منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - *«•¨*•.¸¸.»منتدى طلبة اللغة العربية و آدابها «•¨*•.¸¸.»*
عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-02-11, 16:57   رقم المشاركة : 29
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

تحليل كامل للمعلقات



السبْع المعلّقات [مقاربةسيمائيّة/ أنتروبولوجيّة لنصوصها] - د.عبد الملك مرتاض منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998
دراســـــــة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998
ما قبل الدخول في القراءة:

-1-
كيف يمكن لأسراب متناثرة من السِّمات اللّفظيّة- حين تجتمع، وتتعانق، وتتوامق، وتتعانق، وتتجاور، وتتحاور، وتتضافر؛ فتتناسخ ولا تتناشز- فتغتدِي نسْجاً من الكلام سحريّاً، ونظاماً من القول عطريّا؛ فأما العقولُ فتبهرُها، وأمّا القلوب فتسحرها. فأنَّى ينثال ذلك القَطْرُ المعطَّرُ، ويتأتّى ذلك السحر المَضمّخ: لهذا النسْج الكلاميّ العجيب؟ وكيف تقع تلك العناية البلاغيّة والتعبيريّة للشاعر، فيتفوّق ويَسْتَميزُ؟ ولِمَ يتفاوت الشعراء فيْ ذلك الفضل: فإذا هذا يغترف من بحر، وذاك ينحت من صخر، على حدّ تعبير المقولة النقديّة التراثية. ولِمَ، إذن، يتفاوتون في درجات الشعريّة بين محلّق في العلاء، ومُعْدٍ في سبيلٍ كَأْداء، وَسَارٍ في ليلةٍ دَأْدَاء؟
-2-
ذلك؛ ويندرج أي‌ُّ ضرْب من القراءة الأدبيّة، ضمن إجراءات التأويليّة- أو الهرومينوطيقا- الشديدة التسلّط على أيّ قراءة نقرأ بها نصّاً أدبيّاً، أو دينيّاً، أو فلسفيّاً، أو قانونيّاً، أو سياسيّاً... لكنّ الذي يعنينا، هنا والآن، هو النصّ الأدبيّ الخالص الأدبيّة. والأدبيُّ، هنا، في تمثّلنا ممتدّ إلى الشعريّ، شامل له، معادل لمعناه.
وإنّا إِذْ نأتي اليوم إلى الشعر الجاهليّ بعامّة، وإلى القصائدِ المعلّقاتِ، أو المعلّقاتِ السبعِ، أو السَّبْعِ الطوال، أو السُّموط- فكلُّ يقال- لِنحاولَ قراءتها في أَضواءٍ من المعطيات جديدة، على الأقلّ ما نعتقده نحن: فإنما لكي نُبْرِزَ، من حيث نبتغي أن لا نبتغي، دور هذه التأويليّة المتسلّطة في تمزيق حجاب السريّة التي كان قُصارَاهَا حَجْبَ الحُمولةِ الأدبيّة للنص المقرءِ، أن المحلِّلِ، أو المؤَوَّلِ، أو مواراة الملامح الجماليّة للكتابة...
وسواء علينا أقرأنا نصوص المعلّقات السبع ضمن الإِجراء الأنتروبولوجي، أم ضمن الإِجراء السيمائِياني؛ فإننا في الطوريْن الاثنين معاً نَدْرُجُ في مُضْطَرَبِ التأويليّة ولا نستطيع المروق من حيزها الممتدّ، وفضائها المفتوح، وإجراءاتها المتمكّنة ممّا تودّ أن تتّخذ سبيلَها إِليه...
وإنّا لن ننظر إلى الشعر الجاهليّ نظرة مَنْ يرفضون أن يكون له سياق، أو أن ينهض على مرجعيّة، أو تكون له صلة بالمجتمع الذي ينتمي إِليه: من حيث هو بيئة شاملةُ المظاهر، متراكبة العلاقات؛ لأننا لو إِلى ذلك أردْنا، وإياهُ قَصَدْنا؛ لَمَا عُجْنا على مفهوم الأنتربولوجيا نسائله عن دلالاتها التّي تعدّدت بين الأمريكيّين والأوربيّين من وِجْهة، وتَطوّرت بين قرنين اثنيْن: القرن التاسع عشر والقرن العشرين من وجهة أخراة: كما كان شعراء ما قبل الإسلام يسائلون الربوع الدارسة، والأطلال البالية، والقِيعان التي هجرَها قطينُها، فعَزَّ أَنيسُها...
لكنّنا لسنا أيضاً اجتماعِيّيَن نتعصّب للمجتمع فنزعم أنه هو كلّ شيء، وأنّ ما عداه ممّا يبدو فيه من آثار المعرفة، ومظاهر الفنّ، ووجوه الجمال، وأَسقاط الأدب؛ لا يعدو كلّ أولئك أن يكون مجرّد انعكاس له، وانتساخ منه، وانبثاق عنه... ذلك بأنّ الفنّ قد يستعصم، والجمالَ قد يستعصي، والأدب قد يعتاص على الأَفهام فلا يعترف بقوانين المجتمع، ولا بتقاليده، فيثور عليها، وينسلخ منها رافضاً إِيّاها؛ مستشرفاً عالَماً جديداً جميلاً، وحالماً ناضراً، لا يخضع للقيود، ولا يذعن للنواميس البالية...
إِنّا لو شئنا أن نُدَارِسَ الأدب في ضوء المنهج الاجتماعيّ لكنّا استرحنا من كلّ عناء، ولما كنّا جشّمنا النفس ضنى القراءة في المعرفيّات الإنسانيّة، ولكنّا أخلدنا إلى هذه القراءة البسيطة التي تجتزىْ، مقتنعة واثقة من أمرها، بتأويل الظاهرة الأدبيّة، أو قل بتفسيرها على الأصحّ، في ضوء الظاهرة الاجتماعيّة، وتستريح؛ ولكنها لا تريح. بل إِنّ مفهوم التأويل الذي نصطنع هنا قد يكون في غير موضعه من الدلالة الاصطلاحية؛ إِذ عادة ما يكون هذا التأويل أدعى إِلى الجهد الفكري، والذهاب في مجاهله إِلى أقصى الآفاق الممكنة من حيث إِنّ المنهج الاجتماعيّ، في قراءة الأدب، لا يكاد يُعْنِتُ نفسّه، ولا يكاد يشقّ عليها، أو يجاهدها: إِذ حَكَمَ، سلَفاً، باجتماعيّة هذا النصّ، أي بابتذالِه؛ أي بتمريغه في السوقّيّة؛ أي بعزوه إِلى تأثير الدهماء. بل لا يجتزىْ بذلك حتى يجعَلَه نتاجاً من أثارها، ومظهراً من مظاهر تفكيرها، وطوراً من أطوار حياتها، بدون استحياء...
المنهج الاجتماعيّ بفجاجته، وسطحيّته، وسوقيّته، وفزَعِه إِلى شؤون العامّة يستنطقها: لا يُجْدِي فتيلاً في تحليل الظاهرة الأدبيّة الراقية، ولا في استنطاق نصوصها العالية، ولا في الكشف عمّا في طيّاتها من جمال، ولا في تقصّي ما فيها من عبقريّ الخيال... فأَوْلَى لعلم الاجتماع أن يظلّ مرتبطاً بما حدّده بنفسه لنفسه، وبما حَكَم به على وضعه، وهو النظر في شؤون العوامّ وعلاقاتهم: بعضهم ببعض، أو تصارع بعضهم مع بعض، أو تصارعهم مع مَنْ أعلى منهم، حسَداً لهم، وطمَعَاً في أرزاقهم؛ كما قرر ذلك ماركسهم فأقام الحياة كلَّها على صراع البنية السفلى مع العليا...
وعلى الرغم من أننا لا نعدم من يحاول ربط علم الاجتماع بالأنتروبولوجيا، أوجعل الأنتروبولوجيا مجرد فرعيّة اجتماعيّة، وأنّ قد يسمّى "الأنتروبولوجيا الاجتماعيّة" إِنما انبثق عن دراسة المجتمعات الموصوفة بـ "البدائيّة" (1): فإِنّ ذلك لا يعدو كَونَهُ حذلقةً جامعيّة تكاد لا تعني كبيرَ شيءٍ؛ وإِلاّ فما بالُ هذا العِلْمِ يتمرّد على علم الاجتماع، فيختلف عنه في منهجه، ويمرق عنه في تحديد حقوله؛ ممّا أربك علم الاجتماع نفسّه، فجعله يكاد لا يُعْنَى بشيء إِلاّ‍ ألفى نفسه خارج الحدود الحقيقيّة التي كان اتخذها، أصلاً، لطبيعة وضعه؛ وذلك كشأن البحوث المنصرفة إلى الدين، وإلى الأسطورة، وإلى السحر، وإلى السياسة، وإلى علاقات القربى بين الناس، وإلى كل، مظاهر العادات والتقاليد والمعتقدات والبيئات الأولى لنشوء الإنسان...
لقد استأثرت الانتروبولوجيا- أو علم معرفة الإنسان- بمعظم مجالات الحياة الأولى للإنسان، فإذا هي كأنها: "علم الحيوان للنوع البشريّ" (2)؛ إذ تشمل، من بين ما تشمله: علم التشريح البشريّ، وما قبل التاريخ، وعلم الآثار، وعلم وصف الشعوب، وعلم معرفة الشعوب، وعلم الاجتماع نفسه، والفولكور، والأساطير، واللسانيّات (3). فما ذا بقي لعلم الاجتماع أمام كلّ هذا؟
