منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - جديد ماجيستير باتنة
عرض مشاركة واحدة
قديم 2009-10-07, 22:14   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
وائل نور
عضو جديد
 
إحصائية العضو










افتراضي

محاضرات في مقياس القانون الدستوري


السنة الجامعية:2008/ 2009


مقدمة:
الإنسان بطبعه يحتاج إلى الاجتماع مع غيره لتلبية حاجاته، لكن حب السيطرة والتسلط لديه يدفع به للصدام مع غيره، مما يتطلب وجود سلطة تقوم بمهمة حماية الحقوق وتنظيم حياة الأفراد.
وبظهور السلطة التي تنظم العلاقة بين الحكام والمحكومين تظهر السمات الأساسية للدولة، التي تضطر إلى تحديد نطاق سلطتها ومداها، وذلك من خلال النظام القانوني الذي يحكم العلاقات داخل الدولة، وهو ما يعرف بقواعد القانون الدستوري التي تحدد نظام الحكم في الدولة.
لتناول موضوع القانون الدستوري يستدعي البحث في مسألة النظرية العامة للدولة، ثم نفرد قسما خاصا للنظرية العامة للدساتير، نتبعه بقسم نتناول فيه طرق ممارسة السلطة والنظم السياسية المعاصرة.


الفصل الأول: النظرية العامة للدولة.
إذا كانت النظرية العامة للدولة لم تكتمل بعد بسبب اختلاف الفقهاء في تحديد تعريف للدولة نفسها يكون جامعا مانعا، فإن الدراسات الفقهية والبرامج الدراسية التي تناولتها تتفق على تناول المواضيع التالية:
تعريف الدولة وبيان أصل نشأتها ثم أركان الدولة وخصائصها ثم أشكال الدول ووظائفها، هذا ما سنتناوله خلال المباحث التالية.
المبحث الأول: تعريف الدولة.
منذ القدم والدولة تعد مجال اهتمام كبير لدى الفقهاء ورجال القانون والسياسة، واتخذت مفاهيم متعددة عبر العصور عندما تكونت الأسر والعشائر والقبائل، إلى أن أصبحت دول كما هي الآن، وعليه سوف نتناول من خلال هذا المبحث التعريف اللغوي وكذا التعريفات الاصطلاحية للدولة في مطلبين.
المطلب الأول: المعنى اللغوي للدولة.
نلاحظ أن كلمة (دولة) بضم الدال تدل على الشيء الذي يتداول به وهذا ينطبق خاصة على المال، الذي ينتقل من يد إلى يد، وفي هذا المعنى جاء قوله تعالى: » كي لا يكون دُولة بين الأغنياء منكم.» كما تدل كلمة دولة على السنن المتغيرة، أما لفظ (دَولة) بفتح الدال فيشير إلى حالة الانتصار في الحرب أو الانهزام فيها، كما يقال اللهم أدلني على فلان أي انصرني عليه، وفي هذا المعنى يقال كذلك الدَولة لنا أي الغلبة لنا والنصر حليفنا. وهذا المعنى الأخير هو الأقرب إلى المدلول الاصطلاحي للدولة.
المطلب الثاني: المعنى الاصطلاحي للدولة.
اختلف الفقهاء في موضوع مفهوم الدولة ولم يتوصلوا إلى وضع تعريف شامل وموحد لها، وذلك راجع إلى أن الدولة هي ظاهرة اجتماعية معقدة تطورت بتطور المجتمعات البشرية.
ـ الدولة عند أفلاطون وأرسطو: في الحقيقة إن تعبير الدولة كان معروفا منذ القدم عند أفلاطون، وأرسطو الذي يرى بأن الدولة تتمثل في مدينة أثينا في اليونان والتي عاش فيها ويعرفها كالآتي : (هي ذلك المجتمع من الأفراد الذي يتألف ابتغاء تحقيق مصلحة عامة). أما عند الرومان فقد عرف مصطلح الدولة مدلوله السياسي الذي يعني دولة المدينة (CITY STATE ) وهي تتكون من روما التي تشتمل على عدة قبائل يحكمها ملك منتخب يعانوه مجلس استشاري تجسيدا لمبدأ الشعب هو مصدر السلطة، والتي توسعت بسبب الغزو والحروب إلى أن أصبحت إمبراطورية في القرن الأول قبل الميلاد.
ـ الدولة عند ميكيافلي: هذا المفكر الإيطالي كتب عن الدولة ووظائفها وأركانها في كتابه الأمير سنة 1513 ومن بين ما جاء في كتابه ( هي المنظمة المخولة بما تملكه من سلطة فعلية للتحكم في استعمال القوة على شعب معين في إقليم معين.) وهنا يشترط القوة كشرط أساسي لوجود الدولة واستمرارها وهو في ذلك متأثر بما عايشه من أحداث لإمبراطوريات حكمت شعوبها بالحديد والنار.

ـ الدولة عند دوجي ودي مالبيرج: حاول هذان الفقيهان إعطاء مفهوم محدد لمصطلح الدولة حيث جاء في تعريف دي مالبيرج في عام 1920 بأنها ( مجموعة من الأفراد تستقر على إقليم معين تحت تنظيم خاص يعطي جماعة معينة فيها سلطة عليا تتمتع بالأمر والإكراه.).
ـ الدولة عند هوريو وجيكول: يعرفان الدولة بأنها ( جماعة مستقرة داخل إقليم معين تحتكر سلطة الإكراه المادي.).
ـ الدولة عند الفقيه هنسلي: يعرفها هذا الفقيه الإنجليزي بأنها (مؤسسة سياسية يرتبط بها الأفراد من خلال تنظيمات متطورة.).
ـ الدولة عند الأستاذ محسن خليل: حيث يعرفها بأنها ( جماعة من الأفراد تقطن على وجه الدوام والاستقرار إقليما جغرافيا معينا وتخضع في تنظيم شؤونها لسلطة سياسية تستقل في أساسها عن أشخاص من يمارسونها.).
رغم تعدد التعريفات إلا أنها تصب في اتجاه واحد.
تعريف الأمم المتحدة: هذا التعريف معتمد من قبل الأمم المتحدة ومعمول به حاليا وفحواه أن الدولة ( هي الكيان السياسي والقانوني الذي يثبت وجود شعب يقيم على إقليم معين يتمتع بسيادة تامة وله حكومة مستقلة.) هذا التعريف تتضح من خلاله أركان الدولة وهي الشعب والإقليم والسلطة السياسية. وهو ما سنتناوله بالتفصيل في موضوع أركان الدولة.

................./...............
المبحث الثاني: أصل نشأة الدولة.
اختلاف العلماء في تحديد أصل نشأة الدولة يرجع إلى صعوبة حصر كل الظروف والعوامل التي ساهمت في تكوينها، لأن الدولة ـ كما هو معلوم ـ هي ظاهرة اجتماعية معقدة ترجع جذورها إلى الحضارات القديمة، وهي في تطورها تتفاعل مع الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة.
ونتيجة ارتباط السلطة بالدولة، فإنه أصبح من المتعذر فصل إحداهما عن الأخرى، لذلك فإن النظريات التي قيلت بشأن الدولة تصلح أيضا لتفسير أساس السلطة السياسية فيها.
ومن أهم النظريات التي سنتناولها، النظريات الدينية ( التيوقراطية) نظريات القوة والغلبة، النظريات العقدية(الديمقراطية) نظريات التطور، والنظريات المجردة.
المطلب الأول: النظريات الدينية.
وهي التي ترجع أصل نشأة الدولة وتأسيس السلطة إلى الإرادة الإلهية والحاكم يدعي أنه يستمد سلطته من قوى غيبية عليا تسمو على طبيعة البشر. هذه النظريات بالرغم من التقائها حول فكرة إرجاع السلطة في الدولة إلى الإرادة الإلهية فإنها اختلفت في تفسير ذلك إلى ثلاث اتجاهات هي:
الفرع الأول: نظرية تأليه الحكام.
تقوم هذه النظرية على أساس أن الحاكم من طبيعة إلهية يعبد ويقدس، وهذا المفهوم كان سائدا في الحضارات القديمة وبصفة خاصة في الحضارة الفرعونية في مصر حيث كان الفرعون (رع) يدعي الألهية وكان يعبد من قبل الأفراد، وكذلك الشأن في الصين كانت سلطات الإمبراطور تقوم على أساس ديني، وكذلك الأمر في الهند حيث كان الملوك يدعون اتصاف الآلهة في صورة بشر ويستمدون سلطتهم من الإله الأكبر ( البراهما) وفي العصر الملكي المطلق في روما كان الملك هو الكاهن الأعظم بحيث يسن القوانين ويعدلها ويفسرها.
وقد وجدت هذه النظرية صدى لها حتى في العصر الحديث، فالشعب الياباني كان إلى غاية الحرب العالمية الثانية يعتبر الإمبراطور بمثابة إله يعبده الأفراد ويقدسونه.


الفرع الثاني: نظرية الحق الإلهي المباشر.
يذهب أنصار هذه النظرية إلى أن الله هو الذي اختار بنفسه مباشرة الحكام وأودعهم السلطة، فالحاكم وإن كان من البشر إلا أنه يستمد سلطته من الله مباشرة . ظهرت هذه النظرية بعد ظهور المسيحية، والتي لم يعد بعدها ينظر إلى الحاكم من البشر على أنه إله، وجعلت الدين لله ولا عبادة لغيره وأضافت تبريرا لوجودها بأن جعلت السلطة للبابا.
وقد اعتبر القديس سان بول (ST-PAUL ) بأن كل سلطة مصدرها الإرادة الإلهية، ومنه تكون سلطة الحاكم ملزمة لأنه ليس إلا منفذا لإرادة الله، ومن عصى الأمير فقد عصى الله. كما استخدم هذه النظرية ملوك فرنسا لتدعيم سلطاتهم على الشعب وقالوا إن الله هو مصدر السلطة لا الشعب ولا يسأل الملوك عن سلطاتهم إلا أمام الله.
واضح أن هذه النظرية تهدف إلى تبرير سلطان الملوك المطلق وجعلهم غير مسئولين أمام رعاياهم ولا يراقب أعمالهم أحد.

الفرع الثالث: نظرية الحق الإلهي غير المباشر.
نظرية الحق الإلهي غير المباشر كانت نتيجة لانهيار الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس ميلادي حيث سيطرت الكنيسة على العالم المسيحي ولم يعد الملك يستطيع ممارسة مهامه إلا بعد قيام الكنيسة بالطقوس الدينية الخاصة بتتويجه، نظرا لكونها ممثلة الشعب المسيحي مما أدى إلى ظهور نظرية التفويض الإلهي غير المباشر ومفادها أن الله لا يتدخل بطريقة مباشرة في اختيار الحاكم وإنما بطريقة غير مباشرة يوجه الأحداث ويرتبها على نحو يساعد الناس على اختيار نظام الحكم والحاكم الذي يرتضونه.
ولقد لعبت هذه النظرية دورا بالغا في تقييد سلطة الملوك وبالمقابل ساهمت في تدعيم سلطة الكنيسة ممثلة الشعب المسيحي. إذا كانت هذه النظرية قد أسهمت في ظهور بعض الدول إلا أنها تقوم على أساس عقائدي يفتقر إلى العقل والمنطق، وذلك لأنه لم يثبت تاريخيا وجود هذا التفويض الإلهي لأي حاكم من الحكام، ولكن كان الهدف الأساسي هو إسقاط المسئولية عن الحكام أمام المحكومين، وبالتالي استعملت كباقي النظريات لتكريس استبداد الحكام وتجبرهم.
المطلب الثاني: نظريات القوة والغلبة.
يرى أنصار هذه النظرية وعلى رأسهم الفقيه الألماني الشهير أوبنهيمر (Oppenheimer) والكاتب الفرنسي شارل بيدان (Charles boudant) أن الدولة كانت عبارة عن نظام اجتماعي معين، فرضه شخص أو فريق على بقية أفراد الجماعة مستخدمين القوة من خلال الحروب والصراعات تتشكل الدول.
ونظرا لكثرة الاتجاهات واختلافها حول هذا الموضوع وإن كانت تعتمد كلها على القوة والغلبة المادية والجسمانية أو المعنوية غير الدينية فإننا سنكتفي بذكر أهمها على التوالي:
الفرع الأول: نظرية ابن خلدون.
يقول العلامة ابن خلدون رائد هذه النظرية ( ولما كانت الرياسة إنما تكون بالغلب وجب أن تكون عصبية ذلك النصاب هو أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب وتتم الرياسة لأهلها وكل عصبية منهم إذا أحست بغلب عصبية الرئيس لهم أقروا بالإذعان والإتباع ) ويفسر ابن خلدون قيام الدولة بثلاثة عوامل أساسية هي الزعامة والعصبية و العقيدة.
أولا: الزعامة .
تقوم الدولة من خلال ظهور زعيم تتوفر فيه شروط الزعامة مثل الاستقامة والكرم والشجاعة والمروءة ويفرض نفسه بالقوة.
ثانيا: العصبية.
تلعب العصبية دورا أساسيا عند البدو قبل طور الحضارة في مجال التماسك الاجتماعي، مما ينتج عنه شعور الأفراد بالانتماء إلى جماعة معينة على تشكيل قوة تدفعها إلى إخضاع الجماعات الأخرى الضعيفة.
ثالثا: العقيدة.
إن العقيدة عند ابن خلدون هي العامل الأساسي والقوي في تماسك الجماعات وقد اعتبر أن قيام مجتمع على أساس العصبية والعقيدة سيزيد في استقراره ودوامه وأعطى مثال لذلك بالمرابطين الذين قاموا على الدين والعصبية واستطاعوا الصمود كثيرا كقوة اجتماعية.

الفرع الثاني: النظرية الماركسية.
والتي ترى أن الدولة جاءت نتيجة الصراع الطبقي في المجتمع، وجاءت كتنظيم للحفاظ على مصالح الطبقة المسيطرة وهي الطبقة البرجوازية المالكة لوسائل الإنتاج، وعلى هذا الأساس فالدولة في نظر ماركس هي تنظيم مؤقت مرتبط بصراع الطبقات وسوف تزول بزوال البرجوازية وانتصار الطبقة الشغيلة في العالم.
الفرع الثالث: نظرية التضامن الاجتماعي.
يرى الأستاذ الفرنسي ليون دوجي أن الدولة ما هي إلا نتيجة لأربعة عوامل أساسية هي:
1) ـ انقسام الجماعة إلى أقوياء حكام يفرضون إرادتهم على الضعفاء محكومين.
2) ـ الخلاف السياسي يظهر سلطة الدولة، وهي لا تظهر إلا بانقسام الجماعة واستحواذ إحدى الطبقات على السلطة.
3) ـ عامل الإكراه يفرض سلطة الدولة بالقوة.
4) ـ التضامن الاجتماعي يجب أن يسمو فوق الفوارق الاجتماعية وفوق شدة الأقوياء وهو العامل الذي يجمع بين الطبقتين في دولة واحدة.
تقدير نظرية القوة والغلبة.رغم عدم بعد هذه النظرية عن الواقع فمن المؤكد أنها لا تصلح لتفسير نشأة جميع الدول، كما أنه حتى ولو قامت دولة ما على القوة فإنها سرعان ما تعود إلى الاستناد على الإرادة الشعبية لأن القوة وحدها لا تكفي لبناء دولة مستقرة.
المطلب الثالث: النظريات العقدية (الديمقراطية).
بالرغم من أن أصحاب معظم هذه النظريات انطلقوا من فكرة مفترضة واحدة والمتمثلة في أن اتفاق وقع بين الأفراد للخروج من الحياة الفطرية إلى الحياة المنظمة هي أساس نشأة المجتمع السياسي أي الدولة، إلا أن كل فقيه له تصوره الخاص للحياة التي كان يعيشها الأفراد قبل العقد والأطراف المشاركة في العقد والآثار المترتبة عنه. وسيتم تفصيل ذلك من خلال أراء الفقهاء الثلاثة : هوبز ولوك وروسو.

