منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - جميع دروس الشريعة سنة 1 ثانوي تفظلواا☺☺☺☺☺
عرض مشاركة واحدة
قديم 2015-04-21, 18:11   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
♥sirine crazy♥
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية ♥sirine crazy♥
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

دراسات في السّيرة
قال الله تعالى:
( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ
إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ )
الأحزاب الآية 21.



الدرس الأول:
تعريف السّيرة النبويّة:
السّيرة في اللغة: سيرة الرجل هي صحيفة أعماله وكيفية سلوكه بين الناس، والسيرة هي تدوين أعمال أحد المشاهير. ومن معنى السيرة الطريقة والسنّة والمذهب.
السّيرة النبوية في الشرع: هي حياة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي العربي رسول الله إلى الناس كافّة. وهي السّيرة الذاتية لخير الخلق وحبيب الحق.
أهميّة دراسة السّيرة النبويّة:
لمّا كان محمد بن عبد الله ‏ صلى الله عليه وسلم آخر رسل الله إلى البشرية جمعاء، لزم أن تكون سيرته واضحة للجميع، يستطيع كل أحدٍ الوصول إليها، والنظر فيها، والاستفادة منها. وقد قيّض الله رجالاً من الصحابة ومَن جاء بعدهم، نقلوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى صارت في متناول كل راغب ومحبّ .
وإنّ تتبّع تلك السّيرة العطرة والوقوف على أحداثها ووقائعها، وتناولها بالدّراسة والتحقيق له الأهميّة الكبرى، يرمي لها الباحثون، ويسعى إليها الدارسون، أهميّة عظيمة تجعل السّيرة النبوية مميّزة عن غيرها، فلا تكون دراستها من أجل المتعة فحسب، وإنّما لأجل غايات أسمى. وتكمن أهمية دراسة السيرة النبوية في النقاط الأساسية الآتية:
1 ـ معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم معرفة شاملة، كمعرفة نسبه ومولده ونشأته، وأسلوب دعوته من بعثته إلى وفاته صلى الله عليه وسلم ، تلك المعرفة التي تورث القُرب منه، ومحبّته التي ينبغي أن تُملأ بها القلوب بعد محبّة الله عز وجل.
2 ـ معرفة هديه صلى الله عليه وسلم في الأمور كلها، هديه في المنام والطعام والشراب والنكاح، هديه في الحلّ والتّرحال، هديه في السلم والحرب، هديه في التعامل مع ربه ومع نفسه ومع المخلوقين، هديه في التعامل مع المسلمين والمخالفين لهم، هديه في التربية والتعليم والدعوة والإرشاد، هديه في كل ما يحتاجه البشر، مما يترتب على ذلك محبّته صلى الله عليه وسلم واتباعه والاقتداء به، وتلك عبادة واجبة لا بد منها، وهي سبيل إلى الهداية، قال تعالى: ( قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِنَّ تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُم وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا البَلَاغُ المُبِينُ ) النور الآية 54.
3 ـ أخذ الدروس والعبر، التي تُضيء للسّالك الطريق، وتوصله إلى برّ الأمان، تلك الدروس التي تُؤخذ من سيرته صلى الله عليه وسلم في جميع الأحوال، ولجميع الفئات.
4 ـ الوقوف على التطبيق العملي لأحكام الإسلام التي تضمنتها الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة.
5 ـ الوقوف على دلائل معجزاته صلى الله عليه وسلم ، ممّا يقوّي الإيمان ويزيده.
6 ـ معرفة الصحيح الثابت عنه صلى الله عليه وسلم ، حتى يميّز عن غيره، وبالتالي تبقى السيرة صفحات بيضاء كما هي الحقيقة، بعيدة عن غلوّ الغالين، وتزييف الحاقدين.
7 ـ بيان ما كان عليه هذا القائد العظيم من صفات وشمائل، فلم ولن تجد سيرة أحدٍ ممّن خلق الله تماثلها، فضلاً عن أن تنافسها وتزيد عليها، فهو قدوة في كل شيء يحتاجه الإنسان، قال تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) الأحزاب الآية 21.
8 ـ معرفة الإسلام، عقيدة، وشريعة، وأخلاقاً.
9 ـ الاستعانة بدراسة السيرة في تفسير القرآن الكريم، وشرح السنّة النبوية.
