منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - الأثبات بشهادة الشهود في المواد المدنية و التجارية
عرض مشاركة واحدة
قديم 2013-12-15, 23:03   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
adoula 41
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










B10 الفصل الأول: القواعـد الموضوعية للإثبات بشهـادة الشهـود

لقد نظم المشرع الجزائري القواعد الموضوعية للإثبات بشهادة الشهود في المواد من 333 إلى 336 من التقنين المدني، واعتبرها من الطرق المقيدة، أو ذات القيمة المحدودة فهي لا تقبل لإثبات التصرفات القانونية المدنية إذا زادت قيمتها عن حد معين، أو كانت غير محددة القيمة، كمالا تصلح لإثبات ما يخالف أو يجاوز ما هو ثابت بالكتابة، وتقبل كدليل أصلي في الوقائع المادية، والتصرفات التجارية، وكذا التصرفات المدنية التي لا تتجاوز قيمة معينة، وكدليل تكميلي في حالة وجود مبدأ الثبوت بالكتابة، أما في حالة وجود المانع من الحصول على دليل كتابي، وحالة فقد السند الكتابي بسبب أجنبي فهي تقبل كدليل بدلي.
وقبل التطرق لدراسة هذه القواعد ارتأينا استعراض الأحكام العامة لشهادة الشهود في مبحث أول، ثم نخصص المبحث الثاني لدراسة أحوال استبعاد الإثبات بالشهادة، أما المبحث الثالث فنتناول فيه ما يجوز إثباته بالشهادة.

المبحث الأول : الأحكام العامة لشهادة الشهود
إن الشهادة كطريق للإثبات ثابتة بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فمن الكتاب قوله تعالى: وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ( )، أما السنة فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بخير الشهداء؟ هو الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها".
ونستعرض لأحكامها العامة من خلال التطرق إلى تعريفها وخصائصها، وصورها، وسلطة القاضي في تقديرها وذلك في المطالب الثلاثة التالية:
المطلب الأول: التعريف بالشهادة وخصائصها
نتعرض لتعريف الشهادة في الفرع الأول، أما الفرع الثاني فنتطرق فيه إلى خصائصها
الفرع الأول: تعريـف الشهــادة
الشهادة لغة: هي الإخبار القاطع عن مشاهدة وعيان لا عن تقدير وحسبان، ولذلك سمى الله تعالى الشاهد شهيدا أي عليما، فقال عزوجل: وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ ( )، وتعني أيضا الحضور والعلم، ومنه قوله تعالى: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ( )، أي كان حاضرا في الشهر مقيما غير مسافر فليصم ما حضر وأقام فيه( ).
والشهادة في الاصطلاح القانوني يقصد بها قيام شخص من غير خصوم الدعوى بالإخبار أمام القضاء عما أدركه بحاسة من حواسه، كالسمع أو البصر بشأن الواقعة المتنازع عليها، أي أن الشاهد يخبر بواقعة صدرت من غيره، ويترتب عنها حق لغيره( )، فهي إخبار الإنسان في مجلس القاضي بحق على غيره لغيره، ولأنها خبر تحتمل الصدق والكذب، ولكن يقوى احتمال الصدق على احتمال الكذب فيها، ذلك أن الشاهد يحلف على صدق ما يقوله وإنه إنما يشهد بحق لغيره على غيره، فلا مصلحة له في الكذب، والمفروض فيه أنه شاهد عدل، فتعتبر شهادته قرينة قوية على صحة ما يشهد به، وإن كان احتمال العكس لا ينتفي به انتفاء تاما( )
الفرع الثاني: خصائص الشهـادة
لقد اعتبر المشرع شهادة الشهود من طرق الإثبات، وجعل لها الخصائص التالية:
أولا: الشهادة حجة مقنعة فحسب، أي غير ملزمة، وتختلف الشهادة في ذلك اختلافا جوهريا عن الكتابة، فبينما يعتبر الدليل الكتابي بسبب إعداده سلفا حجة بذاته، فيفرض سلطانه على القضاء ما لم يطعن فيه بالتزوير أو ينقض بإثبات العكس، تترك الشهادة على نقيض ذلك لتقدير القاضي، ويكون له كامل السلطة في تقدير قيمتها أيا كان عدد الشهود، وأيا كانت صفاتهم، فقد يطرح القاضي أقوال الشهود كلية إذا لم يطمئن إليها، وهو غير ملزم في هذه الحالة بإبداء أسباب عدم الاطمئنان، وقد يأخذ بأقوال شاهد دون الآخر، وقد يرجح شهادة على أخرى دون أن يكون ملزما ببيان أسباب هذا الترجيح( )، كما يحتفظ بسلطته التقديرية في تفسيرها مادام لم ينحرف فيما استخلصه عما تحمله عبارات الشهود ( ).
ثانيا: وهي حجة غير قاطعة، وذلك بعكس الإقرار واليمين أي أن ما يثبت بها يقبل النفي بشهادة أخرى أو بأي طريق آخر من طرق الإثبات، فيعتبر ما ثبت بالشهادة صحيحا إلى أن يثبت عكسه قبل الحكم، ولذلك نصت المادة 69 من قانون الإثبات المصري على أن الإذن لأحد الخصوم بإثبات واقعة بشهادة الشهود يقتضي دائما أن يكون للخصم الآخر الحق في نفيها بهذا الطريق، ولا نجد لها مثيلا في قانون الإجراءات المدنية ولا في القانون 08/09 المتعلق بقانون الإجراءات المدنية والإدارية.
ثالثا: وهي حجة متعدية أي أن ما يثبت بها يعتبر ثابتا بالنسبة إلى الكافة، لأنها صادرة من شخص عدل خالي المصلحة في النزاع، لا يهمه أن يحابي أحدا من الخصوم، ولم يوجد ما ينفي دلالتها على عكس الإقرار الذي يعد حجة قاصرة على المقر تجاه المقر لصالحه.( )
رابعا: الشهادة دليل مقيد لا يجوز الإثبات به إلا في حالات معينة، لأن المشرع قدر احتمال الكذب فيها فحد من خطرها بتفضيل الكتابة عليها، فلا يقبل الإثبات بشهادة الشهود فيما أوجب القانون إثباته بالكتابة إلا إذا رضي الخصم بأن يثبت خصمه ما يدعيه بشهادة الشهود، لأن وجوب الإثبات بالكتابة لا يتعلق بالنظام العام( ).
