أيها الإخوة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أقدّم لكم اليوم بحثًا رائقًا كتبه الأستاذ الكبير ـ مفخرة بلاد الشام وبلاد المغرب ـ
البروفسور محمّد مكّي الحسني الجزائري
حفيد الأمير عبد القادر الجزائري
وُلِد في دمشق عام 1351هـ =1932م ، ونال شهادة الدكتوراه في الفيزياء النووية والرياضيات سنة 1965م (وهو أوّل جزائري ومغربي وأول دمشقي وشامي يحصل على هذا التخصص العالي)
وكان رئيسًا لقسم الفيزياء في جامعة دمشق. وفي سنة 1975م سافر إلى العاصمة الجزائر ليكون أستاذًا في الشعبة المعرَّبة من قسم الفيزياء في جامعة (باب الزُوَّار) [وتسمى اليوم جامعة هواري بو مدين] وبقي فيها حتى سنة 1978م.
وهو مؤسس هيئة الطاقة الذرية في سورية وممثل سورية في الوكالة العامة للطاقة الذرية (بفينا)
واليوم هو الأمين العام لمجمع اللغة العربية بدمشق (المسؤول عن المَجْمَع والمكتبة الظاهرية والمدرسة العادلية). وله عدّة مناصب ووظائف أخرى .
وقريبًا إن شاء الله سيصدر كتاب كامل يتناول سيرة حياة هذا العالم الكبير ، وفيه بيان نسبه وتراجم آبائه وأجداده (وهم من علماء الجزائر) ، وتفاصيل حياته العلمية ، وغير ذلك فلا أطيل عليكم في الحديث عنه الآن.
هذا البحث قدّمه الدكتور مكّي في إطار محاضرة ألقاها في أحد المعاهد الشرعية في سورية.
في بداية الصيف الفائت . وأدعكم الآن مع البحث.
بسم الله الرحمن الرحيم
جهود الأمير عبد القادر الجزائري في نشر علوم الحديث وبعثها مجدَّدًا
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبا ، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد ،كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد . وبعد:
فإنّ من فضل الله على أمّة الإسلام أنه يهيئ لها من يجدد لها أمر دينها كلما ابتعدت عن روحه ، واندرست معالمه الأصلية عندها. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها)) [رواه أبو داود]
والمراد من التجديد الوارد في الحديث : إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة ، والأمرُ بمقتضاهما ، وإماتة ما ظهر من البدع والمحدثات . وفي العصر الواحد يوجد أكثر من مجدد على ما ذكره العلماء.([1])
وحديثي إليكم اليوم إنما هو عن رجل كبير ومشهور، كان له دور كبير في إحياء وتجديد فريضة الجهاد ورفع رايتها ، إضافة إلى أعمال كثيرة قام بها فاشتُهر بها. ولكنْ هناك عمل هام جدًّا قام به هذا الرجل ضمن أعمال التجديد ، ألا وهو بعثُ علوم الحديث النبوي الشريف ونشرُها ، والحثُّ على العمل بها ، والسعيُ في القضاءِ على البدع ، ونبذِ التقليد الأعمى الممقوت! هذا الرجل هو الأمير عبد القادر الجزائري ابن محيي الدين الحسني الإدريسي.
وعندما نقول : إنّ الأمير عبد القادر سعى في القضاء على البدع ونبذ التقليد وبعث علوم الحديث ؛ يجب علينا أن نفهم مدلولات هذا الكلام في عصر الأمير ، لا أن نفسرها وفقًا لمفهومها واتساع مدلولاتها في عصرنا اليوم! ومع أنّ هناك تفاوتًا في اتساع المدلول فإنّ الغاية واحدة ، والأمير بدأ بالخطوة الأولى.
هاجر السيد إدريس بنُ عبد الله المحض بنِ الحسن المثنى ، ابنِ الحسن بنِ عليٍّ رضي الله عنهما، إلى المغرب الأقصى فرارًا من سيوف العباسيين ، الذين استَنفروا للقضاء على رجالات آل البيت النبوي من أبناء الحسن والحسين رضي الله عنهما.
