منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - مشروع عملي للتغيير والإصلاح جزء 1
عرض مشاركة واحدة
قديم 2017-12-10, 14:12   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
نعمان 1
عضو جديد
 
إحصائية العضو










افتراضي مشروع عملي للتغيير والإصلاح جزء 1

مشروع عملي للتغيير والإصلاح ج1
د. نعمان جغيم


مقدمة


مرّ أكثر من عقدين ونصف من الزمن على بداية الانتخابات التعددية في الجزائر، ومع كل انتخابات ينتظر الناس بارقة الأمل في التغيير. في كل موسم انتخابي تُغطَّى الجدران والأعمدة بصور المترشحين وشعاراتهم، وتُطبع البرامج الانتخابية، وتُقام المهرجانات الخطابية، ويقف على المنصات متحدثون يعدون الشعب بحلّ المشكلات والنهضة بالبلد. والمتحدثون في تلك المهرجانات على صنفين: أحدهما: أناس يراودهم الأمل في الإصلاح إذا وصلوا إلى مراكز السلطة، والصنف الثاني: أناس اتخذوا هذا الطريق مسلكا للاسترزاق وتحقيق ما يطمحون إليه من مصالح، وهم يدركون أن ما يقولونه مجرد وعود توصلهم إلى مراكز النفوذ لتحقيق تلك المصالح. وتتجمع حول أولئك المتحدثين بعض الجماهير بين فضولي يحضر لإشباع فضوله، وبين حالم بالإصلاح يأمل أن تأتي به رياح السياسة، وبين مرتزق يسترزق من تلك المواسم. وربما حصلت توترات ومشادات هنا وهناك انتصارا لهذا المترشح أو الحزب أو لذاك. وبعد ظهور نتائج الانتخابات وانقضاء الموسم، تعود الأمور إلى عادتها القديمة، وتبقى دار لقمان على حالها، وإن حصلت بعض التغييرات فهي تغييرات بسيطة هنا وهناك لا ترقى إلى الحد الأدنى الذي كان الناس يأملونه.
إنها عملية تُشبه تَتَبُّع السراب الذي يوحي لناظره بأنه على وشك الحصول على ماء وفير، ولكنه كلما اقترب ابتعد ذلك السراب، وهكذا يبقى يأمل ويجري دون أن يحصل على شيء. ومع تكرر هذا المشهد يتلاشى الأمل في التغيير شيئا فشيئا، ويزداد الشعور بالإحباط بين أفراد المجتمع، ويتعمق الشعور بفقدان الثقة في السياسيين والعملية السياسية برمتها. وهذا ما أكدته الانتخابات التشريعية لعام 2017م التي جاءت برسالة واضحة مفادها: لقد فقدت الغالبية العظمى من الشعب الجزائري الثقة في العملية السياسية ولم يَعُدْ لهم أملٌ في التغيير من خلال تلك العملية، وقد عبَّر (64.63 %) من الشعب عن ذلك بالمقاطعة المباشرة، وعبّر (7.64 %) عن ذلك بالمقاطعة غير المباشرة من خلال الانتخاب بورقة بيضاء أو مُلغاة، وبذلك تصل النسبة الكلية للمقاطعة (المباشرة وغير المباشرة) إلى (72.27 %) من الناخبين، والحزب الحاكم الذي فاز بالأغلبية يمثل حوالي (7.12 %) فقط من الناخبين! إنها نتائج تعبّر عن أزمة حقيقية، وهي ناطقة بنفسها ولا تحتاج إلى تعليق.
إن المقاطعة سلوكٌ احتجاجي قد يجد آذانا صاغية في البلاد المتحضرة، أما في البلاد المتخلفة فلن يمنع الحكومات من الاستمرار فيما هي عليه، ولن يوقف تُجَّار السياسة عن الاسترزاق من العملية السياسية التي يسمونها "استحقاقات!". إن الوضع في البلدان المتخلفة يستوي فيه المقاطعة والمشاركة، فالمشاركة لن تأتي بالتغيير المنشود، والاحتجاج بالمقاطعة لن يجد آذانا صاغية ولن يمنع الرداءة من مواصلة مسيرتها. وعلى الأغلبية التي لم تعد تأمل في التغيير من خلال العملية السياسية أن لا تترك ذلك الاحتجاج يتحول إلى يأس وغليان داخلي مستمر ينتهي بالانفجار الذي يأتي بالدمار للبلاد والعباد، بل عليها أن تحوِّل ذلك الاحتجاج إلى سلوك إيجابي يصنع التغيير من خلال جهود مُنسَّقَة ومستمرَّة يقوم بها المجتمع المدني تنتهي بوضع القطار على السكة الصحيحية.
إن تحوُّل العملية السياسية إلى نوع من الجري وراء السراب ليس مقصورا على بلدنا، بل هو مشهد يتكرر في دول العالم الثالث منذ عقود طويلة. وقد وصلت حالة الإحباط ببعض المثقفين في بعض الدول الأفريقية إلى الدعوة إلى عودة الاستعمار الأوروبي إلى تلك البلاد لعله يتمكن من قيادة الشعوب التائهة -العاجزة عن تطوير ذواتها وإدارة أنفسها بصورة ناجحة- نحو النهضة ببلدانها! وهم في ذلك -طبعا- كحال المستجير من الرمضاء بالنار!
أمام هذا الواقع يتكرر السؤال: ما السبيل إلى الخروج من هذه الحال؟
إنه من السهل على الإنسان أن يشير بأصابع الاتهام إلى الآخرين ويحمِّلهم مسؤولية الفشل أو الفساد، ولكن من الصعب عليه أن يعترف بالتقصير والمسؤولية.الكلّ يشتكي من الفساد والانحطاط، ولكن قلّ ما تجد من يعترف بأنه جزء من ذلك الفساد والانحطاط، وأنه يُسهم في صناعته أو في تكريسه.
ليس الهدف هنا هو الإسهاب في وصف الفساد الموجود وإطالة الشكوى منه، ولا توزيع التُّهم على هذا وذاك، ولكن الهدف طرح أفكار عملية لكسر الحلقة المفرغة التي ندور فيها، وتجاوز الشكوى والإحباط إلى الفعل الـمُنتج الذي يقود تدريجيا إلى التغيير والإصلاح.
إن الكفاءات التي يمكن أن تقوم بالتغيير موجودة، والإمكانات متوفرة، ولكن حالة الإحباط العام التي تسود المجتمع، وعدم وضوح الرؤية حول كيفية التغيير يمنعان من تفعيل تلك الكفاءات واستثمارها، ومن تحويل الأمل في التغيير إلى واقع عملي. إننا نحتاج إلى جهود مخلصة تزيح غُمَّة الإحباط، وترسم الملامح العامة لطريق التغيير، وتقدم له أفكارا عملية لتنطلق تلك الكفاءات الكامنة في المجتمع في مجهود جماعي متكامل يحوّل الآمال والطموحات إلى واقع عملي يسير بالتدريج نحو تغيير حقيقي يعود بالفائدة على جميع أبناء الوطن.