أم أنّ علم الاجتماع يستطيع أن يزعم أنه قادر على منافسة الأنتروبولوجيا في صميم مجالات اختصاصها؟ أنّا لا نعتقد ذلك. ولكن ما نعتقده أنّ الأنتروبولوجيا ليست علماً واحداً بمقدار ما هي شبكة معقّدة من علوم مختلفة ذات موضوع واحد مشترك هو الإنسان وتطوره التاريخيّ، وتطوره فيما قبل التاريخ أيضاً (4).
وإذن، فليس علم الاجتماع إِلاّ مجرّد نقطة من هذا المحيط، هذا العُباب الذي لا ساحل له؛ وليس إذن، إِلاّ مجرّد جملة من الظواهر التي تظهر في مجتمع ما، لتختفي، ربما، من بعد ذلك، أو لتستمر، ربما، إلى حين: كظاهرة الطلاق، أو ظاهرة المخدّرات، أو ظاهرة الجريمة، في مدينة من المدن، أو في بلد من البلدان.... على حين أنّ الأنتروبولوجيا هي العمق بعينه، وهي الأصل بنفسه؛ فهي تمثّل الجذور الأولى للإنسان، وفيزيقيّته وطبيعته، وعلاقته مع الطبيعة، وعلاقته بالآخرين، وعلاقته بما وراء الطبيعة المعتقدات- الدين- الأساطير)، وعلاقته بالأنظمة والقوانين (الأنظمة السياسيّة)، وعلاقته بالأقارب أو ارتباطه بالأسرة، وعلاقته بالعشيرة أو القبيلة، وعلاقته بالمحيط بكلّ أبعاده الطقسية، والاقتصاديّة، والثقافيّة (وتشمل الثقافة في نفسها: جملة من المظاهرة مثل الأسطورة، والسحر، وكيفيّات التعبّد، وهلّم جرّا.....).
فبينما عِلْمُ الاجتماع يتخذ، من بين ما يتّخذ، من الإحصاءات والاستبيانات إِجراءُ له في تحليل الظاهرة الاجتماعية وتفسيرها؛ نُلْغي العالِم الأنتروبولوجيّ "الغارق" في المجتمع الذي يدرسه،
يُعْنَى بصميم المعيش في هذا المجتمع. وأيّاً كان الشأن، فإنّ كُلاً منهما اغتدى الآن يستعير من منهج الآخر، دون أن يلفي في ذلك غضاضةً (5).
بيد أنّ الأنتروبولوجيا أوسعُ مجالاً، و أشدّ تسلّطاً على المجتمعات. ونحن نرى أنّ علم الاجتماع يتسلّط على الظاهرة من حيثُ كَوْنُها تَحْدُثُ وتتكرّر، وتشيع في مجتمع ما؛ أي كأنه يتسلّط على وصف ما هو كائن؛ على حين أنّ الأَناسِيَّةَ تتسلّط على المجتمعات التقليديّة، أو البدائيّة من حيث هي: فتصفها، ثم تحلّلها. فكأنّ علم الاجتماع يتسلّط على ظواهر اجتماعيّة منفردة ليصفها ويحلّلها، بينما الأَناسِيَّةُ تتسلّط على المجتمع البدائيّ في كلّيّاته فتجتهد في وصفها أوّلاً، ثم تحليلها آخراً.
وإذن، فلأْمرٍ ما أطلق العلماء على هذه المعرفيّة اصطلاح "علم الأناسة"، أو "علم الإنسان"، أو "الأناسيّة (كما نريد نحن أن نصطلح على ذلك): فكأنها العلم الذي بواسطته، وقبل علم النفس ذاته، يستطيع معرفة الإنسان في أصوله العرقيّة، وتاريخه الحضاريّ، وعلاقته بالعالم الخارجي.. بل الإيغال في معرفة معتقداته، وعاداته، وتقاليده، وأعرافه، وكلّ علاقاته بالطبيعة والكون...
-4-
ذلك، وأنّا ألفينا الناس دَرَسوا الشعر العربيّ القديم، وينصرف، لدينا، معنى القِدَمِ، وَهُنَا، إِلى عهدِ ما قبل الإسلام تحديداً: من جملة من المستويات، وتحت جملةٍ من الأشكال، وتحت طائفة من الزوايا، وعبر مختلف الرُّؤى والمواقف، وبمختلف الإجراءات والمناهج: انطلاقاً من أبي زيد القرشي، ومحمد بن سلاّم، ومروراً بالقرطاجنّي إِلى كمال أبي ديب، ومصطفى ناصف... ونحن نعتقد أنّ الذي لا يخوض في الظاهرة الشعريّة، العربيّة القديمة، من النقاد لا تكتمل أدواتُه، ولا تَنْفُقُ بضاعتُه من العلم، ولا يقوم له وجه من المعرفة الرصينة، ولا يذيع له صيت في نوادي الأدب؛ ولا يستطيع، مع كلّ ذلك، أو أثناء كلّ ذلك، أن يزعم للناس من قرائه أنه قادر على فهم الظاهرة الأدبيّة في أيّ عهد من العهود اللاّحقة، ما لَمْ يَعُجْ على هذه الأشعار يستنطقها استنطاقاً، ويقصّ آثارها، ويتسقّط أخبارها: فيعاشر أُولئِكَ الشعراءَ، ويقْعُدُ القُرْفُصَاءَ لِرُواتِهم، ويتلطّف مع أشباح أَرِئْيّائِهِمْ؛ ثمّ على الديار البالية، ويقترِئُ الأطلالَ الخالية؛ يتتبّع بَعَرَ الأَرْأمِ في العَرَصات، ويقف لدى الدِمَنِ المقفرات: يباكي الشعراء المدلّهين، ويتعذّب مع العشاق المدنّفين..
ما لَمْ يأتِ الناقدُ العربيُّ المعاصر شيئاً من ذلك.... ما لم ينهض بهذه التجربة الممتعة الممرعة... ما لم يجتهدْ في أَن ينطلق من الجذور الأدبيّة... ما لم يُصْرِرْ على الاندفاع من أرومة الأدب، وينابيع الشعر العذريّة... ما لمْ يُقْدِمْ، إذن، على البّدءِ مما يجب البدء منه: يظلّ، أخرى اللّيالي، مفتقراً، في ثقافته النقديّة، وفي ممارسته الدرسية، وفي تمثّله الجماليّ أيضاً، إلى شيء ما.... هو هذا المفقود مما كان يجب أن يكون، في مسيرته الأدبيّة، موجوداً موفوراً...
ولعلّ بعض ذلك التمثّل الذي نتمثّل به هذا الأمر، هو الذي حَملَنا على الإقبال على هذا الشعر الجميل الأصيل، والعُذْريّ الأثيل، نغترف من منابعه، ونرتشف من مدافعه؛ بعد أن كنّا في أول كتاب لنا، أصْلاً، عُجْنا على بعض شعر امرئ القيس نقرؤه ونحلّله، بما كنّا نعتقد، يومئذ، أنّه قراءة وتحليل... ولكن لاَ سواءٌ ما كنّا جِئناهُ منذ زهاء ثلاثين سنة، وما نزمع على مجيئه اليوم...
إنّ الاستهواءَ لا يكفي. فقد يَهْوى أحدُنا موضوعاً فيقبل عليه، بحبّ شديد، يعالجه.. ولكنه، مع ذلك، قد لا يبلغ منه ما كان يريد... وإذن، فهوايَتُنا هذا الشعرَ القديمَ ليست شفيعة لنا؛ ما لم نجدّد في سعينا، ونبتكر في قراءتنا، بعد أن كان تعاوَرَ على هذا الشعر الكبير مئات من النقاد والمؤرخين والدارسين، قديماً وحديثاً.... ولو جئنا نحصي من المحدثين، منذ عهد طه حسين فقط، من تناولوا هذا الشعر لألفينا عدَدَهم جمّاً، وسَوادَهم كُثْراً.... فما الذي غرَّنا بالخوض فيما خاضوا فيه، مع تغازُر العدد، وتوافر المدد، واعتياص الصّدد؟ فلعلّ الذي حَمَلنا على التجرّؤ، ودَفَعنا إلى التحفّز، مع ما نعلم من عدد السابقين لنا، هو الحريّة التي جعلها الله لنا حقاً؛ وهو، أيضاً، حبّ إبداء الرأي الذي جعله الله لنا باباً مفتوحاً، وسبباً ميسوراً، إلى يوم القيامة. وهو، بعد ذلك، ما نطمع فيه من القدرة على المسابقة والمنافسة، وما نشرئبّ إلى إضافته إلى قراءات الذين سبقونا. ولَوْلا أعْتِقادُنا بشيء من هذا التفرّد الشخصيّ في هذه القراءة التي ندّعي لها صفة الجدّة في كثير من مظاهرها ومساعيها؛ لما أعْنَتْنَا النفْسَ، وجاهدنا الوُكْد، في هذه الصحائف التي نَزْدَفُّها إلى قرائنا في المشرق وفي المغرب، وكلّنا طمع في أنها ستقدّم إليهم شيئاً مما لم تستطع القراءات السابقة تقديمَه إليهم، إن شاء الله....
