كان نشر قصيدة (صلوات في هيكل الحب) للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي على صفحات عدد أبريل 1933 من مجلة (أبوللو) ـ التي كان يصدرها في القاهرة الدكتور أحمد زكي أبوشادي ـ ثورة شعرية عارمة، أوقدت نارها في شعر الثلاثينيات وماتلاها من عقود، ولفتت الأنظار بشدة ـ في مشرق الوطن العربي ومغربه ـ إلى موهبة شعرية بازغة، تسطع أضواؤها الأولى بتجليات هذه الشاعرية المغايرة، المتفردة خيالاً وصوراً ومعجماً وتدفقاً موسيقياً وحرارة عاطفية.
لقد نشر الشابي على صفحات مجلة أبوللو ـ التي كان صدورها تعبيراً عن حركة شعرية جديدة وتجسيداً للنزعة الرومانسية في الإبداع الشعري العربي الحديث ـ إحدى عشرة قصيدة خلال عامي 1933 و 1934 حتى كان رحيله المباغت، ومن بعد الرحيل توقفت المجلة نفسها عن الصدور. لكن قصيدته الأولى (صلوات في هيكل الحب) تظل أهم هذه القصائد، وأكثرها تأثيراً في الذوق الشعري لمعاصريه: شعراء ونقاداً وقراء، بحيث يمكن القول إنها كانت بمنزلة بيان شعري مفعم بهذه الروح الشعرية الجديدة، التي تمردت على السائد والمألوف، وساعدت على تعميق مسار جديد للشعر يغاير المسار الذي كان شوقي وحافظ تجسيداً له حتى رحيلهما في عام 1932 قبل نشر قصيدة (الشابي) بشهور قليلة، والتي يقول ديوانه إنه أبدعها في الثلاثين من جمادى الأولى عام 1350 هـ الموافق للثاني عشر من أكتوبر عام .1931
لقد رأى بعض معاصريه في هذه القصيدة تجسيداً لنزعته الشعرية التي عبر عنها في دراسة عنوانها (الأدب العربي في العصر الحاضر) حين يقول: (ليس لنا أن نطالب الشاعر في شعره بغير الحياة، وإذا جاز لنا أن نطالبه بأكثر من هذا فلنطالبه بأن تكون هذه الحياة رفيعة سامية تتكافأ مع ما للشاعر من قدسية الفن وجلاله، ففي الحياة كثير من الحماقات والدنايا يتعالى الفن عن التدني إليها من سمائه العالية. فإذا قرأنا الشاعر وجدنا فيه إنساناً من لحم ودم، يحيا ويتنفس ويشعر ويفكر ويجاوبنا بالعطف والحسّ والخيال وينسينا لحظة وجودنا المحسوس بما يخلعه علينا من جمال الفن وصوره ويرتفع بمشاعرنا فوق دنيا هذا العالم ومحقراته).
كما رأى فيها آخرون معجزة شعرية إذ (كيف استطاع الشابي ـ وفوقه هذا الجبل الصخري من التقاليد المتحجرة الذي كم دك تحت ثقله نفوساً وحطم رءوساً أرادت أن تتحرك بله أن تتنفس ـ نعم، كيف استطاع هذا الشاب أن يرفع رأسه الصغير فإذا الجبل قد صار دكاً وإذا الصخور الرواسي هباء، وإذا النسر يحلق لا يعوقه شيء! ألا إنها لمعجزة لإيمان. إيمان النبي برسالته، الإيمان الذي يملأ القلب فيزلزل الجبال الرواسي وتميد من تحته الأرض، فما رفع الشابي من تحت الجبل رأسه بل قلبه بإيمانه العميق الهائل. فإذا بالأفق يطلع علينا من ناحية تونس بكوكب وهاج جارف النور شُدت إليه الأبصار وانجذبت له القلوب وأخذ بسحره الشعراء، ومنهم من هرع يقبس من الكوكب الجديد).
