منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - *«•¨*•.¸¸.»منتدى طلبة اللغة العربية و آدابها «•¨*•.¸¸.»*
عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-02-11, 17:00   رقم المشاركة : 30
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

دراســـــــة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998


1- إثنولوجيّة المعلّقات: أولاً: إثنولوجيّة المعلّقاتيّين:1 - الانتماء القبليّ لاُمْرِئْ القيس:
على الرغم من أنّ القحطانيّين يجسّدون أصل العروبة وجُرثومَتَها، ومهدها وأرومتها؛ وأنّهم يشكّلون ما يطلق عليه النسّابون العرب: "العرب العاربة"، فإنما حين نعدّ شعراء المعلّقات لا نلفي منهم إلاّ شاعراً واحداً- من بين السبعة- قحطانيّاً، وهو امرؤ القيس (وهو لقب له، واسمه فيما يزعم بعض اللغوّيّين: حُنْدُج (بضم الحاء المهملة، وسكون النون)، وهو في اللغة: الرملة الطّيبة، أو الكثيب من الرمل يكون أصغر من النّقا) (1) بن حُجْر بن عمرو بن الحارث بن حجر آكِل المُرَارِ (2) بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن ثور بن كندة (3) الذي ينتهي نسبه الأعلى إلى كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قطحان(4).
وليس نسب امرئ القيس، من جهة أمّه، أقلّ مجداً، ولا أدنى شرفاً، من مجد أبيه. بل ربما كان أعلى وأنبل، وأسمى وآثَل؛ ذلك بأنّ أمّه هي فاطمة بنت ربيعة بن الحارث بن زهير، وهي أخت كليب وائل الذي تضرب العرب به المثل في العزّ والمنعة، فقالت: "أعزّ من كليب وائل"، والذي بمقتله أضطرمت الحروب الطاحنة بين قبيلتي بكر وتغلب دهوراً طِوالاً (5). فكليب خال امرئ القيس، إذن، مَثَلُه مَثَلُ مهلهل بن ربيعة الذي يعدّ أوّل "من قصّد القصائد، وذكر الوقائع" (6)، وأوّل من هلهل الشعر.
ونعتقد أنّ امرأ القيس قد يكون تأثّر بخاله مهلهل الذي يبدو أنه كان مؤسّساً لبنية القصيدة العربيّة. ولكنّ ابن الأخت أخْمَلَ خاله، أو كاد يُخْمِله؛ وهو، على كلّ حال، لا يذكر إلاّ أنه أوّل من قصّد القصائد في رثاء أخيه كليب؛ بينما يذكر امرؤ القيس على أنّه أمير الشعراء العرب على وجه الإطلاق... وكثيراً ما يتفوّق التلميذ على أستاذه، ويشمخ النجل على من نَجَلَه.
ويبدو أنّ قباذ ملك الفرس هو الذي كان "ملّك الحارث بن عمرو جدّ امرئ القيس على العرب" (7).
على حين أنّ أهل اليمن يزعمون أنّ ملّك جدّ امرئ القيس لم يكن قباذ الفارسيّ، ولكنّه كان تبّعاً الأخير.
ثمّ لم تلبث بنو أسد أن ملّكت حجر بن عمرو، أبا امرئ القيس، عليها. ويبدو أنّ سيرته ساءت فيهم فثاروا عليه، ولم يلبثوا أن تطاولوا عليه وقتلوه في فتنة رهيبة (8). وزعم ابن الكلبي أنّ الذي كان سبباً في اضطرام تلك الفتنة رفْض بني أسد دفع الإتاوة السنويّة للملك (9).
ومن مقتل حجر تبتدئ مأساة امرئ القيس، الشاعر الحساس، والابن الأصغر لأبيه الذي تزعم الأخبار التي نرتاب فيها أنه كان أمر بقتله صغيراً حين رفض التخليّ عن قيل الشعر، ثم طرده فعاش متشرّداً بين القبائل (10). وقد حاول أن يثأر الشاعر لأبيه من بني أسد، فاستعدى عليهم ذا جدن الحميريّ الذي أمدّه بجيش طارد به قتلة أبيه، وفتك بهم فتكاً ذريعاً. ولكنه كان، كأنّه، يريد إبادتهم عن آخرهم؛ فلم يرْضَ بمنْ قُتلَ منهم، وظلّ يتنقّل بين جبلي طيئ في انتظار جمع الرجال وحشدهم لمحاربة من بقي من بني أسد... ولكنه حين يئس من تحقيق ذلك قرر الاستنجاد بقيصر الروم الذي أمدّه بجيش، فيما تزعم بعض الروايات، ثمّ ندم على ذلك إمّاً مخافة أن يغزوه امرؤ القيس إذا انتصر على أعدائه، وقَوِيَتْ شوكتهُ، وإمّا انتقاماً لشرف ابنته التي يقال إنها أحبّت امرأ القيس...
فأرسل إليه حلّة مسمومة وهو في سبيله إلى بلاد العرب، فتساقط جِلْدُه لمّا ارتداها..(11).
ولقد حاول حمّاد الراوية أن يضفي صبغة أسطوريّة على طفولة امرئ القيس، كما سبقت الإيماءة إلى ذلك، مثله في ذلك مثل ابن الكلبي (12)، ومثل ابن الكلبي في ذلك مثل أبي زيْدٍ القرشيّ (13)، حيث إنّ أبا زيد، خصوصاً، أورد أسجاعاً تسجّل مبتدأ تفتّق العبقريّة الشعريّة لأُمرئ القيس، وتصف أيام كان أبوه حُجْر كلّفه خلالها برعي الإبل، ثمّ برعي الخيل، ثم برعي الشاة؛ فكان في كلّ يوم يرسل أسجاعاً يصف فيها تجربته الرعويّة، فيئس منه أبوه وطرده...
وعلى الرغم من أننا اختصرنا حياة امرئ القيس اختصاراً شديداً- لأنّ أخباره مدوّنة في مظانّها- فإن الذي يعنينا، من كلّ ذلك، هو قبيلته التي لاقت عناء وعقوقاً من بني أسد. ويبدو أن الملك حجراً لم يكن يستمدّ قوته من كبر عشيرته التي لم تصنع شيئاً حين تعرّض للقتل:
1- إنّ قبيلة بني أسد رفضت دفع الإتاوة لحجر أبي الشاعر، فلما حاول إرغامهم على ذلك ما لبثوا أن تطاللوَا على مَقْتَلِه.
2- أنّ امرأ القيس أُريد لحياته أن تتّسم بالأسطوريّة حين أبى عليه أبوه قول الشعر، ومغازلة النساء؛ فحاول معاقبته برعي الأنعام؛ فلمّا لم يفلح طرده في رواية، وحاول قتله في رواية أخراة.
ونلاحظ أن هذه الحكاية تتّخذ لها سيرة القوانين التي تحكم الأساطير بحيث يسبق شرط الحظر والمنع من سُلوكِ سلوكٍ معيّن، ولكنّ الطرف الذي يفرض عليه المنع لا يبرح يُصِرّ على موقفه حتى يقع في المحظور، لتفجير الحكاية، وانطلاقها.... فلو استجاب امرؤ القيس لطلب أبيه، وأذعن لإرداته فلم يقل الشعر، ولم يتغزّل بالنساء، لكانت حياته عاديّة جداً، ولما كَلِفَ بذكر أخباره التاريخ عبر الأعصار والأمصار...
3- إنّ خيال الرواة اختصب اختصاباً شديداً لدى ذكر أخبار امرئ القيس، قبل مقتل أبيه، وبعده... ولا يزال الرواة يختلفون من حوله حتى تجرَّأ بعضهم على التشكيك في نسبه من أمّه، بل من أبيه أيضاً حيث إنّ هناك من الرواة من لا يتردّد في أن يجعله امرأ القيس بن السمط، وأن يجعل أمه تَمْلكَ بنت عمروٍ بن زبيد بن مذحج رهط عمرو بن معد يكرب(14).
ولعلّ مغالاة الرواة في هذا الاختلاف مؤئله إلى كَلَفِ الناس بعد أن استقرّوا بالأمصار- خصوصاً البصرة والكوفة- بمثل هذه الأخبار الجميلة يتسامرون بها ويتثاقفون. ونحسب أنّ التاريخانِيَّة، في هذه الأخبار، أكثر من التاريخيّة.
4- إنّ الناس كَلِفُوا بالحديث عن سيرة امرئ القيس وانتمائه القبليّ من جهتي أمّه وأبيه، وعن سيرة جده وأبيه أكثر من كلفهم بالحديث عن شعره الذي جمعه حمّاد الراوية، المشكوك في وثوق روايته بعد أكثر من قرنين من وفاته.
5- إنّ الاتفاق وقع- عبر الاختلاف- بين الرواة على أنّه يمنيّ، وأنّه من أسرة مالكة، ماجدة، وأنه، إذن، ملك بن ملك، بن ملك.
6- نلاحظ أنّ امرأ القيس ربما يكون أوّل شاعر عظيم يموت متسمّماً؛ أي يموت مغتالاً بحقد قيصر الروم وغدره ونذالته (ولا ينبغي أن ننسى أنّ أسطورة جميلة أخراة ارتبطت بسفر امرئ القيس إلى أنقرة، ومقامه بالقصر القيصريّ، ووقوع ابنة القيصر في غرام الشاعر العربيّ الوسيم... وأنّ قيصر الروم حين تابع امرأ القيس بالحّلة المسمومة إنما جاء ذلك انتقاماً لشرف ابنته؛ وقد يدلّ ذلك، إن صحّ، على أنّ علاقة الشاعر العربي بالأميرة الرومية جاوز مستوى النظرة إلى مستوى الفعل.... ولا يدلّ إصرار القيصر على الانتقام من امرئ القيس إلاّ على بعض ذلك... فكأنّ امرأ القيس كتب عليه أن تظلّ المرأة فاعلة في حياته، مؤثّرة فيها، إلى نهايتها، فيموت بسببها.
7- ونلاحظ، أيضاً، أنّ أبا امرئ القيس مات، هو أيضاً، مقتولاً، وأنّ كليهما قتل وهو متطلّع إلى مجد السلطة، وأبّهة الحكم. وأنّ كلاً منهما انقطع أمله بذلك القتل...
8- إنّ امرأ القيس يمثّل عهده عصر الجاهليّة بكلّ مايحمل اللفظ من معنى، وكان محكوماً على عظماء الرجال إمّا أن يَقْتِلوا، وإما أنْ يُقْتَلُوا: إذ قُتل حجر والد امرئ القيس، كما قُتل كليب وائل، أعز العرب، فطالب أخوه مهلهل بثأره؛ فاضطرمت حرب البسوس بين بكر وتغلب فتجسّدت في خمس حروب (15)، كما تعرّض مهلهل، خال امرئ القيس للأسر مرتين اثنتين: نجا في الأسْرَة الأولى، وهلك في الأخراة (16). بينما نلفي حفيده، وهو صاحب معلّقة أخراة، وهو عمرو بن كلثوم بن ليلى ابنة مهلهل بن ربيعة لا يتعرّض هو للفتك؛ ولكنه هو الذي يُقْدِم على الفَتْك بعمرو ابن هندٍ حين أرادت أمِه هند أن تنال من شرف ليلى ابنة مهلهل لَمَّا التمست منها أن تناولها الطَّبَق...
فالشاعر قتيل، والملك أبوه قتيل، والخال كليب- أعزّ العرب- قتيل، والخال الآخر- مهلهل أسير، وابن ابنة الخال -عمرو بنت كلثوم- قاتل...والبسوس طاحنة المعارك، مَهُولَةُ الأيام الخمسة.. والفتنة بين القبيلتين الأختين بكر وتغلب على أشدّها.... إنه عصر الشاعر امرئ القيس.... وإنه لانتِماؤُه القَبَليُّ... ولعلّ ولاءَهُ لتقاليد القبيلة، وحرصَه على شرفها.... وهوالذي جعله يخوض، هو أيضاً، حروباً طاحنة يشنّها على قبيلة بني أسد... فتنة... حروب... انتقام... تأرات... حبّ وغزل وخمر... نساء ولهو.... تلك هي
حياة المعلّقاتيّ الأوّل: امرئ القيس....
2- الانتماء القبليّ لبقيّة المعلقاتيّين:
لقد كنّا لاحظنا أنّ امرأ القيس، هو المعلّقاتيّ الوحيد الذي ينتهي نسبه الأعلى إلى قحطان من بين كلّ المعلّقاتيّين السبعة. وينشأ عن ذلك أنّ كلّ المعلّقاتيّين الستّة الآخرين ينتهي نسبهم الأعلى إلى عدنان إذْ نُلفي اثنين، من بينهم، ينتميان إلى بكر، وهما: طرفة بن العبد (17)، والحارث بن حلّزة (18). على حين أنّ عمرو بن كلثوم تغلبيّ (19)، وعنترة بن شدّاد عبسي/ قيسيّ، مضريّ (20)، وزهير بن أبي سلمى مُزَنِيّ/ تميميّ (وقد اختلط على بعض الناس أمر نسبه فعدّه غطفانيّاً، بينما هو مزنيّ، نزل بديار غطفان (21)، ولبيد بن أبي ربيعة قيسيّ (22). وكلّ من تغلب، وبكر، وعبس، وتميم، وقيس ينتهي نسبها الأعلى إلى عدنان.
وترتبط حياة معظم أولاء المعلّقاتيّين بقبائلهم بما لها من مآثر وأمجاد، وخطوب وأهوال؛ وذلك أمثال عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلّزة، وعنترة بن شداد، وطرفة بن العبد. وحتى زهير بن أبي سلمى اختصّ معلّقته بالأحداث المهولة، والحروب الطاحنة التي دارت بسبب سباق فرسي داحس (وكانت لقيس بن زهير سيد بني عبس)، والغبراء (وكانت لحمل بن بدر سيّد بني فزارة، غطفان). ولولا الصلح الذي سعى به كلّ من هرم بن سنان، والحارث بن عوف، وتحمّلهما دفع ديّات القتلى التي بلغت زهاء ثلاثة آلاف بعير، لتفانت عبس وفزارة. وإذا كانت دية القتيل غير الملك مائة بعير، فإنّ عدد الذين سقطوا ضحايا هذه الحروب من القبيلتين لا يقلّ عن ثلاثمائة رجل...
وعلينا أن نلاحظ أنّ موضوع معلّقة زهير، على ما يبدو فيه من حكمة وتأمّل في الكون؛ بأنّ الباعث الأوّل على قولها يَمْثُلْ في عادات عربيّة قديمة، وقد ظلّت قائمة إلى يومنا هذا، وهي تنظيم مسابقات بين الخيول... فلولا سباق تينك الفرسين لما وقعت حرب بين عبس وفزارة، ولولا تلك الحرب الطاحنة لما أنشأ زهير قصيدته المعلّقة...
على حين موضوع معلّقة عمرو بن كلثوم يرتبط بحادثة الطبق المشؤومة؛ وذلك لَمَّا التمست هند أمّ عمرو بن هند، ملك الحيرة من ليلى، أمّ عمرو بن كلثوم-وبنت مهلهل بن ربيعة خال امرئ القيس: أن تُناوِلَها الطبق، فأَبَتْ وصاحت: واذُلاَّه! وهي الحادثة التي أفضت إلى قتل ملك الحيرة عمرو بن هند على يد ابن كلثوم (23).
وكأن هذه المعلّقة، معلّقة ابن كلثوم، بمثابة سجّل لأعمال قبيلة تغلب، وما عانته من أهوال، وما لاقته من طوائل، سواء مع أختها قبيلة بكر، أم مع عمرو بن هند ملك الحيرة، الذي اتّهمته تغلب بالتحيّز لبكر في مسألة الرهائن... وقد كلفت تغلب بهذه القصيدة حتى قال أحد الشعراء يسخر منهم، ويتهكّم بهم:


