منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - لكل من يبحث عن مرجع سأساعده
عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-04-14, 13:42   رقم المشاركة : 979
معلومات العضو
hano.jimi
عضو محترف
 
الصورة الرمزية hano.jimi
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة بولعرام مشاهدة المشاركة
السلام عليكم
أنا بحاجة إلى بحث حول : العلاقة بين الديانة المسيحية واليهودية
عاجـــــــــــــــــــــــــل جداً
وبارك الله في الجميع
العلاقات المسيحية اليهودية والعلاقات المسيحية الإسلامية تاريخياً ولاهوتياً



الدكتور عبد الرحمن عُطْبَة

حلب - سورية



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسله وأنبيائه أجمعين، إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم ممن حملوا رسالة الله وأدوا الأمانة: ﴿شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوْحَيْنَا إليك، وما وصيتنا به إبراهيم وموسى وعيسى، أن أقيموا الدين، ولا تتفرقوا فيه﴾، الشورى 13.



تمهيد

الحديث عن العلاقات بين المسيحيين واليهود، وبين المسيحيين والمسلمين، ترافقه كثير من الحساسيات، بسبب ما يتداوله عامة أبناء هذه الملل من روايات حولها، قد يتداخل فيها الصحيح بغير الصحيح، بحيث تبقى الحقيقة غائمة تجاه غير المدقق. ولذا كان من واجب كل باحث في مثل هذه الموضوعات أن يتوخى الحذر لئلا يجنح به الهوى أو تزل به عثرات اللسان إلى غير الحق؛ الأمر الذي يقتضي أن يكون كل كلام في هذا الموضوع متسماً بالدقة وبالصحة، ولا يتأتى ذلك إلا لمن يلتزم الموضوعية في بحثه، ويدعم كل رأي يدلي به بالدليل الذي لا يقبل النقض.

وأنا، في هذت الدراسة ملتزم بهذه الضوابط ومتمثل بالقاعدة الإسلامية في مناهج البحث: «إذا كنت ناقلاً فالصحة، أو مدعياً فالدليل». المصادر التي اعتمدتها في هذا البحث هي المراجع الأصلية في كل من اليهودية والمسيحية والإسلام: "العهد القديم" "التوراة" و"العهد الجديد" "الإنجيل" و"القرآن" وهي الأصول المعتمدة لدى رعايا الملل الثلاث. أضفت إليها بعض المراجع الإسلامية والمسيحية.



العلاقة مع الآخر

العلاقات بين المسيحيين واليهود، والعلاقات بين المسيحيين والمسلمين، علاقات ثنائية الأطراف، وهناك طرف ثالث هو (الآخر)، يحسن أن نعرج إلى الحديث عن العلاقة معه بالنسبة لكل من هذه الأطراف، وبكثير من الإيجاز.

الآخر بالنسبة للمسيحية، مهما كان انتماؤه أو اعتقاده، مُكَرَّم، مُحسَنٌ إليه حتى في أشد حالات عدوانه على المسيحي، مثال واحد من أمثلة كثيرة تعج بها صفحات الأناجيل يترجم عن الروح العامة للتعامل مع الآخر في المسيحية، وهو قول السيد المسيح ننقله عن الإصحاح السادس من الإنجيل الذي رواه القديس لوقا، الفقرات من 27-32:



أما أنتم أيها السامعون، فأقول لكم: أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى مبغضيكم، وباركوا لاعنيكم، وادعوا للمفترين الكذب عليهم... افعلوا ما أردتم أن يفعل الناس لكم، فإن أحببتم من يحبكم، فأي فضل لكم؟.



فهل هناك تَسام في التسامح وفي الحسّ الإنساني أروع مما سمعنا؟

هذا في المسيحية، أما في الإسلام، فإن الله يؤكد لجميع البشر أنه ربهم جميعاً، لا رب فئة منهم، فكان مفتتح أول سورة في القرآن هي قوله تعالى: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾، وكان مفتتح آخر سورة في القرآن هي قوله تعالى: ﴿قل أعوذ برب الناس﴾. وكان مقياس الإسلام في التعامل بين البشر جميعاً، لا بين المسلمين وحسب، هو العدل، حتى في أشد حالات العداوة وذلك في قوله تعالى: ﴿ولا يَجْرِمَنّكم شَنَآن قوم على ألا تعدلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾، سورة المائدة 8.

وأيضا أترك لكل منكم التعليق على الروح التي تملي هذه العلاقات مع الآخر. هذا في المسيحية، وهذا في الإسلام. أما في اليهودية، فقد قسم اليهود الناس إلى قسمين: (يهود) و(جوييم)، الذين تسميهم أسفار "العهد القديم" "الأمم" والذين يطلق عليهم حديثاً اسم "الأمميين"([1]) وهم جميع الأمم غير اليهودية.

الأمم، أو الأمميون، هم "الآخر" عند اليهود، والنظرة إليهم في معظم أسفار "العهد القديم" نظرة ازدراء، وهم يستحقون القتل، ومن لا يقتل منهم يجب أن يكون تابعاً ذليلاً لليهود. والنصوص في ذلك كثيرة، نجتزئ بعضها في هذه الدراسة.

ورد في سفر القضاة (1 و2) في الإصحاح الثالث - الفقرة 1 - أن بعض سكان مدينة جبعون تظاهروا بأنهم غرباء فقراء، ولما كشف يشوع أمرهم سألهم عن السبب فأدلوا له بسبب مخاوفهم، وقالوا:



أُخْبِرَ عبيدُك (أي سكان جبعون) إخباراً بما أمر به الرب إلهك موسى عبده أن يعطيكم كل الأرض ويبيد جميع سكان الأرض من أمامكم.



وفي سفر يشوع - الإصحاح الثامن - الفقرات 24 و35 ورد حول حرب إسرائيل لشعب (عاي):



إن جميع إسرائيل رجع إلى (عاي)، وضربوها بحد السيف، فكان جميع الذين سقطوا في ذلك اليوم من رجال ونساء اثني عشر ألفاً جميع أهل (عاي).



