منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الدساتير العربية
عرض مشاركة واحدة
قديم 2009-10-23, 09:20   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
kamal_cat
عضو نشيط
 
الصورة الرمزية kamal_cat
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي تابع

أما الدستور اللبناني فقد نص في المادة التاسعة منه على أن حرية الاعتقاد مطلقة، وأن الدولة تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على ألا يكون في ذلك إخلال بالنظام العام، كما نص في المادة العاشرة على أن التعليم حر ما لم يخل بالنظام العام أو ينافي الآداب أو يتعرض لكرامة أحد الأديان أو المذاهب، وفي المادة الثانية عشرة على أن لكل لبناني الحق في تولي الوظائف العامة لا ميزة لأحد على الآخر إلا من حيث الاستحقاق والجدارة حسب الشروط التي ينص عليها القانون، وفي المادة الخامسة عشرة على أن الملكية في حمى القانون، فلا يجوز أن ينزع عن أحد ملكه إلا لأسباب المنفعة العامة وفقاً للقانون وبعد تعويضه منها تعويضاً عادلاً.(26)
وعلى شاكلة معظم الدساتير العربية، فقد أسهب دستور المملكة العربية السعودية فى التفاصيل فيها يتعلق بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية، غير أنه أعطاها مسحة دينية تنبع من طبيعة النظام. فأشار فى المادة التاسعة إلى أن الأسرة هى نواة المجتمع السعودى ويربى أفردها على أساس العقيدة الإسلامية وما تقتضيه من الولاء والطاعة لله ولرسوله ولأولى الأمر، مؤكداً فى المادة العاشرة على حرص الدولة على توثيق أواصر الأسرة، والحفاظ على قيمها العربية والإسلامية ورعاية جميع أفرادها، وتوفير الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم وقدراتهم. كما أكد فى المادة الثامنة عشرة على أن الدولة تكفل حرية الملكية الخاصة وحرمتها، وعدم جواز نزعها من أحد إلا للمصلحة العامة، وعلى أن يعوض تعويضاً عادلاً، وحظر فى المادة التاسعة عشرة مصادرتها إلا بحكم قضائى.
أما فى المادة السادسة والعشرون، فقد أكد الدستور السعودى على حماية الدولة لحقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية، وفى المادة السابعة والعشرون أكد على أن الدولة تكفل حق المواطن وأسرته فى حالة الطوارئ والمرض والعجز والشيخوخة، وتدعم نظام الضمان الاجتماعى، وفى المادة الثامنة والعشرون على واجب الدولة فى تيسير مجالات العمل لكل قادر عليه، وأنها ملتزمة بسن الأنظمة التى تحمى العامل وصاحب العمل، وفى المادة الثلاثون أكد على أن الدولة توفر التعليم العام، وأكد فى المادة الواحدة والثلاثون على أن الدولة توفر الرعاية الصحية لكل مواطن.(27)
كذلك فقد أولى الدستور العمانى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية عنايته ليس فقط فى إطار المبادئ العامة لسياسة الدولة، بل أفرد لها جزءاً مهماً من الباب الثالث تحت عنوان "الحقوق والواجبات العامة". فأشار فى المادة الحادية عشرة إلى أن الملكية الخاصة مصونة، فلا يمنع أحد من التصرف فى ملكه إلا فى حدود القانون، ولا ينزع عن أحد ملكه إلا بسبب المنفعة العامة فى الأحوال المبينة فى القانون، وبالكيفية المنصوص عليها فيه، وبشرط تعويضه عنه تعويضاً عادلاً، كما حظر المصادرة للأموال إلا بحكم قضائى.
