منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - ذكرى استقلال الجزائر
عرض مشاركة واحدة
قديم 2010-07-03, 21:33   رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
الهامل الهامل
عضو نشيط
 
إحصائية العضو










افتراضي

يااخي الخير الذي انت فيه بفضل الله تعالى وبفضل السرسول صلى الله عليه وسلم وبفضل الشهداء الابرار اللمليون ونصف المليون ثم أن

مفهوم الوطنية
في ضوء الكتاب المبين والسنة النبوية

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته، أمّا بعد؛
فإنّ كثيرًا من المفاهيم المنتشرة والمشتهرة في المجتمع الإسلامي تحتاج إلى تأصيل وتدقيق، ومعرفة أصلها، والمواضع الصحيحة لاستعمالاتها.
ومن هذا المنطلق مددتُ ذراعي لأتناول قلم المعرفة فأسطِّر به ما أُراه واجبًا على أهل العلم والإيمان من بيان مفهوم الوطنية في ضوء الكتاب المبين والسنة النبوية، وإيضاح أصله هنالك، ومن ثَمّ تدبيج هذا وتزيينه بأصول وقواعد شرعية يُرجعُ إليها في مثل هذا الموضوع، ووضعتُ على رأس هذا البحث تاج لسان العرب في توضيح معنى الوطنية واستعمالاتها، وقد استخرتُ الله تعالى في تسمية هذا البحث، فمنّ عليّ الكريم سبحانه بهذا العنوان: (مفهوم الوطنية في ضوء الكتاب المبين والسنة النبوية).
- خطة البحث:
وقد احتوت خطة البحث على مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة، وتفصيلها على النحو التالي:
- مقدمة: (وهي التي بين أيدينا)
- المبحث الأول: معنى الوطنية في لسان العرب.
- المبحث الثاني: مفهوم الوطنية في ضوء الكتاب المبين والسنة النبوية.
- المبحث الثالث: أصول وقواعد يُرجع إليها في هذا الموضوع.
- خاتمة.
هذا والله تعالى أسأل أن يجعله مباركًا نافعًا خالصًا متقبلاً، وصلى الله وسلّم على نبيّنا محمّد وآله وصحبه وأزواجه وذريته. والله تعالى أعلم.
المبحث الأول
معنى الوطنية في لسان العرب
لقد كثُر في لسان العرب استعمال مادة (وطن) في معاني عدة أستعرضها من خلال هذا العرض اللغوي الذي هو أساس بناء المعنى الاصطلاحي.
فالوطن: هو المنزل الذي تقيم به، وهو موطن الإنسان ومحلّه، والجمع: أَوْطان.
وَطَنَ فلانٌ بالمكان وأَوْطَن: أقام به، واتخذه محلاً ومسكنًا يقيم فيه.
وأَوْطَنَه: اتّخذه وَطَنًا.
ومواطِنُ مكة: مواقفها، وأَوْطان الغنم والبقر: مرابضها وأماكنها التي تأوي إليها.
والمِيطانُ: الموضع الذي يُوَطَّنُ لترسل منه الخيل في السباق؛ وهو أول الغاية.
والمياطين: الميادين.
والمَوْطِن: المشهد من مشاهد الحرب، والوطن، وكل مكان أقام به الإنسان لأمر، والمجلس.
وأَوْطنتُ الأرض ووطَّنتُها واستوطنتُها: أي اتخذتُها وَطَنًا، وكذلك الاتطان؛ وهو افتعال منه.
والْمَواطِن: كل مقام قام به الإنسان لأمر.
وواطَنه على الأمر: أضمر فعله معه.
ويقول: واطنتُ فلانًا على هذا الأمر إذا جعلتما في أنفسكما أن تفعلاه.
وتوطين النفس على الشيء كالتمهيد(1).
فالوطنية: النسبة إلى الوطن.
والوطن إذًا: هو منزل الإقامة، والوطن الأصلي: مولد الإنسان أو البلدة التي تأهل فيها.
ووطن الإقامة: هو البلدة أو القرية التي ليس للمسافر فيها أهلٌ، ونوى أن يقيم فيه خمسة عشر يومًا فصاعدًا، من غير أن يتخذه مسكنًا.