ولمّا كان حرصُنا شديداً على ذلك، ورجاؤُنا شديداً في تحقيق ذلك- وبعد تدبّر وتفكّر- بدا لنا أن نجيء إلى بعض هذا الشعر العربي القديم، ممثّلاً في معلّقاته السبع العجيبات البديعات، فنقرأه قراءةً تركيبيّة الإجراء بحيث قد تنطلق من الإجراء الأنتروبولوجيّ، وتنتهي لدى الإجراء السيمائياتّي؛ إذا ما انصرف السعْيُ إلى النصّ. وتنطلق من الإجراء الشكّيّ العقلانّي، وتنتهي لدى استنتاج قائم على المساءلة أكثر مما هو قائم على الحكم والجواب.
وقد اغتدى، الآن، واضحاً أننا نحاول، في هذه التجربة، المزاوَجَة بين الأنتروبولوجيا والسيمائيّة لدى التعرض للنص، والمزاوجة بين المعلومات التاريخيّة وافتراض الفروض، لدى غياب النصّ، وحين التعرّض للحياة العامّة لدى العرب قبل الإسلام. وليست هذه المزاوجة بين الأنتروبولوجية، وما اصطلح عليه أنا بـ "السِيمائيّةِ"، أمراً مُستَهجَناً في مَسارِ علم المنهجة. فقد كنّا ألفينا بعض الدارسين الغربيين، ومنهم كلود ليفي سطروس، كان يزاوج بين الأنتروبولوجيا والبنوية؛ وكما كان يزاوج لوى قولدمان أيضاً بين البِنويّة والاجتماعية....
ونحن لم نجئ ذلك لمجرد الرغبة العارمة في هذه المزاوجة التي قد يراها بعضهم أنها تمّت، أو تتّم، على كُرْهٍ، وربما على غير طهْر!... ولكنّنا جئناه، اعتقاداً منّا أنّ الانطلاق في تأويل الظاهرة الشعريّة القديمة من الموقف الأنتروبولوجيّ هو تأصيل لمنابت هذا الشعر، وهو قدرة على الكشف عن منابعه... وعلى الرغم من أنّ كتابات ظهرت، في العِقديْن الأخيرين من هذا القرن، حول بعض هذا الموضوع، وذلك كالحديث عن الأسطورة في الشعر الجاهليّ مثلاً؛ فإنّ التركيب بين الأنتروبولوجيا والسيمائيّة، في حدود ما بلغناه من العلم على الأقلّ، لم ينهض به أحد من قبلنا.
ونحن إنما نُرْدفُ الأنتروبولوجيا السيمائيّة لاعتقادنا أنّ الأولى كَشَفٌ عن المنابت، وبحث في الجذور؛ وأنّ الأخراةَ تأويلٌ لمِرامِزِ تلك الجذور، وتحليل لمكامن من الجمال الفنّيّ، والدلالات الخفيّة، فيها. فلو اجتزأنا بالقراءة الأنتروبولوجيّة (والمفروض أنّ النسبة الصحيحة لهذا الاصطلاح تكون: "الأنتروبولوجويّة"، ولكننا ننبّه إليها، راهناً، دون استعمالها، حتى تألف اللغة العربيّة، العُلَمائيّة، هذا التمطّط الذي يُطيل منها...) وحدها لوقعنا في الفجاجة والنضوب. كما أننا لو اقتصرنا على القراءة السيمائياتيّة (ونحن نريد بهذه النسبة إلى قُصْرِ الإجراءات والممارسات التحليليّة على التطبيقات السيماءويّة...) وحدها، لما أَمنّا أن يُفْضِيَ ذلك إلى مجرّد تأويل للسطوح، وتفسير للأشكال، ووصف للظواهر، دون التولّج في أعماق الموالج، والتدرّج إلى أواخّي المنابت.
5-
وإنما فزِعْنا إلى هذه المقاربة الأنتروبولوجيّة- والمُرْدَفة أطواراً بالسيمائيّة- لأنّ النصوص الشعريّة التي نقرؤها قديمة؛ وأنها بحكم قدمها -أو جاهليّتها- تتعامل مع المعتقدات، والأساطير، والزجر، والكهانة، والقيافة، والحيوانات، والوشم، والمحلاّ‍ت (6)، وكلّ ما له صلة بالحياة البدائيّة، والعادات والتقاليد التي كانت تحلّ محل القوانين لدينا، لديهم... ونحن نعجب كيف لم يفكّر أحد من قبل في قراءة هذا الشعر، أو قراءة طرف من هذا الشعر على الأقلّ، بمقاربة أنتروبولوجيّة تحلّل ما فيه من بعض ما ذكرنا، أو من بعض ما لم نأت عليه ذكراً.. ذلك بأنّ أيّ قراءةٍ لهذه النصوص الأزليّة، أو المفترضة كذلك (عمرها الآن ستّة عشر قرناً على الأقلّ...)، لا تتخّذ لها هذه المقاربة ممارسة: قد لا نستطيع أن تبلغ من هذه النصوص الشعرية بعض ما تريد.
وعلى أنّنا لا نودّ أن يَتَطالَل مُتَطالِلٌ فيزعَمُ، لنا أو للناس، أنّنا إنما نريد من خلال هذه القراءة، تحت زاوية المقاربة الأنتروبولوجيّة، وتحت زاوية المقاربة السيمائياتيّة أيضاً: أنْ نَسْتَبين مقاصد الشعراء.. فذاك أمر لم نرم إليه؛ وذاك ما لم يعد أحد من حذاق منظّري النصوص الأدبيّة ومحلّليها يعيره شيئاً كثيراً من العناية؛ ولكننا إنما نريد من خلال تبيان مقاصد تلك النصوص ذاتها، وكما هي، وكما رُوِيَتْ لنا؛ أو رُويَ بعضها ونُسِجَ بعضها الآخر على روح الرواية الأصليّة وشكلها؛ أي كما وصلتنا مدّونة في الأسفار...
ومن الواضح أن من حق القارئ- المحلِّل- أن يؤوّل النصّ المقروء على مقصديّة الناصّ، ولكن دون أن يدّعيّ أن تأويله يندرج ضمن حكم الصّحة؛ إذ لا يستطيع أن يبلغ تلك المرتبة من العلم إلا إذا لابس الناصّ، وألَمَّ إلماماً حقيقياً بأحداث التاريخ التي تلابس النص والناصّ معاً، وعايش لحظة إبداع النص، وتواجَدَ في مكانه، وساءل الناصّ شخصيّاً عمّا كان يقصد إليه من وراء نسج نصّه المطروح للقراءة... ولِمَ قال ذلك؟ ولِمَ وَصَفَ هذا؟ ولِمَ، لَمْ يَصِفْ هذا؟ ولم كثّف هنا، ولم يُسَطّحْ؟ ولِمَ أومأ ولمْ يصرّح؟ أو، لِمَ صرّح ولم يُلَمّح؟ وهذا أمر مستحيل التحقيق.. إنّ تأويل النص قراءة للتاريخ، ولابحثاً عن الحقيقة، ولا التماساً للواقع، كما تدّعي المدرسة الواقعيّة التي تزعم للناس، باطلاً، أنّ الأدب يصف المجتمع كما هو؛ وأنها هي تستطيع أن تفسّره كما قَصَدَ إليه صاحُبه...، ولا طلباً للمَعيشِ بالفعل... ولكنه إنشاء لعالم جديد يُنْسَجُ انطلاقاً من عالم النصّ من حيث هو نصّ؛ لا من حيث مَقْصِدِيّةُ الناصّ من حَيْثُ هو ناصٌّ.
ولا سواءٌ تأويلٌ يكون منطلقُه من مَقْصِديَّة النصّ فيقرؤُه بحكم ما يرى مما توحي به القراءة؛ وتأويلٌ يكون منطلقه من مقصديّة الناصّ فيقرؤه على أساس أنّه يتناول حقيقة من الحقائق (ولا نريد أن ينصرف الوهم إلى معنى "الحقيقة" في اللغة القديمة، وقد استعملت في المعلّقات..)، ثمّ على أساس أنه يخوض في أمر التاريخ...
-6-
لكن لما ذا الضَرْبَ، أو المُضْطَرَبُ، في كلّ هذه المستويات لتأويل قراءة نصوص المعلّقات السبع؟ أَلأَنَّ الأمر ينصرف إلى النصّ الشعريّ، والنصّ صورةٌ إن شئت، ولكنه ليْسَها وحْدَها؛ وهو تَشاكُلٌ إن شئت، ولكنه ليسَهُ وحده؛ وهو لذّاتٌ فنيّة روحيّة إن شئت، ولكنه لَيْسَهُما وحدهما، وهو تجليات جماليّة إن شئت، ولكنه ليْسَها وحدها؛ وهو سمات لفظيّة إن شئت، ولكنه ليْسَها وَحْدَها؛ وهو لَعِبٌ باللغة إن شئت، ولكنه لَيْسَه وحده؛ وهو أسْلبَةٌ وتشكيل إن شئت، ولكنه ليسهما وحْدَهُما؛ وهو فضاء دلاليّ يتشكّل من الصوت وصَدى الصوت، والإيقاع وظِلّ الإيقاع، والمعنى ومعنى المعنى؛ فيحمل كلّ مقوّمات التبليغ في أسمى المستويات...؟ أم لأنّ الأمر ينصرف إلى غير كلِّ ذلك...؟
ولمّا كان الأمر كذلك، كان لا مناص، إذن، من قراءة النصّ الأدبي، بإجْرائِهِ في مستويات مختلفات أصلاً، لكنها، لدى منتهى الأمر، تُفْضي، مُجْتَمعةً، إلى تسليط الضياء على النصّ، وإلى جعل التأويلات المتأوّلة حَوَالَهُ بمثابة المصابيح المضيئة التي تزيح عن النص الظلام، وتكشف عن مغامضه اللّثام....