المطلب الثاني: صـور الشهـادة
تتخذ الشهادة عدة صور، فقد تكون شهادة مباشرة، وقد تكون غير مباشرة أي سماعية كما يمكن أن تكون شهادة بالتسامع، وسنتطرق لهذه الصور في الفروع التالية:

الفرع الأول: الشهـادة المباشـرة
الشهادة المباشرة يقرر فيها الشاهد في مجلس القضاء ما وقع تحت سمعه، وبصره مباشـرة كـمن يشــاهد واقعة من الوقائـع، فيقرر أمام القضاء ما شاهده أو ما وقع من الغير أمامه، فهو يشهد على واقعة صدرت من غيره، ويترتب عليها حق لغيره( ).
ومن ثمة فإنه يجب أن يكون الشاهد قد عرف شخصيا متحققا مما يشهد به بحواس نفسه لقوله عليه الصلاة والسلام :"إذا علمت مثل الشمس فاشهد"( )، كأن يكون الشخص قد حضر كتابة عقد بيع فيسمع تبادل الإيجاب، والقبول، ويشاهد المشتري يسلم البائع الثمن فيشهد بما رآه، وسمعه، وهذا هو الغالب في الشهادة.
فالأصل في الشهادة أن تكون مباشرة، أي أن الشاهد يدلي بشهادته على وقائع وصلت إلى معرفته الشخصية، إما لأنه رآها بعينه أو سمعها بأذنه أو لأنه رآها وسمعها في نفس الوقت وذلك بصفة شفوية أمام مجلس القضاء مستمدا إياها من ذاكرته، وتكون في شكل تصريح يدلي به بذكر الوقائع التي عرفها معرفة شخصية، فالشهادة في شكل مكتوب لا تستجيب ومتطلبات المادة71 ق إ م التي نصت على أنه: "يدلي الشاهد بشهادته دون الاستعانة بأية مذكرة..." وهو أيضا ما نصت عليه المادة 158 من القانون08/09 المتعلق بقانون الإجراءات المدنية والإدارية على أنه: "يدلي الشاهد بشهادته دون قراءة لأي نص مكتوب"، ومع ذلك فيجوز للمحكمة أن تأذن للشاهد أن يبرز لها مذكراته إذا رأت ضرورة لذلك نظرا للظروف الاستثنائية التي وقع فيها تدوين تلك الشهادة( ).
الفرع الثاني: الشهـادة السماعيـة
وهي شهادة غير مباشرة، وذلك حينما لا يشهد الشخص بما رآه أو سمعه مباشرة، وإنما يشهـد بما سـمع روايـة عن الغـير، فيشهد أنه سـمع شخـصا معينا يـروي هذه الواقـعة مـحل الإثبات، فهنا الشاهد لم ير الواقعة بنفسه بل سمع شخصا معينا يرويها، فيقال للشهادة في هذه الحالة بـأنها سماعية، وهي أقل من الشهادة الأصلية المباشرة، ويقدر القاضي قيمتها في الإثبات، فهذه الشهادة لا يعول عليها لأنها لا تنشأ عن إدراك مباشر، ولا يخفى أن الأخبار كثيرا ما تتغير عند النقل.
على أن القول بعدم قبول شهادة السماع يجب ألا يؤخذ على إطلاقه، فإنه إذا مات الشاهد الأصلي الذي شاهد الأمر بنفسه، أو استحال سماع شهادته لأي سبب آخر، يصح للقاضي أن يأخذ بشهادة من سمع منه مباشرة، إذا كان عدلا موثوقا به( ).
والقانون الجزائري لم ينص على عدم الأخذ بشهادة السماع، لذلك يمكن القول بأنه للقاضي أن يأخذ بها إذا اقتنع اقتناعا تاما، واستحال سماع الشاهد الأصلي.
الفرع الثالث: الشهـادة بالتسامـع
وهي تختلف عن الشهادة السماعية التي تتعلق بأمر معين نقلا عن شخص معين شاهد هذا الأمر بنفسه، لأن الشهادة بالتسامع، ولو أنها تتعلق بأمر معين إلا أنها ليست نقلا عن شخص معيـن شاهـده بنفسه، إذ يقول الشاهد: "سمعت كـذا" أو أن "الـناس يقولـون كـذا وكـذا" عن هذا الأمر، دون أن يستطيع إسناد ذلك لأشخاص معينين، إذ يذكر ما تتناقله الألسن.
ولما كان من الصعب تحري وجه الحقيقة في هذا النوع من الشهادة فإنها لا تقبل في المسائل المدنية وإن أجازها القضاء في المسائل التجارية على سبيل الاستئناس، أما فـي الفـقه الإسلامي تـقبل الشـهادة بالتسامـع فـي حـالات معـينة، وهي الشـهادة بالنسـب، وبالموت، وبالنكاح، وبالدخول.
ملف رقم 53272 مؤرخ في 27/03/1989 ( ): "من المقرر شرعا أن الزواج لا يثبت إلا بشهادة العيان التي يشهد أصحابها أنهم حضروا قراءة الفاتحة أو حضروا زفاف الطرفين أو بشهادة السماع التي يشهد فيها أصحابها أنهم سمعوا من الشهود وغيرهم أن الطرفين كانا متزوجين، ومن ثم فإن النعي على القرار المطعون فيه بانعدام الأساس القانوني ومخالفة الإجراءات في غير محله يستوجب الرفض.
ولما كان من الثابت -في قضية الحال- أن الطاعن لم يأت بأي من شهادة العيان أو شهادة السماع لإثبات زواجه فإن قضاة الموضوع برفضهم دعوى إثبات الزواج العرفي أعطوا لقرارهم الأساس القانوني ، ومتى كان ذلك استوجب رفض الطعن".
المطلب الثالث: سلطة القاضي في تقدير الشهادة.
للقاضي سلطة واسعة في تقدير الإثبات بشهادة الشهود، وهذه السلطة تنصب على حجية الشهادة، وليس على قوة الشهادة في الإثبات، لأن نطاق الإثبات بالشهادة حدده القانون.