كما أكد فى المادة الثانية عشرة على أن الأسرة هى أساس المجتمع، وأن القانون ينظم وسائل حمايتها والحفاظ على كيانها الشرعى، وأن الدولة تكفل للمواطن وأسرته المعونة فى حالة الطوارئ والمرض والعجز والشيخوخة، وأن الدولة تكفل توفير الرعاية الصحية لكل مواطن، كما أنها تحمى العامل وصاحب العمل وتنظم العلاقة بينها، وأن لكل مواطن الحق فى ممارسة العمل الذى يختاره لنفسه فى حدود القانون، ولا يجوز فرض أى عمل إجبارى على أحد إلا بمقتضى ولأداء خدمة عامة وبمقابل أجر عادل. وأشار فى المادة الثالثة عشرة تحت عنوان المبادئ الثقافية إلى أن التعليم ركن أساسى لتقدم المجتمع وأن الدولة توفر التعليم العام.(28)
ولم يشذ الدستور الموريتانى عما سبق فأفاض فى الإشارة إلى الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين مشيراً فى المادة الثانية عشرة منه إلى أنه يحق لكافة المواطنين تقلد المهام والوظائف العمومية دون شروط أخرى سوى تلك التى يحددها القانون، وأكد فى المادة الرابعة عشرة على أن حق الإضراب معترف به على أن يمارس فى إطار القوانين المنظمة له، وإن كان للقانون الحق فى منع الإضراب فى المصالح أو المرافق العمومية الحيوية للبلاد. كما أكد فى المادة الخامسة عشرة إلى أن حق الملكية مضمون، وعدم جواز نزع الملكية الخاصة إلا إذا اقتضت ذلك المصلحة العامة وبعد تعويض عادل مسبق. وأشار فى المادة السادسة عشرة إلى أن الدولة والمجتمع يحميان الأسرة.(29)
كذلك فقد تناول الدستور الصومالى فى بابه الثانى حقوق المواطن بصورة مستفيضة، فأشار فى المادة التاسعة منه إلى أن "كل مواطن تتوافر لديه الشروط التى يتطلبها القانون له الحق فى تقلد الوظائف العامة"، وفى المادة الثالثة عشرة إلى حق المواطنين فى تكوين النقابات أو الانضمام إليها لحماية مصالحهم الاقتصادية، وفى المادة الرابعة عشرة أن "لكل مواطن الحق فى ممارسة نشاطه الاقتصادى فى حدود القانون". كما أشار فى المادة الرابعة والعشرون إلى أن "الملكية الخاصة يكفلها القانون"، وأنها لا تنزع إلا للمنفعة العامة وبالكيفية المنصوص عليها فى القانون، وذلك مقابل تعويض عادل وعاجل، وفى المادة السابعة والعشرون إلى أن "الإضراب حق معترف به ويمارس فى الحدود المعنية بالقانون، ويحظر اتخاذ أى عمل من شأنه أن يؤدى إلى التفرقة أو تقييد حرية النقابات فى ممارسة حقوقهاً، وفى المادة التاسعة والعشرون إلى أن "حرية الاعتقاد مكفولة لكل شخص وله أن يعلن بحرية عن ديانته وأن يقيم شعائرها وأن يذيع تعاليمها، وذلك فى الحدود التى يضعها القانون لحماية الأخلاق أو الصحة العامة أو النظام".
كما أشار فى المادة الواحدة والثلاثون إلى أن الدولة تحمى الأسرة والأمومة والطفولة، وفى المادة الثالثة والثلاثون إلى أن الدولة تحمى الصحة العامة، وتعمل على تشجيع المساعدات الطبية المجانية للمعوزين، وفى المادة الخامسة والثلاثون إلى أن الدولة تكفل حرية التعليم، وأنه بالمجان فى مدارس الحكومة فى مراحله الأولى. كما أشار إلى حق العمل فى المادة السادسة والثلاثون مؤكداً على حظر السخرة والعمل الجبرى، وأن لجميع العمال دون تمييز أجر متساو عن العمل المتساوى القيمة، وبما يحقق حياة لائقة بالكرامة الإنسانية، وأن لجميع العمال حق فى راحة إسبوعية وأجازة سنوية بأجر ولا يجوز إلزامهم بالنزول عنها، وأن الدولة تضمن الحماية المادية والمعنوية للعمال. وأشار إلى رعاية الدولة للضمان الاجتماعى والمساعدات فى المادة السابعة والثلاثون، كما أنها تكفل الحق فى المعاش لموظفيها، وكذلك الحق فى المساعدة فى حالات الحوادث والمرض أو العجز عن العمل طبقا للقانون.(30)
بعد هذا الاستعراض للحقوق الاجتماعية والاقتصادية كما عبرت عنها النصوص الدستورية في البلدان العربية يمكن إيجاز الملاحظات التالية:
الملاحظة الأولى:-
أن الدساتير العربية فى عمومها قد اهتدت إلى حد بعيد بالمواثيق والإعلانات والعهود والإتفاقيات الدولية المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، خاصة تلك الواردة فى العهد الدولى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة فى عام 1966، وإن تفاوت الأمر فيما بينها فيما يتعلق بالتفاصيل فى هذا الصدد. ويمكن القول بأن معظمها أسهب فى التفاصيل المتعلقة بهذه الحقوق مشيراً إلى كل منها بالتحديد الواضح والصريح، ولم يغفل أى منها أى من هذه الحقوق. ويعتبر الدستور اللبنانى هو أقلها إشارة إلى هذه الحقوق. ويرجع ذلك إلى أنه وضع فى ظل الانتداب الفرنسى ولايزال سارياً حتى اليوم مع بعض التعديلات، فى الوقت الذى وضعت فيه معظم الدساتير العربية فى أعقاب صدور العهد المذكور عاليه.