10 ـ معرفة موقف الإسلام وتعامله مع جميع الناس من صديق وعدوّ، مسلم وكافر، معاهد وخائن وغير ذلك.
تلك هي أهميّة دراسة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تلك السيرة التي لا بدّ من بيانها والوقوف معها، ومعرفة عوامل تميّزها عن غيرها، حيث إنّها سيرة باقيةٌ بقاء هذا الدين، وشاملة بشموله، ومحفوظة بحفظه، وصاحبها مُتّبعٌ يُقتدى به إلى آخر الزمان، فلا نبيٌّ بعده صلى الله عليه وسلم.
مصادر السّيرة النبويّة:
اهتم المسلمون قديماً وحديثا بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم باعتبارها المنهج العملي للإسلام، فألّف أئمّة الإسلام مؤلفات عديدة وجامعة في سيرته عليه الصلاة والسلام، ودوّنوا كل ما يتعلق بذلك، والناظر في المكتبة الإسلامية يرى ذلك جليًّا بحمد الله، وسنقف هنا على بعض هذه المصادر:
1) يقف القرآن الكريم في مقدمّة مصادر السيرة ، ففيه بيان واضح للعقيدة والشريعة والأخلاق، ويتضمّن وصفاً للعديد من الأحداث والغزوات، وتصويراً للصّراع الفكري والمادّي بين الإسلام وخصومه، وله أهميّة خاصّة من حيث الثبوت المطلق دينياً وتاريخياً، حيث لا يشكّك أحد فيه من الناحية التاريخية.
فقد جاء في القرآن الكريم كثير من سيرته صلى الله عليه وسلم ، فقد ذكر الله تعالى حال النبي صلى الله عليه وسلم منذ صغره في قوله تعالى : ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ) الضحى الآية 6/8. وذكر حاله بعد بدء نزول الوحي عليه حين خاف وذهب إلى زوجه خديجة رضي الله عنها يقول لها: زملوني دثروني، فأنزل الله تعالى : (يَأَيُّهَا المُزَّمِّلُ قُمِ اِلَيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوْ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ) المزّمّل الآية 1/5. كما أنزل عليه:
( يَأَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) المدّثّر الآية 1/3. وذكر قصة زواجه من زينب بنت جحش بعد طلاقها من زوجها زيد بن حارثة رضى الله عنه فقال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِمُومِنٍ وَلَا مُومِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ اَمْرِهِمْ وَمَنْ يَّعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدَ ضَّلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً وَإِذْ تَقُولُ لِلّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمَتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى المُومِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمُ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيءِ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الذِينَ خَلَوْاْ مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَّقْدُوراً ) الأحزاب الآية 36/38. وقد اشتملت هذه السورة ـ سورة الأحزاب ـ على كثير من تفاصيل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه وأصحابه كما تضمّنت تفاصيل كثيرة عن غزوة الأحزاب. ومما تضمّنه القرآن من السيرة: الآيات النازلة عقب سؤال الصحابة أو غيرهم عن أمر من الأمور، كما حدث حين سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح فأنزل الله تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ) الإسراء الآية 85. ومن أخصّ ما تضمّنه القرآن من السيرة حادثة الإفك المفترى على زوجه صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها ففصّل تلك الحادثة في أكثر من عشر آيات من سورة النور في الآيات من 11 إلى 26.
2) السنّة النبوية: والسنة النبوية قد حوت جُلّ تفاصيل السيرة ممّا رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه أو ما رواه عنه أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين. فكُتُب الحديث المتنوّعة ما بين الكتب المرتّبة على المسانيد والكتب المرتّبة على الموضوعات الفقهية، وهذه الكتب تقدّم مادة واسعة، وتحتوي على تفاصيل كثيرة متّصلة بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، وتوضّح جُذور النظم الإسلامية وكيفية تطبيق التشريعات الأولى قبل أن يحاط النص بتفسيرات الفقهاء واجتهاداتهم العديدة. وتمتاز المصادر الحديثية بأنها أوثق رواة وأدقّ متوناً من كتب السيرة المتخصصة، وهذا بالجملة، وينطبق هذا الوصف بدقّة على الكتب السِتَّة وفي مقدّمتها الصحيحان.