الفرع الأول: نظرية العقد الاجتماعي عند هوبز. (1588ـ 1679)
يعتبر توماس هوبز من أهم القائلين بفكرة العقد الاجتماعي كأساس للسلطة ولنشأة الدولة، فهو يرجع أصل الجماعة المنظمة إلى تعاقد الأفراد فيما بينهم، وأن التعاقد هو الذي نقل الأفراد من الحالة الطبيعية إلى مجتمع منظم تسود فيه طبقة حاكمة، وأن حالة الأفراد قبل العقد كانت فوضى واضطراب يسيطر فيها الأقوياء لكن حرص الفرد على البقاء وحب إشباع الحاجات والمصالح الذاتية ولد لديه الإحساس بضرورة التعاقد على أن يعيشوا معا تحت سلطان أو ملك واحد يتنازلون له عن كافة حقوقهم الطبيعية على أن يتولى حماية مصالحهم وليعيشوا في مجتمع منظم تسوده العدالة والمساواة، وعليه فهوبز يرى أن العقد تم بين الأفراد دون اشتراك الملك وعليه فهو صاحب سلطة مطلقة والأفراد ليس لهم حق المناقشة ولا مراقبة أو محاسبة الملك. ومنه فالنقد الموجه لهوبز يتمثل في أنه منح سلطات مطلقة للملك على حساب الشعب وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى الاستبداد.
الفرع الثاني: نظرية العقد السياسي لجون لوك. (1632ـ 1704 )
تتفق نظرة لوك مع هوبز في فكرة أن الأفراد كانوا في حالة الفطرة ثم انتقلوا إلى مجتمع منظم، لكن لوك يختلف عنه في تصوير حالة الأفراد في مرحلة الفطرة والتي يرى أنها لم تكن حالة فوضى بل كان يحكمها العدل والمساواة في ظل القانون الطبيعي، وإنما سبب إبرام العقد هو الرغبة في حياة أفضل وأكثر تنظيما عن طريق إقامة سلطة تحكمهم وتحميهم، كما يعتبر لوك أن الأفراد لم يتنازلوا عن جميع حقوقهم للحاكم الذي هو طرف في العقد إنما تنازلوا له عن جزء من حقوقهم فقط، وبذلك تصبح سلطة الملك مقيدة بما تضمنه العقد من التزامات، وإذا تجاوز الحاكم حدود الصلاحيات المخولة له فإنه يحق للشعب مقاومته وعزله.
الفرع الثالث: نظرية العقد الاجتماعي لروسو. (1712ـ 1778 )
يرى حون حاك روسو أن حياة الفطرة للأفراد كان يسودها الحرية المساواة غير أن هذه الحالة تغيرت بسبب تضارب المصالح وظهور الملكيات الخاصة والصناعة وازدياد الثروات واتساع مجالات الاختلاف والصراعات مما حول سعادة الأفراد إلى شقاء ودفع بالأغنياء على وجه الخصوص إلى التعاقد للقضاء على الخلافات والانتقال إلى حياة منظمة أفضل ومن خلال هذا العقد تنازل الأفراد عن جميع حقوقهم للمجتمع مقابل الحصول على الحقوق المدنية، وهكذا تسود المساواة والحرية والعدل في المجتمع المنظم، وما تجدر الإشارة إليه عند روسو أن الحاكم ليس طرفا في العقد إنما يحكم بإرادة الأمة فهو وكيلها ويحق لها عزله متى انحرف عن العقد ومما يمكن ذكره كذلك أن نظرية روسو أثرت كثيرا على رجال الثورة الفرنسية وترجمت في إعلانات الحقوق ودساتير ما بعد الثورة الفرنسية.

نقد النظريات العقدية: على الرغم من أن النظريات العقدية قد حققت أغراضها وكان لها أثر كبير على دساتير العديد من الدول وبخاصة فرنسا، إلا أنه وجهت لها عدة انتقادات أهمها:
1) ـ إن فكرة التعاقد الذي تم بين الأفراد للانتقال من حالة الفطرة إلى حالة المجتمع المنظم حسب ما ذهب إليه أصحاب هذه النظرية هو مجرد افتراض وفكرة خيالية لا سند لها في الواقع.
2) ـ إن النظرية العقدية عند هوبز وروسو تؤدي إلى تبرير السلطان المطلق للحكام وخضوع الأفراد لهم خضوعا كليا.
3) ـ إن إبرام العقد لإقامة نظام معين يتطلب وجود جماعة منظمة بشكل مسبق ونصوص قانونية تحدد حقوق وواجبات الطرفين، ولذلك فإن هذه النظرية تفتقر للإطار القانوني.
المطلب الرابع: نظريات التطور.
تنطلق هذه النظريات من أن الدولة لم تنشأ طفرة واحدة، وإنما كان ذلك نتيجة تطور أصاب المجتمع ويمكن تقسيم وجهة النظر هذه إلى اتجاهين رئيسيين هما: نظرية التطور العائلي ونظرية التطور التاريخي.
الفرع الأول: نظرية التطور العائلي.
يقول أنصار هذه النظرية ـ وعلى رأسهم أفلاطون وأرسطو وبودان وسير هنري مين ـ بأن أصل الدولة والسلطة يجد مصدره الأول في السلطة الأبوية وأن الدولة ما هي إلا أسرة تطورت ونمت بشكل تدريجي.
ويستند أنصار هذه النظرية في تدعيم رأيهم هذا على أن الأسرة هي الخلية الأولى في المجتمع نشأت لتلبية حاجات فطرية يتصف بها الإنسان وتوسعت إلى أن ظهرت العشائر ثم القبائل ثم القرى والمدن والتي بتطورها احتاجت إلى تنظيم معين هو الدولة.
واجهت هذه النظرية انتقادات لأن العائلة تختلف في طبيعتها عن طبيعة الدولة وأن سلطة رب الأسرة تنقطع بغيابه أما الحاكم فلا تنتهي السلطة في شخصه وعلاقة رب الأسرة تعتمد على العاطفة والاعتبارات النفسية، أما علاقة السلطة بالمحكومين فتحكمها اعتبارات موضوعية.


الفرع الثاني: نظرية التطور التاريخي.
يرى أنصار هذه النظرية ـ ومن بينهم الفقيه برتلميBarthelemy) ) وجارنر ( Garner ) وسبنسر(Spencer) ـ بأن الدولة لم تنشأ نتيجة القوة أو التطور العائلي أو العامل الديني أو العقد، وذلك أن الظواهر الاجتماعية ومن بينها الدولة لا يمكن رد نشأتها إلى عامل واحد، فالدولة عندهم هي نتاج تطور تاريخي وتأثيرات متعددة كان نتيجتها ظهور عدة دول تحت أشكال مختلفة، لذلك فإن السلطة في تلك الدول لا تستند في قيامها هي الأخرى على عامل واحد بل تستوجب تضافر عدة عوامل منها القوة والدهاء والحكمة والدين والمال والشعور بالمصالح المشتركة التي تربط أفراد الجماعة بعضهم ببعض، فالدولة وفق رأي أنصار هذه النظرية هي ظاهرة اجتماعية نشأت بدافع تحقيق احتياجات الأفراد. وعليه فهذه النظرية بالرغم من عموميتها تعد أقرب النظريات إلى الصواب.
المطلب الخامس: النظريات المجردة.
وهي النظريات التي تناولها الفقه الدستوري المعاصر ولم تعرف أي تطبيق في الواقع، ومن جملة هذه النظريات :
ـ نظرية النظام القانوني لكلسن(Kelsen) ،حيث يعتبر أن الدولة هي نظام قانوني قائم على تسلسل وتدرج القواعد القانونية في شكل هرمي مركزي، القاعدة العليا فيه هي الدستور.
ـ نظرية تأسيس السلطة للفقيه جورج بيردو(G.Burdeau) حيث يرى أن الدولة كيان معنوي مستقل عن أشخاص الحكام يتم عبر تأسيس السلطة السياسية المستقلة المتمتعة بالشخصية المعنوية.
ـ نظرية المؤسسة للفقيه موريس هوريو(Maurice Hauriou) يرى هذا الفقيه أن الدولة ما هي إلا مؤسسة مثل بقية المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية تنشأ باتفاق الأشخاص الذين تجمعهم فكرة واحدة مشتركة وهي إنشاء نظام اجتماعي وسياسي بطريقة قانونية.
ـ نظرية الوحدة للفقيه الألماني جيلنيك (Jéllineck) حيث يرى هذا الفقيه أن اتجاه إرادة الأفراد إلى إنشاء دولة إنشاء قانونيا موضوعيا وهو يختلف عن العقد الخاص الذي ينظم مصالح خاصة بين الأفراد.

المبحث الثالث: أركان الدولة
رأينا من خلال التعاريف التي حاولت التصدي إلى موضوع الدولة أنها كانت تدور كلها حول فكرة أنها (جماعة من الأفراد تقيم على أرض معينة بصفة دائمة ومستقرة وتخضع لسلطة سياسية عليا ذات سيادة.)
ومن خلال هذا الطرح يمكن إجمال أركان الدولة في ثلاث ركائز أساسية هي: الشعب والإقليم والسلطة السياسية.
المطلب الأول: الشعب.
الشعب هو الركن الأساسي لقيام أي تنظيم أو ظهوره ولولاه ما وجدت الدولة لذلك لا يمكن تصور قيام دولة بدون شعب، مع أن عدد أفراد الشعب لا يهم في الحقيقة إلا من حيث اعتبار ذلك عاملا من عوامل القوة للدولة سياسيا واقتصاديا. فما هو مفهوم الشعب؟ وكيف نميزه عن غيره من المدلولات التي ترتبط به؟
هذا ما سنتناوله في الفرعين التاليين:
الفرع الأول: مفهوم الشعب.
يقصد بالشعب مجموعة من الأفراد يقيمون على أرض الدولة ويرتبطون بها برابطة قانونية هي الجنسية ويخضعون لسلطة سياسية، كما قد تتوفر ظاهرة أخرى هي الظاهرة الاجتماعية والتي يقصد بها توافر روابط معينة بين أفراد هذا الشعب أساسها مقومات مشتركة مثل الأصل والدين واللغة والتاريخ، هذه العناصر ليست شرطا لتكوين الدولة ولكن توافرها في شعب معين من شأنها أن تكون عنصر دعم ووحدة للدولة.
ومنه نخلص إلى أنه لا يشترط في شعب الدولة أن يكون أمة واحدة، فقد يكون جزء من أمة كما هو الشأن بالنسبة للشعوب العربية، ويكون شعب الدولة من عدة أمم مثل الشعب الهندي وشعب الولايات المتحدة الأمريكية، أو قد يكون أمة واحدة كما هو الشأن بالنسبة للدولة الإسلامية سابقا أو الدولة الألمانية الحالية.
كما يجب التفرقة بين الشعب بمفهومه الاجتماعي عن الشعب بمفهومه السياسي.
1) الشعب بالمفهوم الاجتماعي. يقصد به مجموعة الأفراد الخاضعين لسلطة الدولة والمتمتعين بجنسيتها دون اعتبار لسنهم ومدى قدرتهم على إجراء التصرفات القانونية أو السياسية.
2) الشعب بالمفهوم السياسي. يقصد به كل المواطنين الذين يحق لهم المشاركة في تسيير أمور الدولة أي الذين يتمتعون بحق الانتخاب.
كما يجب التفرقة بين الشعب والسكان.
1) ـ الشعب هم الأفراد الخاضعين لسلطة الدولة ويحملون جنسيتها.
2) ـ السكان يشمل كل الأفراد المقيمين على إقليم الدولة سواء كانوا رعاياها أم أجانب.
الفرع الثاني: التمييز بين الشعب والأمة.
الشعب في الدولة يتكون من أمة أو جزء من أمة أو من عدة أمم. وهذا يبين أن هناك فرق بين المدلولين، فالشعب هو مجموعة من الأفراد يقطنون أرضا معينة أما الأمة فهي إلى جانب ذلك تتميز باشتراك أفرادها في عنصر أو عدة عناصر كاللغة والدين والأصل والرغبة في العيش المشترك.
العناصر المكونة للأمة تختلف باختلاف الفقهاء، فكل فقيه ينظر إليها من خلال انتمائه إلى بلد معين، مما يدفع به إلى التركيز على عناصر معينة وإهمال أخرى. وأهم ما يمكن الإشارة إليه في هذا المجال هو اندماج مفهوم الأمة والدولة أثناء الثورة الفرنسية حيث أصبح يقال الدولة الفرنسية والأمة الفرنسية.
ومن أهم النظريات التي تناولت موضوع الأمة وتحديد العناصر المكونة لها نذكر:
أولا: النظرية الألمانية.
تعتمد هذه النظرية على عنصر اللغة في تكوين الأمة ومن أشهر القائلين بها المفكران فيخت(Fichte) و هردر (Herder) وذلك تلبية لرغبة الألمان في ضم الألزاس واللورين إلى السيادة الألمانية لأنهما ناطقتان باللغة الألمانية.
ثانيا: النظرية الفرنسية.
جاءت كرد على النظرية الألمانية، حيث ترى أن العنصر المميز للأمة عن الشعب هو الرغبة والإرادة المشتركة في العيش معا داخل حدود معينة، وليس العرق ولا اللغة.
والنقد الذي وجه لهذه النظرية هو أن الرغبة في العيش المشترك هي نتيجة لظهور الأمة وليست عاملا في تكوينها.

ثالثا: النظرية الماركسية.
اقتصر أنصار الشيوعية في تحديد العناصر المكونة للأمة على العامل الاقتصادي. وهذه النظرية كذلك لاقت انتقادا شديدا من جمهور الفقهاء لأن العديد من الأمم استعمرت ولم تصمد سوى الأمم التي بنيت على العوامل المعنوية مثل العواطف والتاريخ المشترك واللغة والدين، ولكن العنصر المادي لم يكن له تأثير في تحريك الأمم ضد مستعمريها.
المطلب الثاني: الإقليم.
يعتبر الإقليم ركنا أساسيا لقيام الدولة، حيث يستقر عليه الشعب بصفة دائمة وتمارس عليه الدولة سلطتها وسيادتها بمفردها دون أن تنازعها أية دولة أخرى في الاختصاص التشريعي والقضائي والإداري، ولا يهم في الإقليم أن يكون كبيرا أو صغيرا، وهو يشمل ما فوق الأرض وما تحتها وطبقات الجو والمياه الإقليمية وما يعلوها إن وجدت. كما يجب أن يكون الإقليم محددا ولكن لا يهم إن كانت تلك الحدود طبيعية أو اصطناعية أو حسابية، كما لا يشترط في الإقليم أن يكون موحدا أو متصلا بل يمكن أن يكون مجزأ ومنفصلا كاندونيسيا واليابان.
ولتوضيح مشتملات الإقليم وطبيعته القانونية، نتناول في الفرع الأول مشتملات الإقليم وفي الفرع الثاني الطبيعة القانونية للإقليم.
الفرع الأول: مشتملات الإقليم.
يشتمل الإقليم على ثلاث مجالات رئيسية وهي المجال الجوي والمجال البحري والمجال الجوي.
أولا: المجال الأرضي.
وهو الجزء المتعلق باليابسة وما تتضمنه من جبال وأنهار وصحاري وغيرها فالمجال الأرضي هو المجال المكاني الذي تمارس عليه الدولة صلاحياتها وكثيرا ما تلجأ الدول إلى توقيع اتفاقيات فيما بينها لترسيم حدودها الإقليمية.
ثانيا: المجال البحري.
المجال البحري يشمل جزء من البحار الملاصقة لشواطئها والتي تسمى بـ: البحر الإقليمي وقد ثار خلاف حول تحديد نطاقه، حيث ذهب البعض إلى تحديده بثلاثة أميال وحددته دول أخرى بستة أميال (الميل = 1852 متر) .
ورغم هذا الخلاف وبعد إبرام الاتفاقية الدولية لسنة 1982 بدأت الدول تتجه إلى جعل الحدود الإقليمية البحرية بـ (12) ميلا على العموم، ستة (06) أميال للمياه الداخلية وفيها سيادة الدولة مطلقة وستة أميال أخرى يسمح فيها بالمرور دون قيد للسفن المدنية. كما أصبحت الدول تحرص على إضافة (12) ميلا أخرى للمنطقة المجاورة للبحر الإقليمي، ومائتي (200) ميلا للمنطقة الاقتصادية الخالصة.
ثالثا: المجال الجوي.
يعتبر من المجال الجوي كل ما يعلو حدود الدولة الإقليمية من هواء وفضاء جوي، وقد بدأ الاهتمام بهذا المجال مع بداية القرن العشرين مرحلة بداية عصر الطيران. ففي سنة 1919 أبرمت الاتفاقية الدولية المتعلقة بتسهيل الملاحة الجوية في باريس، ثم جاءت اتفاقية هافانا سنة 1928 مؤيدة لما جاء في الاتفاقية الأولى وفي سنة 1944 جاءت اتفاقية شيكاغو التي أكدت سيادة الدول على إقليمها الجوي.
وتكمن أهمية الإقليم في أنه المجال الذي تمارس عليه الدولة سيادتها وهو المعبر عن استقلالها غبر أن التطور العلمي في مجال الاتصالات من خلال الأقمار الصناعية بعد غزو الإنسان للفضاء أصبحت تطرح مشاكل في مجال حماية الإقليم مما يمكن أن يهدد سيادة الدولة على إقليمها، مما أصبح يستوجب البحث عن آليات جديدة تكفل حماية قانونية لموضوع سيادة الدولة على لإقليمها.
الفرع الثاني: طبيعة حق الدولة على لإقليمها.
ظهرت عدة نظريات حول طبيعة حق الدولة على إقليمها فمنهم من يكيفها على أنها حق ملكية ومنهم من يرى بأنها حق سيادة ورأي ثالث اعتبرها حق عيني نظامي.
أولا: حق ملكية.
يذهب هذا الرأي إلى أن الدولة هي صاحبة الإقليم وبالتالي فهي تملكه بمشتملاته، وقد انتقد هذا الرأي على اعتبار الدولة مالكة للإقليم يتعارض مع الملكية الخاصة للأفراد. ثانيا: حق سيادة.
ويذهب البعض الأخر من الفقهاء إلى أن للدولة سيادة وهذه السيادة تتحدد بنطاق الإقليم، وقد انتقدت هذه النظرية أيضا لأن السيادة حسب البعض ترد على أشخاص وليس على أشياء، ويرد على هذا النقد أن السيادة في القانون الدولي لها مدلول قانوني، والذي يعني أن الدولة أعلى سلطة في داخل إقليمها، واعتبار هذا الإقليم النطاق الذي تباشر الدولة سلطتها فيه، وعليه فالسيادة تأخذ معنى السيطرة والهيمنة والإشراف عليه قصد حمايته.
ثالثا: حق عيني نظامي.
تجنبا للانتقادات الموجهة للآراء السابقة، حاول جورج بيردو إعطاء تكييف جديد لحق الدولة على إقليمها، وقال بأن حق الدولة على إقليمها هو حق عيني تأسيسي أو نظامي ( Droit Réel Institutionnel) ينصب غلى الأرض وعلى الإقليم مباشر. وقد انتقد هذا الرأي لعدم وضوح هذا التكييف، وأن فكرة حق عيني نظامي لا يكاد يختلف إلا من حيث الصياغة عن فكرة حق السيادة.
وبالرغم من كل الانتقادات التي وجهت للآراء السابقة، فإن حق السيادة مازال هو السائد في كثير من دساتير دول العالم.
المطلب الثالث: السلطة السياسية.
يستلزم لاستكمال كل العناصر المشكلة للدولة، إنشاء هيئة حاكمة منظمة تتولى باسم الدولة مهمة الإشراف على الإقليم وعلى الشعب المقيم عليه، ورعاية مصالحه وحمايته. لهذا تعتبر السلطة السياسية الركن الجوهري الذي يميز الدولة عن باقي الجماعات الأخرى هذا مع الإشارة إلى أن بعض الفقه أصبح يميز بين السلطة الشرعية والسلطة المشروعة، كما يفرد لسلطة الدولة مميزات خاصة بها.
الفرع الأول: السلطة الشرعية والسلطة المشروعة.
إذا كان الفقه لا يشترط أن تمارس هذه الهيئة الحاكمة السلطة برضا الشعب ويكتفي أن تفرض احترام إرادتها والخضوع لها بالقوة، فإنه مما لا شك فيه أن عامل الرضا والاقتناع بالسلطة الحاكمة مسألة هامة لضمان بقائها وديمومتها وحتى لا تبقى غير قانونية، لهذا يميز الفقهاء بين السلطة الشرعية والسلطة المشروعة.