ألهى بني تَغْلِبٍ عن كلّ مَكْرُمَةٍ




قصيدةٌ قالَها عمرو بن كلثوم (24)



بينما ترتبط أحداث معلّقة الحارث بن حّلزة، هي أيضاً، بقبيلة بكر التي ينتمي إليها الحارث، فجاء يردّ فيها على عمرو بن كلثوم التغلبيّ الذي غالى في المكابرة والمنافجة، وبالغ في المنافسة والمنافحة: فجاوز كلّ حدّ، وعدا كلّ طور. ويبدو الحارث بن حلّزة في معلّقته هذه ، على الهدوء البادي، داهيةً ألوى، استطاع أن يدافع عن قبيلته، ويبيّض وجهها، ويسُلَّها من الفتنة كما تسلّ الشعرة من العجين، ويبرئّها من كلّ ما كانت متّهمة به في علاقتها بملك الحيرة في مسألة الرهائن.... فحكمة هذا المعلّقاتي لا تتمثّل في سوق الأقوال، وضرب الأمثال؛ كما جاء ذلك طرفة وزهير، ولكن في الجدال والمساءلة والاحتكام إلى العقل.
والذي يعنينا في كلّ ذلك، أنّ همزيّة الحارث بن حلّزة تدرج في أحداث قبيلته، وتاريخها، وعلاقاتها العامة مع القبائل الأخراة من وجهة، ومع ملك الحيرة من وجهة أخراة: تذوب فيها، وتنطلق منها، لتعود فتنتهي إليها.
وترتبط معلّقة عنترة بحياته، وسيرته، ولونه، ارتباطاً وثيقاً إذ تزعم الرواة أنه تسابّ مع رجل من بني عبس (25) (ويفهم من هذه الرواية أنّ عنترة لم يكن يقول الشعر قبلها، لأنّ ذلك العبسيّ عيّره بسواد لونه، وعبوديّة أمّه، وأنه لم يكن يقول الشعر)، فردّ عليه عنترة في كلمة" (....).وأمّا الشعر، فسترى!" (62).
فموضوع معلّقة عنترة شديد الشبه بموضوع امرئ القيس الذي كان سجّل في معلّقته بعض سيرته، ومغامراته، وهواه، ولذّاته: ولم يكد يأتي عنترة إلاّ شيئاً من ذلك حين سجّل مواقفه في الحرب، وحسن بلائه في ساح الهيجاء، وإخلاصه في حبّ عبلة، ومحاورته لفرسه، ووصفه لمشاهد الأبطال الذين كان يجند لهم فيتهاوون في ساحة الوغى...
وترتبط حكاية معلّقة عنترة بسيرته وهي الفروسيّة النادرة، والشجاعة الخارقة من وجهة، ومعاناته من مأساة العبوديّة التي ورثها بحكم عبوديّة أمّه زبيبة حيث كان النظام القبليّ لدى أهل الجاهليّة، إذا كان الابن من أَمَتِه استعبده، ولم يُلْحِقْه بنسبه.
ولا شيءَ أجمل للشعر من الدفاع عن الهويّة، وإثبات الذات، والبرهنة على سمّو النفس، ونبل الخلاق، لإقناع الناس بأنّ السواد لا صلة له بالشخصية إذا عَظُمَتْ، وبالنفسْ إذا كرمت، وبالعزيمة إذا كبرت. فكان لا مناص لعنترة لكي يصبح شخصية مرموقة أن يقول الشعر، ويحبّ فتاة، ويبلي في ساحة الحرب؛ لكي يدافع عن القبيلة التي لولا تدخّله لكانت تعرضت للفناء والعار، كما تزعمه الأخبار (27).
وأمّا معلّقة طرفة بن العبد فإنها ترتبط، هي أيضاً، بأحداث مَهُولَةٍ حيث لم يكن الفتى يرعوى عن إطلاق لسانه في عمرو بن هند، ملك الحيرة، الذي دبّر له مكيدة خسيسة حين أرسله إلى عامله بالبحرين، ليقتله فقتله (28). فمعلّقته ترتبط، هي أيضاً، بحكاية مأساة ذاتيّة عاشها الشاعر الفتى. فهي شبيهة، من هذا الوجه، بمعلّقتي امرئ القيس وعنترة.
وتبقى معلّقة لبيد التي لا ترتبط بحادثة معينّة، كما أنه لم يفخر فيها بنفسه، ولا بقبيلته؛ ولكنّ موضوعها لمّا ارتبط بوصف البقرة الوحشية، وبالطبيعة، وعلى الجبلّة الأولى، فإنه صار مرتعاً خصيباً لكلّ تحليل أنتروبولوجيّ.
ونلاحظ أنّ ثلاثة من المعلّقاتيين ماتوا مقتولين: وهم امرؤ القيس (الحلّة المسمومة، المشؤومة)، وعنترة الذي قتله، في بعض الروايات الأسد الرهيص، بعد أن بلغ من العمر أرذله، وهو من عبس أيضاَ (29)، وطرفة بن العبد الذي يقال إنه قتله رجل عامّيّ مغمور، ويبدو أنّه كان سيّاف المعلّى بن حنش العبدي(30). كما أن طرفة نشأ يتيماً (واليتم يشبه العبوديّة...) حيث تُوفِّي أبوه وهو لايبرح صبيّاً؛ على حين أنّ امرأ القيس قضى طفولته مشرّداً منبوذاً حيث أنكر أبوه أمره والفتى لا يبرح غضّ الإهاب؛ بينما عاش عنترة طفولة العبد الذليل الذي يرعى الإبل، وينهض بأشقّ الأشغال، ويتجرع، أثناء ذلك، كثيراً من العُقَدِ في نفسه.
ثانياً: المعلّقات وتاريخ بلا أرقام:
متى كان يعيش المعلّقاتيون؟ وكم عُمِّرَ كلٌّ منهم؟ ولِمَ سكت المؤرخون عن أعمارهم، إلاّ ما كان من أمرَيْ طرفة ولَبيدٍ؟ وما أغفل الرواة عن هذه المسألة مع أنها ذات شأن بالقياس إلى كبار الرجال؟ أم أنّ هناك حلقاتٍ مفقودةً من التاريخ العربيّ قبل الإسلام؟ أم أنّ الرواة لم يكونوا يُولونَ لأَسْنانِ الرجال الكبار ما كانوا له أهلاً من العناية والاهتمام؟....