وسلطة القاضي في تقدير حجية شهادة الشهود تفوق كثيرا سلطته في تقدير قيمة الكتابة ذلك أن الكتابة تستمد حجيتها من ذاتها، وتفرض سلطانها على القضاء ما لم يطعن فيها بالتزوير أواثبات العكس أو الإنكار، وعلى نقيض ذلك يترك أمر تقدير الشهادة للقاضي مهما كان عدد الشهود، وأيا كانت صفاتهم، فصفة الشاهد، قد تؤخذ بعين الاعتبار من طرف القاضي، كأن يكون متعلما، أو من رجال الدين، كبيرا أو صغيرا، ولكن هذه الصفة لا تؤثر في سلطة القاضي التقديرية، فتقدير صدق أقوال الشهود من اختصاص قاضي الموضوع، ووجدانه هو المرجع في مدى اطمئنانه إلى هذه الأقوال.
وللمحكمة أن تطرح نتائج التحقيق الذي أجرته برمته إذا لم تطمئن إلى ما شهد به الشهود، أو إذا ما استجد في الدعوى بعد إجراء ذلك التحقيق ما يكفي لتكون عقيدتها بدونه، أما إذا أسست المحكمة قضاءها على نتيجة التحقيق، فلا بد أن تضمن حكمها ما ينبئ عن مراجعتها لأقوال الشهود، وذلك ببيان مضمون أقوالهم، بحيث إذا جاء الحكم خاليا من هذا التسبيب يكون الحكم مشوبا بالقصور في التسبيب والذي يعد أحد أوجه الطعن.
ومحكمة الموضوع تستقل في حدود احترامها لقواعد الإثبات الموضوعية والإجرائية بتقدير أقوال الشهود، وترجيح شهادة شاهد على آخر بحسب ما يطمئن إليه وجدانها، بغير أن تكون ملزمة ببيان أسباب ترجيحها لبعضها وطرحها للأخرى( ).
وقاضي الموضوع ليس ملزما بتصديق الشاهد في كل أقواله، بل له أن يطرح منها مالا يطمئن إليها باعتبار أن ذلك يدخل ضمن سلطته في تقدير الأدلة، ولا تثريب عليه إن هو أخذ بمعنى للشهادة دون معنى آخر تحتمله أيضا، متى كان المعنى الذي أخذ به لا يتنافى مع مدلولها، وإنما يجب عليه أن يذكر أسماء الشهود الذين اقتنع بأقوالهم، وماهية أقوالهم التي اعتمد عليها في قضائه، وليس عليه أن يذكر لا نص أقوال ولا أسماء الشهود الذين لم يأخذ بأقوالهم، بل القاضي حر في عدم الأخذ بأقـوال جميـع الشهود لعدم اطمئنانه إليها، ولا يعد ذلك منه تحللا من نتيجة التحقيق الذي أجري تنفيذا لحكمه التمهيدي، وإنما هو تقدير لشهادة الشهود يقوم به القاضي في حدود سلطته دون رقابة عليه في ذلك من المحكمة العليا، مادام لم يخرج بذلك عما تحتمله أقوال الشهود، إذ ليس لها أن تتدخل في تقدير قاضي الموضوع للدليل، ولكن لها أن تتدخل إذا ما صرح القاضي بأسباب اطمئنانه، وكانت هذه الأسباب مبنية على ما يخالف الثابت في الأوراق أو على تحريف لأقوال الشهود، أو الخروج بها عن مدلولها، فتراقب ذلك ويجوز للخصوم أن يناقشوا أمامها سلامة تقدير المحكمة لشهادة الشهود، وفي كون استخلاصها سائغا عقلا، وغير مخالف للثابت بالأوراق أم لا، ولا يعترض عليهم بأن تقدير الدليل وترجيح البينات يدخل في سلطة قاضي الموضوع( ).
ولما كـان الاستئـناف ينقـل الدعوى بحالتها التي كانت عليها قبل صـدور الحكم المستأنف، فإن لمحكمة الاستئناف أن تعيد النظر في الحكم المستأنف من الناحيتين، القانونية والموضوعية، ومن ثم فإن تقدير محكمة أول درجة لأقوال الشهود يخضع لرقابة المجلس القضائي، باعتباره محكمة ثاني درجة، التي كما لها أن تؤيد الحكم الابتدائي فيما استخلصه من أقوال الشهود، فإن لها أن تخالفها في تقدير أقوال الشهود، أو في ترجيح أقوال شاهد على أقوال آخر، ويكون لمحكمة ثاني درجة في هذا الشأن مثل سلطة محكمة أول درجة، بل لها سلطة مراقبة سلامة تقدير محكمة أول درجة في هذا الخصوص، ويتعين عليها أن تبحث بنفسها هذه الأقوال، وأن تعيد تقديرها، وتقول كلمتها فيما استخلصته منها محكمة أول درجة، وهو ما ليس مخولا للمحكمة العليا، لأن إثارة ذلك أمامها يعتبر مناقشة موضوعية في تقدير الدليل، وهو ما يخرج عن اختصاصها.
فمحكمة ثاني درجة لها أن تستخلص من أقوال الشهود ما تطمئن إليه، ولو كان مخالفا لما استخلصته محكمة أول درجة، طالما أن هذا التحقيق لم يشبه بطلان، ولو كانت هي قد أحالت الدعوى إلى التحقيق من جديد، كما لا يعيب قرارها أن تكون قد طرحت نتيجة التحقيق طالما أنها ضمنته أسباب عدم الأخذ بها.
وفي نفس الوقت، إن تخلف الخصم عن إحضار شهوده إلى التحقيق الذي أمرت محكمة ثاني درجة بإجرائه، لا يـبرر لـها أن تغفـل ما سبق وأن شهد به شهـوده أمـام محـكمة أول درجـة، دون أن تهمل سلطتها إزاء شهادتهم.
كما أن تقدير المحكمة للدليل في الدعوى لا يحوز قوة الأمر المقضي به، بحيث إذا شكت المحكمة في صحة أقوال الشهود في دعوى معينة، لا يمنعها من الأخذ بأقوالهم في دعوى أخرى، فلا تثريب على المحكمة المدنية إن هي أخذت بشهادة شهود سمعتهم، بعد أن كانت المحكمة الجنائية قد شككت في صحة شهادتهم، وصار حكمها الذي لم تعتد فيه بهذه الشهادة نهائيا( ).