الملاحظة الثانية:-
أن معظم الدساتير العربية قد خصصت باباً مستقلاً للنص على حقوق وحريات المواطنين، وأن الكثير منها قد خصص لها فصولاً مستقلة فى إطار هذا الباب تحت عنوان المقومات الاجتماعية والمقومات الاقتصادية كما هو الحال بالنسبة للدستور المصرى. ويعد الدستور الليبى هو الوحيد من بين دساتير البلدان العربية الذى أفرد فى إطاره وثيقة خاصة بحقوق الإنسان، بما فيها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أسماها الوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان على غرار الوثيقة الخاصة بحقوق الإنسان الملحقة بالدستور الأمريكى.
الملاحظة الثالثة:-
إذا كانت الدساتير العربية فى عمومها لم تغفل أيا من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بل وأشارت إليها جميعاً على نحو واضح ومحدد، إلا أنها جميعها وبلا استثناء لم تتوان عن وضع القيود عليها، وذلك بذكرها فى نهاية المواد الدستورية المتضمنة لها بعبارة تفيد بأن القانون ينظم ذلك. فمثلاً تذكر هذه الدساتير أن حق الإضراب مكفول، غير أنها تتبع ذلك بأن يكون الإضراب وفقاً للقانون، ولم يتوان بعضها من الإشارة الصريحة إلى أن من حق القانون حظر الإضراب، الأمر الذى ليس له معنى سوى محاولة إفراغ هذا الحق من مضمونه بدرجة أو بأخرى. كما أن بعضها قد قيد بعض هذه الحقوق بقدرات وإمكانات البلاد مثل الدستور الأردنى الذى نص على حق العمل والتعليم ولكن فى حدود إمكانات البلاد. كما تكررت أيضاً فى الدساتير العربية عبارات مثل: على ألا يكون مخلاً بالنظام والآداب العامة"، و"ضمن حدود القانون"، و"وفقاً للشروط المعنية بالقوانين والأنظمة"... الخ. ويعتبر الدستور العراقى هو الوحيد الذى أكد عند النص على مثل هذه العبارات فى المواد المتعلقة بالحريات على ألا يمس ذلك التحديد جوهر الحق أو الحرية، وذلك فى مادة مستقلة هى المادة السادسة والأربعون منه.
هذا هو باختصار مجمل واقع الحقوق الاجتماعية والاقتصادية كما عبرت عنه الدساتير العربية. ولما كانت العبرة ليست بالنصوص الدستورية بقدر ما هي بالضمانات التي تضمن تحقيقها، فإن من المهم تبين حقيقة الضمانات التي كفلتها الدساتير العربية لحماية مثل هذه الحقوق. وهو ما ينقلنا إلى الجزء الثالث من هذه الدراسة.
(3)
ضمانات حماية الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية
في الدساتير العربية
من البديهي أنه لا يكفي النص على حقوق وحريات الإنسان في الدساتير- يستوي في ذلك الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية أو غيرها من الحقوق والحريات، بل لابد من وضع ضمانات للحيلولة دون انتهاكها. فالعبرة فيما يتعلق بمدى احترام حقوق الإنسان لا تكمن في النظر إلى من الذي يحكم في مجتمع ما قدر ما تكمن في كيف يحكم هذا الذي يحكم، بما يعنيه ذلك من صعوبة احترام حقوق الانسان إلا في ظل الأنظمة الديموقراطية الحقة وليس الأنظمة الديمقراطية الشكلية أو الظاهرية.