 
سيكولوجية الانحطاط والتقدم

قبل الحديث عن التغيير ووسائل تحقيقه، ينبغي التمهيد لذلك بالحديث عن الخصائص النفسية للمجتمعات التي تعاني من التخلّف والانحطاط، والخصائص النفسية للمجتمعات المتحضرة، حتى يتبين لنا أن التخلف الذي تعاني منه مجتمعات العالم الثالث ليس أمرا عارضا أو حالة غير طبيعية، بل هو تخلُّف عن جدارة واستحقاق، وهو نتيجة طبيعية للمواصفات النفسية والخصائص الفكرية لأفراد تلك الشعوب، وأنه لا يمكن الخروج من تلك الحال إلا إذا تغيرت تلك المواصفات والخصائص.

سيكولوجية الانحطاط
فيما يأتي أهم المواصفات النفسية والخصائص الفكرية التي تصنع العجز والانحطاط وتكرسهما، وهي من جهة أخرى نتاج لذلك الانحطاط والعجز.

1- صناعة المشكلات ثم الشكوى منها
من سمات المجتمعات المتخلفة صناعة المشكلات ثم الشكوى منها. تجد الشكوى عامة من الآثار السلبية لغياب النظام في الحياة العامة، ومع ذلك تجد أكثر الناس يدوسون على الأنظمة ويُصِرُّون على أن يعيشو حياة الفوضى التي يشتكون منها! إننا نصنع الفوضى ثم نشتكي منها! ويشتكي الناس من غياب نظافة المحيط، ولكنهم هم الذين يلوثون ذلك المحيط ولا يبادرون إلى تنظيفه. ويشتكي الناس من تكاليف الزواج المرهقة، ولكن مع ذلك تجدهم يتنافسون ويتباهون في المغالاة في تلك التكاليف، فيرهقون أنفسهم ويرهقون الآخرين الذين يخافون من المعرَّة إن هم لم يسيروا على العرف الموجود.يشتكي الناس من الفساد السياسي وعدم كفاءة المسؤولين، فإذا جاءت الانتخابات تجد من المشتكين من ينتخب الفاسدين طمعا في مغانم فردية أو تعصُّبا لرابطة عرقية أو حزبية!

2- السلبية وغياب روح المبادرة
وهي امتداد للخاصية السابقة ومكمِّل لها، حيث يبقى الناس يكررون الشكوى من المشكلات التي يعانون منها -وهي من صناعتهم عادة- ولا تجد من يبادر إلى حلها، على الرغم من أن حل كثير منها ممكن لهم لو أنهم حاولوا ذلك. إنها روح السلبية والأنانية التي تقتل في صاحبها روح المبادرة، وتجعله ينتظر من الآخرين أن يقوموا بالعمل ولا يكون هو سبَّاقا إلى فعل الخير.

3- الحلول الترقيعية السهلة
من سمات المجتمعات المتخلفة الاعتماد على الحلول الترقيعية السهلة التي تجلب لصاحبها نفعا آنيا دون أن تحل المشكلة حلا جذريا، وسبب ذلك روح الكسل والبحث عن المغانم دون استعداد لبدل التضحيات التي تكافئها. وهذه الطريقة في معاجلة المشكلات تجدها على المستوى الفردي كما تجدها على مستوى المؤسسات، وعلى مستوى الحكومة في البرامج الارتجالية الترقيعية المتعلقة بالسياسات الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية.
ومن مظاهر هذه الخاصية الاحتجاجات الاجتماعية التي تثور هنا وهناك من وقت لآخر؛ حيث لا يقوم الناس بمتابعة السلطات المعنية ومراقبتها والضغط عليها بشكل مُنَظَّم وسلمي لتحقيق مطالبهم وحلّ مشكلاتهم، ولكن ينتظرون حتى يبلغ السيل الزُّبى ثم ينتفضون للتعبير عن غضبهم بالتكسير وغلق الطرقات وتعطيل مصالح الناس! وبعد وعود فارغة أو الحصول على بعض المكاسب الجزئية يهدأون ويعودون إلى عادتهم القديمة- عادة عدم المبالاة وغياب المتابعة وانتظار الحلول الآنية الجاهزة!

4- الكلام الكثير والعمل القليل
في المجتمعات المتخلفة تجد غالب الناس يتكلمون في كل شيء: في السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع وفي التعليم وفي الرياضة وفي الدين وفي غيرها. يتكلمون في ما يعلمون وفي ما لا يعلمون... يتكلمون كأنهم خبراء في كل شيء! فإذا نظرت إلى الأفعال لم تجد إلا القليل! وإذا نظرت إلى إتقان الشخص لعمله لم تجد ما تَقَرُّ به عينُك إلا قليلا!
ترى المطابع في بلدان العالم الإسلامي -خاصة في المشرق- تدفع بآلاف الكتب والمقالات سنويا، ولكنك إذا تفحصت تلك الكتب والمقالات وجدت أغلبها تِبْنًا وقشورا، أما الحبُّ المفيد فيها فقليل جدا! إنه الكلام الكثير الذي لا تكاد تكون فيه فائدة عملية!

5- المطالب الكثيرة والعمل القليل
إنه مظهر من مظاهر اختلال ميزان الحقوق والواجبات عندما تعمى العين التي تنظر إلى الواجبات وتقوى العين التي تنظر إلى الحقوق، فيصبح الشخص لا يرى سوى الحقوق، وينسى أن ما يحصل عليه من الحقوق هو مقابل ما يقوم من واجبات، فإذا قدّم كثيرا كان من حقّه الحصول على مقابل ذلك، وإذا قدم القليل فليس له حقّ في أكثر مما قدّم! وقد أحسن أحد الزملاء عندما وصف شعبا من الشعوب الإسلامية في جنوب شرق آسيا بقوله: إنهم يريدون أن يعيشوا عيش الأمريكيين (في اللهو والفسوق) ويموتوا موت الصحابة رضي الله عنهم.

6- الأنانية وتغلُّب النزعة الفردية
في المجتمعات المنحطّة تضعف النزعة الاجتماعية وما ينتج عنها من أخلاق اجتماعية رفيعة، وتتغلب النزعة الفردية التي تتجلى في الأنانية، حيث يسعى الشخص إلى تحقيق مصالحه الآنية ولو كان ذلك على حساب المصالح الجماعية، وهو لا يدري أن سرّ التقدم والرفاه الاجتماعي إنما يكون في المحافظة على المصالح الجماعية، وأن هدم المصالح الجماعية يعني إفساد الحياة الفردية لجميع أفراد المجتمع.