ـ فالسلطة الشرعية هي السلطة التي تصل إلى سدة الحكم وفقا للقانون الساري المفعول في الدولة. وعندما يقال هذا عمل شرعي أي يتطابق مع القانون بصفة عامة كما يقال شرعية دستورية عندما تتطابق أعمال السلطة مع الدستور.
ـ أما السلطة المشروعة فهي صفة تطلق عادة على سلطة يعتقد الأفراد أنها جاءت وفق ما يؤمنون به من قيم ومعتقدات، وتأتي على العموم عند غياب الشرعية الدستورية ولهذا تستعمل عبارات المشروعية الثورية والمشروعية التاريخية.
وعليه فمصطلح الشرعية يعد أكثر دقة ووضوحا من مصطلح المشروعية الذي يعتمد على عوامل سياسية مختلفة.
الفرع الثاني: مميزات السلطة.
يمكن إجمالها باختصار في:
ـ أنها سلطة عامة وشاملة أي أنها ذات اختصاص يشمل جميع نواحي الحياة في الدولة ويخضع لها جميع الأفراد دون استثناء.
ـ أنها سلطة أصلية ومستقلة بحيث لا تستمد وجودها من غيرها، ومنها تنبع جميع السلطات الأخرى وتكون تابعة لها.
ـ أنها سلطة دائمة أي لا تقبل التأقيت ولا تزول بزوال الحكام.
ـ أنها سلطة تحتكر استخدام القوة العسكرية والمادية والتي تجعلها تسيطر على جميع أرجاء الدولة وهي تنفرد بوضع القوانين وتتولى توقيع الجزاء.
هذه هي الأركان الثلاثة تحضى بشبه إجماع بين الفقهاء، أما الأمر المختلف فيه هو: ما مدى اعتبار الاعتراف الدولي ركنا من أركان الدولة؟
ذهب الفقه في اتجاهين :
الاتجاه الأول يؤيد ضرورة وجود الاعتراف الدولي وهم أنصار الاعتراف المنشئ وهم يعتقدون أن الكيان الذي توافرت فيه الأركان الثلاثة ولم تعترف به الدول والمنظمات الدولية لا يعد دولة.
الاتجاه الثاني وهم أنصار فكرة الاعتراف المقرر وهم يرون أن الدولة تنشأ بمجرد توفر أركانها الثلاثة دون حاجة إلى الاعتراف الدولي لأنه مقرر لأمر سبق نشؤه وبالتالي فهو ليس ركنا من أركان الدولة.
وعليه وبالرجوع إلى واقع العلاقات الدولية لا يؤيد أي من الرأيين على إطلاقه. فالحقيقة أن الدولة تنشأ بمجرد توافر أركانها الثلاثة والاعتراف يعد عنصرا مهما من أجل مساعدتها على تبادل المنافع مع غيرها من الدول والمنظمات الدولية فغياب الاعتراف من شأنه أن يعرقل الدولة على مباشرة حقوقها مع الدول القائمة ومنه فعدم الاعتراف لا يعيق الدولة على التمتع بشخصيتها القانونية.

المبحث الرابع: خصائص الدولة.
تتميز الدولة عن غيرها من المنظمات الأخرى بخصائص رئيسية تتمثل في تمتعها بالشخصية المعنوية وتمتعها بالسيادة وكذا حريتها في تعديل القوانين التي تضعها بشرط انسجامها مع مبدأ خضوع الدولة للقانون.
المطلب الأول: تمتع الدولة بالشخصية المعنوية.
لا يكفي في الدولة توافر الأركان الثلاثة السالفة الذكر، فلكي تستطيع القيام بمهامها يجب أن تكون متمتعة بالشخصية الخاصة بها والمنفصلة عن الأشخاص المكونين لها. مما دفع ببعض الفقهاء إلى تعريف الدولة بأنها تشخيص قانوني للأمة. والدولة بمنحها هذه الشخصية تكون أهلا لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات شأنها شأن الأفراد الطبيعيين، مما يجعلها متميزة عن الأشخاص المسيرين لها وكذا استقلال ذمتها المالية عنهم.
غير أن فكرة الشخصية المعنوية للدولة كانت ولا تزال محل خلاف وجدل بين الفقهاء، والذين انقسموا إلى قسمين، الأول ينكرها على الآدمي، والثاني يعترف بها للدولة ولغيرها من التنظيمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الأخرى.
وسبب هذا الانقسام يعود في الأساس إلى الخلط بين المدلول اللغوي للشخص والذي يفيد الإنسان الآدمي، والمدلول القانوني للشخص والذي يعني كل من يستطيع أن يكون أهلا لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات وفقا للقانون سواء كان شخصا طبيعيا أو معنويا.
الفرع الأول: الرأي المنكر للشخصية المعنوية للدولة.
ويتمثل هذا الاتجاه في ثلاث مجموعات من الفقهاء هي:

أولا: مجموعة دوجي وأنصاره.
إذ يعتبرون أن الدولة عبارة عن ظاهرة اجتماعية طبيعية تظهر إلى الوجود بمجرد انقسام أفراد المجتمع إلى فئتين فئة حاكمة وفئة محكومة، والفئة الحاكمة هي التي تجسد القانون وتفرض احترامه وتطبيقه، أي الذي يجسد شخصية الدولة هو الحاكم، وأن القول بتمتع الدولة بالشخصية المعنوية أو نسبة إرادة الحاكمين إلى شخص معنوي هي مجرد افتراض، وأنه ليست هناك حاجة لهذا الافتراض طالما كانت تصرفات الأفراد الحاكمين في حدود اختصاصاتهم وتتمشى والقانون، لأنها تكون ملزمة للأفراد استنادا إلى فكرة التضامن الاجتماعي.
نقد: ما يؤخذ على أنصار هذه النظرية أنهم لا يقدمون البديل عن الشخصية المعنوية، الذي يعد كأساس لتفسير مباشرة الدولة لنشاطها كوحدة قانونية، وعليه فهم يحملون الحكام والمسيرين الأخطاء التي ترتكبها الدولة والأشخاص العامة.
ثانيا: مجموعة زعماء النازية.
وعلى رأسهم(روزنبرج) بحيث يرون أن الشغب هو محور النظام السياسي وذلك لأنه هو الذي ينشئ الدولة ويفرض القانون ويمنح السلطة للزعيم رمز الوحدة العرقية الذي يقود المجتمع، ولا يعتبرون الدولة سوى مجرد أجهزة وأنظمة لا تتمتع لا بالسلطة ولا بالشخصية المعنوية.
نقد: لا شك أن هذا الاتجاه كان يهدف إلى تدعيم أنظمة الحكم العنصرية وتبرير الاستبداد في الداخل والاعتداء في الخارج.
ثالثا: مجموعة الفقهاء الماركسيون.
يرى هؤلاء أن الدولة ما هي إلا جهاز وضعته الطبقة الحاكمة لفرض سيطرتها على الطبقة المحكومة، وأن منح الشخصية المعنوية لها ما هو إلا مجرد حيلة لإخفاء ذلك الاستغلال وإجبار الطبقة المحكومة على قبول الأمر الواقع والإيمان بأن ذلك هو قانون الطبيعة أو سنة الحياة، وعليه فالماركسيون يدعون الطبقة المستغلة إلى الثورة من أجل الإطاحة بالنظام وإقامة دولة البرولتارية في مرحلة أولى تمهيدا للانتقال إلى المجتمع الشيوعي حيث تزول الدولة بزوال الصراع.
نقد: في الحقيقة أن الأفكار الماركسية إذا كانت ترى الدولة جهاز استبداد فإن العيب يعود للفلسفة التي يضعها الأفراد لقيام تلك الدولة وتطبيقها.

وعليه يمكن الرد على الاتجاه الرافض لفكرة الشخصية المعنوية للدولة بأن مذهبهم لا يتفق مع بعض الحقائق والواقع الملموس، كما أنه يعجز عن تفسير بعض الظواهر المسلم بها والتي يصعب تفسيرها بغير الاعتراف بالشخصية المعنوية للدولة ومن ذلك:
1) ـ استمرار شخصية الدولة رغم تغير نظام الحكم أو تغير الحكام فيها.
2) ـ وجود ذمة مالية مستقلة بالدولة متميزة عن ذمم الحكام.
3) ـ يعترف بعض المنكرين لشخصية الدولة بالشخصية المعنوية لبعض التقسيمات الإدارية كالمؤسسات وهي جزء من الدولة وهي التي تمنح هذه الوحدات الشخصية المعنوية، وهذا خطأ منطقي إذ أن فاقد الشيء لا يعطيه.
الفرع الثاني: الرأي المؤيد للشخصية المعنوية للدولة.
يشكل هذا الاتجاه الرأي الغالب في الفقه، فالقانون الروماني أعترف بالشخصية المعنوية للدولة ولبعض الجمعيات والمستشفيات، حيث علاوة على أهمية التمتع بالحقوق وتحمل الالتزامات، هناك تأكيد على الانفصال الحكام والسلطة مما يعني أن الدولة وحدة قانونية مستقلة عن أشخاص الحكام الذين يمارسونها، وأن هذه الوحدة لها طابع الدوام والاستمرار ولا تزول بزوال الأفراد الذين يباشرون الحكم.
ويترتب على الاغتراف بالشخصية المعنوية للدولة عدة نتائج أهمها:
أولا: وحدة الدولة ودائميتها.
ظهور شخص قانوني متميز ومنفصل يعد النتيجة المنطقية للإقرار للدولة بالشخصية المعنوية، والتي تمنح لها صفة الدوام والاستمرار وأن زوال الأشخاص لا يؤثر عنها، فلا يسقط حقوقها ولا يحللها من التزاماتها الداخلية والدولية.
ثانيا: تمتع الدولة بذمة مالية.
يقضي الاعتراف بالشخصية المعنوية للدولة الاعتراف لها بالاستقلال عن الأشخاص الحاكمين، وهذا الاستقلال ينتج عنه أن الدولة لها حقوق وعليها التزامات وللحصول على حقوقها والوفاء بالتزاماتها يجب أن تكون لها ذمة مالية مستقلة عن ذمم الأشخاص المسيرين لها، ومنه فالأعمال والتصرفات التي يقوم بها الأشخاص باسم الدولة ولحسابها تعود إلى ذمة الدولة سواء كانت حقوقا أو التزامات.

ثالثا: المساواة بين الدول.
الاعتراف للدولة بالشخصية المعنوية بعد اكتمال أركانها ينتج عنه ظهور شخص قانوني دولي جديد متساوي مع الدول الأخرى في المعاملة، هذا من الناحية النظرية، أما في الواقع العملي نجد هناك تفاوت بين الدول تتحكم فيه اعتبارات أخرى سواء كانت اقتصادية أو عسكرية أو سكانية في مجال تأثيرها على مجريات الأحداث الدولية.
والخلاصة أن هناك إجماع بين الفقهاء على ضرورة الاعتراف بالشخصية المعنوية والقانونية للدولة، وهي حقيقة لابد منها وليست حيلة قانونية، والاعتراف بها يحقق الكثير من الأهداف ويعين على تفسير الكثير من المشاكل وحلها.
المطلب الثاني: تمتع الدولة بالسيادة.
يعني مصطلح السيادة من الناحية اللغوية المجد والشرف والعلو والسيطرة. أما اصطلاحا فهو يعني السلطة العليا في الدولة وهي مشتقة من الأصل اللاتيني (super attus) وأول من استخدم هذه الكلمة جان بودان في كتابه الجمهورية عام 1576 . ويعرف بعض الفقهاء السيادة بأنها ( السلطة العليا التي تحكم بها دولة ما وأن هذه السلطة يمكن مباشرتها في الداخل أو في الخارج، والسيادة في الخارج تتركز في استقلال مجتمع سياسي معين بالنسبة لكل المجتمعات الأخرى.) والسيادة بالمعنى القانوني هي خاصية من خصائص السلطة السياسية.
ولدراسة موضوع السيادة لابد من التمييز بين سيادة الدولة كخاصية لها أو مظهر من مظاهرها، والسيادة في الدولة أي من هوصاحب السيادة الفعلي في الدولة.

الفرع الأول: سيادة الدولة .
السلطة السياسية في الدولة تتميز بأنها ذات سيادة، والسيادة تعرف على أنها (مجموعة من الاختصاصات تنفرد بها السلطة السياسية في الدولة وتجعل منها عليا وآمرة وتمكنها من فرض إرادتها على غيرها من الأفراد والهيئات، كما تجعلها غير خاضعة لغيرها في الداخل أو في الخارج.).
تعتبر الدولة كاملة السيادة إذا كانت تتمتع بكامل مظاهر سيادتها الداخلية والخارجية وبأن تكون حرة في وضع دستورها واختيار نظام الحكم الذي ترتضيه وتبني النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي تراه مناسبا لها. وتعتبر ناقصة السيادة إذا شاركتها دولة أجنبية أو هيئة دولية في ممارسة اختصاصاتها الأساسية.

وعليه فالسؤال الذي يطرح ما هي مظاهر هذه السيادة وما هي خصائصها؟
أولا: مظاهر السيادة.
أجرى الفقه عدة تقسيمات لسيادة الدولة يمكن حصرها في التقسيمات الرئيسية التالية:
1) ـ السيادة القانونية والسيادة السياسية.
السيادة القانونية معناها سلطة الدولة في إصدار القوانين وتنفيذها، أما السيادة السياسية فتنصرف على الشعب بمفهومه السياسي الذي يتولى عملية اختيار من يسيرون الدولة ويمارسون السيادة القانونية.
2) ـ السيادة الداخلية والسيادة الخارجية.
السيادة الداخلية هي حق الأمر والنهي في مواجهة كل المواطنين وكل القاطنين على إقليم الدولة، دون أن تكون هناك سلطة موازية أو منافسة لسلطة الدولة مع عدم خضوع الدولة في ممارستها لهذه العملية لأي ضغط مادي أو معنوي من أي كان. أما السيادة الخارجية فمعناها عدم خضوع الدولة لأية سلطة أو دولة أجنبية، أي تمتعها بالاستقلال التام أمام غيرها من الدول والمنظمات الدولية، بما ينفي عنها اندماجها أو تبعيتها لوحدات سياسية خارجية، مما يفيد معنى الاستقلال السياسي.
3) ـ السيادة الإقليمية والسيادة الشخصية.
السيادة الإقليمية تعني ممارسة سلطة الدولة على كامل إقليمها وكل ما يوجد به وما يقع عليه من أعمال وتصرفات، أي انسحاب أوامرها ونواهيها وتنفيذ قوانينها على المقيمين على أرضها من أشخاص ( مواطنين أو أجانب)، وأشياء أو حوادث. أما السيادة الشخصية فهي تعني أن سلطة الدولة تتحدد على أساس عنصر الشعب بمعنى أن الدولة يمكنها تتبع الأفراد المكونين لشعبها بأوامرها ونواهيها وقوانينها سواء كانوا داخل أو خارج إقليمها.
4) ـ السيادة السلبية والسيادة الايجابية.
يتجلى مضمون السيادة السلبية في عدم إمكانية إجبار الدولة على القيام بأي نشاط داخلي أو خارجي لا ترغب في القيام به من أي كان سواء دولة أو منظمة دولية. أما السيدة الايجابية فيتجلى مضمونها في عدم إمكانية منع الدولة من القيام بأي نشاط داخلي أو خارجي ترغب في القيام به من أي كان في الداخل أو في الخارج.