وعادة ما تتمثل هذه الضمانات في مجموعة من النصوص والأحكام القانونية الدستورية، والآليات العملية التي تكفل احترام وتطبيق حقوق وحريات الإنسان. والحقيقة كم هي عديدة الضمانات التي تكفلها المواثيق والإعلانات والعهود الدولية، وكذا الدساتير الوطنية بغية حماية حقوق الإنسان، ومن بينها بطبيعة الحال الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية موضع بحثنا هذا. ولعله مما يلفت النظر بصدد هذه الضمانات أنها ليست فقط متداخلة مع بعضها البعض، بل قد يتداخل بعضها مع مفهوم الحقوق والحريات ذاته من ناحية، ومع بعض الآليات المستخدمة لتوفير الحماية اللازمة لهذه الحقوق والحريات من ناحية أخرى.(31)
غير أن الأهم من ذلك أن تحديد هذه الضمانات والنص عليها في المواثيق والإعلانات والعهود والدساتير يعتبر أمرا مهما وضروريا، إذ بدون ذلك تصبح الحقوق والحريات المقررة للأفراد مجرد تعهدات أو نصوص نظرية، أي مجرد حبر على ورق لا قيمة لها من الناحية العملية.(32) ويمكن القول أنه بقدر ما تكون الحقوق والحريات – طبعا بما في ذلك الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية – أكثر وضوحا وتحديدا بقدر ما تكون درجة احترام الدول صاحبة الدساتير المتضمنة لها.(33) فالعبرة دائما بتوافر الضمانات اللازمة لحماية الحقوق والحريات، وبمدى التزام السلطات الحاكمة بهذه الضمانات وتقيدها بها أكثر منه بمدى شمول دساتير الدول للنصوص والأحكام المتعلقة بهذه الحقوق والحريات.
تتمثل أقوى الضمانات لحماية حقوق الإنسان بصفة عامة، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية بصفة خاصة في خضوع الدولة نفسها للقانون، وإلا فلا مجال على الإطلاق للحديث عن أية حقوق للإنسان.(34) ويعزى ذلك في المقام الأول إلى وجود قضاء مستقل يلجأ إليه من انتهكت حقوقه، خاصة إ ذا كانت الانتهاكات صادرة عن سلطات الدولة من ناحية، كما يعزى إلى إعمال مبدأ الرقابة على دستورية القوانين من ناحية أخرى.
ويعد استقلال القضاء في واقع الأمر الآلية الأبرز على المستوى الوطني لحماية حقوق الإنسان بكافة صورها.(35) ولهذا لم يكن غريبا أن ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في عام 1948 على مبدأ استقلال القضاء في المادتين الثامنة والعاشرة منه بوصفه الضمانة القضائية الرئيسية لكفالة واحترام حقوق الإنسان.(36) كما أن مبدأ الرقابة على دستورية القوانين، باعتبار أن دستور أية دولة يعد بمثابة القانون الأسمى الذي ينبغي أن تهتدي به – ولا تخالفه – أية قاعدة قانونية عادية يجعل من المحاكم الدستورية العليا التي تحتل قمة السلطة القضائية في كثير من البلدان بمثابة آلية أخرى مهمة تعزز كفالة حقوق الإنسان وتحميها.