المبحث الثاني: أحوال استبعاد الإثبات بالشهادة
تنص المادة333 من التقنين المدني الجزائري، وتقابلها في ذلك المادة60 من قانون الإثبات المصري على أنه :"في غير المواد التجارية إذا كان التصرف القانوني تزيد قيمته على100 ( ) ألف دينار جزائري أو كان غير محدد القيمة، فلا تجوز البينة في إثبات وجوده، أو انقضائه، ما لم يوجد نص يقضي بغير ذلك"، وتضيف المادة 334 من نفس التقنين أنه "لا يجوز الإثبات بالبينة ولو لم تزد القيمة على 100.000 دينار جزائري فيما يخالف أو يجاوز ما اشتمل عليه مضمون عقد رسمي..."
ويتبين من هذين النصين أن قاعدة عدم جواز الإثبات بالشهادة تنطوي على شقين، الشق الأول يتعلق بالتصرفات القانونية التي تزيد عن (100.000دج) مائة ألف دينار جزائري، والتصرفات غير محددة القيمة، والشق الثاني يتعلق بما يخالف أو يجاوز ما هو ثابت بالكتابة حتى ولو كانت قيمة التصرف لا تزيد عن100ألف دينار جزائري.
وسنتناول هذه القاعدة بشقيها في مطلبين يتضمن الأول عدم جواز الإثبات بالشهادة التصرفات التي تزيد عن مائة ألف دينار أو غير محددة القيمة بينما نخصص المطلب الثاني لدراسة عدم جواز إثبات ما يخالف أو يجاوز الكتابة بالشهادة.
المطلب الأول: قاعدة عدم جواز الإثبات بالشهادة التصرفات التي تزيد عن100 ألف
دينار أو غير محددة القيمة.
ونتعرض في هذا الفرع لنطاق تطبيق القاعدة أولا ثم لكيفية تقدير قيمة التصرف ثانيا.
الفرع الأول : نطاق تطبيق القاعدة
جاء نص المادة 333 ق م قاطعا في تحديد نطاق هذه القاعدة بإخراج ما لا يجوز إثباته بشهادة الشهود، وهي التصرفات القانونية المدنية- دون التجارية- والتي تزيد قيمتها عن100ألف دينار أو غير محددة القيمة، لأن هذا النوع من الوقائع القانونية هو الذي تسمح طبيعته بتهيئة الدليل الكتابي، ومن ثمة لا يجوز فيه الإثبات بشهادة الشهود، وذلك عكس طبيعة الوقائع المادية التي لا تسمح بإعداد دليل كتابي مقدما.
وعلى ذلك يكون نطاق تطبيق قاعدة عدم جواز الإثبات بالشهادة قاصرا على التصرفات القانونية المدنية دون التصرفات القانونية التجارية، لأن الإثبات في المواد التجارية مطلق تجوز فيه شهادة الشهود ما عدا الحالات الاستثنائية التي يتطلب فيها المشرع الكتابة كدليل للإثبات، كما هو الشأن بالنسبة لعقود الشركات، وعقود بيع السفن...
غير أن نطاق القاعدة يتحدد أيضا بصدد التصرفات القانونية المدنية، كونه لا يشمل كل هذه التصرفات أيا كانت قيمتها، وإنما هو قاصر فقط على تلك التي تزيد قيمتها على مبلغ معين حدده القانون المدني الجزائري بمائة ألف دينار جزائري، والقانون المصري بخمسمائة جنيه.
وعليه فإن التصرفات المدنية التي تكون قيمتها مائة ألف دينار أو أقل فإنها لا تخضع للقاعدة التي نحن بصددها، ويجوز بالتالي فيها الإثبات بشهادة الشهود.( )
وهذه القاعدة تسري على هذه التصرفات سواء تعلق الأمر بإثبات وجود التصرف أو إثبات انتقاله، أو تعدليه، أو انقضائه، وسواء كان التصرف في صورة عقد أي تطابق إرادتين كبيع أو إيجار، أو في صورة إرادة منفردة كوصية أو إبراء أو إجازة طبقا لما تنص عليه المادة 333/1 من التقنين المدني.
ملف رقم 84034 بتاريخ 07/07/1992( )" من المقرر قانونا أنه في غير المواد التجارية إذا كان التصرف القانوني تزيد قيمته على 1000 د ج أو كان غير محدد المدة فلا تجوز البينة في إثبات وجوده أو انقضائه، ما لم يوجد نص يقضي بغير ذلك، ومن ثم فإن القضاء بما يخالف هذا المبدأ يعد خرقا للقانون.
ولما كان من الثابت -في قضية الحال- أن قضاة الموضوع بحكمهم بإثبات الدين اعتمادا على أن المدين لم يجب على الإنذار الموجه له فقد خرقوا القانون، لأنه لا يمكن لأحد أن يحرر سندا لنفسه، ومتى كان ذلك استوجب نقض القرار المطعون فيه".
الفرع الثاني: تقدير قيمة التصرف
اتخذ المشرع من قيمة التصرف مناطا لتحديد دليل إثباته، بحيث إذا تجاوز قيمة معينة أو كان غير محدد القيمة، لم تجز الاستعانة بالبينة في إثبات وجوده، أو انقضائه، بحيث يترك للمتعاملين مساحة من السرعة، والثقة، يتبادلونها فيما بينهم في شأن التصرفات الصغيرة بغير أن يكلفوا بتهيئة الدليل الكتابي لإثباته، وقد عنى المشرع بالنص على القواعد التي يجب مراعاتها في تقدير قيمة الحق محل الإثبات نوردها فيما يلي:
أولا- العبرة بقيمة الالتزام وقت صدور التصرف لا وقت المطالبة به.
