منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - إشكالية الفرد و المجتمع بين الشرق و الغرب :
عرض مشاركة واحدة
قديم 2011-08-17, 18:54   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
syrus
محظور
 
الأوسمة
العضو المميز لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي إشكالية الفرد و المجتمع بين الشرق و الغرب :

لغرض رفع إنتاجية العمال قامت شركة من تكساس بالطلب من عمالها أن يقفوا أمام المرآة كل صباح و يرددوا "أنا جميل" مئة مرة , في حين و في المقابل و لنفس الغرض طلبت مؤسسة يابانية من عمالها أن يبدأوا يوم عملهم بأن يردد العمال "أنت جميل" لبعضهم البعض ...


*******************

الواقع هو أن ما تكشفه لنا هذه الأمثولة خطير جدا و جدير بالتأمل , و هو أن الثقافة الغربية تقوم على الفردانية و تقوية اهتمام الفرد بنفسه بأن يجعل من نفسه مركز اهتمامه و ربط سعادته بتأكيد تميزه و فردانيته , في حين أن النمط الثقافي الشائع في الثقافة الآسيوية يجعل مصدر السعادة الأساسي مرتبطا بدرجة ذوبان الفرد في المجتمع و انسجامه فيه و خدمته للآخرين... و هذان المثالان يكشفان لنا أن الأنماط الثقافية المختلفة قد تؤدي لتصورين مختلفين للمفهوم الواحد ... و سأحاول أن أشرح و ابسط هذه الفكرة ...

بروز الأنا و تأكل الترابط الاجتماعي في الغرب :
من وجهة النظر البراغماتية الغربية, ليس من الحكمة أن نجعل مصلحة الآخرين تأتي قبل مصلحتنا الذاتية و أن نربط سعادتنا بسعادة الآخرين .لأن ذلك و من منظور الفلسفة الليبرالية يقلل من فرص تحرير الطاقات الفردية و من روح التنافس التي تصنع الحضارة ... لكن في مقابل ذلك تؤدي النزعة الفردية إلى إضعاف روح التعاون و التضامن بين أفراد المجتمع كما أن التنافسية بين الأفراد تزيد من درجة الضغط النفسي الناتج عن الرغبة المستمرة في التميز ... و الذي يدرس الأنماط الاستهلاكية و السلوكية في الغرب يرى بوضوح أثر النزعة الفردية على مستويات شتى , فالاهتمام الكبير بالموضة و الرغبة في التغيير المستمر و التنوع الكبير في المنتجات و الأذواق يرضي غرور الإنسان و يشعره بالتميز , فكل شخص صار متميزا في لباسه و في أذواقه و عاداته إلى درجة أن قطاعا اقتصاديا جديدا ظهر لإرضاء نزعة التميز هذه عبر خدمة "التخصيص" (customization/personnalisation) فبالرغم من التنويع الهائل لأشكال السلع إلا أن البعض لا يرضى أن يمتلك الآخرون حاجيات مشابهة لحاجياتهم و لا يتاونون عن دفع المال مثلا لدهن سياراتهم بشكل يعبر عنهم و يميزهم عن غيرهم أو للحصول على ساعة أو هاتف نقال بمتطلبات شكلية خاصة أو عن طريق الوشم و البرسينغ و التقليعات الغريبة ... و هذه الرغبة الجامحة في التميز التي تغذيها النزعة الفردية هي التي تدفع الناس أيضا للاهتمام الذي يبلغ درجة الهوس بأشكالهم و مظاهرهم و التي جعلت قطاعات الجراحة التجميلية و الصناعات المرافقة لها تنتشر بشكل رهيب و الأمثلة كثيرة و لا تحصى ... و هكذا فالفلسفة الليبرالية التي هي فلسفة أولوية الفرد على الجماعة تدفع الناس إلى جعل الأنا مركز الاهتمام الأول و تعزلهم شيئا فشيئا عن الكيان الاجتماعي . فإذا كان البعد السياسي للفلسفة الليبرالية قد سمح بدرجة عالية من الديموقراطية و العدالة و التسامح و الازدهار الاقتصادي إلا انه نتج عنها على صعيد آخر تفكك للنسيج الاجتماعي و تأكل لسلطة التقاليد و تمرد الأجيال الجديدة و رفضهم الانخراط في نمط ثقافي محدد , و ما حدث مؤخرا في بريطانيا من شغب راجع للانفصام بين الأجيال و لفقدان الكنيسة و المدرسة و الأسرة القدرة على احتواء الغضب المتفجر الذي كان يمنع حدوثه توفر فرص العمل التي تمنح للفرد دخلا يسمح له بالتعبير عن تميزه من خلال الإنفاق ... و المعضلة التي تواجه المجتمعات الغربية الآن هي تأكل قيم التضامن و الجماعة أمام طغيان النزعة الفردية مما يجعلها في ورطة في حالة تراجع اقتصادياتها و ارتفاع معدلات البطالة الذي سينتج عنها حتما تراجع للعدالة الاجتماعية. فوحدها قيم الترابط الاجتماعي تمنح المجتمعات المناعة الكافية لتجاوز الأزمات اللإقتصادية بأقل الأضرار ...

