منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - *«•¨*•.¸¸.»منتدى طلبة اللغة العربية و آدابها «•¨*•.¸¸.»*
عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-02-16, 22:11   رقم المشاركة : 37
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

6. الناصية والتناصية في المعلقات

لقد كثر الحديث عن التناص في العِقدين الأخيرين بين النقاد الحداثيين، والجامعيّين المشتغلين بالدرس الأدبيّ؛ حتى اغتدى جارياً على كلّ لسان، وعالقاً بكل جَنان، ودائراً في المجالس، ومتداوَلاً في المآقط.
ولقد سبق لنا، في كتاباتنا الأخيرة أن تناولنا الحديث عن التناصّ، أو التناصيّة على أصحّ ما ينبغي أن يقابل المفهوم الغربيَ [INTERTEXTUALITE]: إما تنظيراً، وإما تطبيقاً(1)؛ كما سبق لنا أن أحلنا على كثير ممن تناولوا هذا المفهوم السيماءويّ الجميل من الأجانب والعرب(2) جميعاً.
وحين جئنا اليوم نتناول نصوص المعلقات السبع أثار انتباهنا ما في هذه النصوص الشعرية من مواقف متشاكلة على المستوى المضمونيّ، وألفاظ متشاكلة، أو مكررة، على المستوى الشكلي: لدى أولئك وهؤلاء؛ بحيث لاحظنا نسوجاً تعبيرية متشاكلة ومتماثلة. وواصح أن الأول من المعلقاتيين يُفترَض أن يكون هو المؤثّر، واللاحق له هو المتأثر. ذلك هو قانون الزمن، وناموس الإبداع؛ ولا ينبغي أن يدفعه إلاّ معارض مكابر، ومناوئ مغالط. ومن العسير الذهابُ إلى أن مثل هذه الأمور تندرج ضمن إطار ما كان يطلق عليه في النقد العربي القديم"وقوع الحافر على الحافر"؛ ذلك بأن المعلقاتيين السبعة، كما كنا حققنا ذلك في مقالة ضمن هذه الدراسة، كانوا متعاصرين جميعاً؛ فكانوا يشكّلون مدرسة شعرية واحدة...
وقبل أن ننزلق إلى تناول هذا الموضوع الذي اختصصنا به هذه المقالة، نودّ أن نومئ إلى نصّ لأبي عثمان الجاحظ عثرنا عليه في قراءاتنا إياه؛ ونحسب الناس لم يحيلوا عليه، ولا نبهو إليه، ولا احتفلوا به، وهو -من بين النصوص النظرية، التي كنا أومأنا إليها في مقالة لنا بعنوان"فكرة السرقات الأدبية ونظرية التناص" [ونشرناها في مجلة"علامات"، بجدة، 1991]؛ وهي: لعبد العزيز الجرجاني، ولجملة من النقاد العرب الأقدمين الآخرين(3)- تنبّهُه إلى أن الشعراء عالات على بعضهم بعض، وأن الإبداع الذي به يتبجحون قد يكون نسبياً جداً؛ إذ"لا يُعلم في الأرض شاعر تقدم في تشبيه مصيب تام، وفي معنى غريب عجيب، أو في معنى شريف كريم، أو في معنى بديع مخترع؛ إلاّّ وكلّ من جاء مَن الشعراء، من بعده أو معه، أن هو لم يَعْدُ على لفظه فيسرق بعضه أو يدّعيه بأمره: فإنه لا يَدَعْ أن يستعين بالمعنى، ويجعل نفسه شريكاً فيه، كالمعنى الذي تتنازعه الشعراء فتختلف ألفاظهم، وأعاريض أشعارهم، ولا يكون أحدهم أحقَّ بذلك المعنى من صاحبه..."(4).
ومثلُ هذا النصّ النقديّ العجيب هو الذي كان يحملنا، دَوْمَاً، على الانطلاق من التراث نحو الحداثة، أو من الحداثة ولكن بالاستناد إلى التراث؛ وذلك على أساس أنّ التراث النقديّ العربيّ، غنيّ بالنظريّات والآراء النقديّة... والذين يكابرون فيتحاملون على هذا التراث لا يَعْدُوَن أن يكونوا واحِداً من اثنيْن: إمّا لأنَّهم يجهلون هذا التراث، وإمّا لأنهم، لبعض ما في قلوبهم من مَرَضٍ، يمقتونه فيقعون في المكابرة. ولاحجّة لهم في الحاليّن، ولا سَدَادَ لرأيهم في الطوريْن.
فأبو عثمان، هنا يُؤَكِّدُ أنّ هناك معانِيَ مشتركةً، أو اغتدت مشتركة، بفعل تكالب الشعراء عليها، ولهجهم بها، واحتفالهم عليها؛ فإذا لا دَيَّارَ منهم أحقّ بذلك المعنى من صاحبه. ولنلاحظْ أَنَّ الجاحظ لم يقع فيما كان يسمّيه النقاد الأقدمون، وخُصوصَاً عَلِيَّا الجرجانيّ،"السرقات". إنّ هذا المصطلح الأخلاقيّ، القضائيّ مزعجٌ ومُؤْذٍ، ولايستقيم به الطريق للنقد في أيّ عهد ، إذْ كانت السرقة أمراً محرَّماً، وسُلوكاً مشنّعاً، في كلّ الأديان والشرائع والقوانين الوضعّية، والحال أنّ الأديب كثيراً ما لايتعمّد، بالتجربة والممارسة، هذه السرقة، ولا يقصد إليها؛ وربّما لا يريدها أصلاً؛ ولكنّ سلوكه يكون، في الغالب، من باب وقوع الحافر على الحافر؛ أو من باب تشابه المواقف فتتشابه معها الألفاظُ: كالبكاء على الأطلال، وكالنوح على الديار، وكالحنين إلى الربوع الدارسة، وكالوقوف على الدِّمَنْ البالية. وتماثل العواطف كحبّ الشعراء لحبيبات كنّ يعشن في تلك الديار التي لم يبق لهم منها إلاّ آثارُها، بعد أن تَحَمَّل عنها أهلها، وزايلَها أصحابُها... فقد كان واقعاً اجتماعياً محتوماً، وكان على الشعراء أن يخوضوا فيه، ويصوّروا تجاربهم من حوله. ولم يكن من المنصف أن يسكت اللاّحقون عنه، لمجرّد أن السابقين تناولوه...
إنّ الجاحظ، إذن، رفض، ضمنيّاً، مصطلح السرقات وأثبت أنّ هذا المصطلح غيرُ سليم، وهو إذن غيرُ مقبول. ولا نعرف شاعراً مُغلِقاً، ولا خطيباً مِصْقَعاً، ولا مترسِّلاً مُفَوَّهَاً: سَطَا، متعمِّداً، على آثار مَن سَبقه من الأدباء فسرقها علانية؛ وقلّدها من باب العيّ والعجز، والبَكاءة والفَهَاهة.. فإنّما كان الفصحاء الأبْيِنَاءُ ربما جال بِخَلَدِهم بعضُ نسوجِ سَوَائِهِمْ فرَكَضَتْ على أَلسنتهم وهم يخطبون، أو جرت علىأقلامهم وهم يكتبون ولا ينبغي لِسُرَّاق الأدب والأفكار أن ينضووا تحت لواء المتناصّين. فكلُّ سارق ساطٍ؛ ومَن كان ساطياً سارقاً كيف يمكنه أن يكون كاتباً أدبياً؟ فالمسألة محسومة من أصلها إذن. والأمر يجب أن ينصرف إلى التناصّ، أو التّكاتُب الذي هو سلك تأثيريٌّ تأثُّرِيٌّ معاً، وفاعِليٌّ تَفَاعِليٌّ جميعاً: بين كبار الأدباء... أمَّا السرقة الأدبيّة فلا يَعْمِدُ إليها إلاّ صغارُ النفوس، والمحرومين مِمَّن لم يخلقهم الله ليكونوا أدباء فتحدَّوْا إرادته، وحاولوا أن يَكُونُوهُمْ فأمْسَوْا من الخاسرين.
وقد لاحظنا حين جئنا نقرأ الشعر الجاهليّ بِعَامَّة، والمعلّقات بخاصّة، أنّ تأثير امرئ القيس فيمن عَداهُ من الشعراء العرب الأقدمين واضح ظاهر. ويبدو أنّ الشعراء الأقدمين لم يكونوا يتحرجون في تناول بعض الأَبَايِيتِ، أو مصاريع منها، أو أجزاء من مصاريعها، على سبيل التضمين، أو قل بلغة العصر على سبيل التناصّ؛ فإذا الواحِدُ منهم لا يرعوى عن أن يكرّر ما كان قاله سَوَاؤُهُ، دون أن يُلْفِيَ في ذلك حرجاً أو حُوباً.
ويمكن أن نمثّل لبعض ذلك في مقدّمة هذه المقالة من آثار امرئ القيس في الشعر العربي: جاهلِّيه، وإسلاميِّه، وأُمَوِيّه، دون إعنات النفسْ في متابعة ذلك إلى أزمنة أخرى متأخرة، أو إلى شعراء آخرين، على العهود الأولى للشعر العربيّ.
فهل يمكن، نتيجة لذلك، عَدُّ امرئِ القيس ناصّاً، ومعظم الشعراء الباقين في الجاهلية، وصدرٍ من عهد الإسلام، متناصّين معه، مُعْجَبِين به؛ محاكين له؟ فعلى الرغم مِنْ أنّ امرأ القيس نفسَه يعترف بأنه، هو أيضاً، تناصَّ مع امرئ قيسٍ آخَرَ، يُدْعَى ابْنُ حُمَام(5) حين زعم أنه هو الذي كان بكى الديار من قبله(6)، بل زعمت كَلْبٌ أنّ الخمسةً الأبياتَ الأولى كلّها من معلّقة امرئ القيس هي لابن حُمام(7): فإنّ معظم الشعراء على عهد الجاهلية خصوصاً، بل شعراء العهود المتأخرة، ظلّوا يتناصّون معه في وصف الديار، وفي وصف النساء، وفي وصف الخيل، وفي وصف الليل، وفي وصف المطر... فمنهم من كان يتعلّق به جودةً، ومنهم من كان ينأى عنه ولا يزدلف منه.
ولو لم يكن امرؤ القيس أميناً حين أومأ إلى هذا الشاعر المنقرِض السيرةِ، والذي لا يعرف عنه النقادُ الأقدمون شيئاً، ولا سَمِعُوا "شعره الذي بكى فيه، ولا شِعْراً غير هذا البيت الذي ذكرَ امْرؤُ القيس" (8)، لَمَا عُرِفَ ابْنُ حمام هذا بين نقّاد الشعر الأقدمين باسمه على الأقلّ.
والحق أنّ عبارة ابن سلاّم الجمحي تفتقر إلى نقاش، لأنّ قوله: "غير هذا البيت الذي ذكر امرؤ القيس" : يفهم منه أنّ امرأ القيس ذكر فعلاً بيتاً من الشعر لامْرِئِ القيس بن حُمام، يقول امرؤ القيس في مطولته الشهيرة:


أَلا عِمْ صَباحاً أيُّها الطَّلَلُ البَالِي



وهل يَعمِمَنْ مَن كان في العُصُرِ الْخَالي؟



ويقول عنترة:

يا دَارَ عَبْلَةَ بالجَوَاءِ تَكَلِّمِي



وعِميِ صَباحاً، دَارَ عَبْلَةَ، واسْلَمِي



ويقول زهير
*أَلا أنْعم صباحاً أيُّها الربْعُ واسْلَمِ*
وعلى أنّنا سنعالج، بعد حين، ما يتمحّض للتناصّ في المعلقات.
ويقول امرؤ القيس:

وجِيدٍ كجيدِ الرئم ليس بفاحشٍ



إذا هي نصًّتْه، ولا بمُعَطَّلِ



ويقول قيس بن الخطيم:

وجيدٍ كجيدِ الرئم حالٍ يَزِينُهُ



على النَّحْرِ منظومٌ وفصل زبرجَدِ (11)



ويقول امرؤ القيس:

فبات عليه سرْجُه ولِجامُه



وبات بعيني قائِماً غيْرَ مُرْسَلِ



ويقول الراعي:

فبات يُريِه عِرْسَهُ وبَنَاتِهِ


وبَتُّ أُراعي النجمَ أيْنَ مَخَافِقُه؟ (12)


ويقول امرؤ القيس:

أَلا أيُّها الليلُ الطويلُ ألا انْجَلِي



بصُبْحٍ، وما الإِصباحُ منك بِأَمْثَلِ



ويقول الطرمّاح بن حكيم الطائي:

أَلا أَيُّها اللَّيْلُ الطويلُ ألا أصْبِحِ



بِبَمَّ، وما الإْصْباحُ مِنْكَ بِأَروحِ (13)



ويقول امرؤ القيس:

أغرّكِ منّي أنّ حُبَّكِ قاتِلي



وأَنَّكَ مَهْما تَأْمُرِي القَلبَ، يَفْعَلِ



ويقول جرير:

أغرّك مِنّي أَنَّما قاَدَني الْهَوَى



إليك، وما عَهْدٌ، لَكُنَّ، بِدَائِم(14)؟



ويقول امرؤ القيس:

قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ



بسِقْطِ اللِوّى بين الدَّخولِ فَحَوْمَلِ



ويقول عمرو بن الأهتم التميمي:

قِفا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ وأطْلالِ



بذي الرَّضْمِ، فَالرُّمَّانَتَيْنِ فأَوْعَالِ(15)



ويقول امرؤ القيس:
*فَمِثْلِكِ حُبْلَى قدْ طَرقْتُ ومُرْضِعٍ*
ويقول قيس بن الخطيم:
*ومِثْلكِ قَدْ أَصَبْتُ لَيْسَتْ بِكَنَّةٍ* (16)
ويقول امرؤ القيس:
*كأنّي غداةَ البَيْنِ يومَ تَحَمَّلُوا*
ويقول بشر بن أبي خازم:
*وكَأَنَّ ظَعْنَهُمُ غَداةَ تَحَمَّلُوا* (17)
ويقول امرؤ القيس:

فيالَكَ من لَيْلٍ كَأَنَّ نُجومَه



بأَمراسِ كتّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ (رواية الزوزني).



ويقول الأعشى:

كأن نُجومَها رُبِطَتْ بِصَخْرٍ



وأَمْراسٍ تَدُورُ وتَسْتَزِيدُ(18)