ثانيا: خصائص السيادة: يمكن إيجاز خصائص السيادة في الآتي:
1) ـ سيادة الدولة قانونية، أي أنها ليست مجرد حقيقة مادية بل هي حالة أجازها القانون وقررها.
2) ـ إنها عليا وشاملة، أي أنها تسمو فوق الجميع ولا تخضع لأحد وكذلك طاعتها واجبة على كل الأفراد من دون استثناء.
3) ـ إنها دائمة، حيث تتعدى في مداها الزمني عمر جيل كامل، ولا تخضع لعمر القائمين عليها.
4) ـ إنها غير قابلة للتصرف فيها أو التنازل عنها ولا تقبل التجزئة.
الفرع الثاني: السيادة في الدولة.
السيادة في الدولة تعني من هو صاحب السيادة الفعلي في واقع الدولة؟
ولعل سبب طرح هذا السؤال يعود بالأساس إلى أن الدولة شخص معنوي مجرد ولابد للسلطة من صاحب يمارسها بصورة فعلية، بمعنى تحديد المالك الفعلي للسيادة. وعلى هذا الأساس ظهرت عدة اتجاهات أهمها:
أولا: السيادة للحاكم.
حتى أواخر القرن الثامن عشر كان يعتقد بأن السيادة للحاكم (الملك) الذي تسلمها من الله، وهي سيادة مطلقة. وساد آنذاك الخلط بين فكرة السلطة السياسية وشخص الملك، وبعد ظهور المبادئ الديمقراطية في العصر الحديث تم هجر هذا الاتجاه، وانقسم الفقهاء إلى اتجاهين في تحديد صاحب السيادة في الدولة، الأول يحصر السيادة في الأمة والثاني ينيطها بالشعب.
ثانيا: السيادة للأمة.
تنسب نظرية سيادة الأمة إلى الفقيه الفرنسي جون جاك روسو الذي ركز في مؤلفه الشهير (العقد الاجتماعي) على مبدأ أساسي هو سيادة الإرادة العامة التي نشأت بالعقد الاجتماعي، وهذه الإرادة ليست حاصل جمع الإرادات الجزئية للأفراد ولكنها إرادة الكائن الجماعي، لذلك قيل بأن السيادة وحدة واحدة لا تتجزأ وغير قابلة للتصرف فيها أو التنازل عنها فهي ملك للأمة وحدها، وقد اعتنقت الثورة الفرنسية هذه الفكرة وحولتها إلى مبدأ دستوري، إذ نص إعلان حقوق الإنسان والمواطن عام 1789 على أنه (الأمة هي مصدر كل سيادة).

ومن أهم النتائج المترتبة عن هذه النظرية:
1) ـ إنها لا تتفق مع الديمقراطية المباشرة وشبه المباشرة التي تأخذ بمبدأ الاستفتاء الشعبي ولكنها تتناسب مع الديمقراطية النيابية والتي يقتصر فيها دور الأفراد على انتخاب ممثليهم في المجلس النيابي، وبالتالي يصبح الانتخاب وظيفة عامة ويمكن اعتماد الاقتراع الإجباري.
2) ـ يعتبر النائب في المجلس النيابي ممثلا للأمة في مجموعها وليس مجرد نائب عن دائرته الانتخابية أو حزبه السياسي فهو وكيل عن الأمة.
وجهت لهذه النظرية عدة انتقادات نوجزها فيما يلي:
1) اعتبار الأمة وحدة مستقلة عن أفرادها يؤدي إلى الاعتراف لها بالشخصية المعنوية، وعليه نصبح أمام شخصين هما الدولة والأمة فأيهما يكون صاحب السيادة.
2) الأخذ بهذه النظرية يؤدي إلى الاستبداد لأن السيادة مطلقة.
3) تشكل هذه النظرية خطرا على حقوق وحريات الأفراد، بحيث تعتبر القوانين مجرد تعبير عن الإرادة العامة وما على الأفراد إلا الخضوع لها حتى لو كانت ضد مصالحهم.
بعد أن أدت هذه النظرية دورها في مواجهة النظريات السابقة التي كانت تعطي السيادة للحاكم، وأمام الانتقادات التي وجهت لها اتجه الفقه إلى البحث عن نظرية أخرى فكان أن ظهرت نظرية سيادة الشعب.
ثالثا: السيادة الشعبية.
تعترف هذه النظرية بالسيادة للشعب باعتباره مكون من أفراد ولدوا أحرارا ومتساوين، بحيث تنقسم السيادة بينهم بشكل متساوي بحيث يكون لكل فرد جزء من هذه السيادة والمقصود بالأفراد هنا هم الشعب بمدلوله السياسي.
من أهم النتائج المترتبة عن هذه النظرية:
1) الانتخاب حق لأن المواطن له جزء من السيادة.
2) الانتخاب حق عام لكل أفراد الشعب بالمفهوم السياسي.
3) تتناسب مع الديمقراطية المباشرة وشبه المباشرة.
4) لا تتماشى إلا مع النظام الجمهوري.
5) القانون يعد تعبيرا عن إرادة الأغلبية بما يجرده من صفة القداسة ويجعله قابلا للمعارضة والإلغاء والتعديل.
6)النائب يعتبر ممثلا لناخبيه وبالتالي لهم حق عزله إذا تجاوز حدود الوكالة الممنوحة له.
وجهت لهذه النظرية عدة انتقادات كذلك وهي تتمثل في:
1) ـ إذا كانت نظرية سيادة الأمة تؤدي إلى بروز شخصين معنويين يتنازعان السيادة فإن نظرية السيادة الشعبية تجزؤها بين أفراد الشعب، فكيف يمكن ممارستها؟ ومن الذي يمارس السيادة الفعلية؟
2) ـ يعتبر النواب تابعين لجمهور الناخبين سواء كانوا على خطأ أو على صواب، دون مراعاة لمصلحة الأجيال القادمة.
3) ـ منطق هذه النظرية قد يؤدي إلى الوقوع في عيب استبداد هيئة الناخبين بالنواب، لما لهم من حق المحاسبة وحتى العزل.
والخلاصة أنه ليس هناك مجال للمفاضلة بين النظريتين لأنهما في الواقع العملي تشتركان في دساتير العديد من دول العالم، حيث حاولت الأخذ بإيجابيات النظريتين عن طريق طرح عدة مبادئ في دساتيرها مثل الاقتراع العام وكذلك استقلالية النواب والاستفتاء الشعبي.
وضع المسألة في الدساتير الجزائرية.
في دستور 1963 نجده يشير صراحة إلى أن الشعب هو صاحب السيادة في البند 25 من مقدمة الدستور والمادة العاشرة منه تقضي بأن من أهداف الجمهورية ممارسة السلطة من طرف الشعب وتضيف المادة 27 أن السيادة الوطنية للشعب يمارسها بواسطة ممثليه في المجلس الوطني.
أما دستور 1976 في المادة الخامسة منه نصت على (السيادة الوطنية ملك للشعب يمارسها عن طريق الاستفتاء أو بواسطة ممثليه المنتخبين.)
أما دستور 1989 فقد نصت المادة السادسة على أنه ( السيادة الوطنية ملك للشعب)

أما تعديل 1996 فقد نصت المادة السادسة الفقرة الثانية (السيادة الوطنية ملك للشعب وحده) وأضافت المادة السابعة الفقرة الثانية والثالثة أنه : (...يمارس الشعب سيادته بواسطة المؤسسات الدستورية التي يختارها، يمارس الشعب هذه السيادة عن طريق الاستفتاء وبواسطة ممثليه المنتخبين..)
المطلب الثالث: خضوع الدولة للقانون.
لقد أصبحت مسألة خضوع الدولة للقانون خاصية تتميز بها الدولة الحديثة ومبدأ من المبادئ الدستورية التي تجتهد كل الدول في تطبيقها واحترامها، ويعني هذا المبدأ بصفة عامة خضوع الحكام وكافة أجهزة ومؤسسات الدولة الممارسة للسلطة (التشريعية والتنفيذية والقضائية) للقانون، أي أن تتقيد جميع قرارات وأعمال السلطات العامة بالقانون الموضوع سلفا مثلها مثل الأفراد، إلى أن يعدل أو يلغى ذلك القانون طبقا لإجراءات وطرق معروفة ومحددة مسبقا، ويعرف هذا المبدأ بمبدأ الشرعية. ومنه فالدولة ليست لها حرية مطلقة في وضع القانون وتعديله بل هناك ضوابط وشروط محددة يجب التقيد بها.
الفرع الأول: النظريات المفسرة لخضوع الدولة للقانون.
أهم هذه النظريات تتمثل فيما يلي:
أولا: نظرية القانون الطبيعي.
ترى هذه النظرية أن هناك قانون طبيعي يسمو على الجميع وهو يعني مجموعة المبادئ الخالدة التي يجب أن تحكم السلوك البشري، لأنها منبثقة عن طبيعة الإنسان باعتباره كائنا عاقلا واجتماعيا، هذا القانون يعد سابقا في وجوده للدولة ولذلك فهو قيد على الحكام الذين عليهم الالتزام به.
تنتقد هذه النظرية بسبب غموضها، حيث يمكن للحكام أن يضعوا ما يشاءون من القوانين والادعاء بأنها مطابقة أو مستخلصة من القواعد الطبيعية. الأمر الثاني إن القانون متغير ومتطور حسب تطور المجتمع في حين تكون القوانين الطبيعية ثابتة.
ثانيا: نظرية الحقوق الفردية.
مفادها أن للفرد حقوقه الطبيعية التي تولد معه ولذا فهي سابقة للدولة للجماعة نفسها، وأن الفرد لا يتنازل عنها بانضمامه إلى أي تنظيم سياسي كالدولة بل إن الدولة تنشأ من أجل حماية ودعم تلك الحقوق التي تشكل علة وجودها.

ثالثا: نظرية التقييد الذاتي.
الدولة بحكم سيادتها لا يصح لها أن تخضع للقانون الذي تضعه بنفسها خضوعا مطلقا، أو أن يكون هناك من يجبرها على احترامه لأن ذلك يفقدها الحرية من أجل أداء مهامها، غير أن الدولة مضطرة لأن تحترم القانون وتطبقه من أجل القيام بوظيفتها وتحقيق العدالة والأمن ومن أجل ضمان طاعة المحكومين لها.
أهم انتقاد وجه لهذه النظرية جاء من الفقيه الفرنسي ليون دوجي الذي خلص إلى أنه لا خضوع إذا كان الخضوع مصدره محض الإرادة الذاتية للخاضع، أن القيد الذي ينشأ ويعدل ويلغى بإرادة من يتقيد به ليس قيدا على الإطلاق، فهذه النظرية تبقي الباب مفتوحا على عدم الالتزام بالقانون من قبل الحكام، لأن من يضع القانون يستطيع التحلل منه بمجرد تعديله أو إلغائه.
رابعا: نظرية التضامن الاجتماعي.
دعا إليها ليون دوجي، والذي يرى بأن الدولة مقيدة بقواعد القانون الوضعي الذي يفرضه التضامن الاجتماعي باعتباره حقيقة وضرورة اجتماعية وهو الذي أدى إلى نشأة الدولة ويفسر أساس مشروعية السلطة وعليه فالتضامن الاجتماعي هو الذي يحد من سلطة الحاكم ويعتبر قيدا عليها.
لقد انتقدت هذه النظرية، لأن الصفة الوضعية للقاعدة القانونية لا تكتسب إلا بواسطة الدولة وهي التي تحدد مضمون القاعدة وهي مصدرها وليس اعتناق الأفراد لها.
هذه هي النظريات التي حاولت إيجاد أساس لتفسير التزام السلطة بالقواعد القانونية عندما تمارس مهامها، وتعد نظرية التقييد الذاتي للإرادة أقرب النظريات للواقع.
الفرع الثاني: الوسائل العملية الكفيلة بخضوع الدولة للقانون.
أهم ما يميز الدولة القانونية عن غيرها من الدول هو كونها خاضعة للقواعد القانونية في جميع نشاطاتها، ولكي تستطيع تجسيد دولة القانون حقيقة يجب أن تتوفر على ضمانات أساسية من أهمها ما يلي:
أولا: وجود دستور للدولة، أي أن يكون الدستور مكتوبا وغير قابل للتعديل إلا وفق شروط وإجراءات خاصة ومعقدة أحيانا، مما يلزم الحكام باحترامه وعدم تغيير القوانين بحسب أهوائهم فهو المحدد لسلطات الدولة وحقوق وحريات الأفراد.

ثانيا: تدرج القواعد القانونية، ويقصد به وجوب خضوع القاعدة الأدنى للقاعدة الأعلى شكلا ومضمونا فيكون الدستور على رأس هذه القوانين التي يجب أن تصدرها السلطة من خلال إتباع إجراءات محددة، فيكون هذا التسلسل على النحو التالي الدستور ثم المعاهدات الدولية بعد توقيع وتصديق الدولة عليها، ثم القوانين العضوية فالقوانين العادية وأخيرا اللوائح والقرارات التنظيمية التي تشكل قاعدة هذا الهرم.
ثالثا: مبدأ الفصل بين السلطات، بحيث يجب على كل سلطة من السلطات العامة في الدولة أن تحترم القواعد التي وضعها الدستور لممارسة اختصاصاتها بحيث لا تخرج عن حدود هذه الاختصاصات أو تتعدى على اختصاصات سلطة أخرى، وهذا يلزم تخصص السلطة التشريعية في سن القوانين والسلطة التنفيذية في تنفيذ تلك القوانين والسلطة القضائية في تطبيق القوانين على المنازعات التي تنشأ أثناء التنفيذ. وهكذا يمكن لكل سلطة أن توقف الأخرى إذا تعدت اختصاصاتها وهذا ما عبر عنه مونتسكيو في مؤلفه الشهير روح القوانين(L'épris des lois ) بأن (السلطة توقف السلطة) ومنه يصبح هذا المبدأ ضمانة أساسية لدولة القانون.
رابعا: سيادة القانون أي أن على الجميع احترام القوانين بحيث تتحقق من خلال مبدأ المساواة بين أفراد الشعب أمام النصوص القانونية.
خامسا: الاعتراف بالحقوق والحريات العامة، حيث يفترض نظام الدولة القانونية كفالة مبدأ المساواة وحماية حقوق الأفراد وحرياتهم في مواجهة سلطة الدولة ولا يطلب من الدولة مجرد احترام تلك الحقوق بل يفرض عليها كفالتها وضمان ممارستها.
سادسا: تنظيم رقابة قضائية واستقلاليتها، حيث تعتبر الرقابة القضائية وسيلة ناجعة لحماية الفرد من تعسف السلطة بمختلف أشكاله وهذا لا يسود إلا بالتأكيد على استقلال القضاء وعدم تبعيته لأي سلطة.

المبحث الخامس: أشكال ووظائف الدول.
لا شك أن سبب قيام الدولة هو تحقيق الأمن والخير والرفاهية، وعليه فقد حاولت المذاهب المختلفة التوفيق بين مهام توفير الحاجات العامة للأفراد ـ ولن يتأتى ذلك إلا بتدعيم سلطة الدولة ـ وبين الرغبة في الحفاظ على حريات الأفراد وحقوقهم مما يدفع نحو البحث عن توازن وتوفيق بين الحرية للأفراد والدعم لسلطة الدولة فشكل هذه السلطة هو الذي يحدد شكل الدولة والوظيفة المناطة بها وطبيعة تلك الوظيفة. وعليه سنتناول أشكال الدول في المطلب الأول ووظائفها في المطلب الثاني.
المطلب الأول: أشكال الدول.
تنصب دراسة هذا العنصر حول الصور التي يمكن أن تتخذها الدولة في مجال تركيب وتكوين السلطة فيها، فقد توصف بأنها موحدة عندما لا توجد على إقليم الدولة سوى سلطة واحدة، فيطلق عليها تسمية الدولة البسيطة أو الموحدة، وقد تتعدد فيها السلطة فتسمى دولة مركبة أو دولة اتحادية.
الفرع الأول: الدولة البسيطة أو الموحدة.
نحاول في البداية تعريف الدولة البسيطة ثم التطرق إلى أساليب التسيير الإداري في هذا النوع من الدول.
أولا: تعريف الدولة البسيطة.
يقصد بالدولة البسيطة أو الموحدة كما يدل عليها اسمها الدولة التي تبدو في أبسط صورها ككتلة واحدة من الناحية الداخلية والخارجية، حيث تباشر فيها السلطات التنفيذية من طرف هيئة واحدة ولها دستور واحد وهيئة تشريعية واحدة وشخصية وسيادة واحدة، إلى جانب وحدة القضاء. ومن هنا يظهر أن الدولة الموحدة هي دولة ذات نظام واحد بغض النظر على شكل الحكم، فقد يكون جمهوريا أو ملكيا أو ديمقراطيا أو ديكتاتوريا. ومن أمثلة الدول البسيطة الجزائر وليبيا والمغرب.
غير أن وحدة التشريع والقضاء وخضوع الدولة لدستور واحد لا يعني أيضا ضرورة وحدة التنظيم الإداري فقد تتبع الدولة أسلوب المركزية الإدارية بتجميع الوظيفة الإدارية في يد السلطة التنفيذية التي تعيين موظفين يتولون إدارتها على مستوى القمة وفي الإقليم، والأخذ بهذا النظام ينتج عنه مباشرة رقابة مركزية مستمرة على الأجهزة الإدارية والإقليمية على السواء.