-7-
وممّا لاحظناه في قراءاتنا للمعلّقات أنّ هناك إلحاحاً، كأنه مقصود -أو كأنه دأب مسلوك في تقاليد بنية القصيدة العربيّة؛ أو كأنّه إرثٌ موروث من الأزمنة الموغلة في القِدَم، فيها: على ذكر أماكن جغرافيّة بعينها؛ مما حمل ياقوت الحموي على أن يستشهد، كثيراً، بهذه الأشعار الواردِ فيها ذِكْرُ الأماكن، في اجتهادٍ منه لتحديد الأمكنة في شبه الجزيرة العربيّة، وطرفي العراق والشام. ويبدو أنّ بعض الأمكنة كان من الخمول والغُمورَةِ بحيث لم يكنيعرف إلاّ في ذلك الشعر المستشهد به، ولا يكاد في سَوائِهِ...
ويحمل هذا الأمر على الاعتقاد بأنّ شعراء الجاهليّة كثيراً من كانوا يظْعَنون من مكان إلى مكان آخر؛ كما أن الحبيبات اللواتي كانوا يتحدثون عنهنّ، أو يشبّبون بهنّ؛ كُنّ، هنّ أيضاً، بحكم اتسام تلك الحياة بالتّرحال المستمرّ، والتّظعانِ غير المنقطع، يتحملّن مع أهليهنّ... فكان، إذن، ذِكْرُ الأمكنة؛ من هذه المناظير، أمراً مُنتَظراً في أشعار أولئك الشعراء....
-8-
وقد لاحظنا وحدة المعجم اللغويّ في نسج لغة مطالع المعلّقات بخاصّة، والشعر الجاهليّ بعامّة، بحيث لم يكن الشاعر، على ذلك العهد، يرعوي في أن يسلخ بيتاً كاملاً من شعر سوائه -إلاّ لفظاً واحداً- كما جاء ذلك طرفة بالقياس إلى امرئ القيس... أمّا سَلْخُ الأعجاز أو الصدور فحدّث عنها ولا حرج. فقد كان الشاعر إمّا أن يتناصّ مع نفسه، كما نلفي ذلك في سيرة شعر امرئ القيس، عبر المعلّقة والمطوّلة، مثل:
*فعادى عداءً بين ثورٍ ونعجة (تكرر في المعلّقة والمطوّلة)،