3) الكتب المؤلفة في السيرة، وتمتاز كتب السيرة المتخصّصة بسهولة العرض، وتتابع الأحداث التأريخية واتصالها، ومراعاة الزمن في سردها، كما أنها تقدّم وصفاً مفصّلاً للأحداث بحكم تخصّصها. وقد فُقد العديد منها مثل مغازي عروة بن الزبير، وموسى بن عقبة، والزهري.
ومن الكتب المؤلفة في السيرة:
ـ مغازي الواقدي، وقد رفض النقاد من المحدثين قبول مروياته، ولكن المؤرخين اهتموا بها لغزارة معلوماته، وتقديمه تفاصيل كثيرة ينفرد بها، سواء في وصف الغزوات، أو تحديد تواريخ الأحداث بدقّة.
ـ الطبقات الكبرى لمؤلفه محمد بن سعد ( توفي سنة 230 هـ ) وكان كاتباً للواقدي، ممّا جرَّ إلى اتهامه بسرقة مصنّفاته، ولكن المحدّثين النقّاد رفضوا هذه الاتهامات ووثّقوه، كما أنّ التحقيق والاستقراء لكتابه يكشف عن كونه مؤلفاً أصيلاً، وأنّ رواياته عن الواقدي " وقد صرّح بالنقل عنه " لا تمثّل معظم الكتاب الذي استقى مادته من شيوخ عديدين.
ـ ويعتبر القسم الأوّل من أنساب الأشراف للبلاذري هو الكتاب الثالث من حيث الأهميّة والقِدم.
ـ ومن المفيد الإشارة إلى أنّ كتباً متأخرة نسبياً مثل ( الدرر في اختصار المغازي والسير ) لابن عبد البر القرطبي ( المتوفى سنة 463 هـ ) و ( جوامع السيرة ) لابن حزم ( المتوفى سنة 456 هـ ) ليست إلَّا أصداء للمصادر القديمة، ولكنّ المصادر التي تلتها زمنيًّا استقت من كتب الحديث إلى جانب كتب السيرة المتخصّصة، ويبدو هذا المسلك واضحاً عند ابن سيد الناس في ( عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير )، و الذهبي في ( السيرة النبوية )، و ابن كثير في قسم السيرة من كتابه ( البداية والنهاية ).
والاتجاه نحو الجمع الواسع ـ كما هو شأن المتأخرين في الحقول الثقافية الأخرى ـ يظهر عند محمد بن يوسف الدمشقي الشامي ( المتوفى سنة 942 هـ ) حيث انتخب من ثلاثمائة كتاب في سيرته ( سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ) .
ولا ينبغي في نهاية الأمر أن نغفل أهميّة كتب الدلائل والشمائل، ومن أوسعها ( دلائل النبوة ) للبيهقي، وكذلك كتب الخصائص، ومن أهمّها كتاب ابن الملقن ( غاية السول في خصائص الرسول ) وكتاب الخيضري الدمشقي ( المتوفى سنة 894 هـ ) ( اللفظ المكرم بخصائص النبي صلى الله عليه وسلم ).
أمّا المراجع الحديثة في السيرة النبوية للعلماء المعاصرين فإنّ أهمّها:
ـ ( فقه السيرة ) للشيخ محمد الغزالي.
ـ ( فقه السيرة النبوية ) للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.
ـ ( الرحيق المختوم ) للشيخ صفي الرحمان المباركفوري.
ـ ( معجز محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) للشيخ عبد العزيز الثعالبي.
خصائص السّيرة النبويّة:
تجمع السيرة النبوية عِدّة مزايا تجعل دراستها متعة روحية وعقلية وتاريخية، ونجمل فيما يلي أبرز مزايا السيرة النبوية:
أولاً: أنها أصحّ سيرة لتاريخ نبي مرسل أو عظيم أو مصلح، فقد وصلت إلينا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحّ الطرق العلمية وأقواها ثبوتاً ممّا لا يترك مجالاً للشكّ في وقائعها البارزة وأحداثها الكبرى.