فلما وصل المغربَ التفَّت حوله القبائل وبايعوه إمامًا عليهم ، وبعد مقتَلِه سنة (177هـ) بايعوا ولده إدريس الأصغر[الذي توفي سنة (213هـ)] ، ومن بعده أولاده ، وقامت للأدارسة دولة في المغرب ودولة في الأندلس دامت حتى سنة 459هـ. ومع أن دولتهم قد زالت فإن مقام الأسرة الإدريسية في المغرب بقي محفوظًا ، وذلك لشرف نسبهم وعلوه. ولمّا هاجمت الجيوش الفرنسية السواحل الجزائرية تمهيدًا لاحتلالها سنة (1245هـ =1830م)، التفّت القبائل حول أشهر شخصيّة إدريسية في ذلك الوقت ألا وهو السيد محيي الدين بن مصطفى الحسني ، الذي قاد المجاهدين لصد الغزاة مدة عامين ، ثم طلبوا منه أن يقبل بيعتهم ، فاعتذر ، فطلبوا منه أن يبايعوا ابنه عبد القادر فكان ذلك ، وبويع السيد عبد القادر أميرًا للبلاد ، وأسس دولة الجزائر وقاد الجهاد مدّة خمسة عشر عامًا في مواجهة أعتى دولة في ذلك الوقت ، أعني فرنسا.
ولِد الأمير عبد القادر في الجزائر (23 رجب 1222هـ = 26/9/ 1807م)، وتلقى العلوم الشرعية ، وحفظ القرآن واستظهره صغيرًا ، وتلقى علوم الحديث وأشهرَ كتبه بأسانيدها عن أبيه وأشياخه ، وفي سنة 1241هـ توجّه مع والده السيد محيي الدين لأداء فريضة الحج ، وله من العمر 19 عامًا ، وبعد أداء فريضة الحج توجها إلى دمشق وأقاما بها شهورا ، وسمِعَ فيها السيدُ محيي الدين وابنه عبد القادر على محدِّث الديار الشامية الشيخ عبد الرحمن الكزبري (1184- 1262 هـ= 1771- 1846م) بعضَ صحيح البخاري بمسجد بني أميّة ، وأجازهما بسنده في رواية صحيح البخاري ، ثمّ رجعا إلى الوطن.
إذن فالأمير درس الفقه والحديث : فدرس موطأ الإمام مالك وصحيح البخاري ومسلم ، كما تلقى ألفية ابن مالك بشرح المَكُّودي([2]) ، والسنوسية بشرح المصنف نفسه ، والعقائد النسفية في التوحيد ، وايساغوجي([3]) في المنطق للفناري ، والإتقان في علوم القرآن للسيوطي ، وقرأ أعمال أفلاطون ، وفيثاغورث ، وأرسطو ، ودرس كتابات مشاهير المؤلفين من عهود الخلافة العربية، في التاريخ القديم والحديث ، وفي الفلسفة ، واللغة، والفلك ، والجغرافية، بل حتى في الطب ، وقد تجمّعت لديه مكتبة ضخمة.
بعد ذلك قام بتدريس معظم هذه العلوم ، واستمر على ذلك إلى وفاته. فكان يدرّس كتاب الإتقان في علوم القرآن في المدرسة الجقمقية([4]) . وفي شهر رمضان من سنة 1275هـ اعتكف في الجامع الأموي ، وأقرأ كتاب (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) للقاضي عياض المالكي ، والرسالة لابن أبي زيد القيرواني في الفقه المالكي، ودرّس عدة مرات صحيح البخاري وصحيح مسلم في دار الحديث الأشرفية . هذا إضافةً إلى الدروس التي كان يعقدها في داره.
وكان يجتمع به كبار الشيوخ في دمشق ليحلّ لهم بعض ما أشكل عليهم من عبارات كبار فلاسفة التصوف ، وكان الأمير يحاول دائمًا أن يوجّهها بما يتفق مع الشريعة، ويزيل اللبس الواقع بسببها.
