منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - إلى فارس المسيلى
عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-07-29, 18:40   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
فارس المسيلي
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية فارس المسيلي
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

العلاقات التجارية والثقافية بين غدامس وتنبكت
عبر المخطوطات

إعداد : نوري محمّد الأمين الأنصاري

الباحث في معهد أحمد بابا للدراسات العليا والبحوث الإسلامية
تنبكت - مالي
بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى سائر الأنبياء والمرسلين

وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين

أولا) المقدمة

إن الإنسان بطبيعته الفطرية اجتماعي وحضاري، لذلك فإن العلاقات الإنسانية تعتبر حقيقة فطرة الله في الأرض جبلت عليه البشرية عبر العصور[1] والله عز وجل يقول في هذا الشأن:" وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا"[2].

والمصادر التاريخية تنوه بأنه قد امتازت جسور العلاقات بين غدامس وتنبكت، والعلاقات بين دول شمال إفريقيا وإفريقيا الغربية (السودان الغربي) بالفاعلية والنشاط، فقد أضحى التفاعل شاملا وقد عم جميع المجالات، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والثقافية[3]، ويظهر أن الحضارة المغربية، كان لها الفضل في نشر تعاليم الإسلام الحنيف، والمتمثل في لغة القرآن في المجتمعات الإفريقية الواقعة شمال وجنوب الصحراء الكبرى، ومن هنا ألفينا هذه الحضارة ذات الجذور الأمازيغية تروم بذر بذور التفاعل مع مقومات الحضارة الزنجية - (السودانية الإفريقية)- من خلال التأثير والتأثر[4] .

كما أن قبائل الأمازيغ ما لبث أن يممت الجنوب، فيما وراء الصحراء الكبرى، في هجرات متتالية أبرزها قبائل (صنهاجة ولمتونة وجدالة ومسوفة)، بفعل تظافر عدة عوامل في طليعتها الاضطرابات السياسية التي عاشها المغرب قبل انتقال دفة الحكم إلى المرابطين- الملثمين- بقيادة يحيى بن إبراهيم الجدالي، والفقيه عبد الله بن ياسين الجاز ولي، وفي هذا المقام يمكن أن نلفت الانتباه إلى الدور الطلائعي الذي قام به الزعيم يحيى بن إبراهيم الجدالي والفقيه عبد الله بن ياسين الجازولي حيث دانت لهما قبائل الملثمين في غرب إفريقيا وأمكن لهما أن يلما شعث هذه القبائل في محاولة لإرساء أسس العقيدة الإسلامية ((فقامت دولة المرابطين - الملثمين- الذين استطاعوا أن يكونوا جبهة إسلامية - موحدة - تمتد من غرب إفريقيا إلى المغرب ثم الأندلس[5]، وتمتد أيضا من شمالها إلى طرابلس وإلى الأسكندرية شرقا وأساسها الثقافي لغة القرآن وحروفه.

وحسب المصادر التاريخية فإن العلاقة وطيدة وحميمة بين الأفارقة والأمازيغيين، حيث يذكر المؤرخون بأنهم من أصل واحد، وجدهم حام بن نوح عليه السلام، وفي هذا الشأن يقول ابن خلدون ما نصه ((في الحق الذي لا ينبغي التعويل على غيره في شأن البربر- الأمازيغيين – من ولد كنعان بن حام بن نوح عليه السلام وأن اسم أبيهم مازيغ[6] أي بمعنى أن الأمازيغيين نسبهم وأصلهم من ولد مازيغ ومازيغ هو ولد كنعان بن حام بن نوح عليه السلام[7]، وفي أصل سكان شمال إفريقيا والصحراء الكبرى، فإن الرأي الشائع في المصادر المكتوبة أن الأمازيغيين نسبة إلى أمازيغ بن كنعان بن حام بن نوح عليه السلام، وتسليما لقوله تعالى: )وجعلنا ذريتهم هم الباقون(. و لذلك ندرك بأن الإنسان الأول قد اندثر لتتفرع شعوب أخرى من أبناء نوح عليه السلام، ومنهم أبناء حام الذين استوطنوا إفريقيا.

إذن نستشف من هذا التاريخ، أن هذه القبائل الأمازيغية التي استقرت في المناطق الواقعة جنوب الصحراء بقرب نهر النيجر قد امتزجت امتزاجا كليا بالمصاهرة والعلاقات الدينية والثقافية والاجتماعية والتجارية بالمجتمعات السودانية في السودان الغربي، إنه حقا رحم تتلاقح فيه أشكال حضارية متباينة من مقومات حضارية شرقية إسلامية إلى مؤثرات حضارية أمازيغية فضلا عن تيارات حضارية سودانية في غرب إفريقيا.

وهذه علاقة الرحم بين السودانيين والأمازيغيين كونت ما يسمى بثقافة الصحراء في عمقها الإسلامي الأمازيغي السوداني، ومدونة في كتب الرحلات ومصنفات الجغرافيين المسلمين والمؤرخين وخاصة الأمازيغيين والسودانيين الذين كتبوا عن هذه المجتمعات في غرب إفريقيا في أوجه قمة حضارتها الإنسانية الخالدة، لأن الصحراء مهد الحضارات البشرية الأولى منذ فجر التاريخ.

وفي الحقيقة فإن كثيرا من نظم الحياة الاجتماعية الإسلامية، وأشكال التغيير الثقافي والروحي لمناطق شمال وجنوب الصحراء الكبرى،كان لها أعمق التأثير في تآخي الأمازيغيين والسودان والعرب، وتم حقا الاختلاط الواسع بالمصاهرة بين هذه الأجناس بعضها ببعض من خلال بعثات الحج من ملوك المناطق الواقعة جنوب الصحراء إلى الأراضي المقدسة، وانتقال رجال العلم والمعرفة وقوافل التجارة والتجار بين ضفتي الصحراء الشمالية والجنوبية، ثم انتقال القيم والعادات، واندماج كليا في بعضها البعض حيث انصهرت في بوثقة ثقافية وحضارية موحدة دون أن يطمح أي منها إلى إلغاء الآخر أو نفيه[8]، وظلت تغذي كيان السودانيين والأمازيغيين والعرب قرونا وقرونا، برغم الغزو الاستعماري وتقسيم إفريقيا، فإن هذه العلاقات الثقافية الروحية ذات الجذور الأخوية والأسرية مازالت قائمة بين ضفتي الصحراء في الشمال والجنوب، وأيضا قائمة بين غدامس وتنبكت، حيث أن الصحراء الكبرى لم تكن عقبة كأداء غير ممكنة العبور قبل استعمال الجمل في الألف الأول قبل الميلاد كوسيلة من الوسائل في عبورها[9]. وكانت البراري أقل خطرا على الإنسان من اليوم، إذ كانت تشقها طرق كثيرة سهلت الهجرات إلى أعماق الصحراء للوصول إلى المناطق الواقعة جنوب الصحراء، وسهلت أيضا عبور القوافل التجارية و استمرارها بين شمال إفريقيا وجنوبها إلى أن قضى عليها الاستعمار نهائيا وحول التجارة من الصحراء إلى المحيط الأطلسي عند رأس الرجاء الصالح والبحر الأحمر عن طريق قناة السويس.

وقبل الاستعمار كانت الصحراء عاملا من عوامل الاتصال بين أهل الشمال وأهل الجنوب وخاصة بين غدامس وتنبكت لانعدام الحواجز الطبيعية التي تقف حائلا دون الاختلاط الفكري والسياسي والثقافي والديني[10]. والأحداث التاريخية تؤكد بأن المرابطين - الملثمين – قد أثروا في بلاد شمال إفريقيا وفي السودان بصورة مباشرة. ومن يريد إعادة قراءة دور المرابطين- الملثمين – في جانبي الصحراء الكبرى، الشمالية والجنوبية بكل موضوعية ونزاهة ودقة، فإنه يعيد لهذا الدور جوهره الحقيقي القائم على التآخي والتواصل المستمر لا التدابر، والتلاحم لا التصادم، والإخاء لا العداء، وفقا لتقدير المصالح المشتركة.

ثانيا) غدامس المدينة التاريخية العريقة
موقعها ونشأتها :

تقع غدامس في الجنوب الغربي من ليبيا، وتعتبر البوابة الشمالية على مشارف الصحراء الكبرى عند أقرب نقطة معمورة منها وهي عبارة عن واحة ليبية نحتت في أعماق الجبال عند ملتقى الحدود التونسية والجزائرية، وتبعد عن العاصمة طرابلس حوالي 600 كلم، وهي في نظر المؤرخين والمسافرين والزائرين والسواح عبارة عن واحة خضراء في وسط الصحراء، وتقسم ثلاثة أقسام : المدينة العتيقة حيث السور والجوامع، وغابة النخيل، والمدينة الحديثة حيث المباني المستحدثة.