ويقول امرؤ القيس:
*فَمِثْلِكِ حُبلْى قد طَرقْت ومُرْضِعٍ
ويقول الأعشى:
*فَمِثْلِكِ قَدْ لَهَوْتُ بَها، وَأَرْضٍ*(19).
ذلك، وأنه استرعى انبتاهَنا جملةٌ من الظواهر في هذا التناصِّ الذي قصَصْنا أثرَه في نصوص المعلّقات السبعِ قصاً لطيفاً حتَّى وقع لنا منه طائفةٌ صالحة، ومقادِيرُ وافِرَةٌ: فَوَفَر لنا منه ما نطلق عليه اللّغة المشتركة، أو التناصّ اللفظيّ؛ وما نطلق عليها التناصّ النسجي؛ وما قد نطلق عليه التناصّ الذاتي؛ وما قد نطلق عليه التناصّ المضمونيّ. ونعالج في هذه المقالّة كلّ هذه المستويات من التناصّ الذي يَحْكُمُ علاقاتِ التفاعُلِ بين المعلّقات السبع.
المستوى الأول: التناصّ اللفظيّ
ونحن نقرأُ نصوص المعلّقات، ونعيد قراءَتَها مُرُوراً كِثَاراً -لم نتمكّن من تَعدادها- :اسْتُبَان لنا أنّ هنَّاك ألفاظاً كثيرةً وردَتْ لدى ناصِيّنَ فتداوَلَها آخرون متناصِيّنَ معها، معجبين بها، مُحاكِين لها، وقد لا يعود ذلك، في رأينا، إلى قصور في المخزون اللغويّ لدى هؤلاء، أو لدى أولئك؛ ولا إلى ضيقٍ في الأفق الخياليّ، ولكن إلى انضواء المعلقّاتيّين من حول مسائَل متقاربَةٍ، حتّى إنهم كانوا يتعمّدون التقارب فيها، أو التناصّ من حولها.
وعلينا، أثناء ذلك، أن نعترف بأنّ الشعراء السبعة كانوا يعيشون في بيئة واحدة، متشابهة ومتناظرة، وفي عصر واحد لم يكد يجاوز قرناً واحداً: قيلت فيه هذه الروائع السبع التي ظلّت نموذجاً رفيعاً تحتذيه الشعراء طوال عمر الأدب العربي البالغ، الآن، ستّة عشر قرناً...
ولكن لماذا التناصّ اللفظي؟
لقد عقدنا له هذه الفقرة من البحث لأنّنا نعتقد أنّه يمثل المادّة الأولى التي كان المعلقّاتيّون يغترفون منها، ويبنون قصائدهم عليها. وإنّ مثل هذا السعي الذي ينهض على الملاحظة، ثم الإحصاء، سيسمح بتمثّل الاهتمامات المشتركة التي كانت تجمعهم، كما تجسّد ما يمكن تسميتُه بوحدة التصورّ للأشياء والعالَم. فتشابُه اللغة وتماثُلُها يَدُلاَّنِ على تشابه الخيال وتماثله.
وبمقدار ما تتشاكل اللغة وتتماثل لديهم، بمقدار ما سيسمح ذلك بإعطائنا فكرة عن منشغلاتهم، وصورة عن منطلقاتهم الشعريّة.
إننا نتمثّل اللغة التي يبني منها، أو بها، الشعراء قصائدهم، في كلّ عصر وفي كلّ مصر، بمثابة الألوان الزيتيّة التي يبني منها الفنّان المُلْهَمُ لوحَته بريشته السَّخِيَّة.
ولكن علينا، وهو ما سنفعله، محاولة تأويل طغيان مادّة لغويّة بعينها على مادّة أخراةٍ، وذلك بعد استعراض أهم الموادّ اللغويّة بين معلّقاتيَّيْنِ اثنَتيْن أو أكثر(20). وإنَّا نتحلّـل، سلفاً، من عدم متابعتنا، بدقّة دقيقة، واستقراء شامل، لكلّ ما هو مشترك من اللغة بين المعلّقاتيين. ولعلّ ما سنقدّمه، في هذه المقالة، أن يكون مجرّد انتقاء، لا إحصاء شامل. فذلك، إذن، ذلك.
الحقل الأوّل للتناصّ اللّفظيّ:
الطَللُ والرسم والدار والمنزل وما في حكمها

مق:
  1. قِفا نَبْكِ من ذِكْرى حبيبٍ ومَنْزِلِ <LI value=1>فتوضِحَ فالْمِقْراةِ لم يَعْفُ رسْمُها <LI value=1>تَرَى بَعَرَ الأرِآم في عَرَصَاتها
  2. فهَلْ عَنْدَ رَسْمٍ دارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ؟
ط:
  1. لَخَوْلَةَ أَطْلاَلٌ بِبُرْقَةَ ثَهْمَدِ
ل:
  1. عَفَتِ الدِيَارُ مَحَلُّها فَمُقامُها <LI value=1>فَمَدافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُها <LI value=1>دِمَنٌ تَجَرَّمَ بَعْدَ عَهْدٍ أَنِيسها حِجَجٌ <LI value=1>وجَلاَ السُّيولُ عنِ الطُّلولِ كَأَنّها زُبُرٌ <LI value=1>فوقَفْتُ أسأَلُها وَكَيْفَ سُؤَالُنا؟ ...
  2. عَريَتْ وكان بها الجميعُ فأَبْكَرُوا
ز:
  1. أَمِنْ أُمِّ أوفى دِمْنَةٌ لَمْ تَكَلَّمِ؟ <LI value=1>ودارٌ لها بالرَّقْمَتَيْنِ كَأَنَّها مَراجِعُ وَشْمٍ <LI value=1>فَلأَيّاً عَرْفتُ الدارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ
  2. أَلاَ أنْعِمْ صَبَاحاً أَيُّها الرَّبْعُ واسْلَمِ
ع:
  1. أَمْ هل عرفْتَ الدارَ بعد تَوَهُّمِ؟ <LI value=1>يا دارَ عبْلَةَ، بالجَواءِ، تَكَلَّمِي <LI value=1>وعِمي صباحاً، دَارَ عَبْلَةَ، واسْلَمِي <LI value=1>فوقفْتُ فيها ناقَتِي وكَأَنَّها فَدَنٌ <LI value=1>حُيِّيت مِن طَلَلٍ تقادَمَ عهْدُهُ
  2. أقوى وأقْفرَ بَعْدَ أمِّ الهيْثَمِ
ح.ح :
  1. فأدْنى دِيارَها الْخَلْصَاءُ
  2. لا أَرّى مَنْ عهِدْتُ فيها، فَأبْكِي...
إنّنا، من خلال عرْض لبعض هذه التناصّات الماثلةِ في مستوى اللغة-وقل إن شئت في مستوى اللفظ- أن أكثر المعلّقاتيّين تمسُّكاً بالديار، وبكاءً على الآثارِ، هما: لبيد وعنترة بستّة تَواتُرَاتٍ، لكلّ منهما. بينما نلفي زُهيراً يستبدّ بالمنزلة الثالثة بخمسٍ مراتٍ، من حيث يتبوَّأُ امرؤُ القيس المنزلة الرابعة بأربعة تَواتُراتٍ. ويأتي الحارث بن حلّزة في المرتبة الخامسة بتناصَّتيْنِ اثنتين فحسب. واجتزأ طرفة بتناصَّةٍ واحدة في المرتبة الأخيرة.