في النص الأول إشارة إلى إذن الرب بإبادة جميع سكان الأرض. وفي النص الثاني إبادة شعب مدينة رجالاً ونساء.

اغتصاب الأرض وتخريبها، وتحليل القتل والإبادة لغير اليهود ممن يقفون ضدهم، أو لا يقفون معهم، هي قيم سلبية لا إنسانية تعجّ بها صفحات "العهد القديم"، ومنها، وغير النصين السابقين، نسمع أيضاً في سفر الخروج - في الإصحاح 23 والفقرات 23، 24 - خطاب الرب لموسى:



إن ملاكي يسير أمامك، ويجيء بك إلى الأموريين والحثيين والفِرْزيّين والكنعانيين والحويّين واليبوسيين فأبيدهم. لا تسجد لآلهتهم، ولا تعبدها، ولا تعمل كأعمالهم. بل تبيدهم وتكسر أنصابهم([2]).



الإبادة هنا لشعوب كثيرة لم تكن من اليهود، لا لشعب واحد يحاربهم وحتى لو كان الأمر مع شعب واحد محارب فهل يجوز، إنسانياً وأخلاقياً ودينياً، إبادتهم جميعاً؟

وفي المزمور السابع والثلاثين بعد المائة نسمع في الفقرتين 8 و9: «يا بنت بابل المخربَة، طوبى لمن يجازيك جزاءَك الذي جازيتنا، طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة»([3]).

صحيح أن شعب بابل سبى اليهود وشردهم، ولكن هل يجوز، وفي أي عرف من الأعراف، سحق الأطفال لأن شعبهم تغلب على شعب آخر.

وفي الإصحاح الثالث من سفر الملوك الثاني، الفقرة 18 و19 جاء ما يلي:



فيدفع - أي الرب - موآب إلى أيديكم فتضربون كل مدينة مصحَّحَة، وكل مدينة مختارة، وتقطعون كل شجرة طيبة، وتَطُمُّون جميع عيون الماء، وتفسدون كل حقلة جيدة بالحجارة([4]).



وفي الفقرات من 13 إلى 26 من الإصحاح التاسع من سفر التكوين ذكر لأبناء نوح الذين خرجوا من الفلك سام وحام ويافث وأن حام أبو كنعان، وجاء فيه: «ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته»([5]).

أظن أن هذه الأقوال، وهي قُلٌّ من كل، لا تحتاج إلى أي تعليق وينبني عليه أن ما جاء في البروتوكولات تمليه الروح نفسها التي سمعنا ببعض آثارها في النصوص السابقة ومن وحي هذه التوجهات والمواقف مع الآخر، ستحدد أيضاً علاقة اليهود بالمسيحيين، هذه العلاقة التي هي إحدى مادتي البحث في دراستنا هذه.

العلاقات الثنائية بين المسيحية واليهودية، وبين المسيحية والإسلام كثيرة ومتشعبة، وتضيق كثير من الكتب عن استيعاب تفصيلاتها؛ الأمر الذي حملني على تركيز دراستي حول نقطتين أساسيتين فقط، هما من أهم ما يتصل بأصول العقيدة في الملل الثلاث، وهما الموقف من السيدة مريم، ومن السيد المسيح عليهما السلام عقيدياً - أي من وجهة النظر اللاهوتية - ومن ثم تداعياتُهما في التعامل مع الآخرين تاريخياً، ومع التساؤل هل بقيت المواقف اللاهوتية التي جاءت في أصول العقائد على حالها؟ أم دخلها شيء من التغيير؟ وإذا حصل ذلك، فما هي المسوغات التي اقتضت ذلك، وهل هي بمستوى تلك الأصول؟



علاقات اليهود بالمسيحيين

المسيحية جاءت زمنياً بعد اليهودية بزمن طويل. ولكن لما كان مجيئها إلى مجتمع يهودي فقد كان طبيعياً أن يتعامل معها هذا المجتمع بالأساليب نفسها التي ألفها في تعامله مع اٍلآخرين. وقد تجلى هذا التعامل في غاية الوضوح مع أول رمزين أصيلين ومعتبرين في المسيحية، وهما السيدة مريم والسيد المسيح عليهما السلام.



موقف اليهود من السيدة مريم

السيدة مريم، أم السيد المسيح عليه السلام، عذراء، ولَدَتْ به بمعجزة، وقد جاءت أخبار هذه الولادة شديدة الإيجاز في المصادر المسيحية، أشار إليها باقتضاب إنجيل متى، وبقليل من التفصيل إنجيل لوقا بينما أفاض المصدر الإسلامي "القرآن" في قصة الولادة وفي تكريم السيدة مريم إفاضة واسعة ستأتي في موضعها.

جاءت رواية إنجيل لوقا في الإصحاح الأول على الصورة التالية:



أرسل الله الملاك جبرائيل إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف، واسم العذراء مريم، فدخل إليها وقال: السلام عليك أيتها الممتلئة نعمة. الربُّ معك. فاضطربت لهذا الكلام وقالت في نفسها: ما معنى هذا السلام؟ فقال لها الملاك: يا مريم لا تخافي. قد نلت حظوةً عند الله، فستحبلين وتلدين ابناً تسمينه "يسوع" فيكون عظيماً، وابنَ العليّ يُدعى، ويُوليه ربُّنا عرش أبيه داود. فقالت مريم للملاك: أنّى يكون هذا ولا أعرف رجلاً. فأجابها الملاك: إن روح القدس يحل بك، وقدرة العليّ تظللك، لذلك سيكون المولود ذكراً، وابنَ الله يدعى.