7- التبرؤ من المسؤولية وتحميلها للآخرين
من أهم خصائص الشخصية المتحضرة الشعور بالمسؤولية، والاعتراف بالتقصير، والسعي الدائم إلى تطوير النفس. ومن سمات الشخصية المتخلفة التبرؤ من المسؤولية والتظاهر بالكمال وعدم السعي إلى تطوير الذات. تجد الموظفين يحمِّلون مسؤولية الفشل والرداءة للإدارة، والإدارة تحمِّل مسؤولية ذلك للموظفين... وتجد الطلاب يحمِّلون مسؤولية ضعفهم وفشلهم للمدرسين والإدارة، والمدرسون والإدارة يحمِّلون مسؤولية ذلك للطلاب... والشعب يتهم الحكومات بأنها السبب في كل الأزمات والمشاكل التي يعاني منها... والشعوب الإسلامية تتهم اليهود والغرب بصناعة المشاكل والأزمات التي تعاني منها الدول المسلمة!
إن هذا التصور في الواقع مظهر من مظاهر الدفاع عن النفس وتبرير العجز والتقصير، وهو ناتج عن التهرُّب من تحمُّل المسؤولية ومحاولة التغطية على العجز. إننا لا نريد أن نعترف بنقصنا وتقصيرنا؛ لأن الاعتراف بذلك يبعث فينا تأنيب الضمير، ويضعنا أمام الأمر الواقع، ويدعونا إلى الجد والاجتهاد في إصلاح أنفسنا وإصلاح واقعنا، وهذا يتطلب تكاليف وتضحيات نحن لا نريد في الواقع بذلها، ولذلك نلجأ إلى تبرير عجزنا وفسادنا بفعل الآخرين.
لاننكر تقصير الحكومات وفسادها وما ينتج عن ذلك من مشكلات وأزمات، ولا تآمر اليهود والغرب علينا، ولكن ينبغي أن ندرك ونعترف أن السبب الأساس في الأزمات والمشاكل التي نعيشها هو نحن. إن أغلب المشاكل والأزمات من إنتاجنا نحن، والأزمات والمشاكل التي يصنعها لنا الغرب واليهود وغيرهم من الأعداء إنما هي نتاج ضعفنا وعجزنا واستعداد بعضنا للتعاون معهم مقابل منافع بسيطة. ولا لوم على من وجد مراكب موطَّأة للركوب فركبها، إنما اللوم الأكبر على من جعل نفسه مركَبا مؤطَّأ! أو بتعبير مالك بن نبي من جعل نفسه قابلا للاستعمار.

8- انتظار القيادة الكاريزمية
من سمات المجتمعات المتخلفة انتظار القيادة الـمُلْهَمَة التي تقودهم إلى تحقيق تغيير اجتماعي شامل ورخاء اقتصادي عامر، وانتصار عسكري حاسم. وهذه نظرة سلبية حالمة جوهرها التهرُّب من المسؤولية، حيث يتملّص الناس من وظيفتهم في إحداث التغيير الإيجابي والقيام بعملية البناء الشامل الذي يقود إلى التمكين والانتصار، ويلقون بذلك العبء على القيادة الـمُلْهَمَة التي ينتظرون ظهورها.
لا شك أن للقيادة الكاريزمية دور في إحداث التغيير، والنهوض بالمجتمعات، والانتصار في المعارك، ولكن تلك القيادات يكون وجودها استثنائيا، ولا بد أن ندرك أن التغيير ليس مسؤولية القيادة وحدها، بل هي مسؤولية الجميع، وأن تحقيق التغيير يتطلب جهدا مشتركا وفعلا إيجابيا مستمرا من جميع فئات المجتمع. إنه من الواجب العمل على أن يتحوّل غالب الناس إلى أفراد قادرين على قيادة أنفسهم في إدارة وظيفتهم الاجتماعية، والتخلّص من عقلية القطيع الذي ينتظر الراعي الذي يقوده.

9- انتظار التغيير الجاهز
أصلُ ما سبق ذكره من المواصفات والخصائص السلبية هو مشكلة انتظار التغيير الجاهز. غالب الناس يحلمون بالتغيير ويطالبون به، ولكن قلّ ما تجد في الواقع العملي من يبذل الجهد المطلوب لذلك التغيير، بل أغلب الناس ينتظرون تغييرا جاهزا ينزل عليهم من السماء، أو تقوم به قيادة كاريزمية تظهر فجأة فتحوّل الكسالى إلى مجتهدين، والغشاشين والمحتالين إلى أُمَنَاءَ، والطماعين إلى مؤثرين على أنفسهم، وسماسرة السياسة والإدارة إلى أئمة الهدى والرشاد! وهذا بطبيعة الحال مجرد حلم، وصدق الله عز وجل حين يقول: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11)