العنوان الذي اختاره الشابي لقصيدته (صلوات في هيكل الحب) نجده ـ بعد نشر القصيدة في مجلة أبوللو بخمس سنوات ـ عنواناً لقصيدة بديعة من روائع الشاعر محمود حسن إسماعيل نشرها في ديوانه (هكذا أغني) وأثبت تاريخها: يوليو 1938، وهي قصيدة: أنت دير الهوى وشعري صلاة. ولا بد للنظر المتأمل أن يستوقف الهيكل وقد أصبح ديراً، أما الصلوات عند الشابي فيقابلها عند محمود حسن إسماعيل أن (شعري صلاة). هذا المعجم المنتزع من سياق الوجد الديني وتجلياته بدأه الشابي، وسرعان ما انساب في كثير من شعر الرومانسيين الذين هزتهم قصائد الشابي، وأوقعتهم في روعة الاقتراب منه. يقول محمود حسن إسماعيل في قصيدته التي أشرنا إليها:
أقبلي كالصلاة رقرقها النسكُ
ويقول إبراهيم ناجي في مستهل قصيدته: (العودة):
كم سجدنا وعبدنا الحسن فيها
هذا المعجم الذي يضم مفردات الصلاة والنسك والمحراب والعابد المتبتل والآية من الله والوحي المنزل وحدائق الله عند محمود حسن إسماعيل ومفردات الكعبة وطائفيها والمصلين وسجدناً وعبدنا وبالله عند إبراهيم ناجي، تأكيد لمعنى التقديس الذي تصطبغ به القصيدة العاطفية عند هؤلاء الرومانسيين، فالحبيبة معبود، ونجاوى الحب صلوات، وعش الحب دير ومعبدوهيكل، والشاعر المحب عابد متبتل يؤدي فرائض المحبة قصائد عمدها عشق روحاني عارم، يخرج الكون والطبيعة والحياة والوجود في ألواح ومزامير، وأناشيد عليا، تنضح بالضراعة والتذلل ـ على حد تعبير محمود حسن إسماعيل:
وقبل هذا البيت ـ الناطق التعبير ـ يقول:
أنتِ طيف الغيوب، رفرف بالرحمة
لن تستوقفنا طويلاً هذه الـ (أنت) التي يستهل بها الشاعر ثمانية عشر بيتاً متصلة من قصيدته، محاكياً الـ (أنت) التي ترددت سبع مرات متتابعة في قصيدة الشابي وقبلها خمس مرات متباعدة ـ غير متصلة ـ مؤكدة هذا التعلق العميق، وهذا التلذذ بمجرد التوجه الخطابي، وهذا القصر للمعنى والدلالة والخطاب على شاخص بعينه ملء حنايا القصيدة وأرجائها ومقاطعها هو هذه المحبوبة المتفردة بسمات وملامح قلّ أن تجتمع في بشر! لن يستوقفنا ذلك كله بقدر ما تستوقفنا تلك الروح المفعمة بالتطهر والمثاليات ونزعة التقديس التي تسيطر على قصيدة الشابي، والتي تبلغ أوجها في تصويره للعيشة التي يتمناها في ظلال معشوقته المعبودة، وهو يقول:
عيشة للجمال، والفن، والإلهام
عيشة الناسك البتول يُناجي الربَّ
وصولاً إلى ختام القصيدة، وطلقتها الأخيرة، في صورة شعرية عميقة المغزى والدلالة، تلخص كل ما حاولنا الاقتراب منه في السطور السابقة:
فالإله العظيم لا يرجمُ العبد
إن قصيدة (صلوات في هيكل الحب) لأبي القاسم الشابي واحدة من أبرز القصائد التي صنعت تأثيراً كاسحاً، وأشاعت روحاً شعرية، عارمة، وتناولاً شعرياً مغايراً لموقف الشاعر من جلوة الوجد العاطفي مختلطاً بأقباس روحية وصوفية... إنها قصيدة لها تاريخ!
يقول أبوالقاسم الشابي:
عذبةٌ أنتِ كالطفولةِ، كالأحلام
كالسماء الضحوك كالليلة القمراء
يا لها من طهارة، تبعثُ التقديـ
ـسَ في مهجة الشقيِّ العنيد!...
يا لها رقَّةً يكادُ يَرفُ الوَر
ْدُ منها في الصّخرة الجلمود!
أيُ شيء تُراكِ؟ هل أنتِ (فينيسُ)
لتُعيدَ الشبابَ والفرح المعسولَ
أم ملاكُ الفردوس جاء إلى الأر
ض ليُحيي روحَ السلام العهيد!
أنتِ.. ما أنتِ؟ أنت رسمٌ جميلٌ
عبقريٌ من فنِّ هذا الوجود
أنتِ.. ما أنتِ؟ أنتِ فجرٌ من السحر
فأراه الحياةَ في مونِق الحسن
أنتِ روح الربيع، تختال في
الدنيا فتهتزُّ رائعاتُ الورود
وتهبُّ الحياةُ سكرى من العطر
كلما أبْصرتْكِ عينايَ تمشِين
خَفَقَ القلبُ للحياة، ورفّ الزّهرُ
وانتشتْ روحيَ الكئيبةُ بالحبِّ
مات في أمسيَ السعيدِ الفقيد
وتَشِيدينَ في خرائِب روحي
من طموح إلى الجمالِ إلى الفنِّ
وتبُثِّين رقة الشوق، والأحلامِ
والشدوِ، والهوى، في نشيدي
بعد أن عانقتْ كآبةُ أيَّامي
أنت أنشودة الأناشيد غنّاكِ
إله الغناءِ، رَبُّ القصيد
فيكِ شبّ الشَّبابُ، وشَّحهُ السِّحرُ
وشدوُ الهوى، وعِطْرُ الورود
وتراءى الجمالُ، يرقص رقصاً
قُدُسياً، على أغاني الوجود
وتهادتْ في أفْقِ روحِكِ أوزْانُ
فتمايلتِ في الوجود، كلحْنٍ
عبقريِّ الخيالِ حلوِ النشيد:
خطواتٌ، سكرانةٌ بالأناشيد،
أنتَ..، أنتِ الحياةُ في قدْسها السامي،
أنتِ.. أنتِ الحياةُ، في رِقّةِ الفجر
أنتِ.. أنتِ الحياةُ كلَّ أوانٍ
أنتِ.. أنتِ الحياةُ فيك وفي عيـ
نيكِ آياتُ سحرها المَمْدود
أنتِ دنيا من الأناشيد والأحلام
أنتِ فوْق الخيال، والشِّعرِ، والفنِّ
وفوّقَ النُّهَى وفوق الحدود
أنتِ قُدْسي، ومَعبدي، وصباحي
كاتب المقالة هو :فاروق شوشة من مجلة العربي
الأحد1 اكتوبر 2000 3/7/1421هـ / العدد503