السيدة مريم، فتاة عذراء حملت ووضعت طفلاً، ومألوف الناس في عالم الأسباب أن الطفلَ وَلَدُ سِفاح وأن أمه زانية. هذا ما وَقَرَ في أذهان المجتمع اليهودي حينذاك، بل أن خطيبها الذي ذكرته الأناجيل، والذي لم يكن قد دخل بها بعد، راودته الشكوك أيضاً لولا أن صحح له الأمرَ ملاكُ الرب في الْحُلم، فقد جاء في الإصحاح الأول من إنجيل متّى:



ولما كانت مريم أمهُ مخطوبة ليوسف، وُجدت قبل أن يتساكنا حاملاً من الروح القدس، وكان يوسف زوجها باراً، فلم يرد أن يَشْهَرَ أمرَها، فَعَزَم على تركها سراً. وما فكر في ذلك حتى تراءى له ملاك الرب في الحلم وقال له: يا يوسفُ بنُ داود لا تخف أن تجيء امرأتك إلى بيتك، إن الذي تحمله هو من الروح القدس، وستلد ابناً قسمّه يسوع([6]).



الزانية في التشريع اليهودي تُرْجَم حتى تموت، جاء هذا في الإصحاح الثاني والعشرين من سفر تثنية الاشتراع في "العهد القديم". ومريم اتهمت بالزنا، وظاهر أمرها يقتضي التصديق بذلك، فلماذا لم يرجموها؟ أو على الأقل لماذا لم يعاقبوها؟ لابد أن هناك مانعاً حال دون ذلك، ولابد أن يكون هذا المانع دليلاً لا يقبل النقض، فما هو هذا الدليل الذي برأها ثم حماها؟

المراجع القديمة لم تذكره، والمصادر المسيحية سكتت، ولم تأت حوله بشيء يشفي الغُلَّة. ولكن القرآن، المصدر الإسلامي الأول هو الذي كشفه، وهو دليل رباني لا يقبل النقض، وسيجيء تفصيله في موضعه.

وعلى الرغم من وجود الدليل الذي جَبَّ أيديَ اليهود عن السيدة مريم، فإن ألسنة السوء لديهم، ما زالت، وحتى اليوم، تلهج بالتعريض بها، وبقذفها بأشنع التهم.



موقف اليهود من السيد المسيح عليه السلام

السيد المسيح آية من آيات الله، وحياته كلها تشهد بذلك، صرّح بذلك رجل تقي صالح اسمه سِمْعان، وكان روح القدس قد نزل به وبشره بالسيد المسيح قبل أن يولد، ولما رآه بعد ولادته بين يدي أمه، وعمره أربعون يوماً حمله ثم خاطبها بقوله: «إنه جُعِل لسقوط كثير من الناس، وقيام كثير منهم من بني إسرائيل، وآية ينكرونها»([7]). ويقول شارح هذه النسخة من الإنجيل: «يسوع آية الله الكبرى، بيد أن رؤساء اليهود أنكروها»([8]).

اضطلع السيد المسيح يحمل رسالة الله وهو في الثلاثين من العمر، كما يروي إنجيل لوقا:



ولما اعتمد الشعبُ كله، اعتمد يسوعُ أيضاً، وبينما هو يُصلي، انفتحت السماء، ونزل الروح القدس عليه في صورة جسم كأنه حمامة، وأتى صوت من السماء يقول: أنت ابني الحبيب عنك رضيت([9]). وكان عمر يسوع هند بدء رسالته في نحو الثلاثين من عمره.



كان السيد المسيح عليه السلام، قبل تكليفه بالرسالة متحنثاً، يتعبد الله، ويخدم الناس ويعمل الخير ويدعو إلى المحبة والتسامح، وهي قيم تخالف ما ألفه اليهود في تعاملهم، من أنماط الظلم والاستغلال والتعالي حتى مع شعبهم اليهودي. وحين كُلِّف عليه السلام بالرسالة جهر بالدعوة وأعلن إنشاء الكنيسة: «على الصخر سأبني كنيستي، فلن تقوى عليها أبواب الجحيم»([10])، وأمعن في أعمال البر، وعزز الله سبحانه نشاطه بالمعجزات من إحياء الموتى وشفاء المرضى، فالتفّ حوله الناس وكثر محبوه، واصطفى مجموعة من تلاميذه تَوَسَّم فيهم الخير، هم الحواريون الاثنا عشر؛ الأمر الذي أحدث خلخلة في البناء الديني والاجتماعي في المجتمع اليهودي والذي ثارت ثائرة المتنفذين فيه من الأحبار والكتبة والشيوخ. ومعظمهم من الفِرّيسيين والصدوقيين.

الأحبار هم رؤساء الكهنة، وكبيرهم حينذاك (قيافا)، والشيوخ هم وجهاء اليهود وأعيانهم والفِرّيسيون، وكانوا يتبعون مذهباً دينياً متشدداً وكأن أكثر الكتبة منهم.

والصديقيون هم حزب ديني سياسي، أكثر أعضائه من الأحبار والكهنة؛ أما الكتبة فهم علماء الكتاب المقدس وأكثرهم من الفِرّيسيين، وقد أخذ السيد المسيح على معظمهم رياءهم وكبرياءهم([11]).

ولعلاقتهم العنيفة والعميقة بإيذاء السيد المسيح، نشير إلى بعض أقواله فيهم؛ فمما قاله لتلاميذه مُحَذِّراً من هؤلاء الكتبة:



إياكم والكتبة، يحبون المشي في الجُبَب، ويتوقون إلى تلقي التحيات في الساحات، وإلى صدور المجالس في المجامع، والمقاعدَ الأوَل في المآدب. يأكلون بيوت الأرامل، وهم يظهرون أنهم يطيلون الصلاة. هؤلاء سينالهم العقاب الأشد([12]).



ومما قاله أيضاً في الكتبة وفي الفِرّيسيين:



الويل لكم أيها الكتبة والفِرّيسيون المراءون. تؤدون عُشْرَ النعنع والشبث والكمون، بعدما أهملتم ألزم ما في الشريعة: العدل والرحمة والوفاء... يأيها الذين يُصَفُّون الماء من البعوضة ويبتلعون الجمل... أيها الحيات أولاد الأفاعي، أنّى لكم أن تهربوا من عقاب جهنم. هأنذا أرسل إليكم من أجل ذلك أنبياء وحكماء وكتبة، ففريقاً تقتلون وتصلبون، وفريقاً في مجامعكم تجلدون، ومن مدينة إلى مدينة تُطاردون، حتى يقع عليكم كل دم زكي سفك على الأرض، من دم هابيل الصدّيق، إلى دم زكريا بن بَرَكيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح. الحقَّ أقول لكم: هذا كله سيقع على هذا الجيل([13]).