وقد جاء التَّناصُّ المنصِرفُ إلى ذِكْرِ الديار، والبكاء على الآثار، انعكاساً طبيعياً للخيال الجاهليّ الذي كان مقصوراً على التفكير، لدى الشعراء بعامّة، والمعلقاتيّين بخاصّة، في تلك الديار المقفرة، والرسوم البالية، والربوع الخالية؛ بعد أن تحمّلت عنها الحبيبة وَيَمَّمَتْ إلى حيث لا يكاد يَدْرِي إِلاَّ أَهْلُ حَيِّها. وكانت العلاقات الاجتماعيّة من الانغلاق، ووسائل النقل من البدائيّة، ما كان يجعل من العسير متابعة الحبيبة، والتمكّن من رؤيتها تارة أخراةً، بلْة الاستمتاعَ بجمالها، والتَّمِلّيَ بِبَهَائها.
لقد كان مثل ذلك الوضع الراكض في نَفَقٍ ضيّق، وفي حيز محدود الآفاق، على السِّعَةِ الجغرافيّة، عاملاً قويّاً على شيوع البُكائيات، وظهور ما يعرف بالطَليّات، تقليداً شعرياً في بناء القصيدة العربية الأولى، كما بلغَتْنا على الأقل. وإلاّ فماذا كان على الشاعر أن يأتي من الأمر وَقَدْ فَقَدَ الحبيبة، وأَضاعُ مُتَّجَهَ حَيِّها: غَيْرَ هذا البكاءِ، وغيرَ الوقوفِ على ديَارها، وغيرَ تأمُّلِ رسْم طُلولِ حيّها، وتشبيهه بوشم اليد البالي طوراً، وبالكتابة الشاحبة طوراً آخر: وقد عَرَّتَّهْا السيول الجارفة، أو عرّتّها الرياح العاصفة من رمالها التي كانت تغمرها...؟
إنّ طغيان هذه التناصّات يَسْتَبِينُ لنا كيف كان المعلّقاتيّون متمسّكين بهذه البِنْيَةِ الفنيَّة التي أسّسها، غالباً، شعراء قبل امرئ القيس، من بينهم امرؤ القيس بن حُمام؛ ولكنّ أشعارهم ضاعت وبادت؛ فإذا القصيدةُ الجاهليّة تتأسَّسُ على عهد الْمُهَلْهِلِ وامرئ القيس(21)، كما سلفت الإشارة إلى بعض ذلك، في مطلع هذه المقالة. وإذا معلقةُ امرِئِ القيس تصادف رواجاً عجيباً بحيث اغتدت القصيدة العربيّة الأولى، وأساس الأدب العربيّ لدى الناشئة والجامعيّين معاً؛ بحيث يكون أكثرَ الشعراءِ العرب محفوظيّةٍ على وجه الإطلاق؛ وإذا كلُّ عربيّ، في المشرق والمغرب، يردّد مع صدى الدهر، وصوت الزمن:
*قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكرْى حَبيبٍ ومَنْزِلِ*
وإذا المتنبيّ، وعلى الرغم من أنّه تنبَّأ بأنّ الدهر لن يكون شيئاً غيرَ رُواةِ قصائِدِه، قد يكون آتِياً في المرتبة الثانية بعد أبي الشعراء العرب امرئ القيس.
والذي يعنينا، هو أنّ امرأ القيس لم يكن في بُكائه الأطلالَ ناصَّاً، ولكنه، هو أيضاً كان مُتناصاً مع ابن حُمام الذي، فيما يَبْدُو، كان متناصَّاً هو أيضاً، مع شعراء بَادُوا؛ ولم يكن لهم من الحِظَةِ ما جعل الدهر يحتفظ لنا بأسمائهم وأشعارهم؛ فضاع وجه كبير من التاريخ في ظلام الأميّة والتخلّف والبَّداوة والفِتَنِ والإِحْنِ والحرُوب والكوارث الطبيعيّة المُدْلَهِمَة...
أمّا وقد ضاع تاريخُ الشعر الجاهليّ، مما كان قبل عهد امرئ القيس، فليس لنا إلاّ الإذْعانُ للأمر الواقع، واعتبار هذا الشاعر العظيم أبَّاً للشعر العربيّ؛ وإذن فكل التناصّات التي عرضْناها لديه، ثمّ لدى المعلّقاتيّين ممّن عاصروه أو تعقبّوه زَمَناً: جاءت من تأثيره فيهم، وكانت من وقوعهم تحت سلطان إعجابهم به، واعترافهم له.
وإذا كنّا ألفينا معلّقة عمرو بن كلثوم تخلو من هذه التناصّات التي اشترك فيها زملاؤه، والمنصرف إلى الديار المقفرة، والأطلال الخالية؛ فلأنّه، في رأينا، ليس شاعراً بالمعنى الاحترافيّ؛ ولكن المناسبة اقتضت أن يقول شعراً يدافع فيه عن شرفه، ويصّور فيه غضبته الْقَبَلِّيّة لَمَّا أحسّ أنّ كرامته قد أُهينتْ، في شخص أمّه، فقال ما قال. ولم يقل، من بعد ذلك، غير ما قال.
فشعر ابن كلثوم تنقصه الاحترافيّة، والتصويرُ البديع الذي نجده لدى معظم المعلّقاتيّين الآخرين، فكأنّ قصيدتَه خُطْبَةٌ من الشعر، أو كأنّها مجرد قصيدة خطابيّة (ولا يعجبني مصطلح غنائيّة الذي لا معنى لغنائيّته الغائبة بالفعل، وربما بالقّوة، أيضاً) صبّ فيها جام غَضَبِه على عَمْرِو بْنِ هند، وأنحى عليه باللَّوائِم إذْ تعصّب لبَكْرٍ على تغلب، بل أَصْلَت السيف عليه فقتله به... ولمَّا كانت المعلَّقاتُ السِّتُّ البواقِي مشتملاتٍ على هذه التناصّات اللفظيّة فقد اقتضى ذلك أن يكون بمثابة قاعدة كانت تتّبع، وبنية كانت تُبْنَى، وتقليدٍ كان يُقْتَفَى؛ فكان اللاَّحق يتناصُّ مع السابق ويستلهمه في بناء مطلع معلّقته؛ مع اعتراف اثنين من المعلّقاتيّين بذلك: امرئ القيس(الذي اعترف ببعض ذلك في شعره خارج المعلّقة)(22)، وعنترة الذي افتتح معلّقته بالمُساءلة عن جَدْوَى نَسْجِ الشِّعْرِ وقد كان الشعراء من قبله جاءوا على كلّ معنىً، وتناولوا كلّ فكرة، وصوّروا ما عرضوا له ما استقام لهم التصوير:
*هلْ غادر الشعراءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ؟*
وإِنَّمَا عُنِيَ المعلقّاتيون بُبكاء الديار، والوقوف لدى الآثار؛ لأنّ علاقة الحبيبة كانت بتلك الديار حميمة؛ ولأن الشاعر كان كلّما مرّ بديار هذه الحبيبة وهو يشاهدها وقد بَلِيَتْ ودَرَسَتْ، وَأَقْفَرَتْ من أهلها وَخَلَتْ: كان يقف ليذكر في نفسه ذكرياتٍ جميلاتٍ حَييَتْ ثُمَّ بادَت، وعهود من اللَّذاذة والسعادة كانت. ثمّ ذهبت واضْمَحَلَّتْ ، فلَمْ تَعُدْ إلاّ تُوهُّماً في الذاكرة كأنّه لم يكن، على الرغم من أنّه كان، وإلا تصوّرا في المُخَيِّلَةِ كأنه لم يُوجَد في سالِفِ الأزْمان. فأيّ موقف كان أدعى إلى البكاء من موقفه ذاك، في مقامه ذاك؟
فكأن تلك الديارَ المُقْفرة، على إِقفارها وَخُلُوِّهِا من أهلها، هي التي كانت مَصَدراً لإلهام أولئك المعلّقاتييّن. وكأنّ الْقَفْر كان وراءَ وجودِ الشعر. وكأنّ الجمال الفنّيّ البديع الذي تطفح به هذه المعلقات، في معظمها، كان مصدرُه تلك الديارَ المقفرة، والربوع البالية، والرسوم الدارسة. وكأنّ الحياة التي ينبض بها ذلك الشعر نشأت عن الموت الذي كان أصاب تلك الديار. بل كأنّ ذلك الضجيج الطافح الذي كانت تجلجل به أصواتُ المعلقّاتيّين إنما كان مصدَرُه ذلك الصمتُ المطبقُ على تلك الديار.
لكن ماذا نقول؟ وهل يُعْقَلُ أن يكون الموتُ مصدراً للحياة، لولا أنّ الحياة التي كانت من قبل في تلك الديار هي التي ظلّت تمدّ المعلقاتيّين بينابيع الإلهام، وَتُزَيِّنُ في أنفسهم ملذّات الذكرى: فتتفجّر أشعاراً لم يعرف تاريخ الشعر العربيّ لها مثيلاً في جمالها...؟
لقد كانت الدار، إذن، وما في حكمها، مصدراً من مصادر الإلهام للشاعر الجاهليّ لأنها هي التي كانت تُؤْوِي الحبيبةَ الظاعنة عنها، ثمّ لأنّ الشاعر نَفْسَه، رُبَّما، كان ثَوَى بها زَمَناً ما، أو أَوَى إليها عَهْداً ما؛ ثم، لأنها كانتْ مجتمعَ العشيرةِ، ومُلْتَقى الأحبَّة، وَمَوْطِنَ الأفراح، وَمَسْقِطَ السَّعادة واللَّذَّات، فاستأثرَتْ بالاهتمام، واستبدَّتْ بالحبّ والحنين العارم.
الحقل الثاني للتناص اللفظي:
الماء والمطر وما حكمها
وقد لاحظنا أنّ هناك حقلاً آخرَ مشتركاً بين المعلّقاتيّين في المعجم الفنّي لديهم تناصُّوا فيه، وتداولوا عليه، وهو الماء والمطر والرَّعد وما في حكم هذه المعاني حيث نلفيهم إمَّا أَنْ يَتَمَاثلُوا، وإمَّا أن يتقاربوا، وإمَّا أن يتشابَهُوا في استعمال ألفاظ هذه المعاني مثل استعمال امرئِ القيس للوَبْل، والسيل، والغَرَق (من آثار الأمطار)، والصَّوْبِ (المطر)، والسَّحِّ، والمَاءِ والنَّفْيَانِ(تطاير قطرات المطر):
1. كأَنَّ ثَبِيراً في عَرانِينِ وَبْلِهِ
2. من السَّيْلِ والأَغثْاء فَلْكَةُ مِغْزَلٍ
3. وألْقَى(المطر) بصحراءِ الغَبيطِ بَعَاعَهُ
4. كأنَّ السِّباعَ فيه غَرْقى عَشِيَةً

