منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - *«•¨*•.¸¸.»منتدى طلبة اللغة العربية و آدابها «•¨*•.¸¸.»*
عرض مشاركة واحدة
قديم 2013-03-21, 19:08   رقم المشاركة : 267
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

(...) والتوليد أن يستخرج الشاعر معنى من معنى شاعر تقدّمه أو يزيد فيه (...) والإبداع إتيان الشاعر بالشيء المستظرف (...) فالاختراع للمعنى، والإبداع للفظ(12)".


استطاع امرؤ القيس أن يتبع حركة الواقع من حوله، وأن يرصد بعينه الثالثة ما تولده هذه الحركة من قلق وخوف، إنه الواقع المفجوع بأمنه واستقراره، فضاؤه سراب يشحن إنسانه بالاستسلام والتبعية والعبودية. فالمكوث عنده نهاية والارتحال طريق، وبين المكوث والارتحال تغريب واغتراب وألمٌ ونفي، إنه نفي الذات المصلوبة بألمها عن إنسانها.


رفض امرؤ القيس نفيه الروحي، وتمرّد على أشكال العبودية والاستسلام والتبعية وألّه حريته وموهبته وعظمة الإنسان فيه. فمجّد تفرد ذاته، وتعالى على وحدته بوحدته، ونفى اغترابه باغترابه، وبارك الألم بألمه، وصرع القلق بقلقه. فكشف عن معاناة الإنسان في صحراء تمارس سيادتها على مصيره، تبلوه وتبتليه، فيخضع، وينقاد رابطاً غده بسرابها.


هذا الارتحال القسري الفاجع جابهه امرؤ القيس بفعل يرفض هذه الحركة الارتحالية الاعتباطية المفعّلة بالخوف والقلق، فلم يكن وقوفه على أطلال الأحبّة يهدف إلى البكاء والألم، بقدر ما يهدف إلى خرق العادة، إنه دعوة إلى التأمل وإثبات الذات، بغية فضح الواقع والكشف عن الأسباب المقنعة وراء عجز الجاهلي وانقياده.


كان امرؤ القيس متوحداً مع ذاته العليا، متصالحاً مع نفسه، واثقاً بقدرته على الاختراع، فرفض استسلام الإنسان فيه إلى قدره، وأدرك قدرته على خلق المثال الذي اهتم المقلدون باسمه، وأعرضوا عن معناه. ففي قوله:


قفا نبك من ذكر حبيب ومنزل *** بسقط اللوى بين الدخول فحومل


يبدو لي فعل الأمر "قفا" خروجاً عن عبارة الرحيل، وعلى الاستسلام للقهر والبعد والتخريب، إنه التصوير الأسمى لمشاعر النفس العظيمة في التعبير عن رفضها لحدثان الدهر. إنه الرفض بالتأكيد على القبول، والنظر والفحص والتأمل، كي تبقى الصورة ثابتة في أذهان الصفوة القادرة على التغيير والانتصار.


يشير استخدامه فعل الأمر إلى تحول النفس الإنسانية من حالة الهروب والقبول إلى حالة الثبات والسيادة، فهو لا يتلقى وإنما يأمر. والبكاء ليس ضعفاً إنه من دلالات العطف والشفافية، فهو الآمر والقادر والعارف والعطوف والرحيم. يأمر ويبكي في آن معاً، مسكون بالقسوة، ويسكنه حنين الذكريات، هو المهجّر البعيد والقريب إلى أمكنة يعرفها، والمعرفة طريق لتحطيم صنمية الاستسلام والقهر.