لقد نشأ الأمير نشأة علمية وأخذ العلم عن أهله ، واستكمل فنون العلوم ، واعتنى بالتحصيل عناية شديدة ؛ حتى تفوّق بالأدب والفقه والتوحيد والحكمة العقليّة ؛ وكان يحفظ أكثر صحيح البخاري عن ظهر قلب ، ويُقرئه لمريديه ، ويُجيزهم بقراءته حتى آخر أيام حياته . وكان مع ذلك لا يهمل المثاقفة بالسلاح وركوب الخيل بحيث نبغ عالماً فاضلاً من جهةٍ ، وفارساً ثَقِفًا من جهةٍ ثانية ، فجمع بين السيف والقلم .
وإننا نلمس سعة علم الأمير واهتمامه بالدليل والأثر في مؤلفاته ورسائله، فمن تلك المؤلفات:
1ـ كتابه (حسام الدين لقطع شبه المرتدين). وهو مطبوع ، حشد فيه الأدلة المانعة من موالاة الكفار أو الإدلاء إليهم بأي معونة ، واستند إلى فتاوى الفقهاء ، وبخاصة المالكية ، وذلك ليرد على بعض الشيوخ الذين استأجرتهم فرنسا ليروجوا بين الناس جواز النزول تحت حكم الفرنسيين، وعدم جواز الانضمام إلى دولة الأمير التي تجاهدهم.
2ـ وكتابه (المقراض الحاد لقطع لسان منتقص الإسلام بالباطل والإلحاد) .وهو مطبوع ، وقد ألّفه عندما كان محتجزًا في قلعة إمبواز بفرنسا حيث سجنته الحكومة الفرنسية الغادرة. وسبب التأليف أنّ بعض الحكّام الأوربيين أو بعض الضباط الأمراء، انتقص من دين الإسلام أمام الأمير. فأسرع الأمير ووضع ذلك الكتاب من حِفْظه يردُّ فيه على ذلك المتنقِّص، والكتاب فيه حشد كبير للأحاديث النبوية مع ذكر رواتها، وكذلك فيه قدر كبير من فتاوى العلماء وأقوالهم مع ذكر كتبهم التي أوردوا فيها تلك الفتاوى .
3ـ كتابه (ذكرى العاقل وتنبيه الغافل). وهو مطبوع، وهو كتاب وجهه الأمير عبد القادر إلى علماء فرنسة يدعوهم فيها إلى الإسلام ؛ وقد بدأه بالكلام على ضرورة إعمال النظر وترك التقليد، ثم بيّن فضل العلم والعلماء ، وبيان انقسام العلم إلى محمود ومذموم ، ثم بيّن فضل العلم الشرعي ، وتحدث عن ضرورة إثبات النبوة التي هي منبع العلوم الشرعية ، وتحدث عن قصور المكذبين للأنبياء ، وبرهن لهم أن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم الأنبياء ، ثم تحدث عن الكتابة وضرورة التصنيف.
4ـ كتابه (وشاح الكتائب وزيّ الجندي المحمّدي الغالب). مطبوع [وهو كتيّب يشتمل على الأحكام والقوانين الخاصة بجيش الأمير ودولته وفيه بعض القصائد الحماسية؛ خطّه كاتب الأمير "قَدُّور بن رويلة" بإشرافه]
5ـ (مجموعةالمراسلات الفقهيّة بين الأمير وعلماء عصره). مطبوعة، وفيها يظهر مدى عناية الأمير بجمع الفتاوى وآراء العلماء، وعدم اكتفائه بما عنده أو بين يديه .
6ـ (أجوبة الأمير عن أسئلة وجهها إليه علماء معاصرون له). مطبوعة وفيها يظهر بوضوح مدى سعة اطلاع الأمير ، ومدى استيعابه للعلوم بحيث يستطيع حل مشكلها ، وفتح مستغلقها.
7ـ ولا بد من التنبيه على أمر مهم ، وهو أنّ الأمير كان شاعرًا مرهف الإحساس ، له الكثير من القصائد، والأشعار، جمعها ولده الأمير محمد باشا في كتاب (نزهة الخاطر في قريض الأمير عبد القادر).