ووطن السكنى: هو المكان الذي ينوي المسافر أن يقيم فيه أقل من خمسة عشر يومًا(2).
المبحث الثاني
مفهوم الوطنية في ضوء الكتاب المبين والسنة النبوية
إنّ الأمّة المسلمة هي التي تحقق في المفاهيم والمصطلحات وفق ما جاء في الكتاب المبين؛ وورد في السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم، وتعتمد ذلك أساسًا تبنى عليه مواقفها ومبادءها.
ومن هذا المنطلق العظيم نحاول أن نتناول مفهوم الوطنية من الوحي المبارك من خلال النقاط التالية:
أ- لقد وردت مادة (وطن) في كتاب الله تبارك وتعالى مرة واحدة فقط، وذلك في سورة التوبة آية (25) قول الله العليم الحكيم سبحانه: ?لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ?.
والمتصرف من هذه المادة (مواطن) جمع مَوْطِن، وهو المكان والموضع.
ب- لم يرد في كتاب الله تعالى ولا في سنة النبيّ الأمين عليه الصلاة والتسليم الحديث عن (الوطنية) بلفظها هذا إطلاقًا، إنّما جاء الحديثُ عن معناه بألفاظ أخرى متعددة.
جـ - ورد على ألسنة كثير من الناس، وفي بعض الكتب نسبة حديث إلى النبيّ الكريم عليه الصلاة والتسليم: (حب الوطن من الإيمان).
وهو حديثٌ موضوعٌ مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(3).
ولا يستقيم معنى هذا الحديث لأن حب الوطن كحب النفس والمال وغير ذلك، وكله حبّ غريزي مفطورٌ عليه الإنسان، لا يُمدح المرءُ بحبّه، وليس هو من لوازم الإيمان أو شُعَبِه، والناسُ جميعًا مشتركون في هذا النوع من الحبّ لا فرق بين مؤمنهم وكافرهم(4).
د- وورد أيضًا على ألسنة البعض حديثٌ لا يصح، وهو (حب الوطن قتال) بل ليس بحديث(5).
هـ- قصّ الله تبارك وتعلى علينا في كتاب المبين قصص كثير من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهم يهاجرون من أوطانهم ويهجرونها بأوامر الله تعالى لهم.
فهذا نبيُّ الله آدم أبو البشر عليه الصلاة والسلام يأمره الله تعالى هو وزوجه أن يهبطا من الجنّة إلى الأرض بعد ما كان منهما من الأكل من الشجرة المحرّم عليهم الأكل منها، قال الله العليم الحكيم سبحانه: ?قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى? (طه: 123).
وقال الله العظيم الحليم: ?وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ? (البقرة: 36).
وقال الله العليم الخبير سبحانه: ?قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ? (الأعراف: 24، 25).
وأخرجت قريحة الإمام العلاّمة ابن القيّم - رحمه الله - أبياتًا في هذا الشأن، فقال:
وإن ضاقت الدنيا عليك بأسرها……ولم يكُ فيها منزل لك يُعلم
فحيَ على جنّاتِ عدنٍ فإنّها…منازلك الأولى وفيها المخيمُ
ولكننا سبيُ العدوِ فهل ترى……نعودُ إلى أوطاننا ونسلم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى……وشطّتْ به أوطانُه فهو مُغرمُ
وأي اغترابٍ فوق غربتنا التي…لها أضحت الأعداء فينا تحكم(6)
وقال رحمه الله تعالى أيضًا عن إخراج آدم عليه الصلاة والسلام من الجنّة: (فلمّا كسره سبحانه بإهباطه من الجنّة جبره وذريته بهذا العهد الذي عهده إليهم) (7).
وهذا النبيّ الأمين نوح عليه الصلاة والتسليم ابتلاه الله تعالى أيضًا بالخروج من وطنه بالفلك ومن تبعه عند مجيء أمر الله تعالى وفوران التنّور، يقول الحقّ المبين سبحانه: ?حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ. وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ? إلى قول الله سبحانه وتعالى: ?قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ? (هود عليه الصلاة والسلام: 40-42، 48).
وقال الله الرحيم سبحانه وعن نوح عليه الصلاة والسلام: ?قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ. فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ. فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيات وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ? (المؤمنون: 26-30).