هذه الإفاضة في التعريف بحقيقة هؤلاء الناس من وجوه المجتمع ممن ناصبوا السيد المسيح أشد العداء، قد تكون ضرورية لتفسير مواقفهم العنيفة تجاهه، لأن هذه المواقف تمثل نموذجاً لا يغاير سلوكهم العام وحسب، بل هو جزء من لحمته ومن طبيعته نفسها.

الأناجيل كلها تحدثت عن ألوان الاضطهاد التي مارسها قادة اليهود ضد السيد المسيح كما تحدثت عن المؤامرة التي أدت إلى القبض عليه ومحاكمته، ومن ثم اتخاذ القرار بقتله، وانتهت به إلى الصلب والقتل كما يعتقدون.

بدأت المؤامرة باختراق الصف المحيط بالسيد المسيح، على عادة جميع المؤامرات بالبدء باختراق داخل صفوف الجبهة المعادية، وذلك بعد أن باعهم أحد الحواريين وهو يهودا الاسخريوطي ضميره مقابل مبلغ من المال على أن يسلمهم السيد المسيح. واهتبل يهودا إحدى الفرص وجاء بصحبة عصابة مدججين بالسلاح فقبضوا عليه وساقوه إلى دار (قيافا) عظيم الأحبار. وقد يتساءل سائل، كيف يقبضون عليه وكيف يسلمه الله، وهو رسوله، وهو ابنه في اعتقاد من يؤمنون به، وقد أعطى هو الجواب على ذلك في قوله لواحد ممن حاولوا الانتصار له: «أو تظن أني لا أستطيع أن أسأل أبي، فَيَمُدّني الساعة بأكثر من انثي عشر فيلقاً من الملائكة؟ ولكن كيف تتم آيات الكتب التي تقول: إن هذا ما يجب أن يحدث...»([14]).

وجرت المحاكمة برئاسة (قيافا)، وجيء بكثير من شهود الزور، ثم وجّه إليه (قيافا) سؤالاً قال فيه:



أستحلفك بالله الحي لتقولنّ لنا: أأنت المسيح ابن الله. فأجاب يسوع: أنت قلت. وأنا أقول لكم: سترون بعد اليوم ابنَ الإنسان جالساً عن يمين القدرة، وآتياً على غمام السماء. فشق عظيم الأحبار ثيابه وقال: لقد كفر، فأي حاجة بنا إلى الشهود، وقد سمعتم كفره، فما قولكم؟ فأجابوه: يستوجب الموت. فبصقوا في وجهه ولطموه، ومنهم من لكمه([15]).



كان الرومان يحكمون البلاد سياسياً، وكان الحاكم حينذاك هو (بيلاطس)، وكانت هذه المحاكمة دينية، ولابد لتنفيذ حكم الموت من موافقة السلطة التنفيذية، وحُمِل يسوع ومعه قرار المحكمة إلى الحاكم الروماني بيلاطس ليصدق الحكم، وكان بيلاطس على شيء من الإنصاف، ولم يقتنع بالحكم وحاول دفع الأمر أكثر من مرة، ولكنهم كانوا يصرون على التنفيذ، وعبّؤوا الشعب حول دار الحكم وهم يبالغون في الصياح: «لِيُصْلَب». فلما رأى بيلاطس أنه لم يستفيد شيئاً، بل تفاقم الاضطراب، أخذ ماء وغسل يديه بمرأى من الجميع وقال: «أنا بريء من هذا الدم. أنتم وشأنكم فيه». فأجاب الشعب بأجمعه «دمه علينا وعلى أولادنا»، فجلد يسوع ثم أسلمه للصلب([16]).

وفي الطريق إلى الصلب تبعه جمع كبير من الشعب، ومن نساء كن يضربن الصدور ويَنُحْنَ عليه، فالتفت يسوع إليهن وقال:



يا بنات أورشليم، لا تبكين عليّ بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن، فسوف تأتي أيام يقال فيها: طوبى للعواقر، وللبطون التي لم تلد، والثَّدْيَ التي لم ترضَع، ويقال للجبال انهدّي علينا، وللتلال ادفئينا([17]).

وكان الصلب والموت يوم الجمعة، واستأذن أحد الوجهاء الصالحين واسمه (يوسف الرامي) بيلاطس في حمله ودفنه فكفنه ودفنه في قبر حفر بالصخر، وأغلق القبر، وجاء بعض النسوة يوم الأحد يحملن الطيب للقبر فوجدنه مفتوحاً وخالياً([18]). وكانت قيامة السيد المسيح بعد الموت، كما في روايات الأناجيل.

هذه هي المأساة التي نفذها اليهود تجاه المسيحيين الذين يتجرعون غُصَصَها حتى اليوم فقد قتل اليهود رمزهم الذي هو نبيّ الله، والذي هو اعتقادهم ابن الرب. وهل هناك أقسى من هذه الفاجعة التي ارتكبها اليهود عليهم جميعاً عبر جميع طوائفهم، وخلال جميع فترات التاريخ حتى اليوم. وهل هناك من يجرؤ على الادعاء بأن اليهود قريبون من المسيحيين سواء على مستوى اللاهوت أو على مستوى مجريات الأحداث في التاريخ.



علاقات المسلمين بالمسيحيين

الإسلام جاء بعد المسيحية بمدة طويلة، وكان المجتمع في الجزيرة العربية آنذاك، وفي جوارها، يضم أشتاتاً من الملل، منهم اليهود والنصارى والصابئة والمشركون وعَبَدَةُ النار.

وعبر موضوع دراستنا، نذكر أن اليهود، كعادتهم، وكما فعلوا مع المسيحيين من قبل، ناصبوا الدعوة الجديدة العداء، وتعاملوا معها بأفانين من المكر ومن الإيذاء، ولا حاجة بنا لتفصيل ذلك لأن الخوض فيه خروج على منهجية البحث.