8ـ ويُنسب للأمير كتاب (المواقف) وهو كتاب في فلسفة التصوف وحل بعض الإشكالات الواردة في كلام الشيخ محيي الدين بن عربي. ويرى المحققون أنّ هذا الكتاب ليس من تأليفه وإنما هو كتاب جمع فيه الشيخ محمد الخاني مسائلَ سمعها من الأمير أو أسئلةً أجاب عنها الأمير، مع مسائل لآخرين ، وأقوالاً لمتقدمين أو متأخرين ، وأشعارًا لبعض الصوفية ، فخرجت ضمن سفر يقع في ثلاث مجلدات، ونَسَبه إلى الأمير تعظيمًا له في ظنه!
وبعد انتهاء دولة الأمير في الجزائر ـ بسبب الخيانات وتواطؤ حكام المغرب وتونس مع فرنساـ انتقل إلى "بروسة" في تركيا ، حيث كان في ضيافة السلطان عبد المجيد خان، وبقصره في بروسة زاره الشيخ يوسف البيباني المراكشي، الذي اشتُهر في دمشق باسم الشيخ يوسف المغربي، وهو والد الشيخ بدر الدين الحسني!
كان الشيخ يوسف قدم إلى دمشق من المغرب ، فرأى أنّ بعض الأروام القاطنين في دمشق الشام استولى على الدار التابعة لدار الحديث الأشرفية الواقعة في العصرونية ثم ضم إليها الزاوية الغربية من المدرسة المذكورة ، فتألم الشيخ يوسف ورفع الأمر إلى والي دمشق وطالب بإعادة المحل لحاله، فلم تلتفت الحكومة إلى دعواه، فتوجه الشيخ إلى الآستانة وتعاطى أسبابًا كثيرة لإنقاذ هذا المحل من أيدي الرومي، إلى أن استحصل فرمانًا سلطانيًا في ذلك، فعاد إلى الشام وقدمه إلى الوالي فطرحه في زوايا الإهمال، وبقي الأمر على ذلك، ولم تثمر محاولات الشيخ. وجرت بينه وبين بعض مشايخ دمشق خصومات لهذا السبب وهجاهم بقصائد([5]) ، ثم جمع رَحْلَه وسافر إلى المدينة المنوّرة واستقرّ فيها. وهناك تذكّر الأمير عبد القادر الذي اجتمع به وزاره في قصره ببروسة وشكا إليه حال دار الحديث، فكتب إليه يخبره بالأمر لما وجد فيه من حب الخير والغيرة على الدين.
ودار الحديث الأشرفية بناها الملك الأشرف موسى ابن الملك العادل. وتقع هذه الدار إلى الشرق من قلعة دمشق في سوق العصرونية، وافتُتحت سنة 630هـ، وأوّل من درّس بها الحافظُ أبو عمرو ابن الصلاح الكردي الشهرزوري، وتولّى التدريس بعده أساطين علم الحديث : الإمام أبوشامة المقدسي ثُم الإمام النووي ثم الحافظ المِزّي ثم العماد ابن كثير وغيرُهم ، وحاضر فيها الحافظ ابن حجر العسقلاني، وبقي فيها تدريسٌ بعد الألف ومئة.([6])
ثمّ حلّ بها البلاء . فضعف نشاطها وتحولت غرفها إلى مساكن لبعض الشيوخ . إلاّ أنّ البلاء الأكبر كان عندما استولى أحد النصارى الأجانب (الأروام) المقيمين في دمشق واسمه (يانكو) على الدار التابعة لدار الحديث ، ثمّ ضمّ إليها الزاوية الغربية من المدرسة التي كانت محلّ تدريس الإمام النووي رحمه الله ومحل روايته للأحاديث النبوية الشريفة وقاعة التدريس. فصارت حانةً ومحلاً لوضع براميل الخمر([7]) . على مرأى ومشهد من الجميع!!
وبعد مدّة انتقلت إقامة الأمير عبد القادر من بروسة إلى دمشق. وما إن وصلها واستقرَّ فيها حتى ذهب يتقصّى أحوال دار الحديث الأشرفية ، فإذا به يجد الأمر كما وصفه له الشيخ يوسف المغربي فأخذته الحمية الإسلامية وغيرته الإدريسية الحسنية لإنقاذ هذه المدرسة . فأحضر ذلك الرومي ودفع له مالاً جزيلاً واشترى منه المحلَّين .
