منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - جهود الأمير عبد القادر الجزائري في نشر علوم الحديث وبعثها مجددًا
عرض مشاركة واحدة
قديم 2009-10-09, 23:03   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
أبو إدريس
كبار الشخصيات
 
الأوسمة
وسام الشرف 
إحصائية العضو










B10 جهود الأمير عبد القادر الجزائري في نشر علوم الحديث وبعثها مجددًا

ومِنْ أخص تلاميذ الأمير عبد القادر أيضًا الشيخ عبد الرزاق البيطار، وهو من علماء الشام المشهورين (1253- 1335هـ=1837-1916م) وكان عالمًا بالدين ، مُتَضلِّعًا من الأدب والتاريخ ، حفظ القرآن في صباه ، ومهر في علومه . واشتغل بالأدب مدة ، واقتصر في آخر أمره على عِلْمَي الكتاب والسنة . وكان من دعاة الإصلاح في الإسلام ، سلفيَّ العقيدة ، ولقي في سبيل ذلك عنتًا من الجامدين.
قال عنه حفيده الشيخ محمد بهجة البيطار رحمه الله : ((هو في بلاد الشام من أوّل العلماء بلا شبهة ولا مراء ، لأنّه أوّل من أخذ بالدليل ، وجاهد في هذا السبيل ، ورفع فوق رؤوس أهل الحق راية السنّة والتنزيل)) ، ثمّ نقل قول العلاّمة جمال الدين القاسمي فيه : ((إن الشيخ عبد الرزاق البيطار ذاك العالم الجليل ؛ ممن اشتهر بالإنكار على أرباب الخرافات ، وممن يقاوم بلسانه وبراهينه تلك الخزعبلات ، فإنّه ممن لا تأخذه في إبانة الحق لومة لائم ، ولا يصده عتب عاتب ولا قومة قائم ، وله صدع بالحق عجيب ، وعدم محاباة ومداراة ، وكل ما يروى من حكايات المتمفقرين (المتظاهرين بالتصوف) فإنه يزنه بميزان العقل فإنْ أباه ردَّه جهارًا ، وقابل قائله بالصد إنكارًا ، وطالما صرّح بالإنكار على من يُنادي مَنْ يعتقد فيه العامّة من الأموات ويستشفع به في قضاء الحاجات ، ويعرّفهم ما قاله السلف في هذا الباب مِنْ أنه أمرٌ ما أَذِنَ اللهُ به، إذ أمر بدعائه وحده ، فدعاء غيره مما لا يرضيه كما صرّح به في غير آية من كريم الكتاب ، وقصْده ترقية العامّة عن نداء أحدٍ إلاّ الله ، وعدم تعليق القلب إلاّ بالخالق تبارك وتعالى)).انتهى [انظر مقدمة (حلية البشر)1/12ـ17]
إذن هذا هو الشيخ عبد الرزاق البيطار ، العالمُ الصادع بالحق ، وكان كتبَ مقالةً سنةَ 1296هـ إثر ذيوع خبر وفاة شيخه الأمير عبد القادر الجزائري ، ثم ظهور بقائه حيًّا وإنما كان مريضًا ، يحمد الله فيها فقال : ((نحمدُك يا منعم على إحسانك ، ونشكرك على جزيل امتنانك ، حمدًا وافيًا بوافر آلائك ، وشكرًا مكافيًا لمُتكاثِر نَعْمائك ، يا راحم المتضرّعين ، ما أرأفك ، ويامنّان على المنقطعين ما أعطفك ، ويا ذا الرحمة والجود ما أحلمك ، ويا دافع النقمة بلطفك ما أحكمك وأعظمك ، قد غمرتنا