منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - يحث مراثي المماليك والمدن
عرض مشاركة واحدة
قديم 2011-04-30, 13:33   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
issaadi
عضو جديد
 
إحصائية العضو










افتراضي

رثاء المدن والممالك
عرف الأدب العربي رثاء المدن غرضًا أدبيا في شعره ونثره. وهو لون من التعبير يعكس طبيعة التقلبات السياسية التي تجتاج عصور الحكم في مراحل مختلفة.
وهذا النوع من الرثاء لا يقف في حدود عند رثاء المدن وحدها حين يصيبها الدمار والتخريب ولكنه يتجاوز ذلك إلى رثاء الممالك تارة والعصور تارة أخرى. بل قد يرثي الدولة بأسرها؛ كما حدث ذلك في الأندلس. وقد تميز هذا الغرض من رثاء المدن في الشعر أكثر من تميزه في النثر.
ويُعد رثاء المدن من الأغراض الأدبية المحدثة، ذلك أن الجاهلي لم تكن له مدنٌ يبكي على خرابها، فهو ينتقل في الصحراء الواسعة من مكان إلى آخر، وإذا ألم بمدن المناذرة والغساسنة فهو إلمام عابر. ولعل بكاء الجاهلي على الربع الدارس والطلل الماحل هو لون من هذه العاطفة المعبّرة عن درس المكان وخرابه.
رثاء المدن في المشرق. عرف المشرق قدرا من هذا الرثاء شعرًا، عندما تعرضت عاصمة الخلافة العباسية للتدمير والخراب خلال الفتنة التي وقعت بين الأمين والمأمون. فنهبت بغداد وهتكت أعراض أهلها واقتحمت دورهم، ووجد السّفلة والأوباش مناخًا صالحا ليعيثوا فسادا ودمارا. وقد عبر الشاعر أبو يعقوب إسحاق الخريمي، وهو شاعر خامل الذكر، عن هذه النَّكبة في مرثيته لبغداد فقال:
يابؤس بغداد دار مملكة دارت على أهلها دوائرها
أمهلها الله ثم عاقبها حين أحاطت بها كبائرها
بالخسف والقذف والحريق وبالحرب التي أضحت تساورها
حلّت ببغداد وهي آمـنة داهية لم تكن تحاذرهـا

ثم كان خراب البصرة على يد الزنج في ثورتها المشهورة. فأشعلوا فيها الحرائق وحولوها إلى أنقاض ودمار، فوقف الشاعر ابن الرومي مذهولا بما حدث فقال:
كم أخ قد رأى أخاه صريعا تَرِبَ الخد بين صرعى كرام
كم مفدّى في أهله أسلموه حين لم يحْمه هنالك حامي
كم رضيع هناك قد فطموه بشبا السيف قبل حدّ الفطام

وبالإضافة إلى هاتين المرثيتين، حفل ديوان رثاء المدن في المشرق، بطائفة من القصائد تتحدث عن تلك المدن التي اسقطها هولاكو وتيمور لنك.
وكذلك استثارت نكبة بغداد على يد هولاكو عاطفة عدد من الشعراء مثل شمس الدين الكوفي، ومن أبياته قوله:
إن لم تقرّح أدمعي أجفاني من بَعْدِ بُعْدِكُمُ فما أجفاني
إنسان عيني مذ تناءت داركم ما راقـه نظــــر إلى إنســان
مالي وللأيام شتت خطبها شملي وخــلاني بلا خلان
ما للمنازل أصبحت لا أهلها أهلي ولا جيرانهــا جيـراني

وتعد مرثبة الشيخ تقي الدين إسماعيل بن إبراهيم التنوخي في القرن السابع الهجري أشهر مراثي بغداد حين خربها هولاكو. يقول في آخر القصيدة:
إن القيامة في بغداد قد وجدت وحدّها حين للإقبال إدبار
آل النبي وأهل العلم قد سُبيوا فمن ترى بعدهم تحويه أمصار
ماكنت آمل أن أبقى وقد ذهبوا لكن أتى دون ما أختار أقدار

وكذلك كان رثاء دمشق عندما سقطت في أيدي التتار فتعاقب على رثائها كثير من الشعراء مسجلين ذلك الحدث ومنهم الشاعر علاء الدين العزولي في قوله:
أجريت جمر الدمع من أجفاني حزنا على الشقراء والميـدان
لهفي على وادي دمشق ولطفه وتبدل الغزلان بالثيــــــران
واحسرتاه علي دمشق و قولها سبحان من بالغل قد أبلاني
لهفي عليك محاسنا لهفي عليـ ك عرائسا لهفي عليك مغانـي