إنّ هذه الميزة من صحّة السيرة صحّة لا يتطرق إليها الشك لا توجد في سيرة رسول من رسل الله السابقين. فموسى عليه السلام قد اختلطت عندنا وقائع سيرته الصحيحة بما أدخل عليها اليهود من زيف وتحريف، ولا نستطيع أن نركن إلى التوراة الحاضرة لنستخرج منها سيرة صادقة لموسى عليه السلام. ومثل ذلك يقال في سيرة عيسى عليه السلام، فهذه الأناجيل المعترف بها رسميًّا لدى الكنائس المسيحية إنمّا أقرّت في عهد متأخّر عن النبّي عيسى بمئات السنين وقد اختيرت ـ بدون مبرّر علمي ـ من بين مئات الأناجيل التي كانت منتشرة في أيدي المسيحيين يومئذ.
وهكذا نجد أنّ أصحّ سيرة وأقواها ثبوتاً متواتراً هي سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: أنّ حياة الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة كلّ الوضوح في جميع مراحلها منذ زواج أبيه عبد الله بآمنة إلى وفاته صلى الله عليه وسلم ، فنحن نعرف الشيء الكثير عن ولادته وطفولته وشبابه ومكسبه قبل النبوّة ورحلاته خارج مكة إلى أن بعثه الله رسولاً كريماً، ثم نعرف بشكل أدق وأوضح وأكمل كل أحواله بعد ذلك سنة فسنة ممّا يجعل سيرته عليه الصلاة والسلام واضحة وضوح الشمس كما قال بعض النقّاد الغربيين: ( إنّ محمداً عليه الصلاة والسلام هو الوحيد الذي وُلد على ضوء الشمس ).
وهذا ما لم يتيسّر مثله ولا قريب منه لرسول من رسل الله السابقين. فموسى عليه السلام لا نعرف شيئاً قط عن طفولته وشبابه وطرق معيشته قبل النبوّة، ونعرف الشيء القليل عن حياته بعد النبوّة ممّا لا يُعطينا صورة مكتملة لشخصيته، ومثل ذلك يقال في عيسى عليه السلام، فنحن لا نعرف شيئاً عن طفولته إلَّا ما تذكره الأناجيل الحاضرة من أنّه دخل هيكل اليهود وناقش أحبارهم، فهذه هي الحادثة الوحيدة التي يذكرونها عن طفولته. ثم نحن لا نعرف من أحواله بعد النبوّة إلَّا ما يتّصل بدعوته وقليلاً من أسلوب معيشته، وما عدا ذلك فأمر يغطّيه الضباب الكثير.
فأين هذا ممّا تذكره مصادر السيرة الصحيحة من أدقّ التفاصيل في حياة رسولنا الشخصية، كأكله وقيامه وقعوده ولباسه وشكله وهيئته ومعاملته لأسرته وتعبده وصلاته ومعاشرته لأصحابه. بل بلغت الدقّة في رواة سيرته أن يذكروا لنا عدد الشعرات البيض في رأسه ولحيته صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: أنّ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحكي سيرة إنسان أكرمه الله بالرسالة فلم تخرجه عن إنسانيته، ولم تلحق حياته بالأساطير، ولم تضفِ عليه الألوهية قليلاً ولا كثيراً، وإذا قارنا هذا بما يرويه المسيحيون عن سيرة عيسى عليه السلام وما يرويه البوذيون عن بوذا والوثنيون عن آلهتهم المعبودة اتضح لنا الفرق جليًّا بين سيرته عليه الصلاة والسلام وسيرة هؤلاء، ولذلك أثّر بعد المدى في السلوك الإنساني والاجتماعي لأتباعهم، فادعاء الألوهية لعيسى عليه السلام ولبوذا جعلهما أبعد منالاً من أن يكونا قدوة نموذجية للإنسان في حياته الشخصية والاجتماعية، بينما ظلّ وسيظلّ محمد صلى الله عليه وسلم المثل النموذجي الإنساني الكامل لكل من أراد أن يعيش سعيداً كريماً في نفسه وأسرته وبيئته. ومن هنا يقول الله في كتابه الكريم:
( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُواْ اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرِ ) الأحزاب الآية 21.