5. فأضحى يَسُحُّ الماءَ حَوْلَ كُتَيْفَةٍ


6. على قَطَنِ بالشَّيْمِ أَيْمَنُ صَوْبِهِ



من حيث نلفي لبيداً يصطنع ألفاظاً تركض هذا المَرْكَضِ، وتتناول هذا الحقل؛ وذلك مثل الوَدَق، والجَوْد، والرِّهَام، والغَادِ، والمَدافِع، و(القَطْر) المُتَواتِر:

1. وَصَابها


ودْقُ الرَّواعدِ جَوْدُها فَرِهامُها



2. مِنْ كُلِّ ساريَةٍ وغَادٍ مُدْجِنٍ
3. وَعَشيَّةٍ متجاوِبٍ إرّزامُها
4. فَمَدافِعُ الرَّيّانِ عُرّيَ رَسْمُها
5. يَعْلُو طريقَةَ مَتْنِها مُتَواتِرٌ
بينما ألفينا عنترة يستعمل ألفاظاً قريبة من هذه، وذلك مثل العين(أو البِكْر: السحابة الممطرة)، والسَّحّ (ويلتقي في استعمال هذا اللفظ مع امرئ القيس)، والتَّسْكاب، والماء الذي لم يتصرّم (والذي يلتقي في استعماله مع امرئ القيس، وطرفة، وزهير)، والغيث:

1. تضمّن نَبْتَها



غَيْثٌ قِليلُ الدِمْنِ ليس بمُعْلَمَِ



2. جادَتْ عليْها كُلُّ بِكْرٍ حُرَّةٍ
3. سَحّاً وتَسْكاباً...