الشرق , الإنسان كقطعة غيار في النسيج الاجتماعي :
على الجهة الأخرى من الكوكب تقدم لنا الثقافة الآسيوية نمطا ثقافيا مختلفا تماما حول مكانة الفرد داخل المجتمع . فالحضارة الكنفوشيوسة و البوذية تقوم على مبدأ إنكار الذات لصالح الجماعة أو بالأحرى تحقيق الذات عبر الجماعة ,و لتحقيق ذلك لابد من خضوع الأفراد للسلطة الاجتماعية التي تمثلها الدولة و كبار السن و الآباء , و يمثل المجتمع الصيني النموذج الأفضل لهذه العلاقة التراتبية حيث يجلب التخلي عن الواجبات الاجتماعية العار لأصحابه و حيث تشجع الثقافة الأفراد على التفكير في أنفسهم كجزء من النظام الاجتماعي , فالفرد في هذه المجتمعات يصير مجرد ترس أو قطعة في آلة المجتمع , و لا تكون له فائدة إلا إذا عمل بشكل منسجم مع بقية الأعضاء كجزء من آلة ميكانيكية دقيقة , و من هذا المنظور تصير قيم التضحية و التفاني من اجل مصلحة المجتمع أهم القيم التي تضمن تماسك النسيج الاجتماعي و لو كان ذلك على حساب سعادة الفرد و رغباته و أحلامه بل إن مفهوم السعادة نفسه يأخذ معنى و صورة أخرى ... و مثال طيارو الكاميكازي في اليابان أو سياسة الإبن الواحد في الصين نموذج عن قدرة الثقافة الشرقية على إنتاج استجابات ثقافية مختلفة لا يمكن إعادة إنتاجها في مجتمع ليبيرالي ... كما أن احد مظاهر كبت الفردانية تتجلى في ميل المجتمعات الشرقية لتبني سياسة الزي الموحد في المدارس و المصانع و الإدارات و في الكثير من المؤسسات و يتجلى ذلك أيضا في درجة الانضباط الكبير التي تتميز بها العروض العسكرية و الفنية التي تتميز بدقة عجيبة و تعكس لنا صورة معبرة عن الفلسفة التي تجعل من الفرد نسخة من أفراد آخرين و وحدة لبناء المجتمع لابد لها من الخضوع لقوانينه ... و بصيغة أخرى , تجعل الثقافة الغربية المجتمع مجرد فضاء لوجود الفرد أي كوسيلة و بيئة يحقق فيها الأفراد ذواتهم , في حين تنعكس المعادلة في الشرق و يصبح الفرد وسيلة لغاية أسمى هي الحفاظ على البناء الاجتماعي , أي أن المجتمع الشرقي أقرب منه لنموذج خلية النحل أو مجتمع النمل الذي لا قيمة للفرد في حد ذاته فيه إلا بدرجة ذوبانه في النسق الكلي للمجتمع ...

و حتى لا ترى الصورة بالأبيض و الأسود , من المهم أن ننبه أن هذا التحليل لا يعني غياب النزعة الفردية في الشرق أو التحلل الكلي للنسيج الاجتماعي في الغرب , لكنه يهدف لتحليل البنى الثقافية و كيف يساعدنا ذلك على فهم الفروق الجوهرية بين مختلف المجتمعات و على تفسير الاستجابات المتباينة من مجتمع لآخر وعلى التنبؤ بالمشكلات التي قد تواجهها ...

الأمة الوسط :
عودة مرة أخرى لإشكالية الفرد و المجتمع . يتضح لنا أن لكلا النموذجين إيجابياته و سلبياته , و أن العجز عن تحقيق التوازن بين النزعات الفردية و صرامة السلطة الاجتماعية يؤدي للكثير من المشكلات ... و هو ما يستلزم بناء أو تقديم نموذج ثقافي يحقق هذا التوازن بين الشرق و الغرب ... و من المثير أن كيانا ثقافيا يتوسط الشرق و الغرب جغرافيا و هو ما يعرف بالعالم الإسلامي يحتل مركز الوسط في العالم لكنه لا يقدم حاليا طريقا ثالثا و بديلا واضحا لكلا النموذجين بالرغم من أنه يملك إمكانية ذلك ... فالثقافة الإسلامية في جوهرها ثقافة تسامح و انفتاح تعطي للفرد إمكانية لتحقيق ذاته و لا تبالغ في فرض القيود عليه لكنه تزوده بالقيم التي تجعله لا ينجرف بعيدا في نزعته الفردانية و تغرس فيه روح التعاون و ثقافة الأمة بوصفها كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى , و هي في ذلك لا تطلب من الفرد أن يذوب كليا في المجتمع و أن ينكر ذاته , فالنفس البشرية غالية و من قتل نفسا فكمن قتل الناس جميعا , لكنها في الوقت نفسه فرد فعال في المجتمع دون ان يسلبه المجتمع استقلاليته و كيانه الفريد ... و ربما كان هذا هو السر وراء تسمية الأمة بالأمة الوسط , فهي تتوسط العالم جغرافيا و تحمل البديل الثقافي الذي يحقق التوازن بين فلسفة الشرق و فلسفة الغرب أي التوازن بين الفرد و المجتمع و بين الغريزة والعقل و بين الأثرياء و الفقراء ... لكننا فشلنا في فهم ذلك و في تحقيقه , و ربما كانت تلك هي المهم الشاقة التي تنتظرنا و يتوجب علينا القيام بها كأمة تملك الحلول لمشكلات البشر , و هو ما يستلزم الكثير من التدبر و العلم و التأسيس لعقلانية إسلامية تسمح لنا بإنقاذ أنفسنا و إنقاذ العالم من مشكلاته العويصة على المستوى الأخلاقي والاجتماعي و السياسي و الاقتصادي ...............


...... Syrus