إنّ من حقّنا أن نثير أكثر من سؤال حَوالَ هذه المسألة وقد عرضنا لها في هذه الفقرة من البحث. ذلك بأنّ كلّ ما نعرف، هو أنّ امرأ القيس كان أوّل المعلّقاتيّين وأسبقهم زمناً. ونعرف ذلك، في الحقيقة، مضموناً لا منطوقاً. ولكن يبدو أنّ كلّ ما يباعد بين المعلّقاتيّ الأول، وهو امرؤ القيس، والأخير وهو لبيد لا يكاد يجاوز قرناً واحداً، وبعض قرن.
ولعلّ أوّل المؤرخين العرب تساؤلاً عن عهد امرئ القيس كان ابن قتيبة الذي قرّر أنْ ذا القروح كان يعيش على عهد أنو شروان، ملك الفرس (31) الذي ملك ما بين 531 و 579 ميلاديّة. وقل إن شئت، لمّا كان امرؤ القيس يعيش على عهد قيصر الأوّل الأكبر، ملك الروم، الذي كان يعيش بين
482 و 565 ميلادية؛ فإنّنا نتبنّى موقف الموسوعة العالميّة التي ذهبت إلى أن امرأ القيس توفّى زهاء سنة 550 ميلاديّة، أي قبيل ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلّم بزهاء إحدى وعشرين سنةً؛ أي بزهاء إحدى وستين سنة قبل البعثة المحمديّة (32).
ونحن نفترض، بناء على الأخبار المتضاربة والمتناقضة التي كتبت حول سيرة امرئ القيس (جمهرة أشعار العرب -الشعر والشعراء- الموشّح- الأغاني- خزانة الأدب، ولبّ لباب لسان العرب....) أنه لمّا قَتَلت بنو أسد أباه حجراً لم يكن شيخاً، وربما لم يكن كهلاً أيضاً، ولعله لم يكن جاوز الثلاثين من عمره، وأنه كان أصغر إخوته (33). ونفترض أيضاً أنّ حروبه مع بني أسد لم تدم، انطلاقاً من التحضير لها بالاستنجاد بقبيلتي بكر وتغلب، وفيهما أخواله، أكثر من سنة أو سنتين اثنتين على أبعد تقدير. كما أنّ الحملة الثانية التي قادها على بني أسد في جمع من أهل حمير، وشذّاذ من العرب (34): لا ينبغي لها أن تكون قد جاوزت أكثر من سنتين اثنتين أيضاً. كما أنّ تشرّده في جبلي طيئ، من بعد ذلك، وذهابه إلى أنقرة للاستنجاد بالقيصر جوستينان (482-565) (35) لا نعتقد أنّ ذلك كلّه جاوز ثلاث سنوات... فيكون تقدير عمر امرئ القيس، بناء على هذه الاستناجات التقريبيّة، لدى تسمّمه بحلّة جوستينان المشؤومة، أقلّ من خمسين سنة غالباً.
ولدى تتبّعنا لوفيات الشعراء الستّة الآخرين- وهم العدنانيّون- لاحظنا أنهم كانوا يعيشون، في معظمهم، في مدى زمنيّ متقارب: إمّا متعاصر، وإما سابقٍ أو لاحقٍ بقليل. وقد ذكر البغدادي أنّ زهيراً توفي بسنة واحدة قبل البعثة الشريفة (36). وحتى لبيد بن أبي ربيعة، وهو آخر المعلّقاتيّين وفاة (توفي في بداية خلافة معاوية) (في رأي ابن قتيبة، وفي أواخر خلافته في رأي أبي الفرج الأصبهاني (38). وإذا سلّمنا بما كاد المؤرخون يتفقون عليه) وهو أنه معدوداً في المُعَمَّريْنَ، وأنه توفيّ وسِنُّه مائةٌ وبِضعةٌ وأربعون عاماً في قول (39)، ومائةٌ وسبعٌ وخمسون سنةً في قولٍ آخرَ (40)؛ فإنّ ذلك لا يعني إلاّ أنّ لبيداً عاصر امرأ القيس على وجه اليقين.
ولمّا كان ضبط عمر لبيد يترواح بين مائة وسبعة وأربعين عاماً ومائة وسبعة وخمسين عاماً فإننا نجعل موقفنا بين ذلك وسطاً، ونقيمه على التقريب فنقول: إنه عاش قرناً ونصف قرن تقريباً، وأنه توفّي وسط عهد معاوية.
وإذا علمنا أنّ امرأ القيس توفّي قبل البعثة الشريفة بزهاء إحدى وستين سنة فإنّ لبيداً يكون قد عاش في الجاهليّة قريباً من قرن واحد. وأنه عاش في عهد الإسلام قريباً من نصف قرن. والذي يعنينا في كلّ ذلك خصوصاً: أنّ لبيداً، حسب هذه المعلومات التاريخيّة التي بنينا عليها استنتاجاتنا، عاصر امرأَ القيس يقيناً، وأنه حين توفّي الملك الضلّيل كان عمر لبيد زهاء أربعين عاماً....
وينشأ عن ذلك أنّ الزمن الذي عاش فيه المعلّقاتيّون السبعة كلّه (وذلك بإدخال بداية عمر امرئ القيس الذي نفترض أنه توفّي في سنّ الخمسين تقريباً، وكان ذلك زهاءً خمسمائة وخمسين ميلاديّة، أو قل كان ذلك سنة إحدى وستّين قبل البعثة المحمّديّة) لا يجاوز زهاء قرن وعشر سنوات قبل البعثة، وزهاء نصف قرن بعدها...
ولعلّ ذلك هو الذي حملنا على اعتبار نصوص المعلّقات وحدة واحدة، ومدرسة فنّيّة مندمجة، وأنه من العسير فهمُ نصِّ معلّقةٍ معزولاً عن نصوص المعلّقات الأخراة...
لكنّنا لا نستطيع، بكلّ حزن، تحديد أعمار جميع المعلّقاتيّين، حتّى على وجه الافتراض أو الاحتمال، كما كنّا جئنا ذلك بالقياس إلى امرئ القيس. وكلّ ما في الأمر أنّ عمرو بن كلثوم توفّي فبل سنة ثلاثين وستمائة ميلاديّة (41)، وأنّ زهيراً توفّي بسنة واحدة قبل البعثة النبويّة، بينما عنترة وطرفة توفيا في أواخر القرن السادس الميلادّي. على حين أنّ الحارث بن حلّزة كان يعاصر عمرو بن كلثوم، ولعّله هو أيضاً توفّي في أوائل القرن السابع الميلادّي.
إنّ ذلك كلَّ ما نستطيع قوله حول هذه المسألة التي لم يحقّق في شأنها، على هذا النحو، أحدٌ قبلنا، فيما بلغْناه من الاطلاع.
ثالثاً: المعلّقات وقِدَمِيُّةُ الشعر العربيّ
إنّ كلّ من يبحث في أمر الشعر الجاهليّ، قد يصاب بالحيرة والذهول، وهو يقرأ، هذه الأشعار الراقية التي ظلّت على مدى أكثر من أربعة عشر قرناً: نموذجاً يُحتذى، ومثالاً يقتدى، وكيف ورِثْنا القصيدة العربية ببنيتها الطللية المعروفة، وبإيقاعاتها المَسْكوكَة، وبتقاليدها الجماليّة المرسومة: من حاد عنها لا يكون شاعراً، ومن حاكاها عُدَّ في الشعراء...؟ وكيف أنّ امرأ القيس يتحدّث عن تاريخ لا يعرفه التاريخ، وهو وجود شعراء قبله كانوا يبكون الديار، ويقفون على الأطلال، ولا نعرف عنه شيئاً إلاّ أسماءهم، منهم ابن حمام..؟ وأين ذهب ذلك الشعر؟ وكيف أغفل التاريخ الشفويُّ سير أولئك الشعراء العماليق، كما نفترض بعضهم؟ فقد كانوا من الفحولة والشاعريّة ما جعل أعراب كلْب يزعمون أنّ الأبيات الخمسة الأولى من معلّقة امرئ القيس هي لأمرئ القيس الحمّام بن مالك بن عبيدة بن هبل "وهو ابن حمام الشاعر القديم، الذي يقول فيه بعض الناس: ابن خذام. وقد قيل أنه من بكر بن وائل، وهو الذي قال فيه امرؤ القيس:

*نبكي الديار كما بكى ابن حمام* _(42)؟
أم مثل ذلك الشعر العُذريّ البديع مما كان يهون على الناس فزهُدوا فيه، وعزفوا عنه؟ أم أن الفتن والحروب هي التي أودت بذلك الشعر كما أودت بأصحابه؟ أم أنّ اشتغال العرب بالجهاد، وفناء كثير منهم في حروب الردّة، يوم صفيّن، ويوم الجمل، وأيّام الفتن الأخراة المبكّرة التي حصدت كثيراً من أرواح الرجال هي التي عجّلت بدفن تاريخ الشعر العربي، وطمس معالمه الأولى الحقيقيّة إلى الأبد؟
ونعود لنتساءل، ولا نملك أكثر من هذا التساؤل الحيران: كيف ولد الشعر العربيّ راقياً كاملاً، وناضجاً رائعاً؟ وكيف نشأت القصيدة العربيّة- الجاهليّة- مكتملة البناء، محكمة النسج، بديعة السبك، على هذا النحو، ثمّ كيف لا نعرف قبل هؤلاء الشعراء العماليق شعراء أوساطاً قَبْلهم، ولا شعراء عماليق أمثالهم...؟ وكيف لانكاد نجد الرواة القدماء يوردون إلاّ أبياتاً قليلة، ممّا صحّ لديهم، قد لا تزيد عن العشرين بيتاً، في مجموعها؟ وكيف يمكن للمؤرخ فكُّ هذا اللّغز، وللباحث فهم هذا السّر؟
لقد اتفق قدماء مؤرّخي الأدب، على أنه "لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلاّ الأبيات يقولها الرجل في حاجته، وإنّما قُصِّدَت القصائدُ وطُوِّلَ الشعرُ على عهد عبد المطّلب، وهاشم بن عبد مناف" (43).
ونلاحظ أنّ أيّاً من مؤرّخي الأدب العربيّ القدامى (ابن سلاّم (44)، وابن قتيبة (45)، والشريف المرتضى (46)، والآمدي (47)....) لم يذكر مصدر خبره والظاهر أنّ مصدر هذه المصادر كلّها هو ابن سلاّم الجمحّي الذي لم يذكر هو، أيضاً من روى عنهم؛ ولا كيف صحّ لديه تلك الأبيات القديمة التي أثبتها، ولا كيف لم تصحّ لديه الأبيات الأخراة؟ (48).
وأنّا لا ندري كيف يمكن أن نقتنع بقدم تلك الأبيات التي أثبتها ابن سلاّم، وجاراه آخرون في إثباتها، على غيرها، وصحّتها من بين سَوائِها؛ في غياب التصريح باسماء الرواة، وانعدام اتّصال السَّنَدِ؟ ثمّ ماذا يعني هذا القِدَمُ الذي لم يكن أوائل المؤرخين يضبطونه بالأرقام؟ وناهيك أنّهم لا يكادرون يؤرّخون لموت أيّ من الشعراء الكبار، والشخصيّات العظام؛ ممّا يجعلنا نعمد، هنا، إلى فرض الفروض لتفسير مقولة ابن سلام المنصرفة إلى زمن تقصيد القصائد الذي ربط بعهدي هاشم بن عبد مناف، وابنه عبد المطّلب. وإذا كان ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلّم أَرَّخَتْ له كتب السيرة بحادثة غزو أبرهة مكّة، وهي الحادثة التي عرفت في القرآن الكريم بـ "أصحاب الفيل"؛ فإنّ عام الفيل حين نحاول ترجمته إلى الأرقام سيعني سنة 570 أو 571 ميلاديّة. ولقد نعلم أنّ عبد المطلّب بن هاشم، جدّ رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ توفّي وعُمْرُ محمّد ثماني سنوات (49): فيكون عهدُ عبد المطلب هو القرن السادس الميلادّي، وعهدُ هاشم ابن عبد مناف هو نهايّة القرن الخامس، وأوائل السادس الميلاديّ.
وقد كنّا رأينا، من قبل، أنّ امرأ القيس توفيّ زهاء سنة 550م. ممّا يجعل من عهد عبد المطلب عهداً لامرئ القيس أيضاً؛ ومن عهد هاشم بن عبد مناف عهداً لمهلهل بن ربيعة التغلبيّ الذي يزعم المرزبانيّ أنه هو "أوّل من قصّد القصائد، وذكر الوقائع" (50).
ويتفق القدماء على أنّ أوائل الأبيات الصحيحة رُوِيَتْ لدرُيد بن يزيد الذي ينتهي بنسبه الشريف المرتضى إلى حمير (51)، وابن كثير إلى قحطان (52). فكأن الشعر العربيّ قحطانيّ الميلاد، حميريّ النشأة، ثمّ عمّ، من بعد ذلك، في بني عدنان بالشمال.
ويذهب الجاحظ إلى أن الشعر العربيّ حديث الميلاد، صغير السنّ: "أوّل من نهج سبيله، وسهّل الطريق، إليه: امرؤ القيس بن حجر، ومهلهل بن ربيعة (....).
ويدلّ على حداثة قول الشعر، قولُ امرِئِ القيس بن حجر:


إِنَّ بني عوف ابْتَنَوْا حَسَناً




ضَيَّعَهُ الدُّخلولُ إَذْ غَدَرُوا



أَدَّواْ إلى جارهم خفَارَتَه




ولم يَضِعْ بالمغيب من نَصَروا



لا حِمْيَريٌّ ولا عَدَسٌ




و آَسْتُ عيرٍ يَحُكُّها الثَّفَرُ



لكنْ عويرٌ وفى بِذِمّته




لا قِصَرٌ عابه ولا عوَرُ



فانظر كم كان عمر زرارة (بن عدس). وكم كان بين موت زرارة ومولد النبيّ عليه الصلاة والسلام. فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له إِلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام" (53).
هذا هو النصّ الجاحظيّ الشهير الذي تداوله الدارسون منذ اثني عشر قرناً.
ونحن بعد أن تأمّلنا تعليق الجاحظ على أبيات امرئ القيس وجدنا هذا التعليق كأنه مقطوع عن كلام ساقط، ونص غائب، وإلا فما معنى تعجب أبي عثمان:" فأنظركم كان عمر زرارة، وكم كان بين موت زرارة ومولد النبيّ عليه الصلاة والسلام". ونحن نفترض أنّ ذكر زرارة كان ورد في شعر امرئ القيس مربوطاً بمناسبة تاريخيّة ذكر فيها زرارة بن عدس، أبو لقيط بن زرارة، فسقط من شعر امرئ القيس، إِن لم يكن ما افترضناه أَوّلاً من سقوط بعض كلام أبي عثمان.. ولم نر أحداً من الدارسين الذي استشهدوا بنصّ الجاحظ تنبّهوا إلى هذا البَتْر، أو إلى هذا الغموض على الأقلّ، ومنهم البهبيتي (54)، وشوقي ضيف(55): إذ هم يهملون الجملة التي استشهدنا بها نحن، ولا يأتون الشعر الذي استنبط منه الجاحظ حكمه حول عمر الشعر العربي قبل الإسلام؛ ويستأنفون؛ وقل أنهم يقطعونه قطعاً، ويبترونه بتراً، من قوله: "فإذا استظهرنا" مع أنّ هذا الاستظهار لم يكن إلا‍ّ نتيجة لمقدّمة، وحكماً مستنبطاً من نصّ...
ثمّ أين الدليل الخِرِّيتُ الذي يوجد في شعر امرئ القيس المستشهد به...؟ إنّ كلام أبي عثمان يفتقر إلى نقاش، ولا يمكن أن نجاريه عليه؛ إذ كان امرئ القيس نفسه يعترف بوجود شعراء قبل عهده، كما يدلّ على ذلك بيته الشهير:


عوجا على الطلَل المُحيل لعّلنا




نبكي الديار كما بكى ابن حمام



وإذ كان من المستحيل التصديقُ بأنّ معلقة امرئ القيس هي مطلع الشعر العربيّ؛ وإذ كان، إذن، من المستحيل إنكار أنّ الشعر العربيّ مرّ بمرحلة طويلة تطوّر فيها إلى أن أصبح الشاعر يقول القصيدة على ذلك النحو البديع المكتمل الذي بلغتنا عليه القصائد الجاهليّة الناضجة الأدوات الفنيّة.... كما يلاحظ ذلك أستاذنا الدكتور البهبيتي ممّا كان قرّره أبو عثمان، إذ: "النموّ الطبيعيّ للقصيدة العربيّة، أوزانها وموضوعاتها، واللغة ونحوها وأساليبها، وإيجازها، يستدعي أن تكون مرّت، قبل زمن امرئ القيس، بأطوار كثيرة، وتعثّرت تعثّرات جمّة حتّى اكتمل لها هذا الشكل الذي نجدها عليه في شعر امرئ القيس، ومن سبقه، أو جاء بعده "56).
وبينما يذهب الجاحظ إلى أنّ عمر الشعر العربيّ كلّه لا ينبغي له أن يرجع إلى أقدم من عهد امرئ القيس الذي يعدّ، في رأيه، "أوّل من نهج سبيله، وسهّل الطريق إليه" -مع مهلهل بن ربيعة- فأنه يقرر، بجانب ذلك- وهذا رأي عامّ أجمع عليه كلّ الذين تحدّثوا عن قدماء العرب -أن العرب كانت تحتال في تخليد مآثرها "بأن، تَعُمِدَ على الشعر الموزون، والكلام المقفّى، وكان ذلك هو ديوانها"(57).
فهل تعود فترة التخليد إلى قرن ونصف فقط، قبل ظهور الإسلام؟ وهل يمكن أن تخلّد حضارة، وتكرّس تقاليد جماليّة، وتؤصّل أصول هذا الشعر في رقيّه، وجماله، وكماله، وسَعَة ما فيه من خيال، وإبداع ما فيه من فنّ القول، وزخرف الكلام؛ كلّ ذلك في مثل الفترة القصيرة؟ وما ذهب إليه عليّ البطل من أنّ عمر الشعر العربيّ قد يعود إلى ألف عام قبل الإسلام (58) ليس مبالغاً فيه.
رابعاً: هل عمر الشعر العربيّ خمسة وعشرون قرناً قبل الإسلام؟
كثيراً ما كان المؤرخون القدماء يقعون في المحظور بتقريرهم الأخبار المستحيلة، وروايتهم الأشعار المنحولة، فمن ذلك اتفاقهم على أنّ عمرو بن الحارث بن مُضاض هو الذي قال تلك القصيدة الرائيّة البديعة التي لاندري ما منع حمّاداً الراوية من تصنيفها في المعلّقات، إلاّ إذا منعه من ذلك، حجمها القصيرُ، وهي التي يقول ابن مضاض، فيما تزعم كثير من الكتب التي تناولت المجتمع المكّيّ القديم، في بعضها:


وقائلةٍ والدمع سَكْبٌ مُبادر




وقد شرقَتْ بالدمع منّا المحاجرً



كأن لم يكن بين الحَجون إلى الصَّفا




أنيسٌ، ولم يَسْمُرْ بمكّة سامِرُ



بلى نحن كُنَّا أهلَها فأبادَنا




صروفُ اللّيالي والجُدودُ العواثِرُ(59)



فإن كان صاحب هذه القصيدة التي أثبتنا منها هذه الثلاثةَ الأبيات، هو عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهميّ، حقّاً؛ وأنّ هذه القصيدة وُجِدَتْ مكتوبة، فيما يزعم بعض الرواة الذين لم يسمّوا لابن هشام مَنْ رَووا عنهم، هم، على حَجَرٍ باليمن (60): فذلك يعني أنّ عمر الشعر العربيّ، بناء على المستوى الفنيّ الذي نصادفه في هذه القصيدة العجيبة، قد يكون جاوز ثلاثين قرناً قبل الإسلام؛ وذلك لأنّ هذا الجرهميّ كان يعيش قبيل زمن إبراهيم عليه السلام بزهاء قرن على الأقلّ، ولمّا كان إبراهيم كان يعيش في القرن التاسع عشر، أو الثامن عشر، قبل الميلاد (61): فإنّ عمر الشعر العربيّ قد يبلغ خمسة وعشرين قرناً على الأقلّ قبل الإسلام. ومن العجب العجيب أنّ جميع مُؤَرخي السيرة، وكلّ قدماء المؤرخين للحياة العربيّة قبل الإسلام، كانوا يتحدثون في ثقة تشبه اليقين عما يمكن أن نطلق عليه الدولة الجرهميّة التي حكمت مكّة وضواحيها بعد ولد اسماعيل عليه السلام: طوالَ زهاءِ خمسةِ قرونٍ ونصفٍ (62). فهل يصحّ تاريخ هذه الدولة، أو الأسرة الحاكمة (جرهم) دون صحّة شعر شاعرها، وهو أحد حكّامها غير المتوّجين؟ وهل يمكن تكذيب كلّ تلك الروايات التي رواها قدماء المؤرخين، والحال أنّ ابن هشام، وهو ثقة، يتحدّث عن وجود تلك القصيدة مكتوبةً على حَجَرِ باليمن؟ وكأنّ الشيخ كان واعياً بتساؤل الذي يأتون بعده فحسم هذه المسألة بعدم نسبتها إلى مجرّد الرواية الشفويّة الطائرة، ولكن إلى كتابه مرقومة على حجر؟ وإذا ذهب ذاهب إلى أنّ هذا الكلام الذي جاء عليه كلّ المؤرخين العرب القدماء هو مجرّد رجم بالغيب، وأسطورة في الأساطير، فما القول فيما جاؤوا به من بقيّة الأخبار الأخراة؟ وهل يمكن أن يكونوا سذّجاً يروون كلّ ما كان يقع لهم من أخبار، فنسلّم برفض كلّ ما جاؤوا به ونستريح!؟ أم أنّنا نرفض الرواية فقط، ونقول لابن هشام: لا ، إنّ ما تزعمه من أنّ تلك القصيدة وجدت مكتوبةً على الحجر باليمن، ليس صحيحاً؟ وإنما هو ليس صحيحاً لأنّنا ننفيه بدون إثباتاً. وحجج لهذا النفي، وإنما ننفيه، لأننا نستقدم العهد الذي قيلت فيه هذه القصيدة، وأنّ مضاض كان يعيش حقاً في مكة، بل كان يحكمها حقاً، ونتفق على أنه عربيّ قحّ، ونتفق على أن حكم أسرته لم يدم إلاّ زهاء خمسة قرون ونصف، ثم أطيح بحكمهم، وأُجْلُوا عن مكّة: ولكننا -وعلى الرغم من تسليمنا بكلّ ذلك؛ فإننا نرفض أن يكون بن مضاض قال ذلك الشعر؛ لأنّ الشعر العربي عمره قرن ونصف، أوقرنان اثنان على الأكثر، قبل الإسلام، فيما زعم أبو عثمان الجاحظ؟ مع أنّ المقولة التي تعزى إلى عمر بن الخطاب، والتي أومأ إليها ابن سلاّم إيماءً، وجاء بها ابن جنّي كاملة، تثبت أن الشعر العربي:
1- كثير.
2- قديم.
3- ضاع.
لكن الضياع لا يعني الإطلاقيّة التي لم يبق معها شيء. ويضاف إلى ذلك أن عمر بن الخطاب يعلّل ذهاب الشعر بذهاب الرجال وفنائهم في الحروب، والحال أنّ قصيدة ابن مضاض تزعم الرواة والكتب القديمة أنها كانت مدوّنة على حجر... فلقد ذهب، إذن، عمر إلى أنّ الشعر العربيّ كان: "علم القوم. ولم يكن لهم علم أصحّ منه. فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد، وغزو فارس والروم، ولهيت عن الشعر وروايته، فلمّا كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنّت العرب في الأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يؤولوا إلى ديوان مدوّن، ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقلّ ذلك، وذهب عنهم كثيره (63).

إنّ عمر، رضي الله عنه، إنما يتحدث عن انعدام التدوين، وتعويل العرب في حفظ شعرها على الرواية الشفويّة، فما القول في الشعر الذي دوّن، إن كان قد وقع تدوينه حقاً؟.
ويدلّ على ثبوت وجود كثير من الشعر العربيّ، وقدمه قبل الإسلام قول أبي عمرو بن العلاء الشهير: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلاّ أقلّه، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم، وشعر كثير" (64).
وإنّا لنعلم أنّ أمماً عربيّة قديمة كثيرة انقرضت منها طسم وجديس وعاد وثمود، ولكنّ جرهما لم تنقرض كلّها، ولكنها عادت إلى بلاد اليمن (65) بعد أن غلبتهم على حكم مكّة قضاعة (66)، كما كانت جرهم غلبت، قبل ذلك، بني إسماعيل فانتزعت منهم السقاية وخدمة البيت...
ونعود إلى أمر هذه القصيدة المحيِّرِ، وهي القصيدة التي يزعم ابن هشام أنها وجدت مكتوبة على حجر باليمن: هل كانت مكتوبة باللغة الحِمْيَريَّة؟ إنّا لا نعتقد ذلك. لأنّ كلّ التواريخ القديمة تزعم أنّ إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، إنما تعلّم العربية من جرهم، والحال أن العربيّة الإسماعيليّة هي العربيّة العدنانية التي نزل بها القرآن، وقيلت بها المعلّقات والوجه لدينا في حلّ هذا اللغر العجيب:
1- إنّ قبيلة جرهم حين وافت البيت من اليمن تطورت لغتها من الحميريّة إلى العربية الحديثة، بفعل الاحتكاك الذي كان يقع بين الذين يقصدون البيت العتيق. ولكن قد ينشأ عن هذا المذهب أنّ جرهماً قد تكون أقامت بمكّة أكثر من خمسة قرون ونصف، وهو الذي تزعمه أخبار التاريخ، كما سلفت الإشارة إلى ذلك.
2- إنّ القصيدة الرائيّة البديعة المنسوبة إلى ابن مضاض، وهو أحد ملوك جرهم، قد يكون تدوينها على الحجر وقع بعد اضطرار جرهم إلى العودة إلى اليمن.
3- ونلاحظ أنّ ابن هشام يورد أبياتاً ثلاثة أخراة معزوة إلى الشاعر نفسه، ويزعم أنها صحّت لديه، كما يؤكّد أنها وجدت مكتوبة على حجر باليمن (57). فكأنّ الأقدمين يريدون أن يثبتوا هذه الأبيات، ويؤكّدوا صحّتها بحكم أنها وجدت مدوّنة على الحجر، فيزعمون: "أنّ هذه الأبيات أول شعر قيل في العرب" (56).
ولكن المشكلة المعرفيّة المركزيّة في هذه المسألة أن هذا الشعر قديم جداً، وإننا لا نجد شعراً آخر يُرْوى، إلاّ ماكان من عهدي مهلهل بن ربيعة وامرئ القيس.... ولكنّنا كنّا زعمنا أن القصيدة المضاضية التي ذكرت، ذُكِرَ أنها وُجِدَتْ مكتوبةً على الحجر؛ فأمْرُها إذن مختلف. لكنّ الذي يبعد ذلك، أنّ لغتها راقية جداً، وأنّ الأسلوب أنيق، وأنّ النحو مستقيم، وأن الإيقاع مستقيم، وأنّ كلّ ما فيها يوحي بخضوعها للتهذيب والتشذيب، والتغيير والتبديل، إلاّ أن يكون عمر الشعر العربيّ أكثر بكثير ممّا يتصور أي متصور، وهذا أمر مستحيل. إذ ينشأ عن تقبّل نصّ هذه القصيدة كما روتها كتب الأخبار والسيرة، أنّ الشعر العربيّ كان عظيم الأزدهار على عهد جرهم، وأنّ اسماعيل عليه السلام حين تعلّم العربيّة لم يتعلّم مجرد لغة بدائيّة قصاراها أداءُ الحاجة الدنيا مما في النفس، ولكنها كانت لغة أدب رفيع... وهذا أمر محيّر...