أما المسيحيون، فقد كان تعاملهم مع المسلمين، ومنذ اللحظات الأولى، موسوماً بالتعاطف، جرياً على سنن المسيحية في الحب وفي التسامح، وسجل التاريخ لهم مواقف كريمة تجاه الإسلام والمسلمين، ويقف المسلمون منها دائماً موقف الإجلال والتقدير، ونذكر بإشارات عجلى بعضاً منها مما أفاضت بتفصيلاته كتب السيرة وكتب التاريخ، وفي بداياتها كان تنبيه الراهب بَحيرا لأبي طالب عم الرسول r في تجارته إلى الشام، والرسول صغير، تنبيهَهُ إلى المخاوف من غدر اليهود بابن أخيه. وبعدها، وبعد إعلان الرسالة، هناك مواقف البر والعدل من النجاشي للمسلمين في هجرتَي الحبشة، وهناك أيضاً المعاملة الكريمة من ملوك النصارى في الجوار للرسل الذين بعث بهم الرسول r إلى هؤلاء الملوك يحملون إليهم رسائله، وهم النجاشي في الحبشة والمقوقس في مصر، وهرقل في بلاد الروم.

وفي المقابل، فإن المسلمين، بدوافع من إيمانهم برسالات الله، ومن القيم التي أرساها دينهم الجديد، ومن الوفاء الذي فُطرت عليه جبّلة العرب حملة الرسالة آنذاك، كان لهم موقف مماثل تجاه المسيحيين. ففي مكة حين كان المسلمون في غاية الضعف، وفي أشد حالات الضنك، تعاطفوا في كثير من الحزن مع الروم النصارى، في خسارتهم في إحدى المعارك إزاء الفرس المشركين من عبدة النار، وكان مصدر حزنهم إيمانهم بأن هزيمة الروم هي هزيمة للإيمان أمام الشرك، في الوقت الذي انعكست فيه الآية مع مشركي مكة الذين أعلنوا فرحتهم بانتصار الشرك على الإيمان، ونزلت بهذه المناسبة آية في القرآن الكريم تسجل الْحَدَث وأصداءَه، ثم تبشر المسيحيين بنصر قريب على الفرس، يفرح به المؤمنون، وكانت هذه الآية مطلعاً لسورة كاملة سميت باسم سورة الروم، والآية هي: ﴿أ. ل. م. غُلِبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غَلبهم سيغلبون، في بضع سنين. لله الأمر من قبل ومن بعدُ، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله. ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم. وَعْدَ الله، لا يخلف الله وعدَه. ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾([19]).

وبالفعل تحقق وعد الله وتحقق هذا النصر بعد مدة قريبة، في سنة 628 م، ونجح المسيحيون في استرداد الصليب الكبير الذي كان الفرس قد سلبوه منهم، وهذا ما جعل المسيحيين يفرحون بذكرى استرداده سنوياً في عيدهم المسمى "عيد الصليب"([20]). ومن ذلك توجيه الرسول r بعض المسلمين إلى الهجرة إلى الحبشة، وكانت على المسيحية، دفعاً لأذى قريش عنهم قائلاً: «إن بها ملكاً لا يظلم أحد عنده، وهي أرض صدق». ومن ذلك أيضاً استقباله لوفد نصارى نجران في مسجده وطلبه منهم أن يقيموا صلاتهم فيه واستقباله لعدي بن حاتم الطائي المسيحي في مسجده وفي بيته.

هذه بعض نماذج من التعامل الواقعي مع المسيحيين في مطلع الرسالة الإسلامية، والذي استمر على النهج نفسه على امتداد التاريخ الإسلامي كله.

وأما في أصول العقيدة التي يفرض على كل مسلم الالتزام بها وعدم اجتراحها في أي زمان ومكان، فإن برّ النصارى ومودتهم تمثل جزءاً منها، وآيات كثيرة من القرآن الكريم، ونصوص كثيرة من الحديث الشريف تؤكد هذه القيمة بكل قوة وبشكل لا يحتمل أيَّ لَبْس ونكتفي منها بنموذج واحد يمثل أجلى صورها، وهو قوله تعالى: ﴿لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا، اليهود والذين أشركوا، ولتجدَن أقربهم مودة للذين آمنوا، الذين قالوا: إنا نصارى؛ ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون﴾([21]).



موقف المسلمين من السيدة مريم

الحديث عن السيدة مريم لم تُفِضْ فيه المصادر المسيحية كما أفاضت فيه المصادر الإسلامية قرآناً وسنة. وقصة حملها وولادتها التي وردت في القرآن الكريم تضم تفصيلاً لجميع المراحل الزمنية والواقعية التي استغرقها هذا الحدث العظيم. ورواية المسلمين لها تثير في نفوسهم دائماً كل مشاعر الغبطة والابتهاج. كما أن اطلاع المسيحيين على هذه الرواية يثير في نفوسهم المشاعِرَ نفسَها المكونة لدى المسلمين، ولديّ شواهد من أقوال بعض كبار رجال الكنيسة وعلى مستوى العالم تشيد بموقف الإسلام والمسلمين من مريم ومن عيسى عليهما السلام.

لقد بدأت قصة مريم في القرآن من قبل أن تخلق مريم نفسها، وذلك عبر الحديث عن أمها حنة زوجة عمران، وكانت من العابدات الصالحات، وكانت قد أسنَّت، واشتهت الولد، ونذرت لله إن حملت لتجعلن ولدها محرراً - أي حبيساً - في خدمة بيت المقدس([22])، وجاءت رواية هذا النذر في القرآن: ﴿إذ قالت امرأة عمران: ربّ إني نذرت لك ما في بطني محرراً، فتقبل مني إنك أنت السميع العليم﴾، آل عمران، الآية 65.