*وجاد عليها كلّ أسحم هطّال. (تكررا مرتين اثنتين في المطوّلة)

*ألحّ عليها كلّ أسحم هطّال.
على أننا نؤثر أن لا نفصّل الحديث عن هذه المسالة هنا، لأننا اختصصناها بفصل مستقلّ في هذا الكتاب.

-9-
كيف اختار شعراء المعلّقات، وسَواؤُهُمْ من غير شعراء المعلّقات من أهل الجاهليّة، استعمال الناقة في التّظعان إلى الحبيبة عِوَضاً عن الفَرَس؛ وبمَنْ فيهم امرؤ القيس الذي نلفيه يتحدث عن نحر ناقته للعذارى يوم دارة جلجل، ويعود إلى الحيّ، فيما تزعم الحكاية، رديفاً لفاطمة ابنة عمّه...؟ مع أنّ المسافة القصيرة التي كانت تقع بين الحيّ وغدير دارة جلجل يفترض أنها كانت قصيرة: فما منع امرأ القيس من اصطناع الفَرَس في تنقّله ذاك القصير؟ ولِمَ نلفي الفرسان والفُتّاكَ، مثل عنترة بن شداد، هو أيضاً، يتحدث عن ناقته، قبل أن يتحدث عن فرسه؟ فهل كان اصطناع الناقة في الأسفار دأباً مألوفاً لديهم لا يغادرونه، أم أنّ في الأمر سرّاً آخرَ؟ أم أنّ الخيل كانت عزيزة جداً لديهم، أثيرةً في نفوسهم؛ بحيث كانوا يَضِنّونَ بالارتفاق بها في الأسفار، ويذَرونَها مكرّمةً منعّمة للارتفاق بها في الحروب؟ بل لماذا كانوا يصطنعون جيادهم في الطرد، كما نلفي امرأ القيس يذكر ذلك بالقياس إلى جواده الذي يصفه بالعِتْقِ والكرم، وأنه كان سباقاً، وأنه يقيّد الأوابد..؟ فما بالُهُ حين اندسّ لِعَذارى دارة جلجل اصطنع الناقة وهي وئيدة السير، ثقيلة الخطو، مزعجة للتنقّل القريب، وهو الأمير الغنيّ الثريُّ:
فأين كان فرسه؟ وما منعه من اصطناعه، وقد كان يفترض أنه يظهر بمظهر الفارس المغامر، وليس أدلّ على الفروسيّة والرجوليّة شيء كركوب الخيل، وحمل السلاح، في منظور المرأة العربيّة على ذلك العهد..؟
-10-
ولا يمكن قراءة أيّ قصيدة من الشعر الجاهليّ، بَلْهَ قراءة أشهرِ قصائده سيرورةً، وأكثرها لدى الناس رواية؛ وهي المعلّقات السبع، دون التعرض لمسألة النحل والعبث بنصوصها، والتزيّد على شعرائها، والتصرّف في مادة شعرها: لبعد الزمان، وفناء الرجال، وانعدام الكتاب، وضعف الذواكر، وتدخّل العصبيّة القبليّة، وطفوح الحميّة الجاهليّة، وطفور المذهبيّة السياسيّة: لدى جمع الشعر الجاهليّ بعد أن مضى عليه ما يقرب من ثلاثة قرون من الدهر الحافل بالفتن والمكتظّ بالأحداث، والمتضرّم بالحروب.
ولم يكن هناك شعر أدعى إلى أن يُتَزَيَدَ فيه، ويُدَسّ عليه؛ كشعر المعلّقات التي جمعها أحد أوْضَعِ الرواة للشعر، وأَجْرَئِهِمْ على العبث به؛ وهو حمّاد الراوية بعد أن كان مضى على قدم المعلّقات وجوداً ما يقرب من ثلاثة قرون. والآية على ذلك أننّا لاحظنا أبياتاً إسلامية الألفاظ، كثيرة وقليلة، في جملة من المعلّقات مثل معلّقات زهير، ولبيد، وعمرو بن كلثوم... ولنضرب لذلك مثلاً في هذا التمهيد بالأبيات الأربعة، والتي نطلق عليها "أبيات القِرْبة" والمعزوة إلى امرئ القيس في نصّ المعلّقة... فإنها، كما لاحظ ذلك بعض القدماء أنفسهم (7)، مدسوسة عليه؛ وكأنّ امرأ القيس استحال إلى مجرّد صعلوك متشرّد، وضارب في الأرض متذلّل، يحمل على ظهره القراب، ويعاشر في حياته الذئاب..
إننا لا نَقْبلُ بأن تُغْزَى تلك الأبيات الأربعة الصعاليكيّة:
وقربةِ أقوامٍ جَعلْتُ عِصامَها