رابعاً: أنّ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم شاملة لكل النواحي الإنسانية في الإنسان، فهي تحكي لنا سيرة محمد الشاب الأمين المستقيم قبل أن يكرمه الله بالرسالة، كما تحكي لنا سيرة رسول الله الداعية إلى الله المتلمس أجدى الوسائل لقبول دعوته، الباذل منتهى طاقته وجهده في إبلاغ رسالته، كما تحكي لنا سيرته كرئيس دولة يضع لدولته أقوم النظم وأصحّها، ويحميها بيقظته وإخلاصه وصدقه بما يكفل لها النجاح. كما تحكي لنا سيرة الرسول الزوج والأب في حُنوّ العاطفة وحسن المعاملة والتمييز الواضح بين الحقوق والواجبات لكل من الزوج والزوجة والأولاد، كما تحكي لنا سيرة الرسول المربي المرشد الذي يشرف على تربية أصحابه تربية مثاليّة ينقل فيها من روحه إلى أرواحهم ومن نفسه إلى نفوسهم ما يجعلهم يحاولون الاقتداء به في دقيق الأمور وكبيرها، كما تحكي لنا سيرة الرسول الصديق الذي يقوم بواجبات الصحبة ويفي بالتزاماتها وآدابها، ممّا يجعل أصحابه يحبّونه كحبّهم لأنفسهم وأكثر من حبهم لأهليهم وأقربائهم، وسيرته تحكي لنا سيرة المحارب الشّجاع والقائد المنتصر والسياسي الناجح والجار الأمين والمعاهد الصادق. وقصارى القول أنّ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم شاملة لجميع النواحي الإنسانية في المجتمع ممّا يجعله القدوة الصالحة لكلّ داعية وكلّ قائد وكلّ أب
وكلّ زوج وكلّ صديق وكلّ مربّ وكلّ سياسي وكلّ رئيس دولة وهكذا...
ونحن لا نجد مثل هذا الشمول ولا قريباً منه فيما بقي لنا من سير الرسل السابقين ومؤسّسي الديانات والفلاسفة المتقدّمين والمتأخّرين. فموسى عليه السلام يمثّل زعيم الأمّة الذي أنقذ أمّته من العبودية ووضع لها من القواعد والمبادئ ما يصلح لها وحدها، ولكننا لا نجد في سيرته ما يجعله قدوة للمحاربين أو المربين أو السياسيين أو رؤساء الدول أو الآباء أو الأزواج مثلاً. وعيسى عليه السلام يمثّل الداعية الزاهد الذي غادر الدنيا وهو لا يملك مالاً ولا داراً ولا متاعاً، ولكنه في سيرته الموجودة بين أيدي المسيحيين لا يمثّل القائد المحارب ولا رئيس الدولة ولا الأب ولا الزوج، لأنه لم يتزوج، ولا المشرّع ولا غير ذلك ممّا تمثّله سيرة محمد صلى الله عليه وسلم. وقُل مثل ذلك في بوذا وأرسطو وأفلاطون ونابليون وغيرهم من عظماء التاريخ، فإنهم لا يصلحون للقدوة ـ إن صلحوا ـ إلا لناحية واحدة من نواحي الحياة برزوا فيها واشتهروا بها. والإنسان الوحيد في التاريخ الذي يصلح أن يكون قدوة لجميع الفئات وجميع ذوي المواهب وجميع الناس هو محمد صلى الله عليه وسلم.
خامساً: أنّ سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وحدها تعطينا الدليل الذي لا ريب فيه على صدق رسالته ونبوّته. إنها سيرة إنسان كامل سار بدعوته من نصر إلى نصر، لا على طريق الخوارق والمعجزات، بل عن طريق طبيعي بحث، فلقد دعا فأُوِي، وبلّغ فأصبح له الأنصار، واضطر إلى الحرب فحارب، وكان حكيماً موفّقاً في قيادته. ومَن عَرف ما كان عليه العرب من عادات وعقائد وما قاموا به من شتى أنواع المقاومة حتى تدبير اغتياله، ومَن عَرف عدم التكافؤ بينه وبين محاربيه في كل معركة انتصر فيها، ومَن عَرف قصر المدّة التي استغرقتها رسالته حتى وفاته وهي ثلاث وعشرون سنة، أيقن أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله حقًّا وأنّ ما كان يمنحه الله من ثبات وقوّة وتأثير ونصر ليس إلَّا لأنّه نبيّ حقًّا، وما كان الله أن يؤيّد من يكذب عليه هذا التأييد الفريد في التاريخ، فسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تُثبت لنا صدق رسالته عن طريق عقلي بحت وما وقع له صلى الله عليه وسلم من المعجزات لم يكن الأساس الأوّل في إيمان العرب بدعوته. بل إنّا لا نجد له معجزات آمَن معها الكفار المعاندون على أن المعجزات المادية إنّما تكون حجّة على من شاهدها، ومن المؤكّد أنّ المسلمين الذين لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يشاهدوا معجزاته إنّما آمنوا بصدق رسالته للأدلة العقلية القاطعة على صدق دعواه النبوّة. ومن هذه الأدلة العقلية القرآن الكريم، فإنّه معجزة عقلية تلزم كل عاقل منصف أن يؤمن بصدق محمد صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة.