ثم أمر الأمير بإصلاح الدار غرب المدرسة ومنحها للشيخ يوسف المغربي ثم أوقفها عليه وعلى عقبه وإذا انقطع نسلهم يرجع ريعها للمدرسة . وكان ذلك في الثاني من جمادى الأولى سنة 1272هـ = التاسع من كانون الثاني سنة 1856م وكان مضى على قدوم الأمير إلى دمشق أقل من شهر!
ثم أضاف الزاوية الغربية المغتَصبة إلى المدرسة وأمر بترميم الكل بنفقته أيضًا وجعل فيها مسجدا. وبذلك جعل اللهُ إنقاذ دار الحديث وتطهيرها من الخمر ورجسه على يد الأمير عبد القادر الجزائري، وهذه من أعظم المبرّات.
ثمّ أرسل الأمير خبرًا إلى الشيخ يوسف المغربي فحضر من المدينة المنورة وسكن في الدار وتسلّم المدرسة([8]).
وفي أول يوم من رجب سنة 1274هـ افتتح الأمير فيها التدريس بصحيح البخاري روايةً ، وكان يجلس لإقرائه من بعد صلاة الظهر إلى أن يصلي العصر ، وكان درسًا حافلاً مفيدًا يحضره العلماء والأذكياء من الطلبة ، وكان ختامه في الرابع والعشرين من شوال سنة 1274هـ الموافق السادس من حَزيران سنة 1858م ، وحصل الحضور على إجازة من الأمير برواية صحيح البخاري بسنده. ومنهم الشيخ يوسف المغربي الذي أنشد بين يدي الأمير أبياتًا منها :
بك المسرّاتُ قد نالت أمانيها ***** يـا نعمة مالها شيء يدانيها
إن كان عيدًا لها تَهْنا بموسمه ***** فالعيد كونُك يا أقصى أمانيها
يا نجلَ فاطمةَ الزهراء مَن فَضَلَتْ ***** طُرًا نساء الدُّنا مَن ذا يضاهيها
إني أهنيك بالعيد المبـارك بل ***** بكون مثلك في الدنيا أهنيها
نعم أهني دمشقَ الشامَ إذ ظفرت ***** بمثلك الآن تغدو في ضواحيها
لمَّا بدا وجهك الأبهى بساحتها***** ترادف الخير فيها مع نواحيها
لا سيما سيدي ما كان مدَّخَرًا ***** مِن فكِّ دار الحديث مِن خَنًا فيها
بك استنارت وأحيا الله مربعها ***** لمّا تَلَوْتَ البخاري وسط ناديها
تلاوةً مـا سمعنا من تلاه بها ***** من عهد يحيى النواوِيْ في مغانيها
فاشكُرْ إلهك إذْ أولاك منه يدًا ***** ليس لغيرك جَلَّ الله معطيها
وابْشِرْ بخيرٍ فإن الله ذو كرم ***** يخفي مقاديرَ أشياءٍ ويبديها
والله ينصركم نصرًا كنُصرته ***** أصحابَ بَدْرِ الأُلى ثم المُضاهيها
لا زلت يا نجلَ محيي الدين مرتقيًا ***** أوج الكمالات باديها وخافيها([9])
ـ وهكذا افتتح الأمير عبد القادر إقامته في دمشق باسترداد دار الحديث ، ثم برواية صحيح البخاري فيها ثم صحيح مسلم وموطأ الإمام مالك. وكان من ثمرات ذلك أن عاد إلى علوم الحديث بهاؤها ومكانتها، فبدأ أهل العلم في دمشق يوجهون أنظارهم إلى تلك العلوم ويسعون لإعادة الاهتمام بها.
وما زال الأمير عبد القادر يروي صحيح البخاري وكتب الحديث الأخرى ويجيز بها إلى أن توفّاه الله تعالى . حتى إنه لم ينقطع عن روايته وتدريسه مدة سَجنه خمس سنوات في فرنسا!
واستمرّ الشيخ يوسف بالتدريس في دار الحديث ، وتسلّم التدريس بعده ولده الشيخ بدر الدين الحسني ، وكان الأمير قد رتّب له أيضًا مرتبًا شهريًا.
