثة في قراءة النص التراثي تنمية للمنهجيات التقليدية إلى جانب التأثر المباشر بالغرب ومنهجياته الحداثية قليلاً أو كثيراً. وأورد أبرز هذه المنهجيات الحديثة:
3-1- وعي النظرية الأدبية في التراث النقدي:
اتجه شغل طيب تيزيني (سورية) إلى السجال الفكري الراهن حول بعض قضايا التراث العربي منهجاً وتطبيقاً، وجادل فيه أهل اليمين على تنويعاتهم، وأهل اليسار ومواقفهم من القضية التراثية، ليس بوصفها شأناً من شؤون الماضي، بل بوصفها مسألة راهنة لا تنفعهم عن قضايا الثورة الاجتماعية والقومية والثقافية والتقنية، لتحتل مكانتها الضرورية في البرنامج الفكري – السياسي الداعمة للوجود العربي ووعي الذات القومية، "فهي، أولاً، لحظة الحفر الجدلي المادي التاريخي في الوضعية إياها ومحاولة استكشاف الآفاق الجديدة الناهضة فيها، على خفوتها وقلقها وتعثرها في حالات كثيرة. وهي، ثانياً، لحظة التعبير عن علامات الارتداء والنكوص (في الوضعية المعنية)، وذلك بصيغة العرض النقدي مرة، وبصيغة السجال النقدي مرة أخرى، وبصيغة التعرية اللامهادنة لإشكالية تلك الوضعية في كلّ الأحوال"( ).
عالج تيزيني في كتابه القضايا التالية: ما لا يجوز الصمت عليه في قضية التراث العربي، في ما بين الفلسفة والتراث، عالم الطفولة ومشكلة التراث، معالم أولية في إشكالية الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي الحديث، بين موسوعة المعارف العربية والفكر التاريخي التراثي، في قراءة النص الفكري، نماذج متعددة من نمط واحد زائف (فاسد بالاعتبار المنهجي المنطقي). وناقش اشكاليات قراءة التراث العربي عند مفكرين عرب، كالمفارقة بين كسينوفان ومحمد عابد الجابري، أو مشروعية الوعي الوهمي الإيهامي، والمفارقة بين رينان والجابري، أو من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب الشرقي (المغربي)، وهناك أبحاث ثمينة عن حسين مروة رائداً ومؤسساً في البحث التراثي العربي، ونظرة في التراث العربي الفكري المستنير، وابن خلدون بين التراث والوضع الراهن.
تقّصد تيزيني، في صلب أبحاثه ودراساته، التعرض لنماذج متنوعة تنوعاً إيديولوجياً ومنهجياً، ليبين، بطريقة أولية، "أن إشكالية الدراسة النصية النقدية واحدة من الإشكاليات التي تخترق معظم أنساق النقد الفكري العربي المعاصر، وذلك في الزاوية الأكثر مباشرة وبساطة: الحفاظ على بنية النص والتعامل معها من موقعها البنيوي، ومن موقعها التاريخي، ومن موقعها الاجتماعي"( ).
عني جابر عصفور عناية مبكرة بالنظرية الأدبية في التراث النقدي ومنهجياته، وطبقّها على مفهوم الشعر، من منظور محدد، أن المشكلة الأساسية في وجهة النظر وفي المنهج الذي يُرى التراث من خلاله، على أن وجهة النظر المصاحبة للمنهج، تفرض طبيعة المعالجة، كما تفرض زوايا الاختيار، وتحدد، في النهاية، نقاطاً للحوار، يتم فيها الجدل بين الماضي والحاضر، دعماً للحاضر الذي هو نقطة البدء والمعاد"( ).
بنى عصفور كتابه على تصورين عن التراث، الأول تصور يتعامل مع التراث باعتباره كتلة من الأحداث والمفاهيم والقيم، وأن التراث موجود في الذات العربية على الدوام، "أما التصور الثاني، فيتعامل مع التراث من منظور الوعي بالحاضر والإدراك للوجود الآني، وذلك هو التصور السائد، فضلاً عن أنه التصور الممكن عملياً"( ).
بحث عصفور في كتابه الفريد زوايا التراث في نقد الشعر، حول موضوع واحد هو مفهوم الشعر، من خلال كتب ثلاثة، هي "عيار الشعر" لابن طباطبا العلوي (-322هـ)، و"نقد الشعر" لقدامة بن جعفر (-337هـ)، و"منهاج البلغاء وسراج الأدباء" لحازم القرطاجني (-684هـ)، كونها تمثل محاولات أصيلة لتحديد الأصول النظرية لمفهوم الشعر في التراث النقدي. وناقش تشكيل المفهوم في البحث عن عيار للشعر عند ابن طباطبا، وعن علم له عند قدامة بن جعفر، واهتم بتكامل المفهوم عند حازم القرطاجني، وقوامه المهاد النظري، ومهمة الشعر، وطبيعة المحاكاة الشعرية، والوزن والموسيقى، والتناسب والوحدة.