4. فكُلُّ عَشِيَّةٍ


يَجْري عليها الماءُ لم يتصرَّمِ



على حين أننا نجد زهيراً وطرفَةَ يجتزئانِ باستعمال لفظ الماء:
* فلمّا ورَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمامُه
*يَشُقُّ حَبابَ الماءِ حَيْزومُها بِها.
تقوم التناصّات، هنا، بين المعلقّاتيّين السبعة على مادّة لغوية تركض في سياق المادّة اللغويّة الأولى التي كنّا جئنا على تحليلها؛ والتي كانت تضطرب حَوالَ الديار الخالية، والطلول البالية، والرسوم الدارسة التي لم يكن القصدُ من ذكرها وتردادها، على نقيض ما قد يتصور بعض الناس، التقبيحَ أو التهجينَ؛ ولكن كان من باب الحنين إلى ذكريات مَضَتْ فيها، وإلى سعادة ارْتُشِفَ رحيقُها-بين أحيائها- في مَأَمَنٍ من غوائل الدهر، وفي غفلة من الحُسّاد والعُذّال.
فذكر الطلول يندرج ضمن جماليّة الشعر الجاهلي بعامّة، ومطالع المعلّقات السبع بخاصة. ولم يكن ذِكْرُ الدّيار إلاّ مدرجةً لساكنات الديار. ولم يكن تَأَوُّبُ الطلولِ إلا استئناساً بِمَنْ كُنَّ فيها من حبيباتٍ أَيْمَا شعورُهن فسودٌ طويلاتٌ، وأيْمَا شِفاهُهُنَّ فحُمْرٌ رقيقات، وأيْما قدودهُنَّ فرشيقاتٌ ممشوقاتٌ...
تقوم التناصات، هنا، إذن على الماء الذي هو أحد مقوّمات جماليّة الحيز الذي كان يَمْثُلُ في تلك الرسوم والطلول، وفي تلك الديار والآثار. فإنما تكتَمِلُ جمالِيَّةُ الحيز بوفور الماء، وتَهتان الغيث، وَجَرَيانِ السيول.
لقد كانت الأحياء من العرب لا تفتأ تبحث عن مدافع الماء، وتتوخّى منابعه، وترتاد الكلأ الذي هو ثمرة من ثمراته: فتُقيمُ هنالك ولا تَرِيمُ. كانت الحياة الصحراويّة الجافّة تفرض على قَطِيْنها تَسَقُّط هذه المادِّة الحيويّة واعتبارها أَحَدَ مصادر الإِلهام للشعراء، وإحدى دعائم الحياة للرِّعِاءِ والأَبَّالِينَ. من أجل كل ذلك كانت العرب تدعو لمن تُحبُّه بالسَّقيا: لِمَا في ذلك من مظاهر الحياة الرخيّة، السخيّة، والسعيدة الرغيدة.
وإنما يقيم الناس الدَّورَ والخِيام، والمُدَن والعُمْران، من حول الماء، ولايمكن أن يقيموا ذلك بعيداً عنه، إذا البُعْد عن الماء لا يعني إلاّ الموت. فكلّ جمال، إذن، لا يمكن تصوّره خارج عطاءات الماء.
ولعلّ الدّيارَ المَبْكِيَّ عليها لم تُقْفِرْ من أهلها إلاّ حين نُضِبَ ماؤُها، وَجفَّتْ ينابيعُها، وغارت عيونها، فاضْطُرَّ من كانوا يَثْوُونَها، أو يَثْوون حَوَالَها، إلى التَّظعان عنها التماساً لغدران وعيون أخراة، فزعمنا أنّها مرتبطة بجماليّة الحنين، إنما ينهض على اعتبار ماكانت عليه، لا على اعتبار ماهي عليه كائنة.... ولعلّ ذلك أنْ يُفْضِيَ بنا إلى ربط الماء بالطّلَلِ، على أساس أنّ الطلل حين كان بناءً معموراً، وَسَقْفَاً مرفوعاً، لم يكن ممكِناً نهوضُه إلاَّ على وفور الماء، فكأنّ الطلل إحالَهُ على ماضِ من الماء.
وكأنّ جماليّة الحيز في المعلّقات لا تَمْثُلُ إلاّ في ماضِيَّةِ الماء.
فليس الماءُ مصدراً للحياة فحسب، ولكنه مصدر للجمال أيضاً.
فلا عجب أن ألفينا ألفاظ الماء تتكاثر في المعلّقات وتتغافص في نسْجها؛ فإذا كُلُّ معلّقاتِيّ لا يَعْدَمُ استعمالاً لها ، وإذا شبكةٌ من التناصَّاتِ اللفظيّة تنشأ عن ذلك السلوك اللغويّ بحيث نصادف، كما رأينا، ألفاظاً مائيَّة في هذه المعلّقة، وأُخْرَاةً في تلك....
الحقل الثالث للتناصّ اللفظيّ
الإيلاع باستعمال "كأنّ"
لقد كنا عَرَضْنا لتحليل جمالِيَّةِ التشبيهِ في مقالة أخراة، من هذه الدراسة، غير هذه. وهنا إنما نُعْرِضُ لأداة التشبيه المركَّبة "كأنّ" ليس من باب وظيفتها التشبيهيّة، ولكن من حيث وظيفتُها التناصِيَّةُ. ولكن لما كَلِفَ المعلقّاتِيُّون بهذه الأداة التشبيهيّة من دون سَوَائِها؟ لَعَلَّ ذلك أنْ يَرْجِع إلى جمالها المتمثّل في رصانة إيقاعها، بالإضافة إلى ذلك، مركّبة من عنصرين اثنين: أداة التشبيه (الكاف)، وأداة التوكيد (أنّ): فكأنّ، كَأَنَّ: ليست أداةً للتشبيه فحسب، ولا أداة للتوكيد فحسب، ولكنها إيّاهُما جميعاً.
ولمّا جئنا نتابع التناصّات التي وقعت في المعلّقات بهذه الأداة (كأنّ - كأنّها- كأنّما- كأنّي- كأنّه- كأنّهما- كأنّا - كأنّهم) لاحظنا:
1- أنّ "كأنّ" هي التي تستبدّ بالتواتُر أكثر من صنواتها اللواتي يلحقن بالضمائر أو بـ "ما" الكافّة، وذلكَ بتردادٍ بلغ تِسْعَ عَشْرَةَ مرَّةً من بين زهاء اثنتيْن وأربعينَ حالَ تشبيهٍ.
2- إنّ امرّأَ القيس يصطنع "كأنّ" تسع مرات -من بين ثلاثَ عَشْرَةَ "كأنّةً". بطريقِ الحياد النسجيّ:
1- كَأنّهُ حَبُّ فُلْفُلِ (بعر الآرام).
2- كأَنِّي غَداةَ البَيْنِ (الشاعرُ نفسه).
3- كأنّه أسارِيعُ ظَبْي (بنان صاحبته).
4- كأنّها مَنارَةُ مُمْسَى راهبِ (صاحبته).
5- كأنّ نُجومُه بأمراس كَتَّانِ (الليل).
6- على الذبل جيّاش كأنّ اهتزامَه (تَكَسُّرَه) (الفرس).
7- كأنّ على المتنيْن منه إذا انتحى) مَدَاكَ عَرُوسٍ... (الفرس).
8- كأنَّ دِماءَ الهادياتِ بنَحْرِهِ (الفرس).
9- كأنَّ نِعَاجَه عَذَارَى دَوَارٍ (سِرْبَ بَقَرِ الوَحْشِ).
10- كأنّ ثبيراً في عَرانينِ وَبْلِهِ (المطر).
11- كأنّ ذُرَى رَأْسِ المُجَيْمِر غُدْوةً (الأكمَة).
12- كأنّ مَكَاكِيَّ الجِوَاءِ غُدَيَّةً (الطير).
13- كأنَّ السِباعَ فيه غَرْقَى عَشِيَّةَ (السباع).
3- لعلّ الناقة هي التي تستأثر بـ "كأنّ" التشبيهيّة التوكيديّة، وذلك بتواتر بلغ زهاء ثَلاثَ عَشْرَة مَرَّةً. وقد أُوْلِعَ طرفَةُ بذلك فاستعملَها في تشبيهِ ناقتِهِ، تسْع مرّاتٍ وحْدَها:
1- كأنّه ظَهْرُ بُرْجُدِ (أصل التشبيه للناقة).
2- كأنّها سَفَنْجَةٌ (الناقة).
3- كأنّ جَناحيْ مَضْرَحيٍ (نسر أبيض) (وأصل التشبيه للناقة).
4- كأنّهما بَابَا مُنيفٍ ( أصل التشبيه للناقة).
5- كأنَّ كِنَاسَيْ ضَالَةٍ (الناقة).
6- كأنَّها تَمُرَّ بِسَلْمَيْ دالِجٍ (الناقة).
7- كأنَّ عُلوبَ (آثار) النِّسْعِ (الناقة).
8- كأنَّها بَنائِقُ (الناقة).
9- كأنَّمَا وعَى المُلْتَقَى (الناقة).
10- كأنّ حُدوجَ المَالِكيَّةِ (المرأة).
11- كأنَّ الشمس (وجه المرأة).
12- كأنّ البُرِينَ (المرأة حالَ كونها حالِيَةً).
13-كأنّا وضعْناه (يتحدّث عن ابن عمّه).
بينما شبّه بها لبيد ناقته مرتين اثنتين، واصطنعها في معلّقته سِتّ مراتٍ:
1- كأنّها صَهْبَاءُ (الناقة).
2- كأنّها جِنُّ البَدِيّ (الناقة).
3- كأنّها زُبرٌ (الطلول).
4- كأنّها أجزاعُ بيشَةَ (المرأة).
5- كأنّ نعاجِ تُوضِحَ (المرأة).
6- كأنّما هَبَطا تبالَةَ (حيوان).
على حين أنّ الحارث بن حلّزة اصطنع كأنّ أربع مرات في معلّقته، ومنها مرة واحدة للناقة:
1- كأنّها هَقْلَةٌ (الناقة).
2- وكأنّ المنون تَرْدِي بِنَا (البشر).
3- كأنّهم أَلْقَاهُ (اللصوص).
4- كأنّها دَفْوَاءُ (كتيبة).
من حيث اصطنعها عمرو بن كلثوم ثلاثَ مراتٍ، في غير الناقة في المّرات الثلاثِ:
1- كأنّ ثيابَنَا مِنَّا ومنهم (القبيلة).
2- كأنّ غضونَهُنَّ متونُ غَدْرٍ (الدروع).
3- كأنّا والسيوفَ مُسَلَّلات (القبيلة والسيوف).
واصطنعها عنترة مرتين، أحداهما للناقة:
1- وكأنّها فَدَنٌ (الناقة).
2- وكأنَّ فارةَ تاجرِ بقَسيمَةٍ (المرأة).
بينما لم يصطنعها زهير، هو أيضاً، الاّمرتين اثنتين، وفي غير الناقة:
1- كأنّها مراجيعُ وشْمٍ (الطلول).
2- كأنّ فُتاتَ العِهْنِ في كلّ منزل (النساء).
بينما لم تنل المرأة إلاّ تسع مرّات من هذه التناصات الكَأَنِيَّةِ كلّها: توزّعت على ثلاثِ مراتٍ لطرفة، ومرّتين اثنتيْن لامِرْئِ القيس، ومثلهما للبيد، ومرّة واحدة لكل من عنترة وزهير. ونجد هذه الأداة الكَأَنَّية، من بعد ذلك، تتوزّع على طائفة من الموضوعات كالفَرَس بثلاث مرات لدى امرئ القيس، ثم الكتيبة، والسيوف، والدروع، والقبيلة، والإنسان، لدى معلّقاتيّين آخرين.
4- إنَّ امْرَأَ القيس وطرفة هما اللذان يستأثران بالمنزلة الأولى باستعمال كلّ منهما ثلاث عشرة "كَأنَّه". وقد توزّعْت كأنَّاتٌ امِرئِ القيسِ على تسعةِ مواضيعَ هي: الفرس، والمرأة، والأرآم، والشاعر نفسه، وَبنان المرأة، والليل، والمطر، وسِرْب بقر الوحش، والأَكَمَة، والطير، والسباع، ومثل هذا الأمر يجعلنا نقرّر أنّه هو أكثر المعلقّاتيّين توظيفاً لكأنَّ بحيث وزّعها