وأتى خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والتسليم بالدعوة الصادقة لأبيه وقومه فأنكروه وردّوه واضطروه إلى الاعتزال والهجرة عن وطنه حتى قال له أبوه آزر: ?قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا? (مريم: 46).
وقال الله الحسيب سبحانه عن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام أيضًا: ?فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ? (العنكبوت: 26، 27).
وذكر الله سبحانه وتعالى عنه عليه الصلاة والسلام بعدما كسَّر الأصنام وأرادوا به كيدًا وقتلاً أنّه قال: ?وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ. رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ. فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ? (الصافات: 99-101).
وقد هدّد قوم نبيّ الله لوطٍ عليه الصلاة والسلام بإخراجه وآله من الوطن، قال الله الخبيرُ البصيرُ سبحانه: ?قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ.قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ.رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ? (الشعراء: 167-169).
ويقول الله العليم سبحانه عنهم: ?وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ. فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ? (الأعراف: 82، 83).
وفي القصة أن الله تعالى ذكره أمره عليه الصلاة والسلام أن يسري بأهله ليلاً مغادرًا وطنه، يقول الله السميع العليم سبحانه: ?فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ? (الحجر: 65).
وتغرّب نبيّ الله يوسف عليه الصلاة والسلام عن وطنه بادية فلسطين الذي به والداه وأهله إلى مصر بعدما حملته القافلة السيّارة من الجبّ ثم باعوه، قال الله تبارك وتعالى: ?وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ.وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ? (يوسف عليه الصلاة والسلام: 19-20).
وبقي عليه الصلاة والسلام هكذا في مصر حتى أصبح فيما بعد عزيزها، فأرسل في طلب أبيه يعقوب عليه الصلاة والسلام ومعه إخوته وأهلوهم أجمعون، قال الله تبارك وتعالى: ?اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ? (يوسف عليه الصلاة والسلام: 93)، فكان الاستقرار الأخير لهم جميعًا بمصر ?فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ. وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ? (يوسف عليه الصلاة والسلام: 99، 100).
وذكر الله سبحانه وتعالى لنا خروج نبيّ الله موسى عليه الصلاة والسلام من وطنه مصر مرتين، المرّة الأولى عندما فرّ خائفًا من القتل؛ لأنّه وكز القبطي من آل فرعون فمات، فتسامع القوم بالخبر فائتمروا به، قال الله الرحمن سبحانه: ?وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ. فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ? (القصص: 20-22).
وتحدّث نبيّ الله موسى عليه الصلاة والسلام عن هذا الخروج أمام فرعون، فقال: ?فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ? (الشعراء: 21).
ثم عاد عليه الصلاة والسلام إلى وطنه مصر رسولاً نبيًّا.
والمرّة الثانية حين أمره الله تعالى أن يسري ببني إسرائيل ليلاً من مصر، قال الله العظيم سبحانه: ?وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ? (الشعراء: 52).
فخرج منها عليه الصلاة والسلام للمرة الثانية والأخيرة ولم يعد إليها.
وهذا نبيّ الله يونس عليه الصلاة والسلام ذكر الله تعالى عنه أنّه خرج من وطنه مغاضبًا قومه لأنّهم لم يطيعوه، قال الله العليم الخبير سبحانه: ?وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ. فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ? (الصافات: 139-142).
ثم عاد عليه الصلاة والسلام إليهم في وطنه بعدما نجّاه الله من بطن الحوت وقد أخبره الله سبحانه بإسلام قومه عن بكرة أبيهم.
هذا غيض من فيض ممّا ذكره الله تعالى وقصّه علينا سبحانه في كتابه المجيد من قصص هؤلاء الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وهم يغادرون أوطانهم في سبيل الله تعالى.
و- كما قصّ الله الحكيم سبحانه علينا قصص بعض خلقه من غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهم يهجرون ويغادرون أوطانهم في سبيل الله سبحانه وتعالى، فمن ذلك قصة الفتية أصحاب الكهف والرقيم رضي الله عنهم غادروا قومهم ووطنهم الذي كانت تعبد فيه الأوثان من دون الله تعالى، قال الله العليم الحكيم سبحانه ?أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا. إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا? (الكهف: 9، 10).