ولكن هذا اللون في المشرق لم يزدهر ازدهاره في الأندلس، ويعزى ذلك إلى أن طبيعة التقلبات السياسية في الأندلس كانت أشد حدة وأسرع إيقاعا، وأنها اتخذت شكل المواجهة بين النصارى والمسلمين حين تجمع الصليبيون عازمين على طرد المسلمين وإخراجهم من الأندلس.
رثاء المدن في الأندلس. كان هذا الغرض في الأندلس من أهم الأغراض الشعرية، إذ كان مواكبًا لحركة الإيقاع السياسي راصدًا لأحداثه مستبطنًا دواخله ومقومًا لاتجاهاته.
وكان محوره الأول يدور حول سلبيات المجتمع الأندلسي بسبب ما انغمس فيه الناس من حياة اللهو والترف والمجون وانصراف عن الجهاد. وأن الأمر لن يستقيم إلا برفع علم الجهاد تحت راية لا إله إلاالله. ومن هنا فالصوت الشعري لرثاء المدن في الأندلس يخالف الأصوات الشعرية الأندلسية الأخرى التي ألفها أهل الأندلس في الموشحات ووصف الطبيعة والغزل وبقية الأغراض الأخرى.
ويلفت النظر أن عددا من قصائد رثاء المدن في الأندلس لشعراء مجهولين؛ ويُفَسَّرُ ذلك إما بخشيتهم من السلطان القائم بسبب نقدهم للأوضاع السياسية وإما أن عنايتهم بالحس الجماعي واستثارته كانت أكثر من عنايتهم بذواتهم الشاعرة.
يقوم هذا الرثاء على مقارنة بين الماضي والحاضر؛ ماضي الإسلام في مجده وعزه، وحاضره في ذله وهوانه. فالمساجد غدت كنائس وبيعًا للنصارى وصوت النواقيس أضحى يجلجل بدلا من الأذان، والفتيات المسلمات انتهكت أعراضهن، والدويلات المسلمة تستعين بالنصارى في تدعيم حكمها. وتمتلئ كل هذه النصوص بشعور ديني عميق يطفح بالحسرة والندم.
كان سقوط مدينة طليطلة في أواخر القرن الخامس الهجري بداية المأساة؛ فهي أول بلد إسلامي يدخله الفرنجة وكان ذلك مصابا جللا هزّ النفوس هزًا عميقًا. يقول شاعر مجهول يرثي طليطلة في قصيدة مطلعها:
لثُكلكِ كيف تبتسم الثغور سرورًا بعدما سبيت ثغور
طليطلة أباح الكفر منها حماها إنّ ذا نبــأ كبـــير

وفي هذه القصيدة التي بلغت سبعين بيتا تصوير لحال المسلمين عشية سقوطها وما أصابهم من ذل وصغار، كما تصور ماضيها المجيد وحاضرها المهين. وتنتهي بأمنية مشتهاة أن يخرج من أصلاب المسلمين بطلٌ كطارق بن زياد يعيد الأمر إلى نصابه:
ألم تك معقلا للدين صعـبا فذلّله كما شاء القديـــر
وأخرج أهلها منها جميعــا فصاروا حيث شاء بهم مصير
وكانت دار إيمان وعلـم معالمها التي طمست تنــير
مساجدها كنائس، أي قلب على هذا يقر ولا يطـير
فيا أسفاه يا أسفاه حزنــا يكرر ما تكررت الدهـور

ثم تختم المرثية بهذه الأمنية:
الاّ رجل له رأي أصيــــل به مِمّا نحاذر نستجـــــــــير
يكُرّ إذا السيوف تناولــته وأين بنا إذا ولت كــــــــرور
ويطعن بالقنا الخطار حتى يقول الرمح من هذا الخطــير ؟

وتعد مرثية الشاعر ابن الأبار لمدينة بلنسية من المراثي المشهورة في الأندلس، فقد أرسل بها على لسان أميره إلى أبي زكريا بن حفص سلطان تونس مستنجدا به لنصرة الأندلس ومطلعها:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا إن السبيل إلى منجاتها درســـا
وهب لها من عزيز النصر ما التمست فلم يزل منك عزّ النصر ملتمسا

ويحكي هذا النص يأس أهل الأندلس من حكامهم المسلمين ومن ثم توجهوا لطلب النصرة من خارج الأندلس كما تصور حال بلنسية وقد تحولت المساجد إلى كنائس وفرض الكُفر سلطانه على الجزيرة وأن الذي أصاب بلنسية يوشك أن يصيب باقي المدن الأندلسية:
مدائن حلها الإشراك مبتسما جذلان، وارتحل الإيمان مبتئسا
ياللمساجد عادت للعدا بيعا وللنداء غدا أثناءها جرسـا