كما أكد العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادر في عام 1966 على مجموعة من الضمانات الدولية المقررة لحماية وكفالة الحقوق والحريات التي تضمنها، إذ أشار في المادتين الثانية والثالثة منه حق كافة الأفراد في التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة فيه على قدم المساواة ودونما تفرقة لأي سبب من الأسباب. وأشار في المادة السادسة إلى حق كل فرد في الحصول على فرصة عمل مناسبة تأمينا لمعيشته وبإختياره مع كفالة الخطوات اللازمة لإعمال هذا الحق ووضع البرامج والسياسات الملائمة للارتقاء بكفاءة الفرد ومستواه التدريبي. كما أشار في المادة السابعة منه إلى حق كل فرد في المجتمع في شروط عمل صالحة وعادلة تضمن له ليس فقط المكافآت المناسبة، بل وتوفر له أيضا ظروف عمل مأمونة وصحية، فضلا عن فرص متساوية في الترقي إلى مستويات أعلى. كما أورد في المادة الثامنة الإشارة إلى حق الأفراد في إنشاء النقابات المهنية والانضمام إليها بحرية واختيار كاملين، وبما يعزز حقوق الأفراد ويحقق مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية. كما نص في ذات المادة على حق الأفراد في الإضراب كوسيلة للضغط من أجل نيل حقوقهم والدفاع عن مصالحهم المشروعة والمعترف بها.(37)
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه على الرغم من أهمية الإضراب كوسيلة للدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للأفراد، إلا أن العهد المذكور قد أعطى للدول حق التدخل لتنظيم طريقة مباشرة حق الإضراب، الأمر الذي قد يسمح لها بالتوسع في تفسير هذه الرخصة الممنوحة لها بمقتضى الوثيقة الدولية مما قد يفرغ حق الإضراب من مضمونه. غير أن المجتمع الدولي لم يعدم الوسائل التي تمكنه من ممارسة دور في الضغط على الدول الأعضاء من أجل حثها على احترام حقوق الإنسان داخل أقاليمها. ومن ثم لم يقف فيما يتعلق بموضوع حقوق الإنسان وحرياته عند مجرد التأكيد على هذه الحقوق والحريات، ووضع المعايير الدولية بهذه الخصوص، وإنما أوجد لنفسه العديد من أشكال وصور الضغط التي تتجاوز مجرد استخدام أساليب الضغط المعنوي أو الأدبي في توجيه اللوم للدول المخالفة مثل الإدانة اللفظية في المحافل الدولية إلى سلطة رقابية وإشرافية دولية حقيقية للوقوف على مدى التزام الدول بالمعايير الدولية بهذا الخصوص.(38)
ولعله من بين الأمثلة البارزة في هذا الصدد ذلك الدور الإشرافي والرقابي الذي تمارسه منظمة العمل الدولية فيما يتعلق بالحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية للأفراد في الدول الأعضاء، والذي ينهض بالأساس على ركيزتين رئيسيتين39)
تتمثل الركيزة الأولي في إلزام الدول الأعضاء برفع تقارير دورية إلى المنظمة توضح فيها مدى ما وصلت إليه فيما يتعلق بتنفيذ اتفاقيات العمل الدولية التي صدقت عليها، وذلك إعمالا لنص المادة الثانية والعشرين من دستور المنظمة، والتي تنص على ما يلى: "يتعهد كل عضو بتقديم تقرير سنوى إلى مكتب العمل الدولي عن التدابير التي اتخذها من أجل انفاذ أحكام الاتفاقيات التي يكون طرفاً فيها". وتتضح أهمية مثل هذا الأسلوب في الإشراف والرقابة على سلوك الدول الأعضاء فيما يتعلق بتطبيق أحكام اتفاقيات العمل الدولية التي تعد طرفاً فيها خاصة إذا ما علمنا أن لمنظمة العمل الدولية أجهزتها المتخصصة التي تتولى مهمة فحص هذه التقارير على نحو مستقل عن الدول الأعضاء للوقوف على مدى ملائمة الأحكام والمعايير الوطنية في كل منها مع تلك الواردة في الاتفاقيات الدولية، على أن يقدم المكتب ملخصاً لها إلى مؤتمر العمل الدولي في دور انعقاده التالي.
أما الركيزة الثانية من ركائز منظمة العمل الدولية في الإشراف والرقابة على سلوك الدول الأعضاء بغية كفالة احترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لمواطنيها فتتمثل في نظام البلاغات والشكاوى المعمول به في المنظمة، والذي يسمح بمقتضاه برفعها إليها من قبل الأفراد والجماعات ضد الدول التي يعتقد هؤلاء الأفراد أو الجماعات أنها لا تراعي حقوقهم، وذلك إعمالاً لنص المادة الرابعة والعشرين من دستور المنظمة. كما أوجبت المادة التالية على الدولة العضو المشكو في حقها أن تبادر بتوضيح موقفها إزاء البلاغ أو الشكوى المقدمة. أكثر من ذلك، أعطت المادة السادسة والعشرين الحق لأية دولة عضو أن تقدم بلاغاً أو شكوى إلى مكتب العمل الدولي ضد أية دولة عضو أخرى ترى أنها لا ترعى التزاماتها الدولية في هذا الخصوص، حتى وإن لم تكن الدولة مقدمة البلاغ أو الشكوى قد وقع عليها – أو على أحد مواطنيها – ضرر. فهذا وإن دل على شئ فإنما يدل على مدى حرص المجتمع الدولي على كفالة احترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للفرد.