10- السلوك الاستبدادي
لا حاجة للخوض في إشكالية: أيهما يُنْتِجُ الآخر: الانحطاط هو الذي يُنْتِجُ الاستبداد أم الاستبداد هو الذي يُنْتِجُ الانحطاط؟ لأنهما في الواقع أمران متكاملان ومتفاعلان: فثقافة الانحطاط تُنْتِجُ السلوك المستبدّ؛ لأن ثقافة الانحطاط تُنْتِجُ طرق التفكير الفاسدة، والسلوكات المعوجَّة، ومنها الاستبداد. والاستبداد يؤدي إلى الانحطاط؛ لأن المستبدّ يحرم نفسه من الاستفادة من أفكار وخبرات الآخرين، كما يحرم نفسه من تقويم أخطائه وتدارك نقائصه حين يرفض الاستماع للآخرين ويرفض الاعتراف بنقصه، ويحيط نفسه بالمدَّاحين والمنافقين الذين يكرِّسون فساده، وتكون النتيجة الانحطاط.
إن النقطة المهمة التي يجب التركيز عليها هي أنه لا ينبغي النظر إلى الاستبداد على أنه مجرد مشكلة سياسية يمكن التخلُّص منها بالتغيير السياسي؛ لأن هذه نظرة سطحية لمشكلة عميقة. الواقع أن الاستبداد ظاهرة اجتماعية قبل أن يكون مشكلة سياسية، وهو عنصر من عناصر ثقافة التخلُّف. إن عقلية الاستبداد منتشرة بين أفراد الشعب، والاستبداد الموجود على مستوى النخبة الحاكمة مرتبط بعقلية الاستبداد المنتشرة بين أفراد المجتمع. الاستبداد ظاهرة موجودة على مستوى الأسرة، والمدرسة، والمؤسسة، والحزب سواء أكان حزبا حاكما أم حزبا معارضا، وهو موجود في أوساط العلمانيين والإسلاميين على السواء، والطرق الصوفية نموذج جيّد لممارسة الاستبداد وتعويد الناس على الخضوع له. ولما كان الاستبداد في بلدان العالم الثالث ظاهرة اجتماعية نلاحظ أن التغييرات التي وقعت في أنظمة الحكم في تلك البلدان -سواء عن طريق الانقلاب أم عن طريق الانتخاب- لم تؤدّ إلى حدّ الآن إلى التخلُّص من الاستبداد وممارسة حقيقية للشورى والديمقراطية. وهذا يؤكد لنا أن الأمر ليس مجرد تغيير نخبة حاكمة بنخبة أخرى.
إن السلوك الاستبدادي انعكاس لتصورات خاطئة ونفسيات مريضة، ولا يمكن القضاء على الصورة المنعكسة إذا لم يتم القضاء على الأصل الذي تنعكس عنه، وهو التصورات الخاطئة والأمراض النفسية. الاستبداد سلوك مرضيٌّ قد ينتج عن تضخُّم "الأنا" حين يشعر الشخص بأنه يفهم أفضل من غيره، وأنه هو الوحيد القادر على إدارة شؤون المؤسسة أو البلد، فينحو منحى التفرد بالرأي والاستبداد بشؤون الإدارة، ويحتقر آراء غيره فلا يفسح لها المجال أو لا يقبلها. وقد ينتج عن الأنانية، حيث يريد المستبدّ التفرُّد بالمغانم المادية والمعنوية المرتبطة بمنصب ما. وقد يكون ناتجا عن عدم كفاءة الشخص مع إصراره على تولي المنصب، فيسعى إلى تغطية عجزه بمنع الشورى والنقد حتى لا ينفضح عجزه، والاستبداد مرتبط بضيق الأفق، حين يعجز الشخص عن النظر إلى الأمور من جوانبها المختلفة، ويُصِرُّ على أخذها من الزاوية التي ينظر منها هو فقط.
إن معالجة الاستبداد تكون على مستويين: أحدهما: مواجهة الاستبداد السياسي، أي استبداد النخبة الحاكمة. والآخر: التخلص من ثقافة الاستبداد بوصفها طريقة في التفكير تنتشر بين أفراد المجتمع، ويكون ذلك بالتوعية والتربية التي تعمل على تدريب الفرد منذ الصِّغر على التواضع والتعاون والشورى وتقبُّل النصيحة والنقد واحترام الرأي الآخر. وهذا العمل من مسؤولية المجتمع بجميع مؤسساته.
بعض الناس يدعو إلى فكرة "العادل المستبدّ" ظنا منهم أنه لا يمكن قيادة المجتمعات التي تسودها الفوضى والتناحر إلا عن طريق "المستبدّ العادل"! وهم في الواقع يخلطون بين القيادة القوية والقيادة المستبدة. إن ما تحتاج إليه المجتمعات للنهوض والانتصار هو القيادة القوية التي تكون مَصْدَر إلهام للناس وتقود بالقدوة والكفاءة لا بالقهر والجبر، أما الاستبداد فإنه مذموم ولا يأتي بخير في جميع الأحوال. فإذا كان المستبدّ غير كفء فما ينتج عن استبداده من تكريس للفساد والانحطاط أمر ظاهر، وإذا كان المستبدّ صاحب كفاءة فإن ضرر استبداده يكون بحرمان المجتمع من تكوين قيادات ذات كفاءة وخبرة تخلفه بعد ذهابه؛ لأن استبداده يُكرِّس عقلية القطيع، فيجمع حوله المداحين الذين هم عادة من المنتفعين أصحاب الكفاءات الضعيفة، ويُبعد أصحاب الكفاءة والكرامة ويحرمهم من تنمية قدراتهم القيادية وكسب الخبرة اللازمة، وهي مساوئ تكفي لرفض فكرة "العادل المستبدّ" حتى لو توفرت فيه الكفاءة. هذا إذا سلّمنا أصلا بوجود العادل المستبدّ! لأنه من العسير أن يكون المستبدُّ عادلا!

11- التصور الخاطئ عن القيادة
القيادة الحقيقية قُدوة وإلهام، حيث يكون القائد قُدوة لغيره في سلوكه، ومصدر إلهام لهم في عُلوّ الهِمَّة وبُعْد النظر وعُمق التفكير. والقيادة الحقيقية تُفرزها الأحداث التي تُثبت توفُّر بعض الأشخاص على تلك الكفاءات، كما أن الأحداث قد تتجاوز بعض القيادات حين تُثبت عجز المتصدرين للقيادة عن الوفاء بمتطلباتها فيكون لزاما عليهم الانسحاب بشرف وكرامة. والقيادة مسؤولية، حيث يكون المتصدِّر للقيادة مسؤولا عن قراراته وعن فشله. وتكون الكارثة عندما يعتقد بعض الناس أن القيادة اختيارٌ يتَّخذُه الشخص الراغب في ذلك، فمن رغب في التصدُّر للقيادة حسّن لباسه ونمَّق بعض العبارات وأخذ يتصدَّر المجالس ويصدر الأوامر والتعليمات وينتظر العطايا والامتيازات! وبذلك يتصدّر للقيادة الطامحون أصحاب النفوس الصغيرة والعقول الضعيفة. وهذا النوع من القيادة لا يمكنه إلا أن يكون متملِّقا لمن هو أعلى منه ومستبدًّا على من هو دونه، وقلّ ما تجد فيه الكفاءة وروح المسؤولية وكرامة النفس. كما تكون الكارثة عندما تُصِرُّ القيادات التي تجاوزتها الأحداث على البقاء في مناصبها حتى لو أدى ذلك إلى الانقسام وتدهور أوضاع الحزب أو الجماعة.

12- المبالغة في المدح والفجور في الخصومة
من صفات الشخصية الناضجة التوازن والاعتدال، ومن صفات الشخصية الضعيفة المتخلّفة التطرُّف، ومن مظاهر ذلك ما تجده منتشرا في المجتمعات العربية -خاصة في بلاد المشرق العربي- من تطرُّف الشخص بين المبالغة في مدح من يطمع في عطائهم أو ينتمي إليهم فكريا، والمبالغة في الخصومة مع المخالفين له أو من لا يلبُّون له رغباته. وأصل هذا السلوك قديم في المجتمعات العربية، كان يمثِّله الشعراء الذين يرفعون بالمدح من يطمعون في عطائه أو ينتمون إليه قبليًّا أو فكريا إلى مقام الألوهية، ويحطُّون بالهجاء من قيمة الذي يسخطون عليه إلى الحضيض حتى لو كان في الواقع من أهل الفضل والعدل. وهذه الشخصية يسودها التعصب الأعمى، ويعشّش فيها النفاق الاجتماعي الذي يغطّي على الفساد ويُكرِّسه، والفجور في الخصومة الذي يؤدي إلى الظلم والعمى عن الحق، وهما سببان من أسباب التخلُّف والفوضى.