بجميل المعروف ، وأغرقتنا في بحر لطفك الموصوف ، وأسبلت علينا سترك الجميل ، وأدمت لنا حصنك الجليل ، مَنْ أنقذتنا به من أودية الغواية ، إلى فسيح الرشاد والهداية ، وعرّفتنا به المطلوب ، وهديتنا بهدايته إلى الصراط المرغوب ، وكشفت به لنا عيوبًا كنّا نعتقدها طاعة ، ودللتنا به على نهج السنّة والجماعة ؛ الأمجد الأوحد ، والعَلَم المفرد ، الرافع بفضائله أعلام الرايات الدينيّة ، والقامع بدلائله معاندي الشريعة المحمديّة ، أمير الأمراء، وقطب مدار الفضلاء ، .... الحسيب النسيب ، والشريف الماجد الأريب ، السيد عبد القادر الحسني ، أدام الله بقاءه وجُوْدَه الهني ، ....إلخ)).انتهى ؛ وهذا إقرارٌ وبيانٌ واضح من الشيخ رحمه الله في كون الأمير عبد القادر الجزائري من أوائل الدعاة في عصره إلى التزام السنّة المطهّرة والعمل بالحديث الصحيح!
وممن تخرّج على الشيخ عبد الرزاق البيطار علاّمة الشام وفقيهها الكبير الشيخ جمال الدين القاسمي(1283- 1332هـ = 1866- 1914م) ، وكان سلفي العقيدة لا يقول بالتقليد. انتدبته الحكومة للرحلة وإلقاء الدروس العامة في القرى والبلاد السورية، فأقام في عمله هذا أربع سنوات ، ولما عاد اتهمه حَسَدَتُه بتأسيس مذهب جديد في الدين، سموه (المذهب الجمالي) فقبضت عليه الحكومة (سنة 1313هـ) وسألته، فرد التهمة فأخلي سبيله، واعتذر إليه والي دمشق، فانقطع في منزله للتصنيف وإلقاء الدروس الخاصة والعامة ، في التفسير وعلوم الشريعة الإسلامية والأدب. ونشر بحوثًا كثيرة في المجلات والصحف. له أكثر من اثنين وسبعين مصنفًا، أشهرها تفسيره للقرآن المسمّى (محاسن التأويل) يقع في 17 مجلدًا. وكان يثني كثيرًا على الأمير عبد القادر ويستشهد بكلامه في كتبه ، وأفرد له ترجمة ضافية في كتابه (تعطير المَشام في مآثر دمشق الشام) وهي أطول ترجمة في كتابه تقع في خمسين صفحة تقريبًا! وبها ختم جزء التراجم .
ومن تلامذة الشيخ القاسمي الشيخ محمد بهجة البيطار (1311ـ1396هـ=1894ـ1976م) و((هو علمٌ من أعلام الإسلام ، وإمامٌ من أئمّة السلفية الحقة ، دقيق الفهم لأسرار الكتاب والسنة. يوافق ما يوافق عن دليل ، ويخالف ما يخالف إلى صواب ، لأنه مستكمل للأدوات المؤهلة لذلك. وهو مجاوز للحدود المذهبية والإقليمية))([14]). هكذا وصفه العلاّمة محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله ، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ، والعضو في مجامع اللغة بدمشق والقاهرة وبغداد.
والشيخ بهجة رحمه الله ، من العلماء العاملين والدعاة النشطين له الكثير من المؤلفات والبحوث، وكان أيضًا يشيد بالأمير عبد القادر ، ونجد ذلك واضحًا في تعليقاته على كتاب (حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر) لجدّه الشيخ عبد الرزاق البيطار.