بعد هذا الاستعراض لأبرز الضمانات التي تقدمها دساتير الدول الديمقراطية، وفي مقدمتها استقلال السلطة القضائية والرقابة على دستورية القوانين، وتلك التي تقدمها المواثيق والاتفاقيات والعهود الدولية، فإن التساؤل الذي يمكن أن يثار هنا يدور حول موقع هذه الضمانات في الدساتير العربية.
لقد عمدت كثير من الدساتير العربية في واقع الأمر إلى تقديم أفضل الضمانات الممكنة لحماية حقوق وحريات الإنسان، لاسيما التأكيد على استقلال القضاء، وفسح المجال أمام المواطن لممارسة حق التقاضي، فضلا عن التأكيد على دولة القانون ومبدأ سمو الدستور، وما يرتبط به من الرقابة على دستورية القوانين، وتقديم كافة الضمانات المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
إن إلقاء نظرة فاحصة على الدساتير العربية تكشف مدى حرص الغالبية العظمى من الدول العربية على تضمينها مبدأي استقلال القضاء والرقابة على دستورية القوانين، وما يرتبط بذلك من كيفية تشكيل المحكمة الدستورية العليا واختيار قضاتها وعدم إمكان عزلهم. فعلى سبيل المثال نص دستور مصر الدائم الصادر في عام 1971 على ذلك في المواد من 165 إلى 178،(40) وكذلك الدستور السوري في المواد من 131 إلى 148،(41) والدستور الأردني في المواد من 97 إلى 101،(42) والدستور الجزائري في المواد من 60 إلى 62،(43) والدستور التونسي في المواد من 64 إلى 68،(44) والدستور اليمني في المواد من 147 إلى 152،(45) والدستور الكويتي في المواد من 162 إلى 168،(46) والدستور العراقي في المواد من 87 إلى 101.(47) ولعله تجدر الإشارة إلى ما جاء به الدستور العراقي الأخير الصادر في عام 2005، من منع النص في القوانين – وفقا للمادة رقم 76 منه – على تحصين أي عمل أو قرار إداري من الطعن.(48)
يتضح مما سبق أن معظم الدول العربية قد ضمنت دساتيرها ليس فقط نصوصاً وأحكاماً واضحة وصريحة تتعلق بالحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية، بل وأيضاً أخرى مماثلة تتعلق بضمانات كفالة هذه الحقوق والحريات. والحقيقة أنه بغض النظر عن مدى اتفاق أو اختلاف واقع الممارسة الفعلية لهذه الحقوق والحريات، ومدى التقيد الفعلي بالضمانات المنصوص عليها بهذا الخصوص، فإنه يمكن القول بأن مجرد حرص الدول العربية على تضمين دساتيرها مجموعة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وكذا الضمانات القانونية التي تكفل احترامها على نحو واضح وصريح إن دل على شئ فإنما يدل على تعهدها والتزامها الصريحين بتطبيق الأحكام الواردة في المواثيق والعهود والاتفاقيات الدولية واعتبارها قواعد قانونية عالمية تغلب عليها الطبيعة الآمرة.(49)
غير أنه تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من أن هناك ثمة تعهد والتزام صريحين من جانب معظم الدول العربية بكفالة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية – شأنها شأن غيرها من حقوق الإنسان، إلا أنه لا يزال هناك ثمة تردد وعزوف من جانب بعض الدول العربية عن التوقيع والتصديق على المواثيق والعهود والاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، بما في العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. ويعزى ذلك إلى عدة أسباب منها50)
1) النظر إلى حقوق الإنسان في مجملها باعتبارها جزءاً من صميم الاختصاص الداخلي للدول، ومن ثم فليس ثمة مبرر لإخضاعها للتشريعات والأحكام الدولية أو الإشراف والرقابة الدولية.