توزيعاً أُسلوبيّاً، متوازِناً، قائماً على تجديد الموضوع في كلّ تشبيه، وإِغناء نسْجِه بالتصوير الفنّي البديع: كلّما اقتضى ذلك مقتضيات الكلام. بيننما ألفينا الباقين إيمَا أنَّهُمْ كانوا يقفِونها على موضوعين اثنيْن أو ثلاثةٍ غالِباً: طرفة: الناقة والمرأة فقط، وعنترة: الناقة والمرأة أيضاً، فقط، ولبيد الناقة والمرأة، والطلول والحيوان (خارج إطار الناقة)؛ وزهير: الطلول والمرأة فقط؛ والحارث بن حلّزة: الناقة، والإنسان، والكتيبة، واللصوص، وعمرو بن كلثوم: القبيلة، والسيوف، والدروع، وإيمَا أنَّهُم كانوا يصطنعونها في موضوعاتٍ غير مظنونةٍ بالجمال الشعريّ مثل اللصوص والكتيبة، والدروع والحيوان..

وتنهض جماليُّة التناصِّ الكَأنِّي، هنا خصوصاً على موضوعين اثنيْن كانا ذَوَيْ علاقةٍ حميميةٍ بحياة المعلّقاتيّين وعواطِفِهِم وبيئتهم، وهما: الناقة التي كانوا يسافرون عليها، وَيَطعَمُونَ لَحْمَها، ويتاجرون فيها، ويَتَّدُون بها لدى سَفْكِ الدماء... والمرأة التي كانوا يستمدّون سعادتهم من حبّها، والاستمتاع بجَمال جَسدها، فكأَنَّ هذيْن الموضوعين يشكّلان محور هذه النشاط التناصّيّ القائم على توظيف أداة /كَأَنَّ/ في التشبيهات، التي كانوا يُحَلُّون بها نسج الكلام في معلّقاتهم السبعِ.
أمَّا لماذا وظّف المعلّقاتيّون هذه الأداة، وكيف تناصّ بعضهم مع بعض بها، أو قل: كيف تناصّ اللاّحقون بها مع السابقين، بل قل: كيف تناصّ الستة المعلّقاتيّون مع الواحد الذي هو امرؤ القيس: فلعلّ ذلك أن يكوّن لحميميّة علاقة هذه الأداة برسم جماليّة الحيز، ورسم جمالية الحبيبة وما يَحْدَوْدِقُ بها، أو يضطرب من حولها. فما كان تكرارُها لديهم إلاّ تعزيزاً لمظهر جماليّة الحيز الشعريّ، وحرص المعلّقاتيين على الإصرار على وصْفِهِ بهذه الجماليّة، وادّعائها فيه، وإثباتّها له، ووقفها عليه.
وربّما كانت البنية الصوتيّة لأداة كَأَنَّ هي التي حَمَّلتِ المعلّقاتيين على الإكثار من استعمالها دُونَ سَوائِها من أدوات التشبيه مثل الكاف، ومِثْل؛ فقول القائل منهم:
كأنّها، أو: كأنّما، أو كأنَّني، أو:كأنّهُ.. يظاهر على إقامة الشعر بشكلٍ جميل؛ بينما الكاف وحدها، ومِثْل، أيضاً، لا يستطيعان النهوض بما تنهض به كأنّ: حيث إنّ، "كأنّها"، مثلاً تأتي على ميزان: "فَعَلْنَها"، بينما الكاف ومثل لا تتعلّقان بشيء من رصانة ذلك الإيقاع، وغَنائِهِ..
الحقل الرابع للتناصّ اللفظّي:
لفظ الحيّ
لقد ورد ذكر لفظ الحيّ لدى المعلّقاتيين زهاء إحدى عشرة مرة، واستأثر بهذا التناصّ اللفظّيّ خمسة منهم، هم: امرؤ القيس، وطرفة، وزهير، ولبيد، وعمرو بن كلثوم. بينما غاب من معلّقتي عنترة والحارث بن حلّزة:
مق:
1. لَدَى سَمُراتِ الحَيّ ناقِفُ حَنْظَلِ
2. فلّما أجَزْنَا ساحَةَ الحَيِّ وانْتَحَى...
ط:
1. وإِنْ يَلْتَقِ الحَيُّ الجميعُ تُلاقِني
2. كما لامَني الحَيِّ قرطُ بْنُ مَعْبَدِ
ز:
1. لَعَمْري لَنِعْمَ الحَيُّ جَرَّ عليهم
2. لِحَيٍّ حِلاَلٍ يَعْصُم الناسَ أمْرُهُم
ل:
1. ولقد حميت الحَيَّ تَحْمِلُ شَكَّتِي
2. شاقَتْكَ ظُعْنُ الحَيِّ حينَ تَحَمَّلوا
ع.ك:
1. ونحن إذا عمادُ الحَيِّ خَرَّتْ
2. ترانا بارزين وكُلُّ حَيٍّ
3. وقد هَرَّتْ كِلابُ الحَيِّ منّا.
ولقد نلاحظ أنّ لفظ الحيّ ذُكِرَ غالباً في معرض تصوير جماليّة الحيز الشعريّ المرتبط إمّا بالحبيبة، وإما بِطَلَلِهِا، وإمّا بديار القبيلة التي تنتمي إليها. وعلى الرغم من اختلاف توظيف هذا اللفظ حين نُذِيبُه في سياقهِ، ونصبّه في مرجعيّته الاجتماعيّة؛ فإنّه، مع ذلك ظلّ محافظاً على الدلالة العامة المرتبطة إمّا بالقبيلة وشرفها، وإمّا بالحبيبة وهواها.
وقد وظّف كلّ معلّقاتِيٍّ، هذا اللفظَ الجميلَ، الدّال على الحياة والحركة والعمران والتلاقي والتعاون و التضافر، فيما يلائم روحه ويُوائِم نفْسَه، ويتفق مع نظرته إلى الحياة، وتجربته فيها: فامرؤ القيس يوظّفه في حَيْرَته السامدة الناشئة عن تحمّل الحبيبة وأهلها عن الحيّ الذي كان يشهد ساعات النعيم لديه تارة، وفي تخلّصّه وحبيبته من الرقباء والمترّبصين به إلى حيث يصادف اللذة والمتاع تارة أخراة، فلفظ الأوّل، لديه يشهد على مأساة حبّه، وعذاب بَيْنِه، وَنَكَدِ سَعْدِهِ. على حين أنّ لفظ الحيّ الآخرَ يدلّ على تخلّصه من حيزه، ليُلْفِيَ، خارجه، نعيماً وسعادة مع تلك المرأة الحسناء التي يصفها بأبدع الأوصاف وأرّقها وألطفها وألذّها غزليّةً في الشعر الجاهليّ. فالحَيُّ الأوّل لديه مواطن للحَيرة والبكاء والعذاب، بينما الحيّ الآخرُ كان مَدْرَجَةً إلى حيز آخر يظفَرُ فيه النّاصُّ بأجمل اللحظات، وألذِّ السعادات.
بينما لا يكاد يخرج لفظ الحيّ لدى المعلّقاتيّين الآخرين عن معنى العَشِيرة، أو قَطِيِنِ الحيّ ورجالاتِه، كما يَمْثُلُ ذلك لدى طرفة وزُهيرُ ولبيد وابن كلثوم، فالحيّ لدى الناصّ الأوّل يجسد جماليّةً طافحة، ولدى المتناصّين معه يمثل مجرد بَشَرٍ يَحْرَنْجِمُوَن في صعيد واحدٍ من أجل الحياة. فالحي لدى النَّاصّ الأوّل -امرئِ القيس- حيز شعريّ طافح بالحركة والجمال، بَيْنَمَا هُوَ لدى الآخرين لا يكاد يجسد ألاّ أحْياءً لا خصوصيّة لهم، ولا جمال في حياتهم.. فكأنّ الحيز مُجسّداً في لفظ الحيّ يَمْثُل لدى امرئِ القيس الشعريّة، ويمثّل لدى أضرابه الاجتماعيَّةَ. وإذا تأمَّلْنا، في الحاليْن الاثنتيْن، المَواطن التي وُظِفَ فيها لفظ الحيَّ استبان لنا أنّ هذا المعنى ينضوي تحت جماليّة الحيز، حيز الحبيبة لدى امرئ القيس ولبيد، وأحياز القبيلة لدى المعلّقّاتيّين الآخرين.