كان تركيز عصفور الدائم هو "التأصيل النظري على الخطوة المنهجية التي دفعت النقاد الثلاثة، إلى بناء مجموعة من التصورات، تترابط عند كلّ منهم بشكل متميز، يحدد مفهوماً للشعر من ناحية، ويؤسس علماً يميز الجيد من الرديء من ناحية أخرى"( ).
يؤكد شغل عصفور أن التراث النقدي شديد الخصوصية الثقافية في رسوخ النظرية الأدبية الأصيلة في نقد شعر التراث، من المفاهيم النظرية لمهمة الشعر وماهيته وأدائه إلى أبعاده الوثيقة مع التاريخ والحياة والواقع.
خصص مدحت الجيار (مصر) كتابه "الشاعر والتراث" لدراسة المادة والمنهج، إذ تقوم العلاقة بين الشاعر والتراث بمجرد أن يبدأ الشاعر في كتابه نوعه الشعري، لأنه يتناص مع هذا التراث ابتداء من الموروثات اللغوية والأسلوبية والموسيقية، وانتهاء بالقضايا والموضوعات التي تملك تطوراً ذاتياً واجتماعياً عبر حلقات التاريخ القديم والوسيط والحديث.
ومن ثمّ تتحرك، برأي الجيار، "علاقة الشاعر بالتراث عبر عصور ومذاهب ومدارس واتجاهات تتعاصر، وتتداخل، وتسيطر إحداها – أحياناً – ولكنها تعود إلى هامش النص بعدما كانت تمثّل متنه. ويتكّون بهذه الحركة ملمح التراث الخاص بكلّ عصر ومذهب وشاعر. ويعني ذلك أن مفهوم الشاعر والتراث كليهما يتغيران ويتطوران مما يزيد في تمايز خصائص كل مرحلة وكل شاعر"( ).
درس الجيار الشاعر والتراث في نظرية الأدب تحليلاً للإطار الاجتماعي لجدل الشاعر والتراث، وعلاقة الشاعر بالتراث في نظرية المحاكاة، وفي نظرية التعبير الرومانسية، وعلاقة الشاعر بالتراث ما بين المحاكاة والتعبير، وفي نظرية التعبير، وتوازن العلاقة بين الشاعر والتراث في نظرية الخلق، وجدل علاقة الشاعر بالتراث في مفهوم نظرية الانعكاس.
طبّق الجيار الدراسة على التراث والشاعر العربي في المراحل التالية: التراث والشاعر في العصر العربي حتى سقوط الدولة الأموية (150ق.هـ - 132هـ)، والشاعر العربي وتحديث النص والتراث خلال العصر العباسي (132هـ-656هـ)، ومرحلة التقليد والتناسخ وسيادة النثر في العصرين المملوكي والعثماني (656-1213هـ)، ثم نقل التطبيقات إلى الشاعر العربي الحديث والتراث في ثلاث مجالات، أولها تحديث الشعر العربي بالإحياء التراثي من رفاعة إلى شوقي، وثانيها الرومانسية العربية والتراث من خلال تطور الذات الشاعرة وإتساع مفهوم التراث، وثالثها انفتاح النص الشعري والجدل مع جوهر التراث في شعر التفعيلة.
أفصح كتاب الجيار عن المبدأ الجمالي والصيغة الفنية للنص الشعري وخضوعها للبنية الثقافية الأم، أي عناصر التمثيل الثقافي التي تولد عنها الشاعر والنص والتراث والمتلقي على السواء في عصور الأدب العربي، وفي نظريات الشعر الكبرى: المحاكاة والتعبير والخلق والانعكاس بما يؤكد على خصوصيات النظرية الشعرية العربية الأصيلة في التطور التاريخي والاجتماعي والشعري لعلاقة الشاعر بالتراث من خلال منهج اجتماعي تاريخي تحليلي، يستشهد بما يمثل جوهر حركة المجتمع والتاريخ والفن الشعري، حسب تعبير الجيار.
3-2- البنيوية:
اكتنه كمال أبو ديب (سورية) جدلية الخفاء والتجلي وأسرار البنية العميقة وتحوّلاتها في الشعر العربي تطابقاً مع المنهج البنيوي للوعي بالبنية السطحية والبنية العميقة، وإدراك الآلية الدلالية والحركية لتجسيد المعاني والدلالات والتفاعلات البنيوية القائمة "على تراث فكري وفلسفي ولغوي يعود إلى أوائل القرن الحاضر، وكونها استمراراً لتطورات فكرية وفلسفية تضرب جذورها في أغوار التراث الأوروبي ممتدة إلى هيغل على الأقل ومفاهيمه الجدلية، وإلى فرويد والتحليل النفسي"( ).