وغدامس مدينة صحراوية أحبها الحاكم الإيطالي (بالبو) في العشرينات من القرن العشرين، وهو الذي أقام مطار غدامس، وفندق عين الفرس، وكان يقضي فيها إجازته، ويعشق عمارتها، ويهوى الصيد في صحرائها، ويقدر قيمتها الأثرية التاريخية العريقة.

ومن المؤكد أن منطقة هذه العين قد أنشأت بصورة طبيعية غابة كثيفة من النخيل فقامت السكنى على أساسها في الأزمنة القديمة، وتثبت ذلك آثار مازالت قائمة لأبراج مدورة ومربعة بنيت من حجارة لم تنحت ويطلق عليها السكان أَصَّنَامَنْ[11].

وكل شيء يشير إلى أن الأبراج وجدت قبل فترة طويلة من وصول الرومان إلى غدامس ويعتقد أنّ تأسيسها يعود إلى الجرمنت، ومن المؤكد أن المدينة ليست موطنهم إلى أن الرومان كان يعتبرون [سيداموس] عندما احتلوها كمدينة للجرمنت .

فغدامس يوجد بها أشجار النّخيل، وأهمّها النخلة التي تدعى بالطارقية "تازيت"[12] وهذا أفضل نوع بين نخيل غدامس " تن إسُكَرْ " وتدعى أمّ العسل. وهذا ما يشهد على حلاوة طعمها[13].

سكان غدامس الأصليين والتجارة :

يقترن اسم غدامس بسكانها الأصليين بزناتة ( جذم ماغعيس ) ومن بطونها ورطاجنه وبني وطاس الذين يعتبرهم ابن خلدون من أقدم سكان غدامس الأصليين والطوارق الملثمين (كلتماشق) الذين يسمون إموشاغ باللهجة الغربية وإموهاغ أو إمازغن باللهجة الشمالية والشرقية , فإنهم ينسشبون إلى عرب حمية كما اقترن أيضا اسم تنبكت ـ جارتها في الضفة الجنوبية للصحراء الكبرى ـ بالطوارق (كلتماشق)، وهذا ما يؤكّده التاريخ والواقع والروايات الشفوية المتواترة للطوارق (كلتماشق) في الصحراء الكبرى، وأصل اسم غدامس في الروايات الشفوية لكلتماشق هو: (أهغيد آمنيس) فهو مركب من كلمتين بلغة تماشق: أهغيد معناه بالعربية: خذ بالقوة أي اغتصب، أو أسلب، أو أنهب. آمنيس معناه بالعربية الجمل. ومن ثم فإنّ المصادر التاريخية تؤكّد بأنّ سكان غدامس بربر ـ أمازغن ـ مثلهم مثل جميع سكّان شمال إفريقيا على أنّهم اختلطوا بالعرب والأفارقة، إنّ لهجتهم تشبه إلى حدّ بعيد اللهجات التي يتكلّمها سكان بقية الواحات سوكنه وسيوه واوجله، كما تشبه الطارقية ـ تماشق ـ ولهجة سكان الأطلسي والجبال على طول الشاطئ الإفريقي من البحر المتوسّط، وكل غدامس تقريبا يفهم إلى جانب الغدامسية ـ تماشق ـ إحدى لغات وسط إفريقيا وتنتشر على وجه الخصوص الهوسا[14] وصنغاي[15]، كما يفهم معظم الغدامسيين الطارقية[16] ـ تماشق.

وفي وسطها بئر، وتطلّ عليه الحجرات كافة، وفي وسط المدينة عين الفرس، ذكر ياقوت الحموي وذكر المدينة فقال إنّها مدينة في المغرب من الجنوب ضاربة إلى بلاد السودان، تدبغ بها الجلود الغدامسية، وهي من أجود أنواع الجلود، ودباغها من أجود الأنواع، كأنّها ثياب قز في النعومة والإشراق. وفي وسط المدينة عين أزلية وعليها أثر بنيان قديم وعجيب.

لقد اتّخذ الغدامسيين مثلهم مثل بقية الشمال الإفريقي اللغة العربية في مراسلاتهم وبعض الأحيان يستخدمون أيضا الحروف العربية في كتابة الغدامسية (تماشق) وهذا يحدث في مراسلاتهم التجارية إذ أنّ الرسائل ترسل مفتوحة، ويريدون بذلك أن تبقى خفية المضمون عن منافسيهم في المدن الأخر و لنفس السبب يستعملون في كتابة أسعار البضائع أرقاما سرية ربّما كانت مأخوذة عن الليبية القديمة، وممّا يلفت النّظر أنّ الغدامسيين لا يعدّون في لغتهم(لهجتهم) أكثر من عشرة ثمّ يتابعون العدّ بالعربية، وفي عموم شمال إفريقيا لا نجد كتابة خاصة فيما عدا الليبية القديمة والهيروغليقية، والحبشية، والطارقية (تماشق)، إلاّ أنّ هذه الرّموز الكتابية لا يمكن أن تستخدم لما يزيد عن جمل قصيرة أو في كتابة أسماء ونقوش[17].

ويلاحظ دوفيريه إذا ما وجدت في مكان ما كتابة طارقية فإنه يجب أن تكون مكتوبة بالعربية. ويذكر رولفس بأنه لم يتمكن من العثور على أرقام خاصة بالطارقية القريبة من الغدامسية[18]، ويعتقد أن ميرشر وفاتون ودكسون وفريمان وريشاردسون وهانتو ودوفيريه الذين يذكرون الحروف الطارقية – للغة تماشق[19]. ويبدو أن هذه الأرقام مستعملة فقط في الأمر التجاري ويستعملها التجار بحيث يسجلون أسعار بضائعهم برموز يفهمها فقط من يجب أن يباح له السر، وإن مثل هذه الأمور معروفة ولا شك في تجارة البضائع الأوربية، ولما كانت مدينة غدامس نافذة على أفريقيا حيث تعتبر قنطرة بين ضفتي الصحراء الشمالية والجنوبية -وخاصة مدينة تنبكت-، وتقوم بإمدادها ببضائع تجارية قادمة عن طريق البحر الأبيض المتوسط، فإن التجار الغدامسيين يملكون مزية كبيرة تجاه مزاحميهم من خارج المدينة وتجاه المشترين، وبالطبع فإنهم يخفون تفسير هذه الرموز عن تجار طرابلس وتونس والقاهرة -وفاس ومراكش- وعن التجار النصارى واليهود[20].

ويسمي ريشاردسون غدامس في كتابه أنها مدينة المرابطين –الملثمين. ولكن رولفس له رأي آخر في كتابه ((عبر أفريقيا)) حيث يقول: والغدامسيون باعتبارهم من البربر –الأمازغيين- ليس من حقهم أن يكونوا مرابطين[21] - ملثمين. ويذكر أيضا أنه من أتباع المذهب المالكي وأغلب الرجال يتخذون زوجة واحدة والجميع يحافظون على الفرائض الدينية. ولما كان كل غدامسي يتعلم القراءة والكتابة فهو إذا هو طالب[22] - وهذه التسمية تطلق أيضا على من يتعلم القراءة والكتابة في تنبكت. وأغلب النساء يصلين في الجامع ويحجز لهن في ساعات الصباح وهذا ما يحدث أيضا في تنبكت. وعلى كل حال، فإن الغدامسيين متفتحون بعيدون عن التعصب وهم مضطرون أن يتعاملوا في الموانئ، مباشرة مع اليهود والنصارى أو أن يعيشوا في وسط أفريقيا مع الوثنيين، وبذلك تخلصوا من كثير من الأحكام المسبقة فعاشوا في تسامح وسلام مثمر إنساني وحضاري في أخذ وعطاء متبادل مع الآخرين. أما في غدامس ذاتها لا يعيش النصارى واليهود إلا أنه كان يوجد في بعض الأحيان قناصل أو رحالون.[23]

وما تذكره بعض المصادر وخاصة الرحالون أنه يجدر بالمرء أن يثق بكلمة الغدامسي، فهو يحافظ على العهد (إن العهد كان مسؤولا)، ولذلك يعطى التجار الأوربيون زبائنهم الغدامسيين بالأمانة بضائعهم قيمتها غالية وباهظة الثمن ولم يحصل أن قام أي من الغدامسيين بعمل شيء يغضب عملاءه.[24]

وهنا يتدارك رولفس ما أكدته الحقائق التاريخية في أصل الطوارق (كلتماشق) حيث يقول: من المؤكد أن الطوارق بربر -أمازغيون- أو أنهم ذو أصل مشترك معهم كما أنهم يتكلمون نفس اللغة تمازغت، إلا أن عيشهم –في جحيم الصحراء القاحلة الجرداء من أجل حبهم للحرية وللعزة وللكرامة- أثر مع الوقت عليهم تأثيرا جوهريا وهذا ما يظهر في عاداتهم وتقاليدهم فالمرأة لدى البربر –الأمازغيين- الذين يعيشون في الشمال الأفريقي مختلطين بالعرب تتمتع باستقلالية أكبر ولديها عند الطوارق (كلتماشق) مركز متميز، فقديما كان تعاقب الإرث –الحكم- لدى الزعماء[25] يتم على أساس التسلسل النسائي[26]. فالطوارق (كلتماشق) لقد عارضوا الاستقرار في المدن، وعارضوا بكل قوة كل ما من شأنه أن يناقض عاداتهم القديمة ويحد من حريتهم في الترحال والبداوة جريا وراء الكلأ لحيواناتهم، أو العادة القديمة في التجارة المستمدة من قيادة القوافل التجارية عبر ضفتي الشمالية والجنوبية للصحراء الكبرى.

