منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - *«•¨*•.¸¸.»منتدى طلبة اللغة العربية و آدابها «•¨*•.¸¸.»*
عرض مشاركة واحدة
قديم 2013-03-21, 18:52   رقم المشاركة : 263
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

إطلالة على السخرية عند أبي العلاء المعري -* فوزي معروف *



السخرية سلاح الروح العظيمة لقهر المتاعب، ولعل المثل المعروف الأقدم هو "سقراط الذي سخر من قاتله وهو يتجرع كأس السمِّ قائلاً يرد على تلاميذه الذين كانوا يرددون: "من المؤسف أيها المعلم أن تموت دون ذنبٍ ارتكبته" "وهل تظنون أن الموت كان يمكن أن يكون أسهل لو كنتُ مذنباً" ضحك تلاميذه بين دموعهم وثار حقد أعدائه أكثر.


أحد رجال الثورة الفرنسية قال قبيل إطلاق الرصاص عليه: "رصاصة واحدة تكفيني دع الباقي لبريء آخر" أضحك قولهُ الحاضرين بينما أثار حنق خصومه.


السخرية العميقة قدرُ العظماء من بني البشر من سقراط أول الساخرين المعروفين إلى الجاحظ والمعري إلى برناردشو ومارك توين...


ويتميز الساخر العظيم بأنه يضع يده على القاع الروحي لمن يعيشون حوله وهذا يكاد يكون واحداً عند معظم شعوب الأرض.. ولعل هذا الأمر يكمن وراء تشابه الأدب الساخر عند كثير من الشعوب وبخاصة تلك المتقاربة جغرافياً التي تتقاطع في نصوصها الساخرة هموم مشتركة ومشاكل متشابهة.


والأدب الساخر أدب عالمي لا يخلو منه تراث أمة حيّة.. فالإنسان أينما كان يعالج نواقصه عندما يسخر منها... وكثيرون من الناس يؤمن أن السخرية إحدى الطرق لتغيير الواقع، أو هي أحد أشكال المقاومة، والأدب الساخر لا يقصد الإضحاك فقد بل له أهداف وغايات من أهمها: الحفاظ على قيم المجتمع العليا، تكريس السلوك القويم، تعديل مجرى اتجاه متطرف.. لأن السخرية تهاجم دائماً التصلب في الفكر والطبع والسلوك ساعية لجعل طباع المجتمع أكثر مرونة كما أن السخرية تترجم حالة روحية حين تنحرف القيم ويسود الزيف.


وكثيرون يرون أن السخرية سلاح يحمي الروح من ضعفها كما يرون فيها تعبيراً عن مأساة هي أكبر من أن يتحملها الضمير الإنساني كما يحدث الآن في الأراضي العربية والعراق المحتلة إذ معظم التعبير عن الواقع العربي الآن يميل إلى السخرية.


تتوهج السخرية حين يمر الإنسان بظروف تشعل الروح وتمزق الأعصاب.. وهذا ما كان مع (غوغول) حين وصل الواقع الروسي إلى حدٍ من السوء لا يُطاق إذ ذاك ظهرت سمة بارزة في أدبه هي "الضحك من بين الدموع" كما قال ناقده "بيلنسكي" آمن بالإضحاك الهادف وتولت السخرية عنده نقل الرسالة المرة في نقد الواقع نقداً إيجابياً.


حين تصبح الآلام هائلة يبتسم المبدعون الكبار بدل البكاء لكنها ابتسامة أفظع من الدموع. تنعكس في كلمات ومواقف ساخرة كما عند ابن الرومي والمعري والجاحظ في تراثنا. والمازني ومحمد الماغوط في واقعنا المعاصر.


الأدب الساخر لون صعب الأداء يتطلب موهبة خاصة وذكاءً حاداً وبديهةً حاضرة(1). وهو وليد المرحلة العمرية الأكثر نضجاً التي تتحرر من العواطف العنيفة...


السخرية الحقة لا تكون إلا مع وجود التوازن الشاق الجميل والنظرة المستوعبة للطبيعة والإنسان ومن أجل ذلك لا تقع السخرية الناجحة النافذة في مرحلة مبكرة من العمر الإبداعي.. إذ لا بد كي تنجح السخرية من يقظة في الروح وهذه قلَّما تتوفر مع حماسة الشباب" ولعل هذا هو السبب في خلو آثار شباب المعري من السخرية العميقة ووجودها بكثافة وعمق في نتاج المرحلة المتأخرة من عمره اللزوميات رسالة الغفران.