على كاهلٍ مِنّي ذَلول مُرَحّلِ
ووادٍ كجَوفِ العيرِ، قَفَرٍ، قطعتُه

به الذئب يعوي كالخليع المُعَيّلِ
إلى امرئ القيس، وذلك لعدم عيشه تلك التجربة، ولأنه كان موسراً غنيّاً، ولم يثبت قطّ أنه كان مضطراً إلى أن يحتمل القراب. بل لا نلفيه، في هذا الشعر يحتمل تلك القراب على ظهره فحسب، ولكنّا نلفيه متعوّداً على حملها، وإنما ذلك شأن الفقراء الصعاليك، وسيرة السفلة والمماليك... ثم لعدم حاجته أيضاً إلى أن يُخَاطِبَ السيَّد حين عوى في وجهه:
فقلت له لمّا عوى إِنّ شَأْننَا

قليلُ الغِنَى إن كنت لَمَّا تَمَوّلِ
كِلانا إذا ما نال شيئاً أفاتَه

ومن يحترثْ حرثي وحرَثكَ يهزل
ونحن لا نرتاب في أبيات القربة الأربعة فحسب، ولكننا نرتاب، أيضاً، في أبيات الليل الأربعة التي يصف فيها الليل، وأنه كموج البحر في عمقه وظلامه، وهوله وإبهامه، وذلك لبعض هذه الأسباب:
أوّلها: إنّ الأبيات الأربعة التي يزعم فيها الرواة الأقدمون- والرواة هنا مختصرون في شخص حمّاد الراوية وحده؛ إذ هو الذي جمع المعلّقات السبع وأغرى الناس بروايتها لما رأى من عزوفهم عن حفظ الشعر (8)- أنّ امرأ القيس يصف فيها الليل، هي أيضاً، لا تجاوز الأربعة، مَثَلُها مَثَلُ الأبيات الأربعة الأخراة التي شكّ فيها الأقدمون أنفسهم وعَزَوْها إلى تأبّط شرّاً (9)؛ ولذلك لم يتفقوا على إلحاقها بشعر امرئ القيس، على أساس أنها تخالف روح سيرة حياته لديهم.. وثانيها: إنّا وجدنا امرأ القيس حين يصف شيئاً يتولّج في تفاصيله، ويلحّ عليه بالوصف، بناء على ما وصلنا من الشعر الذي زعم الرواة الأقدمون أنه له: فنلفيه يصف حبيبته، وقل أن شئت حبيبتيْه- عنيزة أو فاطمة، وبيضة الخدر-، وقل أن شئت حبيباته إذا أدخلنا في الحسبان أمّ الحويرث، وجارتها أمّ الرباب، وعذارى دارة جلجل، وعنيزة، والحبالى، والمرضعات اللواتي كان طَرَقَ قبْلَها، أو قبَلَهنّ، وبيضة الخدر التي جاوز إليها الأحراس، وجازف بحياته من جلالها أمام من كانوا حِرَاصاً على قتله، وشداداً في معاملته.
ولقد استغرق منه وصْفُ مغامراته ومعاهراته، مع هؤلاء النساء، سبعة وثلاثين بيتاً ربما كانت أجمل ما في معلّقته. ومن أجمل ما قيل في الشعر العربيّ على وجه الإطلاق. فكأنّها الشعر الكامل. وكأنها السحر المكتوب. وكأنّها الشَّهْدُ المشتار. وكأنّها النص الأدبيّ الكامل: تشبيهاً، ونسجاً، وأسلبةً، وصورةً، وابتكاراً، وجمالاً..
على حين أنّنا ألفينا وصف الفرس يمتدّ في شعره على مدى ثمانية عشر بيتاً. وربما كان وصف الفرس لديه أجمل وصف قيل، هو أيضاً، في هذا الحيوان الجميل الأنيق، في الشعر العربيّ إطلاقاً.. بينما استغرق وصف المطر في معلّقته اثني عشر بيتاً. فما معنى، إذن، أن تستغرق هذه المواضيع الثلاثة، كلّ هذه الأحياز عبر المعلقة المَرْقِسيّةِ، وتمتدّ على كلّ هذه الأَفْضَاءِ، ويَقْصُرُ وصفُ الليل، وحده، فلا يجاوز أربعة أبيات، كما يقتصر وصف القربة، وقطع الوادي الأجوف ليلاً، ومخاطبة الذئب، على أربعة أبيات، فقط أيضاً، ولِمَ كان الملك الضليّل طويل النفس في بعض، وقصيَره في بعضٍ آخرَ؟
وآخرها: إنّ وحدة القصيدة تأبى أن يُقْحَمْ وصْفُ الليل: وأنه موقر بالهُمُوم، مُثْقَلٌ بالخطوب؛ وأنه كان يبتليه بما لا يقال، ويضربه بما لا يتصوّر: بين وصف الحبيبات الجميلات، وذكر الملذّات الرطيبات، ووصف الفرس الذي لم يركَبْه امرَؤُ القيس للذاته يوم دارة جلجل؛ ولكنه امتطي مطيّته التي نحرها للحسان، فيما تزعم تلك الحكاية العجيبة.... فما معنى، إذن، ذكر الهموم والأتراح بين التشبيب والطرد؛ بين لذّات الحبّ، ولذّات الصيد؟
-11-
كان أستاذنا الدكتور نجيب محمد البهبيتي حَكَمَ- كما سنناقشه في المقالة التي وقفناها على متابعة المرأة، بما هي أنثى، في المعلّقاتُ السبع، ضمن هذا الكتاب- برمزيّة المرأة، وبرمزيّة أسماء النساء في الشعر الجاهليّ (10) الذي المعلّقاتُ واسَطِةُ عِقْدِهِ. بينما ألفينا الدكتور علي البطل يعلّل الأسماء في الجاهليّة تعليلا‌ً معتقداتيّاً (11)؛ بينما نجد أبا عثمان الجاحظ يذهب إلى غير ذلك سبيلا؛ فيرى أنّ ذلك لم يكن مرجعه إلى معتقدات دينيّة خالصة، ولكن إلى معتقداتية خرافية حميمة. وكانوا يأتون ذلك على سبيل التفاؤل والتبرّك، وخصوصاً لدى تبشيرهم بميلاد الذكور. فكان الرجل منهم "إذا ولد له ذكر خرج يتعرّض لزجر الطير والفأل، فإن سمع إنساناً يقول حجراً، أو رأى حجراً سمّى ابنه به، وتفاءل فيه الشدّة والصلابة، والبقاء والصبر، وأنه يحطم ما لقي. وكذلك إن سمع إنساناً يقول ذئباً، أو رأى ذئباً، تأوّل فيه الفطنة والخبّ، والمكر والكسب. وإن كان حماراً تأوّل فيه طول العمر والوقاحة، والقوة والجلَد. وإن كان كلباً تأوّل فيه الحراسة واليقظة وبعد الصيت، والكسب، وغير ذلك (....).. ووجدناهم (...) يسمّون بقمر، وشمس، على جهة اللقب، أو على جهة المديح..." (12).
وممّا يقرّر الجاحظ حول هذه المسألة أنّ العرب كانت تفزع إلى مثل هذه الأسامي على سبيل التفاؤل، لا على سبيل المعتقدات التي يحاول بعض الباحثين المعاصرين تأوّلها (13)، وبرهاناتُهمْ على ذلك أدنى الوَهَن منها إلى الآد، وحججهم في ذلك أقرب إلى الضعف منها إلى القوة. ذلك بأنّ نصوصهم، في سعيهم، لا تكاد تذكر مع مثل هذه النصوص التي تتجسّد في مثل كلام الجاحظ، إذ ممّا يقرره أنه إذا: "صار حمار، أو ثورٌ، أو كلبٌ: اسمَ رجلٍٍ مُعظّم، تتابعت عليه العربُ تطير إليه، ثمّ يكثر ذلك في ولده خاصة بعده" (14).
وواضح أنّ هذا الأمر، في التسمية، لا يبرح قائماً إلى يومنا هذا؛ فما هو إلاّ أن يشتهر زعيم من الزعماء، أو سياسيّ من الساسة، أو بطل من الأبطال، أو مصلح من المصلحين، أو مغنّ من المغنّين، أوعالم منالعلماء، أو أديب من الأدباء.... وإذا الناس يتهافتون على اسمه يسمّون به أولاهم: تبركاً وتحبباً، وتفاؤلاً وتشبّهاً.
ولا يرى الجاحظ أنّ العرب إنما كانت تسمّي أولادها بمثل قمر وشمس على سبيل المعتقد بهذين الكوكبين الاثنين، أو على أساس أنّ العرب كانت تعبدهما وتقدّسهما، ولكنّ ذلك كان منها "على جهة اللقب، أو على جهة المديح"(15).
-12-
وعلى أننّا لا نريد أن يعتقد معتقد أنّا نرفض الترسبّات الدينيّة، الوثنية خصوصاً، والسحريّة، والمعتقداتية في الشعر الجاهليّ، كلّه أو بعضه؛ ولكن ما لانريد أن يعتقده معتقد هو أنّنا لا نميل إلى هذا التحمس، وهذا التحفز؛ وإلى الذهاب، بأيّ ثمن، إلى ذلك التعليل الأسطوري للصورة الشعريّة، وللوقائع، وللّغة... فقد كان الأعراب أغلظ أكباداً، وأحرص على التعامل في حياتهم اليوميّة بواقعها الشظف، ورتابتها المحسوسة، مع المادّة - من أن يقعوا فيما يريد أن يوقعهم فيه، على سبيل الإرغام، بعضُ الناقدين المعاصرين، وذلك بالذهاب إلى أنّ كلّ ما هو شمس أو قمر، أو ثوراً وبقر، أو عيراً وظبي، أو نمر أوكلب، أو ثعلب أو عجل، أو ليث أو ضبّ- ممّا كانوا يقدسونه فيما غَبَر من الأزمان، ومر من الدهْرِ الدَّهارير: لم يكن يدلّ بالضرورة على التمسّك تمسّكاً دينيّاً أو روحيّاً بتلك المعتقدات الوثنيّة؛ وإلاّ فماذا سيقال في النباتات والأشجار، والسحب والأمطار، والرمال والأنهار...؟
وإنما كانوا يسمّون أبناءهم بما كانوا يرون في بيئتهم البدويّة الشظفة: أنّه هو الأيّدُ الأقوى، أو الأشدّ الأبقى: سواء في ذلك الشجر والحجر؛ وسواء في ذلك الحيوان والهوامّ. على حين أنهم كا نوا يُؤْثِرونَ لعبيدهم الأسماء الجميلة الأنيقة اللطيفة مثل صبيح، ورباح.... ذلك بأنّ الأسماء التي تُرْعِبُ وتُخيف كانوا يرون بأنها قَمَنٌ بأن تُفْزِعَ يوم الوغى، وتُرْهِبَ في مآقِطِ النِزال، بالإضافة إلى ما كانوا يريدون أن يميلوا إليه من التفاؤل بالشيء لمجرّد منوحه لهم (16).
-13-
وممّا لا نوافق الدكتور البطل علىالذهاب إليه حول هذه المسألة حِرْصُه على الرجوع إلى أبعد الأزمنة إيغالاً في القدم، ثمّ إخضاع تلك الفترة إلى ما يطلق عليه "الفترة الطوطميّة" التي يحيل فيها قُرَّاءَه على الرجوع إلى الدكتور جواد عليّ الذي كان بسط هذه النظريّة الأنتروبولوجية بناء على تنظيرات مكلينان، وليس بناء على تنظيراته هو (17).
وإنما كان الأولى أن يحيل قراءه على الأصل الذي هو جون مكلينان الذي تعود محاولاته النظريّة إلى سنة تسع وستين وثمانمائة وألف للميلاد حيث كان نشر بعض المقالات التي نبّه فيها إلى ما أطلق عليه الطوطميّة (18). لكن لم يلبث أن جاء فرازر فنشر كتابه المؤلف من أربعة مجلدات انتقد فيها ماكلينان حيث اغتدت الطوطمية لديه: "مؤسسة ذات خصوصيّة من المعتقدات البدائية وهي تتناقض (....) مع التفكير الدينيّ، كما كان يريده وليم روبرتصون سميث، ومع التفكير العقليّ الذي كان يعتقد فرازر أنه كان الناطق باسمه، في آن واحد"(19).
وعلى أنّ الانتروبولوجيين انتقدوا انتقاداً شديداً تنظيرات فرازر، وفي طليعتهم الأسكندر قولد نويزر الذي رأى انّ إدراج ثلاث ظَواهِر في عِقْدٍ واحد من الزمن ضئيل العلميّة.. (20).
وأياً كان الشأن؛ فإن الطوطمية في مفهومها الأدنى والأشهر،تعني وجود العبقرية الراعية (21) التي ينشأ عنها "الأنظمةُ الطوطمية" (22)، والتي حاول بعض العلماء تطبيقها على المجتمعات البدائية في استراليا، وأمريكا... ولكننا، نحن، لا نحسبها ممكنة الانطباق على المجتمع العربيّ قبل الإسلام، بحذافيرها...
إنّ هناك دعائِمَ أربعاً تنهض عليها هذه النزعة الأنتروبولوجية، ولا تَوْفُرُ في الأسامي العربية القديمة وفوراً كاملاً؛ لأن الجاحظ وهو الأعلم بعادات العرب وتقاليدها، والأقرب إليها عهداً، والأدنى منها زمناً، والألصق بها نَسَباً؛ لم يذكر أنّ العرب كانت تسميّ أبناءها بأسماء الحيوانات على سبيل التقديس والتبرك؛ ولكنّ ذلك كان "على جهة الفال" (23)، وعلى سبيل حفظ نسب الجدّ، "وعلى شكل اسم الأب، كالرجل يكون اسمه عمر فيسمّي ابنه عميراً.. " (24). والآية على عدم ثبات مزعم الذين يزعمون بطوطميّة الأسماء العربية على عهد ما قبل الإسلام أنّ العرب كانوا يتسمون "أيضاً بأسماء الجبال: فتسموا بأبان وسلمى"(25). بل أنهم قد "سمّوا بأسد، وليث، وأسامة، وضرغامة، وتركوا أن يسمّوا بسبع وسبعة.وسبع هو الاسم الجامع لكلّ ذي ناب ومخلب" (26).
إنّ من أصول الطوطميّة الأربعة تحريم أكل الحيوان المقدّس، والشجرة المباركة؛ بينما لم تكن العرب تتحرج في أكل أيّ من الحيوانات وثمر الأشجار التي كانت تسمّي بها أبناءها.
وواضح أنّ الزجر من المعتقدات العربيّة الحميمة التي لا نكاد نظفر بها في الفكر البدائيّ لدى الإغريق، وقدماء المصريّين، والبابليين، والكنعانيين على هذا النحو الذي وقعنا عليه في النصوص الأدبيّة والتاريخية العربيّة. فليس الزجر سحراً، ولا ديناً، ولا حتّى معتقداً حقيقياً، ولكنه نحو من السلوك قام في معتقداتهم فسلكوه..
وأمّا تقديس الثور فإننا نلفيه في بعض الأساطير الكنعانيّة، حيث "كان الثور هو الحيوان المقدّس"(27) لدى الكنعانيّين.
وربما لم تعبد الشمس في شمال الجزيرة قطّ، لأنّنا لم نعثر على صنم من أصنامهم هناك كان يمثّل على الحقيقة التاريخية الدامغة، الشمس المعبودة التي عبدت في مأرب على عهد الملكة بلقيس، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم [28]. وما نراهم قد تسمّوا به من مثل عبد شمس لعله لم يك إلاّ أثراً شاحباً لذلك التوهج الوثنيّ القديم الذي محاه الزمن، ودرسه الدهر حيث أنّ بلقيساً كانت تعيش في القرنين، الحادي عشر، والعاشر قبل الميلاد.
"وقد كانت العرب- كما يقول ابن الكلبي- تسمّي بأسماء يعبّدونها؛ لا أدري أعبّدوها للأصنام، أم لا؛ منها "عبد ياليل" ، و "عبد غنم"، و "عبد كلال"، و "عبد رضى" (29).
ومن الغريب حقاً أنّ الأساطير تذكر أن الكنعانيين كانوا يقدسون الثور؛ وفي الوقت ذاته نلفي الإله "بعل" يذبح لشقيقته عناة "ثوراً ويشويه؛ فتأكل؛ ثم تغسل يديها بالندى والماء" (30).
إن هي، إذن، إلاّ أساطير في أساطير، والذي يحاول أن يستخلص منها علماً، أو يستنبط منها أحكاماً تاريخية، سيتورط في فخّ أسطوريتها فلا يفلح في بحثه، ولا يهتدي في أحكامه...
ويرى الدكتور البطل بأن العرب لم يكونوا، في الأزمنة الغابرة، "أصحاب حضارة زراعية يعتدّ بها (....) ولعل هذا هو سر اتجاههم إلى الشمس وهي أظهر ما في حياة الصحراء، خالعين عليها صفة الأمومة؛ فاعتبروها الربة، والآلهة الأم. ولعل هذا هو سر تأنيث الشمس في اللغة العربية على عكس اللغات التي ربطتها بإلهٍ ذكر"(31):
فالأولى: أن تأنيث الشمس، في اللغة العربية، لا حجة فيه على الأمومة، ولا على الإخصاب؛ لأن هناك أمماً أخراة ربما كانت تعبد الشمس، وهي، مع ذلك تذكّرها، فالتذكير والتأنيث، في اللغة، لا ينبغي له أن يخضع، في كل الأطوار، للمعايير التي يبني عليها الدكتور البطل حكمه.
والثانية: أن الماء من الأمور التي لفتت عناية الإنسان القديم، ومع ذلك نلفي الماء مذكّراً، في اللغة العربية، وهو رمز للإخصاب، أكثر بكثير من الشمس (وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ) (32): حتى أن ملك الروم كان بعث إلى معاوية بقارورة وقال له: "ابعث إليّ فيها من كل شيء" (33)، فملأها له ماء. فقال ملك الروم لما وردت عليه: "للّه أبوه ما أدهاه" (34)؛ وذلك على أساس أن اللّه جعل في الماء كل شيء... وإن كنا نلفي هذا الماء مؤنثاً في كثير من اللغات الأخراة كالفرنسية، والإنجليزية، والإسبانية...
والثالثة: أن العرب لم تكن تؤنث الأشياء والظواهر للتعظيم والتقدير، في كل الأطوار؛ ولذلك قال أبو الطيب المتنبي:
ولو كان النساء كَمَنْ فقدَنْا