لم يأت تمرده على الواقع ضجيجاً ثورياً، إنه الرفض بالقبول. تستفزه الصعاب ينطقها، تتحداه وحشة الصحراء يؤنسنها، تسخر منه الرياح ورمال الصحراء، يموسقها. فالتجربة عنده عبور نحو ذاته العليا، ليكرِّس وجودها سيادة وحرية، حضورا واستباقاً، كشفاً وبوحاً، تفجراً وتواصلاً وتأسيساً. إنه البحث عن تمجيد ذاته الإنسانية:


فلو أن ما أسعى لأدنى معيشةٍ *** كفاني، ولم أطلب، قليلٌ من المال


ولكنني أسعى لمجدٍ مؤّثلٍ *** وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي(13)


لقد جسّد شعر امرئ القيس انكشاف الأنا على ذاتها، ومن ثم انعتاقها وتحررها في سفرٍ لا زمني اخترق الحاضر الجاهلي وأسس في المستقبل نموذجاً محدثاً لا تتخلق جدّته. وإذا كانت الأثواب قديمة في رأي الناقدين، فهي في الحقيقة أجساد مادية لأرواحٍ لا تعرف الكهولة. وسيجد كل باحث متفرّد مبدع وفي كل زمانٍ ومكان، ومضاً من معانٍ لم يفصح عنها، بعد أن أطلقها امرؤ القيس من أعماق إنسانيته. فكان شعره نموذجاً في الشكل عند الكثير من المولدين والمبدعين والمقلدين، وسيظل تعبيره عن الذات الإنسانية خالداً ومتجدداً، لأنه لم يكن في تجربته ناقلاً بل متخيراً(14).


ولقد أكّد ابن قتيبة(15) توليد الشعراء للمعاني من أقوال امرئ القيس كقوله:


كأن المدام وصوب الغمام *** وريح الخزامى ونشر القطر


يعل به برد أنيابها *** إذا طرب الطائر المستجر


إن اختراع امرئ القيس نموذج الوقوف على الأطلال، أفقده المقلدون خاصته الفنية وتحوّل إلى عرف وقانون لا خروج عليهما، مما دفع بأبي نواس إلى السخرية من هؤلاء الواقفين والباكين، لأنه أدرك "أن الزمن تيار يحرر ويمحو، لكنه قرن هذا الإدراك بمعرفة ثانية هي أن الزمن أيضاً يمنح الأشياء حضورها وقوتها، ويرينا عمق حياتنا الماضية، وأفق حياتنا الآتية، وكثافة حياتنا الحاضرة(16)". فأكسبته هذه المعرفة رؤيا كشفت أمامه رغبة النفس في تجاوز حاضرها، وارتياد المستقبل.


أدرك أبو نُواس قيمة الكشف عن حقيقة الأشياء، وأهمية نقض الموروث المحنَّط وضرورة خلق حضورٍ فكري ثقافي يرفض الصنمية، ويتعالى على جمودية التلقي، ليخرج على العرف والعادة بالبرهان العلمي وبتحقيق فعل ما يضمره النطق الذي يعطي الصورة الحقيقية للمعاني المضمرة والمستترة. فنطق بما أحس وآمن، داعياً إلى التخلي عن كل ما يتنافى مع الفكر ورفض التقليد، فرأى في الوقوف على الأطلال عبودية فكرية لزمن يعينه تاريخياً وتأصلاً، وينفصل عنه تجربة وحياةً، لأنه ينتمي إلى واقعٍ مغاير، له أدواته وظروفه وخصائصه.


فالحياة الجاهلية، وما يتبعها من أساليب معيشية وفكرية متنوعة، لا تعنيه وجدانياً أو عاطفياً، إلا بقدر ما اكتسبه من جينات ساعدته على النمو والتواصل، من دون أن يكرر صور الماضي وأشكاله أو يسجن إنسانه في صدفة لا تجدد فيها. لأن الشعر مع أبي نُواس ليس نقلاً وتصويراً إنه نزوع ومغامرة، الهدف منه رصد حركة الزمن واستجلاء أسراره، فأراد أن يكون شعره تعبيراً صادقاً عن حقيقة العصر، وبوحاً جماعياً ينقل تجربته الذاتية التي تختزل الأنا الإنسانية الجماعية، وتهدم صنمية الموروث، وتبث العالم من حولها حركة لا تنتهي تهدف إلى الكشف الدائم.