الكتابة الساخرة الناجحة، فنٌ صعب المراس، يتوفر لقلة قليلة من بداياتهم الكتابية إذ لا بد من النضج الفكري والاجتماعي حتى يصل الكاتب إلى درجة معينة تؤهله لأن يصير كاتباً ساخراً.. ولعل أعمق الكتابات الساخرة وأبقاها على الزمن هي تلك التي توج بها بعضُ المبدعين حياتَهم بحيث يمكن القول: إن السخرية الناجحة فنُّ المرحلة المتأخرة من العمر نذكر أمثلة منها أفلاطون يقول وقد قارب الشيخوخة "علمتني الحياة أن الجد والصراحة لا مكان لهما في العلاقات الإنسانية".


بعد استقراء نماذج الكتابة الساخرة عند بعض أعلامها يلاحظ المرء أنها تتطلب درجة عالية من المهارة والرهافة...


المهارة: التي تبقي على الشعرة الدقيقة الفاصلة بين المسموح به والمنهي عن التصريح به. باللقطة المحايدة في الظاهر، الوصف الذي يُنطق الحال على نحو غير مباشر والتعليق البريء على مستوى السطح بما يضفي حياداً مراوغاً في وصف المشاهد أو صوغ الحوارات جنباً إلى جنب.


الرهافة: التي تنفر من الإعلان المباشر عن المواقف أو الآراء، فتؤثر التلميح الذكي على التصريح الفج متجنبة العبارات النابية والجمل العاطفية رافضة الاستسلام لغواية أي حال من حالات الهشاشة الوجدانية في البوح، لذلك تبدو اللقطات الإنسانية عند هؤلاء وأمثالهم رهيفة تنطق بأكثر مما تؤديه الكلمات.


ويُلاحظ هنا إن كتابة المعري المتأخرة بخاصة لا تخلو من الوجه الآخر للجد المتجهم... وهو السخرية التي تعطي مذاقاً لاذعاً لكتابته. السخرية سلاح ناوش به مفاسد الواقع حيث ما كان يملك وهو على الحال التي نعرف سوى السخرية لمواجهة واقع أفسده القمع والخوف والسرقة.


إذاً واجه المعري الحياة ومحنتها الدائمة بالسخرية مرة والنفاذ بالوعي والحكمة إلى صميمها مرة أخرى واصلاً إلى ما ظنه اليقين عندما يعلن إيمانه بالعقل وثقته المطلقة فيه دليلاً وهادياً وإماماً.


كذب الظن لا إمام سوى العقل


مشيراً في صبحه والمساء


هذا الذي تقدم لا يعني أن المعري يُعلن أنه يقدم أو قدم نصاً في السخرية ولكننا نستخلص أقواله التي تشير إلى روحه الساخرة في ثنايا ما كتب لتكون فقط عيّنة من أدبه الساخر.. المعري يشبه الجاحظ في سخرياته المقنعة بالجد المتعالية عن الكثيرين من عامة الناس.


هذا المبدع الذي حاول أن يفرَّ من سجونه إلى الجحيم والجنة ليتحدث هناك بحرية ويعطي رأيه بكل ما في الحياة حوله وكان بذلك باراً بقسمه الشهير:


إني وإن كنتُ الأخيرَ زمانه


لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل


إن الكثير من لقطات المعري الساخرة تستند إلى آلية المفارقة اللغوية التي تجعل العلاقة بين الدلالة المباشرة والدلالة المنزاحة علاقة قائمة على التقابل الدلالي لأن بنية السخرية تتحقق بوجود دال ومدلولين يكون الأول مباشراً ويكون الثاني ضمنياً... يكون المدلول الأول حرفياً وظاهراً بينما يكون المدلول الثاني قصدياً وضمنياً ولا بد والحال كذلك لكي تحقق السخرية الهدف منها على مستوى الكتابة.. لا بد من تفاعل العنصرين: الكاتب والمتلقي لأن السخرية تحضر في النص من خلال مؤشرات وقرائن فقط يأتي بعد ذلك دور المتلقي في تشييدها لتصبح محققة...


وعند المعري كما عند غيره من كبار الساخرين نجد أن السخرية العميقة هي التي تتحقق بواسطة عدد قليل من المؤشرات إذ تستطيع بهذه المؤشرات القليلة توليد الأثر الساخر الذي يبتعد عن الابتذال.


المقياس الحقيقي للرجل الكبير.. ابتسامته.. روحه المرحة.. قدرته على السخرية من المتاعب.. والمعري واحد من هؤلاء مع أستاذه الجاحظ سيد الأدب الساخر في تراثنا المتوفى عام 255ه وبخاصة في المرحلة المتأخرة من حياته في كتاب البخلاء، ورسالة التربيع والتدوير..