لفُضِّلَتْ النساءُ على الرجالِ
وما التأنيثُ لاُسْمِ الشمسِ عَيْبٌ

ولا التذكيرُ فخْرٌ لِلْهلالِ (35)
وقد خاطب الله الكفار حين جعلوا له بناتٍ (أفرأيتُمُ اللاَّتَ والعُزَّى، ومَنَاةَ الثالثةَ الأُخْرى. ألَكُمُ الذّكَرُ وله الأُنُثَى؟ تلك إِذَنْ قِسْمَةٌ ضِيزَى" (36).
والرابعة: إنّ المشركين حين اتخذوا اللاّت يعبدونها من دون الله في الطائف وما والاها إنما "اشتّقّوا اسمها من اسم الله، فقالوا: اللاّتَ، يعنون مؤنّثة منه، تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا"(37). ويؤيّد ذلك ما ذهب إليه الزمخشري في تفسير بعض هذه الآيات حين قرر:
"إنّ اللاّت والعزّى ومناة: إناثٌ، وقد جعلتموهنّ لله شركاء، وما شأنكم أن تحتقروا الإناث وتستنكفوا من أن يُولدْنَ لكم، ويُنْسَبْنَ إليكم: فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أنداداً لله وتسمّونهنّ آلهة؟" (38).