بهذه الرؤيا رفض أبو نُواس الوقوف على الأطلال، ونعت أصحاب هذه العادة بالأشقياء(17)، والصنميين والأغبياء(18)، واختار لنفسه أمكنة روحية يسمو بها، ويتعتق. إنها أمكنة منزهة عن المحدودية، واللمس، والدونية، والهدم والزوال(19).


آمن أبو نُواس بتمايز العصور وخصوصيتها، وحقق ذاته بالانتماء إلى عصرٍ جديد له حضارته الخاصة به، له إنسانه المختلف بتفكيره وأساليب عيشه. "فلكل عصرٍ همومه ومشاكله، وقضاياه والإنسان مطالب في كل عصر أن يواجه الحياة بما يلائمها من سلوك، ومن خلال هذه المواجهة تترسّخ قيم العصر وتتبلور مثله(20)".


لذلك حرص على خلق نموذجٍ شعري ينقل تجربته، ويرشح بصدق الشعور، وعمق المعاناة، مستخدماً أثواباً جديدة تستمد موادها من أصالتها وتستمد دلالاتها من إيحاءات الحياة الجديدة، ثم تتفرد بصلاحيتها التي لا تنتهي.


رفض، واخترع، وأبدع، وأسس لفتح جديد هويته التمرّد والرفض بغية ترسيخ رؤية جديدة للكون والحياة، فالشعر عنده "فعل حياتي يعوض عن نقصٍ شامل(21)". فجاء رفضه مقروناً بمعرفة عميقة، ونظرة خاصة إلى الكون والحياة، وبثقافة علمية ودينية واجتماعية دعّم نفسه بها، واستخدمها في حججه وبراهينه. وهذا ما أكّده ابن قتيبة، على شمولية علومه ومعارفه، بقوله: "كان أبو نواس متفنناً في العلم، وقد ضرب في كل نوعٍ منه بنصيب ونظر(22)". فقدح بهذه العلوم طاقاته، وأبطل الفرضيات الخاطئة بالحجة والبراهين، فإن كان من أصحاب النار لفسقه وفجوره، فلماذا أوجد الله الغفران، "وهل خلق الغفران إلا لامرئ في الناس خاطئٍ(23)".


طوع أبو نواس ثقافته العلمية لخدمة المعاني الشعرية، ومنحها صوراً أكثر إبداعاً وجمالاً ودلالة، فجدد وابتكر، وأضاف، وسخر العلم لرمزية الشعر وعالمه اللامتناهي، فطلب أن يكون شفاؤه من المرض بتلقيحه بشيء من ذاك الداء، بعد الامتناع عن اللوم، لأن شفاء المريض نفسياً يكون بالمداراة واللين واللطف وليس بالقمع والتسلط(24) فأكسب شعره ديمومة وحياة واستمرارية..


منهجت علوم أبي نواس، اللغة الشعرية ومنحتها رموزاً ودلالات لا حصر لها، جاعلاً من اللغة المتجددة معبراً يسلكه الشعر النواسي ليخاطب أجيالاً مستقبلية، تعرّف إليها بالتواصل المعرفي الروحي، فجاءت صوره متفتقة عن سموه الإنساني وموسومة بوحدة فنية مترابطة، وممهورة بصدق البوح وحكمة الصفوة، ومنطق العالم، أثبت قدرتها على الحياة في كل زمانٍ ومكان. فكان شعره تأصلاً، وتأصيلاً، واستشرافاً، أحدث زمناً تأسيسياً لحداثة متجددة، تهدف إلى تفعيل قدرة الكشف عن الذات الإنسانية الكونية المحتجبة بأسرارها. فكان الشعر معه "ضرورة ملحة، هي ضرورة السفر إلى أقاصي الكيان البشري والعيش في حالات روحية نادرة، حيث يتلاقى الزمان والأبدية، وينفي كل من الخير والشر الآخر، وحيث لا يتميز الذاتي عن الموضوعي، وحيث يصبح الوهم الذي تخلقه القصيدة أكثر الحقائق يقيناً(25)".