اعتمد أبو ديب على الأسس النظرية للمنهج البنيوي، ونحى منحى نظرياً، لاكتشاف الظواهر الفكرية والفنية في بنية القصيدة التي تعزز فهم العالم ووعي العلاقات التي تنشأ بين مكوّنات الثقافة وعياً للعلاقات بين مكّونات البنى الاقتصادية والسياسية والنفسية والاجتماعية، لإدراك عملية الإبداع والخلق. وأضاء عملية القراءة والإدراك للدراسة البنيوية "من أجل فهم بنية ما، بكل تعقيدها وتشابكها، بجدلية الخفاء والتجلي فيها"( ).
شرح أبو ديب الأبعاد الأولى للبنيوية في الصورة الشعرية، والفضاء الشعري، وبنية الإيقاع الشعرية، والأنساق البنيوية، ثم طبّق المنهج البنيوي في تحليل الشعر، بما هو فاعلية خلق ورؤيا متأصلة في الذات الإنسانية واكتناه للحظة التوتر بين الإنسان والعالم، هو هاجس النزوع، والثاني متابعة تحديد عدد من المنطلقات الأساسية لصياغة نظرية بنيوية للمضمون الشعري"( ).
خلص أبو ديب إلى نتيجة داعمة للتأصيل والتحديث في المنهجيات الحديثة في قراءة النص التراثي، بإتباع المنهج البنيوي واكتناه مستويات البنية الأخرى وكيفية تجسيد كل مستوى من هذه المستويات للبنية الأساسية للقصيدة، ولاسيما الأنساق الصوتية في العقيدة وتحولاتها، وأنساق الصورة الشعرية وتحولاتها، وسواهما.
اشتغلت فدوى مالطي ـ دوجلاس (مصر) في البنيوية أيضاً وعلاقتها بالنص التراثي العربي، وبحثت في دراساتها مبادئ النظام، والقوانين، والأساليب الفنية التي استخدمها المؤلفون التراثيون في خلق أعمالهم.
وشرحت في الفصل الأول البنيوية والنص التراثي العربي كمنهج نقدي ملائم للنصوص العربية في العصور الوسطى، وعللت منهجهما البنيوي، على أن البنيوية تتكون من مجموعة من أنظمة التفكير التي تتقابل عند نقطة معينة، بوصف رولان بارت، هي التشريح والربط، ويفيد التشريح عملية اكتشاف بناءات النص الأساسية، بينما يمثل الربط "إعادة توحيد هذه البناءات على نموذج للنص أو شكل مواز له. ويمكننا، من ثم، أن نرى في هذا النموذج الموازي تفاعل البناءات في النص بكامله"( ).
درست دوجلاس نوعين معينين من النصوص التراثية هما أدب المسامرات والترجمة، وركّزت على المنهج البنيوي الذي يمثل نسقاً يكشف عن البناءات، أي مبادئ النظام، المتضمنة في صلب النص، ويتفق هذا المنهج النقدي مع دراسة الأدب العربي التراثي وعرضت في الوقت نفسه الاعتراضات الستة على البنيوية المنحصرة فيما يلي:
‌أ- إن البنيوية لم تعد شيئاً يساير العصر، أوانها ليست أحدث المدارس النقدية في الادب.
‌ب- البنيوية تعالج الأعمال الأدبية كأنها مؤسسة كلها على النماذج البسيطة نفسها.
‌ج- من الواجب درس الأدب باستخدام مبادئ الأدب نفسه، ويجب على النقد الأدبي أن يكون موضوعاً مستقلاً.
‌د- إن البنيوية تعزل العمل الأدبي عن بيئته الكاملة، أي عن تراثه الأدبي، وحياه مؤلفه، والمجتمع الذي ألف به والمنعكس في العمل نفسه.
‌ه- إن التحليل البنيوي للنص الأدبي يشبه جناح الفراشة تحت "الميكرو سكوب" فيضيع النص الأدبي كلاً من جماله وكمال.
‌و- يمثل تطبيق البنيوية على النصوص التراثية مفارقة تاريخية، فضلاً من أنها تكون من حضارة أخرى.