وأما علاقات الغدامسيين التجارية فتصل شمالا إلى طرابلس وتونس، وتبلغ جنوبا توات وتمبكتو[27] وسوكتو وكانو وجوجو، إنهم – حقا بكل جدارة- الوسطاء التجاريون الرئيسيون بين البحر الأبيض المتوسط وبلدان أفريقيا الوسطى – والسودان الغربي- إنهم يحملون إلى غرب ووسط أفريقيا الأقمشة الأبيض منها والملون، برانس جاهزة، قبعات حمراء، أقمشة قطنية وحريرية ملونة لؤلؤ زجاجي، مرجان أصلي وتقليدي، مواد أصلية ومقلدة، نحاس، ورق، رصاص، بارود، كبريت، مرايا الصغيرة، سكاكين، مقصات، إبر. ويأخذون مقابل ذلك غيار الذهب عاج، ريش النعام رقيق، وهذا الأخير قلما يصل خلال الفترة الأخيرة إلى غدامس إلا بكميات ضئيلة، إذ يذهب معظمه من ضواحي أفريقيا إلى الشاطئ الغربي للقارة[28] وخاصة شواطئ سنغال وغينيا وليبيريا وسيراليون وغانا حيث يُشحَن في السفن المتجهة إلى أوربا وأمريكا فيما يعرف بتجارة المثلث (بين أفريقيا وأوربا وأمريكا) لتجارة الرقيق (البضاعة الإنسانية) وهي في الحقيقة تجارة الخزي والعار بين أفريقيا وأوربا وأمريكا.

ونلاحظ أن معظم المصادر العربية والأفريقية والأجنبية تؤكد بأن غدامس كانت منطلقا للعلاقات التجارية والثقافية من قديم الزمان بين ضفتي الشمالية والجنوبية للصحراء الكبرى في القارة الأفريقية، وذلك من خلال ما دون في المخطوطات سواء في تنبكت أو في المصادر العلمية والثقافية في ليبيا، ومن أهم هذه المخطوطات وثيقة عن تاريخ غدامس الثقافي وهي مخطوطة (تذكير الناسي وتليين القلب القاسي بذكر شيء من مناقب الشيخ سيدي عبد الله بن أبي بكر الغدامسي)[29]، ويمتد البعد الزمني المعاصر لهذه المخطوطة سنة (1035هـ/1625-1626م ، وسنة 1175هـ/1762م) ومؤلف هذه المخطوطة هو العلامة محمد بن محمد بن موسى بن مهلهل الغدامسي الذي كان من رجال القرن 12هـ.[30]

تتجلى صلة هذه المخطوطة الغدامسية بواحة غدامس كمركز اقتصادي وعلمي وديني، وقد امتد إنتاجها وثمراتها في مسيرة الصلة بين غدامس والمدن الواقعة جنوب الصحراء وخاصة تمبكتو من القرن الخامس حتى أوائل القرن الثاني عشر الهجري، لذلك فإن هذه المخطوطة وهذه المخطوطات والوثائق الغدامسية في معهد أحمد بابا بتنبكت تتجلى صلاتهما وتنعكس في العلاقات التجارية والثقافية بين المدينتين.

من أجل هذا، فإنها تعد أهم وثيقة عن الحياة الثقافية في واحة غدامس الواقعة على تخوم الصحراء وبلاد السودان، وهي تقدم –مع غيرها من الوثائق والمخطوطات- الوجه الآخر لهذه المدينة الصحراوية التي غلبت عليها شهرتها التجارية، وأعني انتعاش النشاط الثقافي بها في ذلك العهد، وذلك مصداق لارتباط النشاط الفكري بالرفه والاستقرار الاقتصادي[31].

إن هذه المخطوطة لا تصور غدامس مركزا ثقافيا مغلقا منعزلا منكمشا على نفسه، ولكنها تبدو من خلال المخطوطة نافذة ثقافية جنوبية مطلة على الصحراء وبلاد السودان.[32]

إن غدامس تبدو من خلال بعض التراجم في هذه المخطوطة متأثرة على المستوى الثقافي ببلاد السودان، إذ رحل إليها بعض الأبناء وتلقوا العلم بها، ويؤخذ من ذلك أن الثقافة العربية الإسلامية الوافدة من الشمال إلى بلاد السودان قد ترسخت بها فتجاوزت مرحلة التلقي إلى مرحلة العطاء – والأخذ والتبادل والتأثير حيث تلاقحت مع جذور حضارية أمازغية فضلا عن جذور حضارية سودانية في غرب أفريقية- وهذه الملاحظة نفسها يخرج بها الدكتور محمد حجي أيضا مشيرا إلى ((ظاهرة العطاء السوداني –الأمازيغي- للمغرب، والتبادل الثقافي بين الجانبين)).[33]

لقد نالت غدامس حظا من الذيوع والشهرة والثراء كمركز تجاري متقدم في تجارة القوافل بين الشمال والجنوب، وكانت طريق غدامس – تادمكة (بمالي) أحد المعابر الهامة لتلك القوافل التجارية منذ قرون[34]، ولكنها لم تحظ بعد بدراسة وافية موسعة عن تاريخها الثقافي – والتجاري، وقد انصرف الفقيد الراحل الأستاذ بشير قاسم يوشع، أصيل غدامس إلى العناية بتاريخها وتراثها، فقدم عددا من المساهمات المختلفة التي استهلها بكتابه الأول (غدامس: ملامح وصور) الصادر في بيروت سنة 1973، وقدم فيما بعد بعض المقالات الأخرى عن عدد محدود عن علمائها[35]، فضلا عن فهرس مخطوطاتها[36]، ونشر مجموعة من وثائقها العامة[37] ، وقد كان معنيا في سنواته الأخيرة بإعداد كتاب عن (أعلام غدامس)[38].

وقد عرض الدكتور عبد الحميد عبد الله الهرامة الرابطة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية استنادا إلى مختلف المصادر في بحثه (غدامس إحدى حلقات الوصل في العلاقات الإسلامية الإفريقية)[39].

وأكد رولفس قيمة غدامس وتنبكت والعلاقة الوثيقة بينهما في تجارة القوافل الصحراوية، ومدى تشابه المدينتين في العادات والتقاليد وفي الأعياد الدينية وخاصة عيد المولد النبوي الشريف (المولود).

فمدينة غدامس تعتبر أقدم المدن التي تميز أهلها بممارسة التجارة، ولذلك يقال لها مدينة القوافل لمحطتها الرئيسية من الزمن البعيد بين البحر الأبيض المتوسط والمدن التجارية في السودان الغربي.

وفي الحقيقة فإن مدينة غدامس لها أهمية تاريخية عظيمة الشأن في المجالين الثقافي والتجاري ولكن للأسف الشديد لم نجد من المؤرخين والباحثين ما تستحق من وصف ومن ذكر لقيمتها التاريخية بين المدن التي تعتبر همزة وصل للقوافل التجارية عبر الصحراء، ولم تدون لأن سكانها الأصليين لم يتعودوا على التدوين فشغلهم الرئيسي هو التجارة وقيادة القوافل عبر الصحراء ذهابا وإيابا، ولم تجد أيضا حقها التاريخي المتعلق بالحركة التجارية والثقافية من خلال المخطوطات التي دونت هذه الحركة التجارية والثقافية بين مدن شمال أفريقيا والمدن الواقعة جنوب الصحراء خلال العصور الوسطى وخاصة مكانتها التاريخية والحضارية وشهرتها العالمية بين المدن الواقعة على ضفتي الصحراء الشمالية والجنوبية للقارة الأفريقية.