ولعلّ أكبر أثر تركه الشيخ بهجة هو تلك النخبة الفريدة من العلماء والدعاة الذين تخرّجوا عليه ومن أشهرهم : القاضي والعلاّمة الشيخ علي الطنطاوي ، والعالم الفاضل سعدي ياسين، والشيخ حامد التقي ، والدكتور أمين المصري ، والشيخ المحدّث عبد القادر الأرناؤوط، رحمهم الله جميعًا، والقاضي الشرعي سعدي أبو جيب حفظه الله. ولن أطيل عليكم بذكر تراجمهم ، فهم من المشاهير الذين عاصرناهم .
وهؤلاء هم الذين حملوا لواء السنة وعلوم الحديث وقاموا بتدريسها ونشرها والدفاع عنها .
لقد بدأ الأمير عبد القادر الجزائري مسيرة الإصلاح ونشر السنة الصحيحة عندما استرجع دار الحديث الأشرفية ، ودرّس فيها صحيح الإمام البخاري بأسانيده ، ثم وَكَلَ تدريس علوم الحديث إلى الشيخ يوسف المغربي ،فكان من ثمرة ذلك ظهور الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله.
والناظر إلى الآثار الطيّبة في مجال الإصلاح للشيخ عبد الرزاق البيطار وتلامذته ، وللشيخ جمال الدين القاسمي وتلامذته ، وللشيخ طاهر الجزائري وتلامذته ، وللشيخ بدر الدين الحسني وتلامذته، يدرك بوضوح أهمية ما بدأه الأمير عبد القادر في تجديد العمل بالسنة والنهوض بالأمّة ، إنه درسٌ لنا جميعًا نستخلص منه العِبر والفوائد ، ولعلّ من أهمّها : أنّ على المرء أن يساهم في بناء صرح العلم والتبصير وترسيخ المعرفة الصحيحة ولو بوضع مدماك واحد من لَبِنات هذا الصرح ، لأنّه سيكون سبيلاً لمن بعده ليبنوا عليه مداميك أُخر ، إلى أن يعلو هذا الصرح ويرتفع .
لقد بدأ الأمير بخطوة خطاها بحزم وثبات ، بعدما رأى ما أدى إليه الجهل المنتشر وقتها في بلاد الإسلام ، وتسبب عنه تسلط الأعداء واستغلالهم لجهل الأمّة. فبعدما خرج من سجنه بفرنسا وزار دار الطباعة الأميرية هناك واطلع على أعمالها وأشغالها ، قال لبعض الأعيان : "بالأمس رأيت صناعة المدافع التي تهدم بها الحصون والقلاع ، واليوم رأيت صناعة الحروف التي تقلب بها أسرَّة الملوك وتخرب دولهم وهم لا يشعرون" ([15]) .
وقال لآخر عن المطبعة أيضًا: بالأمس رأيت بطاريات الحرب واليوم أرى بطاريات الفكر([16]).
لقد انتقل الأمير من جهاد السيف إلى جهاد القلم ، وأراد للأمّة أن تنهض وتنفض عنها ركام الجهل والغفلة ، لأن ذلك هو السبيل إلى تدارك النقص والتدهور اللذين أخّرا الأمة .
وفعلاً نجح الأمير فيما أراد وقيض الله للأمة من يتابع نهجه ونهضت الأمّة وبدأت باستعادة شيء من مكانتها، فأسأل الله تعالى أن يستمر النهوض وأن تستعيد أمتنا الإسلامية مكانتها الأولى في ريادة الأمم.