تميز نقدها لهذه الاعتراضات على أنها افتراضات خاطئة عن طبيعة النقد الأدبي، لأن المنهج البنيوي لا قطيعة له مع المناهج النقدية الأخرى، فحللت المنظومات القصيرة في حكاية البخلاء للجاحظ، والفكاهة والبناء في حكايتين من حكايات البخلاء للجاحظ والخطيب البغدادي، والبناء والتنظيم في أحد الأعمال الأدبية ذات الموضوع الواحد، "التطفيل" للخطيب البغدادي، والمقامة المضيرية لبديع الزمان الهمذاني، والجدل وتأثيراته في تقليد سيرة الخطيب البغدادي، والأحلام والعميان وسيميائية الترجمة للصفدي، والعلاقات الداخلية المتبادلة بني العناصر الاسمية: الأسماء، وأسماء الدين، والكنى في القرن التساع بعد الهجرة.
تجلى في تحليل الناقدة أن البنيوية تدرس النماذج على مستويات عديدة للنص كالأسلوبية والمهارة الفنية والمنظورات الفكرية من داخل النص بالدرجة الأولى.
3-3- قراءة النص:
برز المنهج النصي في قراءة النص التراث النقدي عند العديد من النقاد والباحثين الأكاديميين، ونذكر منهم أحمد درويش، وعبد الرحيم الكردي (مصر).
أصدر أحمد درويش كتابه "التراث النقدي، قضايا ونصوص" مقاربة للاتجاه النصي في النصوص النقدية التراثية، وأفاد أن النقد الأدبي في أبسط معانيه يتمثل في القدرة على تحليل النص الأدبي ومحاولة الحكم على قيمته، متركزاً على التذوق الفطري للجمال الفني واللغوي، وعلى "الرقي بمستوى النص الأدبي المنتج من خلال الحوار الفردي أو الجماعي، مما يعود أثره دون شك على مستوى النتاج الأدبي والجمالي والحضاري لأمة من الأمم"( ).
تكفل درويش بإثارة مجموعة من التساؤلات حول تقدير القيم الجمالية في التراث النقدي والقدر العظيم الذي منحه النقاد الأقدمون، وبعضهم من علماء الدين، لنمو هذه القيم ونمو التفكير الأدبي والنقدي معها، وتصاحب نقده مع البلاغة والنقد العربي القديم، نظراً للمستوى اللغوي الخاص الذي تصاغ به، وتتولد عنها الرؤى والأفكار والمستويات الفنية من داخل النصوص، وعرض تطبيقاً ثمانية من النصوص المختارة من التراث النقدي لابن قتيبة، وابن دريد، وقدامة بن جعفر، وأبي الفرج الأصفهاني، وابن طباطبا، والقاضي الجرجاني، والحصري القيرواني، وأعقبها بدراسات عن فنّ الصورة عند حازم القرطاجني، ومفهوم الخيال لدى النقاد والفلاسفة والبلاغيين العرب، إلى جانب دراسة تطبيقية، تحاول أن تجيب على تساؤل حول سرّ تحول شاعرية أبي نواس إلى أسطورة، وتقدم هذه الدراسات التطبيقية، بعامة، محاولة لرؤية التراث النقدي بعين المثقف المعاصر من خلال المنهج النصي الذي ينطلق من متن النص، وتمحيصه العلمي والتاريخي واللغوي، وحرية النظر والتأمل وتوسيع الآفاق في تشكلاته الفنية، وتمازجاته الأدبية والثقافية معها، كما صنع الأصفهاني في مزج عوامل الغناء والموسيقى والشعر، وكما صنع الجاحظ في التقريب بين فنون المحاكاة والتمثيل والأدب، وكما صنع عبد القاهر الجرجاني في الاستفادة من الفنون الجميلة كالنحت والنقش والتصوير والصياغة، واقتراب الشعر منها جميعاً في جوهر نظم الفنّ.
أما عبد الرحيم الكردي فقد بحث عن المناهج التي أفرزتها الحضارة العربية في مجال قراءة النص، لتكون بعداً استراتيجياً ونقدياً، ومنهجاً يتلاءم مع الذوق، والثقافة، وإثبات الذات، وإنتاج المعرفة، من خلال المنهج النصي، "والعناية بالنص الأدبي نفسه، باعتبار أن الجسد اللغوي للنص عند أنصار هذه المناهج هو المدخل الفيزيقي الوحيد لإدراك حقيقة النص إدراكاً علمياً، أو باعتبار النص وحدة بنيوية مستقلة عن المؤلف والقارئ، ومستقلة أيضاً عن البيئة الثقافية التي أنتج فيها"( ).
علل الكردي المنهج النصي في قراءة التراث العربي بوفرة التأويلات أو التفسيرات من داخل النص، "حيث يتمتع النص خلالها بسلطة مطلقة يستمدها من الدين، أو من التاريخ وعبق الماضي، وأن النص... يكتفي فيه بالتفسير والشرح والتأويل"( ).