________________________________________


(1) زمن الشعر: أدونيس، دار العودة، ط2، 1978، صفحة 157.


(2) المجموعة الكاملة: ميخائيل نعيمة، دار العلم للملايين، بيروت، 1971، مجلد 3، صفحة 407.


(3) المقدمة لابن خلدون: مكتبة المدرسة، ودار الكتاب اللبناني بيروت، ط3، 1967، صفحة 1069.


(4) حديث الأربعاء: طه حسين، دار المعارف بمصر، ج2، صفحة 5.


(5) تشريح النص: عبد الله محمد الغزالي، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1987، ص 10.


(6) زمن الشعر، أدونيس صفحة 45.


(7) المصدر نفسه.


(8) ابن سينا، القاهرة، مطبعة مذكور، الشفاء، 1952، ج1، ص 17.


(9) المقدّمة، ابن خلدون، ص 288.


(10) الأدب المقارن: محمّد غنيمي هلال، دار العودة بيروت، ط5، صفحة 109.


(11) زمن الشعر: أدونيس، ص 317.


(12) العمدة: ابن رشيق، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة بمصر، ط 2، عام 1955، ج1 ص 262-263-365.


(13) الديوان صفحة 57.


تخيّرني الجن أشعارها *** فما شئت من شعرهن، اصطفيت


(15) الشعر والشعراء: ابن قتيبة، دار الثقافة بيروت، ج1، ص 56-70.


(16) ديوان الشعر العربي: أدونيس، دار المدى للثقافة والنشر، ط 1986، ج2، ص 22.


(17) ديوان، أبي نواس تحقيق أحمد عبد المجيد الغزالي-دار الكتاب العربي، بيروت لبنان، صفحة 46.


(18) المصدر نفسه صفحة 134.


(19) المصدر نفسه صفحة 6.


(20) الشعر العربي المعاصر: د. عز الدين إسماعيل، صفحة 175.


(21) الثابت والمتحول تأصيل الأصول: أدونيس، دار العودة، بيروت.


(22) الشعر والشعراء: ابن قتيبة، ج 2، صفحة 682.


(23) أو قوله عندما يستخدم المحاجة العقلية،


وإن كنت ذا ذنب فعفوك أكبر *** فإن كنت لم أذنب ففيم تعنتي


(24) انظر قصيدة "دع عنك لومي"


(25) ديوان الشعر العربي: أدونيس، ج2، ص 28.


جاء شعر أبي نواس ثورة على المألوف، ودعوة إلى رفض أشكال القمع والسلطة، ومن ثم التحرر من التبعية، والتقليد وخلق عالم أكثر حرية، تعرب فيها النفس عن جوهرها من غير غش أو زيف أو كذب. فأعطى مفهوماً مغايراً للخطيئة وللكفر، وفرغهما من مفهومها الاجتماعي والديني، فصارت الخطيئة مطلباً(1) والكفر غفراناً، والخمر روحاً(2). وتعاطيها راحة وسمواً، فهو المتوحد بها، ولها الجلال والإكرام، وهي خاصة بالكرام:


أنا ابن الخمر، مالي عن غذاها *** إلى وقت المنية من فصام


أجل عن اللئيم الكأس حتى *** كأن الخمر تعصر من عظامي


وأسقيها من الفتيان مثلي *** فتختال الكريمة بالكرام


إن رفض أبي نواس للمفاهيم السائدة، دعوة إلى هدم صنمية القداسة وإعمال العقل في الموروث الديني والاجتماعي الذي يحتاج إلى فحص وتدقيق وتمحيص، فيكتشف الإنسان حقيقته ويصنع قدره. فلقد بدأ الشعر معه "أن يكون نظاماً أخلاقياً، وأن يكون كذلك طريقاً للمعرفة، وهذا يعني أن الشعر لا يهدف إلى تغير الحياة وحسب، وإنما يهدف إلى تغيير الإنسان، وتكمن جدة أبي نُواس إذاً في الكشف عن الطاقات المكبوتة في الإنسان وفي تجاوز الثنائية بين الذات والكون(3)".


