المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : *«•¨*•.¸¸.»منتدى طلبة اللغة العربية و آدابها «•¨*•.¸¸.»*


الصفحات : [1] 2

**د لا ل**
2012-02-08, 16:06
http://www.al-wed.com/pic-vb/118.gif السلام عليكم ورحمة الله وبركاته http://www.al-wed.com/pic-vb/118.gif

http://www.al-wed.com/pic-vb/123.gif

سيكون هنا بحول الله كلُّ ما يخص طلبة اللُّغةِ العربيةِ وآدابهَا بكِلاَ نِظاميها *كلاسيك *و*آل م د* واضافة لطلبة الدراسات العليا

سنحاول معا باذن الله ان نساعد بعضنا ونحاول تجميع اكبر قدر من الكتب والمقالات والبحوث والدراسات النقدية ومذكرات التخرج ورسائل الماجستير والدكتوراه الخاصة بالأدب العربي ومقايسه

وللجميع مطلق الحرية في اضافة اي موضوع خاص بمجالنا

والله المستعان

شكرااااااااا

http://www.al-wed.com/pic-vb/16.gif

http://files.fatakat.com/2010/1/1264969624.gif

**د لا ل**
2012-02-11, 13:44
مراجع عن الشعر الجاهلي
الشعر الجاهلي


ما هو الشعرالجاهلي ؟!
الشعر عند العرب هو الأثر العظيم الذي حفظ لنا حياة العرب في جاهليتهم، وإذا كانت الأمم الأخرى تخلد مآثرها بالبنيان والحصون فإن العرب يعولون على الشعر في حفظ تلك المآثر ونقلها إلى الأجيال القادمة. يقول ابن سلام: "وكان الشعر في الجَاهلية عند العرب ديوان علمهم ومنتهى حكمهم به يأخذون وإليه يصيرون" [1]. فالشعر عند العرب له منزلة عظيمة تفوق منزلة تلك الأبنية .
وقد احببت ان اكتب عن الشعر الجاهلي لأن في حياتنا المعاصرة ندرك الكثير من وسائل الاعلام و اصبحنا ندرك خطرها فقد تحولت لاداة ضغط،و تشويه مختلفة عن تلك التي شهدت نهضة واضحة في خضم تفاعل لغتنا العربية و مبدعينا العرب، حيث كان الشعر هو الواجهة العربية التي تبرز قوة وشجاعة و نبل أخلاقنا العربية تمثلت بابداع شعرائنا في العصر الجاهلي، و مما زاد في ازدهار لغتنا الغناء في تلك الفترة ان الكلمة كانت هي الطريقة الاولى للاعلام ، وتواجد الكثير من الشعراء المبدعين ، حيث كان الشعر في العصر الجاهلي يعطي الصورة الادق و الاجمل و قادر على الوصول بسهولة و يسر إلى مبتغاه .ولكننا نرى الآن بعض من التخاذل عن هذا الشعر الرائع وقد اكدت الآية الكريمة ما آل إليه الشعر قال تعالى :
" والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون "[2]