وتساوقت الآيات في عدد من المواضع في القرآن الكريم تتابع الحدث خطوة خطوة. لقد وضعت أم مريم، ولكن المولود جاء على غير ما نذرت. لم يكن المولود ذكراً كما كانت تتمنى، بل كان أنثى، وسلمت المرأة الصالحة أمرها إلى الله، وسمّتها مريم وحصّنتها بإعاذتها بالله من الشيطان الرجيم: ﴿فلما وضعتها قالت: رب إني وضعتها أنثى - والله أعلم بما وَضَعَتْ، وليس الذكر كالأنثى، وإني سميتها مريم، وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم﴾. آل عمران، 36.

وأحسن الرب الكريم قبولها وأحسن إنشاءها، وكفَلَها زكريا ليرعاها، وخصّها بكرامات لم تكن مألوفة عند الناس: «فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً، وكفَلها زكريا، كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً، قال: يا مريمُ أنّى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله. إن الله يرزق من يشاء بغير حساب». آل عمران، 37.

وزادها الله سبحانه كرامة، وأغدق عليها صفات الطهر والتعبد، وفضّلها على نساء العالمين، وأبلغها بذلك عن طريق الملائكة تهيئة لنفسها للحدث العظيم المرتقب: ﴿إذ قالت الملائكة يا مريم، إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين. يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين﴾. آل عمران، 42-43.

واستجابت مريم لأمر ربها، وابتعدت عن الناس، وخَلَتْ بنفسها للعبادة: ﴿واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، فاتخذت من دونهم حجاباً...﴾. مريم، 16.

ولكن هذه الخلوة التي اختَلَتْها للتعبد اهتزت حين فوجئت بمن يقتحمها عليها، وكان هذا المقتحم هو الروح الأمين جبريل عليه السلام، الذي تمثّل أمامها بصورة البشر: ﴿... فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً﴾. مريم، 16. ولنتصوّر نحن الآن حالة الروع النفسية التي اعترت مريم حين رأت - وهي منفردة عن الناس في مكان قصي - بشراً ينتصب أمامها، ولكنها تجلدت، وتجرأت، ودار بينهما الحوار الطريف التالي: ﴿قالت: إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً. قال: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً. قالت: أنَّى يكون لي غلام ولم يمسسْني بشر ولم أكُ بغياً. قال: كذلك قال ربك هو عليّ هيّن، ولِنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً﴾. مريم، 18-21. وجاءتها الملائكة بعد جبريل لتحدثها بتفصيل عن هذا الولد وصفاته وعمّا سيكون له من شأن: ﴿إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين، ويكلم الناس في المهد وكهلاً، ومن الصالحين﴾. آل عمران، 45-46، وناجت مريم ربها ضارعة إليه، مكررة عذريتها، مستغربة ما تُبَشَّر به من الولد: ﴿قالت: رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر...﴾. آل عمران، 47، وجاءها الجواب الحاسم: ﴿قال: كذلك يخلق الله ما يشاء، إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون﴾. آل عمران، 47.

لقد نال مريم من الذعر ما ينال كل بكر طاهرة بتول حين ينسب إليها حمل ووضع، ولكنها صبرت لأمر الله ثم.... ثم أحست بالحمل وشعرت بالحرج وازدادت بعداً عن الناس: ﴿فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً﴾. مريم، 22. وبعد الحمل مخاض، لجأت معه إلى جذع نخلة تستند إليها، وتناجي نفسها متمنية الموت على الفضيحة المحتملة: ﴿فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة. قالت: يا ليتني مِتُّ قبل هذا وكنت نَسياً منسيا﴾. مريم، 23.

ولكن رحمة ربها لم تتركها في هذا القلق، وجاءها صوتٌ يطمئنها، صوت جبريل أو صوت الوليد - على اختلاف لدى المفسرين - يطلب منها أن تدع الحزن جانباً، وأن أمر معاشها مؤمّن من خلال جدول ماء بقربها ورطب جنيّ تساقطه عليها النخلة التي لجأت إليها: ﴿فنادها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً، وهُزّي إليك بجذع النخلة تُساقِط عليك رطباً جنياً فكلي واشربي وقَرّي عيناً﴾. مريم، 24-25-26.

وجاءها التوجيه بالاستعداد للرد على هجوم الناس إذا رأوها وطفلها، وذلك بأن تمتنع عن الكلام معهم: ﴿فإما تَريَنَّ من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً﴾. مريم، 26.

وحدثت المواجهة، وابتدأ الهجوم، ورُوّعت بأقسى اتهام: ﴿فأتت به قومها تحمله. قالوا يا مريم لقد جئت شياً فَريّاً، يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سَوْء وما كانت أمك بغياً﴾. مريم، 27-28.

هنا، الاتهام صريح، ولابد معه من عقاب، ولكنهم لم يعاقبوها، ولا شك أن الحائل دون ذلك كان دليلاً قاطعاً لا يقبل النقض فما هو؟ لقد كفّ اليهود عن العقاب، ولكنهم لم يعلنوا البراءة، ولم يذكروا الدليل الذي منعهم من العقاب، كما أن المصادر المسيحية سكتت ولم تشر إليه ولكن القرآن وهو المصدر الإسلامي الأول كشف هذا الدليل وهو دليل رباني جاء على شكل معجزة حين تكلم الطفل الرضيع: ﴿فأشارت إليه. قالوا: كيف نكلم من كان في المهد صبياً﴾. مريم، 29. ولكن الصبي، ابتدر الجواب عن أمه: معرفاً بنفسه: ﴿قال: إني عَبدُ الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً، وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً. وبَرّاً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً، والسلام عليّ يوم وُلدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً﴾. مريم، 30-33، إنه عيسى: ﴿ذلك عيسى بن مريم قولَ الحق الذي فيه يمترون﴾. مريم، 34. وأخرس الله ألسنتهم بهذه المعجزة وهي كلام الطفل الرضيع، فكفوا عن العقاب كما أسلفنا، ولكنهم، بحكم طبيعتهم، لم يكفوا عن العدوان.