إنّ الذي أردتُ أن أنبّه إليه في نقاش هذه الإشكاليّة هو أنّ القصيدة الجرهميّة لم تثبت على أنها رويت أصاغر عن أكابر، (وذلك مرفوض لبعد الزمن، وكثرة الفتن، وانعدام التدوين....)، ولكنها أثبتت على أساس أنها الفيت مكتوبةً على حجر باليمن.... وببعض ذلك تضيق شقّة المشكلة بحيث تغتدي مقتصرة على: هل وجدت مكتوبة، أو لم توجد مكتوبة؟ فإن كانت الإجابة بنعم- ولا أحد يمتلك في الحقيقة الإجابة لا بنعم، ولا بلا-: فما شأنُ اللغة التي كتبت بها ؟ وما بال الأسلوب الأنيق التي نسجت به؟ وينشأ عن التصديق أنّ الشعر العربيّ أقدم ممّا يظنّ الظانّون، والأقدمون أنفسهم يعترفون بقدميّة الشعر العربي- أقصد المتشددين في الرواية، والمحترزين في إثبات الأخبار أمثال ابن سلام- وحينئذ ننتهي إلى الميل إلى تقبّل نصّ هذه القصيدة إذا كانت وجدت، حقاً، مكتوبةً، مع ميلنا إلى أنه قد يكون وقع عليها بعض التهذيب لدى إثباتها كما رواها ابن اسحاق في القرن الأوّل الهجري (58-150؟ هـ).
والحقّ أن ابن سلاّم لَمَّا رفض الشعر إذا عاد إلى أكثر من عهد عدنان، فإنما كان مبدؤه قائماً على أساس الشعر المروّى (69)، لا على أساس الشعر المدوّن على الحجر.
والذي يعنينا في كل، هذا، وهنا والآن (وعلى أننا لم نرد أن نذهب، في بحث هذه المسألة المُعْتاصَةِ، مذهباً مُسْرِفاً في استقراء الآراء التي لا تكاد تخرج عما ذكرنا، ومناقشتها باستفاضة؛ إذ لو جئنا شيئاً لاستحالت هذه المقالة إلى كتاب....) أنّ المعلّقات نشأت على عهد مقصّد القصائد وهو المهلهل بن ربيعة التغلبيّ، خال امرئ القيس، وأنّ ذلك العهد، في أقصى التقديرات، لا يرجع إلى أكثر من قرن ونصف قبل البعثة النبويّة، وأنّ الشعر العربيّ ضاع باهمال أهله إيّاه، أو اشتغالهم بالجهاد، وسقوطهم بالآلاف في المعارك في ظرف قصير من الزمان أثناء الفتوح الأولى....
ولكن يستحيل علينا أن نصدّق أنّ الشعر العربي نشأ طفرة، ونبغ صبيّاً..... فعلينا أن نكون سذجاً باديِّ السذاجة إذا ما اعتقدنا بذلك... إلا لا يمكن أن يكون ذلك المستوى الفنيّ الرفيع الذي جاءت عليه تلك المعلّقات والأشعار الأخراة التي عاصرتها إلاّ بعد أن يكون الشعر العربيّ مرّ بمراحل طويلة تطوّر خلالها إلى أن بلغ تلك الدرجة العالية من الجودة والنضج والرصانة.... يجب أن تكون المعلّقات نشأت في بيئة شعريّة راقية، وفي جوّ أدبيّ خصب بحيث كان كلّ عربيّ يستطيع أن يقول البيت والأبيات يؤدّي بها حاجته. كما كانت القبائل تحتفل بنبوغ شعرائها فكانت "القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنّأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان، لأنّه حماية لأعراضهم، وذبّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم. وكانوا لا يهنّئون إلاّ بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج"(70).
وكانت النساء يروين الشعر كما يرويه الرجال، فكان الشعر بالقياس إلى العرب هو الثقافة الأولى، والعبقريّة الأولى ، والغاية الأولى.
ومع كلّ ذلك فإننا نميل إلى أنّ الشعر العربيّ، في الحقيقة، ضاع قبل مجيء الإسلام، فإشارة امرئ القيس إلى ابن حمام، وإشارة عنترة إلى أنّ الشعراء لم يكونوا غادروا شيئاً ممّا يقال إلاّ نسجوا من حوله الشعر... من الأمور التي تجعلنا نذهب إلى أنّ لعنة الضياع لم تأت على الشعر العربيّ بسبب الحروب والفتن التي وقعت بعد ظهور الإسلام: حروب الردّة، وصفيّن، والجمل، والنهروان، والحروب الطاحنة التي استمرت بين الأموّيين والخوارج، والأموّيين وابن الزبير... كلّ أولئك فتن مُدْلَهِمَّة أتت على من كان باقياً من حفظة القرآن، وحملة الشعر، ورواة الأخبار... ولم يكن الناس، في القرن الأوّل الهجرّي يدوّنون شيئاً من مآثرهم؛ فضاع علم كثير، وأخبار ذات شأن..
وإذن فالشعر العربيّ القديم اجتاحته الجوائح قبل الإسلام بالصواعق والطوافين والأعاصير التي أذهب الله بها أمماً عربيّة قديمةً مثل طسم وجديس وعاد وثمود....، كما اجتاحته جوائح أخراة تمثّلت في الفتن التي وقعت بين العرب المسلمينأثناء القرن الأول الهجري؛ فلما جاء الناس يدوّنون بعض تلك الأخبار، انطلاقاً من القرن الثاني للهجرة، لم يجدوا منها إلاّ بقايا ضحلة، فكثر الوضع، وقلّ الخير...
خامساً: معلّقات العرب هل علّقت حقاً...؟
لقد سال كثير من الحبر حول إشكاليّة تعليق المعلّقات: أين علّقت؟ وأيّان علّقت؟ وما الكيفيّة التي علّقت بها؟ ولِمَ علّقت؟....