أما بعد ؛ فإني أرغب بتقديم تقريري هذا راجية من الله ان اوفي حق الشعر والشعراء
وقد أردت أن أعرض فيه كل من : قيمة الشعر الجاهلي ، خصائص الشعر الجاهلي ، النثر الجاهلي ، أسلوب الشعر الجاهلي ، أغراض الشعر الجاهلي ، من أبرز شعراء العصر الجاهلي.
الموضوع :
قيمة الشعر الجاهلي:
1- القيمة الفنية: وتشمل المعاني والعاطفة والموسيقى الشعرية ، حيث نظم الشاعر الجاهلي اكثر شعره على اوزان طويلة التفاعيل .
2- القيمة التاريخية: كان الشعر وسيلة نقل معاناة الناس وشكواها الى السلطة ، فالشعر الجاهلي يعتبر وثيقة تاريخية بما يخص احوال الجزيرة واحوال العرب الاجتماعية .
خصائص الشعر الجاهلي:
_1 الصدق: كان الشاعر يعبر عما يشعر به حقيقة مما يختلج في نفسه بالرغم من انه كان فيه المبالغة _2 البساطة: ان الحياة الفطرية والبدوية تجعل الشخصية الانسانية بسيطة ، كذلك كان اثر ذلك على الشعر الجاهلي .
_3ذكر المرأة : جعل الشاعر للمرأة سمو الكواكب وبهاءها، ونضارة النبات وألوانه وأريح العطر، وخصوبة الأرض، وأصبحت المرأة فردوسة فى تلك الصحراء الواسعة وقد صنع الشاعر هذا الفردوس أو العالم الجميل وفق هواه، فجمع فيه بين الجمال والجلال والنفع والمتعة. وقد حاولت الكشف عما وجدته من ظواهر تتصل بهذه الموضوعات في الشعر الجاهلي، وحاولت من ناحية أخرى الكشف عما وراءه هذه الظواهر وهي محاولة محفوفة بالصعوبة، لبعد الشقة بيننا وبين ذلك العصر، ولخصوصية ذلك الشعر وطبيعته التى تجعل من الدراسة نوعاً من الإبحار فى عالم كلما ازددنا معرفة به ازدادت أبعادة عمقاً وتعدداً[3]
_4 القول الجامع: كان البيت الواحد من الشعر يجمع معاني تامة ، فمثلا قالوا في امرئ القيس بقصيدته «قفا نبك‏» انه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في بيت واحد[3] .
_5 الاطالة: كان يحمد الشاعر الجاهلي ان يكون طويل النفس ، اي يطيل القصائد واحيانا كان يخرج عن الموضوع الاساسي ، وهذا يسمى الاستطراد .
_6 الخيال: هو ان اتساع افق الصحراء قد يؤدي الى اتساع خيال الشاعر الجاهلي .
النثر الجاهلي:
النثر هو كلام اختيرت ألفاظه وانتقيت تراكيبه وأحسنت صياغة عباراته بحيث يؤثر في المستمع عن طريق جودة صنعته. فهو يختلف عن الكلام العادي الذي يتكلم به الناس في شؤونهم العادية. وأنواع النثر الجاهلي هي: الخطابة والأمثال والحكم والقصص وسجع الكهان. وسجع الكهان يتصف بقصر جمله وكثرة غريبه والتوازن في عباراته، ويحرص الكاهن على إخفاء كلامه باتباع هذا الأسلوب، والخطابة من أبرز أنواع النثر في العصر الجاهلي، وتتلوها من ناحية الأهمية: الأمثال؛ لسيرورتها بين عامة الناس وخاصتهم .

أسلوب الشعر الجاهلي:
ينتقل الشاعر الجاهلي إلى وصف الطريق الذي يقطعه بما فيه من وحشة، ثم يصف ناقته، وبعد ذلك يصل إلى غرضه من مدح أو غيره، وهذا هو المنهج والأسلوب الذي ينتهجه الجاهليون في معظم قصائدهم ولا يشذ عن ذلك إلا القليل من الشعر.
وإذا أردنا أن نقف على أسلوب الشعر الجاهلي فلابد لنا من النظر في الألفاظ والتراكيب التي يتكون منها ذلك الشعر ، فألفاظ الشعر الجاهلي قوية صلبة في مواقف الحروب والحماسة والمدح والفخر، لينة في مواقف الغزل، فمعظم شعر النابغة الذبياني وعنترة العبسي وعمرو بن كلثوم من النوع الذي يتصف بقوة الألفاظ ،وهناك نوع من الألفاظ يتصف بالعذوبة؛ لأنه خفيف على السمع ومن ذلك قول امرىء القيس:
وما ذَرَفت عيناكِ إلا لِتَضْرِبِي بسَهْميك في أعشار قَلْبٍ مُقَتل