أسس أبو نواس فكراً عربياً جديداً قائماً على نقد المفاهيم الفكرية القديمة من غير أن يلغيها، هدفه تغيير الظواهر التي تناقض الحياة الجديدة والعقل، مستخدماً لغة بعيدة عن التعقيد اللفظي، لغة تعكس الحضارة العلمية التي بلغها عصر أبي نواس وتوحي بالغنى الثقافي السائد. فهو لم يتوان عن إغناء اللغة العربية بألفاظٍ أعجمية واشتقاقات ألفاظٍ منها(4)، ولم يكن ذلك بسبب الضعف اللغوي أو التعصب الشعوبي، بل بدافع إحياء اللغة وتطويرها.


هذا الإغناء اللغوي والدلالي، ورفض الأشكال الجاهزة اتخذ مع أبي تمام مساراً متميزاً خاصاً به متجاوزاً الماضي، أسلوباً، وموضوعات، وأسس بشعره أصلاً لرحلة حاضرة لاحقة، مولداً في اللغة نبضاً متميزاً بتفرده واستقلالية، لأنه موسيقى ذاته الطامحة إلى ذاتها. فثار على المألوف وحرر ألفاظه من التقليد والتبعية، فخلق لغة جديدة تغاير لغة الحياة اليومية، ولغة الحياة الشعرية السائدة، وهكذا جاءت معانيه مغايرة للمعاني المألوفة، وجاءت صوره وتعابيره مغايرة للمألوف(5).


كان أبو تمام إنساناً فائقاً، استطاع بقدراته الفنية والثقافية أن ينطق شعره بقيم إنسانية، موظفاً كلمته للكشف عن طاقاته الإبداعية فأسس لبداية جديدة في الشعر العربي لأنه قبل كل شيء، "مسكون بهاجس الفن، فالشعر عنده ليس أسير الحياة بل أسرها، يكيفها ويختارها، ويخلقها على مثال فني خاص(6)"، فأكسب اللفظة الواحدة دلالات فنية، فكان "أكثر المولدين اختراعاً وتوليداً(7)"، منح ألفاظه رمزية متجددة، وأغناها بالاستعارات وأسهم في تواصل إبداعي كان له السبق في إحداثه.


وهكذا نجد أن الحياة الثقافية العربية ظلّت متوهجة بفعلٍ إبداعي يخصب جذور الماضي في حاضرٍ مشرق، حتى يصير هذا الحاضر ماضياً مضيفاً إلى حياتنا الثقافية ضوءاً جديداً له خصائصه.


إن علاقة الحاضر بالماضي علاقة طبيعية حتمية فكما أن الأشجار لا تطيب ثمارها إلا بالعناية بالجذر والفرع والتربة على السواء، فهكذا الحضور الإنساني الأصيل الطامح إلى غده الآتي لن يتلذذ بثمار الغد أن لم يكن له ماضٍ صحيح يخضع للفرز والتقليب. وحاضرٍ يستمد وجوده الأولي من جذره ليتخذ شكلاً مستقلاً في الصورة، ومرتبطاً في المعنى والجوهر.


وكما أن التربة تحتاج دوماً إلى مراقبة وتقليب للتخلص مما أفسده الركود فيها، فكذلك الحال مع التراث الذي يحتاج إلى طاقات الفكر المبدع ليخلصه مما علق به من جمودية التقديس، ويسهم في خلق ثمار قادرة على أن تكون بذاراً صالحاً في المستقبل وبالتالي لا تميز ولا تفرّد إلا بعلاقة صحيحة وسليمة بالتراث، تؤدي إلى تفجير طاقات المبدع، من دون أن يخسر جذوره.


هذا الترسخ والتأصل بين التراث والمبدع وما يولدانه من خلق الجديد والمتميز كانا سبباً لاتهام المتنبي بالسرقة.