كما أن الله علاّم الغيوب سبحانه قصّ علينا قصّة ذي القرنين رضي الله عنه الذي غادر وطنه الأصلي لإقامة دين الله تعالى ونشر العدل في الآفاق غربًا وشرقًا، يقول الله السميع العليم سبحانه عن رحلته: ? فَأَتْبَعَ سَبَبًا. حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا? إلى أن قال الله سبحانه: ?ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا. حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا. كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا. حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً? (الكهف: 85، 86، 89-93).
وهاتان القصّتان من قصص أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام ما هي إلاّ غرفة من حوض ممّا امتلأ به القرآن الحكيم.
ز- وكثُر تناول القرآن العظيم لقضية خروج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من مكة، بل وإخراجهم منها كما هو تعبير الكتاب المبين في كثير من المواطن، يقول الله الواحد الأحد سبحانه: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) (الأنفال: 30)، وقال الله النصير سبحانه: ?إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ? (التوبة: 40)، ويقول الله العظيم الحليم سبحانه: ?وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ? (محمد صلى الله عليه وآله وسلم: 13)، وقال الله السميع المجيب سبحانه: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي? (الممتحنة: 1)، إلى غير ذلك من الآيات المستفيضة في هذا الموضوع.
ح- ولقد تحدث القرآن المبين عمّا يقوم به أعداء الدين والملّة من تهديد أولياء الله تعالى بالإخراج عن أوطانهم ونفيّهم منها، يقول الله الخبير البصير سبحانه: ?وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ? (إبراهيم عليه الصلاة والسلام: 13، 14)، ومن هؤلاء قوم شعيب عليه الصلاة والسلام الذين هدّدوه بذلك، يقول الله تبارك وتعالى: ?قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ. قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا? (الأعراف: 88، 89)، وقريبٌ من هذا ما أراده قومٌ نبيّ الله لوط عليه الصلاة والسلام به ?قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ.قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ.رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ? (الشعراء: 167-169)، وجُمِع هذا البلاء للنبيّ محمّد عليه الصلاة والسلام من طرفيه حيثُ هُدِّد بهذا في مكة على يد وألسنة قريش، وفي المدينة على ألسنة المنافقين.
يقول الله تبارك وتعالى ?وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ? (الأنفال: 30)، وقال الله العليم سبحانه عن المنافقين: ?يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ? (المنافقون: 8).
ط- عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة، قال: "أما والله لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إليّ وأكرمه على الله، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت" (8).
لقد قال هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو واقف بالحَزْوَرة موقع قرب مكة أو سوق بها - قبل مهاجره صلى الله عليه وآله وسلم منها(9).
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أظهر حزنه الشديد على فراق خير الأوطان وأحبّها إلى الله تعالى وإلى نفسه صلى الله عليه وآله وسلم بيد أن الله تعالى ذكره عوَّضه البلد المبارك بالبلد الأمين. فيا لله تعالى ما أوسع رحمته وأكبر عطاءه سبحانه وتعالى.
المبحث الثالث
أصول وقواعد يُرجع إليها في هذا الموضوع
إن من نعمة الله تعالى علينا - نحن المسلمين - أن الله سبحانه جعل لنا أصولاً وقواعد وضوابط نرجع ونتحاكم إليها، هي من صميم ديننا، وأصول ملّتنا، وعليها تقوم شريعتنا السمحاء الغرّاء.
ومن أحببتُ أن أدبّج بحثي هذا بشيء من هذه الأصول والقواعد التي يُرجع إليها في مفهوم الوطنية في ضوء الكتاب الله المبين والسنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم فكانت هذه الأصول والقواعد المدرجة في هذا المبحث لعل الله تعالى أن ينفع بها.
أولاً: أن الله يبتلى عباده بأنواع كثيرة من الابتلاءات، ومنها الابتلاء بالأوطان، إمّا تحصيلها أو فقدًا، وجودًا أو عدمًا، فهناك المُهَجَّرون في الأرض واللاجئون بأنواعهم والمنفيّون عن أوطانهم، وهنالك المتنعمون بأوطانهم المواطنوان المستوطنون المقيمون.
يقول الله تبارك وتعالى ?وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ? (الأنبياء عليه الصلاة والسلام: 35).
ويقول الله العظيم سبحانه: ?وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ? (الأعراف: 168).
فنعمة الوطن من النعم التي تستحق الشكر من المتنعمين، ومن الآخرين تستوجب الصبر.