من المصادر التاريخية التي تثبت هذه العلاقة التجارية والثقافية الوثيقة بين غدامس وتنبكت، ما أكده رولفس في عام 1886 في كتابه (عبر أفريقيا): ((إن القوافل القاصدة تمبكتو من غدامس هي وحدها التي تمر عبر توات، أي بمعنى أن جميع الطرق التي تسير فيها القوافل من شرق وشمال وجنوب أفريقيا هجرت، أي بمعنى أغلقت إلا طريق بين غدامس وتمبكتو عبر توات، وإن من يريد أن ينتقل من ضفة الصحراء الشمالية إلى ضفة الجنوب ليس له خيار إلا طريق غدامس وتمبكتو عبر توات))[40].

ثالثا) تنبكت المدينة التاريخية العريقة

نشأتها: وقد بلغنا أن نشأة تنبكت وبناءها كانت على يد التوارق[41] إمقشرن ويرجع أصلهم إلى قبائل إدنان، وقيل أصل إدنان من لمتونة، ولمتونة من حمير، وأخوالهم إمازغن (كلتماشق)[42] ومنهم منشأ لغتهم المعهودة تماشق، وبها يتكلمون كلتماشق (الملثمين) الذين يسمون بالطوارق مع بقية قبائلهم المنقسمة بين الدول الآتية: ليبيا، الجزائر، المغرب، موريتانيا، مالي، النيجر، بوركينافاسو.

وقبائل (إدنان) هم أول من سكن الموضع على حسب ما ذكر السعدي، وأكده غيره من المؤرخين النزهاء، وذلك في حدود عام (474هـ/1080م)، والرواية التاريخية الحقيقية عن اسم تنبكت ومنشأها ومرجعه الأصلي والحقيقي، والذي لا يتنازع فيه اثنان هو:

إن تنبكت (تِنْ بَكْتَوْ) كانت أمة عجوزة لإمقشرن من قبائل إدنان، وكانت تسكن في حفش لها في ذلك الموضع حول بئر تسكنها قبيلة إمقشرن (الإدنانية)، فعندما يأتي موسم الأمطار (الخريف) ينتقلون من هذا الموضع إلى الشمال جهة أروان، فيتركون بعض الحفش (الأمتعة) والأشياء الثقيلة وديعة عند هذه المرأة العجوزة المملوكة لهم. ولذلك سميت هذه العجوزة (تِنْ بَكْتَوْ). ومعناها بلغة تماشق: وديعة الحفش، أو صاحبة الأمتعة (الأشياء المادية) التي يضعونها عندها الناس. وبمعنى آخر وديعة الأمتعة أو صاحبة الأشياء المتروكة من طرف الطوارق (كلتماشق) الذين انتقلوا إلى مناطق أخرى بحثا عن الكلأ والمراعي الخصبة لحيواناتهم. ودارت عجلة الزمن فأصبح اسم هذا الموضع مقترنا باسم هذه المرأة العجوزة وذلك بلغة تماشق (تِنْ بَكْتَوْ).

تأسيسها و تجارتها:

وقد تأسست تنبكت من قبل التوارق (كلتماشق الملثمين) في نهاية القرن الخامس الهجري، وبداية القرن الحادي عشر الميلادي، وأصبحت بعد ذلك الوقت أهمّ مراكز الثقافة والتجارة في غرب إفريقيا كما وصف السعدي تنبكت بأنها مدينة ذات جمال و كان أهلها يدينون بالإسلام ويحيون السنّة ويحاربون البدع فلهذه المدينة فضائل عديدة، فمن دخلها خائفا وجد الطمأنينة ومن سكن فيها عاما أو أكثر نسي فعلته وتاب عنها، فهي دار فقه وعلم وإصلاح، حيث سكنها صفوة من العلماء والفضلاء. حتّى لا يوجد مكان من المدينة إلاّ وفيه ولي من أولياء الله الظاهرين والباطنيين[43]، ما دنستها عبادة الأوثان ولا سجد على أديمها قط لغير الرحمان، مأوى العلماء والعابدين والصالحين ورجال الأعمال[44].

وأهالي تنبكت يحبّون الغريب ويقدّمونه على أنفسهم ولا ينسون من عاشرهم من الناس[45]، وهذا ليس بغريب لحضارة و مدنية و إنسانية أهالي تنبكت الذين ترعرعوا في استقبال الضيوف، وترعرعوا أيضا في العلم. فالعلم يجعل الإنسان إنسانا، وخاصة فإنّ مبادئ الإسلام الخيرة كان لها تأثيرا عظيما بين أهالي تنبكت، وقد حمل علمائها منارة العلم، و هذه الفضائل الحميدة إلى أرجاء السودان الغربي والمغرب (شمال إفريقيا)، فلا عجب إذن أن صارت تنبكت (مقامها من السودان بمقام الوجه من الإنسان)[46]. لا شكّ أنّ أهمية هذه العبارة تنم عمّا كانت تنبكت من قيمة جليلة لدى أهالي السودان الغربي، وغيرها من المناطق الأخرى سواء في إفريقيا أو في العالم كلّه.

لقد عرفت تنبكت بتجارتها عبر العصور وأن التّجارة كانت تمثل بالدرجة الأولى المصدر الرئيسي في حياة السكان وتأتي بعدها الثروة الحيوانية التي تمثلت في الإبل والأبقار والأغنام والخيل والحمير[47]، وكانت حرفة الرعي حرفة أساسية في حياة السكان المجاورين للمدينة من كلتماشق والبرابيش والفلان فيأتون إليها يبيعون حيواناتهم هناك و يشترون ما كانوا يحتاجون إليه من سلع. وقد أدّت التّجارة دورا هامّا في ازدهار تنبكت اقتصاديا وحضاريا فتوافد عليها الناس من جميع الجهات وخاصة من الشمال الإفريقي عبر الصّحراء الكبرى، وفي بادئ الأمر كان تجار الشمال الإفريقي يتوافدون على مدينة (ولاتة) التي كانت في تلك الفترة مركزا تجاريا مرموقا قبل ظهور تنبكت حيث تقاطر عليها جلّ تجّار صنهاجة ولمتونة وجدالة ومسوفة، كما توافد عليها تجّار من غدامس وفزان و ورجلة وغرداية وطرابلس يحملون بضائعهم إلى تنبكت ويقايضونها بالذّهب والرّقيق والعاج و ريش النعام وبخور السودان والصمغ[48]. أما من المغرب الأقصى فكان تجار سجلماسة وفاس والسوس يحملون بضائعهم إلى تنبكت في مقابل أن يعودوا محملين بسلعتها السالفة الذّكر[49].

وقد وصلت تنبكت في عهد سونغاي، وفي عهد مالي إلى قمة مجدها في التطور العمراني والثقافي والاقتصادي والاجتماعي وخاصة على يد السلطان كنكو موسى الذي اهتم بها وجلب صفوة المهندسين لها، وجلب لها أيضا صفوة العلماء والفقهاء من الأماكن المختلفة للتدريس بها إضافة إلى ذلك فقد أوفد العديد من الطلاب للدراسة في جامعة القرويين بالمغرب الأقصى وإلى طرابلس وغدامس والجامع الأزهر وغيرها من المعاهد التي كانت تشع بالعلم في تلك الفترة.[50] كما أنه أحضر لها نوادر الكتب من مصر والحجاز ومن الأقطار التي مر بها أثناء حجه ومن ثم أنفق جزءا لا يستهان به من أموال مملكته على شراء الكتب وهذا يعتبر مفخرة تاريخية لهذا الملك ومفخرة أيضا لهذه الجامعات سواء في تنبكت أو في جني أو أروان أو بوجبهة وأغبوب في فرش دائرة غوندام ولاية تنبكت وغيرها من مدن مالي. وأهم مفخرة لسلاطين سونغاي ومالي وغيرهم من سلاطين مالي فإنهم جميعا خلقوا جوا علميا في ممالكهم إضافة إلى ذلك تمتع رجال العلم دون غيرهم من الطبقات باحترام خاص حيث أن السلاطين كانت لديهم مراسيم تنص على أن رجال العلم وأولادهم ومالهم في أمان تام وحماية كاملة وذلك تكريما وإجلالا للعلم.[51]

وقد قام هذا السلطان كنكو موسى برحلة للحج –ليس لها مثيل في العصور الوسطى- سنة 724هـ/1324م، من بلاده وخاصة من مدينة تنبكت ومر بمدينة القاهرة بمصر، وكان ما حمله معه من كنوز هائلة من معدن الذهب تنم عن ثراء بلاده ما يشبه بالخيال، فيروى في المصادر التاريخية أنه كان معه في القافلة ستون ألف جندي وخمسمائة رجل بيد كل منهم عصا من ذهب، في كل عصا خمسمائة مثقال من الذهب، ولتأمين حاجته من المال حمل مائة جمل بتبر الذهب على ظهر كل واحد ثلاثة قناطير من الذهب، وكان كرمه وسخاؤه بالذهب يثير الذهول والدهشة في كل مدينة يمر بها. وفي القاهرة هبط سعر الذهب نتيجة الكميات الهائلة التي وزعها وأنفقها وقد كانت زيارته في عهد الناصر محمد بن قلاوون الذي أعجب بشخصيته ومن سخائه وكرمه الذي لا يوصف وقد رحب به وأجلسه بجانبه في كرسي العرش، وقد جلب من مصر أنفس الكتب لعلمائه ولبلاده مالي. ولذلك صدق من قال: ((عقول الملوك ملوك العقول)).

