في تجربة طريفة . قدم جيمس راندي (الساحر و المختص في كشف الدجل) لعدد من الطلبة اوراقا و اخبرهم ان كل ورقة فيها تحليل و قراءة لشخصية الطالب بناء على معلوماته الشخصية . طلب راندي من كل طالب ان يقرأ محتوى الورقة جيدا , ثم سألهم في النهاية أن يقيموا مدى تطابق ما جاء في التحليل مع شخصياتهم من 1 إلى 5 . و جاء جواب كل الطلبة بين 4 و 5 ... بعد ذلك طلب راندي من كل طالب ان يمرر ورقته للطالب الذي امامه و القراءة مرة اخرى , ليكتشف الطلبة انها نفس الورقة ... في الواقع لم يكن هناك اي تحليل لشخصيات الطلبة , بل كل ما فعله راندي هو تقديم نسخ من ورقة واحدة للجميع . لكن الطلبة اعتقدوا ان الورقة تصف شخصياتهم بشكل دقيق . و هذه التجربة البسيطة كانت تهدف إلى إظهار مدى سهولة خداع الناس بالإيحاء , فالناس يميلون إلى تصديق ما يريدون تصديقه . و هذه النزعة عامة في كل البشر بدرجات متفاوتة .
روايات شهود العيان : تثبت العديد من الحالات و الدراسات النفسية ان رواية شهود العيان تكون عادة غير دقيقة إذا احتوت الكثير من التفاصيل , و في كثير من الجرائم جاءت روايات الشهود مناقضة لحقيقة ما حدث فعلا , بل حدث في حالة اجمع فيها كل الشهود ان المجرم كان يرتدي لباسا عسكريا في حين أن تسجيلات الفيديو اثبتت بعد ذلك انه كان يرتدي لباسا رياضيا عاديا . لذلك يهتم علماء النفس بدراسة سيكولوجية شهود العيان و دراسة العوامل التي تجعل الناس يروون امورا لم تحدث و هم متأكدين من حدوثها و لمعرفة لماذا تأتي بعض الشهادات مع كثير من المبالغة و الإثارة . من الملاحظ أيضا ان الكثير من الناس يلتقط و يعيد إنتاج تلك الروايات و يعيد روايتها بتفاصيل اكثر و بدرجة كبيرة من الوثوقية , اي ان الحبة تصبح بالفعل قبة بسبب مجموعة من الميكانيزمات النفسية ...
ما تثبته الدراسات أيضا هو ان الذاكرة تضعف بشكل كبير و سريع في الساعات الاولى لوقوع الحدث , و ان الدماغ يقفد اكثر من نصف المعلومات في اليوم الاول و لذا فان ميل الشخص لمحاولة تذكر الحدث بتفاصيله بعد ذلك يؤدي إلى ملأ الذاكرة بتفاصيل غير دقيقة و متوهمة . لهذا يؤكد العلماء ان افضل وسيلة لتوثيق الحدث هي كتابة ما نراه فور حدوثه ... و هذا ما يفسر النتائج التي توصلت لها الدراسات الإحصائية من ان الافراد الذين يتحدثون اكثر عن ما شهدوه من احداث تكون روايتهم عادة أقل دقة من روايات الاشخاص الذين لا يتحدثون كثيرا ...
هناك ايضا ملاحظة عامة و هي أنه في حياتنا اليومية نجد في كثير من الحالات اشخاصا يصرون على تأكيد امور لا وجود لها (معلومات عامة , نتائج مباريات , تواريخ , احداث) و قد يدخلون في مراهنات بسبب اقتناعهم الشديد بصحة ما يتذكرونه ... و قد يكون ذلك نتيجة نوع من الذاكرة الكاذبة و أو سببا بين خلطنا بين الواقع و الامنيات ...
الواقع و الاماني : كثير من الناس يخلط بين الواقع والامنيات . هذا النوع من التفكير يطلق عليه مصطلح "التفكير الرغبي" wishful thinking , و التفكير الرغبي هو ان نتصور أو نعتقد او نتخذ القرار بناء على ما نرغب به و ليس بناء على المنطق و الادلة و الواقع , و مثال ذلك ان يدخل الإنسان في مشروع دون الوعي بالعوائق التي قد تواجهه , لذا فهو لا يضع حسابا لما قد يواجهه من صعوبات و يبني تصوره للمشروع على امنيات و رغبات ... و التفكير الرغبي لا يساهم فقط في تشكيل الكثير من الآراء و المواقف السياسية , بل يجعلنا احينا نرى الواقع بطريقة غير موضوعية , و هذا السبب وراء دخول اتباع الإيديولوجيات المتطرفة في مشاريع وهمية لتغيير العالم بسبب انفصامهم الجزئي او الكلي عن الواقع ... و ربما هذا احد اسباب ان كثير من الناس يعتقدون انهم ينتمون إلى شعب عظيم و فريد و مميز ... و التفكير الرغبي هو احد انواع الانحيازات التأكيدية و التي تجعل الإنسان احيانا يفرط في ثقته بصحة ما يعتقد .
الإنحياز التاكيدي : و هو يتعلق بميل الناس إلى تفضيل المعلومات التي تؤكد افكارهم و معتقداتهم و تصوراتهم و احكامهم . لكن الإنحياز التأكيدي لا يتعلق فقط بالتعامل مع الافكار و المعلومات التي نتلقاها و بل يؤثر أيضا على طريقة تذكرنا للاحداث ... على سبيل المثال قد يقرأ شخص مقالا يعرض لوجهتي نظر مختلفتين لكنه سيميل إلى تذكر حجج الطرف الذي يتفق معه في البداية , و نفس الشيء يحدث عند مشاهدة المناظرات و النقاشات و الحوارات التي تعرض لوجهات نظر متعارضة . لكن المثال الاكثر شيوعا هو ربما الذاكرة الإنتقائية لمشجعي كرة القدم و التي تجعل معظمهم يتذكرون احداث المباريا ت و تفاصيلها بشكل انحيازي ... و جميعنا نقع ضحية لهذا الانحياز التأكيدي بدرجات متفاوتة, سواء تعلق الامر بكرة القدم او بالافكارو التصورات و المعتقدات . و تعليقاتنا في هذا المنتدى يمكن ان تكون ايضا احد الامثلة على ذلك ...
إن ما نعتقده حول انفسنا أو ما نتذكره لا يعكس بالضرورة حقيقة الأمور. بل قد يكون في بعض الاحيان نتيجة انحيازاتنا الـتأكيدية و رغباتنا و احلامنا و معتقداتنا و احكامنا المسبقة أو نتيجة تلاعب البعض بنا عن طريق الإيحاء و غير ذلك من الطرق او قد يكون بسبب التعب و الإرهاق و عوامل اخرى كثيرة ... لكن السبب الأول له ان الآليات النفسية للإنسان تؤهله ليكون كائنا مخادعا لنفسه بامتياز ... لذا لعل معرفة و فهم بعض تلك الآليات قد يساعدنا على التفكير الموضوعي و التقليل من خداعنا لأنفسنا