ثانيًا: اختصّ الله تبارك وتعالى هذه الأمّة بالوسطية، قال الله العليم الحكيم سبحانه: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا? (البقرة: 143).
وممّا ينبغي تحقيقه في صفة الوسطية التعامل مع لفظة الوطنية وعبارتها؛ فمن الناس من يعتبرها لفظة جاهلية مطلقًا، وعبارة لا يمكن قبولها بأيّ حال من الأحوال، ومنهم من يعتبرها شعارًا يميّز به بين الخلائق وينزلها منزلة الموازين الشرعية، وربّما رفعها فأصبحت صفة لازمة لمن أريد منه تحقيق أمر من الدين أو الدنيا.
والحقيقة أن (كلا طرفي قصد الأمور ذميم) والوسطية والاعتدال المبني على العل والإنصاف وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه أن يقال: إن عبارة الوطنية لا يمكن أن ننظر إليها بعين الاتّهام وصفة الجاهلية مطلقًا، كما أننا لا يمكن لنا أن نعتبرها فيصلاً ولا شعارًا يُوالي ويُعادى عليه بإطلاق.
بل الوسط فيها أن ننظر إليها بعين الاعتدال ومراعاة ماذا يريد بها مستخدمها، وإلى ماذا تؤول الأمور عند ذكرها واستعمالها.
إذًا الوسطية أن نعتمد قضيتين فيها:
1- مقصد قائلها ومستخدمها، وما هو مراده منها.
2- مآلات هذا الاستخدام وآثاره.
ولا يجيز لنا الدين الإسلامي أن تكون الوطنية على حساب الدين ولا تُقدَّم عليه بحال من الأحوال البشرية.
ثالثًا: يقول الله تبارك وتعالى: ?إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ? (الأعراف: 128).
لقد ذكر الله سبحانه وتعالى لفظ (الأرض) في كتابه المبين إحدى وستين وأربع مئة مرة، ذكر لنا الله سبحانه أنه خلقها وفطرها وأحياها ومدّها ودحاها وشقّها وفرشها، وجعلها مستقرًا وبساطًا وقرارًا وكفاتًا ومهادًا وذلولاً، وأنّه سبحانه وتعالى يملكها ويورثها من يشاء من خلقه ومن عباده الصالحين.
وفي خمس آيات منها فقط نُسبت إلى الله تعالى بالإضافة، يقول الله العليم الخبير سبحانه: ?قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا? (النساء: 97)، ويقول الله العليم الحكيم سبحانه: ?وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ? (الزمر: 10)، وقال الله سبحانه وتعالى عن ناقة صالح عليه الصلاة والسلام: ?فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ? (الأعراف: 73)، ويقول الله علام الغيوب سبحانه: ?يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ? (العنكبوت: 56)، ويُلاحظ أن ثلاثًا من هذه الآيات الحكيمات وصفت الأرض فيها بأنها واسعة، وفي الآيتين الأخريين ما يفيد معنى السعة للأرض، وعدم التضييق فيا على أحد دون التنصيص على لفظ السعة، ويضاف إلى هذه الآيات الكريمات الخمس في السعة آية سادسة؛ وهي قول الله السميع العليم سبحانه: ?وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً? (النساء: 100).
فالأرض أرض الله تعالى، والوطن هو هذه الأرض التي هي لله تعالى ومن ملكه، ويورثها سبحانه من يشاء من عباده متى ما شاء سبحانه، فلا ينبغي لمؤمن أن يغالي في الافتخار بالأرض والوطن، فهما لله تعالى أصلاً، وأن يُمكِّن عباد الله سبحانه من وراثتها والاشتراك فيها معه، وأن يُراعي حقّهم في ذلك.
رابعًا: عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله تعالى عنه: أن رجلاً أعرابيًا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل للمغْنَم، والرجل يقاتل ليُذكر، و الرجل يقاتل ليُرى مكانه فمن في سبيل الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" (10).
ورفي رواية: جاء رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله ما القتال في سبيل الله، فإن أحدنا يقاتل غضبًا، ويقاتل حمية، فرفع إليه رأسه، قال: وما رفع إليه رأسه إلاّ أنه كان قائمًا، فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عزّ وجلّ" (11).