إلاّ أنّ أبناء الشيخ بدر الدين باعوا الدار التابعة لمدرسة الحديث ، التي أوقفها الأمير على جدهم واشترط عودتها إلى المدرسة إذا انقطعت ذريته ، وهذا تصرّف في الوقف لا يجوز!
على كل حال ذهبت تلك الدار. ولكن بقيت المدرسة ، فرحم الله من أوقفها ورحم الله الأمير الذي استرجعها ورممها من ماله وأعاد وقفها.
لقد كان من منهج الأمير عبد القادر إعمال العقل والتفكّر ونبذ التقليد الأعمى ، وكانت له مقولة يكثر من ترديدها ، ويسطِّرها في معظم مؤلفاته ، وهي قوله : ((إن بهيمة تُقَاد أفضل من مقلد يَنْقَاد))([10])، والأمير كان صوفيًا حال معظم الناس في ذلك العصر ، إلاّ أنه أخذ من التصوف لبّه وخيره ، ونبذ قشوره وبدعه . لقد تلقى الوِرْدَ القادري (نسبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني) ولكنه لم يُسَمِّ نفسه شيخًا للطريقة القادرية، وإنما كان يحض على الذكر والتدبر، وكان إذا طلب منه أحد الأشخاص أن يجيزه بسنده في الورد القادري فعل، ولكنه كان ينبّهه على أمر مهم وهو أنّ ذلك لا ينجيه عند الله إذا لم يكن صادقًا في التوجه إلى الله بالذكر والعبادة ، وما تلك الإجازة إلاّ رجاء بركة السلف الذين مضوا عليها.
وكان الأمير عبد القادر يتفنن في الاستشهاد بمواقف السلف والرجوع إلى الكتاب والسنة فيما لم يعرفه أو تردد فيه من أحكام شرعية طارئة بسبب الحرب([11]).
لقد كان الأمير منذ أيام الجهاد يمنع التدخين في الجيش ولعب الورق والغناء ، والغناء هنا ليس مقصورًا على الغناء المعروف ، وإنما يتعداه إلى ما يسمى بالغناء الديني (الإنشاد) فكان الأمير ينهى عنه ويمنعه ، وله ولإخوته رسائل في ذلك يعتمدون فيها على فتاوى الأئمة المالكية وغيرهم . وحتى عندما كان يحتفل الأمير بالمولد النبوي الشريف فإنه لم يكن يحتفل بالأغاني والحضرات وإنما كان يجري استعراضًا عسكريًا أمام الناس ، أو يأمر قطعات من الجيش بتمثيل معركة أمام الناس.
وتخرّج على يدي الأمير عدد من العلماء تأثروا به وبمنهجه واستمروا على ذلك النهج وطوّروه واتسعوا فيه منهم : الشيخ طاهر الجزائري ابن الشيخ صالح السمعوني (1268-1338هـ = 1852-1920م) وهو بحّاثة من أكابر العلماء باللغة والأدب في عصره .كان كَلِفًا باقتناء المخطوطات والبحث عنها ، فساعد على إنشاء (دار الكتب الظاهرية) في دمشق ، وجمع فيها ما تفرق في الخزائن العامة ، وساعد على إنشاء (المكتبة الخالدية) في القدس . وهو من أعضاء المجمع العلمي العربي ، وسمي مديرًا لدار الكتب الظاهرية . كان يحسن أكثر اللغات الشرقية كالعبرية والسريانية والحبشية والزواوية والتركية والفارسية. وله نحو عشرين مصنفًا، منها (الجواهر الكلامية في العقائد الاسلامية - ط) و(التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن - ط) و(توجيه النظر إلى علم الأثر - ط) و(تفسير القرآن - خ) في أربعة مجلدات، و (الإلمام - خ) في السيرة النبوية. ومِنْ أَجَلِّ آثاره (التذكرة الظاهرية - خ) وهي مجموعة كبيرة في موضوعات مختلفة.
درس الشيخ طاهر على الأمير عبد القادر ، ثم أرشده الأمير إلى ملازمة صاحِبِه الشيخ عبد الغني الغنيمي الميداني([12]) ـ الذي كان لصيقًا بالأمير في حلِّه وترحاله ، وكان الأمير يخصص له ولأولاده مرتبات شهرية ـ وذلك لأنّ الشيخ الغنيمي كان معروفًا بكراهيته للبدع والأوهام والخرافات([13]).