وهذا يختلف تماماً عن سير الأنبياء السابقين المحفوظة لدى أتباعهم، فهي تدلّ على أنّ الناس إنّما آمنوا بهم لما رأوا على أيديهم من معجزات وخوارق دون أن يحكّموا عقولهم في مبادئ دعواتهم فتذعن لها. وأوضح مثال لذلك النبي عيسى عليه السلام، فإنّ الله حكى لنا في القرآن الكريم أنّه جعل الدعامة الأولى في إقناع اليهود بصدق رسالته أن يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي المرضى ويحيي الموتى وينبّئهم بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم، كل ذلك بإذن الله جلّ شأنه. والأناجيل الحاضرة تروي لنا أنّ هذه المعجزات هي وحدها التي كانت سبباً في إيمان الجماهير دفعة واحدة به لا على أنّه رسول كما يحكي القرآن الكريم، بل على أنّه إله وابن إله – وحاشا لله من ذلك ـ. حتى ليصحّ لنا أن نطلق على المسيحية التي يؤمن بها أتباعها أنّها دين قام على المعجزات والخوراق لا على الإقناع العقلي. ومن هنا نرى هذه الميزة الواضحة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أنّه ما آمن به أحد عن طريق مشاهدته ( المعجزة ) خارقة، بل عن اقتناع وجداني. وإذا كان الله قد أكرم رسوله بالمعجزات الخارقة، فما ذلك إلَّا إكراماً له صلى الله عليه وسلم وإفحاماً لمعانديه المكابرين. ومن تتبّع القرآن الكريم وجد أنّه اعتمد في الإقناع على المحاكمة العقلية والمشاهدة المحسوسة لعظيم صنع الله. والمعرفة التامّة بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من أميّة تجعل إتيانه بالقرآن الكريم دليلاً على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى في سورة العنكبوت: ( وَقَالُواْ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّنَ رَّبِّهِ قُلْ اِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمُ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُومِنُونَ ) العنكبوت الآية 50/51. ولما حاول كفار قريش في طلب المعجزات من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كانت تفعل الأمم الماضية أمره الله أن يجيبهم بقوله:
( سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَّسُولاً ) الإسراء الآية 93. استمع إلى ذلك في قوله تعالى في سورة الإسراء: ( وَقَالُواْ لَنْ نُّوْمِنَ لَكَ حَتَّى تُفَجِّرْ لَنَا مِنَ الاَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّنَ نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَاتِيَ بِاللهِ وِالمَلَائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُّومِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنْزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً ) الإسراء 90/93.
هكذا يقرّر القرآن بصراحة ووضوح أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم إنسان رسول من الله، وأنّه لا يعتمد في دعوى الرسالة على الخوارق والمعجزات وإنّما يخاطب العقول والقلوب.

الدرس الثاني:
بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم منذ دخوله المدينة يسعى إلى إنجاز المهام الملقاة على عاتقه في مطلع المرحلة الجديدة من الدعوة التي تستهدف إنشاء الدولة الإسلامية على أسس راسخة، وتهيئة كافّة الشروط والمتطلبات لتحقيق هذا الهدف. وكان بناء المسجد الخطوة الأولى على هذا الطريق، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وتشكيل جيش إسلامي مقاتل يمتلك القدرة على حماية الدولة الناشئة والمساعدة على تحقيق أهدافها، ثُمَّ أعقبه إصدار الوثيقة التي نظم فيها العلاقات بين المسلمين وغيرهم من القوى المتواجدة من عرب ويهود في المجتمع المدني، وهاك نصّ الوثيقة كاملة كما وردت في سيرة ابن هشام:
نصّ الوثيقة:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمدٍ النبي صلى الله عليه وسلم ، بأنّ المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، إنّهم أمّة واحدة من دون الناس.