13- الاحتجاج بالقضاء والقدر على الإهمال والتقصير
القضاء والقدر حقٌّ، والإيمان بهما جزء من عقيدة المسلم وعنصر مهم في تكوين الشخصية الإيجابية، ولكن المشكل أن بعض الناس يسيء استخدام القضاء والقدر عندما يحوِّله إلى وسيلة لتبرير الكسل والتقصير. وقد أنكر الله عز وجل على الكفار احتجاجهم بالقدر على أفعالهم، وحمَّلهم مسؤولية ما يفعلون: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ) (الأنعام: 148).
إن المرض من قضاء الله وقدره، ولكن العلاج من قضاء الله وقدره أيضا، والإنسان يستعمل هذا لدفع ذاك. والبلاء من قضاء الله وقدره، والدعاء من قضاء الله وقدره أيضا، والإنسان يسعى إلى دفع ذاك بهذا. وتسلُّطُ الحكام الفاسدين من قضاء الله وقدره، ومدافعتهم والسعي إلى إصلاحهم أو تغييرهم من قضاء الله وقدره أيضا، والإنسان يدفع ذاك بهذا. والفقر من قضاء الله وقدره، والسعي إلى الكسب وتحصيل الغنى من قضاء الله وقدره أيضا، والإنسان يسعى إلى دفع ذاك بهذا.
إن الإيمان بالقضاء والقدر في الإسلام وسيلة تربوية لتعليم الإنسان الرضا بما يتمكَّن من كسبه بعد أن يبذل ما في قدرته من أسباب، فلا تذهب نفسُهُ حسرات على ما لم يتمكَّن من تحصيله بعد أن بذل ما في طاقته من الأسباب. وهو اعتقاد يعلِّمُهُ الرضا بما يحلّ به من مصائب لا حيلة له في دفعها؛ فبدلا من أن يُهلك نفسَه بالحزن والأسى على تلك المصيبة التي لا قدرة له على دفعها، فالأولى له أن يتقبلها ويتعلم كيف يتأقلم ويتعايش معها، ويبدأ حياة جديدة. ولكن -للأسف- الكثير من الناس يستعمل القضاء والقدر لتبرير عجزه وتقصيره.


سيكولوجية التحضُّر

التحضُّر والتقدم المستمر يحتاج إلى أفراد تتوفر فيهم خصائص منها:

1- روح المبادرة: وهي سلوك إيجابي يمثل القوة الدافعة إلى التحضُّر والتقدُّم؛ فهي الدافع إلى إصلاح الذات وتطويرها، وهي الدافع إلى الإسهام في الإصلاح الاجتماعي والسياسي، وهي التي تقف خلف التطور العلمي والاقتصادي.

2- التعاون والتشاور والتسامح والإنصاف؛ لأن هذه الصفات من ضرورات الحياة الاجتماعية، ولا تقوم حياة اجتماعية سليمة بدونها.

3- الرقابة الاجتماعية، وهو ما نعبر عنه في الإسلام بـ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" و"التواصي بالحق والتواصي بالصبر"؛ لأن ممارسة هذه المبادئ تمثل رقابة مستمرة على الأفراد وعلى السلطات الحاكمة من أجل مساعدتهم على التزام طريق الصواب، وتجنُّب الوقوع في الانحراف أو تصحيحه إن وقع، ولذلك فإن الرقابة الاجتماعية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) تمثل دعما معنويا قويا للاستمرار على الاستقامة.
إن مفهوم "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ليس مقصورا على أعمال الحِسْبَة التي يقوم بها بعض الأشخاص في تغيير بعض المنكرات الخلقية، بل هو مفهوم واسع. الأمر بالمعروف يشمل جميع ما يتعلق بتعليم الخير للناس ودعوتهم إلى فعله، سواء أكان ذلك على مستوى الأفكار أم على مستوى السلوك. والنهي عن المنكر يشمل جميع ما يتعلق بمقاومة الفساد والشر وتشجيع الناس على اجتنابهما وتوفير البدائل النافعة. والمعارضة السياسية في الإسلام تدخل ضمن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أساس مشروعيتها. والتواصي بالحق هو التشجيع والتعاون على المعروف والبر، والتواصي بالصبر هو التعاون على التمسك بالحق ومقاومة الفساد؛ لأن التمسك بالحق يجعل صاحبه يواجه نزواته وشهواته، ويواجه أهل الفساد والباطل الذين لا يريدون للحق أن يسود ولذلك يحتاج إلى الدعم بالتواصي بالصبر.

4- الاعتراف بالخطأ والنقص: إن الاعتراف بالخطأ والنقص عنصر مهم لتطوير الذات؛ لأن الذي يعتقد في نفسه الكمال ولا يعترف بأخطائه ونقصه لا يمكنه أن يسعى إلى تطوير ذاته أو تصحيح أخطائه. كما أن الاعتراف بالخطأ والنقص هما أساس الديمقراطية والشورى، والشعور بالكمال هو أساس الغرور والتكبر والاستبداد؛ فالإنسان الذي يدرك أنه مُعرَّض للخطأ والنقص يتقبل النقد وينظر إليه على أنه نوع من النصيحة يستفيد منه في تصحيح أخطائه وتدارك نقائصه، أما الإنسان المغرور بنفسه فإنه ينظر إلى النقد على أنه يمثل تحديا وإهانة له، فيغضب وينتفض عند سماع النقد ويمضي في غروره ليهلك نفسه ومن حوله.

5- السعي الدائم إلى تطوير الذات وتنمية المهارات: إن السعي الدائم إلى التطوير يكون على مستوى الذات كما يكون على مستوى المؤسسة. فعلى مستوى الذات يكون الفرد في سعي دائم إلى تطوير ذاته ومهاراته، وعلى مستوى المؤسسة تكون المؤسسة في سعي دائم إلى تطوير مهارات العاملين فيها من خلال برامج تدريب مستمرة، وتطوير أساليب الأداء وتقديم الخدمات. إن السعي الدائم إلى التطوير يؤدي إلى الابتكار والإبداع وهما روح التطور وبناء الحضارة.

6- إتقان العمل، سواء أكان العمل خاصا أم عاما. إن الذي يريد من غيره أن يتقنوا أعمالهم المتعلقة بمصالحه وأن لا يغشوه ينبغي عليه هو أيضا أن يُتقن عمله المتعلق بمصالح غيره ولا يغشّهم. وينبغي أن يكون شعارنا في ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه".

7- الاهتمام بالمصالح والمرافق العامة، وهو اهتمام ناتج عن تصور إيجابي عن الحياة الاجتماعية، حيث يدرك الشخص أن حياته الفردية لا تستقيم دون استقامة الحياة الجماعية، وأن المصالح الخاصة بكل مواطن لا تكتمل إلا بالمحافظة على المصالح والمرافق العامة؛ فالعناية بالمصالح والمرافق العامة هو في الحقيقة عناية بالمصالح الخاصة.

8- احترام حقوق الآخرين والالتزام بالقوانين والنُّظم المعمول بها، لأن ذلك من ضرورات استقامة الحياة الاجتماعية.


التغيير: مجالاته ووسائله
للتغيير مجالان: أحدهما: التغيير السياسي، وهو الذي يتم فيه تغيير القيادات السياسية. والثاني: التغيير الاجتماعي، وهو الذي يتم فيه تغيير الفرد في طريقة تفكيره وسلوكه. هذان هما المجالان الأساسيان للتغيير. أما التغيير الاقتصادي نحو الرخاء والرفاه الاجتماعي فإنه ثمرة للتغييرين الاجتماعي والسياسي.