ثم يلتفت إلى أبي زكريا سلطان تونس قائلا:
طهّر بلادك منهم إنهم نجس ولا طهارة ما لم تغسل النجسا
وأوطئ الفيلق الجرار أرضهم حتى يطأطئ رأسا كل من رأسا
وأملأ هنيئًا لك التأييد ساحتها جرُدًا سلاهب أو خطية دُعُســا

وأما مراثي الممالك فمن أشهرها مرثية أبي محمد، عبد المجيد بن عبدون التي رثى بها قتلى بني الأفطس أصحاب بطليوس ومطلعها:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر فما البكاء على الأشباح والصور؟

وفيها يقول:
أنهاك لا آلوك موعظة عن نومة بين ناب الليث والظفر

وفي هذه المرثية، يحشد ابن عبدون الكثير من أحداث التاريخ وتقلباته ويحكي ما أصاب الدول والممالك من مآسٍ ومحن متخذا من ذلك سبيلا للعظة والتأسي. وتمتاز القصيدة على طولها بحاسة شعرية قوية وعاطفة جياشة تزاوج بين مأساة بني الأفطس الذاتية والسياسية.
ومن أهم المراثي التي ربطت بين المأساة الذاتية والسياسية قصيدة أبي بكر بن عبد الصمد في رثاء مملكة إشبيليا وأميرها الشاعر المعتمد بن عباد:
ملك الملوك أسامع فأنادي أم قد عدتك عن السماع عوادي
لما خلت منك القصور ولم تكن فيها كما قد كنت في الأعــياد
قد كنت أحسب أن تبدد أدمعي نيران حزن أضرمت بفــــؤادي

وتعد أيضا دالية ابن اللبانة في رثاء بني عبَّاد ومملكتهم من تلك المراثي التي ربطت بين مأساة المعتمد وضياع ملكه ومأساة الشاعر حين هوى عن عرش الشعر ومملكته:
تبكي السماء بدمع رائح غاد على البهاليل من أبناء عـــــــبَّاد
على الجبال التي هُدّت قواعدها وكانت الأرض منهم ذات أوتاد
نسيت إلا غداة النهر كونهم في المنشآت كأموات بألحـــــاد
تفرقوا جيرة من بعد ما نشأوا أهـلا بأهـل وأولادًا بأولاد

وأما نونية أبي البقاء الرندي فهي واسطة العقد في شعر رثاء المدن وأكثر نصوصه شهرة وأشدها تعبيرا عن الواقع. فهي ترثي الأندلس في مجموعها مدنا وممالك. فتصور ما حلّ بالأندلس من خطوب جليلة لا عزاء فيها ولا تأسٍ دونها وكيف ضاعت قرطبة دار العلوم، وإشبيليا مهد الفن، وحمص مهبط الجمال، وكيف سقطت أركان الأندلس واحدة تلو الأخرى، وكيف أَقفرت الديار من الإسلام فصارت المساجد كنائس وغدا صوت الأذان صوت ناقوس؟!، ثم يهيب أبو البقاء الرندي بفرسان المسلمين عبر عدوة البحر إلى المسارعة لنجدة الأندلس والمسلمين. يقول في أول القصيدة:
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يُغَرُّ بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمــان
وللحوادث سلوان يسهلها وما لما حلّ بالإسلام سلوان

إلى أن يقول:
فاسأل بلنسية ما شأن مرسية وأين شاطــبة أم أيـن جيَّــان؟
وأين قرطبة دار العلوم، فكم من عالم قد سما فيها له شان
وأين حمص وما تحويه من نزه ونهرها العذبُ فياض وملآن
قواعد كن أركان البلاد فما عسى البقاء إذا لم تبق أركان
حيث المساجد قد صارت كنائس ما فيهن إلا نواقيـــس وصلبــان
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر ترثي وهي عيدان

وتختتم القصيدة بنغمة حزينة شجية تسفر عن الأسى العميق والتماس العظة والعبرة فيما حل بالأندلس:
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلام وإيمان!

وأهمية رثاء المدن أنه يكشف عن جوانب ثرية من التاريخ السياسي بين المسلمين والنصارى في الأندلس. كما يكشف جانبا من النقد الذاتي الذي واجه به الأندلسيون أنفسهم حين أَدركوا أن الانغماس في حياة اللهو والترف أدى إلى سقوط راية الجهاد، وأن ملوك الطوائف حين حرصوا على ملكهم الفردي أضاعوا ملكًا أعظم. وما أصدق سخرية الشاعر المصحفي حين قال:
مما يزهدني في أرض أندلس أسمــاء معتضــدٍ فيــها ومعتمـــد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد










رد مع اقتباس