اغراض الشعر الجاهلي:
أغراض الشعر الجاهلي هي الموضوعات التي نظم فيها شعراء الجاهلية شعرهم؛ فإذا كان قصد الشاعر وغرضه من الشعر الاعتزاز بنفسه أو قبيلته فشعره فخر، وإذا كان قصد الشاعر التعبير عن الإعجاب بشخص ما في كرمه أو شجاعته أو غير ذلك فشعره مدح، وإذا كان قصده وغرضه النيل من شخص ما وتحقيره فذلك الهجاء :
)لَيَأتِيَنّـكَ منِّي مَنْـطِقٌ قَـذعٌ باقٍ كما دَنَّسَ القَبْـطِيَّة الوَدكُ(
وإذا كان الشاعر يهدف إلى إظهار الحزن والأسى فذلك الرثاء :
)أَيَّتُهَا النّفْسُ أَجْمـِلِي جَزَعـَا إنّ الذي تَحْذَرين قد وَقَـع(
وإذا حَلَّقَ الشاعر في الخيال فرسم صوراً بديعة فذلك الوصف :
(فلما علا مَتْنَتَيْهِ الغُـلامُ وسَكَّن من آلهِ أن يُطـَارا)
وإذا عَبَّر عن حديثه مع النساء فذلك الشعر هو الغزل :
(أفاطِمُ قبْلَ بَينِكِ مَتَّعـيني ومَنْعُكِ مَا سَألتُ كأن تَبِيني)
وإذا استعطف بشعره أميراً أو غيره فهو الاعتذار:
(ما قُلْتُ من سَيء مِمّا اُتِيْتَ بِه إذاً فَلاَ رَفَعَتْ سَوْطِي إلَيَّ يَدِي(
وإذا نظر في الكون وحياة الناس فتلك الحكمة:
)ومَنْ هَابَ أسْبَابَ المَنَايَا يَنَلْنَهُ ولَوْ رامَ أَسْبَابَ السمَاَءِ بِسُلَّم(
وأغراض الشعر الجاهلي التي نريد بسط القول فيها هي:
" المدح، الهجاء، الرثاء، الفخر، الوصف، الغزل، الاعتذار، الحكمة "
مع أن القصيدة العربية الواحدة تشمل عدداً من الأغراض؛ فهي تبدأ بالغزل ثم يصف الشاعر الصحراء التي قطعها ويتبع ذلك بوصف ناقته، ثم يشرع في الغرض الذي أنشأ القصيدة من أجله من فخر أو حماسة أو مدح أو رثاء أو اعتذار، ويأتي بالحكمة في ثنايا شعره فهو لا يخصص لها جزءاً من القصيدة.
المنتخبات العامة:
لأن هذه المنتخبات هي أقدم وأهم مصادر الشعر الجاهلي ،اسمحوا لي أن أفصل الحديث عنها قليلاً..
المعلقات: يقال بأن أول من رواها مجموعة في ديوان خاص بها هو حمّاد الرواية وهي عنده سبع معلقات .
المفضليات: نسبة للمفضل الضبي أوثق رواة الكوفة، وشرحها بن الأنباري وهي مائة وست وعشرون قصيدة لسبعة وستين شاعراً وهي من أوثق مصادر الشعر الجاهلي.
الأصمعيات: نسبة للأصمعي روايها، وعدد قصائدها مقطعاتها اثنتين وتسعين موزعة على واحد وسبعين شاعراً منهم أربعون جاهلياً، ولم تصل إلينا مشروحة ولم تشتمل على قصائد كاملة وإنما مختارات منها.

إضافة :
ولم يتوقف مبدأ أخذ الشعراء من بعضهم ، على المعاني فقط بل تعدى إلى الالفاظ والابيات والصور الجمالية والمواقف الانسانية ، وقد سجل بعضهم هذه الحقيقة في شعرهم مثل امرؤ القيس قوله :
" عُوجاً على الطَّلل المحُيل لأننا نبكى الديار كما بكى ابنُ خِذامِ "[4]

أبرز شعراء العصر الجاهلي :
امريء القيس بن الحارث الكندي توفي عام 74 قبل الهجر
طرفة بن العبد البكري توفي سنة 70 قبل الهجرة
زهير بن أبي سلمى المزني توفي سنة 14 قبل الهجرة
لبيد بن ربيعة العامري وهو صحابي توفي سنة 40 هـ
عمرو بن كلثوم التغلبي توفي سنة 52 قبل الهجرة
عنترة بن شداد العبسي توفي سنة 22 قبل الهجرة
الحارث بن حلزة اليشكري توفي سنة 52 قبل الهجرة
الأعشى ميمون البكري توفي سنة 7 هـ ولم يسلم
النابغة الذبياني توفي سنة 18 قبل الهجرة
عبيد بن الأبرص الأسدي توفي سنة 17 قبل الهجرة
ــــــــــــــ
[4] ديوان امرؤ القيس (طبع دار الممعارف)

**************************

العصر الجاهلي دراسة وتحليلا



اتفق الناس تسمية على تسمية العصور التي سبقت الإسلام بالعصر الجاهلي وهو في الحقيقة حقبة طويلة من الزمن قد يكون من الممكن تسميتها بالعصور الجاهلية(وليس عصرا واحدا)وسنتحدث عن هذا العصر وعن الشعر متناولة الأدب في تلك الحقبة وخصائص هذا الأدب وقيمته ثم سأعرج على شعراء هذ العصر وبعض من قصائدهم.
وكانت للعرب أسواق تجارية معروفة كسوق عكاظ لها مواسم معروفة يتوافد إليها الشعراء من كل فج ليطرحوا مالديهم من أبيات وقصائد وليستمعوا للقصائد الأجرين وكان يحدث في هذا التجمع الكثير من المسابقات والحوارات الهادفة وكثير مايحدث تحدي بين شاعرين ومباهاه وفخر .