ثانيا: الدولة البسيطة واللامركزية الإدارية.
قد تتبع الدولة أسلوب اللامركزية فتوزع الوظيفة الإدارية بين السلطة المركزية والهيئات اللامركزية المستقلة، فتقوم هذه الأخيرة بوظيفتها الإدارية دون الخضوع أو الرجوع إلى السلطة المركزية، وإن كانت تخضع لرقابتها حتى لا تنعدم وحدة الاتجاه الإداري في الدولة. وهذا يعني أن اللامركزية تختلف عن المركزية ليس في الدرجة وإنما في الطبيعة، وأن الهيئة المحلية تتمتع بسلطة التسيير الذاتي الأمر الذي يجعلها بمثابة سلطة مضادة للحكومة، فضلا عن أن اللامركزية تهدف إلى تحقيق ديمقراطية أوسع، وعليه فاللامركزية تتطلب تمتع الهيئات المحلية بالاستقلالية الإدارية وبالشخصية المعنوية، هذا من الناحية الإدارية أما من الناحية التشريعية فإن وحدة السلطة التشريعية في الدولة لا تمنع من تعدد التشريعات في الأقاليم المختلفة التابعة للدولة الموحدة إذا كان مصدر التشريع واحد ويتمثل في السلطة التشريعية في الدولة وهي البرلمان.
الفرع الثاني: الدولة المركبة.
يطلق مصطلح الدولة المركبة في الفقه الدستوري عندما يظهر اتحاد بين دولتين أو أكثر ويرتبونها من أضعفها إلى أقواها كما يلي الاتحاد الشخصي ثم الاتحاد الحقيقي أو الفعلي تم الاتحاد التعاهدي أو الاستقلالي وأخيرا الاتحاد المركزي أو الفدرالي.( ولكن الشكل الذي يصح حقا أن يعتبر دولة مركبة هو الاتحاد الأخير أي الاتحاد الفدرالي المركزي، أما الاتحادات الأخرى فهي اتحادات بين دول يهتم بدراستها القانون الدولي أكثر من اهتمام القانون الدستوري بها.
وعليه سوف نتناول في الفرع الأول الاتحادات بين الدول ثم الفرع الثاني نفرده للدولة الاتحادية الفدرالية.
أولا: الاتحادات بين الدول.
أهم هذه الاتحادات هي الاتحاد الشخصي والاتحاد الحقيقي والاتحاد التعاهدي، نتناولها على النحو التالي:
)الاتحاد الشخصي: هو اتحاد بين دولتين تحت سلطة رئيس واحد نتيجة ارتباط عرشين بفعل المصاهرة، كأن يتزوج ملك دولة بملكة دولة أخرى أو اتفاق بين رئيسي دولتين أو أكثر لإقامة اتحاد شخصي، ويعتبر هذا الاتحاد من أضعف أنواع الاتحادات لأن المظهر يكمن في وحدة رئيس الدولة المتحدة لا غير والدول تبقى محتفظة بشخصيتها الدولية.

ومن أهم الأمثلة على الاتحادات الشخصية ذلك الذي وقع بين انجلترا وهانوفر سنة 1714 وكذلك الاتحاد بين لوكسمبورج وهولندا عام 1815 وانتهى في 1890.
2) الاتحاد الحقيقي: ينشأ ا الاتحاد بين دولتين أو أكثر، غير أنه لا يكون عرضيا بل نتيجة اتفاق يقع بين الدول التي تريد إنشاءه، فيظهر بذلك شخص دولي جديد يتمثل في دولة الاتحاد، حيث تفقد الدول شخصيتها الدولية، فيكون لها رئيس واحد وتبرم المعاهدات والعقود باسمها.
ومن أمثلة هذا الاتحاد ذلك الذي قام بين النمسا والمجر من عام 1867 إلى 1918 والاتحاد بين السويد والنرويج من عام 1815 إلى 1905.
3) الاتحاد التعاهدي أو الاستقلالي (الكونفدرالي): هو اتحاد يضم دولتين أوأكثر على أن تبقى كل دولة لها سيادتها الداخلية والخارجية ورئيسها الخاص، ويقوم هذا الاتحاد على أساس اتفاق يرمي إلى تنسيق الشؤون الاقتصادية أو الاجتماعية أو العسكرية، فتنشأ هيئة تسمى مجلس أومؤتمر تكون مهمتها تحقيق الأغراض التي وجد من أجلها، هذه الهيئة تختارها حكومات الدول المتحدة وقراراتها ليست ملزمة إلا إذا وافقت عليها الدول الأعضاء.
وأهم ما يترتب على هذا النوع من الاتحاد ما يلي:
ـ الدولة تبقى مستقلة داخليا وخارجيا.
ـ قيام هذا الاتحاد لا يتطلب تشابه الأنظمة.
ـ الحرب التي تقوم بين دول الاتحاد تعد حربا دولية.
ـ العضو الذي لا يتقيد بما ورد في الاتفاق يمكن فصله بالإجماع من قبل الأعضاء .
وأهم نماذج عن هذا النوع من الاتحادات الاتحاد السويسري في بداية تكوينه والاتحاد الأمريكي بعد استقلال 13 مقاطعة عن بريطانيا عام 1776 .هذا قبل أن يتحولا إلى اتحاد فيدرالي فيما بعد.ويرى بعض الفقهاء أن جامعة الدول العربية المنشأة عام 1945 وكذلك منظمة الوحدة الإفريقية تعد نوعا من الاتحادات التعاهدية أو الاستقلالية.

ثانيا: الاتحاد الفيدرالي.
ينشأ هذا النوع من الاتحادات نتيجة اندماج دولتين أو أكثر في اتحاد دائم قصد توحيد أوجه النشاط، بحيث تعد الأكثر انصهارا من بين الاتحادات بين الدول وأقواها ارتباطا بحيث تفقد الدول شخصيتها الدولية وسيادتها الخارجية، وهو يمثل دولة موحدة على المستوى الخارجي ودول متحدة على المستوى الداخلي، وأي نزاع يقع بين الدويلات يعد نزاعا داخليا ويتم حله بحسب النصوص الدستورية وليس حسب قواعد القانون الدولي. ورعايا الاتحاد لهم جنسية واحدة هي جنسية دولة الاتحاد، أما السيادة الداخلية فإنها مشتركة بين الدويلات ودولة الاتحاد المركزية. ووفقا لذلك يكون لكل دويلة في الاتحاد دستورها الخاص بها، وبالتالي لها سلطاتها الثلاث مثلما هو مقرر في الدستور الاتحادي، المنظم لسلطات واختصاصات ومجالات نشاط دولة الاتحاد.
وقد يتكون هذا الاتحاد إما بتجمع دول كانت في الأصل مستقلة، وإما بتفكك دولة كانت في الأصل موحدة إلى دويلات ولكنها لا ترغب في الانفصال التام والكلي عن الدولة الأم ولكن تريد أن تبقى مرتبطة في إطار اتحاد يمنح لها الاستقلال الذاتي الداخلي. ويتميز هذا الاتحاد بأنه ينشأ عن طريق دستور وليس عن طريق معاهدة وبالتالي فالعلاقة بين الدويلات الأعضاء في الدولة الاتحادية تحكمها نصوص الدستور وليس القانون الدولي.
يتميز هذا الاتحاد بخصائص أساسية نجملها فيما يلي:
1) توزيع الاختصاصات بين الحكومة المركزية وحكومات الولايات وتكون إما بتحديد اختصاصات الحكومة المركزية والباقي يترك للولايات مثل الاتحاد السوفيتي، وإما بتحديد اختصاصات الولايات ويترك الباقي للحكومة المركزية مثل كندا، وإما بتحديد اختصاصات كل من الحكومة المركزية والولايات على سبيل الحصر، وهذه الأخيرة عيب عليها أنها لا تراعي التطور الذي يعرفه المجتمع والدولة.
2) وجود دستور مكتوب.
3) ضرورة وجود قضاء فيدرالي.
4) تمثيل الدويلات في الهيئة التشريعية للاتحاد.
5) تمتع رعايا الاتحاد بجنسية واحدة.

هذا النوع من الاتحادات يتميز بتنوع واختلاف أنماطه من دولة لأخرى ولا يمكن توضيح الأمر إلا من خلال استعراض نماذج من هذه الدول
1)النظام الفيدرالي في الولايات المتحدة الأمريكية: يقوم نظام السلطة المركزية في الولايات المتحدة الأمريكية على ثلاثية الهيئات، التشريعية والتنفيذية والقضائية.
ـ الهيئة التشريعية وتتمثل في مجلسين حفاظا على تمثيل الشعب والولايات بطريقة عادلة، مجلس النواب ينتخب من قبل الشعب ومجلس الشيوخ يمثل الولايات بالتساوي اثنان عن كل ولاية بصرف النظر عن عدد سكانها.
ـ الهيئة التنفيذية ويوجد على رأسها شخص واحد هو رئيس الدولة المنتخب من قبل الشعب ويساعده في ذلك كتاب دولة (وليسوا وزراء) يعينهم ويقيلهم متى شاء ولا يتقيد بآرائهم إلا عن رض منه والرئيس هو المكلف بتنفيذ القوانين.
ـ الهيئة القضائية و تتمثل في السلطة القضائية المركزية والتي أسندت إلى المحكمة العليا الفيدرالية التي تقوم بدور أساسي في تفسير أحكام الدستور والفصل في المنازعات التي تثور بين الولايات والحكومة المركزية أو المنازعات التي تثور بين الولايات فيما بينها كما تقوم بمراقبة مدى احترام الدستور والقوانين والأحكام الصادرة عن المحاكم الموجودة على مستوى الولايات .
2) النظام الفيدرالي السويسري: يضم هذا الاتحاد المركزي (22) مقاطعة بعد الاتفاق الذي وقع عام 1815 والذي توج بدستور 12 سبتمبر 1848 والمعدل عام 1874. والهيئات المركزية في الاتحاد السويسري هي:
ـ مجلس الدول: والذي تمثل فيه المقاطعات بالتساوي ويهتم بالمسائل التشريعية والتنفيذية غير أن هذه الوظيفة يعهد بها إلى مجلس اتحادي يختاره مجلس الدول لمدة أربع سنوات، توجد إلى جانب المجلس محكمة فيدرالية يعهد لها حل المنازعات التي تقوم بين المقاطعات والدولة الاتحادية، وأهم ما يميز النظام السويسري مظهر الديمقراطية المباشرة عن طريق أسلوب الاستفتاء.

المطلب الثاني: وظائف الدول.
هناك جملة من النظريات تناولت الوظيفة الأساسية للدولة، وكان الاختلاف يعتمد أساسا على تباين نظامين اقتصاديين هما النظام الليبرالي والنظام الاشتراكي ثم محاولة التوفيق بين التوجهين لطرح نظرية ثالثة.
الفرع الأول:وظائف الدولة في ظل النظام الليبرالي الحر.
الأفكار التي تقوم عليها الأنظمة الحرة تجد أساسها الفلسفي في المذهب الفردي فهو يشجع روح التنافس والابتكار فتكثر الخيرات ويزداد التطور وكل ذلك في صالح المجتمع، وبالتالي فإن الملكية الخاصة ضرورية للفرد، وطبقا لهذا المذهب فإن الدولة لا تمارس إلا تلك الوظائف التي تسمح لها بالحفاظ على كيانها وبقائها لمواجهة العدوان الخارجي والحفاظ على الأمن والنظام داخل إقليمها، وبالتالي فإن وظائفها تنحصر في مرافق الدفاع والأمن والقضاء. وتعتبر أن تجاوز هذا الحد يؤدي إلى المساس بحقوق وحريات الأفراد.
ولكن بسبب الحرب العالمية الأولى وكذا الأزمة الاقتصادية العالمية وجدت الدولة نفسها مضطرة للتدخل لحل مشاكلها ومواجهة الأزمات، وبالتالي تخلت عن مفهوم الدولة الحارسة، وتبنت مفهوم الدولة المتدخلة.
الفرع الثاني: وظائف الدولة في ظل النظام الاشتراكي.
يعد القرن العشرين هو بحق قرن الاشتراكية، حيث وجدت فيه الأفكار الاشتراكية طريقها للتطبيق العملي الناجح، ولكن معتنقي هذه الأفكار انقسموا إلى متطرفين ومعتدلين، وبالرغم من هذا الانقسام هناك خصائص مشتركة بينهما يمكن إجمالها في ما يلي:
1) من الناحية السياسية: تؤمن هذه المذاهب بأن المصلحة العامة فوق المصلحة الخاصة، وتقوم بتطبيق هذا التوجه فعلا.
2) من الناحية الاجتماعية: تهدف إلى إلغاء الفوارق بين الطبقات أو الفئات المختلفة داخل المجتمع.
3) من الناحية الاقتصادية: تهدف إلى القضاء على الرأسمالية وتحويل أغلب وسائل الإنتاج على الأقل إلى ملكية عامة .
هذه جملة من النقاط المشتركة بين المذاهب الاشتراكية المتطرفة منها والمعتدلة، إلا أن هناك نقاط اختلاف جوهرية فيما بينها منها:

1) بالنسبة للملكية الخاصة نجد الاشتراكية المتطرفة ترى ضرورة إلغائها نهائيا، أما الاشتراكية المعتدلة فتقتصر على وجوب جعل أغلب وسائل الإنتاج ملكية عامة وتبقي الملكية الخاصة في نطاق ملكية وسائل الاستهلاك أو وسائل الإنتاج الصغيرة.
2) أما توزيع الدخل القومي فترى الاشتراكية المتطرفة يوزع بحسب حاجات كل فرد عند وصولها إلى مرحلة الشيوعية، في حين ترى الاشتراكية المعتدلة أن التوزيع ينبغي أن يكون بحسب عمل وظروف كل فرد.
3) أما النظام النقدي فترى الاشتراكية المتطرفة ضرورة إلغائه عند بلوغ مرحلة الشيوعية، فيحصل كل فرد على حاجاته عينا. في حين ترى الاشتراكية المعتدلة ضرورة استمرار النظام النقدي فيحصل الأفراد على نصيبهم من الدخل القومي في صورة أجور ومرتبات نقدية.
4) في موضوع الدولة ترى الاشتراكية المتطرفة أنها نظاما مؤقتا يزول بزوال الصراع الطبقي عند مرحلة الشيوعية. بخلاف الاشتراكية المعتدلة التي ترى فيها نظام لابد منه.
5) ترى الاشتراكية المتطرفة أن التحول إلى الاشتراكية لا يتم إلا بالعنف والقضاء على الخصوم وإلغاء الملكية الفردية عن طريق المصادرة واستيلاء الطبقة العاملة على السلطة لتحكم حكما دكتاتوريا تمهيدا للشيوعية. في حين ترى الاشتراكية المعتدلة ضرورة أن يتم التحول الاشتراكي بوسائل دستورية ديمقراطية بعيدة عن العنف والدكتاتورية.
ومنه نخلص إلى أن وظيفة الدولة الاشتراكية تهدف أساسا إلى تحقيق العدالة وذلك عن طريق تدخلها وتملكها لوسائل الإنتاج والقضاء على الاستغلال والمنافسة بين الأفراد وتوزيع الإنتاج بينهم من خلال إعلاء مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد.
تعرض هذا المذهب إلى جملة انتقادات من قبل المذاهب الأخرى ومن أهمها:
1) القضاء على نشاط الأفراد وإضعاف روح الابتكار عندهم نتيجة حرمانه من حق الملكية.
2) تعويض استغلال الطبقة الرأسمالية لجهد العمال باستغلال أخر يتمثل في الطبقة البيروقراطية والتقنوقراطية، ومحترفي السياسة.
الفرع الثالث: الوظيفة الحديثة (المذهب الاجتماعي).
هذه الوظيفة الحديثة حولت الدولة إلى متدخلة في مختلف المجالات بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لارتباط مختلف النشاطات ببعضها، الأمر الذي يستلزم تدخل الدولة لتنظيم هذه النشاطات بطرق مختلفة، فضلا عن أن هذه النشاطات تهم الأفراد والدولة مكلفة بحماية مواطنيها، حيث لم تعد تقتصر على الأمن والدفاع والقضاء.بل أصبح كل ما يتصل بالفرد يهم الدولة فغدت الدولة تهتم بالتعليم وتنظمه وتشرف عليه وتهتم بالنشاطات الاقتصادية بل وتمارسها وتشجع الفن وتحمي الطبيعة وما إلى ذلك من أوجه الحياة التي تقتضي تدخلها بهدف التنمية وتوفير كل ما يحتاجه الفرد والجماعة بتوجيه الإنتاج الاقتصادي والثقافي وتنظيم توزيعه بما يضمن استدراك التخلف الذي عرفته بسبب قلة مواردها المختلفة أو بسبب سوء استعمالها. كما يهدف تدخل الدولة إلى إشباع الحاجات العامة والمتزايدة والمتشابكة وتهيئة المناخ الاقتصادي والاجتماعي الملائم للممارسة الفعلية للحقوق والحريات(الدفاع عن الفرد وعن الجماعة ضد البطالة والفقر.).