فإن المصادر التاريخية تشيد بقيمة المجتمع المالي وبعظمة شأنه في الحياة الإنسانية العادلة، ومن ضمنها ما رواه الرحالة ابن بطوطة في كتابه (تحفة النظار):

((إن أفعالهم الحسنة قلة الظلم فهم أبعد الناس عنه وسلطانه لا يسامح أحدا في شيء منه، ومنها شمول الأمن في بلادهم فلا يخاف المسافر فيها ولا المقيم سارقا ولا غاصبا ومنها عدم تعرضهم لمال من يموت ببلادهم من البيض ولو كان القناطير المقنطرة وإنما يتركونه بيد ثقة حتى يأخذه مستحقه))[52]

لهذا نجد حسب المصادر التاريخية وخاصة في نصوص المخطوطات الموجودة في معهد أحمد بابا أن الجمال الباطني (الثقافي والروحي) لملوك مالي نابع من منابع العلم والمعرفة، أي لمجالستهم للعلماء والأخذ منهم، ونابع أيضا من المثل العليا ومكارم الأخلاق للمجتمع المالي الذي ترعرعوا فيه منذ صباهم ونعومة أظفارهم حيث شكلت شخصيتهم وهويتهم الوطنية المالية الأفريقية المتميزة بين ملوك العالم. وخاصة في سيرة حياتهم الإنسانية الجليلة الخالدة، ودورهم الرائد في العدالة وتبجيلهم العظيم للعلم والعلماء والأخذ من نصائحهم الحكيمة من أجل فائدة ومصلحة الرعية والوطن. وقد سجل لهم التاريخ مدى سهرهم العظيم على تنشيط دورة العلم والعلماء في بلادهم مالي.

هذا الجمال الباطني (الثقافي والروحي) لحكام مالي لحب العدل والإنصاف والعلم والعلماء انعكس أولا بالإيجابية على الرعية (المواطنين) بالخير والنفع العميم، وثانيا على العلم والعلماء أيضا بالإيجابية التي أدت ما وصلت إليه مالي من ثراء هائل ورفاهية وتقدم وازدهار في المجالين الثقافي والاقتصادي بفضل هؤلاء الحكام الذين شجعوا العلم والعلماء وفسحوا المجال أمام العلماء فتجلت أعمالهم في آفاق الدنيا مبشرة بعصر الذهب لمالي وخاصة مدينة تنبكت البهية عروسة مالي وملكة مدن السودان التي شبهتها بعض الروايات الشعبية السودانية بفتاة جميلة فاتنة ساحرة للألباب ولعقول البشر وخاصة في العصور الوسطى، وهذا ما يفسر تسابق كل من المالنكيين وسونغاي والفلان والفوتنكيين والعرب والأمازغيين من كلتماشق (الطوارق) والمغاربة والفرنسيين لحوزتها من أجل تملّك هذا الجمال السالب لقلوب الناس وخاصة الزائرين من التجار ورجال الأعمال والعلماء ورجال الدين، وتثبت المصادر التاريخية إلى ما مدى تلهف تجار البندقية في إيطاليا وغيرهم من تجار العالم لما سمعوا عن ثرائها الهائل فتلهفوا لرؤية ثروتها الغنية بالذهب وهذا يمثل جمالها الخارجي والظاهري فقط.

أما جمالها الحقيقي الذي بهر الجميع في الشرق والغرب وجعلها ذا مكانة مرموقة وشهرة عالمية هو جمالها الباطني الرائع لذالك نجد أن القناع الذي يخفي الجمال الباطني لمدينة تنبكت لم يعط له حق الدراسة والتعمق للوصول إلى أغواره الداخلية واستخراج لئآليه المبعثرة في متن الكتب التاريخية وفي عقول العلماء والفقهاء العارفين بحقيقة هذا الجمال الباطني الذي يعتبر أمازغيا صحراويا عربيا سودانيا متميزا عن غيره تميزا كبيرا لأنه قوة خفية له أبعاده ووظيفته إفريقية روحية إنسانية تاريخية حضارية لا تدرك لفهم الظواهر الخارجية لجمال مدينة تنبكت بل بسبر أعماق جمالها الباطني (الثقافي والروحي) من أجل البحث الحقيقي عن الحقائق الدقيقة لهذا الجمال الباطني في النفس الإنسانية من خلال دراسة معمقة لهذا الجمال الباطني الذي جعل مدينة تنبكت عبر التاريخ في جميع أفواه الناس وفي أقلام المؤرخين والعلماء سواء في أفريقيا أو في القارات الأخرى في العالم إعجابا بها وإعجابا بعلمائها وأهلها وإعجابا بثقافتها الإسلامية الإفريقية وحضارتها الإنسانية الخالدة.

لهذا يتمثل مظاهر هذا الجمال الباطني الرائع (الثقافي والروحي) لمدينة تنبكت في جامعة سنكري وجامعة جنكري بير وجامعة سيدي يحيى وغيرها. ويتمثل أيضا في علمائها وعلى سبيل المثال: الحاج أحمد بن عمر أقيت، والشيخ محمود بن بغيغ بن أبي بكر الونكري، والشيخ القاضي محمود بن عمر شيخ الجيل في تنبكت محرك نشاط العلم بها، والعلامة أحمد بابا التنبكتي والشيخان محمد وأحمد ابني محمد بن محمود بغيغ الونكري، والفقيهين عبد الله وعبد الرحمن ابني الفقيه محمد بن عمر، وعمر بن محمد أقيت، وأحمد بن أندغ محمد الصنهاجي، وعبد الرحمن السعدي، والقاضي محمد كعت، والشيخ سيدي المختار بن أحمد الوافي الكنتي وابنيه سيدي محمد وأحمد البكاي، وعثمان بن محمدبن إنغلالن الأنصاري، والقاضي محمد الطاهر بن هما الأنصاري، وحمدمتا بن محمد الأنصاري ومحمد بن عالي الأنصاري، وإبراهيم بن محمد علي الأصاري، ومحمدٌ بن محمد علي الأنصاري، ومحمد المختار بن حوّد الأنصاري، ومحمد أحمد بن عثمان الأنصاري، وهؤلاء العلماء وتلامذتهم المذكورين كان لهم شأن كبير في صنع الحركة العلمية بتنبكت خلال القرن العاشر الهجري التي خلقت الجمال الباطني (الثقافي والروحي) لمدينة تنبكت.

إن مؤلفات لهؤلاء علماء تنبكت الأجلاء وخاصة مؤلفات أحمد بابا التنبكتي (963هـ/1556- 1036هـ/1627م) فإنها تعتبر حقا وثائق تراثية مهمة خالدة تبين حقيقة الجمال الباطني لمدينة تنبكت، وتعكس مدى التواصل والترابط القائم بين الأقطار الأفريقية- الواقعة بين ضفتي الصحراء الكبرى- منذ مرحلة تاريخية متقدمة، وتؤكد بكل قوة رسوخ هذه العلاقات الأخوية المثالية المتميزة بين هذه الأقطار في القارة الأفريقية.

والحق يقال بأن هذه الرسائل، والنوازل، والأسئلة، والأجوبة، في هذه الوثائق ضمن هذه المخطوطات الموجودة في معهد أحمد بابا بتنبكت، وهي مصادر تعكس الجمال الباطني لمدينة تنبكت البهية في جانب الواقع الحياتي الحي النابض الذي تتداخل فيه عوامل مختلفة روحية وثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية، وتكشف عن جانب آخر لهذه المخطوطات عن الحكم الشرعي للقضايا أو النوازل التي تتصل بحياة الناس في أوضاعهم المختلفة في غرب السودان وغيرها من مناطق القارة الأفريقية.

فالإسلام - الذي اعتنقه أهالي مدينة تنبكت منذ أمد بعيد، وخاصة علماؤها أمثال أحمد بابا التنبكتي وغيره من علماء تنبكت - هو السلام والمحبة، والإخاء، والتسامح، والرحمة لجميع أبناء الإنسانية بيضا وسودا على حد سواء (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)[53].