قيمة الشعر الجاهلي:
1- القيمة الفنية: وتشمل المعاني والأخيلة والعاطفة والموسيقى الشعرية ، حيث نظم الشاعر الجاهلي أكثر شعره على أوزان طويلة التفاعيل .
2- القيمة التاريخية: كان الشعر وسيلة نقل معاناة الناس وشكواها إلى السلطة ، فالشعر الجاهلي يعتبر وثيقة تاريخية بما يخص أحوال الجزيرة وأحوال العرب الاجتماعية.
القيمة الفنية: وتشمل المعاني والأخيلة والعاطفة والموسيقى الشعرية ، حيث نظم الشاعر الجاهلي أكثر شعره على أوزان طويلة التفاعيل .

2- القيمة التاريخية: كان الشعر وسيلة نقل معاناة الناس وشكواها الى السلطة ، فالشعر الجاهلي يعتبر وثيقة تاريخية بما يخص احوال الجزيرة واحوال العرب الاجتماعية .

الوزن و القافية:
الوزن: هو التفعيلات الشعرية الموسيقية الرتيبة التي تتكون منها الابيات ، وتسمى البحور الشعرية .

القافية: وهي ما ياتي به الشاعر في نهاية. كل بيت من ابيات القصيدة ، وابرزها الحرف الاخير الذي يختم به البيت وضبطه النطقي


أنواع الشعر
الشعر العمودي والشعر التقليدي: لقد احتفظ بخاصيته التقليدية بالالتزام بنظام الاوزان والقافية .

2- الشعر المرسل: احتفظ بنظام الاوزان في الشعر وتحرر من نظام القافية الموحدة .

3- الشعر الحر: وهو الشعر الذي تحرر من نظام الاوزان والقوافي معا .

طبقات الشعراء:1-

الشعراء الجاهليون: وهم الذين لم يدركوا الاسلام كامرئ القيس .

2- الشعراء المخضرمون: وهم ادركوا الجاهلية والاسلام حسان بن ثابت .

3- الشعراء الاسلاميون: وهم الذين عاشوا في صدر الاسلام وعهد بني امية .

4- الشعراء المولدون او المحدثون: وهم من جاءوا بعد ذاك كبشار بن برد وابي نؤاس




خصائص الشعر الجاهلي:

1- الصدق: كان الشاعر يعبر عما يشعر به حقيقة مما يختلج في نفسه بالرغم من انه كان فيه المبالغة ، مثل قول عمرو بن كلثوم .

2- البساطة: ان الحياة الفطرية والبدوية تجعل الشخصية الانسانية بسيطة ، كذلك كان اثر ذلك على الشعر الجاهلي .

3- القول الجامع: كان البيت الواحد من الشعر يجمع معاني تامة ، فمثلا قالوا في امرئ القيس بقصيدته «قفا نبك‏» انه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في بيت واحد .

4- الاطالة: كان يحمد الشاعر الجاهلي ان يكون طويل النفس ، اي يطيل القصائد واحيانا كان يخرج عن الموضوع الاساسي ، وهذا يسمى الاستطراد .

5- الخيال: هو ان اتساع افق الصحراء قد يؤدي الى اتساع خيال الشاعر الجاهلي .
شكل القصيدة الجاهلية:

تبدأ القصيدة الجاهلية بذكر الأطلال ثم وصف الخمر وبعدها ذكر الحبيبة، ثم ينتقل الشاعر إلى الحماسة

حتى ما ثبت من الشعر الجاهلي .
__________________
أغراض الشعر العربي الجاهلي:
أولاً: الوصف:

لقد أحاط الشاعر الجاهلي في أوصافه بجميع مظاهر البيئة، فوصف كل ما يخطر على باله وما يتراءى أمامه من مولدات شعورية، فحين يصف "عميرة بن جُعل" ديار الحبيبة الداثرة يبدع فيقول:

قِفارٌ مَروراةٌ يَحَارُ بهـا القطـا

يظلّ بها السبعـان يعتركـان

يثيران من نسج التراب عليهما

قميصيـن أسماطًا ويرتديـان

وبالشَّرف الأعلى وحوش كأنها

على جانب الأرجاء عُوذُ هجان

ثانيًا: الغزل:

وقد اختص الشاعر قصائد بعينها وأوقفها على الغزل وذكر النساء، وفي أحيان أخرى كان يجعل الغزل في مقدمة القصيدة بمثابة الموسيقى التمهيدية للأغنية، توقظ مشاعر المبدع والسامع فتلهب الأحاسيس، وتؤجج العواطف، ورغم السمة العامة للغزل وهو الغزل الصريح المكشوف الذي يسعى للغريزة أول ما يسعى، فإن المثير أن يعجب بعض الشعراء الصعاليك (الشنفرى) بحسن أدب المرأة وأخلاقها العالية فيصفونها:

"لقد أعجبتني لا سقوطًا قناعهـا * إذا ذكرت ولا بذات تلفت

كأن لها في الأرض نسيًا تقصه * على أمها وإن تكلمك تبلَّت

تبيت بُعيد النوم تهدي غبوقهـا * لجارتها إذا الهدية قلت

تحل بمنجـاة من اللـوم بيتهـا * إذا ما بيوت بالمذمة حلت
ثالثـًا: الرثاء:

وعاطفة الشاعر البدوية الفطرية كانت شديدة التوهج، فإن أحب هام وصرَّح وما عرف للصبر سبيلاً، وإن حزن فبكاء ونحيب حتى يملأ الدنيا عويلاً، وكلما جفت الدموع من عينيه استحثها لتسح وتفيض.

ومضرب المثل في الرثاء صخر أخو الخنساء الذي رثته أبياتًا، وبكته أدمعًا ودماءً، تقول الخنساء:

أعيني جـودا ولا تجمـدا ألا تبكيان لصخر الندى؟

ألا تبكيان الجريء الجميل؟ ألا تبكيان الفتى السيـدا؟

وهي ترجو (صخرًا) ألا يشعر بألم تجاه عينيها الذابلتين من البكاء وتلتمس لهما العذر:

ألا يا صخر إن بكَّيت عينـي لقد أضحكتني زمنًا طويـلاً

دَفَعْتُ بك الخطوب وأنت حي فمن ذا يدفع الخطب الجليلا؟

إذا قبح البكـاء علـى قتيـل رأيت بكاءك الحسن الجميلا

رابعًا: الفخر:

كان الجاهلي إذا فخر فجر … هكذا قالوا…

فانتماء الجاهلي لعشيرته وعائلته أمر مقدس، وعوامل ذلك متعددة منها: طبيعة الحياة القاسية التي عاناها العربي مما جعله يعتصم بقوة أكبر منه ويتحد معها؛ ليتحصن من صراع الحياة البدائية المريرة، مما جعل عمرو بن كلثوم يقول بملء فيه:

وأنـا المنعمون إذا قدرنا وأنا المهلكون إذا أتينا

وأنـا الحاكمون بما أردنا وأنا النازلون بحيث شينا

وأنـا النازلـون بكل ثغـر يخاف النازلون به المنونا

ونشرب إن وردنا الماء صفوًا ويشرب غيرنا كدرًا وطينًا

ألا لا يجلهن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ملأنا البر حتى ضاق عنا كذاك البحر نملؤه سفينًا

إذا بلغ الرضيع لنا فطامًا تخر له الجبابر ساجدينا

لنا الدنيا وما أمسى علينا ونبطش حين نبطش قادرينا

خامسًا: الهجاء:

والهجاء المقذع عندهم يزكم الأنوف، ويعشو العيون، ولكنَّ لهم هجاء طريفًا ومنه التهديد والوعيد بقول الشعر الذي تتناقله العرب، فيتأذى منه المهجو أكثر من التهديد بالقتل، وكان الهجاء سلاحًا ماضيًا في قلوب الأعداء فهم يخافون القوافي والأوزان أكثر من الرماح والسنان.