أولا: التغيير السياسي
المعهود أن النظام السياسي الفاسد لا يقوم بالإصلاح ولا يسمح للآخرين بالقيام به، وقصارى ما يقوم به هو إعادة إنتاج نفسه في صور وأشكال تحاول أن تظهر بمظهر التجدُّد. ولذلك فإنه لا يمكن أن يتم التغيير الحقيقي الشامل إلا بوجود تغيير سياسي، ولكن من الخطأ الاعتقاد أن التغيير السياسي يمثل نهاية المطاف. إن التغيير السياسي مجرد حلقة من حلقات التغيير، حيث إنه إذا جاء التغيير السياسي بقيادة راشدة لها عزم على التغيير والإصلاح، وتمتلك رؤية سليمة ومتكاملة لتحقيقه، فإن ذلك التغيير السياسي سيمثل دفعا قويا لتحقيق التغيير والإصلاح.

وسائل التغيير السياسي
وسائل التغيير السياسي إما أن تكون سلمية وهي طريق الانتخابات، أو تكون عنيفة وهي طريق الانقلابات أو الثورات. وكل وسيلة لها إيجابيات وسلبيات تتفاوت بحسب القائمين على التغيير وبحسب نضج أفراد المجتمع.
التغيير عن طريق الانتخابات ميزته أنه يكون تغييرا سلميا لا تسقط فيه ضحايا، ولا يؤدي إلى دمار وخراب، ولكنه يكون مفيدا في المجتمعات التي تتوفر فيها ديمقراطية حقيقية قائمة على قاعدة شعبية واعية ومؤسسات مُستقرَّة تدير شؤون الحياة اليومية دون تأثُّر كبير بالولاءات الحزبية والتغيرات السياسية. فتلك المجتمعات لا تحتاج إلى تغيير عام؛ لأنها قد تكونت لديها مؤسسات وأنظمة مستقرة، وإنما تحتاج إلى تغيير بعض السياسات العامة التي تنتهجها الحكومة، فإذا لم يكن غالبية الشعب راضين عن تلك السياسات لجأوا إلى تغيير الحكومة عن طريق الانتخابات الدورية.
أما في المجتمعات التي لا يتوفر فيها الوعي السياسي والاجتماعي، ويكون طابعها العام عدم الكفاءة والفساد والفوضى سواء على مستوى السلطة أم على مستوى الشعب -كما هو الحال عندنا- فإن هذا النوع من التغيير يكون تغييرا شكليا يذهب بقيادات وأحزاب سياسية ويأتي بأخرى لا تختلف عنها كثيرا؛ لأن الجميع من مَنْبَتٍ واحد، حيث إن الأحزاب السياسية نتاج للمجتمع الذي تكوّنت فيه وانعكاس له؛ فإذا كان المجتمع يتصف بالوعي والنزاهة وإتقان العمل، كانت الأحزاب كذلك. وإذا كان الغالب على المجتمع الغش والأنانية والسعي إلى تحقيق المصالح دون بذل ما يكافؤها من جهد، كانت الأحزاب كذلك. هذا فضلا عن أن الانتخابات تُغيِّر القيادات السياسية، ولا تُغيِّر الجهاز البيروقراطي المتَّصف في عمومه بالفساد وعدم الكفاءة، ولذلك فإن هذا النوع من التغيير حتى وإن كانت فيه إيجابيات، فهي محدودة.
إن أحزاب المعارضة -حتى وإن اختلفت عن السلطة الحاكمة في شعاراتها ووعودها وطموحاتها- فهي تشترك معها في ثقافة التخلُّف السائدة في المجتمع، ولذلك فإنها إذا وصلت إلى الحكم قد لا يختلف سلوكها كثيرا عن سلوك السلطة السابقة. وحتى لو افترضنا وجود أحزاب معارضة لها رغبة صادقة في إحداث تغيير إيجابي حقيقي، وافترضنا توفُّرها على الكفاءة اللازمة لذلك، فإنها بوصولها إلى الحكم في ظل مجتمع يسيطر عليه الفساد ستكون أمام خيارين: أحدهما: العمل على إيجاد تغيير حقيقي بالتضييق على الفساد، والعمل على إضعاف أصحابه وتهميشهم، وهذا سيضعها في مواجهة مصيرية مع "الدولة العميقة"، ورهانات النجاح في هذه المواجهة محدودة مادامت لا توجد قاعدة قوية تسندها في ذلك. والخيار الثاني: محاولة التعايش مع الفساد الذي تمثله "الدولة العميقة"، وهذا يقتضي التساهل مع الفساد وغضّ الطرف عنه، وتكون النتيجة الفشل في إيجاد تغيير حقيقي.
أما التغيير عن طريق الانقلاب العسكري فمن إيجابياته أنه يكون سريعا وشاملا، بحيث يغيّر القيادة السياسية بشكل كامل، ولكن من سلبياته أن تضحياته قد تكون كبيرة، وأن الذين يقومون به يشعرون -عادة- بحقّهم في فرض الوصاية على المجتمع بحجة أنهم هم الذين خاطروا بأنفسهم لإحداث التغيير، ويفرضون على المجتمع برامجهم وسياساتهم حتى لو كانت ضحلة ومعيبة، ويؤسسون بذلك لدكتاتورية تقوم على مبدأ المشروعية الثورية، وتكون نتيجة التغيير شكلية تستبدل أشخاصا بآخرين، قد يكونون أسوأ من سابقيهم. هذا زيادة على أن القائمين بالانقلاب يحملون عادة عقلية التخلف السائدة في المجتمع.
وأما التغيير عن طريق الثورة الشعبية فإنه قد يؤدي إلى إسقاط القيادة السياسية المستبدة، ولكنه إن لم يكن في مجتمع يتصف بالوعي السياسي العالي والتماسك الاجتماعي بين فئاته، فإن تضحياته تكون كبيرة، وقد يؤدي إلى الحرب الأهلية والفوضى، وتكون نتائجه في غاية السوء. هذا فضلا عن أنه لا يأتي بالضرورة بتغيير حقيقي؛ لأنه لا يُغيِّر الحاضنة التي تحتضن الفساد والتُّرْبَةَ التي تُنْبِتُهُ، وهي البيئة الاجتماعية الفاسدة. نعم، قد يجد مجتمع من المجتمعات نفسه مضطرا إلى القيام بتغيير ثوري عنيف عندما يبلغ النظام القائم درجة من الاستبداد تجعل كل أبواب التغيير الاجتماعي السلمي مُغلقة، وفي هذه الحال يكون هذا النوع من التغيير لا مفرَّ منه لكونه الخيار الوحيد المتاح ومفتاح بدأ عملية التغيير، ولكنه لا يعدو أن يكون فتحا لطريق التغيير وإطلاق شرارته، ولا يمكن أن يكون هو التغيير الحقيقي.