وإذن، فلا يمكن أن يكون التأنيث للشمس تفخيماً لها وتعظيماً ، ولا تقديراً لها وتقديساً. ولو كانوا أرادوا إلى ما أراد إليه الدكتور البطل، وبناء على بعض ما رأينا من أمر هذه الآيات الكريمات، وما استنبطنا من تفسيرها: لكانوا، في رأينا، ذكّروها، لا أنّثوها.
فقد سقطت، إذن، تلك الحجة؛ ووهن: إذن، ذلك البرهان.
والخامسة: إنّا لا نعتقد أنه كان للمرأة العربيّة، على عهد ما قبل الإسلام، مكانةٌ محترمة، ومنزلة اجتماعية تتبوّؤُها إزاء الرجل الذي يطلّقها لأوهى الأسباب، وكان يطلبها للفراش لا للعِشْرة؛ فلمجرّد أن حكمت أمّ جندب لعلقمة الفحل على أمرئ القيس بادَرَ إلى تطليقها (39).
والسادسة: وأمّا مسألة عبادة الأرض، وأنّ المجتمعات الزراعيّة العتيقة "عبدت الأرض بوصفها أماً" (40)؛ فإنّ الإنسان البدائيّ عبد الأحجار، والأشجار، والشمس والقمر، والأرض والسماء، والحيوانات، والريح، وكل، مظاهر الطبيعة... فلا حجّة فيه على أنّ ذلك باقٍ في الصورة الشعريّة لما قبل الإسلام. فصنم "اللاّت" بينما يزعم بعض المفسريّن (41) أنه مؤّنث الله في لغتهم ومعتقداتهم جميعاً؛ كان الآخرون من المفسرين يرون أنّ اللاّت "كان(....) رجلاً يَلُتُّ السُّويْقَ، سويق الحجّ" (42). كما روى "عن ابن عباس، ومجاهد، والربيع بن أنس، أنهم قرأوا "اللاّت" بتشديد التاء وفسّروه بأنّه كان رجلاً يلتّللحجيج في الجاهلية السويق، فلمّا مات عكفوا على قبره، فعبدوه "(43). فالمعبودات لم يكنَّ نساءً فحسب؛ ولكنْ كُنَّ رجالاً أساساً. بل إنّا أصنام العرب يغلب عليها التذكير أكثر من التأنيث.
والسابعة: وأمّا اعتبار العرب أنهم ليسوا "أصحاب حضارة رزاعيّة يعتدّ بها "فإنا لا ندري كيف يمكن تناسي اليمن السعيد، وهو مهد العروبة، ومحْتِدُها الأوّل، وما كان فيه من زراعة نوّه بها القرآن (44)؛ وحيث كان سدّ مأرب العظيم قبل أن ينفجر؛ وحيث الجنتان عن يمين وشمال؛ وحيث البلدةُ الطيبة، والتربة الخصبة؛ وحيث الربُّ الكريم الغفور، وحيث كانت المرأة اليمنيّة "تمشي تحت الأشجار، وعلى رأسها مكتل أو زنبيل، وهو الذي تخترف فيه الثمار، فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يُحْتاج إلى كلفة ولا قطاف؛ لكثرته ونضجه واستوائه" (45)؛ وحيث، كما يقرر ابن عباس كانت بلاد اليمن "أخصب البلاد وأطيبها: تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل فتعمل بيديها وتسير بين الشجر، فيمتلئ المكتل بما يتساقط فيه من الثمر" (46).
أم لم يكن اليمن عربيَّ الأرض، عريق العروبة؟ أم لم يُبْنَ فيه أوَّلُ سدٍّ في تاريخ الزراعة على وجه الاطلاق؟ وإذن فكيف يمكن تَجْريدهمُ ممَّا هو ثابت لهم بالأخبار المتراوية، والآثار المتتالية، والوحي المنزّل، والتاريخ المفصّل؟
ومن الغبن العلميّ أن يحاول محاول بناء مسألة على هواء، وإقامتها على فراغ، بعد أن تستهويه استهواء، وبعد أن تشدّه إليه شدّاً؛ فيجتهد في أن يجعل من الحبّة قبّة، ومن القليل كثيراً، ومن العدم وجوداً.... وقد أحسسنا بشيء من ذلك ونحن نقرأ الدكتور البطل وهو يشقّ على نفسه، ويُعْنتُها ويُضْنيها، لإثبات ما لا يمكن إثباته باليقين الدامغ، والتاريخ الناطق، فيُحسُّ ببعض الخيبة في قرارة نفسه، فيقرر: "و لانقصد بهذا أنّ شعر هذه المرحلة المتأخّرة من تاريخ العرب، يحمل لنا في صورة الدين البدائيّ القديم، فقد كانت كثرة هذه الطقوس قد درست ولم يبق منها إلاّ آثار باهتة حتّى في الممارسات الدينيّة؛ ولكننا نرى أنّ الصور المتّرسبة في الشعر من الدين القديم هي من آثار احتذاء الشعراء لنماذج فنيّة سابقة، لم تصلنا، كانت وثيقة الصلة بهذا الدين..." (47).
ونحن نوافق الدكتور البطل على بعض ما أثبتناه له هنا لأنه عين الحقّ، وخصوصاً قوله: "فقد كانت كثرة هذه الطقوس قد درست ولم يبق منها إلاّ آثار باهتة حتّى في الممارسات الدينيّة. وهو عين الحق؛ لأنّ التاريخ العربيّ القديم دَرَسَ وباد، ولم يعد يُرْوى ولا يُعاد: فقد بادت طسم، وجديس، وجرهم، والعماليق، وعاد، وثمود... فمنهم من تفانوا فيما بينهم في حروب مدّمرة لم تُبْقِ منهم ديَّاراً، ولا تركت لهم آثاراً؛ ومنهم من سلّط الله عليهم العواصف الهوجاء، والأمطار الطوفانيّة فأبادتهم؛ ومنهم من فنوا بتهدّم سدّ مارب(سيل العرم)، فلم يصلنا مما قالوا إلاّ أقلّة، ولم يبق للتاريخ من معتقداتهم القديمة، ومعقتدانهم الوثنية، إلاّ مظاهر شاحبة لا تسمن من جوع، ولا تروى من ظمأٍ؛ فألفينا الأقدمين يفزعون لملء الفراغ التاريخيّ الهائل إلى أساطير التوراة، وأكاذيب يهود... بينما ألفينا المحدثين يصطنعون افتراض الفروض طوراً، ويفزعون إلى الاحترافيّة الفكريّة، واصطناع الإجراءات التأويليّة طوراً آخر: من أجل التوصّل إلى نتائج يقيمونها، في كثير من أطوارهم، على افتراضات تنقصها الشروط المنهجيّة لفرض الفروض، أو على نصوص واهِيَة التاريخيَّةِ. وفي الحاليْن الاثنتَين لا نجد من يقنعنا في غياب النصوص التاريخيّة التي لم تكتب عن العرب قبل ظهور الإسلام، إذ لم يسرع الناس في التأليف، وجمع الأخبار بكيفيّة مستفيضة إلاّ ابتداء من القرن الثاني للهجرة....
وحين جاؤوا يكتبون تاريخ العرب: الأيام، والشعر، واللغة، والأديان: تكأَّدَهُمْ ذهابُ الذين كانوا يحملون هذا الشعر، وتلك الأخبار. ولقد سُقِطَ في أيدي بعض القبائل التي ضاع شعر شعرائها، أو لم يكن لها، في الأصل، إلاّ شعراً قليل، فعَمَدتْ إلى النحل... كما صادف الرواة المحترفون في تعطّش الناس لأخبار أهل الجاهليّة مصدراً للرزق الكريم، ومنزلة للعز المنيع؛ فكان حمّاد الراوية يعيث في الشعر العربيّ فساداً على مرأىً ومسمع من العلماء الذين قصروا عن إصلاح أمره... وإذا عجزوا هم عن إصلاحه، وكان الزمن الجاهليّ لا يبرح طرياً رطباً، فمن المستحيل علينا نحن اليوم إصلاحه... (48).
ولم يكن الأصمعيّ الثقة العالم بقادر على إصلاح ما كان أفسده أستاذه خلف الأحمر الذي لازمه عشْرَ سنين؛ مثله مثل أبي عمرو بن العلاء العالم الثقة المتحرّج الذي كان يتردد ويتألّم ويتحرج، لأنه كان يعلم أنّ ما انتهى إلينا مما قالت العرب إلاّ أقّلُّهُ، ولو جاءنا وافراً لجاءنا "علم وشعر كثير" (49).
-14-
والذي يعنينا في كلّ ما أوردناه في الفقرة السابقة، وما ناقشنا به الصديق الدكتور عليّ البطل، أنّ تعليل التسميّة تعليلاً دينيًاً ليس أمراً مسلمّاً. ومن الأولى التفكير في تعليلها تعليلاً يقوم على التفاؤل والتبرّك، كما قرر ذلك أبو عثمان الجاحظ.
ذلك، وأنّا عايشنا هذه المعلّقات السبع العِجَابَ أكثر من سنتين اثنتين: ظَلْنَا، خلالَهُما، نقرؤُها، ونعيد قراءتها، حتّى تجمّع لدينا مقدارٌ صالح من الموادّ ممّا لو جئنا نحلّله كلّه لكان هذا العمل خرج في مجلّدين اثنين على الأقلّ؛ بالإضافة إلى الموادّ الأخراة الكثيرة التي ينصرف شأنها إلى الشعر الجاهليّ بعامّة، والتي قد نعود إليها يوماً لبلورتها، وإخراجها للناس. ولغزارة المادّة المصنَّفة، والمنبثقة عن قراءات نصوص المعلّقات السبع، ورغبة منّا في أن لا يكون الكتاب الذي نقدَّم بين أيدي الناس أضخم ممّا يجب، وأطول ممّا ينبغي: ونحن نحيا عصر السرعة، والميل إلى القليل المفيد: ارتأينا أن لا يزيد تقديمها على أكثر من عشر مقالات كلّ مقالة تعالج مستوىً بذاته، أو محوراً بعينه: مثل إثنولوجيّة المعلّقات، وبنية الطلليات المعلّقاتيّة، وفكرة التناص في المعلّقات، والصناعات والحرف، وطقوس الماء، والمرأة، وجماليّة الإيقاع، وجماليّة الحيز... وهلّم جرّا.
ذلك، وأنّا كنّا أزمعنا على تقديم فهارس تتناول من الحقول ذات العلاقة بالأنتروبولوجيا، لدى نهاية هذه الدراسة: ترصد بعض الظواهر التي لم نتمكّن من بلورتها، أو تحليلها في ثنايا هذه الدراسة مثل الألفاظ الدالّة على الزراعة، والزينة (أي الملابس والعطور والحليّ)، والألوان، والأديان، والمعتقدات، والألعاب... ثمّ ‎أضربنا عن ذلك لمّا رأينا حجم الكتاب طال، وموادّه اتّسعت... -ولعلّنا أن نأتي ذلك في الطبعة الثانية إن شاء الله....
فعسى أن نكون قد وفّقنا إلى إضافة لبنة صغيرة، جديدة، إلى ذلك الصرح الأدبيّ الشامخ.









رد مع اقتباس