اعتمد الكردي على القراءة اللغوية والتأويلية والتجديدية، مثلما شرح قراءات النص الأخرى التفسيرية والخلاّقة، التي تعمل على إنتاج الدلالة عن طريق الإدراك والتحليل والمقارنة والنقد، وهدفه البحث عن الحقيقة، وإماطة اللثام عن المناهج العربية القديمة في قراءة النص، للبرهنة "على أن نظريات القراءة ليست ابتكاراً معاصراً من بنات الفكر الغربي وحده، ويدلل على أن الإنسان العربي المعاصر يمتلك من الجذور الثقافية التي تمكنه من إنتاج مناهج نقدية تعّبر عن فكرة، وتتلاءم مع ذوقه، فالقراءة نفسها عامل إنساني مشترك بين جميع الشعوب"( ).
وجد الكردي أن التراث العربي أكثر غنى وتنوعاً، لأن أكثر العلوم العربية من نحو وصرف ولغة وأصول فقه وتفسير، إنما ابتدعت بهدف قراءة القرآن الكريم قراة صحيحة، مثلما فعل المعتزلة في علم الكلام المنصوص بهدف قراءة النص قراءة صحيحة.
عني الكردي برصد الظواهر المحورية والجديدة في تقنين قراءة النص في التراث العربي، منذ القرن الثاني حتى القرن الخامس الهجري، وهي الفترة التي ازدهرت فيها الحضارة العربية، وتوافرت فيها عوامل الابتكار، وهي الفترة التي تحولت فيها المعارف العربية إلى علوم، وتحولت السابقة إلى مناهج وقواعد. وأفرز ثلاث نظريات قرائية نقدية للنص التراثي في المرحلة الأولى في القرن الثاني للهجرة وهي القراءة اللغوية عند علماء اللغة، والقراءة التأويلية عند المعتزلة، والقراءة التجديدية عند الشافعي، وأظهر في المرحلة الثانية في القرون الثلاثة التالية نظريتين، هما القراءة البديعية عند ابن المعتز، وقراءة المعنى قراءة جمالية عند الأشاعرة.
أثبت الكردي في قراءة النص التراثي أن المنهج النصي متحقق في نقد التراث العربي، فقد تحولت هذه القراءة إلى مناهج ونظريات ومذاهب وقواعد، وتحولت أيضاً القراءة اللغوية إلى تمارين نحوية ولغوية، والقراءة التأويلية إلى شطحات صوفية وباطنية، غير أنها تندغم في المنهج النصي كلما تواصلت مع الدواخل النصية، أما القراءة التجديدية التي ابتكرها الشافعي فصارت إلى قواعد فقهية أقرب إلى المنطق وفرز الدلالات والمعاني.
لقد تطورت النظريات العربية في قراءة النص عبر القرون، وجوهرها النظر في روح النص من خلال التمسك بالشكل وتحليله.

3-4- التأويل الثقافي:
أقبل النقاد والباحثون إلى منهج التأويل، في نقد النص التراثي لإظهار المعاني في النصوص الأدبية من خلال تحليل المفردات والتركيب والمحتوى النصي. وتوزع التأويل إلى ممارسات عديدة، وأولها التأويلات الرمزية، وثانيها الإحالة إلى الخصائص الثقافية كالأدلة والمرجعيات والبيئة الثقافية والتأويل النصي تشابكاً مع الاتجاهات النقدية العميقة كالموضوعية والظاهراتية من أجل تحديد المعنى والتأويل والأنساق الثقافية والاجتماعية والنفسية. ومن اللافت للنظر أن منهج التأويل مندغم في المجازية والبلاغية والفيوضات اللغوية والإشارات والعلامات والرموز وسواها. وأذكر في منهج التأويل ثلاثة مؤلفات في نقد النص التراثي أولها "الكنز والتأويل" لسعيد الغانمي (العراق)، وثانيها "النقد العربي: نحو نظرية ثانية" لمصطفى ناصف (مصر)، وثالثها "السرد العربي القديم: الأنساق الثقافية وإشكاليات التأويل" لضياء الكعبي (البحرين).
صدّر الغانمي كتابه بكلمة مفتاحية لابن عربي من "الفتوحات المكية": "الكلمات كنوز وإنفاقها النطق بها"، واستعان في تمهيده لبحثه بكلمة للجرجاني في "أسرار البلاغة"، ولآيزر لدعم القول بأن في القراءة درراً وكنزاً، و"أن التأويل الذي يقوم به هو اكتشاف هذا الكنز، فالقراءة دائماً بحث للعثور على كنز، وضعه شخص مجهول في الحكاية. لكن كنوز الكلمات كنوز حكائية، أعني أنها لن تتجاوز حدود الكلمات. وبالتالي، فإن ما تمنحه الحكايات من كنوز ومكافآت وجوائز لن يتعدى الحكايات نفسه. فالحكاية هي ذاتها الكنز الذي تعد به"( ).