إن مناط تحديد دليل الإثبات يتحدد بحسب قيمة التصرف بوقت صدوره، أي وقت إبرامه دون النظر إلى ما يطرأ على هذه القيمة من زيادة أو نقصان بعد ذلك، فإذا تجاوزت قيمة التصرف وقت صدوره نصاب الإثبات بالشهادة، تعين الالتجاء إلى الكتابة أو الطرق الأخرى في الإثبات من غير الشهادة والقرائن، ولو نزلت القيمة عن هذا الحد وقت المطالبة، وإذا كانت القيمة وقت إبرام التصرف لا تجـاوز

الحد الذي ذكرناه جاز الإثبات بشهادة الشهود، ولو تجاوزتها عند المطالبة( )
ثانيا- العبرة بالقيمة الإجمالية للالتزام وليس بقيمة المطالبة الجزئية منه
نصت المادة334 من ق م وتقابلها المادة61/ب من قانون الإثبات المصري على أنه "لا يجوز الإثبات بشهادة الشهود، ولو لم تزد القيمة على مائة ألف دينار إذا كان المطلوب هو الباقي أو جزء من حق لا يجوز إثباته إلا بالكتابة".
ومقتضى ذلك أن دليل الإثبات يتحدد بحسب القيمة الإجمالية للالتزام الأصلي، وليس بقيمة ما كان محلا للمطالبة القضائية سواء كانت هذه تمثل مطالبة بجزء منه أو بقسط من أقساطه أو بالجزء المتبقي منه، ويتأسس ذلك على أن دليل الإثبات يتحدد بحسب قيمة الالتزام الأصلي وقت نشأته، وليس بما كان محلا للمطالبة القضائية، على اعتبار أن الواقعة القانونية المؤسس عليها المطالبة الجزئية تتمثل في التصرف القانوني المرتب للالتزام الذي تتجاوز قيمته الإجمالية الإثبات بشهادة الشهود، والذي يحدد الدليل الكتابي كدليل لإثباته وقت نشأته، كما أن العبرة في التقدير بأصل الالتزام وقت صدوره، ولا يحسب ما يضاف إلى هذا الأصل من ملحقات وفوائد تستحق لاحقا، ولو كانت معلومة ومقدرة وقت نشوئه( ) كما هو في القرض بفائدة لمدة معينة باعتبار أن هذه الملحقات تتبع الطلب الأصلي وتستند إلى ذات الواقعة القانونية المترتبة، فلا يكون لها كيان مستقل عنه.( )
وقد نصت المادة333/2 من ق م على أنه لا يجوز الإثبات بشهادة الشهود إذا كانت زيادة الالتزام على مائة ألف دينار لم تأت إلا من ضم الفوائد، والملحقات إلى الأصل.( )
كما تتأسس هذه القاعدة على الرغبة في منع تحايل الدائن على التنظيم التشريعي لنطاق الدليل الكتابي في الإثبات، من خلال تجزئة مطالبته بالدين على دفعات متعددة، يدخل كل منها في حدود نصاب الإثبات بشهادة الشـهود، وذلك أن إباحة الإثبات بالشهادة في هذه الحالة يتيح للدائن أن يجزئ مطالبته فيتخلص من قاعدة عدم جواز الإثبات بها، ويتخلص من عبء تقديم دليل كتابي.
ثالثا- العبرة بالقيمة الأصلية للطلب القضائي بصرف النظر عن التعديل اللاحق له بالإنقاص
نصت المادة334 من ق م في فقرتها الأخيرة على أنه : "لا يجوز الإثبات بشهادة الشهود ولو لم تزد القيمة على 100.000 دينار جزائري.... إذا طلب أحد الخصوم في الدعوى بما تزيد قيمته على 100.000دج ثم عدل عن طلبه إلى ما لا يزيد على هذه القيمة"، وحسبها قـد يحدث أن يطالب أحد الخصوم بما يجاوز100.000 دينار ثم يعود بعد ذلك فيعـدل عن طلـبه إلى طـلب ما لا يـزيد على هـذه القيمة لكي يتوصل بذلك إلى الإثبات بشهادة الشهود، وقد منع قانون الإثبات المصري في مادته 61/ج( ) الإثبات بشهادة الشهود إذا طالب احد الخصوم في الدعوى بما تزيد قيمته عن500 جنيه ثم عدل عن هذه القيمة بالإنقاص منها.
ومفاد ذلك أن المشرع الجزائري اتخذ من مطالبة المدعي بما تجاوز قيمته نصاب الإثبات بشهادة الشهود ثم تعديله طلباته بما لا يجاوز ذلك قرينة على أن تخفيض الطلب قصد به التهرب من قاعدة وجوب الإثبات بالكتابة، فأخذ بتقديره، ومنعه من الإثبات بشهادة الشهود، ويظل مطالبا بتقديم دليل آخر غير الشهادة، كما لو كان لم يخفض طلباته، إلا إذا استطاع هدم هذه القرينة بإقامة الدليل- بكافة الطرق- على أن تقديره للقيمة التي طالب بها وقت رفع الدعوى كان نتيجة غلط، أو سهو لم ينتبه إليه إلا بعد إعلان عريضة افتتاح الدعوى، على أن هذه القرينة لا تقوم إلا في حالة المطالبة القضائية، فلا يكفي لقيامها مطالبة الدائن مدينه شفويا أو كتابيا بما يجاوز نصاب الإثبات بشهادة الشهود، كما لا يكفي لقيام القرينة المذكورة أن يكون الدائن سبق له وأن رفع دعوى أخرى عن الدين ذاته بأكثر من مائة ألف دينار ثم ترك الخصومة في تلك الدعوى، ورفع دعوى جديدة يطالب فيها بما لا يجاوز هذه القيمة، وذلك لأن العبرة بطلب الدائن في الدعوى القائمة ذاتها بغض النظر عما سبق رفعه من دعاوى أخرى( )
رابعا- تفريق الطلبات بحسب مصدرها- سواء اختلفت أو تماثلت- بحيث لا تجمع لمجرد إتحاد الخصوم
نصت المادة333/3من ق م وتقابلها المادة60 من قانون الإثبات المصري على أنه :"إذا اشتملت الدعوى على طلبات متعددة ناشئة عن مصادر متعددة، جاز الإثبات بالشهود في كل طلب لا تزيد قيمته على100.000دينار جزائري، ولو كانت هذه الطلبات في مجموعها تزيد على هذه القيمة،ولو كان منشؤها علاقات بين الخصوم أنفسهم، أو تصرفات قانونية من طبيعة واحدة, ..."، ومن ذلك إذا رفع شخص دعوى على آخر يطالبه فيها بمبلغ 99800 دج ثمن أشياء قد باعها للمدعى عليه، ولم يتم دفع الثمن، ويطالبه في نفس الدعوى بمبلغ 86000 دج كان قد أقرضها إياه، ولم يتم ردها، فهنا يجوز إثبات كل من التصرفين الشراء، والقرض بشهادة الشهود والقرائن،رغم أن مجموع ما يطالب به المدعي يزيد على نصاب الإثبات بالشهادة. ( )
ويقوم هذا الحكم على أساس أنه لما كانت العبرة في إثبات الحق بإقامة الدليل على الواقعة القانونية المنشئة له، فإذا تعددت طلبات المدعي التي جمعها في إطار مطالبة قضائية واحدة وكان كل منها ناشئا استنادا إلى مصدر مختلف، فإن قيمة كل التزام تقدر استقلالا، سواء كانت هذه المصادر من طبيعة واحدة أو من طبيعة مختلفة، ولا يمنع استقلال هذه المصادر- ومن ثمة الالتزامات- من أن تكون بين الخصوم أنفسهم( ) بحيث إذا كان كل منهما بالنظر لقيمته مما يدخل في نصاب الإثبات بشهادة الشهود جاز إثباته بهذه الأخيرة بصرف النظر عن مجموع الطلبات باعتبار أن اختلاف المصادر وتعددها يضفي استقلالا على كل منها، ذلك أن استقلال كل دين بمصدره المنشئ يستتبع تقدير دليل إثباته بالنظر إلى قيمته بصرف النظر عما إذا كان موضوعا لطلب قضائي مستقل أم جمع مع غيره في طلب قضائي واحد.