إن هذا الحديث برواياته يُعدّ أصلاً من الأصول الشرعية التي ينبغي علينا الرجوع إليها عند الدفاع عن الأراضي والأوطان، فمن ذلك ما يكون مجرد دفاع عن الوطن فقط، ومنه ما يكون حميّة أو غضبًا، أو لتحصيل غنيمة عاجلة أو آجلة.
والأصل الشرعي هنا الذي يقوم عليه الدين الإسلامي هو الدفاع عن الأوطان حماية لدين الله تعالى لإعلاء كلمة الله تعالى وحده، وهذا ما يحق وصفه بأنه في سبيل الله تعالى كما هو منطوق الحديث ومفهومه والله تعالى أعلم.
خامسًا: وجاء الأصل الخامس تبعًا لما سبقه من الحكم على من قاتل أو دافع عمّا يملكه فهو شهيد عند الله تعالى.
عن عبد الله بن عمرو بن العاصِ رضي الله تعالى عنهما، قال: سمعتُ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "من قُتل دون ماله فهو شهيد" (12).
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تُعطِهْ مالك". قال: أرأيتَ إن قاتلني؟ قال: "قاتلْه". قال: أرأيتَ إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد". قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "هو في النار" (13).
وعن سعيد بن زيد ري الله تعال عنهما قال: أراد مروان أن يأخذ أرضه، فأبى عليه، وقال: إن أتوني قاتلتهم، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "من قتل دون ماله فهو شهيد" (14).
ولقد بوّب الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرحه على صحيح مسلم رحمه الله فقال: (باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حقّ كان القاصد مهدر الدم في حقّه، وإن قتل كان في النار، وأن من قتل دون ماله فهو شهيد) (15).
وإن من الأموال التي يُدافع عنها المرء المسلم بشدة أرضه ووطنه، كما يدل على هذا الحديث الأخير، وإن قتل دفاعًا عنها فهو شهيد عند الله تعالى، فكيف لو كان مع هذا احتسابه الأجر في هذا الدفاع والمقاتلة عن بلاد المسلمين وعوراتهم وحماية بيضتهم وصيانة مقدساتهم.
هذه بعض القواعد والأصول الدينية التي يُرجع إليها في مثل هذا الموضوع، وما تركته منها كثير مستفيض، والقليل يدل على الكثير. الله تعالى أعلم.
خاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، وبعد؛
فقد منّ الله تعال عليّ بقطع هذا الشوط تطوافًا مع مفهوم الوطنية في ضوء الكتاب المبين والسنة النبوية عبر تلك المباحث الثلاثة.
وأختم بحثي هذا بذكر لطائف في الحنين إلى الأوطان.
قال الأصمعي رحمه الله تعالى: (قالت الهند: ثلاث خصال في ثلاثة أصناف من الحيوان: الإبل تحن إلى أوطانها، وإن عهدها بعيدًا، والطير إلى وَكْرِه، وإن كان موضعه مجدبًا، والإنسان إلى وطنه، وإن كان غيره أكثر له نفعًا).
وقال رحمه الله تعالى أيضًا: (سمعتُ أعرابيًا يقول: إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحننه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وبكاؤه إلى ما مضى من زمانه) (16).
وقد قيل شعرًا:
نقل فؤادك حيثُ شئتَ من الهوى…ما الحبّ إلاّ للحبيب الأول
كم منزلٍ يألفه الفتى……وحنينه أبدًا لأول منزلٍ(17)
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبيّنا محمد وآله وأزواجه وذريته. والله تعالى أعلم.
الهوامش
(1)انظر: الجوهري: الصحاح (وطن)، والأزهري: تهذيب اللغة (وطن)، والراغب الأصفهاني: مفردات القرآن (وطن)، وابن منظور: لسان العرب (وطن)، والفيروز أبادي: القاموس المحيط (وطن)، والمعجم الوسيط (وطن).
(2)انظر: الجرجاني: التعريفات ص 327، والكفوي: الكليات 5/42، 43.
(3)انظر: الصغاني: الموضوعات ص 7، والألباني: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1/55.
(4)…انظر: الألباني: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1/55، وانظر: العجلوني: كشف الخفاء 1/345، 346، فإنه أطال النفس في مناقشة هذا الحديث.
(5)انظر: العجلوني: كشف الخفاء 1/347.