كفى بمرير فخراً لدى المسلمين ولدى النصارى - على السواء - وعدا أنها أم لنبي عظيم - ذلك الإجلال الذي كرمها الله ورسوله به، فحيثما ذكرت في القرآن ذكرت موصوفة بالطهر والعفاف: ﴿ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها﴾. التحريم، 12. وهي صدّيقة ﴿... وأمه صدّيقة﴾. المائدة، 75. وقد كذب الله اليهود أبلغ تكذيب حين افتروا عليها وعلى عفتها بالبهت والكذب ﴿... وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً﴾. النساء، 156.

وسجل لها رسول الله r مكانة لا تُدانَى حين نعتها بأنها من خير نساء الدنيا: «خير نسائها مريم ابن عمران وخير نسائها خديجة»([23]).

وحين قال عنها: «لم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون»([24]). وحين قال أيضاً: «ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مسّ الشيطان غير مريم، وابنها»([25])، ويتلو أبو هريرة راوي هذا الحديث الآية الكريمة على لسان أم مريم: ﴿وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم﴾. آل عمران، 36([26]).

ولعل من طريف العادات عند مسلمي مدينة حلب بالذات، أن يقدموا لكل نُفَساء صبيحة ولادتها هدية تتمثل في سفرة عامرة بالطعام - وبالحلوى منها بشكل خاص - ويسمونها «سفرة مريم». وتعليلها لديهم أن السيدة مريم حين وضعت طفلها كانت وحيدة، وحزينة ولم يفرح لها أحد بالمولود، فهم يعوّضونها، وبعد آلاف السنين، عما فقدته من البر، وكأنهم يشاركونها فرحتها بمولودها العظيم.



موقف المسلمين من السيد المسيح عليه السلام

أما عيسى عليه السلام، فهو نبيّ الله ورسوله، وقد أشاد الإسلام بذكره وبسيرته، والآيات التي تحدثت عنه كثيرة، منها قول الله تعالى: ﴿... ثم قفينا على آثارهم برسلنا، وقفينا بعيسى بن مريم وآتيناه الإنجيل، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة﴾. الحديد، 27، ومنها: ﴿إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه﴾. النساء، 171، ومنها ﴿وآتَيْنا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس﴾. البقرة، 87 و253، ومنها ﴿ذلك عيسى بنُ مريمَ قولَ الحق الذي فيه يمترون﴾. مريم، 24، ومنها قوله تعالى: ﴿وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين﴾. الأنعام، 85.

أما محمد رسول الله فقد قال معظماً شأن عيسى عليه السلام:



من شهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبدُ الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل([27]).



وكان يعطي عيسى عليه السلام من بين الأنبياء مكانة خاصة، فيقول في موضع: «أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلاّت([28])، أمهاتهم شتى ودينهم واحد»([29])، كما يقول في موضع آخر: «أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علات ليس بيني وبينه نبيّ»([30]). بل لقد بشر بأن عيسى عليه السلام سيعود إلى الدنيا في آخر الزمان مهدياً وحكيماً مقسطاً([31]).

ولابد من التأكيد - صوناً للحقيقة والتاريخ - بأن المسلمين حين يحيطون عيسى وأمه عليهما السلام بهالات من التقدير، إنما يفعلون ذلك، لا من باب المجاملة، وإنما يفعلونه بدافع من إيمانهم، واستجابة منهم لأمر الله، وإثباتاً لعلمهم اليقيني به.

إن أذى اليهود للمسيحيين لم يتوقف بعد أن فعلوا ما فعلوه بالسيد المسيح، وبقي اضطهادهم لهم وللكنيسة مستمراً لأزمات طويلة، فقد نقموا منهم استمرار دعوتهم وإقبال الناس عليهم وناصبوهم العداء دائماً، والأحداث كثيرة، ويشهد بها التاريخ ونشير منها إلى حدثين قريبـي عهد من أيام السيد المسيح عليه السلام، أحدهما نقمتهم على القدسيَيْن بطرس ويوحنا لالتفاف الناس حولهما، ثم زجهما بالسجن، ولكن الله سبحانه يسّر لهم الخروج منه([32])، وثاني الحدثين محاكمة مَجْمَع اليهود للقديس اسطيفانوس محاكمة جائرة، ثم قتله رجماً بالحجارة، واشتد بعدها اضطهادهم للكنيسة([33]). ونسمع في العصر الحديث المفكر المسيحي ميشيل حايك يقول:



فما أبعدنا ها هنا عن الأقاصيص المجحفة التي ما زال اليهود منذ ألفي سنة يتداولونها في كتاب "توليدات يشوع" فيهينون فيها ذكر الابن، ويتهمون أمه بالشيء الفريّ، قائلين إنها بغيّ، فاحتج محمد أولاً، والمسلمون من بعده، وأكثروا من الاحتجاجات ضد هذا البهتان العظيم([34]).



المسيحيون والمسلمون، ومنذ بدء رسالة الله لدى كل منهم، كانوا مؤمنين بطهر مريم وبصدق عيسى عليهما السلام، واستمروا، وسيبقون مستمرين على معتقدهم هذا، حتى يرث الله الأرض وما عليها.

أما اليهود فهل بقوا مستمرين على معتقدهم في ما نسبوه إليهما؟ أم عدلوا عنه؟ كل المعطيات التي عرفها العالم عن اليهود تؤكد أنه لم يصدر عنهم ما يغير هذا المعتقد، وبالتالي فإن رأيهم في ما نسبوه إليهما من افتراء هو هو لم يتغير. وعليه، فأيَّة علاقة، على المستوى الديني واللاهوتي يمكن أن تقوم بين المسيحيين واليهود؟

إن ما حدا بي إلى هذا التساؤل ما نشهده في هذه الأيام، وفي الولايات المتحدة بالذات من أناس يَدْعُون إلى "الصهيونية المسيحية" ويسمون أنفسهم "المسيحيين الصهاينة" وهم شريحة من المسيحيين هناك، ارتهنت نفوسها لخدمة الصهيونية التي هي تكريس لمطامع اليهود في ديارنا وفي فلسطين منها بشكل خاص، فهل تغيرت الأمور وتبدلت المواقف بالنسبة لهذه الشريحة حتى غدا عدوُّ المسيحيين التاريخي واللاّهوتي صديقاً حميماً؟ ثم هل سمع عن اليهود أو عن أي واحد منهم، وحتى يومنا هذا أي تصريح يغاير ما يعتقدونه في السيد المسيح وفي أمه؟ وهل اعتقدوا، تصريحاً على الأقل، بطهرهما حتى يقبل الناس، ولو على الرغم منهم، مثل هذه الصداقة المسيحية الصهيونية الجديدة؟