والحق إن هذا الانتماء الثقافي لهؤلاء العلماء الأجلاء لمدينة تنبكت إلى ثقافة لغة القرآن والحضارة الإسلامية كان كافيا لكي يساهم في خلق ومد جسور التواصل الثقافي بين العناصر الإفريقية الأمازغية المسلمة في كل من غدامس وتنبكت. وإن هذه النصوص المستخرجة من التآليف والمصنفات الجغرافية والجوامع النوازلية، وكتب الأدب، والرحلات والمناقب، والتراجم، وكذلك المستخرجة من الوثائق الغدامسية ...الخ.

وعندما نتصفح هذه النصوص من عيون التراث الإسلامي الإفريقي في مخطوطات معهد أحمد بابا بتنبكت، نلاحظ فعلا أن هذه العلاقات – التجارية والثقافية- تكشفت في إطار النسق الإسلامي. فجلها تعرضت لقوافل تجارة السودان النشيطة[54] وخاصة التجارة بين غدامس وتنبكت، ولعمليات الإشعاع الفكري الذي شارك فيه علماء ضفتي الصحراء الكبرى في الشمال والجنوب.

إن هذه النصوص تسترجع علاقات التواصل بين ضفتي الصحراء الشمالية والجنوبية، وكانت حقا تتسم بالتآخي، والود، والتعاون، والتسامح، وترفع شعار صاحب (الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية): ((فالمسلمون حيث ما كانوا إخوة))[55]، أي ينتمون إلى دار الإسلام.

وهذا يدل على التواصل التجاري والثقافي بين ضفتي الشمالية والجنوبية بين مدينتي غدامس وتنبكت وخاصة عندما أصبحت تنبكت مسلمة صارت ترتبط مع أخواتها في مدن الشمال وبالخصوص مدينة غدامس بأقوى الروابط وأحكمها وساعد على ذلك انتشار لغة القرآن وحروفه في اللغات الوطنية انتشارا واسعا وكبيرا بين المثقفين من أبناء السودان الغربي، وخاصة أهالي مدينة تنبكت وغدامس، ولذلك تعددت الروابط التي تشد – سكان مدينة غدامس وسكان تنبكت- وسكان أفريقيا إلى بعضهم البعض، فإلى جانب الموقع الجغرافي هناك العقيدة واللغة مشتركة لأنها لغة القرآن وهناك التاريخ، والمصير المشترك أيضا والهدف الواحد في عدة أماكن متفرقة في القارة الإفريقية، وذلك يدل دلالة واضحة على العلاقات التجارية والثقافية والعلمية المتينة بين الشمال والجنوب في الصحراء الكبرى في القارة الأفريقية قبل الغزو الاستعماري لأفريقيا وتقسيمها وتجزئتها إلى قطع صغيرة متجزئة ومتفرقة ومتشتتة لا حياة لمن تنادي.

ففي هذه المخطوطات تتجلى حقيقة هذه العلاقات القديمة الموغلة في التاريخ المشترك بين ضفتي الصحراء الكبرى الشمالية والجنوبية للقارة الأفريقية وقيمة هذه المخطوطات تؤكد ما أعلنه جويي (Goailly) أنه بالإسلام بدأ العصر التاريخي لأفريقيا السوداء، فإنه لم يكن يقصد كما اعتقد إبراهيم علي طرخان، ارتباط ازدهار الحضارة السودانية بالإسلام فقط – ودخول الأمازيغيون في الإسلام وخاصة قبائل صنهاجة ولمتونة وجدالة ومسوفة التي شيدت دولة المرابطين (الملثمين) واتصالهم بأفريقيا السوداء جنوب الصحراء في غرب أفريقيا، حيث شيدوا هذه الحضارة الأمازيغية السودانية العربية خلال العصور الوسطى في ضفتي الصحراء الشمالية والجنوبية للقارة الأفريقية.

وفي القرن الثامن الهجري، الرابع عشر الميلادي الذي يسميه بعض الكتاب بالعصر الذّهبي لمالي[56]، فقد تحصلت مالي وخاصة مدينة تنبكت على نصيب وافر من الرّخاء الاقتصادي و العلمي، و شهدت المدينة حركة اقتصادية نشطة تمثلت في التجارة الواسعة مع الشمال الإفريقي والسودان الغربي والشرق. فقد بلغ تعداد القوافل التجارية القادمة من مملكة مالي الإسلامية عام 751 هـ / 1350م اثني عشر ألف جمل، وكانت البضائع المصدرة من البلاد شمال إفريقيا و الشرق تشكّل هي أيضا مادّة حيوية في الميزان الاقتصادي لمالي[57]. وقد ذكر ابن خلدون العلاقات التجارية بقوله: (وهابتهم أمم السودان و ارتحل إلى بلادهم التجار من بلاد المغرب و إفريقيا)[58]. و كان الحسن الوزان قد أعجب بالنهضة الاقتصادية التي شملت مدينة تنبكت حيث أكّد على كثرة خيراتها و انتشار الحوانيت فيها و خاصة الحوانيت التي تبيع المنسوجات القطنية و الأقمشة التي تأتي من أوروبا مصنعة يحملها التجار القادمون من الشمال الإفريقي إلى مدينة تنبكت[59]. وهذا دليل صريح أنّ غدامس كانت قنطرة بين البحر الأبيض المتوسط و السودان الغربي وخاصة تنبكت، وبرهان أيضا على مدى ما وصلت إليه مدينة تنبكت من نهضة في جميع المجالات وما وصول منسوجات أوروبا إلى غرب إفريقيا و خاصة تنبكت إلاّ دليل قوي على نشاط الحركة التجارية بين غدامس وتنبكت، وقد أكّد المؤرّخ عبد الرحمن السعدي الذي كشف النقاب عن انّ تنبكت كانت ملتقى للتجار أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة من كلّ قبيلة ومن كلّ المناطق[60]. وقد ساعد في ذلك توافر النّظام والأمن في ربوعها وذلك بفضل ملوكها.

يقترن تاريخ الحياة الثقافية في السودان الغربي بمدينة تنبكت التي كانت بصدق قلب الحركة الفكرية النشطة في المنطقة التي امتدّ إشعاعها إلى أرجاء واسعة عمّت (كانم) و السنغال والنيجر ونيجيريا وتشاد وذلك بفضل توافد التجار والعلماء إليها من مغاربة وغدامسييين وطرابلسيين ومصريين و أندلسيين وغيرهم من سكّان الشمال الإفريقي والأقطار الإسلامية المعاصرة، وقد وجد العلماء وأهل الفكر تشجيعا من أهل تنبكت وملوكها الذين أغدقوا بسخاء لا مثيل له الأمر الذي أدّى إلى بلورة حركة علمية وأدبية واسعة النطاق لم يعرف السودان الغربي لها مثيلا[61]، ولم تكن الصحراء الكبرى حاجزا لتدفّق مظاهر الحضارة من شمال القارة الغربي والشرق والأوسط وكانت الحضارة التي شهدتها مدينة تنبكت أصدق مثال لذلك و لا سيما ما بين القرنين السادس والتاسع الهجريين، الثاني عشر والخامس عشر الميلاديين.

إنّ المواصلات ذات الحرية المطلقة اللآحدودية من أهمّ الوسائل التي ساهمت وأثّرت في تنمية العلاقات وازدهارها وتوطّدت عن طريق القوافل والرحلات للحجاج والتبادل التّجاري والثقافي بين ضفتي الصحراء الشمالية والجنوبية، وفي هذا الشأن يقول السّعدي: إنّ أكثر الناس ورودا للتسوّق بعد ذكرأهل وغد وغيرهم وأشار إلى ذوي الأموال من كلّ قبيلة فذكر منها أهل مصر ووجله و فزان وغدامس وتوات ودرعة وسجلماسة وعلى هذا تمّ التواصل بين الجميع حتّى عمّروا مدينة تنبكت وازدهرت وخاصة بالقبائل المتنوعة من جهات شتى ولا سيما الغدامسيين الذين شاركوا في كثير من أنشطة هذه المدينة كما أشار إليه ابن بطوطة في رحلته أنه سافر مع قافلة كبيرة للغدامسيين .

وذكر السعدي أن مؤسس الاحتفال بالمولد النبوي أبو القاسم التواتي لما توفي صلى على جنازته الشيخ فياض الغدامسي ونستخلص من هذا، أن الغدامسيين كانوا عمار هذه المدينة، حيث أنه كان لهم حي راقي سمي (حي الغدامسة) بين جنكري بير[62] وساري كينا[63] بقرب القصبة المغربية وكانوا يهتمون بتجارة بضائع متنوعة، والشيخ عبد الله بن أبي بكر بن القاسم الغدامسي صاحب كتاب (منهاج السالكين في منافع القرآن الكريم) من ثمرة هذه العلاقات وهذا التواصل بين غدامس وتنبكت، وأنه ولد في تنبكت وتوفي في غدامس[64] فيعد تنبكتيا عند التنبكتيين وغدامسيا عند الغدامسيين.