الحقل الخامس للتناصّ اللّفظيّ.
البكاء والدمع ومافي حكمهما
لقد لاحظَنا أنّ أيّاً من المعلّقاتيّين لم يَكْلَفْ بتَرداد لفظ البكاء، ومايدلّ عليه، مثل ماجاء ذلك امرُؤُ القيس الذي تواتَرَ لديهِ زهاءَ سَبْعِ مرّاتٍ، بينما لم يتناصَّ معه في هذا البُكى إلاّ الحارِثُ بِذْكْرِ البكاءِ مرتيّن اثنتيْن فَقَطْ. وكأنّ امرأَ القيس كان يجسّد القصيدة العربيّة الأولى بامتياز، وكأنّ سلوك البكاء الذي كان يجيئه قبلَهُ امرؤ القيس بن حُمام، كان عالقاً بذاكرتهِ مترسّباً في نفسه، جارياً على لسانهِ، فلمّا جاء يُنشئ هذه المعلّقة العجيبة لم يستطع التخلّص من تلك الترسّبات التناصّية التي كانت تُفْعِمُ نفْسَه، وتملأُ قلبَه؛ فكان من أمره ماكان.
إنّ الأمّر المحيّر في هذه المسألة أنَّ امرأ القيس هو الذي يُولِي العناية الفائقة للبكاءِ فيردّده صراحة في مطلع معلّقتهِ، بينما الآخرون، ماعدا لبيد، يقفون على الطلول والديار، ولكنهم لا يبكونَّها. أجاؤوا ذلك لأنّهم لم يكونوا يُحِبّون؟ أم جاءوه لأنّهم رفضوا تَذرف الدموع وهم الرجالُ الأشداءُ الأَقْويَاءُ، وإنما كان البكاء للنساء والأطفال؟ لكن، البكاء لا يدلّ في كلّ الأطوار على ضعف النفْس، بل قد يدلّ على قوتها وصفائها وقدرتها على إفراز الأحزان الراسبة، وتذويبها بماء الدمع... ثمّ لِمَ تناصَّ مع امرئ القيس الحارِثُ وَحْدَهُ من بين جميع المعلّقاتيّين الآخرين؟ أم يعني ذلك أنّ كلباً مُحِقّةٌ فيما زعمتْ من أنّ الأبيات الخمسة الأولى ليست لامرئ القيس، ولكنها لاِبْنَ حُمام (23)؟ وإلاّ فما بال امرئِ القيس يبكي وحده، ولا يتابعه المعلّقاتيّون الآخرون إلاّ واحداً منهم بكى مرتيْن، من حيثُ نُلفي المَلِكِ الضليّل يبكي سبْعاً، أو قل: أنّه يبكي خمْسَاً، ويُبْكِي صَبيّاً مرّة، وحبيبتهِ مرّة أخراة...
مق:
1. قفا نَبْكِ من ذِكْرَى حبيبٍ ومنزل.
2. إذا مابكى من خلْفِها انصرَفتْ له.
3. لدى سَمُراتِ الحيّ ناقِفُ حَنْظَلِ (كناية هنا عن تَذْرافِ الدموع).
4. وإنّ شفائي عَبْرَةٌ مُهرّاقَةٌ.
5. ففاضت دموعُ العَيْنِ منّي صَبابَةً
6. وما ذَرَفتْ عيناكِ إلا لِتَضْرِبي...
ح.ح:
1. فأَبْكِي دَلَهاً.
2. وما يُحيرُ البُكَاءُ.
إنّ أوّل مانلاحظ أَنّ هذا البكاء استبدّ به امرؤ القيس بِسَبْعِ مرّات، ولم يتناص، معه، كما أسلَفْنَا الْقَّالَ، إلاّ الحارث بن حلّزة في حاليْن اثنتين فحسب، أو قل: في حالٍ واحدة عبّر عنها بتعبيريْن أحدهما يتّصّل بالآخر. فكأنّ البكاء، إذن، معجم وَقْفٌ على لغة امرئ القيس الذي اصطنع البكاء في مواطن مختلفة ليس للدلالة على حبّة هو وحده، ولكن للدلالة على حب، صاحبته إيّاه أيضاً فكأنّ دَيْدَنُهُ البكاء، الشاعر وصاحبته في ذلك سَواءٌ، ولم يَبْكِ امرؤ القيس الطُّلولَ وحْدَها، كما كان بكاها من قبله ابن حمام، ولكنه بكى من جَرَّاءِ مُزايلة الحبيبة: فهو إِذن بكاء وفاء، وذلك على الرغم من أنّ النقاد الأقدمين يزعمون أنّ امرأ القيس كان زِيرَ نساءٍ (24)، وعلى الرغم من أنه يناقض نفْسَه، عَبْرَ هذا البكاء، وذلك بذكر نساء كثيرات في معلّقته، فهل كان قادراً على حبّهنّ جميعاً في وقت واحد؟ أم كان يحبّ هذه؛ فلمَّا يُقْضِّي معها من الزمن مايقضّي، يَتَّرِكُها ويلتمس غيرها...؟ أم هي احترافية الشعر ومتطلبّاته الرفيعة؟...
ذلك، وقد صادفتنا تناصّات لفظية أخراة أقل تواتُراً مما ذكرنا، وأقل أَهمّيَّة ممَّا عالجنا، مثل الغزال الذي ورد ذكره في المعلّقات السبع- امرؤ القيس سبق إلى ذكره أكثر من مرة في معلّقته -إحدى عشرة مرّة- والوقوف الذي وقع التناصُّ به ثماني مَراتٍ، والثياب التي تواترتْ خمسَ مراتٍ، والبياض، والمتْن، والتحمُّل، والوشم التي تواتر كلّ منها أربع مرّات، والرسم والغبيط والحَب (بفتح الحاء) التي ورد كلّ منها ثلاث مرّات في المعلّقات. ونستخلص من بعض ما سبق أنّ الشعراء كثيراً ماكانوا يشتركون في اصطناع ألفاظ بعينها، وخصوصاً حين كانوا يتناولون موضوعات متشابهة، أو متماثلة، وقد ألفينا عامّة تلك الألفاظ المشتركة تصّب في مصب واحد: هو جماليّة الحبيبة، وجماليّة حيزها.
فكأنّ المادّة اللغوية المشتركة الأولى التي بَنَى منها المعلقّاتيّون معلّقاتهم تَمْثُل في الديار والرسوم، والربوع والطلول، والوقوف عليها، والبكاءِ من أجلها حَوْلِهَا، ثمّ في الغيوث والسيول التي كانت تُعَرِّي أثافِيَّها، وتجري في نُؤَيِّها، ثم في الآرام التي كانت تَجْثُمُ في قِيعَانها، وترتع في عَرَصَاَتها، بعد أن أقْوَتِ الديار، وأقفرت الأطلال...
وتجسّد هذه المادّة اللغويّة المشتركة بين المعلقّاتيّين، خصوصاً، مطالع هذه المعلّقات أو مقدّماتها الطليّة.










رد مع اقتباس