إنّ كثيراً من النقاد العرب القدامى، (ابن رشيق، وابن عبد ربه، وابن خلدون وغيرهم....) كانوا يذهبون إلى أنّها علّقت على أركان الكعبة... لكن هل يقتضي التعليق، حتماً، أن يكون على جدران الكعبة؟ أو لا يكون ذلك التعليق إنما كان في مكتبات قصور بعض الملوك، أمثال المناذرة؟ أم أنها لم تعلّق أصلاً، ولكن حكاية التعليق اختلقها، لبعض التعبير، بعض الرواة المحترفين، غير الموثوقين، أمثال حماد الراوية، أو بعض رواة القبائل غير المحترفين لإرضاء النزعة العصبيّة، والحميّة القبليّة، والعنجهيّة الجاهليّة: فابتدأ الأمر بمعلقة واحدة هي معلّقة امرئ القيس؛ فلمّا رأت العدنانيّة ذلك كبر عليها أن لا يكون لها بعض ذلك فوسّعت فكرة دائرة التعليق إلى طائفة من القبائل العدنانيّة الماجدة حيث توزّعت المعلّقات الأخراة على بكر وتغلب (القبيلتين المتنافستين المتعاديتين اللتين دارت بينهما حروب طاحنة) وقيس، وغطفان....
ولقد جاهد الأستاذ طلال حرب نفسه أَعْنَتَ الجهاد وأشقَّه في سبيل رفض فكرة المعلّقات من أصلها (71)، متأثّراً في ذلك بما كان ذهب إليه الأستاذ مصطفى صادق الرافعيّ الذي أنكر فكرة المعلّقات من أساسها، وعدّها مجرّد أسطورة في الأساطير (72). وقد كان سبق إلى رفض هذه الفكرة أبو جعفر النحاس (73).
والحقّ أنّ كثيراً من قدماء المؤرخين العرب اصطنعوا مصطلح "معلّقة"، ولم يشكّوا، كما لم يشكّكوا في أمر تسميتها. ولقد وقعنا، فيما أتيح لنا الاطلاع عليه من مصادر قديمة، على زهاء ثمانية مصادر ورد فيها ذكر اصطلاح المعلّقة، أو المعلّقات، إمّا مرة واحدة، وإمّا مرات متعددة -كما هو الشأن بالقياس إلى البغدادي في خزانة الأدب- صراحة، منها نصوص قديمة يعود العهد بها إلى القرن الثاني الهجريّ. والنصوص التي وردت في تلك المصادر هي لأبي زيد القرشي (74)، وأبي الفرج الأصبهاني (75)، وابن عبد ربه الأندلسيّ(76)، وابن رشيق المَسَليّ القيرواني(77)، وياقوت الحموي (78)، وابن كثير (79)، وابن خلدون (80)، والبغدادي (81)... فهل يجب أن نعدّ هؤلاء جميعاً سُذَّجاً وغَفَلَةً عن العلم ففاتهم أن يعرفوا اللُّغْزَ في هذه المسألة؟ إننا نعتقد أنه لايمكن أو يوجد دخان بلا نار، ولا نار بلا مادّة قابلة للاحتراق. وأنّ الأخبار الكبيرة، أو ما نودّ أن نطلق عليه نحن كذلك، يمكن أن يُتَزَيَّدَ فيها، ويمكن أن تُنْحَلَ مُتونَها، وتُحَرَّفُ رواياتُها؛ لكننا لا نعتقد أنّها تُختلق من عدم، وتنشأ من هباء.... ففكرة المعلّقات، في تقديرنا، غالباً ما تكون قد وقعت بالفعل على نحو ما، ولقصائد ما، نرجّح أن تكون القصائد السبع نفسها التي شرحها الزوزني، لأنها فعلاً من روائع الشعر الإنسانيّ على الإطلاق...
والذين لم يذكروا المعلّقات باسمها صراحة أمثال ابن قتيبة، وابن سلام الجحمي، والمرزيانيّ، والجاحظ -من مؤرّخي الأدب القدماء- فإنهم، في الحقيقة، ذكروها ضمناً حيث وقع اختيارهم على كثير من الأشعار المعلّقاتيّة، أساساً، كما وقع ذلك خصوصاً بالقياس إلى معلّقة امرئ القيس التي كلف بها القدماء كلفاً شديداً: فلهجوا برواية أبياتها والتعليق عليها، وإبداء الإعجاب بها طوراً، وانتقادها طوراً آخر. ولكنّ الإعجاب كان هو الأغلب الأطفح...
ثمّ إن المصطلح النقديّ العربيّ ظلّ طول الدهر، وفي كثير من أطوار حياته، يعاني الاضطراب والتساهل والتسامح في الاستعمال؛ فإذا كان طه حسين حين كان يتحدث عن إحدى روايات نجيب محفوظ الشهيرة ألفيناه يصطنع اصطلاح "قصّة" (وهو يريد مصطلح) "رواية"، وكان ذلك في الأعوام الخمسين من هذا القرن: فما القول في النقاد القدماء الذين كثيراً ما كانوا يعبّرون عن المعلّقة بالطويلة لأنها طويلة فعلاً، ومذهبة، لأنها مذهبة فعلاً، او واحدة، لأنّ بعض المعلّقاتيين لم يشتهر إلاّ بها مثل عمر بن كلثوم، والحارث بن حلّزة، وعنترة بن شداد.... وقل إن شئتَ كلّ المعلّقاتيين ما عدا امرأ القيس الذي اشتهر بمطوّلته الأخراة، العجيبة، أيضاً.
وإذن، فلقد كان في أذهان من لم يذكروا المعلّقات السبع، تحت هذا المصطلح، أنها آثر القصائد لدى العرب، وأنّ وصفها بالتعليق لم يكن إلاّ ثمرة من ثمرات تلك العناية الفائقة بها، وترويتها للناشئة، وتَسْيير الرُّكبان بها... فقد ألفيناهم يذكرونها بعدّة أسماء أمثال السمط.. وبينما يذهب ابن عبد ربه إلى أنّه كان يقال للمعلّقات أيضاً "المذهبات"، فيقال: "مذهبة امرئ القيس، ومذهبة زهير، والمذهبات سبع، وقد يقال لها المعلّقات" (83)، ويجاريه في ذلك ابن رشيق فيقرر أنه كان "يقال: مذهبة فلان، إذا كانت أجود شعره. ذكر ذلك غير واحد من العلماء" (84)؛ نلفي أبازيد القرشي يميّز بين المذهبات والمعلّقات والمجمهرات(85)، بعد أن كان أطلق على المعلّقات في بداية الأمر مصطلح "السبع الطوال" نقلاً عن المفضّل، وليس عن أبي عبيدة كما زعم كثير من الناس(86) حيث إنّ النص المروّى عن أبي عبيدة ينتهي، ثم يورد بين قوسين نصّ المفضّل. فليس الخلاف إذن في الجوهر، ولكنه في الشكل؛ إذا يلاعُ كلّ القدماء بهذه السبع، لم يك إلاّ دليلاً خِرِّيتاً على اتفاقهم على روعتها وجودتها، بغضّ الطرف عن الأشكال التي اتخذتها في أذهان الناس...
وعلى أنّ ابن رشيق كان أورد في بداية كلامه أنّ الذي يقرره إنما هو نقلاً عن أبي زيد القرشي حيث قال: "وقال محمد بن أبي الخطاب في كتابه الموسوم بجمهرة أشعار العرب: إنّ أبا عبيدة قال: أصحاب السبع التي تسمّى السمط(87)" (88).... بينما أبو عبيدة، بناء على ما بين يدينا في كتاب "جمهرة أشعار العرب"، لم يقل شيئاً من هذا؛ ولكن الذي قال هو المفضّل حيث ذكر أبو الخطاب ذلك معزوّاً إلى المفضل إذ كتب: "وقال المفضّل: هؤلاء أصحاب السبع الطوال التي تسميها العرب السموط...." (89).
ونجد أبا الخطاب القرشي، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وهو أقدم هؤلاء المؤرخين جميعاً (توفي سنة 170هـ) يطلق مصطلح "المذهبات" على غير "المعلّقات" حيث قال: "وأمّا المذهبّات فللأوس والخزرج خاصّة: وهنّ لحسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، ومالك بن العجلان، وقيس ابن الخطيم، وأحيحة بن الجلاّح، وأبي قيس بن الأسلت، وعمرو بنو امرئ القيس" (90).
فما هذا الخلط، وما هذا الغُثاء من الآراء؟
فالأولى: إنّ ابن رشيق يجعل رواية القرشي عن أبي عبيدة، بينما الرواية في النصّ المستشهد به، هي في الحقيقة، عن المفضّل.
والثانية: لعلّ المصدر الأوّل المكتوب الذي تحدّث عن المعلّقات ضمناً: تحت مصطلح "السبع الطوال" طوراً، و"السموط" طوراً آخر، وصراحة حين قال: "تمّت المعلّقات، ويليها المجمهرات" (91) إنماهي "جمهرة أشعار العرب".
والثالثة: فات الأستاذ طلال حرب أن يطّلع على أن القرشيّ هو أيضاً ذكر مصطلح المعلّقات صراحة في صلب كتابه، فأخرجه من طبقة من ذكروا المعلّقات، كما فاته الاطلاع على ما ورد من معلومات ذات شأن حول المعلّقات -بذكر هذا المصطلح صراحة- في السيرة النبويّة لابن كثير(92).
والرابعة: إنّ ما حيّر الأستاذ طلال حرب بناء، على نصّ أو رده الرافعيّ، غير موثَّقٍ، معزوّاً لابن الكلبي (93) لا يحتاج إلى كُلِّ هذا العناء ما دام الرافعي لم يكن يلتزم بالمنهج الجامعيّ الصارم في توثيق النصوص التي يستشهد بها، وهو على كلّ حال، في بعض ذلك غير مُليم، لأنه لم يضع النص الذي نقله منسوباً إلى ابن الكلبي بين علامات التنصيص، ممّا يوحي، منهجيّاً، بأنّه متصرّفٌ فيه....
والخامسة: إنّ ما حيّر طلال حرب حين لم يتمكّن من الاطلاع على المصدر الذي استقى منه الرافعي، مرفوعاً إلى ابن الكلبيّ، والذي كان الرافعيّ أو رده: فإننا نميل إلى أنّ ذلك النص، قد يكون منقولاً من ابن كثير (94). ولكن لمّا كان الرافعي لا يلتزم باصطناع علامات التنصيص الأكاديميّة فإنه كان لايتحرّج في التصرّف في الكلام، وربما سها فعزا ما كان قاله ابن قتيبة حَوالَ عمرو بن كلثوم، كما سنرى، إلى ما قاله عن الحارث بن حلّزة (95). فقد كان ابن كثير، لدى تعرّضه للمعلّقات السبع، كثيراً ما يذكر ابن الكلبي. بيد أنّ النص الذي ذكره الرافعي متصرفٌ فيه غالباً، ونفترض أنه مركب من جملة نصوص (من ابن كثير، وابن رشيق، والبغدادي...)...
والسادسة: إنّ الأستاذ الرافعيّ وقع في خلط عجيب، ولبس مشين... ولا يمكن التعويل عليه فيما أورد في كتابه "تاريخ آداب العرب" حول هذه المسألة؛ إذ لم يتّبع أصول التوثيق الأكاديميّ المعمول به بين الباحثين، لأنه، مثلاً،:
1- يقول: "وقال ابن قتيبة في ترجمة طرفة: وهو أجودهم طويلة" (96). بينما لم يقل ابن قتيبة، في الأصل، شيئاً من هذا، ولكنّ القول مرويّ أولاً عن أبي عبيدة، والمقولة في أصلها، آخراً" أجودهم واحدة" (97)؛ وليست: "أجودهم طويلة" -إلاّ أن تكون طبعة الشيخ غير طبعتنا، فمعذرة.

2- ويخلط الرافعيّ بين النص الواردعن عمرو بن كلثوم فيجعله وارداً حول الحارث بن حلّزة، وذلك حين يقول:
"قال (ابن قتيبة) في ترجمة الحارث بن حلّزة عند ذكر قصيدته، وهي من جيّد شعر العرب، وإحدى السبع المعلّقات" (98).
والحق أنّ ذلك النص كان ورد عن شأن عمرو بن كلثوم، لا عن الحارث بن حلّزة؛ إذ يقول ابن قتيبة عن معلقة ابن كلثوم: "وهي من جيّد الشعر العربيّ القديم. وإحدى السبع" (99).
وقدسها الرافعي مرتين اثنتين: حين نقل النص من ابن قتيبة، ثم حين نقله من البغداديّ الذي يقرر هو أيضاً، نقلاً عن ابن قتيبة: "قصيدة عمرو بن كلثوم من جيّد شعر العرب، وإحدى السبع" (100). فالأمر إذن ينصرف إلى عمرو بن كلثوم لا إلى ابن حلّزة...
إنه لا أحد يستطيع القطع، أمام هذه الاختلافات بين المؤرخين، بعدم تعليقيّة المعلّقات السبع، وإلا فعلينا أن نرفض تاريخ الأدب العربيّ كلّه ونستريح.
سادساً: استبعاد فكرة التعليق:
ولكن هل هذا ممكن؟ وكيف نذهب مذهبين اثنين، متناقضين، في مقام واحدٍ، وكيف يمكن الجمع بين الاستنتاجين؟ وهلا اجتزأنا بموقف واحد صريح، وحكم واحد صارم واسترحنا؟ أو لا يكون هذا ضرباً من التردد، وجنساً من الاضطراب، في الموقف؟