تعاضد منهج التأويل عند الغانمي مع التفكيكية والحفر المعرفي لإجلاء المعاني في سياقاتها وأنساقها ومقاصدها الكامنة، "فكلما تعددت القراءات والتأويلات تعددت النصوص"( ).
حوى الكتاب قراءات في سبع حكايات عربية "بلا مؤلفين"، أي أنها تندرج إلى حدّ كبير بالسرد الإخباري الشعبي، والحكايات هي: "حجر سنمار، الحكاية اللانهائية"، و"حكايات امرئ القيس، البحث عن أوديب عربي"، و"حكايات حاسب كريم الدين، بلوقيا والسرد والخلود"، و"صندوق وضاح اليمن، الحكاية المجرمة"، و"سلامة والقس، ترويض الحواس"، و"أبو حيان الموسوس والماء، الحكاية المجنونة"، و"الرؤيا والكنز والتعبير، حكاية الحالمين".
يلمس المرء في تأويل الغانمي حفراً معرفياً في مجالات تحليل متعددة: التحليل النفسي، التحليل المقارن للعناصر الإناسية، التحليل بالاستعانة / اللغة والمعاني والدلالية والرموز والتعارض الحكائي والتناص مما هو سمات للمنهج التفكيكي على نحو ما، وهذا ما فعله في تأويله لحكايات امرئ القيس على سبيل المثال، استعادة للمرويات الإسلامية والإسرائيلية والأسطورية، واستمد الغانمي بعض التأويلات من مستندات بروب وغريماس النقدية، على أن الشكلانية والتفكيكية تحوي المدلولات والمعاني كلما أمعن النقد في قراءة النص التراثي.
أما مصطفى ناصف فقد بحث في كتابه التأويل الثقافي من خلال رسم علامات على طريق العلاقة بين النقد والثقافة لتوضيح جوانب من القلق الجماعي الكامن في الأمثلة والمصطلحات، ومصطلحات النقد العربي قسمان رئيسيان فيما يظن، "أحد القسمين يدور حول شيء من الترابط والتفاؤل والسذاجة الحلوة والبناء، والثاني يدور حول المناوأة، ويخدم مشاعر الاشتباه والتأويل والسخرية، والاكتفاء بحركة الذهن، دون اكتراث واضح بأهداف موحدة لا ريب فيها"( ).
إن النقد العربي للنص التراثي، برأي الغانمي، قد يكون مفتاحاً للثقافة العربية، والثقافة العربية في بعض مظاهرها قد تكون أجلى وأعمق إذا تحسنّت قراءة هذا النقد، وأكد أن الوجه الثقافي للنقد لا ينفصل عن الأسطرة أيضاً، للتظاهر بشيء من المصالحة بين المتباينات، أو التظاهر بالحركة السريعة التي توحي بحافة الحياة، وحافة الموت. وأوضح "أن البلاغة تصور عمق النقد العربي وفلسفته، البلاغة هي دراما النقد العربي"( ).
عّبر ناصف عن ثراء النقد العربي بطرائقه التجريبية من خلال مفردات وتراكيب مثل السلطة والعلاقة بين القبض والبسط، والوجه الأسطوري للاستدلال العقلي، والموقف المزدوج من قوة الكلمة، وخضوع النظرية كثيراً لمفهوم القسمة، والتعريف، "ومن حق النظرية أن تجرب طريق التجربة، والتكامل، والإيماء، والحذف، والصمت أيضاً"( ).
استحضر ناصف أفكار عبد القاهر الجرجاني بالدرجة الأولى، على أنها ضرب من الوعي الجماعي، غير أن الوعي الفردي غالب على الرؤى والأفكار الذاتية في العصر الحديث، واستفاد من فكر الجرجاني الكاشف عن نسيج العقل العربي وتلاحمه، ومقاومته، وشموله، لأن العقل العربي هو مشغلة كل دارس عظيم في التراث. وقد دقق هذا الفكر في خدمة التراث، وحركته، وجدله، فكل كتابة واعية تصهر الآفاق المتنوعة: آفاق المؤول وآفاق التراث.
عالج ناصف مسائل التشعب، والامتداد، والتعدد، وعلاقة الاشتباه بالمبادئ المحكمة في النقد العربي القديم والحديث، وصلة هذا النقد والثقافة الأدبية الموروثة بالمصطلحات المعاصرة، وعلى رأسها الغموض والتشظي وتعمقت أبحاثه في دراسة النحو والسلطة، والتأليف بين المتباينات، والكلمات بين التغير والثبات، والنقد العربي ومعجز أحمد، والدور الوظيفي للمغايرة، والبحث عن أسطورة الجماعة، والكلمة الغائبة، وعالم الاستعارة، والمغزى الثقافي للأسلوب، وأكثر من بلاغة، ونظام الشعر، والإحساس الأخلاقي، وقوة الكلمة، والحوار الداخلي.