هكذا كان المعري الذي عاش بين عامي 363 449 ه/ 973 1058م/ الشاعر الفيلسوف المتجهم النظرة إلى الحياة والناس.. كان في آثاره التي كتبها بعد مرحلة الشباب من كبار الساخرين في التراث الإنساني تميز بأسلوبه الساخر ذي الدعابة الدكناء التي لم يخلُ منها حتى اسمه الذي قال فيه:


دُعيت أبا العلاء وذاك مينٌ


ولكن الصحيح أبو النزول


***


وأحمد سماني كبيري وقلما


فعلتُ سوى ما أستحق به الذمّا
السخرية عند المعري موقف من العالم، يهجو نقائصه يركز الضوء على أبرز مفارقاته.. موقف يُدمي الروح في اللحظة ذاتها التي يضحك فيها الكائن البشري على ضعفه وتخاذله وخساسته وابتذاله.. قبل أن يضحك بسببها على الآخرين وفي مأثورنا العربي (شر البلية ما يضحك) البلية في كل زمان ومكان من حولنا التي قد نواجهها بأسلحة متعددة ومنها السخرية التي هي أعرق أسلحة البشر وألطفها.


وحين تأتي السخرية من أمثال المعري يسمو الإعجاب إلى درجة عالية، إذ ليس هنا ما هو أشد من سجون أبي العلاء الثلاثة التي عبر عنها بقوله:


أراني في الثلاثة من سجوني


فلا تسأل عن النبأ الخبيث


لفقدي ناظري ولزوم بيتي


وكون النفس في الجسم الخبيث


لأنه كان من الممكن لهذه السجون أن تؤدي كما كان متوقعاً إلى مزاج سوداوي أو غضب عارم على البشر أو مرارة تفحّ بسمومها في وجه الآخرين..


بالعكس إن هذه السجون طهرته من أوضار الحياة وجعلته أبعد ما يكون عن هوس الدنيا وفتنتها، كما جعلته أبعد عن أشراكها.


هذه السجون قادته مع الميل القابع فيه إلى الفلسفة، قادته إلى الحقيقة الإنسانية المتمثلة في التجرد (العزلة) والمشاركة فقد أصبح اتساع عقله الرحب المتفتح ووجدانه الخصب الممتلئ لكل ما يشمل الآخرين صفةً من أبرز صفات المعري وتوجهاً أساسياً يفيض عنه:


فأي الناس أجعله صديقاً


وأي الأرض أسلكه ارتيادا


كأني في لسان الدهر لفظٌ


تضمن منه أغراضاً بعادا


يكررني ليفهمني رجالٌ


كما كررتَ معنىً مستعادا


ولو أني حُبيتُ الخلد فرداً


لما أحببتُ بالخلد انفرادا


فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي


سحائب ليس تنتظم البلادا


ولي نفسٌ تحلُّ بي الروابي


وتأبى أن تحل بي الوهادا


السخرية من المتبجحين:


الواسطة التي ترفع غير المستحقين إلى أماكن لا يستحقونها، والتي قضت على أس الأساس لكل تقدم حقيقي وهو "الرجل المناسب في المكان المناسب"... يسخر المعري منها بطريقته في رسالة الغفران حين يقول على لسان "أوس بن حجر".. ولقد دخل الجنة من هو شرٌّ منّي ولكن المغفرة أرزاق، كأنها النشب في الدار العاجلة...".


كما يسخر المعري من الجاهلين الذين يعيشون نعمة الجهل مبتعدين بأنفسهم عن عذاب الفكر واستخدام العقل حين يقول على لسان "طرفة بن العبد" وددتُ أني لم أنطق مصراعاً ودخلتُ الجنة مع الهمج والطغام"(2). وسخر كذلك من أدعياء الشعر والضعفة الذين قالوا ما لا قيمة له ومثل لهم بالرجّاز ولعلهم الذين اختاروا بحر الرجز لقصائدهم مُفْرِداً لهم حديثاً خاصاً بل وجنّة خاصة جمع فيها الرجّاز واختار لهم فيها مكاناً متواضعاً ومن هؤلاء ذكر: الأغلب العجلي العجاج رؤبة حميد الأرقط.. ويتصور المعري في رسالته أن أحد هؤلاء يعترض على رأيه فيهم فيكون رده العنيف: "لو سُبك رجزك ورجزُ أبيك لم تخرج منه قصيدة مستحسنة"


ولا ينجو المدّعون المتبجحون الذين يُعطون أنفسهم ما لا يستحقونها ويضعونها في غير أماكنها من سخريته ومثّل لهؤلاء بأبي القاسم الذي ذكره المعري في بيتين من الشعر فجعله نموذجاً لكثيرين من بني البشر في كل العصور يقول:


هذا أبو القاسم أعجوبة


لكل من يدري ولا يدري


لا ينظم الشعر ولا يحفظ ال


قرآن وهو الشاعر المُقري


ومعظم الناس عند المعري غير عادلين أو منصفين لا يعطون صاحب الحق حقه، أو يبالغون في الثناء على من لا يستحق.. لقد ضاق بأمثال هؤلاء واشتاق إلى بشر يُعطون الحق لأصحابه:


من لي أن لا أقيم في بلدٍ


أذكر فيه بغير ما يجب


يُظن بي اليُسر والديانة والعلمُ


وبيني وبينها حجب


أقررت بجهلي وادّعى فهمي


قوم فأمري وأمرهم عجب


ولعل الناس في زمن المعري مثلهم في زمننا هذا تشغلهم المظاهر ودائماً لا يعبّر مظهرهم عن حقيقتهم.. لذلك سخر من ناس زمنه وفضل عليهم الحجر:


يُحسن مرأى لبني آدم


وكلهم في الذوق لا يعذب


ما فيهم بَرُّ ولا ناسكٌ


إلا إلى نفعٍ له يجذب


أفضلُ من أفضلهم صخرةٌ


لا تظلم الناس ولا تكذب(3)


ولا يغيب عن ذاكرة المتلقي الحادثة التي سخر منها المعري من الجنس البشري الذي لا يفارقه الطمع حتى وهو في الجنة، حين يقف ابن القارح أمام سفرجلة فتتحول من فاكهة إلى جارية حوراء ولكنها نحيلة ضاوية فيسجد صاحبها شكراً لله.. ويخطر بباله وهو ساجد أن جاريته ذات جسم ضاوٍ... وما إن رفع رأسه من سجوده حتى صار ردفاها يُضاهي كلٌّ منهما كثبان عالج وأنقاء الدهناء (مكانان ضخمان في الجزيرة العربية).. فيقع ساجداً مرة ثانية تمجيداً لقدرة الله.. وهو يسمع أصداء أصوات تخبره تحويلها على الإرادة.


معرفة المعري بإنسان عصره وصلت به إلى حد فقدان الثقة الذي عبر عنه بقوله:


عصاً في يد الأعمى يروم بها الهُدى


أبرُّ له من كلِّ خدنٍ وصاحبِ


السخرية من بعض رواة الشعر:


يعقد أبو العلاء في رسالة الغفران مجلساً طريفاً يسخر فيه من طريقة بعض الرواة في الرواية لنصوص الشعر طارحاً في الوقت ذاته الطريقة التي يراها مناسبة... حين يذكر بطله (ابن القارح) بيتين من الشعر للبكري.. يهتف هاتف قائلاً: "أتشعر أيها العبد المغفور له؟ لمن هذا الشعر؟ فيقول الشيخ: نعم حدثنا أهل ثقتنا عن أهل ثقتهم يتوارثون ذلك كابراً عن كابر حتى يصلوه بأبي عمرو بن العلاء فيرويه لهم عن أشياخ العرب.. عن وعن أنّ هذا الشعر لميمون بن قيس(4)


ثم يعرض المعري موكباً من الشعراء يسألهم عما نُسب إليهم من شعر، فينكرون ويتهمون رواته.. يلتفت ابن القارح إلى أعشى قيس فيقول له: يا أبا بصير أنشدنا قولك:


أمن قتلة بالأنقا


ء دار غير محلوله


فيقول أعشى قيس ما هذا مما صدر مني وإنك منذ اليوم لمولَعٌ بالمنحولات!!


وجاء بأبينا (آدم) يسأله عما نُسب إليه من شعر قائلاً: يا أبانا قد روى لنا عنك شعرٌ منه قولك:


نحن بنو الأرض وسكانها


منها خلقنا وإليها نعود


فيقول آدم: إن هذا لقول حق، وما نطقه إلا بعض الحكماء؛ ولكني لم أسمع به حتى الساعة. فيقول: فلعلك يا أبانا قلته ثم نسيت، فقد علمتُ أن النسيان متسرع إليك وحسبك شهيداً على ذلك الآية: ولقد عَهدْنا إلى آدم من قبلُ فَنَسِيَ ولم نجد له عزما(5) فيقول آدم: أبيتم إلا عقوقاً وأذية إنما كنت أتكلم بالعربية وأنا في الجنة، فلما هبطت إلى الأرض، نُقل لساني إلى السريانية فلم أنطق بغيرها إلى أن هلكت، فلما ردني الله إلى الجنة عادت عليّ العربية فأي حين نظمت هذا الشعر؟ في العاجلة أم الآجلة؟ والذي قال ذلك يجب أن يكون قاله وهو في الدار (الماكرة)... ثم يسأل ابن القارح آدم (عليه السلام) عن شعر نُسب إليه لما قتلَ قابيلُ هابيلاً وهو:










رد مع اقتباس