خامسا- الوفاء الجزئي تصرف مستقل عن الالتزام الأصلي:
لقد اعتبر المشرع الجزائري الوفاء الجزئي للالتزام تصرفا مستقلا عن الالتزام الأصلي يجوز إثباته بشهادة الشهود إذا لم يتجاوز نصاب الإثبات بهـا، وذلك في المادة333/3 ق م التـي نصت على أنه: "وكذلك الحكم في كل وفاء لا تزيد قيمته عن100.000 دينار جزائري".
فإن وفى المدين جزءا من الدين، وكانت قيمة الوفاء لا تزيد عن100.000دج يجوز إثبات هذا الوفاء- باعتباره تصرفا مستقلا- بشهادة الشهود حتى ولو كانت قيمة الالتزام الأصلي تزيد على نصاب الإثبات بالشهادة.
ومثال ذلك إذا كانت قيمة التصرف القانوني500.000 دينار، فقام المدين بعدة وفاءات كل منها لا تزيد عن100.000دج، مثلا90.000دج، ثم96000دج، ثم85000دج، ثم97000دج، ثم رفعت عليه دعوى من قبل الدائن للمطالبة بكل الدين وهو500.000دج، جاز للمدعى عليه أي المدين أن يثبت كل وفاء بشهادة الشهود حتى ولو كان مجموعها يزيد على النصاب، وذلك على أساس أن كل وفاء يعتبر تصرفا قانونيا جديدا مستقلا عن التصرف الأصلي، وذلك على خلاف المشرع المصري( ) حيث نصت المادة60/4 من قانون الإثبات على أن" العبرة في الوفاء إذا كان جزئيا بقيمة الالتزام الأصلي"،على أساس أن الوفاء بالدين على دفعات لا تتجاوز قيمة كل منها نصاب الإثبات بالشهادة، لا ينفي الإهمال عن المدين إذا هو قصر في تهيئة الدليل الكتابي عليه، متى كانت القيمة الإجمالية للدين الذي تم الوفاء به على دفعات تتجاوز نصاب الإثبات بالبينة.
سادسا- معاملة التصـرف غير محدد القيمة معاملة التصرف الذي تزيد قيمته عن مائة ألف دينار:
لقد اعتبر المشرع التصرف غير محدد القيمة في حكم التصرف الذي تجاوز قيمته 100.000 دينار، فلم يجز الإثبات في مثل هذه التصرفات بالشهادة أخذا بالأحوط في حفظ الحقوق، وذلك ما نصت عليه المادة 333 من ق م "...إذا كان التصرف القانوني تزيد قيمته على100.000دينار جزائري أو كـان
غير محدد القيمة فلا يجوز الإثبات بالشهود..."
سابعا- لا مجال للاحتكام لقيمة التصرف إذا كانت الكتابة مستلزمة لانعقاد التصرف أو لإثباته:
إذا تطلب القانـون الكتابـة لانعقاد العقد، فإنه يعد من العـقود الشكـلية التـي لا يكون لها وجود قانوني إلا باستيفاء الشكل المتطلب قانونا للانعقاد، ومن ثم فهذا العقد الشكلي لا يجوز إثباته -بصرف النظر عن قيمته- إلا بالكتابة التي لا تكون في هذه الحالة مجرد دليل إثبات، بل تعتبر ركنا أو شرطا من شروط الصحة.
وقد يتطلب القانون الكتابة لإثبات العقد مثل نص المادة645 من ق م :"لا تثبت الكفالة إلا بالكتابة ولو كان من الجائز إثبات الالتزام الأصلي بالبينة "فهي تستوجب إثبات عقد الكفالة بالكتابة حتى ولو كانت قيمتها لا تتجاوز مائة ألف دينار جزائري.
وما تجدر الإشارة إليه أخيرا أن هذا الحكم الذي بسطناه في الإثبات بالشهادة يسري على المتعاقدين وخلفهما فقط، ولا ينطبق على الغير الذي ليس طرفا في العقد، لأن التصرف بالنسبة له هو واقعة مادية يجوز إثباتها بكافة طرق الإثبات، ولا يلتزم بهذه القاعدة.
والحكمة في ذلك أن اشتراط الكتابة للإثبات فيما بين طرفي التصرف يقوم على أساس أنهما يستطيعان الحصول على الدليل الكتابي بإفراغ التصرف منذ البداية في محرر رسمي أو عرفي، أما الغير فلم يكن بوسعه وقت إبرام التصرف أن يعد دليلا كتابيا لأنه لا علاقة له بهذا التصرف.