الفصل الثاني: النظرية العامة للدساتير.

الدولة الحديثة تسعى دوما للتوفيق بين الحريات الفردية والمصلحة العامة وعلى هذا الأساس فإن الدستور هو الذي ينظم هذا التعايش السلمي بين سلطة الدولة وحرية الأفراد، بين أنانية الفرد وحاجات الجماعة عن طريق النصوص الدستورية.
لكن ما يمكن التنبيه إليه هو أن الدستور بصورته الحالية لم يظهر في أوربا إلا في أواخر القرن الثامن عشر إبان الثورتين الفرنسية والأمريكية، لأنه قبل ذلك كانت المجتمعات الغربية تعتمد بصفة أساسية على العرف في تسيير حياتها العامة.
يدور مفهوم القانون الدستوري حول فكرة تنظيم الحكم في الدولة وحول طريقة ممارسة السلطات العامة لاختصاصاتها.
وعليه سنتناول خلال هذا الفصل المباحث التالية:
المبحث الأول: مفهوم القانون الدستوري.
المبحث الثاني: مصادر القانون الدستوري.
المبحث الثالث: أنواع الدساتير وأساليب نشأتها.
المبحث الرابع: سمو الدساتير والرقابة على دستورية القوانين.


المبحث الأول: مفهوم القانون الدستوري.
يمكن القول بأن فكرة الدستور لم تظهر متأخرة عن نظام الدولة، وإنما كانت معاصرة لقيام أي مجتمع سياسي منظم، باعتبار أن الصراعات السياسية على السلطة كانت قائمة منذ العصور القديمة وهو ما دفع إلى وجوب الاستمرار في البحث من أجل إيجاد وسائل وأدوات ملائمة لتنظيم أعمال السلطة في المجتمع من أجل التحكم في الأوضاع القائمة وعدم السماح بقيام حكم الطغيان والاستبداد. وعليه وعبر امتداد التاريخ نشأت قواعد قانونية تضبط أعمال السلطة فتجعلها منتظمة في إطار القانون.
بناء على ما ترسب في الغرب من أفكار سياسية والتي قامت أساسا على فكرة القانون الطبيعي والعقد الاجتماعي، فإن قواعد القانون الدستوري كانت تخضع بالأساس إلى فلسفة واضعي الدستور.
نتناول خلال هذا المبحث ثلاثة مطالب هي المطلب الأول تعريف القانون الدستوري، والمطلب الثاني موقع وعلاقة القانون الدستوري بفروع القانون الأخرى والمطلب الثالث التفرقة بين القانون الدستوري والمصطلحات المشابهة له.
المطلب الأول: تعريف القانون الدستوري.
إذا كان لابد لكل مجتمع من قواعد قانونية ينصاع أفراده إليها فمن باب أولى أن يكون لكل مجتمع سياسي ـ الدولة ـ قانون أساسي ينظم الحياة الدستورية فيها. وهذا يعني أن القواعد المنظمة للحكم في الدولة التي لها علاقة بموضوعات القانون الدستوري والتي تكون معاصرة لقيام أي مجتمع سياسي. فمن خلال تراكمات تجارب الدول والبحث عن حلول للصراعات القائمة تولدت القواعد الدستورية في الدولة. لكن يبقى أن نشير إلى أنه رغم كثرة الدراسات وشيوع اصطلاح (القانون الدستوري) في الفقه الدستوري الوضعي، إلا أن الفقهاء اختلفوا في وضع تعريف جامع مانع، وتنوعت تعريفاتهم من حيث الزاوية التي ينظر من خلالها كل فقيه لهذا الموضوع، وبحسب المعايير التي يعتمد عليها في تحديد نطاقه وتعريفه، وتنحصر أهم المعايير في المعيار اللغوي والمعيار التاريخي والمعيار الشكلي والمعيار الموضوعي.
الفرع الأول: المعيار اللغوي.
بعني اصطلاح كلمة دستور (Constitution) باللغة الفرنسية والانجليزية التأسيس أو البناء أو النظام. أما باللغة العربية فالمصطلح من أصل فارسي يتكون من كلمتين (دست) ومعناها قاعدة و(ور) ومعناها صاحب.

وفي اللغة الفارسية المعاصرة أصبحت تعني القاعدة أو القانون. وقد استعمله العثمانيون لأول مرة في دستورهم الوضعي الصادر في 1876 . أما في القديم فإنه استعمل بمعنى دفتر أو مجلد تدون فيه قوانين الدولة.
وعليه ومن خلال هذا المفهوم اللغوي للقانون الدستوري جاء تعريفه بأنه: (مجموعة القواعد القانونية التي تنظم أساس الدولة وتحدد تكوينها) هذا التعريف يوسع نطاق القانون الدستوري إلى مجالات ليست من اختصاصه بحسب ما أجمع عليه الفقه مثل القانون الإداري والنظام القضائي وحتى قوانين الجنسية، ومنه وجهت لهذا التعريف انتقادات كثيرة.
الفرع الثاني: المعيار التاريخي.
منذ أواخر القرن الثامن عشر بدأت الجامعات الايطالية في تدريس مادة القانون الدستوري وبالضبط في عام 1797، في جامعة فيراري. أما في فرنسا فقد أنشئ أول كرسي القانون الدستوري من طرف (جيزو) وزير التعليم عام 1834، في عهد حكومة لويس فيليب الأورلياني. فقد حاول جيزو ربط القانون الدستوري بالدستور حيث حاول نشر الأفكار الليبرالية والنظام النيابي الذي تأثرت به فرنسا في تلك الحقبة. وعليه عرف الفقهاء القانون الدستوري في القرن التاسع عشر بأنه (مجموعة القواعد القانونية التي تحدد السلطات العامة وحقوق الأفراد في ظل نظام نيابي حر) وبالتالي فهم يعتبرون أن القانون الدستوري لا يوجد إلا في ظل النظام النيابي الحر.
الفرع الثالث: المعيار الشكلي.
هناك من الفقهاء من يعتمد في تعريف القانون الدستوري على الجانب الشكلي وعلى ما احتوت عليه الوثيقة الدستورية الرسمية من قواعد، أما باقي القواعد الدستورية غير المدونة فلا يعتبرها هذا الاتجاه الفقهي من القواعد الدستورية الرسمية. بالرغم من أهمية وواقعية هذا الاتجاه الذي يمتاز بالوضوح، وتطبيقه مرتبط بالوثيقة الدستورية التي يسهل التعرف عليها، إلا أنه وجهت لها عدة انتقادات أهمها:
1) هناك موضوعات تعد من صميم القانون الدستوري ولا يتم إدراجها ضمن الوثيقة الدستورية.
2) هناك ما يمكن أن يدرج ضمن الوثيقة الدستورية وهو ليس من موضوعات القانون الدستوري مثل صرف المياه وإنتاج الأدوية أو تهمل نصوص هامة مثل نظام الانتخابات والأحزاب السياسية.

وعليه يمكن اعتبار المعيار الشكلي عاجز عن تقديم تعريف جامع مانع يحدد المدلول الحقيقي للقانون الدستوري.
الفرع الرابع: المعيار الموضوعي.
بسبب الانتقادات الشديدة التي وجهت إلى المعيار الشكلي الذي أخذ بالاعتبارات الشكلية لتعريف القانون الدستوري، ظهر المذهب الموضوعي أو المادي لإعطاء تعريف يتجاوز تلك الانتقادات، وعليه فوفقا لهذا الاتجاه يتضمن القانون الدستوري جميع القواعد التي لها علاقة بموضوع السلطة سواء جاءت في الوثيقة الدستورية الرسمية المعتمدة لدى الدولة أم هي قواعد عرفية غبر مدونة أم قواعد تشريعية تصدر من البرلمان لتنظيم السلطة كقانون الانتخابات مثلا فكل القواعد المنظمة للسلطة واختصاصاتها والتي تبين نشاطات السلطة العامة والعلاقات التي تربط فيما بينها أو التي تبين طبيعة الأنظمة كلها تعتبر من القواعد الدستورية في إطار المعيار الموضوعي. وقد استند أغلب الفقه على هذا المعيار لتعريف القانون الدستوري التي يمكن تلخيصها في جملة من التعريفات أهمها:
ـ (القانون الدستوري هو مجموعة من القواعد القانونية التي بموجبها يتقرر تنظيم الحكم ومباشرة السلطة السياسية.).
ـ ( هو القانون الأساسي المشتمل على المبادئ الرئيسية التي ترتكز عليها الدولة، وعلى الأحكام العامة التي تضبط عمل السلطات والهيئات في الدولة.).
المطلب الثاني: موقع وعلاقة القانون الدستوري مع غيره من فروع القانون.
بعد تحديد مفهوم القانون الدستوري من خلال المعايير التي استند إليها الفقه في تحديد تعريفات مختلفة لمضمونه، يجب البحث في موقع هذا القانون وكذا علاقته مع غيره من فروع القانون الأخرى.
الفرع الأول: موقع القانون الدستوري من بين فروع القانون الأخرى.
درج الفقه على تقسيم القانون إلى قسمين، قانون خاص وقانون عام.
يعرف القانون الخاص بأنه ( القانون الذي ينظم العلاقات بين الأفراد بعضهم ببعض أو بينهم وبين الدولة باعتبارها شخصا عاديا كباقي الأشخاص، وليس باعتبارها صاحبة سلطة وسيادة.) وهو ينقسم إلى عدة فروع منها القانون المدني والقانون التجاري والقانون الدولي الخاص وقانون الإجراءات المدنية.

أما القانون العام فهو( القانون الذي ينظم العلاقة بين الدولة والأفراد أو بين مصالح الدولة فيما بينها بوصفها صاحبة سلطة وسيادة، ويهتم بنشاط الدولة سواء كان سياسيا أو إداريا أو ماليا.) وهو ينقسم بدوره إلى قانون عام داخلي وهو يهتم بدراسة الدولة وتنظيم نشاطها في مختلف الميادين الضرورية ويشمل القانون الدستوري والقانون الإداري والقانون المالي والقانون الجنائي. وقانون عام خارجي وهو القانون الدولي العام الذي يدرس علاقة الدولة بغيرها من الدول والمنظمات الدولية.
ما يمكن استنتاجه إن موضوعات القانون العام تشترك في دراسة موضوع واحد وهو الدولة ثم تهتم في تخصصها بدراسة صورة معينة من نشاط الدولة.
الفرع الثاني: علاقة القانون الدستوري مع فروع القانون الأخرى.
من خلال تحديد موقع القانون الدستوري من بين فروع القانون نجد أن له صلات وثيقة بفروع القانون العام، ولكن ذلك لا يمنع من وجود صلات بين القانون الدستوري وفروع القانون الخاص وإن كانت بقدر أضعف نسبيا.
أولا: علاقة القانون الدستوري مع فروع القانون العام.
1) علاقة القانون الدستوري بالقانون الدولي العام: القانون الدولي يهتم أساسا بنشاطات الدولة في المجال الخارجي. أما القانون الدستوري فيبحث في القواعد التي تحدد نظام الحكم في الدولة وشكل واختصاصات السلطات العامة فيها. وبالرغم من في مجال اهتمامات القانونين إلا أنه توجد بينهما بينها صلات قوية تتمثل في:
ـ القانون الدولي تضع قواعده الدول من خلال الاتفاقيات والمعاهدات التي تبرمها، أما القانون الدستوري فإنه يحدد ويبين طرق وإجراءات ووسائل نشاط الدولة في المجتمع الدولي.
ـ الأشخاص الذين يمثلون الدولة في الخارج ويملكون حق إبرام المعاهدات باعتبارهم يمثلونها تعد من موضوعات القانون الدولي العام وهم أنفسهم أعضاء السلطة التنفيذية التي هي من اهتمامات القانون الدستوري.
ـ هناك العديد من المبادئ القانونية الدولية تنص عليها دساتير الدول وتكرسها مثل المساواة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
ـ كما تحدد الدساتير مدى القوة الإلزامية للمعاهدات الدولية داخل الدولة.
2) علاقة القانون الدستوري مع فروع القانون العام الداخلي:
ـ علاقة القانون الدستوري بالقانون الجنائي: القانون الجنائي ينظم العلاقة بين الفرد والدولة وهو يشمل بيان الجرائم والعقوبات المقررة لها والإجراءات الواجب إتباعها جنائيا، وتظهر العلاقة بين القانون الجنائي والقانون الدستوري في أن القانون الجنائي يعمل على حماية الدستور ونظام الحكم في الدولة ويعاقب على محاولة المساس بأمن الدولة، كما أن القانون الدستوري يحدد المبادئ التي يبنى على أساسها القانون الجنائي مثل اعتبار المتهم بريء حتى تثبت إدانته من جهة قضائية.
ـ علاقة القانون الدستوري بالقانون الإداري: من مظاهر العلاقة بين القانون الدستوري والقانون الإداري، إن القانون الدستوري يضع الأسس التي يبنى القانون الإداري والفلسفة التي تقوم عليها الإدارة، ويهتم القانون الإداري بتنفيذ تلك المبادئ الدستورية.
ـ علاقة القانون الدستوري بالقانون المالي: إن القانون المالي يستمد مبادئه الرئيسية من الدستور الذي يحدد قواعد وضع الميزانية خاصة فيما يتعلق بالضرائب والإيرادات وطرق الإنفاق.
ثانيا: علاقة القانون الدستوري بفروع القانون الخاص.
الدستور يترك العلاقات الخاصة في الغالب للتنظيم بشكل حر ودون تدخل من جانبه خاصة وأن القوانين التي تضبط تلك العلاقات يغلب عليها الاستقرار والثبات، مثل القانون المدني وقانون الأسرة، ولكن رغم ذلك نجد القانون الدستوري يتضمن المبادئ والأسس العامة للتنظيم الاقتصادي والاجتماعي مثل النص على أن الملكية الخاصة مضمونة وحق الإرث وكذلك حماية الأسرة، ويعود إلى القوانين الخاصة تنظيم وتجسيد تلك المبادئ وتفصيلها.
وما يمكن ملاحظته في العلاقة بين القانون الدستوري والقوانين الخاصة أنها ضعيفة نسبيا بحكم أن القانون الدستوري يهتم بنظام الحكم وشكل السلطة، بينما تهتم القوانين الخاصة بالعلاقات القائمة بين الأفراد والأشخاص الاعتبارية الخاصة وكذلك العمة ولكن هذه الأخيرة ليس بوصفها صاحبة سلطة وسيادة.

المطلب الثالث: الفرق بين القانون الدستوري وبعض المصطلحات المشابهة له.
بجانب اصطلاح القانون الدستوري مصطلحات أخرى تشبهه وهي قريبة منه ولكن ليس لها ذات المعنى، ونقصد من بين تلك المصطلحات الدستور والنظام الدستوري، ونظرا للتشابه اللغوي الكبير والاختلاف في المعنى يتوجب التمييز بين هذه التسميات.
الفرع الأول: القانون الدستوري والدستور.
يميز الفقهاء بين اصطلاح القانون الدستوري والدستور من خلال التعريف الذي يعطونه لكل منهما فيعرف الدستور بأنه الوثيقة القانونية التي تصدر عن هيئة معينة طبقا لإجراءات خاصة تتضمن القواعد المتعلقة بنظام الحكم في الدولة في وقت معين.( أما القانون الدستوري فقد يتعرض إلى بحث مجموعة القواعد القانونية التي تبين نظام الحكم في مختلف الدول أي أن القانون الدستوري قد يبحث من ناحية المقارنة بين مختلف الدول أما الدستور فإنه ينصرف مدلوله إلى دولة بالذات).
فالدستور بمفهومه الموضوعي موجود في كل الدول ولو أنه شكلا غير موجود في بعضها لأنه لا يتصور قيام مجتمع سياسي دون دستور، وفضلا عن ذلك فإن المفهوم الشكلي للدستور يجعل منه مصدرا من مصادر القانون الدستوري وإن كان يحتل المرتبة الأولى.
قد يتطابق مفهوم القانون الدستوري والدستور متى أخذ بالمفهوم المادي (الموضوعي) لأن الاصطلاحين يمكن تعريفهما في هذه الحالة بـ (مجموعة القواعد القانونية التي تتعلق بنظام الحكم في الدولة.)
أما إذا أخذ بالمفهوم الشكلي للدستور فهو يمثل الوثيقة الرسمية المكتوبة ويتضمن قواعد ذات طبيعة دستورية وأخرى غير دستورية بطبيعتها.
الفرع الثاني: القانون الدستوري والنظام الدستوري.
النظام الدستوري هو الذي يحقق خضوع السلطة لقواعد تحكم وسائل ممارستها دون أن يكون باستطاعة هذه السلطة الخروج عن هذه القواعد، أو هو الهيكل العام الذي يقرره الدستور. النظام الدستوري يقصد به ذلك النظام الحر أي الحكومة الدستورية في الدولة،ولكي تكون كذلك يشترط الفقه الفرنسي لإضفاء صفة النظام الدستوري على النظام السياسي في الدولة أن تكون الحكومة خاضعة لقواعد قانونية دستورية أعلى منها ولا يجوز لها التحلل منها والخروج عنها بل يجب التقيد بما جاء فيها من قيود وفصل بين السلطات وتكون الغلبة للبرلمان المنتخب من طرف الشعب.