2) التخوف من الخضوع للإشراف الدولي فيما يتعلق بالأحكام والنصوص الواردة بالعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية مثلما هو الحال بالنسبة للمادة السادسة عشرة منه – الفقرة الأولى – والتي تنص على أن "تتعهد الدول الأطراف في الاتفاقية الحالية بأن تضع، تمشياً مع هذا القسم من الاتفاقية، تقارير عن الإجراءات التي تبنتها والتقدم الذي أحرزته في تحقيق مراعاة الحقوق المقررة في هذه الاتفاقية". ولعل هذا يفسر لماذا لم توقع سوى ثلاث عشرة دولة عربية فقط على العهدين الدوليين للحقوق السياسية والمدنية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية حتى نهاية القرن العشرين رغم صدورهما عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1966.(51)
خاتمة:-
أوضحت الدراسة كيف أن الغالبية العظمى من الدساتير المعاصرة في الدول العربية قد أكدت على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لمواطنيها، ونصت عليها على نحو واضح وصريح يتفق إلى حد بعيد مع ما جاء في المواثيق والإعلانات والعهود والاتفاقيات الدولية، وكذا دساتير البلدان المتقدمة بهذا الخصوص. كما بينت كيف أن معظمها لم يقصر في النص صراحة على الضمانات التي تكفل احترام هذه الحقوق.
بيد أنه رغم كل ذلك، فإن الاحترام الفعلي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات العربية لا يزال موضع جدل وخلاف كبيرين باعتبار أن العبرة ليست بالنصوص الدستورية المتعلقة بهذه الحقوق أو ضماناتها، بل في النية الصادقة والرغبة الأكيدة والحرص الصادق والجهود المخلصة من قبل السلطات القائمة في البلدان العربية على بذل أقصى الجهد لضمان تحقق هذه الحقوق للأفراد على أرض الواقع. فمثل هذه الحقوق تستند أولاً وأخيراً وجوداً وعدماً على مدى التطور الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع. بل يمكن القول بأن الأمر أكثر تعقيداً من ذلك، نظرا لعلاقة التأثير والتأثر بين مختلف الحقوق وبعضها البعض. فإن كان ليس كل تركيب يقود بالضرورة إلى التعقيد، إلا أن علاقة التداخل والتشابك والتركيب بين الحقوق والحريات السياسية والمدنية وبين الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية هي علاقة معقدة يصعب معه القول بأولوية أي منهما على الأخرى. فضلاً عن تداخلهما مع الحقوق والحريات الجماعية كحق تقرير المصير، وعدم شرعية إخضاع أي شعب للسيطرة الأجنبية، وحق كل شعب في اختيار نظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي اختيار حكومته، وحقه في السيطرة على موارده وثرواته الطبيعية. وكذا الحق في السلام، والحق في التنمية، والحق في العيش في بيئة صحية متوازنة. فإذا كان من الصعب تصور حقوق الإنسان إلا في مواجهة الدولة، فكيف يمكن تصور إمكان تحقيق هذه الحقوق وكثير من المجتمعات العربية تفتقر إلى الحقوق الجماعية، بل إن بعضها يفتقر حتى إلى وجود الدولة ذاتها كما هو الحال بالنسبة للفلسطينيين وإلى حد ما الصوماليين. وتزداد الصورة تعقيداً إذا ما ربطنا بين الحقوق والواجبات، الأمر الذي يخلق أعباءاً جديدة لا على الدول وحدها، بل وعلى مواطنيها حتى يتسنى تحقيق هذه الحقوق على أرض الواقع.
غير أنه علينا أن نكون دائما متفائلين، ولا ننسى الدور البارز الذي تلعبه المنظمات غير الحكومية في هذا الصدد مثل المنظمة العربية لحقوق الانسان، واتحاد المحامين العرب، واللجان الوطنية لحقوق الإنسان مثل اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في مصر واللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في قطر، والاهتمام الواسع النطاق الذي تبديه بقضايا حقوق الإنسان بصفة عامة، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية بصفة خاصة في المجتمعات العربية، والذي لاشك سوف يؤتي ثماره مع الوقت. بيد أن مثل هذه المنظمات مطالبة ببذل المزيد من الجهد، وعلينا جميعا أن نقدم لها مزيدا من الدعم والتشجيع. ولا ننسى أن ما تحقق من احترام للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ولحقوق الإنسان بصفة عامة في المجتمعات المتقدمة لم يتحقق بين عشية وضحاها، بل جاء بعد جهد ومعاناة كبيرين.