والشيخ طاهر هو رائد النهضة العلمية في بلاد الشام ، فقد سعى في بناء المدارس والاهتمام بالثقافة والعلوم الحديثة من طب وفيزياء ورياضيات و..، وكان اهتمامه الأكبر بنشر العلم الصحيح ، وهو كما ذكرنا مؤسس المكتبة الظاهرية بدمشق حيث جمع نوادر المخطوطات العربية والإسلامية بمساعدة الأمير عبد القادر ، وتخرج على يديه مجموعة من العلماء المصلحين ، من أشهرهم:
1ـ الشيخ محبّ الدين الخطيب (1303ـ1389هـ=1886ـ1969م) مؤسس المطبعة السَّلَفية ومكتبتها ، وهو من مؤسسي جمعية النهضة العربية ، أنشأ وحرر عدة جرائد رصينة ، وأشرف على نشر عدد كبير من كتب التراث ، وهو خال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله ؛ حكم عليه جمال باشا السفاح بالإعدام غيابيًا سنة 1916م ، كما حكم على الأمير عمرَ بنِ الأمير عبد القادر.
2ـ العلاّمة محمد كرد علي : (1293-1372هـ=1876- 1953م) رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق ، ومؤسسه ، وصاحب مجلة (المقتبس) والمؤلفات الكثيرة. وأحد كبار الكتاب. وَلِيَ وزارة المعارف مرتين.
3ـ الشيخ عبد الحميد الزهراوي : (1272- 1334هـ = 1855- 1916م) وهو من زعماء النهضة السياسية في سورية ، وأحد شهداء العرب في ديوان (عاليه). له رسالة (الفقه والتصوف -ط) وكتاب (خديجة أم المؤمنين - ط) .
4ـ العالم البحّاثة رفيق العظم :(1284-1343هـ= 1867-1925م) وهو أيضًا من رجال النهضة الفكرية في سورية . اشترك في كثير من الأعمال والجمعيات الإصلاحية والسياسية والعلمية ، ونشر بحوثًا قيمة في كبريات الصحف والمجلات ، وصنف (أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة - ط) أربعة أجزاء ، ولم يكمل، و(البيان في كيفية انتشار الأديان - ط) و(الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية - ط) و غيرها . ومن مآثره إهداؤه إلى المجمع العلمي العربي في دمشق خزانةَ كتبه وهي نحو ألف مجلد.
5ـ الشيخ محمد سعيد الباني : (1294-1351هـ= 1877-1933م) ،تولى منصب الإفتاء في بعض أقضية دمشق واعتقل في الحرب العامة الأولى وحوكم بديوان الحرب العرفي بعاليه، ثم نفي إلى الأناضول . ألّف في سيرة الشيخ طاهر الجزائري كتابًا سمّاه (تنوير البصائر بسيرة الشيخ طاهر - ط) وله من الكتب المطبوعة (الفرقدان النيران في بعض المباحث المتعلقة بالقرآن) و(عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق) و(المولد النبوي الشريف).
6ـ شكري بك العسلي: (1285-1334هـ= 1868-1916م) من زعماء النهضة العربية الحديثة. وأصدر جريدة (القبس) اليومية ، فلما نشبت الحرب العامة حكم عليه ديوان عاليه بالإعدام، ونفذ فيه الحكم بدمشق. له (القضاة والنواب- ط) رسالة، و(الخراج في الإسلام- ط) رسالة ، وهو أول من برهن في مجلس النواب العثماني على استفحال أمر الصهيونيين، وأبرز (طوابع) كانوا يستعملونها في بريدهم.
هؤلاء بعض تلامذة الشيخ طاهر تلميذ الأمير عبد القادر الجزائري ، وكلّهم أعلام بارزون تابعوا مسيرة شيخهم في النهضة والإصلاح ، وآثارهم إلى اليوم لا تخفى ولهم فضلٌ كبير في نشر العلم الصحيح في بلاد الشام.
يُتبع!!!