(6)…انظر: ابن قيّم الجوزية: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ص 28، ومفتاح دار السعادة له 1/11، ومدارج السالكين له أيضًا 3/214.
(7)انظر: مفتاح دار السعادة ص 34، وقريب منه في المعنى ص 48.
(8)…رواه الترمذي في سننه (تحفة الأحوذي 10/426، وقال: حسنٌ غريب صحيح. وأحمد في مسنده 4/305، وأبو يعلى في مسنده 5/69 واللفظ له، وقال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد 3/283: ورجاله ثقات. وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/250.
(9)انظر: ابن كثير: البداية والنهاية 3/225، 226.
(10)انظر: صحيح مسلم 3/1512، وبنحوه في صحيح البخاري 3/1034.
(11)انظر: صحيح البخاري 1/58.
(12)رواه البخاري في صحيحه 2/877.
(13)رواه مسلم في صحيحه 1/124.
(14)رواه الطيالسي رحمه الله تعالى في مسنده 1/32.
(15)انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 1/142.
(16)انظر: العجلوني: كشف الخفاء 1/347 نقلاً عن المجالسة للدينوري.
(17)انظر: ابن قيّم الجوزية: مفتاح دار السعادة 1/11.
المراجع
-
القرآن الكريم.
أ
- الأزهري: أبو منصور محمد بن أحمد. تهذيب اللغة. ت: د. رياض قاسم. دار المعرفة بلبنان. الطبعة الأولى سنة 1422هـ.
- الألباني: محمد ناصر الدين: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة. المكتب الإسلامي. بيروت. الطبعة الخامسة. 1405هـ.
صحيح سنن الترمذي. مكتب التربية العربي لدول الخليج بالرياض. الطبعة الأولى 1408هـ
ب
- البخاري: الجامع الصحيح.
ت
- الترمذي: أبو عيسى محمد بن عيسى. (مع تحفة الأحوذي)
ج
- الجرجاني: علي بن محمد بن علي. التعريفات. ت: إبراهيم الأبياري. دار الكتاب العربي. بيروت. الطبعة الثانية. 1413هـ.
- الجوهري: إسماعيل بن حماد. الصحاح. ت: أحمد عبد الغفور عطار. دار العلم للملايين. بيروت. الطبعة الأولى. 1404هـ.
ح
- ابن حنبل: أحمد بن محمد: المسند. المكتب الإسلامي. بيروت. الطبعة الثانية 1398هـ.
ر
- الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن.
ص
- الصغاني: الموضوعات.
- الطيالسي: المسند.
ع
- عبد الباقي: محمد فؤاد: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم. دار الحديث. القاهرة. الطبعة الثانية. 1408هـ.
- العجلوني: إسماعيل بن محمد. كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس. دار إحياء التراث العربي. بيروت. الطبعة الثالثة 1315هـ.
ف
- الفيروز أبادي: القاموس المحيط. مؤسسة الرسالة. بيروت. الطبعة الثانية. 1407هـ.
ق
- ابن قيّم الجوزية: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح. ت: د. السيد الجميلي. دار الكتاب العربي. بيروت. الطبعة السادسة. 1413هـ.
مدارج السالكين شرح مدارج السائرين.
ك
- الكفوي: أبو البقاء أيوب بن موسى. الكليات. ت: د. عدنان درويش، ومحمد المصري. دار الكتاب الإسلامي. القاهرة. الطبعة الثانية. 1413هـ.
- ابن كثير: أبو الفداء إسماعيل بن عمر. البداية والنهاية. ت: محمد بن عبد العزيز النجّار. مطبعة الفجالة الجديدة. القاهرة.
م
- المعجم الوسيط: د. إبراهيم أنيس، د. عبد الحليم منتصر، عطية الصوالحي، محمد خلف الله أحمد. طبعة مجمع اللغة العربية.
- ابن منظور: لسان العرب. دار صادر. بيروت. الطبعة الأولى 1412هـ.
ن
- النيسابوري: محمد بن الحجاج: الجامع الصحيح.
- النووي: شرح صحيح مسلم.
هـ
- الهيثمي: أبو بكر نور الدين علي بن أبي بكر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. دار الكتاب. بيروت. الطبعة الثانية 1387هـ.










رد مع اقتباس