إن درس التأويل الثقافي في كتاب ناصف شديد التعمق في المصطلحة واللغوية والثقافية ومدى التعالق مع المنهجيات النقدية الحديثة، ولا سيما الأسلوبية والبنيوية والحفر المعرفي.
اشتغلت الناقدة ضياء الكعبي في التأويل الثقافي أيضاً، وفي الجمع بين القديم والحديث، وبين التراث والمعاصرة، لمساءلة هذا التراث واستكناه ملامحه وقوانينه انطلاقاً من الأنواع السردية التي برزت في إطار التفاعل السائد بين كل مكونات الثقافة العربية الإسلامية. وفتحت النصوص السردية على حقول معرفية عديدة، كقصص الحيوان، والقصة العجائبية، والمقامات، والسير الشعبية، وأيام العرب، والقصص الإسلامي القرآني والمسجدي، وقصص الأنبياء، وكرامات الصوفية، والمنامات، وغيرها. وحللت تشكلات هذه الأنواع السردية، وأنساقها الثقافية، وأنماط تلقيها في النقد العربي القديم، وفي النقد العربي الحديث والجديد. واختارت نماذج سردية أوسع هي القصة العجائبية، والمقامات، والسير الشعبية، لأن القصة العجائبية تشكل مصدراً رئيساً للسرد العربي القديم، وتمثل مجالاً للبحث عن المسكوت عنه أو المغيب في هذا التراث السردي، مما يفتح آفاقاً جديدة للتفكير في الذات العربية في مختلف بناها الذهنية والفكرية. ونظرت إلى المقامات نوعاً أدبياً مراوغاً، على "أن مضمونها تشكله شخصيات مهمشة من الفئات الدنيا في المجتمع، إلى جانب النقد السياسي والاجتماعي الذي قامت به منذ نشأتها الأولى عند بديع الزمان الهمذاني"( ).
أجابت دراستها عن سؤال راهن: كيف كان تلقي السردالعربي بين القديم والحديث؟، وتفرّع السؤال إلى تشكيل محاور البحث، وهي:
‌أ- ما تشكّلات الأنواع السردية الكبرى في علاقتها بالنص الثقافي في الثقافية العربية الإسلامية؟
‌ب- ما الأنساق الثقافية التي تحكّمت في العلاقة بين القصّ والسلطة بمختلف مظاهرها وتجلياتها؟ وما دور القصّ في مواجهة السلطة السياسية والاجتماعية؟ وكيف كان دور المتلقي لبلاغة المقموعين والمهمشين في هذه الأنواع السردية؟ وما أنماط هذا التلقي؟
‌ج- كيف كان تلقي الموروث السردي العربي في النقد العربي القديم؟
‌د- هل اختلف تلقي النقاد العرب المحدثين عن تلقي النقاد العرب القدامى؟
استند نقد الكعبي إلى "الأول: المنهج التاريخي التعاقبي للكشف عن تشكلات الأنواع السردية الكبرى وتحولاتها بين القديم والحديث والأنساق الثقافية التي صدرت عنها، والثاني نقد النقد للموروث النقدي والبلاغي لهذه الأنواع مروراً بتلقيها في النقد العربي الحديث والجديد"( ). ثم حددت إطاري الموضوع الزماني والمكاني بالنظر في كتب التراث اللغوي والمعجمي والثقافة، والتراث النقدي والبلاغي، والسردي، وإخضاعها للتحليل والتعليل والتفسير والموازنة، وتوزع الكتاب إلى المنظورات التالية عند تحليلها للأنساق الثقافية وإشكاليات التأويل: السرد العربي القديم وتشكلات الأنواع السردية الكبرى، السرد العربي القديم والأنساق الثقافية، آفاق تلقي الموروث السردي في النقد العربي القديم، تبيان تلقي الموروث السردي في النقد العربي الحديث والجديد.

استنتجت الكعبي الخلاصات التالية:
‌أ- انفتاح الأنواع السردية التي شكلت إطار البحث على أنواع سردية متنوعة وحمولات معرفية تنتمي إلى أنساق ثقافية متباينة.
‌ب- التباين في تلقي الموروث السردي بين الثقافتين "العالمة" و"الشعبية".
‌ج- لجوء الثقافة الشعبية "غير العالمة" إلى أشكال وأنماط مراوغة من القصّ.
‌د- عرفت الأنواع السردية الكبرى أداءات تمثيلية مصاحبة لها.