المهاجرون من قريش على رِبعتهم ( حالهم، من وردوا المدينة ) يتعاقلون بينهم، ويفْدون عانيَهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو عَوْف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيَها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيَها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو الحرث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيَها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وينو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيَها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيَها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيَها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيَها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيَها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وإنّ المؤمنين لا يتركون مفرجاً ( المثقل بالديْن والعيال ) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء وعقل ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإنّ المؤمنين المتّقين على من بغى منهم، وابتغى دسيعة ( كبيرة ) ظلم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين. وإنّ أيديهم عليه جميعاً ولو ولد أحدهم، ولا يَقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا يُنصر كافر على مؤمن، وإنّ الله واحد يجير عليهم أدناهم.
وإنّ المؤمنين بعضهم مولى بعض، دون الناس. وإنّه من تبعنا من يهود فإنّ له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وإنّ سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلاّ على سواء وعدل بينهم.
وإنّ كلّ غازية غزت معنا، تعقب بعضها بعضاً، وإنّ المؤمنين يبؤُ بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله، وإنّ المؤمنين المتّقين على أحسن هدى وأقومه، وإنّه لا يجير مشرك مالاً لقريش، ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن، وإنّه من اعتبط مؤمناً قتلاً على بيّنة فإنّه قَوَد به، إلاّ أن يرضى وليّ المقتول، وإنّ المؤمنين عليه كافّة، ولا يحلّ لهم إلاّ قيام عليه، وإنّه لا يحلّ لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً ( مجرماً )، ولا يؤويه، وإنّه من نصره أو آواه فإنّ عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. وأنّكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإنّ مردّه إلى الله عزّ وجلّ، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وإنّ بني عوف أمّة مع المؤمنين، ليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلاّ من ظلم أو أثم فإنّه لا يُوتغ ( يهلك ) إلاّ نفسه، وأهل بيته. وإنّ ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف. وإنّ ليهود بني الحرث مثل ما ليهود بني عوف. وإنّ ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. وإنّ ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف. وإنّ ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. وإنّ ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف. إلاّ من ظلم أو أثم فإنّه لا يوتغ إلاّ نفسه وأهل بيته. وإنّ جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم. وإنّ لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف. وإنّ البر دون الإثم. وإنّ موالي ثعلبة كأنفسهم. وإنّ بطانة يهود كأنفسهم.
وإنّه لا يخرج منهم أحد إلَّا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنّه لا ينحجز على ثار جرح، وإنّه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته، وإلاّ من ظلم، وإنّ الله على أبرِّ هذا.
وإنّ على اليهود نفقاته، وعلى المسلمين نفقاتهم، وإنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وأنّ بينهم النصح والنصيحة، والبرّ دون الإثم، وإنّه لم يأثم امرؤ بحليفة، وإنّ النصر للمظلوم، وإنّ يهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وإنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإنّ الجار كالنفس غير مضارّ ولا آثم، وإنّه لا تُجَار حرمة إلاّ بإذن أهلها، وإنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حديث أو اشتجار يخاف فساده، فإنّ مردّه إلى الله عزّ وجلّ وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنّ الله على من اتّقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه، وأنّه لا تُجَار قريش ولا من نصرها. وإنّ بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنّهم يصالحونه ويلبسونه، وإنّهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإنّه لهم على المؤمنين، إلَّا من حارب في الدّين. على كلّ أناس حصّتهم من جانبهم الذي قبلهم، وإنّ يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البرّ المحيين من أهل هذه الصحيفة، لا سكيب كاسب إلاّ على نفسه، وإنّ الله على اصدق ما في هذه الصحيفة وأبرّه، وإنّه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنّه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلاّ من ظلم أو أثم، وإنّ الله جار لمن برّ واتّقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تنظيم الإسلام للمجتمع:
نظم الرسول صلى الله عليه وسلم بموجب هذه الوثيقة العلاقات بين المجتمع المسلم الجديد نفسه، وبينه وبين الكتل البشرية التي تعايشت في المدينة وبخاصة اليهود. إنَّ نصوص الصحيفة، توافق القرآن الكريـم في المبادئ العامّة من حيث اعتبار المسلمين أمّة واحدة من دون النّاس، ومن حيث التراحم والتعاون بينهم، ومن حيث الاحتفاظ برابطة الولاء وما يترتب عليها من حقوق الموالاة، ثُمَّ من حيث مراعاة حقوق القرابة والصحبة والجوار، وكذلك في تحديد المسؤولية الشخصية والبُعد عن ثارات الجاهلية وحميّتها، وفي وجوب الخضوع للقانون وردّ الأمر إلى الدولة بأجهزتها للتصرّف بالأمور، وفي شؤون الحرب والسلم، وأنَّ حرب الأفراد وسلمهم إنَّما تدخل في الاختصاص العام، فلا تحدث فردياً، كذلك معاونة الدولة في إقرار النظام والأخذ على يد الظالـم وعدم نصرة المجرم أو إيوائه.