وهذا برهان آخر يؤكد على وجود علاقات تجارية وثقافية بين غدامس وتنبكت وهو أن كثيرا من الأوراق المستعملة لنسخ المخطوطات التي أصلها من إيطاليا وصلت من ليبيا إلى تنبكت عن طريق التجارة المتبادلة بين غدامس وتنبكت حيث كانت غدامس قديما القنطرة بين البحر الأبيض المتوسط والسودان الغربي وخاصة مدينة تنبكت، ونرى أيضا عدة كتب نسخت للغدامسيين في تنبكت أو بيعت أو اشتريت من طرفهم[65].

وهذه نماذج من مئات من هذه الوثائق الغدامسية وغيرها الموجودة في معهد أحمد بابا بتنبكت:

- ويستخرج من بين هذه الوثائق ما هي تجارية وتحتوي على مختارات وعقود وديون وأمانات وودائع ووكالة وغيرها.

- إن هذه الوثائق في هذه المخطوطات مع كثرتها وتنوعها تعطينا فكرة فاحصة ودقيقة عن حقيقة هذه العلاقات وما فيها وما كانت عليها وما أنتج منها من النفع العميم لكل من ليبيا ومالي عن طريق هذه العلاقة بين غدامس وتنبكت عبر المخطوطات. حيث تنقل الذخائر العلمية من كتب ومخطوطات ووثائق بين المدينتين : غدامس وتنبكت. ولكن للأسف الشديد فإن جل المصادر التاريخية لم تذكرها رغم القيمة الكبرى التي كانت تحظى بها هذه الذخائر في بلاد السودان التي تمثل الكنوز التي تعتبر في الحقيقة أغلى من الذهب، ولذلك فإن هذه الرسائل والوثائق التجارية والمستمدة من هذه المخطوطات في معهد أحمد بابا بتنبكت تتصل بمجال اهتمام كل باحث في الحضارة الإسلامية وتاريخها وتراثها، وكل هذه المخطوطات تمثل النتاج الفكري للمرحلة التاريخية للتواصل الحضاري بين ضفتي الصحراء الشمالية والجنوبية، هذا التواصل الذي ينبغي أن تتجدد أواصره باستمرار وبالقوة بين ضفتي الصحراء الشمالية والجنوبية وخاصة بين غدامس وتنبكت، لأن تنبكت جزء من كيان غدامس، وجزء لا يتجزأ إطلاقا عن الضفة الشمالية للصحراء الكبرى.

ويمكن القول بحق أن هذه المخطوطات للتراث الإسلامي الإفريقي والوثائق الغدامسية المتنوعة في معهد أحمد بابا بتنبكت تعتبر من المصادر الموثوقة التي تبرهن عن حقيقة هذه العلاقة التجارية والثقافية بين غدامس وتنبكت لتشكل حلقة متكاملة مع المصادر العلمية الليبية على مدى قوة وحقيقة هذا الترابط الوثيق والتواصل المستمر التجاري والثقافي بين غدامس وتنبكت.

لهذا فإن هذه المخطوطات تعتبر أهم عنصر في إحياء وبعث هذه العلاقات التجارية والثقافية الوطيدة عبر المخطوطات في العصور الوسطى بين ليبيا والمناطق الواقعة في غرب أفريقيا. والمخطوطات تعتبر أيضا المنطلق الحقيقي والأصيل الذي يمكن الباحث للوصول إلى جذور وعمق هذه العلاقات الوثيقة الحميمة بين غدامس وتنبكت منطلقا من هذه المخطوطات والوثائق المنتشرة في فهارس المخطوطات بمعهد أحمد بابا، ومنطلقا أيضا من المخطوطات الموجودة في المراكز العلمية في الجماهيرية.

ولو أتيح لنا الوقت الكافي لجعلنا من ثمرات هذه المخطوطات خريطة علمية موسعة تعطي ملامح العطاء الحضاري الإنساني الليبي الإفريقي السوداني العربي في مجالات الحركة التجارية والعلمية بين الشمال والجنوب للقارة الأفريقية. وللأسف الشديد اليوم، بداية القرن الواحد والعشرين، لا نرى هذه العلاقات التجارية الثقافية، بالرغم أنها في العصور الوسطى كانت على أشد قوتها وعمقها وفي أوج قمتها وخاصة بين غدامس وتنبكت وبين الشمال والجنوب للقارة الإفريقية. وقد كان حقا لمنطقة غرب أفريقيا علاقات تاريخية وصلات تجارية وثقافية، منذ أمد بعيد، بشمال أفريقيا، ولا سيما بين المدينتين: غدامس وتنبكت. ولا شك أن الإسلام كان أكبر العوامل التي عملت على دعم هذه العلاقات التجارية والثقافية وما يرتبط به من عطاء إنساني حضاري واقتصادي وثقافي وتاريخي بين ضفتي الصحراء الشمالية والجنوبية.

وليبيا حقاً هي الأرض الخصبة الطيبة، منبع الرجال العظام ومنبع الكرم ومنبع البطولات التاريخية العظيمة، ومنبع الشمائل والفضائل الحميدة، فالليبيون يعتبرون من أطيب الشعوب في العالم، فهم يمتازون عن غيرهم بالكرم والإحسان والجود والفداء، والنجدة، وأيضا يمتازون بمكارم الأخلاق وبالقيم الإنسانية السامية للمثل العليا.

فالحقيقة التي لا يتنازع فيها اثنان هي: أن ليبيا عبر العهود التاريخية المختلفة قديما وحديثا تعتبر القوة الدافعة دائما لكل أعمال الخير الإنسانية وبمعنى الكلمة، وذلك في عطاء إنساني حضاري مثمر رائع وبديع في الجماهيرية وفي القارة الإفريقية، وفي العالم كله.

رابعا) الاقتراحات

أولاً: نقترح عقد ندوة ثقافية حول العلامة أحمد بابا التنبكتي ودوره في كتاب التاريخ الأفريقي في تنبكت أو في غدامس أو في إحدى مدن الساحل سواء في طرابلس أو في بامكو. واخترناه باعتباره شخصية علمية تربط بين الساحل الإفريقي والصحراء من أجل إحياء العلاقات التاريخية في المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية بين ضفتي الصحراء الشمالية والجنوبية أي بين غدامس وتنبكت، وخاصة دور العلماء الليبيين في الازدهار الثقافي والعلمي والغدامسيين منهم بوجه الخصوص.

ثانياً: نقترح توأمة بين مدينتي: غدامس وتنبكت العريقتين، حيث لا يزال كثير من الحقائق التاريخية المتعلقة بهاتين المدينتين يحتاج إلى دراسة معمقة تكشف من جديد ما كانت عليه هاتين المدينتين من مكانة تاريخية مرموقة وشهرة عالمية واسعة في المجالين الاقتصادي والثقافي عبر العصور الوسطى.

ثالثاً: يجب دعم وتقوية المراكز الثقافية الإسلامية واللغة العربية بمناطق جنوب الصحراء، لأن الإسلام وثقافته (لغة القرآن) يمثلان العامل الأهم من عوامل الاتصال بين هذه الشعوب قديما وحديثا.

رابعاً: يجب البعث من جديد الشخصية التاريخية لهذه المنطقة في أفريقيا، تلك الشخصية التي ضعفت وأصابها الشلل الفكري على أثر فترات الانحطاط الشامل والذي عرفه العالم الإسلامي وتوج بفترة الاستعمار لهذه المنطقة في أفريقيا الواقعة شمال وجنوب الصحراء الكبرى وخاصة منطقة الساحل.

خامساً : العناية بتاريخ المنطقة وإدخاله إلى مناهج التعليم فبها يمكن استعادة هذا التاريخ المجيد، لأن التاريخ يعتبر روح الشعوب ومحركها نحو بناء الحاضر والمستقبل، فإنه لا يمكن فهم روح إفريقيا إلا من كان تتمثل تاريخها العريق في فكره ودمه وروحه.

سادساً: العناية بالتراث الإسلامي المخطوط في مركز أحمد بابا بتنبكت وحمايته من الفكر الفرانكفوني الخبيث الذي يحاول أن يجعل أبناء أفريقيا تابعين وخاضعين وخانعين له من أجل تلميع ذيله، وهذا المعهد يحوي الكثير من عناصر تاريخ المنطقة وتواصلها القديم في الميادين التجارية والثقافية والسياسية والاجتماعية والدينية، وذلك للعمل على تصحيحه والتعليق عليه وتحقيقه ونشره ليطلع عليه أبناء أفريقيا خاصة ثم أبناء الإنسانية عامة حتى تزيل في أذهان أبناء القارة مركب النقص أمام أوربا وأمام الآخرين حتى يثقوا في أنفسهم وفي معطياتهم وحقائقهم التاريخية التي تتمثل في العبقرية الوطنية الأفريقية الوقادة (الحكمة الأفريقية الخلاقة).