وإذا كان المتنبي قد أغنى موروثه الثقافي وحصّنه بمعرفة عميقة بالتراث، فإنه لم يقف عند حدود الاكتساب، بل فعّل وأخصب موروثه بمختبر ذاته الإنسانية مبتكراً شعراً يجسّد عظمة هذه الذات، ويعبر عن ميولاتها وانفعالاتها وقلقها ورفضها وجموحها، فأفصح عن شوقها إلى الكشف والانعتاق، فكان شعره ولا يزال شعر الحداثة واللحظة المتجددة، فأسس لأصالة مازالت فاعلة ومؤثرة في حياتنا الأدبية. لقد أسس المتنبي بتمرده حالة متفردة تعكس عظمة الذات البشرية المتعالية على الصعاب، والواثقة من تفردها، والعالمة بحقيقة جوهرها. هذه العظمة والأنفة التي أنكرت عليه البوح بالشكوى من زمن يصارع فيه حدثان الدهر ومصائبه(8)، فهو الغريب، المتوحد بألوهة تفرده "غريب كصالحٍ في ثمودِ"، سلاحه الإيمان(9) بطاقاته الجسدية والفكرية، إنه إيمان بحقيقة أقرَّت بصحتها الموجودات واعترفت له "الصحراء بما شهدت والأقلام بما كتبت(10)".


لقد كان المتنبي "روحاً جامحة، تياهة تتلاقى فيها أطراف الدنيا. إنه الوحيد، بل الوحيد، فوحدته قدر محتوم؛ لأن الإنسان خليل نفسه. فكل متفرد وحيد، وكل وجود خلاق (...) المتنبي وحدة غاضبة لا يرضيها شيء، لكن وحدته ليست هرباً من العالم (...) إنها وحدة المجابهة(11)".


لم يكن تفرد المتنبي في وحدة المجابهة للكون والحياة، بل كان في خلق لغة تعبيرية بمستوى عظمته وطموحه، لقد عجن اللغة وأخرج منها أشكالاً تميزت بخلقه، حتى ارتبطت أبياتها بشخصيته، وتميَّز إيقاعها بتسامي روحه، مفصحاً عن انعكاسات جوهره الروحي بأسرار الحروف المقدّسة التي شعّت معانيها بلحظات إبداعية، احتضنت توق الشاعر إلى تكريس الكون والحياة لأناه الإنسانية غير المحدودة. فلم يكن الشعر معه صناعة(12) بل خلقاً وابتكاراً وإبداعاً على غير مثال، وهنا تكمن فذوذيته وتفرده.


طوّع المتنبي ثقافته العلمية والحياتية والاجتماعية لأغراضه وطموحاته وأفكاره فكان شعره مزيجاً من ثقافة علمية وقدرة إبداعية وحكمة إنسانية. فأسس لحداثة ما تزال قائمة في جذور تراثنا الأدبي الحي والفاعل، وهذه الحداثة تحتاج إلى فك رموزها، لأن عظمتها وديمومتها تكمن في أسرارها غير المرئية والتي تحتاج إلى الكشف، وكشفها لا يكون بتجاهلها أو تقديسها بل بفك رموزها وفض أسرارها لأن شعره عظيم والقصيدة العظيمة كما يراها أدونيس: "ليست شيئاً مسطحاً تراه وتلمسه وتحيط به دفعة واحدة، إنها عالم ذو أبعاد... عالم متموج، متداخل كثيف بشفافية، عميق بتلألؤ، تعيش فيها، وتعجز عن القبض عليها، تقودك نحو سديم من المشاعر والأحاسيس، سديم يستقل بنظامه الحاضر، تغمرك، وحين تهم أن تحضنها تفلت من بين ذراعيك كالموج(13)"، ولأن شعر المتنبي عظيم سيبقى عامل تحريض في حاضرنا ومستقبلنا الثقافي، نسعى للقبض عليه أو الإحاطة به فيفلت من بين أيدينا كماء المطر، إنه حداثة حياة في أدبنا، تجدد ذاتها كالنور الذي يضيء ولا يلمس.


iv. الحداثة والنموذج:


لقد كثر الكلام على الحداثة، وتعددت التيارات، وانقسم الأدباء، واعتقد بعضهم أن تبني الحداثة نوع من خيانة التراث، وشكلٌ من أشكال الإلحاد.