والحمد لله رب العالمين .

د.مكّي الحسني الجزائري
دمشق 8/جمادى الآخرة/1430هـ =1/7/2009م


************************************************** ****
ملاحظة : تراجم الأعلام الواردة في هذه المقالة مأخوذة من كتاب (الأعلام) للزركلي.
والمعلومات الخاصة بسيرة الأمير عبد القادر الجزائري مأخوذة من الكتب التي ترجمت له وأهمها :
1ـ (حلية البشر) لعبد الرزاق البيطار.
2ـ (تحفة الزائر) لمحمد باشا.
3ـ (منتخبات التواريخ لدمشق) لمحمد أديب الحصني.
4ـ (تعطير المشام في مآثر دمشق الشام) للعلامة جمال الدين القاسمي.
5ـ (حياة الأمير عبد القادر) لتشرشل.
*************************************************
[1] ـ انظر شرح الحديث في (عون المعبود شرح سنن أبي داود) كتاب الملاحم ؛ للعظيم آبادي.

[2] ـ أبو زيد عبد الرحمن بن علي المَكُّودي الفقيه النحوي المالكي المتوفى807هـ .

[3] ـ إيساغوجي: هو لفظ يوناني معناه : الكليات الخمس أي : الجنس والنوع والفصل والخاصة والعَرَض العام ؛ وهو : باب من الأبواب التسعة للمنطق . وصنف فيه جماعة من المتقدمين والمتأخرين : والمشهور المتداول في زماننا هو : (المختصر) المنسوب إلى : الفاضل أثير الدين : مفضل بن عمر الأبهري المتوفى : في حدود سنة سبعمئة وهو مشتمل على : ما يجب استحضاره من المنطق . سمي : إيساغوجي مجازًا من باب إطلاق اسم الجزء وإرادة الكل ، أو المظروف على الظرف ، أو تسمية الكتاب باسم مقدمته ، شَرَحه : الفاضل العلامة شمس الدين : محمد بن حمزة الفناري المتوفى : سنة 834هـ ، أربع وثلاثين وثمانمئة ، وهو شرح دقيق ممزوج لطيف . [انظر (كشف الظنون) لحاجي خليفة 1/206]

[4] ـ تقع شمال الجامع الأموي بدمشق ، والجقمقية : نسبة إلى سيف الدين جقمق. وأصلها تربة أسسها المعلم سنجر الهلالي ، ثم انتزعها منه الملك الناصر وأمر ببنائها سنة 761هـ ، إلاّ أنه مات قبل إتمام العمل ، ولما تولى سيف الدين جقمق نيابة دمشق سنة 822هـ أتم بنائها ، وكان ظلومًا غشومًا ؛ وفي سنة 824هـ قبض السلطان الملك المظفر بن المؤيد عليه وقتله.[انظر (الدارس في تاريخ المدارس) للنعيمي 1/208]

[5] ـ وعلى رأسهم الشيخ عبد الله بن سعيد الحلبي. انظر (منتخبات التواريخ لدمشق) للحصني 2/700 ـ 701 ، و(أعيان دمشق) للشطي ص297.

[6]ـ انظر (الدارس في تاريخ المدارس) للنعيمي 1/19. و(دار السنة) للخطيب ص30.

[7] ـ انظر (حلية البشر) للبيطار 3/1603، و(تحفة الزائر) لمحمد باشا 2/75.

[8] ـ انظر (تحفة الزائر) لمحمد باشا 2/75 ـ 78 ، و(حلية البشر) 3/1603 ، و(أعيان دمشق) للشطي ص299، وغيرها.

[9] ـ (حلية البشر) 3/1604 ، و(تحفة الزائر) 2/80. وفيها قصائد أخرى للشيخ يوسف في مدح الأمير والثناء عليه.

[10] ـ انظر (ذكرى العاقل وتنبيه الغافل) للأمير ص7.

[11] ـ الدكتور أبو القاسم سعد الله في مقاله : (هل كان الأمير حداثيًا) 11 شوال 1429هـ=11 أكتوبر 2008، (الشروق).

[12]ـ (1222 - 1298 هـ = 1807 - 1881 م) عبد الغني بن طالب بن حمادة بن إبراهيم الغنيمي الدمشقي الميداني: فاضل من فقهاء الحنفية. من أشهر تآليفه كتاب "اللُّباب في شرح الكتاب" وهو في الفقه الحنفي شرح فيه مختصر القدوري ، و" كشف الالتباس - خ " في شرح البخاري ، و" شرح العقيدة الطحاوية – ط"

[13] ـ انظر مقال (الشيخ طاهر الجزائري في المجتمع) للدكتور نزار أباظة ـ مجلة (التراث العربي) العدد 108 ص23 ـ ذو الحجة 1428هـ =12/2007م.


[14] ـ انظر (محمد بهجة البيطار حياته وآثاره) عدنان الخطيب ص18.

[15] ـ (تحفة الزائر) لمحمد باشا 2/44.

[16] ـ (حياة الأمير عبد القادر) لشارل هنري تشرشل ص271.









رد مع اقتباس