خامسا) الخلاصة:

ومن هنا يجب أن يعلم أبناء أفريقيا جميعا، بأنه لن تسعد أفريقيا إلا بتقوية الروابط بين شعوبها، وبين مدنها، وبين أقطارها، من أجل بناء دعائم قوية للاتحاد الأفريقي ليتماسك بنيانه، وهذا هو العمل الوحيد الذي سيساعد في تحقيق نهضة أفريقيا في القرن الواحد والعشرين إن شاء الله.

وبعد كل هذا، فإنه إذا كانت جهودي لم تتمكن إلا على ما احتوته هذه الصفحات المتواضعة فألتمس منكم أيها الحاضرون النبلاء الكرماء، أن تسامحوني وتعذروني على كل هفوة لفظية أو معنوية، لأن بسبب الجهل نخطئ ومن أخطائنا نتعلم، ولكن إذا كنا سننتظر لكي لا نقدم إلا عملا متقنا رائعا كاملا من جميع الوجوه كلها، فقد لا نقدم أي عمل على الإطلاق، لأن الكمال لله وحده، وفوق كل ذي علم عليم. ولولا الظلام ما خرجت الشمس.

قال الله عز وجل: )إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا([66] صدق الله العظيم

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

المراجع

1- أعمال ندوة التواصل الثقافي والاجتماعي بين الأقطار الإفريقية على جانبي الصحراء، تنظيم كلية الآداب تطوان ـ المغرب، و كلية الدعوة الإسلامية طرابلس الجماهيرية. مراجعة و تقديم: د. عبد الحميد عبد الله الهرامة.

2- الأستاذ محمّد عبد الرحمان سوالمية، تمبكتو جوهرة تغمرها الرّمال، الطبعة الأول 1986، ط: لبنان.

3- السعدي، عبد الرحمان بن عبد الرحمان بن عبد الله بن عمران بن عامر، تاريخ السودان، المحقق: هوداس و بنوا، باريس 1960.

4- الأرواني، مولاي أحمد بابير، السعادة الأبدية، مخطوط رقم 2742، بمعهد أحمد بابا بتنبكت.

5- أبو لعراف أحمد، أهمية التاريخ، مخطوط رقم 1327، بمعهد أحمد بابا.

6- ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمّد (1332 هـ / 1406م)، العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، منشورات دار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر، (م 7)، بيروت، 1968.

7- حسن أحمد محمود، دور العرب في نشر الحضارة في غرب إفريقيا، مجلة كلية الآداب، القاهرة.

8- غيرهارد رولفس، عبر إفريقيا، ترجمة وتقديم وتعليق: د. عماد الدين غانم، منشورات مركز البحوث والدراسات الإفريقية، سبها ـ الجماهيرية.

9- ابن بطوطة، أبو عبد الله بن محمّد بن عبد الله بن إبراهيم اللواقي الطونجي (779 هـ / 1377م)، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، الرباط (1417هـ / 1997م).

10- إبراهيم شرفي، تاريخ الحضارات القديمة، المعهد التربوي الوطني، الجزائر.

11- كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، الشيخ أبو العباس أحمد بن خالد الناصري، الجزء الأول، تحقيق و تعليق الأستاذ جعفر الناصري، والأستاذ محمّد الناصري. دار الكتاب، دار البيضاء، 1954.

12- د. إبراهيم علي طرخان، دولة مالي الإسلامية، دار الهيئة المصرية للكتاب، (القاهرة 1973م).

13- نعيم قداح، إفريقيا الغربية في ظلّ الإسلام، (كوناكري 1960م).

14- حسن بن محمّد الوزان الملقب ليون الإفريقي، (ولد حوالي 1543م)، تاريخ وصف إفريقيا وأشهر ما فيها من عجائب.

دار المغرب الإسلامي، بيروت، الشركة المغربية للناشرين المتحدين (الرباط 1983م).


[1] - حسن الصادق، أعمال ندوة التواصل، ص 262

[2] - الحجرات/ 13

[3] - الطيب الوزاني، أعمال ندوة التواصل، ص 480

[4] - المصدر السابق ص 480

[5] - المصدر السابق ص 481

[6] - الاستقصاء ص 61

[7] - المصدر السابق، ص 62

[8] - مصطفى حنفي، ندوة أعمال التواصل، ص 34.

[9] - د/ عبد الرحمن عمر الماحي، ندوة أعمال التواصل، ص 63.

[10] - د/ محمد أمين المؤدب، أعمال ندوة التواصل، ص 588.

[11] - أصنامن بلغة الطوارق ( تماشق ) معناه الأصنام.

[12] - تدعى بلغة تماشيق ـ تظيد ـ وليس تازيت كما ورد في كتاب عبر إفريقيا لرولفس. ومعنى تظيد بالعربية حلوة المذاق أو لذيذة.

[13] - رولفس، عبر إفريقيا، ص/ 100.

[14] - الصحيح الحوسا.

[15] - وسنغاي اللغة الوطنية الأولى التي يتكلم بها سكان تنبكت ثمّ تليها لغة تماشق ثمّ العربية.

[16] - عبر إفريقيا ص/ 101.

[17] - حروف لغة تماشق تسمى تيفيناغ.

[18] - رولفس عبر الصحراء ص 102.

[19] - المصدر السابق، ص 103

[20] - عبر الصحراء، ص: 103 - 104

[21] - المصدر السابق، 104.

[22] - نفس المصدر، 104

[23] - نفس المصدر السابق، ص: 104

[24] - المصدر السابق، ص105

[25] - الصحيح لدى الطوارق وليس لدى الزعماء

[26] - عبر أفريقيا، ص: 113

[27] - الصحيح تاريخيا تنبكت

[28] - عبر أفريقيا، ص: 106

[29] - عمار جحيدر، أعمال ندوة التواصل، ص: 241.

[30] - المصدر السابق، ص: 242.

[31] - نفس المصدر، ص: 248

[32] - المصدر السابق، ص: 248

[33] - المصدر السابق، ص: 248

[34] - المصدر السابق، ص: 240.

[35] - نفس المصدر، ص: 240

[36] - المصدر السابق، ص: 240

[37] - المصدر السابق،ص: 240

[38] - المصدر السابق ، ص: 240

[39] - المصدر السابق، ص: 240

[40] - رولفس، عبر أفريقيا، ص: 111

[41] - السعدي، تاريخ السودان، ص: 9

[42] - كلتماشق: تتركب من كلمتين . كل: معناها أهل أو أصحاب. وتماشق: لغة الطوارق (الملثمين).

إذن كلتماشق: معناها أهل لغة تماشق أو أصحابها، أو الناطقون بلغة تماشق. وتكتب بالحروف تيفيناغ.

[43] - أحمد بابير الأرواني، ورقة 8.

[44] - السعدي، تاريخ السودان، ص/ 21.

[45] - أحمد بولعراف، ورقة 21.

[46] - أحمد بابير الأرواني، ورقة 9.

[47] - أحمد بولعراف، ورقة 20.

[48] - أحمد بولعراف، ورقة 20.

[49] - السعدي، ص/ 21.

[50] - حسن أحمد محمود، مجلة كلية الآداب، ص: 89

[51] - السعدي، ص: 152

[52] - ابن بطوطة، تحفة النظار، ص: 421

[53] - الحجرات/13.

[54] - د. عبد العزيز التمسماني، ندوة أعمال التواصل، ص: 424

[55] - المصدر السابق، ص: 424

[56] - إبراهيم علي طرخان، دولة مالي الإسلامية، ص/ 20.

[57] - نعيم قداح، إفريقيا الغربية في ظلال الإسلام، ص/ 55.

[58] - ابن خلدون، ج/ 6، ص/ 200.

[59] - الحسن الوزان، ج/2، ص/ 165 – 166.

[60] - السعدي، ص/ 21.

[61] - حسن أحمد محمود، دور العرب في نشر الحضارة في غرب إفريقيا، مجلة كلية الآداب، ص/ 57.

[62] - جنكري بير: الجامع الكبير

[63] - ساري كينا: المقبرة الصغيرة أي بمعنى مقبرة للأطفال

[64] - أعمال ندوة التواصل، ص: 250

[65] - المصدر السابق، ص: 250

[66] - الكهف/ 30
-----------------------------------------------