ثانيا: التغيير الاجتماعي
التغيير الاجتماعي هو الذي يغيِّر عقلية ونفسيّة الإنسان بما يجعله إنسانا صالحا إيجابيًّا وفعّالا. وهو تغيير يشمل التغيير الفكري والتغيير الثقافي. والمراد بالتغيير الفكري تغيير الطريقة التي يفكر بها الناس ليصبح تفكيرهم قائما على التفكير العملي، وتغيير الأفكار السلبية والخاطئة السائدة بين الناس عن القضايا المهمة في الحياة. والمراد بالتغيير الثقافي تغيير العادات والتقاليد والسلوكيات السلبية السائدة في المجتمع لإيجاد بيئة ثقافية إيجابية تحتضن التغيير وتساعد على تحقيقه. والفكر والثقافة أمران متكاملان يؤثر بعضهما في بعض: فطريقة التفكير والأفكار السائدة عند الإنسان يسهمان في تكوين السلوك الذي يتحول إلى ثقافة (عادات سائدة)؛ وبذلك تكون الثقافة السائدة انعكاسا لتلك الأفكار سلبا أو إيجابا. ومن جهة أخرى فإن الثقافة السائدة في المجتمع تُسهم في تشكيل طريقة التفكير وصياغة الأفكار لدى الأفراد الناشئين في ظل تلك الثقافة سلبا وإيجابا. ولذلك فإنه لابد من العمل على المستويين: مستوى تغيير الأفكار لدى الأفراد ومستوى تغيير الثقافة المتمثلة في العادات والتقاليد والسلوكيات السائدة في المجتمع من خلال تشجيع العادات الحسنة والدعوة إليها حتى تشيع في المجتمع.
إن التغيير الاجتماعي المتدرج هو الذي يُسهم في التخلُّص من ثقافة التخلُّف بين الناس، ويدفع السلطة القائمة إلى تغيير سلوكها. إن الأوضاع المتردية التي تعيشها مجتمعاتنا لا يمكن إصلاحها دفعة واحدة؛ لأن الأمر لا يتعلق بمجرد تغيير أشخاص في هرم السلطة، بل يتعلق في الأساس بإصلاح طريقة التفكير، وإصلاح السلوك، وإيجاد الفرد القادر على إدارة نفسه، وإقامة نظام مؤسساتي لإدارة شؤون المجتمع سياسيا واقتصاديا وتربويا، وهي عملية تحتاج إلى توعية وتربية وتدريب لعقود من الزمن، وتقتضي تظافر جهود جميع الراغبين في التغيير سواء أكانوا في المعارضة أم في السلطة.


أسس التغيير الاجتماعي
يمكن تلخيص أهم الأسس التي يقوم عليها التغيير الاجتماعي في ثلاثة: (1) الأخلاق، (2) التفكير العملي، (3) الذوق الجمالي(الذوق العام).

1- الأخلاق
تقسّم الأخلاق من حيث صلتها بالنظام الاجتماعي إلى قسمين: أخلاق فردية تجعل الإنسان فاضلا في نفسه، وأخلاق اجتماعية تحكم علاقاته بمحيطه الاجتماعي وبمحيطه الطبيعي وتؤهله لبناء مجتمع إسلامي متحضر. وقد جاء الإسلام بالأمر بالالتزام بكلا الجانبين من الأخلاق.
إن الأخلاق الاجتماعية ضرورية لبناء شبكة علاقات اجتماعية سليمة تؤدي إلى إقامة مجتمع يطبعه التكافل والتعاون والسلوك الحضاري الراقي. ولا يمكن أن يتحقق تغيير اجتماعي إيجابي دون إقامة شبكة علاقات اجتماعية قوية، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بتقوية الأخلاق الاجتماعية مثل: التعاون، والتسامح، والتواصي بالحق والصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخلاقيات العمل (الإتقان، الأمانة، عدم استغلال العمال، تجنب الغش)، والمحافظة على المرافق العامة، وشعور الفرد بأن سعادته ورخاءه واستقرار حياته تقوم على استقرار المجتمع ورخائه وسعادته.
لقد ربط القرآن الكريم الرخاء الاقتصادي بالإيمان والتقوى، فقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف: 96). فالإيمان الصحيح هو أساس كل شيء؛ لأنه هو الذي يجعل الإنسان يحقق رسالته في هذه الحياة، وبعد الإيمان يأتي التقوى. والتقوى فعل إيجابي في شتّى مجالات الحياة ويجمع الأخلاق الفردية والاجتماعية: فهو سموٌّ روحيّ، وسلوك اجتماعي رفيع، وفعل إيجابي مستقيم في عمارة الأرض. ليس التقوى محصورا في الالتزام بالشعائر التعبديّة واجتناب ما حُرِّم من المطعومات والمشروبات، بل إن السلوك الاجتماعي -الذي هو برهان الإيمان الصحيح- يُعدّ من صميم التقوى، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه). فالمسلم هو الذي لا يؤذي الناس بفعله (اليد رمز الفعل)، فلا يغش الناس في تجارته، ولا يعتدي على حقوق الناس، ولا يؤذيهم بلسانه. إن من صميم التقوى اجتناب الغشّ في التجارة والعمل ... ومن التقوى الورع في التعامل مع أموال الغير... ومن التقوى إتقان العمل وأداء الأمانة... ومن التقوى إعطاء كل ذي حقّ حقَّه... إن البلد الذي يفشو فيه الغش، ويُؤكَل فيه حقّ الضعيف، ولا يحكم فيه بالعدل، وتُستباح فيه الممتلكات والمرافق العامة، وتفشو فيه خيانة الأمانة -سواء أكانت أمانة عامة أم أمانة خاصة- ويفشو فيه الإخلال بالوعد والعهد، وتطغى فيه المظاهر والشكليات على القيم الروحية والخلقية، لا يمكن أن يكون أهله في عداد المتّقين الذين يستحقُّون أن تُفتح عليهم بركات من السماء والأرض كما وعد الله بذلك عباده المتقين.
كما ربط الله سبحانه وتعالى زيادة النعمة بالشكر في قوله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم: 7). والشكر ليس مجرد نطق بعبارة "الحمد والشكر لله"، بل هو تغيير إيجابي في النفس الإنسانية، حيث يتحوّل الإنسان من مجرد مستهلك سلبي لنعم الله تعالى عليه إلى مستهلك إيجابي يستعمل تلك النعم بطريقة حكيمة، فينتفع بها بطريقة معتدلة ويعطي منها لغيره من المحتاجين؛ ولذلك عبّر القرآن الكريم عن الشكر بالعمل، فقال تعالى مخاطبا آل داود عليه السلام: (اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ: 13).