‌ه- اختلفت المقامات عن ألف ليلة دليلة والسير الشعبية في أنها دوّنت كتابة، ولم تتناقل شفاهاً في أوساط التلقي عبر قرون عدة.
‌و- غيّب الموروث النقدي والبلاغي العربي القص العجائبي والسير الشعبية.
‌ز- تعددت أنماط تلقي الأنواع السردية الكبرى عند النقاد العرب القدامى.
‌ح- مثّلت مقامات الحريري نصاً ثقافياً شمل فنون القول العربي وجاذبية كبرى لمتلقيها من شراّح المقامات وسواهم.
‌ط- كشف تلقي الموروث السردي العربي القديم في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين عن رواج المرويات السيرية والعجائبية والإقبال عليها من جانب المتلقين.
‌ي- شهد الموروث السردي منذ سبغييات القرن العشرين تنبهاً من النقاد العرب على ضرورة الاستفادة من منجزات النظرية النقدية الغربية.
من الواضح أن نقد الكعبي يلتزم بالمنهج الثقافي متعالقاً مع التأويل والتلقي في فهم الموروث السردي العربي القديم وتشكلاته ومنظوراته.
إن المنهجيات الحديثة في نقد النص التراثي لا تبتعد عن أطروحات الهوية وتحققات وعي الذات وتمثلاتها الثقافية العربية، انعطافة من المؤثرات الأجنبية إلى الحوار في النظرية الأدبية ومنهجياتها العلمية والمعرفية. وهذا هو جوهر التأصيل والتحديث.

المراجع:

1) أبو ديب، كمال: أنهاج التصور والتشكيل في العمل الأدبي، في المصدر السابق.
2) أبو ديب، كمال: جدلية الخفاء والتجلي، دراسات بنيوية في الشعر، دار العلم للملايين، بيروت، ط2، 1981.
3) أبو علي، نبيل خالد رباح: نقد النثر في تراث العرب النقدي حتى نهاية العصر العباسي 656هـ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993.
4) تيزيني، طيب: في السجال الفكري الراهن... حول بعض قضايا التراث العربي، منهجاً وتطبيقاً، دار الفكر الجديد، بيروت، 1989.
5) الجيار، مدحت: الشاعر والتراث، دراسة في علاقة الشاعر العربي بالتراث، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الاسكندرية، 1995.
6) درويش، أحمد: التراث النقدي، قضايا ونصوص، الهيئة العامة لقصور الثقافة، كتابات نقدية 77، القاهرة، 1998.
7) دوجلاس، فدوى مالطي: بناء النص التراثي، دراسات في الأدب والتراجم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1985.
8) الطرابلسي، محمد الهادي: نقد الأدب عند البلاغيين العرب: في المصدر السابق.
9) الطرابلسي، محمد الهادي: نقد الأدب عند البلاغيين العرب، في المصدر السابق.
10) عبد البديع، لطفي: الاسم والمسمى، المصدر السابق.
11) العزاوي، نعمة رحيم: النقد اللغوي عند العرب حتى نهاية القرن السابع الهجري، وزارة الثقافة والفنون، بغداد، 1978.
12) عصفور، جابر: قراءة التراث النقدي، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة، 1994.
13) عصفور، جابر: مفهوم الشعر، دراسة في التراث النقدي، ط2، دار التنوير، بيروت، 1982.
14) الغانمي، سعيد: الكنز والتأويل، قراءات في الحكاية العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، 1994.
15) الكردي، عبد الرحيم: قراءة النص، مقدمة تاريخية، مكتبة الآداب، القاهرة، 2006، ص5
16) الكعبي، ضياء: السرد العربي القديم، الأنساق الثقافية وإشكالية التأويل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2005.
17) مرتاض، عبد الملك: نظرية، نص، أدب، ثلاثة مفاهيم نقدية بين التراث والحداثة، في المصدر السابق.
18) المعطاني، عبد الله: أثر البيئة في المصطلح النقدي القديم، المصدر السابق.
19) ناصف، مصطفى: "بين بلاغتين"، في كتاب "قراءة جديدة لتراثنا النقدي"، المجلد الأول، النادي الأدبي الثقافي بجدة، 1990.
20) ناصف، مصطفى: النقد العربي، نحو نظرية ثانية، علم المعرفة 255، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، آذار 2000.
21) الوليد، يحيى بن: التراث والقراءة، دراسة في الخطاب النقدي المعاصر بالمغرب، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003.
22) اليوسفي، محمد لطفي: الشعر والشعرية، الفلاسفة والمفكرون العرب، ما أنجزوه وما هفوا إليه، الدار العربية للكتاب، طرابلس الغرب، تونس، 1992.