المطلب الثاني: استبعاد الشهادة في إثبات ما يخالف أو يجاوز الكتابة
نصت المادة 334 من التقنين المدني على أنه:"لا يجوز الإثبات بالشهود، ولو لم تزد القيمة على 100.000دج فيما يخالف أو يجاوز ما اشتمل عليه مضمون عقد رسمي..."
ويستخلص من هذا النص أن القاعدة هي عدم قبول شهادة الشهود لإثبات ما يخالف أو ما يجاوز ما اشتمل عليه دليل كتابي، حتى ولو كان ذلك فيما لا يتجاوز نصاب الإثبات بالشهادة، وتبرير ذلك أنه إذا كان المتعاقدان قد احتاطا مقدما، وأعدا دليلا كتابيا، معنى ذلك أنهما قصدا الحصول على دليل أقوى لإثبات تصرفهما( )، ويحمل الإدعاء بأن ثمة اتفاق شفوي مخالفا لما هو ثابت بالكتابة على أنه إدعاء بما يخالف الوضع الثابت بحيث لا يقبل في إقامة الدليل عليه الاستعانة بدليل أضعف من الدليل الكتابي المراد إثبات عكسه( )، وسنتطرق إلى هذه القاعدة في فرعين نتناول في الفرع الأول نطاق تطبيقها ثم نقف على شروط تطبيقها في الفرع الثاني.
الفرع الأول : نطاق تطبيق القاعدة
ما يلاحظ على المشرع الجزائري من خلال المادة334 من ق م أنه قصر هذه القاعدة على الكتابة الرسمية دون العرفية حيث جاء فيها "...فيما يخالف أو يجاوز ما اشتمل عليه مضمون عقد رسمي..." وبمفهوم المخالفة لهذا النص أنه يجوز إثبات ما يخالف أو يجاوز ما اشتمل عليه مضمون محرر عرفي بشهادة الشهود.
غير أن القواعد العامة لا تستسيغ هذا الاستثناء، لأن الكتابة لها نفس الحجية سواء كانت رسمية أو عرفية، طالما أنها مازالت لم تسقط حجيتها فليس من المنطق في شيء أن يسمح لشخص دون اتفاقه في محرر عرفي أن يثبت خلافه أو تجاوزه بشهادة الشهود، لأن القول بذلك يهدر قيمة الكتابة، وينزلها من المقام الأول في أدلة الإثبات إلى منزلة الشهادة، ولذلك يبدو في رأينا أن الكتابة العرفية سقطت من النص سهوا وليس قصدا( )
ويقتصر نطاق تطبيق قاعدة عدم جواز إثبات خلاف ما هو ثابت بالكتابة أو ما يجاوزه إلا بالكتابة على المتعاقدين وخلفهما العام، أما الغير الخارج عن نطاق العقد، فلا يتقيد بهذه القاعدة حيث يجوز له إثبات ذلك بشهادة الشهود، والقرائن، كما يجوز له إثبات وجود التصرف ذاته بشهادة الشهود، ولو زادت قيمة الالتزام عن 100.000 دينار، ففي كلتا الحالتين يعتبر التصرف بالنسبة إليه مجرد واقعة مادية يجوز إثبات ما يخالفها بجميع الأدلة الممكنة.
فإذا كان العقد الصوري كعقد البيع الذي يستر هبه مثلا ثابتا بالكتابة، فلا يجوز للمتعاقدين إثبات الصورية إلا بالكتابة، حتى ولو كانت قيمة التصرف لا تجاوز نصاب الإثبات بالشهادة وينصرف الحكم إلى كل من كان طرفا في العقد الصوري، وكذلك خلفه العام، أما الغير وهو هنا الدائن، والخلف الخاص فله أن يثبت صورية التصرف بكل طرق الإثبات، بما في ذلك شهادة الشهود والقرائن، ولو كان العقد الصوري مكتوبا، وحتى ولو كانت قيمته تزيد على نصاب الإثبات بالشهادة.
وإذا باع شخص عقار إلى شخص آخر، ودون في العقد الرسمي أن الثمن هو 150.000 دج وأراد الشفيع أن يأخذ بطريق الشفعة، فإنه يستطيع أن يثبت بطريق الشهادة أن حقيقة الثمن هي 80.000 دج وليس كما جاء في العقد الرسمي( ).
كما نص القانون التجاري على مثل هذه الحالة أيضا في المادة 545 منه التي جاء فيها أنه يجوز أن يقبل من الغير إثبات وجود الشركة بجميع الوسائل عند الاقتضاء( )
الفرع الثاني: شروط تطبيق القاعدة
لتطبيق قاعدة عدم جواز إثبات ما يخالف أو يجاوز الكتابة بشهادة الشهود يجب توافر الشرطين التاليين:
أولا: وجود دليل كتابي كامل.
ويقصد بالدليل الكتابي الكامل المحررات الرسمية والعرفية المعدة للإثبات( ) حتى ولو كان ذلك المحرر من الرسائل إذا كان موقعا عليه، أما بالنسبة للمحررات العرفية الأخرى، التي لم تعد مقدما للإثبات كالدفاتر التجارية والأوراق المنزلية، فلا تعتبر أدلة إثبات كاملة، ولا تسري بشأنها القاعدة التي نحن بصددها، ولذلك يجوز نقض ما هو مدون فيها بجميع الطرق، ومن بينها شهادة الشهود( ).
فمتى كانت هناك كتابة معدة للإثبات، وكانت دليلا كتابيا كاملا في غير التزام تجاري توافر الشرط الأول، على أن تكون قيمة الالتزام الذي تتضمنه لا تزيد عن 100.000 دينار جزائري، لأن هذه القاعدة لا تظهر فائدتها إلا إذا كانت قيمة الالتزام لا تزيد عن مئة ألف دينار فتمنع الشهادة والقرائن حيث كانت تجوز لولا هذه القاعدة، أما إذا كانت قيمة الالتزام تزيد عن نصاب الشهادة المحدد في المادة333 ق م فالقاعدة لا تأتي بجديد، لان الإثبات بالشهادة في هذه الحالة ممنوع في الأصل سواء في ذلك لا توجد كتابة أصلا، أو توجد ويراد إثبات ما يخالفها أو يجاوزها( ).