تظهر الدراسات الأدبية أن تقديسنا للماضي ليس ناتجاً عن دراية وتعقل وتمحيص ووعي حقيقي بالتراث، بل هو نابع من الانقياد الطوعي إلى كل غيبي لا يمكن ملامسته. فالكلام التراثي نسمعه ونقرأه ولكن لا نستطيع لمس قائله، إنه محجوب بهالة من قداسة الماضي التي لا يمكن هتكها بالكشف والنقد. لأن العقل مكبّل بقيد المادة التي لا تعبد الله لذاته، بل رغبة أو رهبة من محجوب غير مرئي وغير منكشف للذوات الضعيفة.


لذا لابد لكل عصر من وجود عدد من المجنحين بروح الكلمة، يتحسسون الغيبي بالروح غير المرئية، ويقرؤون بالعين الثالثة، ويسمعون بالأذن الثالثة. فهؤلاء لا تحجب عنهم رؤية الغيب التي تكسبهم معرفة وقدرة على ملامسة ما هو روحي أبدي، وهؤلاء خميرة لا بدّ من جودها في أزمنة إبداعية، غير مقصورة على عصرٍ واحد. فالله "لم يقصر العلم والشعر والبلاغة على زمنٍ دون زمن، ولا خصَّ به قوماً دون قوم، بل جعل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثاً في عصره (...)(14)"


فالحداثة ليست قضية مستحدثة في تاريخ الفكر الإنساني، لأن الحداثة "رؤية واعية لإقامة دائمة التجدد بين الطرف الإنساني، وبين الجوهري الموروث... إنها صلة استكشاف أبدية في أغوار أبرز الحقائق، الإنسانية(15)"، يؤكد النقاد والدارسون أن الحداثة بمفهومها المعرفي ليست حكراً على مجموعة ما في حقبة زمنية ما، ولو كان ما يعتقده البعض صحيحاً لانتفى وجود عدالة ترعى الفكر الإنساني. وبذلك ألغى ابن قتيبة فكرة تقديس القديم لقدمه، ودعا إلى النظر في النص الأدبي بكونه نصّاً أدبياً من دون ربطه بقائله، فاختزل رأيه بقوله: "ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره.


فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويصفه في متخيره، ويرذل الشعر الرصين، ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه أو أنه رأى قائله(16)".


مشكلة الحداثة، إذاً، ليست مرتبطة زمنياً بهذا العصر، إنها مشكلة قديمة قدم الزمن المتحرك نحو لانهاية، لأن الحياة هي مصدر الفنون كلها، والإنسان المبدع هو الرسول الناطق عن أسرار هذه الحياة. لذلك يرى طه حسين أن مصدر الخلاف بين محدث وقديم، "هو الحياة من حيث هي حياة(17)". وما دامت الحياة في حركة متجددة فستبقى الخصومة قائمة في كل لغة في كل جيل، وحول كل أدب، شريطة "أن يكون للغة والأدب والجيل الذي يتصرف فيهما حظ من الحياة(18)". فلا حداثة بلا تفرد على مستوى التعبير والشكل واللغة، فهذا التفرد يمنح النص الإبداعي قدرة الخروج على المألوف، وخلق نموذج نصي مغاير ومستقل، ولكنه استمرار في وظيفة التعبير عن انفعالات النفس البشرية، في مواجهة واقعها الاجتماعي والحضاري والثقافي، هذه المواجهة التي تفرض حضوراً مميزاً، تمنح المبدع طاقة انغراس في الماضي ليستمد منه الأصالة، وتمنحه أيضاً رؤية استكشاف الآتي.










رد مع اقتباس