إنَّ الصحيفة أعطت للجماعة الإسلامية صفة، فقرّرت أنَّهم أمّة واحدة من دون النّاس.. وبهذا التقرير ألغى النبيّ صلى الله عليه وسلم الحدود القبلية، أو على الأقل لـم يجعل لها وجوداً رسمياً بالنسبة للدولة، أو بلفظ آخر، ارتفع هو عن المستوى القبلي المحدّد، وبهذا أصبح الإسلام مِلْكاً لمن دخل فيه، فدخل بناءً على هذه القاعدة شعوبٌ كثيرة في الإسلام دون أن يضع الرسول أمامها عقبات تحول بينها وبين الاشتراك في حياة العالـم الإسلامي.
الإسلام يدعو إلى التعايش السلمي:
إنَّ إصدار الوثيقة يمثّل تطوراً كبيراً في مفاهيم الاجتماع السياسية، فهذه جماعة تقوم لأوّل مرّة في الجزيرة العربية على غير نظام القبيلة، وعلى غير أساس رابطة الدّم، حيث انصهرت طائفتا الأوس والخزرج في جماعة الأنصار، ثُمَّ انصهر الأنصار والمهاجرون في جماعة المسلمين، ثُمَّ ترابطت هذه الجماعة المسلمة مع اليهود الذين يشاركونهم الحياة في المدينة إلى أمد ولأوّل مرّة بحكم القانون، حيث تُردُّ الأمور إلى الدولة، ومن خلال تغيير شامل وتحوّل سريع، طوى الدستور صفحة اجتماعية طابعها القبلية، وفتح صفحة جديدة أكثر إيجابية وأقرب إلى التسامح والتعايش السلمي والترابط والتكافل والوحدة الفكرية.
ويقول أحمد الجندي في كتابه " الإسلام وحركة التاريخ ": ( لقد أقرّت الصحيفة مفهوم الحرية الدينية بأوسع معانيه، وضربت عرض الحائط مبدأ التعصّب ومصادرة الآراء والمعتقدات، ولـم تكن المسألة مسألة تكتيك مرحلي ريثما يتسنّى للرسول صلى الله عليه وسلم تصفيّة أعدائه في الخارج لكي يبدأ تصفيّة أخرى إزاء أولئك الذين عاهدهم .. إنَّما صدر هذا الموقف السمح المنفتح عن اعتقاد كامل بأنَّ اليهود باعتبارهم أهل كتاب سيتجاوبون مع الدّعوة الجديدة وينهضون لإسنادها في لحظات الخطر والصراع ضدّ العدو الوثني المشترك ـ كما أكّدت بنود الصحيفة نفسها ـ أو أنَّهم ـ على أسوأ الاحتمالات ـ سيكفّون أيديهم عن إثارة المشاكل والعقبات ووضْع العراقيل في طريق الدعوة وهي تبني دولتها الجديدة وتصارع قوى الوثنية التي تتربّص على الحدود، لكن الذي حدث بعد قليل من إصدار الوثيقة، وطيلة سني العصر المدني، غيّر مجرى العلاقات بين المسلمين واليهود، وجمّد البنود المتعلّقة بهم، لا لشيء إلَّا لأنَّهم اختاروا النّقض على الوفاء، والخيانة على الالتزام، والانغلاق على مصالحهم القومية على الانفتاح على الأهداف العامّة الكبيرة للأديان السَّماوية جمعاء ).










رد مع اقتباس