ثانيا: أن يكون المراد إثباته يخالف أو يجاوز الثابت كتابة
لا يجوز الإثبات بالشهادة فيما يخالف أو يجاوز الثابت بالكتابة حتى ولو كانت قيمة التصرف القانوني لا تزيد عن مائة ألف دينار، لأن الثابت بالكتابة أقرب إلى الصدق من الثابت بالشهادة، ونقض الدليل لا يكون إلا بمثله من حيث الاطمئنان إليه. وسنتطرق تبعا إلى الإدعاء بما يخالف الثابت كتابة، ثم الإدعاء بما يجاوز الدليل الكتابي
1- الإدعاء بما يخالف الثابت كتابة
هو الإدعاء من جانب أحد المتعاقديـن أو خلفـهما الـعام بمـا يناقض أو يعارض ما ورد في المحرر المكتوب، أي أن إثبـات ما يخالـف الكتابـة به تكذيـب أو مناقضة المدون في المحرر، سواء في شـأن طبيعة التصرف كإثبات صورية التصرف، كما لو ادعى المتعاقد بصورية الهبة التي ما قصد منها إلا حرمان الغير من التمسك بالشفعة وإخفائها بالبيع، أو في احد شروطه أو بياناته( )
فإذا ذكر في عقد البيع مثلا أن البائع استوفى الثمن، فلا يجوز له إثبات أن المشتري لم يدفع الثمن إلا بدليل كتابي، بحيث لا يجوز له إثبات ما يدعيه بشهادة الشهود( )، أو إذا ادعى أن الثمن المذكور في عقد البيع هو ثمن صوري الغرض منه التهرب من دفع رسوم التسجيل، وأن الثمن الحقيقي أكبر من الثمن المدون في العقد، فهنا يتعين على المدعي إذا كان أحد طرفي العقد إثبات إدعائه بالكتابة( )
ملف رقم41632 مؤرخ في 16/06/1986( )" من المقرر قانونا أنه لا يجوز الإثبات بالبينة ولو لم تزد القيمة على ألف د ج فيما يخالف أو يجاوز ما اشتمل عليه مضمون عقد رسمي، ومن ثم فإن القضاء بخلاف هذا المبدأ يعد مخالفا للقانون.
ولما كان الثابت -في قضية الحال- أن الطاعن يملك قطعة الأرض التي اشتراها بعقد رسمي وشيد عليها الدار المتنازع عليها فإن قضاة الموضوع بإدخالهم الدار ضمن تركة مورث الأطراف اعتمادا على شهادة الشهود أن قطعة الأرض اشتريت بمال المورث خالفوا القانون وتجاوزوا مضمون العقد الرسمي، ومتى كان ذلك استوجب نقض القرار المطعون فيه".
ملف رقم 63320 بتاريخ 27/12/1989( )" ..ولما كان من الثابت -في قضية الحال- أنه تم إثبات عكس ما تضمنه العقد الرسمي بمجرد إشهاد، فإن قضاة الموضوع بقضائهم كذلك خرقوا القانون".
ملف رقم 65136 بتاريخ 06/02/1991( )"...، ولما كان من الثابت في قضية الحال أن الطاعن لإثبات كونه المالك الشريك للسكن المتنازع عليه، طلب تقديم الحجة بالاستماع إلى الشهود، وأن قضاة الاستئناف رفضوا طلبه هذا على أساس أنه لا يجوز الإثبات بالبينة فيما يخالف أو يجاوز العقد الرسمي المقدم من المطعون ضده، والمثبت لملكيته للأمكنة المتنازع عليها، يكونوا بقضائهم كذلك قد طبقوا صحيح القانون".
وكما لا يجوز أن يثبت بغير الكتابة الإدعاء بما يناقض ما ورد فعلا من بيانات وشروط بالعقد، فإنه لا يصح بغير هذا السبيل الإدعاء بما يخالف ما يقتضيه المقرر بموجب القواعد المكملة التي لم يرد في التصرف ما يفيد استبعاد حكمها أو الاتفاق على ما يخالفها، والتي تعتبر جزء مكملا للعقد فإذا لم يعين في العقد مثلا مكان الوفاء بالدين، فإنه لا يقبل أن يثبت بغير الكتابة بأن مكان الوفاء هو مكان مغاير لما عينته القواعد المكملة( ).

2- الإدعاء بما يجاوز الكتابـة
يتعلق عدم جواز إثبات ما يجاوز الكتابة بشهادة الشهود بإضافة وصف للالتزام، ليس من مستلزمات هذا الالتزام، أي إدعاء إضافة أو تعديل لما هو مكتوب، كما لو أراد أحد المتعاقدين أن يثبت تعديلا للاتفاق المكتوب شفويا بين الطرفين، ويكون من شأن هذا التعديل أن يوسع ما هو مكتوب أو يضيف إليه شرطا أو وصفا جديدا، ومثاله أن يكون قرض مبلغ معين مستحق الأداء في تاريخ معين، وأراد المدين إثبات أنه مؤجل إلى أقساط، أو أن استحقاقه معلق على شرط واقف، والشرط لم يتحقق، فهذا الإثبات يجاوز ما هو ثابت بالكتابة ، فلا تجوز فيه الشهادة
ويستثنى من قاعدة عدم جواز إثبات ما يخالف الكتابة أو ما يجاوزها بشهادة الشهود تاريخ التصرف القانوني المدون في ورقة عرفية، إن كانت هذه الورقة لا تحمل تاريخا، فيعتبر التاريخ واقعة مادية يجوز إثباتها بشهادة الشهود، أما إذا كان التاريخ مكتوبا في الورقة العرفية، فلا يجوز في هذه الحالة نقضه إلا بالكتابة( )
وإذا كان المراد إثباته واقعة مستقلة لاحقة لنشوء التصرف، وتؤدي إلى انقضاء الالتزامات الناشئة عنه، فإن إثباتها لا يخضع لقاعدة عدم جواز الشهادة في إثبات ما يخالف أو يجاوز الكتابة،لأن الإدعاء هنا لا يتضمن إضافة، أو تكذيب لما هو مكتوب، بل إنه يؤكده، ومن ذلك إدعاء المدين أنه قد وفى الدين،أو بأن الدين قد أبرأه منه.










رد مع اقتباس