هذا الرأي لم يصبح مقبولا في الحقيقة في عصرنا الحاضر لأن المفهوم الحديث للدستور لم يعد يهتم بشكل النظام ولا أساسه ولكنه يمثل الوثيقة المتضمنة نظام الحكم في الدولة فقط . ومنه نخلص إلى أن القانون الدستوري أوسع من النظام الدستوري، وبالتالي فإن انعدام هذا الأخير لا يؤثر ولا يحول دون وجود الأول.

المبحث الثاني: مصادر القانون الدستوري.
يميز الفقه بين المصادر الرسمية التي تتمثل في التشريع والعرف والمصادر غير الرسمية أو التفسيرية والتي تشمل القضاء والفقه. باعتبار أن النوع الأول يعمل على إعلان القواعد الملزمة، إما عن طريق السلطة العامة من خلال التشريع وإما نتيجة إلزاميتها في ضمائر الناس من خلال أطرادها واستقرارها بالنسبة للعرف.
أما دور الفقه والقضاء فليس تشريع القواعد القانونية وإنما يقتصر على مجرد شرح وتفسير القانون، ولكن هذا التقسيم قد يتغير بالنسبة للمجتمعات التي تأخذ بنظام السوابق القضائية الملزمة مثل بريطانيا.
مادام أغلب الفقه يقسم هذه المصادر إلى رسمية وتفسيرية فإننا سوف نتناول في المطلب الأول المصادر الرسمية وفي المطلب الثاني المصادر التفسيرية.
المطلب الأول: المصادر الرسمية.
تشتمل المصادر الرسمية في معظم كتب الفقه على التشريع والعرف بالنسبة للدول التي تأخذ بالدساتير المكتوبة.
الفرع الأول: التشريع كمصدر رسمي للدستور.
عند دراسة التشريع كمصدر رسمي للقانون الدستوري، فإننا نأخذ بالمفهوم الموضوعي لتعريف القانون الدستوري (المعيار المرجح لدى الفقه لتعريف القانون الدستوري) يمكن أن يشمل التشريع كل القواعد والنصوص التي تتناول بالتنظيم موضوعا من موضوعات القانون الدستوري، هذه القواعد سواء وردت في وثيقة دستورية مكتوبة أو وردت في القوانين الأساسية الصادرة من البرلمان والتي تنصب على موضوعات دستورية، أو إعلانات الحقوق وكذا مقدمات الدساتير.
أولا: الوثيقة الدستورية المكتوبة.
أهم ما يميز الدولة الدستورية الحديثة في نظر فقهاء القانون الدستوري هو تدوين الأعمال المنظمة للسلطة في الدولة في وثيقة تسمى الدستور، وهي القواعد التي كانت عرفية حتى القرن الثامن عشر، حيث كان الحكام يتمتعون بسلطة مطلقة ولا يتقيدون بأي نظام قانوني يحد من سلطتهم.

يعد الدستور الذي أصدره كرومويل بعد استيلائه على السلطة في انجلترا عام 1653 أول وثيقة دستورية مكتوبة ينطبق عليها هذا المعنى، والذي استوحى فيه أحكام ميثاق الشعب والمبادئ التي صدرت من المجلس الحربي لكرومويل. فقد نص هذا الميثاق على أن السيادة للشعب وهو صاحب الحق في إصدار الدستور.
أما أول الدساتير التي تجلت فيها الأغراض السياسية للدولة الحديثة هو دستور الولايات المتحدة الأمريكية لعام 1787 والدستور الفرنسي لعام 1791. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية عمت فكرة الدساتير المدونة وأصبحت هي البناء الأول الذي تفكر فيه الحركات التحريرية بعد حصولها على الاستقلال.
ثانيا: القوانين الأساسية (العضوية).
توجد بالدول التي تأخذ بالدساتير المكتوبة نصوص قانونية تنظيمية تصدر عن السلطة التشريعية (البرلمان)، تأخذ وصف القوانين الأساسية، وهي تتميز عن القوانين العادية شكلا ومضمونا. ومن أهم هذه القوانين الأساسية، القوانين المتعلقة بالانتخابات، والنظام الداخلي للبرلمان وقانون الأحزاب السياسية.
ومن بين الأسباب التي دفعت إلى ابتكار هذا النوع من التشريع (القوانين) هو تسهيل مهمة تعديلها لمعالجة موضوعات دستورية لا يمكن إدراجها خلال الوثيقة الدستورية الجامدة. كما قد تكون تكملة لنصوص ناقصة في الدستور.
يعتمد الفقه في تحديد مدلول القوانين الأساسية على معيارين أساسيين هما المعيار الشكلي والمعيار الموضوعي.
ـ المعيار الشكلي: يرتكز أنصار الاتجاه الشكلي في تعريف القوانين الأساسية على التفرقة التي جاء بها الدستور الفرنسي لعام 1958 في مادته (46) بحيث تنص على أن القوانين الأساسية هي القوانين التي ورد النص عليها في الوثيقة الدستورية ويتبع بشأن إصدارها إجراءات خاصة تختلف عن الإجراءات المقررة للقوانين العادية. وهو ما نص عليه الدستور الجزائري المعدل عام 1996 في المادة (123) منه.
ـ المعيار الموضوعي: يعتمد هذا المعيار على جوهر ومضمون القاعدة القانونية دون النظر إلى الشكل والإجراءات التي تتبع في وضعها، سواء تضمنتها الوثيقة الدستورية أو تم النص عليها في قوانين صادرة عن البرلمان.
أما فيما يخص قيمتها القانونية، فالقوانين الأساسية أو العضوية فهي تأتي في المرتبة الثانية بعد القواعد الدستورية، ولكن الدول تختلف في ترتيبها بحسب ما نصت عليه دساتيرها من حيث إجراءات الإقرار أو التعديل فقد تكون مشابهة لإجراءات وضع القواعد الدستورية وبالتالي تكون لها نفس القيمة وقد تكون بدرجة أخف وأكثر مرونة مما يجعلها في المرتبة الثانية بعد القواعد الدستورية المدونة في الوثيقة الدستورية.
ثالثا: إعلانات الحقوق ومقدمات الدساتير.
توجد إلى جانب الوثيقة الدستورية المكتوبة وثائق أخرى تعلن فيها مبادئ عامة وتوضح فيها فلسفة المجتمع وتسمى إعلانات الحقوق والحريات، كما يمكن أن تدرج تلك الفلسفة والمبادئ في دساتيرها على شكل مقدمات أو ديباجات. ومن أهم الأمثلة على ذلك إعلان الحقوق الأمريكي الصادر في عام 1776 وإعلان الحقوق الفرنسي الصادر في عام1789 . وبالنسبة للقيمة القانونية لتلك الإعلانات والمبادئ فقد اختلف الفقه في مدى أهميتها ومن بين الاتجاهات نذكر:
1) اتجاه يعتبرها مجرد مبادئ فلسفية أخلاقية ينكر عليها أي قيمة قانونية.
2) اتجاه يؤيد فكرة إضفاء القوة الإلزامية على الإعلانات.
3) اتجاه ثالث يرى ضرورة التمييز بين النصوص القانونية والنصوص التوجيهية في الإعلانات، حيث يرى إلزامية الأولى وعدم إلزامية الثانية.
الفرع الثاني: العرف كمصدر رسمي للقواعد الدستورية.
يعتبر العرف من أقدم المصادر الرسمية للقاعدة القانونية بصفة عامة والمصدر الأساسي إلى يومنا هذا للقواعد الدستورية في الدول التي تأخذ بالدساتير العرفية. إن تقسيم الدساتير إلى دساتير مدونة ودساتير عرفية هو تقسيم يقوم على العنصر الغالب لهذه القواعد في الدولة، فعندما يكون العنصر الغالب هو القواعد المكتوبة يوصف الدستور بأنه من الدساتير المدونة، أما إذا كان العكس أي القواعد العرفية هي العنصر الغالب فيعتبر من الدساتير العرفية.
ومنه يبرز التمييز بين الدستور العرفي والعرف الدستوري.
ـ الدستور العرفي هو الذي تكون أغلب قواعده غير مدونة كالدستور الإنجليزي، وهذا لا يمنع من وجود وثائق قليلة مدونة تتضمن قواعد دستورية.
ـ أما العرف الدستوري فهو مجموعة القواعد التي لم تدون في وثيقة الدستور المكتوب، والتي تعرف بالسوابق الدستورية التي اعتادت السلطات الحاكمة على إتباعها دون أن تلقى معارضة ويعتبر الأفراد أنها ملزمة. وعليه فالعرف الدستوري يقوم على ركنين، ركن مادي وهو اعتياد السلطات الحاكمة على إتباع سلوك معين. وركن معنوي يتمثل في الشعور بإلزامية ذلك السلوك المتبع.
ويأتي هذا العرف إما لتفسير ما يشوب الوثيقة الدستورية من غموض أو ليكمل نقصا أو يدخل تعديلا عليها بما يتماشى وأهداف معينة.
أولا: العرف المفسر.
يظهر هذا النوع من العرف في حالة وجود غموض وعدم وضوح في الوثيقة الدستورية، وعليه فهو لا ينشئ قواعد دستورية جديدة وإنما يبين التطبيق السليم أو المعنى الحقيقي للنص المكتوب.
ثانيا: العرف المكمل.
ينشأ هذا العرف ليكمل المجالات التي لم تنظم في الوثيقة الدستورية، أي تظهر نصوص عرفية جديدة إلى جانب الوثيقة المكتوبة لاستكمال نقص معين غفل عنه المؤسس الدستوري.
ثالثا: العرف المعدل.
ويقصد به ذلك العرف الذي ينصرف أثره إلى تعديل حكم ورد في الدستور سواء باستحداث قاعدة دستورية جديدة أو بحذف بعض أحكامها، فتسمى الحالة الأولى التعديل بالإضافة وتسمى الحالة الثانية التعديل بالحذف.
أما القيمة القانونية للعرف المعدل، فالعرف المعدل محل خلاف بين الفقهاء ويمكن تلخيص خلافهم في اتجاهين هما:
الاتجاه الأول: لا يقر ولا يعترف تماما بشرعية العرف المعدل بحجة أن تعديل الدستور الجامد يتطلب إجراءات مشددة ولا يجوز مخالفتها وفي حالة استحداث هذا التعديل العرفي فسيكون عملا غير مشروع.ويرون أن العرف المعدل يتعارض مع سيادة الشعب.
الاتجاه الثاني : يعترف بالعرف المعدل ويعتبره وليد الإرادة العامة ولا يتعارض مع السيادة الشعبية، ولكنهم يختلفون حول مرتبة هذا العرف فمنهم من يرى أن هذا العرف يأخذ مرتبة القواعد العادية، ومنهم من يرى أنه يأخذ مرتبة النصوص الدستورية.
المطلب الثاني: المصادر التفسيرية.
وهي موجودة في كل الدول سواء ذات الدساتير العرفية أو المكتوبة، وتتمثل في مصدرين هما القضاء والفقه.
الفرع الأول: القضاء كمصدر من مصادر القانون الدستوري.
يقصد بالقضاء كمصدر للقانون بوجه عام ( مجموعة الأحكام التي تصدر عن المحاكم في صدد تطبيقها للقانون على المنازعات التي تعرض عليها) وهذا يعني أن الأحكام التي تصدر من المحاكم والمتضمنة مبادئ لم ينص عليها، ولها حجج قانونية عامة تعتبر من مصادر القانون.
وبما أن الموضوع هو القضاء كمصدر للقانون الدستوري، والذي يعني مجموعة القواعد المستنبطة من أحكام المحاكم في المجال الدستوري، وقد تنشأ بعض القواعد منة خلال ما يعرف بالرقابة على دستورية القوانين، فعندما تقضي المحاكم الدستورية بدستورية أو عدم دستورية قانون ما، فإن هذه الأحكام قد تتضمن نصوص مفسرة أو مكملة لما يعتري النصوص من غموض أو نقص. كما قد تنشأ قواعد دستورية من خلال الأحكام الصادرة عن المحاكم الإدارية عند فحصها لمشروعية أعمال الإدارة المتصلة بالحقوق والحريات العامة للأفراد.
الفرع الثاني: الفقه كمصدر من مصادر القانون الدستوري.
يقصد بمصطلح الفقه كمصدر للقانون (مجموعة البحوث والآراء والدراسات المتخصصة في القانون.) فعندما يقوم الفقهاء بتحليل الأحكام وإجراء مقارنات ونقد وتقييم الأعمال فهم بذلك يسهمون في إبراز النقائص والعيوب في التشريع والقضاء. ومنه فالفقه له دور في شرح القواعد الدستورية الوضعية، وله كذلك دور هام كمصدر مادي في التأثير على السلطة التشريعية عند وضعها للقوانين والقضاء عند تطبيقه لها.

وينقسم الفقه من حيث دوره إلى قسمين هما:
ـ الفقه الموجه: عندما يقوم بدور إنشائي من خلال دراسة ومعالجة المسائل الدستورية، ومن الأمثلة على ذلك مبدأ سيادة الأمة عند (روسو) ومبدأ الفصل بين السلطات عند (مونتسيكيو).
ـ الفقه المفسر: وهو يقوم بتحليل وشرح القوانين الدستورية فيبرز ما بها من نقص أو غموض أو إبهام ويسترشد بآرائه التشريع والقضاء على حد سواء.
جدول يبين التقسيم الفقهي لمصادر القانون الدستوري.
البلدان ذات الدساتير العرفية البلدان ذات الدساتير المكتوبة
المصادر
الرسمية مصادر أصلية ـ العرف
ـ القضاء ـ الدساتير المكتوبة
مصادر احتياطية ـ القواعد
المكتوبة ـ العرف الدستوري
المصادر
التفسيرية
ـ الفقه ـ القضاء
ـ الفقه