2- التفكير العملي
التفكير بجميع أنواعه هو الأساس الذي تقوم عليه حياة الإنسان وحضارته، وجميع أنواع التفكير ضرورية ومتكاملة، فالتفكير النظري ضروري لتكوين النظريّات التي تفسّر الظواهر الكونية والاجتماعية، والتفكير النقدي ضروري لمراجعة تلك النظريات وتطويرها، كما أنه ضروري لمراجعة وتطوير أساليب التعامل مع مسائل الحياة اليومية والقرارات المتعلقة بها. والذي نريد التركيز عليه هنا -بحكم صلته الوثيقة بموضوعنا- هو التفكير العملي الذي يجعل صاحبه يترجم المعارف النظرية التي يكتسبها إلى واقع عملي في حياته اليومية. هذا النوع من التفكير عنصر في غاية الأهمية لتحقيق التغيير الثقافي؛ فنحن المسلمين نملك منطومة عقدية وفكرية سليمة، ومبادئ خلقية راقية، ولكننا في الواقع العملي نجد الخرافات تسيطر على تفكير قطاع عريض من المسلمين، كما أننا في ذيل القافلة البشرية من الناحية الخلقية، حيث يفشو فينا الغش والكذب والنفاق الاجتماعي والاستبداد والإهمال وعدم إتقان العمل وتضييع الحقوق، على الرغم من أن ديينا يأمرنا بالصدق والأمانة والإخلاص في العمل والإتقان والإحسان والشورى والعدل والوفاء وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه. وعلى الرغم من أننا نقرأ جميع تلك الأخلاق السامية في القرآن الكريم ونسمعها في خطب الجمعة أسبوعيا وفي المواعظ الدينية هنا وهناك وإذا تحدثنا عن الإسلام افتخرنا بها، إلا أننا لا نترجم تلك المعارف النظرية التي نفتخر بها إلى واقع عملي نعيشه في حياتنا اليومية، وبذلك نكون كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمولٌ!

3- الذوق الجمالي
المراد بالذوق الجمالي جمال السلوك، حيث يتكوّن لدى الفرد ذوق رفيع في التعامل مع المحيط الاجتماعي (الناس) والمحيط الطبيعي (البيئة)؛ فتفشو بين الناس الابتسامة، والتحية الحسنة، والكلمة الطيبة، والاحترام المتبادل، ويعمّ التسامح والتعاون والإيثار وإتقان العمل وحسن المعاملة. ويسود بين الناس احترام المحيط الطبيعي بالمحافظة على نظافته والعمل على تجميله. أما جمال المظهر فهو مطلوب ومحمود، ولكنه يجب أن لا ينقلب إلى مظهر من مظاهر الغرور والرياء والتكبُّر. ولا فائدة في جمال المظهر إذا كان يخفي خلفه سلوكا قبيحا وذوقا رديئا في التعامل مع المحيط البشري والمحيط الطبيعي.

العلاقة بين التغيير السياسي والتغيير الاجتماعي
من أجل بيان العلاقة بين التغيير السياسي والتغيير الاجتماعي لا بد من الإجابة عن السؤال الآتي: من الذي يصنع الآخر: هل الحكومة هي التي تصنع الشعب أم الشعب هو الذي يصنع الحكومة؟ إن هذه الإشكالية تتجلى في مقولتين شائعتين: الأولى: مقولة "الناس على دين ملوكهم" وهي إشارة إلى تحميل الأنظمة الحاكمة مسؤولية صلاح المجتمع أو فساده. والمقولة الثانية: "كما تكونوا يُولّى عليكم"، وهي إشارة إلى أن مسؤولية الإصلاح تقع على عاتق الشعب، والسلطة الحاكمة مجرد انعكاس لحالة المجتمع: فإذا كان المجتمع صالحا أفرز سلطة سياسية وإدارية صالحة، وإذا كان فاسدا أفرز سلطة سياسية وإدارية فاسدة.
والواقع أنهما أمران متداخلان يؤثر بعضهما في بعض. فالحكومة الفاسدة تطبع شعبها بالفساد، والحكومة الصالحة تعين شعبها على تحقيق الصلاح. ومن جهة أخرى، المجتمع الفاسد يُنتج قيادة سياسية فاسدة ويكرِّس الفساد، والمجتمع الصالح يُنتج قيادة سياسية صالحة ولا يسمح لسلطة سياسية فاسدة بالتسلّط عليه. وقد صدق مالك بن نبي حين قال: "فالحكومة مهما كانت ما هي إلا آلة اجتماعية تتغير تبعا للوسط الذي تعيش فيه وتتنوع معه، فإذا كان الوسط نظيفا حرا، فما تستطيع الحكومة أن تواجهه بما ليس فيه، وإذا الوسط كان مُتَّسِما بالقابلية للاستعمار فلا بد من أن تكون حكومته استعمارية".
لا شك أن الوضع الأمثل هو الذي تجتمع فيه حكومة رشيدة ذات برنامج راشد وشعب يدرك مسؤوليته في تحقيق التغيير والإصلاح ويقدم الثمن المطلوب من أجل ذلك، وبذلك يتحقق الإصلاح. أما إذا كانت السلطة السياسية فاسدة وصادفت رعيّة ضعيفة لها استعداد للفساد، فإنها ستتمكّن من طبعها بطابع الفساد، كما قال الله عز وجل في عمل فرعون: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِين)َ (الزخرف: 54)
إن النظر في وضعنا يشير إلى أن الفساد موجود على مستوى السلطة الحاكمة وعلى مستوى القاعدة الشعبية، ولذلك فإن التغيير السياسي وحده لا يكفي لأنه لا يمكن -من الناحية العملية- إيجاد سلطة حاكمة تتصف بالكفاءة والنزاهة في مجتمع يمارس الفساد ويشجعه، وحتى إذا افترضنا إمكانية وجود سلطة سياسية راشدة، فإن وجود تلك السلطة لا يعني أن التغيير قد تحقق، بل سيكون ذلك مجرد انطلاق لعملية التغيير، وستعاني تلك السلطة الأمرَّيْن في سبيل تحقيق التغيير الاجتماعي. كما أن التركيز على التغيير الاجتماعي دون اهتمام بالتغيير السياسي لن يأتي بنتائج كبيرة؛ لأن أكثر ما يبنيه المربُّون يهدمه المفسدون وتطمسه البيئة الفاسدة التي تغذيها السلطة الفاسدة. ولذلك فإنه لا بد من العمل على المستويين: لا بد من المشاركة في التغيير السياسي من خلال الانتخاب والترشُّح للمناصب الحكومية، والعمل على إيصال أشخاص لهم الرغبة في التغيير والتعاون مع المجتمع المدني من أجل تحقيق ذلك، كما أنه لا بد من العمل على مستوى التغيير الاجتماعي، وبذلك تتكامل العمليتان من أجل تحقيق التغيير الحقيقي.
لقد حدد القرآن الكريم قانون التغيير في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11)، وقوله عز وجل: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال: 53). فالتغيير إيجابا وسلبا قائم على تغيير النفس. وقد كان تغيير الفرد وبناؤه هو الأسلوب الذي اتبعه القرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وسلم في تكوين أول مجتمع مسلم، وكان التركيز على البناء الإيماني والخلقي لأفراد المجتمع المسلم، وممارسة الدعوة وتجنُّب الصدام، وقد سعى النبي صلى الله عليه وسلم إلى استيعاب جميع مكونات مجتمع المدينة لتكوين مجتمع متسامح ومتعاون.

ــــــ يتبع ـــــ








 


رد مع اقتباس