إن الأمور لو سارت طبيعية في فَهْم الناس لبعضهم وإعطاء كل ذي حق حقه، لكان المسلمون هم الأصدقاء الحقيقيين للمسيحيين ولكان النصارى في العالم أشد اتصالاً بالمسلمين وصداقة لهم. إن الإسلام هو الدين الوحيد في العالم الذي يُدَعّم النصارى ويؤكد معهم باعتقاد جازم، ويقول لهم: الحق معكم، وإن سيدنا المسيح لم يكن له أب.

إنّ وصف القرآن لعيسى عليه السلام بأنه "كلمة الله" تأكيد على أنه خلق بتقدير من الله بكلمة "كن"، وذلك على غير سنن التوالد الناجم عن لقاء زوجين، وإذا كان ذلك عجيباً في عالم الأسباب، فإنه ليس بعجيب أمام قدرة الله سبحانه. فإن خلقاً سابقاً له، هو أشد عجباً منه، ذلك هو خلق آدم بكلمة "كن" أيضاً، ولكن بدون أب أو أم.






([1]) حوييم: اسم لشعب غير اليهود هو (تدعال). انظر "العهد القديم"، سفر التكوين، الإصحاح 14 الفقرة 1 و2، ثم أصبح يطلق على كل شعب من غير اليهود، وهم الذين يسميهم "العهد القديم" (الأمم) كما ورد في سفر القضاة (1 و2) الإصحاح 2 - الفقرة (1 و2): «فأنا أيضاً لا أعود أطرد إنساناً من أمامهم من (الأمم) الذين تركهم يشوع»، وكما ورد في سفر القضاة (2 و3) الإصحاح 3 الفقرة 1: «فهؤلاء (الأمم) الذين تركهم الرب ليمتحن بهم إسرائيل».

([2]) العهد القديم، بيروت، 1891، ص. 115.

([3]) المصدر نفسه، ص. 846.

([4]) المصدر نفسه، ص. 53.

([5]) المصدر نفسه، صص. 13-14.

([6]) العهد القديم، المصدر السابق، ص. 287.

([7]) انظر "الإنجيل" الذي رواه القديس لوقا. الإصحاح الثاني، الفقرات 25 إلى 35؛ الكتاب المقدس وأعمال الرسل، منشورات المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ط. 3/ 4/ 1973، ص. 176.

([8]) المصدر نفسه، ص. 177.

([9]) المصدر نفسه، الفقرات 20 و22 و23، ص. 181.

([10]) إنجيل متّى: الإصحاح 16 الفقرة 18.

([11]) انظر قسم (فوائد) من فهرس "الكتاب المقدس" الإنجيل وأعمال الرسل، ص. 460 وما بعدها.

([12]) إنجيل لوقا: الإصحاح 20، الفقرات 45 إلى 48.

([13]) إنجيل متّى: الإصحاح 23، الفقرات 24 إلى 35.

([14]) المصدر نفسه، الإصحاح 26، الفقرات 53 إلى 55.

([15]) المصدر نفسه، الإصحاح 26، الفقرات 63 إلى 68.

([16]) المصدر نفسه، الإصحاح 27 ،الفقرات 23 إلى 26.

([17]) إنجيل لوقا: الإصحاح 23 الفقرات 27 إلى 31.

([18]) إنجيل مرقس: الإصحاح 16 الفقرات 1 إلى 6.

([19]) سورة الروم، الآية 1-4.

([20]) انظر كتاب "من يحمي المسيحيين العرب"، لفيكتور سحاب، دار الوحدة، بيروت، 1980، ص. 29.

([21]) سورة المائدة، الآية 82.

([22]) انظر البداية والنهاية، ج 2، ص. 56.

([23]) صحيح البخاري، ج 4، ص. 318 (كتاب الأنبياء).

([24]) المصدر نفسه.

([25]) صحيح البخاري، المصدر السابق، ج 4، ص. 318 (كتاب الأنبياء)؛ وصحيح مسلم، كتاب الفضائل، ج 7، ص. 96.

([26]) المصدران نفسهما.

([27]) صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم"، ج 4، ص. 319.

([28]) العلات، بنو أمهات شتى من رجل واحد. (القاموس المحيط، مادة «علل»).

([29]) صحيح البخاري، المصدر السابق، ج 4، ص. 323.

([30]) المصدر نفسه؛ وصحيح مسلم - كتاب الفضائل، ج 7، ص. 143؛ وسنن أبي داود - الحديث رقم 4675.

([31]) انظر مسند أحمد بن حنبل، ج 2، ص. 411؛ وسنن الترمذي، الحديث رقم 233؛ وسنن ابن ماجة، الحديث رقم 4077.

([32]) أعمال الرسل - الإصحاح 4، الفقرات 1-4، ص. 674 (الكتاب المقدس - الإنجيل وأعمال الرسل)؛ وانظر: سمير نوف، تاريخ الكنيسة المسيحية، تعريب المطران ألكسندروس جحا، حمص، 1964، ص. 22.

([33]) انظر: البطريك أفرام الأول برصوم، الدرر النفيسة في مختصر تاريخ الكنيسة، حمص، 1940، ص. 86.

([34]) ميشيل حايك، «المسيح في الإسلام»، نقلاً عن بحث "الأسس المشتركة بين الديانتين في المعتقدات ومواطن الالتقاء بينهما" ألقي في ندوة الحوار الإسلامي المسيحي، طرابلس، 1976، ونشر في كتاب "بحوث ووثائق" ندوة الحوار الإسلامي المسيحي، ليبيا، 1977، ص، 284.

https://www.attarikh-alarabi.ma/Html/Adad39/Ab8.htm









رد مع اقتباس