وإنّا لانرى شيئاً من ذلك. وإنّا لا نجد أيّ حرج في وقوف الموقفين، وقيام المقامين معاً... ذلك بأنّنا، لا نؤمن بإصدار الأحكام القطعيّة حول القضايا المشكلة... ونحن إذ نفتح الباب لاستبعاد فكرة التعليق، بعد أن كنّا ملنا إلى استبعاد فكرة عدم التعليق؛ فلأننا نؤمن بحرية الفكر؛ ولأننا نعتقد أن أتّرَاكَ باب البحث مفتوحاً هو الأسلم والأرصن..
ونحن إذ كنّا نؤمن بفكرة التعليق؛ فإنما نصرفه إلى غير التعليق على أركان الكعبة....وهذا ما نودّ بحثه في هذه الفقرة...
وإذن، فأَنْ تكونَ القصائدُ السبع الطوال، أو المعلّقات السبع، علّقت على جدران الكعبة كما زعمت بعض المصادر القديمة، وثلاثة منها مغاربيّة (ابن رشيق، وابن عبد ربه، وابن خلدون) فذاك أمر نرتاب فيه؛ و لانميل إليه. وإنما نرتاب فيه لبعض هذه الأسباب:
1- إنّ الكعبة كانت تعرضت للنهب، وللسيول الجارفة (101)، وللتهدّم والتساقط(102).
2- إنّ المؤرخين القدامى من اتّفقوا على أنّ الكعبة لم تكن مسقوفة (103). وإذا لم تكن كذلك، فكيف يمكن تعليق جلود مكتوبة عليها، بَلَهْ ورق القباطيّ الشديد الحساسية للعوامل الجويّة (وذلك مجاراة لأقوال بعض الأقدمين مثل ابن رشيق الذي قرر بأنها كانت مكتوبة على القباطيّ) والحال إنّ أيّ كتابة لايمكن أن تبقى متوهّجة مقروءة، لزمن طويل، تحت تأثير العوامل الطبيعيّة مثل الرياح، وأشعّة الشمس، ورطوبة الليل، وبلّ المطر؟
3- اتّفق المؤرخين العرب القدامى أيضاً على أنّ الكعبة لم تكن مَمْلوطَة، ولكنّ بناءها كان عبارة عن رَضْم، أي رصْفِ حجرٍ على حجر من غير مِلاَطِ(104).
4-إنّ المؤرخين القدماء أمثال ابن هشام، وابن كثير، والمسعودي، وياقوت الحموي اتفقوا على أنّ الكعبة لم تسقف إلاّ حين جدّدت قريش بناءها الذي كان قبل البعثة بزهاء خمس سنوات فحسب. والذين يذهبون إلى تعليق تلك القصائد على أستار الكعبة إنما يذهبون، ضمناً، إلى أنّ ذلك كان على عهد الجاهليّة.
5- إنّ موادّ الكتابة، على تلك العهود، كانت من البدائيّة والبساطة بحيث لم يكن ممكناً، عقلاً، أن يكتب كاتب نصّاً طويلاً يقترب من ثمانين بيتاً، تزيد قليلاً، أو تنقص قليلاً، على جلد غزال، أو على قباطيّ.
6- إنّ هذه النصوص الشعريّة السبعة لطولها، لو جئنا نكتبها اليوم على جدران الكعبة، أو على جدران أيّ بناء آخر في حجم بنائها، على مواصفات العهود الأولى- وعلى ما نمتلك اليوم من وسائل متطورة للكتابة- للاقينا العناء والعنت في كتابتها كلها على تلك الجدران.
وعلى أننا كنا أثبتنا في الحيثيّة الثالثة، من هذا التحليل، أنّ جدران الكعبة لم تكن مملوطة بالملاط، ولكنّ حَجَرها كان عارياً، ويبدو أنّه كان مبنياً على الطريقة اليمنيّة التي تقوم على البناء بالحجر بدون ملاطٍ للربط بين الحجر والآخر. ولعلّ جدران الكعبة لم تملط إلا حين أعاد بناءها عبد الله بن الزبير، بعد أن تعرضت لقذفات المنجنيق التي قذفها بها الحجاج من أبي قبيس، وذلك حين احتمى بها ابن الزبير الذي كان أعاد بناءها بعد أن سمع من خالته عائشة رضي الله عنها حديثاً يرغّب في تجديد بنائها، وتغيير هندسة هيكلها (105).
7- كان في أهل الجاهليّة حنيفيّون، ولم يكن ممكناً أن يرضوا بأن تعلّق على جدران أقدس بيت وضع للناس أشعار تتحدث عن المضاجعة والمباضعة، وسيقان النساء وأثدائهن، وشعورهن وثغورهن...
فعلّ هذه العوامل، مجتمعةً، أن تَحْمِلنا على الذهاب إلى استبعاد فكرة تعليق تلك القصائد على جدران الكعبة، في أي عهد من العهود؛ وذلك على الرغم مما يروى عن معاوية بن أبي سفيان أنّه قال: "قصيدة عمرو بن كلثوم، وقصيدة الحارث بن حلزة من مفاخر العرب، كانتا معلّقتين بالكعبة" (106).

وهذه رواية غريبة، ولا ندري من أين استقاها البغدادي. وهي على كلّ حال تدلّ على أنّ فكرة التعليق كانت، فعلاً، واردة لدى الناس. وأنّ هناك إلحاحاً على التعليق الذي نصرفه نحن، بناء على هذه المقولة وغيرها، إلى أنّ العرب ربما كانت تعلّق هذه القصائد على الكعبة أثناء موسم الحج فقط، وذلك بعد أن تكون قد أُنْشِدَتْ في سوق عكاظ.. وأعتقد أن هذا المذهب قد يحل المشكلة من أساسها فيثبت التعليق فعلاً، ولكن يحدد من زمنه بحيث لايجاوز موسم حجّ واحد.. ومن الآيات على ذلك أن معاوية هنا، إن ثبتت رواية مقولته، يقرن بين قصيدتين متكاملتين على تناقضهما وهما القصيدتان اللتان تتحدثان عن العداوة التي كانت بين بكر وتغلب. فكأن تينك القصيدتين علّقتا على الكعبة معاً في موسم واحد. ونحن لم نهتد إلى هذا الرأي إلا من خلال مقولة معاوية الذي لا يتحدث عن معلقات، ولكنه يتحدث عن معلقتين اثنتين، كما رأينا.
فذلك،إذن، ذلك.
وأما فكرة القبول بالتعليق فيمكن أن تؤوّل على أساس أنها لم تكن على جدران الكعبة، إذ لا يمكن، من الوجهة المادية، ومن الوجهة التقنية أيضاً، تعليق كلّ هذه النصوص على جدران البيت، ولكنها عُلِّقَتْ في مكتبات ما. ويؤيد ذلك ما يعزى إلى بعض الملوك حيث "كان الملك إذا استجيدت قصيدة يقول: علقوا لنا هذه، لتكون في خزانته" (107).
وربما أتت فكرة التعليق أيضاً مما يُعْزَى إلى عبد الملك بن مروان من أنه طرح شعر أربعة معلقاتيين، وأثبت مكانهم أربعة (108) آخرين.
بل ربما أتت من "أنّ بعض أمراء بني أمية أمر من اختار له سبعة أشعارٍ فسماها المعلقات" (109). لكنّ البغدادي الذي يبدو أنه تفرّد بهذه الإشارة، على الأقلّ فيما اطلعنا عليه نحن من مصادر، لم يذكر المصدر الذي استقى منه هذه المعلومة، ولا كيف سمّاها المعلقات، وهي لم تعلق (وذلك ما يفهم من قول البغدادي)؟
إننا نعتقد أن ذكر أربع ملابسات تاريخية، وهي:
1- ورود ذكر اسم عبد الملك بن مروان، وأنه قرر طرح أربعة أسماء، وإثبات أربعة آخرين، من المعلقاتيين، ولم يكن ذلك ليحدث إلا بعد الاستئناس برأي نقّاد الشعر على عهده؛
2- ورود ذكر "بعض أمراء بني أمية"؛
3- ورود ذكر حماد الراوية المتوفّى سنة خمس وخمسين ومائة من الهجرة، وقد سلخ معظم عمره في عهد دولة بني أمية؛ وأنّه هو الذي جمع المعلقات فيما يزعم أبو جعفر النحاس (110)، وهو ذاك؛ فإنّ ابن سلام الجمحيّ كان أومأ إلى هذا حين ذكر "أنّ أوّل من جمع أشعار العرب، وساق أحاديثها، حمّاد الراوية. وكان غير موثوق به. وكان ينحل شعر الرجل غيره، وينحله غير شعره، ويزيد في الأشعار" (111).
(وإنما جئنا بما هو ذو صلة بعدم ثقة حمّاد الراوية لكي نربط بينه وبين ما سيقوله أبو جعفر النحاس الذي قرر أنّه لمّا رأى حماد الراوية "زهد الناس في حفظ الشعر، جمع هذه السبع وحضّهم عليها، وقال لهم: هذه المشهورات"(112).
4- كان سبق لنا، منذ قليل أن أوردنا قولاً لمعاوية يقرر فيه أنّ قصيدتي عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلزة من مفاخر العرب، وأنهما "كانتا معلقتين بالكعبة دهراً" (113). ومعاوية هو مؤسس الدولة الأموية...
ولقد ينشأ عن هذه الملابسات التاريخية الأربع:

1- إنّ فكرة التعليق، وحدوثها الاحتماليّ، لم تظهر إلاّ في العهد الأمويّ، لارتباطها بذكر أربع سِمَاتٍ تاريخيةً أمويّة: لا جاهليّة، ولا إسلامية، ولا عباسية.
2- إنّ إشارة أبي جعفر النحاس إلى زهد الناس في الشعر هو الذي حمل حماد الراوية، ليس على جمع القصائد السبع الطوال فحسب، ولكن على التهويل من شأنها، وربطها بمقدسات وطقوس دينيّة تتمثل في أركان الكعبة حتى يقبل الناس على حفظها، وروايتها، وتَرْويَتها، وترويجها، في الآفاق، وقد أفلح حماد، حقاً، فيما أراد إليه. ونحن ندين بالفضل في حفظنا المعلقات، وعنايتنا الشديدة بها إلى هذا العهد، من حيث هي أجود، أو من أجود الشعر العربي القديم على الإطلاق، وذلك على الرغم من احتمال زيادة حماد في نصوص هذه المعلقات ما لم يكن فيها.
3- إننا نميل إلى أنّ فكرة المعلقات ليست مجرد أسطورة في الأساطير، ولكن قد يكون لها أساس من التاريخ والواقع، بشرط ربطها بأمرين اثنين:
1- إنّ التعليق هو التعليق في خزانة بعض أمراء بني أمية أو ملوكها.
2- إنّ التعليق إذا انصرف إلى الكعبة إمّا أن يكون شكل الخطّ، حينئذ، على غير القباطيّ، ولا هو من مادة الذهب، ولا من شيء مما يزعم ابن رشيق، وابن عبد ربه. ولكنّ الكتابة ربما كانت بمداد الوَذْح المحرق، وعلى لوح من الألواح التي كانوا يكتبون عليها أشعارهم أول ما تُمْلَى.
وكانت تلك السيرة قائمةً إلى عهد جرير (114). وقد ظلّت في الحقيقة قائمة في كتاتيب القرآن ببلاد المغرب إلى يومنا هذا... وإمّا أنّ التعليق لم يكن يستمرّ لأكثر من أيام موسم الحج، أو لفترة معينّة، كأنها تشبه شكل المعارض على عهدنا هذا.. وقد يدل على ذلك قول معاوية:
"كانتا (يريد إلى معلقتي عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة) معلقتين بالكعبة دهراً" (115). فكأنّ معنى الدهر في كلام معاوية ينصرف إلى فترة محدّدة، ثم ينقطع. وهو أمر واضح.
4- إننا نستبعد أن تكون القصائد السبع الطوال كلها علقت على أركان الكعبة مجتمعة، وظلّ التعليق متتالياً فيها، وذلك للأسباب السبعة التي جئنا عليها ذكراً، في بعض هذا التحليل.
وإذن؟

وإذن، فنحن نميل إلى قبول فكرة التعليق بشرط ربطها بما قدمنا منذ حين من احترازات. على حين أنّ فكرة رفض التعليق يمكن الذهاب إليها إذا أصرّ المصرون على أنّ المعلقات علقت على أركان الكعبة، في وقت واحدً، وظلّت معلقة هناك، وأنها كتبت في القباطيّ، وأنّ حبرها كان ذهباً.
ولعلنا ببعض ذلك تعمدنا أن نذر الباب مفتوحاً للنقاش والجدال من حول هذه المسألة اللطيفة التي يلذّ حولها البحث، ويحلو عنها الحديث.... فليظل باب البحث مفتوحاً للمجتهدين..










رد مع اقتباس