المبحث الثالث: أنواع الدساتير وأساليب نشأة الدساتير المكتوبة.
يقسم الفقهاء الدساتير من حيث الشكل إلى دساتير عرفية وأخرى مكتوبة أو مدونة أما من حيث إجراءات التعديل فتقسم إلى دساتير مرنة وأخرى جامدة. كما يقسمون الدساتير المكتوبة من حيث طرق وأساليب نشأتها إلى دساتير ذات نشأة غير ديمقراطية، وأخرى ذات منشأ ديمقراطي.
هذا ما سنتناوله خلال المطالب التالية: المطلب الأول أنواع الدساتير والمطلب الثاني: أساليب وطرق نشأة الدساتير.
المطلب الأول: أنواع الدساتير.
يقسم الفقه الدستوري إلى أنواع من حيث الشكل وأيضا من حيث إجراءات التعديل.
الفرع الأول: تقسيم الدساتير من حيث الشكل.
تقسم الدساتير من حيث الشلك إلى دساتير عرفية وأخرى مكتوبة أو مدونة.
أولا: الدساتير العرفية( Coutumière ).
ويقصد بها الدساتير غير المدونة والتي نشأت عن طريق العرف نتيجة إتباع السلطات العامة في الدولة عند تنظيم شؤونها لسلوكيات محددة استمرت لمدة طويلة فتحولت إلى عرف دستوري ملزم بالنسبة لهذه السلطات. ومن أهم الأمثلة على ذلك الدستور الإنجليزي. والملاحظ أن هذه الدساتير كانت هي السائدة في العالم إلى أن صدر أول دستور في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1787.
وبالرغم من اعتماد الدول ذات الدساتير العرفية على القواعد العرفية إلا أن ذلك لا يمنع من وجود وثائق مكتوية تدون فيها بعض القواعد. ولكن التساؤل يثور حينما يتعارض نصان أحدهما عرفي والثاني مكتوب فلمن تكون الأولوية؟
المشكلة تثور حينما تكون القاعدة المكتوية موجودة وتنشأ قاعدة عرفية مخالفة لها. الرأي الغالب لدى الفقه يرى أن القاعدة العرفية أولى من القاعدة المكتوبة لغلبة الجانب العرفي في الدستور على المكتوب.
ثانيا: الدساتير المدونة أو المكتوبة(Ecrite).
ويقصد بها الدستور المدون في وثيقة أو عدة وثائق معينة، وهي تعد الأكثر شيوعا في العالم. إذ أن معظم الدول لها دساتير مكتوبة وهذا الأسلوب أصبح يعمل به لأجل حاجة الدول حديثة العهد بالاستقلال لتنظيم شؤونها وبناء حكم يسوده الاستقرار وتجنبا للفوضى. إلى جانب ذلك هناك أشكال من الدول خصوصا الاتحادات الفيدرالية أو المركزية لا يضمن بقاءها ويحدد صلاحيات الحكومة المركزية والحكومات المحلية إلا القواعد المحددة في الدستور الفيدرالي المكتوب.
تتميز الدساتير المكتوبة بالوضوح والثبات مما يحقق استقرار أنظمة الحكم في تلك الدول ويضمن حقوق الأفراد وحرياتهم.
كما يعاب عليها أنها تصبح عاجزة على مسايرة التطورات الحاصلة في المجتمع من خلال تطور العصر وتغيير الظروف وتسارع الأحداث مما يشكل عائق في طريقها نحو التطور والتقدم.
الخلاصة أن هذا التقسيم يعد نسبيا مقبول، ولكن لا يمكن إطلاقه دون استثناءات لأنه في واقع المجتمع الدولي لا توجد دولة ذات دستور مكتوب من دون وجود قواعد عرفية، وبالمقابل كذلك ليس هناك أنظمة ذات دساتير عرفية ليست لها بعض الوثائق الدستورية المكتوبة، ومنه فهذا التقسيم يركز على العنصر الغالب من القواعد الدستورية أهي عرفية أم مكتوبة؟
الفرع الثاني: تقسيم الدساتير من حيث إجراءات التعديل.
تقسم الدساتير من حيث إجراءات التعديل إلى دساتير مرنة ودساتير جامدة.
أولا: الدساتير المرنة (Souple).
يقصد بالدساتير المرنة تلك التي يمكن تعديلها بإتباع الإجراءات المقررة لتعديل القوانين العادية، وأن السلطة التي تتولى ذلك هي نفس السلطة التي تقوم بسن القوانين العادية، أي السلطة التشريعية. وما يمكن قوله في هذا الصدد أن أغلبية القواعد الدستورية العرفية تعتبر مرنة ولا يشترط عند تعديلها أية إجراءات خاصة.
والمثال على ذلك اختصاص البرلمان الإنجليزي بتعديل النصوص الدستورية حيث يتبع نفس الإجراءات المحددة لتعديل القوانين كما يلغي منها ما يشاء.
كما أن صفة المرونة قد ترد على الدساتير المكتوبة ومثال ذلك دستور الاتحاد السوفيتي الصادر عام 1918 حيث كان مرنا وكذلك دستور إيطاليا 1848 وفرنسا عام 1830 وارلندا الحرة 1922.
ومن عيوب هذه الدساتير تأثرها بالأغلبية البرلمانية والأهواء السياسية والحزبية لسهولة تعديلها.
ثانيا: الدساتير الجامدة (Rigide).
ويقصد بها الدساتير التي لا تعدل نصوصها إلا بإتباع إجراءات خاصة غير تلك المتبعة في تعديل القوانين العادية، ولعل السبب في ذلك المحافظة على ثباته واستقراره، وبالتالي فالجمود هنا لا يعني عدم إمكانية التعديل تماما ولكن وجود إجراءات خاصة منصوص عليها في الدستور، عادة ما تكون على النحو التالي:
اقتراح التعديل ومن ثم إقراره مبدئيا ثم إعداده وأخيرا إقراره نهائيا.
المرحلة الأولى: اقتراح التعديل قد يكون من البرلمان أو من الحكومة أو الاثنين معا. وفي الدستور الجزائري لعام 1989 في مادته 163 المبادرة بتقديم مشروع تعديل الدستور تعود إلى رئيس الجمهورية، وفي تعديل 1996 فإن المبادرة مقررة لرئيس الجمهورية بحسب المادة 174 ولثلاثة أرباع (4/3) أعضاء غرفتي البرلمان بحسب المادة 177.
المرحلة الثانية: مرحلة إقرار مبدأ التعديل وتكون من خلال عرضه على غرفتي البرلمان للتصويت عليه حسب الإجراءات المنصوص عليها لتشريع القوانين.
المرحلة الثالثة:الإقرار النهائي للتعديل في ظل دستور 1996 فإن التصويت يتم عليه بالأغلبية البسيطة في حالة ما إذا كان اقتراح التعديل وارد من رئيس الجمهورية، أما إذا كانت المبادرة من البرلمان فيعرضه الرئيس على الاستفتاء غير أن لرئيس الجمهورية إمكانية إصدار نص التعديل متى أحرز على ثلاثة أرباع أصوات أعضاء البرلمان وكان لا يمس المبادئ العامة التي تحكم المجتمع وحقوق الإنسان ولا يمس التوازنات الأساسية للسلطات والمؤسسات الدستورية ويشهد على ذلك رأي المجلس الدستوري بحسب المواد(174،176،177).
هذا فيما يخص إجراءات التعديل، أما بالنسبة لحظر ومنع التعديل فيتمثل في الحظر الزمني والحظر المطلق

ـ الحظر الزمني ويكون لفترة زمنية محددة يمنع فيها إجراء أي تعديل للدستور ومثال ذلك الدستور الفرنسي لعام 1791 والذي حظر تعديله لمدة أربع سنوات وكذلك دستور الكويت لعام 1962 والذي نص على عدم تعديله لمدة خمس سنوات.
ـ كما قد يكون الحظر مطلقا إذا ما تعلق بجوانب محددة من القواعد الدستورية مثلما جاء في دستور الجزائر لعام 1976 في مادته 195 حيث نص على عدم جواز تعديل الدستور في الصفة الجمهورية للحكم ودين الدولة والاختيار الاشتراكية.....الخ
والجدير بالذكر أن الدستور الجامد يؤدي إلى ترتيب أثار هامة تتمثل في مبدأ سمو الدستور مما يؤدي إلى ظهور مبدأ ثاني وهو الشرعية والمتمثلة في خضوع الجميع للقانون حكاما ومحكومين.
المطلب الثاني: أساليب وطرق نشأة الدساتير.
تتوقف نشأة الدساتير على نظام الحكم السائد في الدولة أثناء وضع الدستور فقد ينشأ بطرق غير ديمقراطية مثل المنحة والعقد بين الحاكم والشعب، أو بطرق ديمقراطية مثل الجمعية التأسيسية أو الاستفتاء الشعبي.
الفرع الأول: الطرق غير الديمقراطية لنشأة الدساتير.
أولا: المنحة.
ظهر هذا الأسلوب كطريقة يتجنب من خلالها الملوك ثورة الشعب عليهم والقضاء على سلطتهم، فحاولوا وضع حد لاستياء الشعب بأن تنازلوا عن بعض سلطاتهم له ضمن وثيقة مكتوبة ليشعروه بأنه يشاركهم الحكم. وعليه وصفت بأنها منحة من الملك، ومن الأمثلة على ذلك الدستور الفرنسي الصادر في 04جوان1814 والذي منحه لويس الثامن عشر للأمة عقب سقوط نابليون الأول.
ثانيا: العقد أو الاتفاق.
ينشأ هذا النوع من الدساتير غالبا بعد ثورة أو انقلاب أو تأثير الشعب أو ممثليه عن الملك فيخضعونه لإرادة الشعب، أحسن من أن يفقد سلطانه نهائيا فيشاركون الشعب في وضع دستور النظام الجديد. ومن أهم الأمثلة على ذلك الدستور الفرنسي لعام 1830 والدستور البحريني لعام 1973.

الفرع الثاني: الطرق الديمقراطية لنشأة الدساتير.
هناك طريقتان أساسيتان هما الجمعية التأسيسية والاستفتاء الشعبي.
أولا: الجمعية التأسيسية.
في هذا الأسلوب ينفرد الشعب بوضع الدستور بواسطة هيئة تأسيسية منتخبة بطريقة ديمقراطية من قبله، نظرا لتعذر سنه بالطريق المباشر. ويكون الدستور الذي تضعه هذه الهيئة واجب النفاذ بمجرد إقراره من قبلها. ومن الأمثلة على ذلك دستور الولايات المتحدة الأمريكية بعد استقلالها عام1787.
ثانيا: الاستفتاء الشعبي.
تختلف هذه الطريقة عن وضع الدستور بواسطة الجمعية التأسيسية، نظرا لأن الدستور في هذه الحالة يصدر من الشعب مباشرة فيبدي رأيه فيه ولا يصبح نافذا إلى بعد موافقته عليه من خلال استفتاء.
وهنا يجب التمييز بين الاستفتاء الدستوري المتعلق بمسائل دستورية والاستفتاء السياسي الذي يتعلق بشؤون الحكم حول قرار أو خطة سياسية معينة.
وقد اتبع الاستفتاء الدستوري في وضع الدساتير الجزائرية لعام 1976 و1989 و1996. وتعتبر هذه الطريقة الأكثر ديمقراطية من بين الطرق المتبعة في وضع الدساتير.

المبحث الرابع: سمو الدستور والرقابة على دستورية القوانين.
نظرا لما يحتويه الدستور من مبادئ وقواعد أساسية لتحديد السلطات وبيان اختصاصاتها وضبط مختلف العلاقات في الدولة، كان لابد من إقرار ضمانات تكفل حسن تطبيقه وحمايته، ومن بين أهم هذه الضمانات التي يتناولها الفقه الدستوري الوضعي مبدأ سمو الدساتير والرقابة على دستورية القوانين. وهو ما سنتناوله من خلال المطلبين التاليين:
المطلب الأول: سمو الدستور.
الدستور بما أنه هو الذي يقيم النظام القانوني في الدولة ويبين قواعد تنظيم ممارسة السلطة والعلاقات بينها وبين الأفراد، ويرسم الحدود التي تمارس فيها الوظائف وعليه فإن السلطة تكون دائما مقيدة به ولا يجوز لها مخالفة أحكامه. ومنه تعد القواعد الدستورية من أسما القواعد القانونية الأخرى، ولتوضيح هذه المكانة التي يحتلها الدستور يفضل تناول الجوانب التي يظهر من خلالها هذا السمو، لأنها قد تستند إلى مضمون قواعده أي موضوعه، وتسمى في هذه الحالة بالسمو الموضوعي أو قد تستند إلى الطريقة والإجراءات التي يتم من خلالها وضع الدستور وطرق تعديله ويطلق عليها تسمية السمو الشكلي.
الفرع الأول: السمو الموضوعي.
يتحقق هذا السمو للدستور بالنظر إلى طبيعة القواعد الدستورية ومضامينها فهذه القواعد باعتبارها تتعلق بأساس وبناء الدولة ونظام الحكم فهي التي تنشئ السلطات العامة (التشريعية والتنفيذية والقضائية) وبالتالي فهي تعتبر الأساس الشرعي لجميع الأنظمة القانونية الموجودة في الدولة ومصدر جميع ما في الدولة من أنشطة قانونية.
وبناءا عليه يمكن القول أن السمو الموضوعي للدستور يترتب عليه نتيجتين هامتين هما:
ـ تأكيد وتدعيم مبدأ الشرعية، بحيث تكون الدولة القانونية بصفة عامة وهذا يعني أن تكون جميع التصرفات في الدولة متفقة مع أحكام القانون وأن تسود فيها قاعدة القانون فوق الجميع، حكاما ومحكومين.
عدم إجازة تفويض السلطات والصلاحيات إلا في إطار الدستور،هذه النتيجة أصبحت حتمية بعدما صار الحكام لا يمارسون السلطة بوصفهم أصحاب حق ولكن باعتبارهم مفوضين من قبل الشعب وفي إطار ما يحدده الدستور.
الفرع الثاني: السمو الشكلي.
يوصف الدستور الذي لا يعدل إلا بإتباع إجراءات مخالفة لتلك التي تتبع لتعديل القواعد العادية بالدستور الجامد، وهذا الجمود هو الأداة التي تعطي للقاعدة الدستورية المكانة التي تنفرد بها عن باقي القواعد القانونية الأخرى، لهذا فالسمو الشكلي لا يتحقق إلا في إطار الدستور الجامد والذي يتطلب لوضعه وتعديله إجراءات أكثر تعقيدا من تلك المتبعة في القوانين العادية، لأن الهدف من هذه الإجراءات هو حماية الدستور وإلزامية الخضوع لأحكامه.
المطلب الثاني: الرقابة على دستورية القوانين.
وقد تأخذ أسلوب الرقابة السياسية أو أسلوب الرقابة القضائية، اعتمادا على الهيئة التي تتولى القيام بهذه الرقابة.
الفرع الأول: أسلوب الرقابة السياسية.
تسمى الرقابة الدستورية هنا بالرقابة السياسية عندما تتولى جهة غير قضائية مهمة الفحص والتحقق من مدى مطابقة القوانين الصادرة لأحكام الدستور وقد تسمى بالسياسية عندما يغلب على التشكيلة المكونة لها الطابع السياسي. وهذه الرقابة منها ما يكون سابق لصدور القانون وتسمى بالرقابة السابقة، ومنها ما يكون بعد صدور القانون وتسمى بالرقابة اللاحقة. وتشكل لهذا الغرض هيئة سياسية لممارسة هذا الاختصاص الرقابي ، ولكنها في الواقع العملي تعتبر وسيلة غير فعالة لأنها غي الغالب تتشكل من نفس الجهة السياسية صاحبة الأغلبية في البرلمان، ولا يتصور أن تعارض تشريعات صدرت بموافقة نفس التيار، مما جعل معظم الدول تأخذ بالرقابة القضائية.
الفرع الثاني: أسلوب الرقابة القضائية.
والمقصود من ذلك إعطاء الحق للجهة القضائية بأن تتولى عملية فحص دستورية القوانين لكي تتحقق من مدى مطابقتها أو مخالفتها لقواعد الدستور، هذه الرقابة رغم تنوعها إلا أن الفقه الدستوري يركز على نوعين أساسيين هما : الرقابة القضائية عن طريق الدعوى الأصلية والرقابة عن طريق الدفع.
أولا: الرقابة القضائية عن طريق الدعوى الأصلية.
وتعني السماح لصاحب المصلحة ليبادر برفع دعوى ابتداء أمام المحكمة المختصة للمطالبة بإلغاء القانون المخالف للدستور ولا ينتظر حتى يطبق عليه القانون ليدفع بعدم دستوريته، كما هو متبع في أسلوب الدفع الفرعي، وغالبا ما تعهد مهمة الرقابة على دستورية القوانين إلى محكمة متخصصة ومحددة للقيام بها. وإذا ما تحققت المحكمة من مخالفة القانون للدستور قامت بإلغائه من خلال قبول الدعوى.
ثانيا: الرقابة عن طريق الدفع (الدعوى الفرعية).
تعني الرقابة في هذه الصورة وجود نزاع مطروح على القضاء، ثم يدفع أحد الخصوم بعدم دستورية القانون المراد تطبيقه عليه، وفي هذه الحالة بتعين على القاضي أن يفحص هذه الدعوى، فإذا تحقق من مخالفة القانون للدستور امتنع عن تطبيقه ولكنه لا يلغيه، وإذا تحقق من عدم مخالفة القانون للدستور فإنه يرفض الدعوى ويصدر حكمه وفقا للقانون الساري المفعول.
الفرع الثالث: موقف الدستور الجزائري من مسألة الرقابة على دستورية القوانين.
مسألة الرقابة على دستورية القوانين تناولتها مختلف الدساتير الجزائرية على النحو التالي:
أولا: دستور1963 أوكل مهمة الرقابة إلى المجلس الدستوري كهيئة سياسية وهو ما نصت عليه المادة 63 منه، ولكن هذا المجلس لم يؤسس ولم يمارس مهامه وذلك بسبب تعليق العمل بالدستور بتاريخ 03/10/1963.
ثانيا: في دستور 1976 لم يذكر المجلس الدستوري وغيب تماما، ولكن تمت الإشارة فقط إلى ضرورة حماية القواعد الدستورية، وهو ما نصت عليه المادة 111 الفقرة(03).
ثالثا: في ظل تعديل 23/02/1989 نص على إنشاء مجلس دستوري في المادة 153 وخوله مهمة ضمان سمو الدستور عن طريق النظر في مدى دستورية المعاهدات والقوانين والتنظيمات، كما يسهر على سلامة الاستفتاء الانتخابات.
رابعا: التعديل الدستور 28/11/1996 نصت المادة 163 الفقرة (01)على إنشاء المجلس الدستوري بحيث يتشكل من تسعة أعضاء، ثلاثة يعينهم رئيس الجمهورية واثنان يختاران من المجلس الشعبي الوطني واثنان من مجلس الأمة وعضو واحد من المحكمة العليا وعضو واحد من مجلس الدولة، ويترأس المجلس أحد المعينين من قبل رئيس الجمهورية. وتكون العضوية لمدة ستة سنوات ويجدد نصف الأعضاء كل ثلاث سنوات عن طريق القرعة في المرة الأولى. أعضاء المجلس يتوقفون عن ممارسة أي وظيفة أو تكليف طيلة فترة انتسابهم إلى المجلس. ويمارس المجلس مهمة الرقابة عن طريق الإخطارات من رئيس الجمهورية أو رئيس المجلس الشعبي الوطني أو رئيس مجلس الأمة بحسب المادة 166، أما فيما يخص القوانين العضوية فلا يكون الإخطار إلى من قبل رئيس الجمهورية بحسب الفقرة الثانية من المادة 165، والرقابة على القوانين العضوية لا تكون لاحقة كما هو الحال بالنسبة للمعاهدات والقوانين العادية بحسب الفقرة الأخيرة من المادة123. وحسب ما نصت عليه المادة 167 يصدر المجلس قراره في خلال عشرون يوما من تاريخ إخطاره. أما بالنسبة للقوة الإلزامية لقرارات المجلس الدستوري فقد نصت المادة 49 من النظام المحدد لقواعد عمل المجلس الدستوري نصت على أنها ملزمة لكافة السلطات العمومية والقضائية والإدارية وغير قابلة لأي طعن.
انتــــــــــــــــــــــــــــهى