يقول مزرد بن ضرار:

فمن أرمه منها ببيت يَلُح به كشامة وجه، ليس للشام غاسلُ

كذاك جزائي في الهدى وإن أقل فلا البحر منزوح ولا الصوت صاحل


سادسًا: المدح:

ومن رواده زهير بن أبي سلمى وكان لا يمدح إلا بالحق، وكذا النابغة الذبياني الذي تخصص في مدح العظماء والملوك راغبًا في العطاء السخي، ومنهم "الأعشى" وكان سكيرًا مغرمًا بالنساء لا يهمه من يمدح ما دام يعطيه، وقد أنفق كل ما أعطى على خمره ونسائه.

قال زهير في مدح حصن بن حذيفة:

وأبيض فياض يداه غمامـة على معتفيه ما تغب فواضـله

أخي ثقة لا تتلف الخمر ماله ولكنه قد يهلك المال نائلــه

تراه إذا ما جئتـه متهلـلاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله

ظهور الشعر الجاهلي:و يشمل:

1- شعراء الفرسان .

2- شعراء الصعاليك .

3- شعراء آخرون .

1- شعراء الفرسان: نحن نعلم بان شاعر القبيلة هو لسانها الناطق وعقلها المفكر والمشير بالحق والناهي الى المنكر ، فكيف اذا جمع له الشعر والفروسية فهو صورة صادقة لتلك الحياة البدوية ، حيث كان يتدرب على ركوب الخيل ، ويشهر سيفه ، ويلوح برمحه ، فمن هؤلاء الشعراء:

- المهلهل .

- عبد يغوث .

- حاتم الطائي .

- الفند الزماني (فارس ربيعة) .

http://www.momeen.org/up/uploads/a1e3eb2754.jpg

المهلهل
هو عدي بن ربيعة التغلبي ، خال امرؤ القيس ، وجد عمرو بن كلثوم . قيل أنه من أقدم الشعراء الذين وصلت الينا أبارهم واشعارهم ، وأنه أل من هلهل الشعر ولذلك قيل له المهلهل .

كان له أ اسمه كليب رئيس جيش بكر وتغلب . كليب قتل ناقة البسوس ثم قتل كليب ، ونشبت‏ حرب البسوس بين بكر وتغلب، دامت اربعين سنة .

المختار من شعره: واكثر شعر المهلهل هو في رثاء أخيه كليب، حيث‏يقول:

كليب لا خير في الدنيا و من فيها

ان انت‏خليتها في من يخليها

نعى النعاة كليبا لي فقلت لهم

سالت‏بنا الارض او زالت رواسيها

ليت السماء على من تحتها وقعت

وحالت الارض فانجابت‏بمن فيها

ومن مراثيه المشهورة في اخيه:

اهاج قذاء عيني الادكار

هدوءا فالدموع لها انحدار

و صار الليل مشتملا علينا

كان الليل ليس له نهار

دعوتك يا كليب فلم تجبني

و كيف يجيبني البلد القفار

وانك كنت تحلم عن رجال

وتعفو عنهم ولك اقتدار
توفي المهلهل عام 92 ق . ه / 530م .
الفند الزماني

اسمه شهل بن شيبان ، احد فرسان ربيعة المشهورين ، شعره قليل ، سهل ، عذب ، واكثره في الحماسة التي يتخللها شي‏ء من الحكمة ، وحينما اضطر الى الخوض في حرب البسوس ، قال:

صفحنا عن بني ذهل

وقلنا القوم اخوان

عسى الايام ان يرجعن

اقواما كما كانوا

فلما صرح الشر

وامسى وهو عريان

ولم يبق سوى العدوان

دنا لهم كما دانوا

وفي الشر نجاة حين

لا ينجيك احسان توفي الفندالزماني سنة 92ق .

2- شعراء الصعاليك: جمع صعلوك ، وهو - لغة - الفقير الذي لا مال له . اما الصعاليك في عرف التاريخ الادبي فهم جماعة من شواذ العرب وذؤبانها ، كانوا يغيرون على البدو والحضر ، فيسرعون في النهب; لذلك يتردد في شعرهم صيحات الجزع والفقر والثورة ، ويمتازون بالشجاعة والصبر وسرعة العدو ، وحين نرجع الى اخبار الصعاليك نجدها حافلة بالحديث عن الفقر ، فكل الصعاليك فقراء لا نستثني منهم احدا حتى عروة بن الورد سيد الصعاليك الذين كانوا يلجئون اليه كلما قست عليهم الحياة ليجدوا ماوى حتى يستغنوا ، فالرواة يذكرون انه كان صعلوكا فقيرا مثلهم ، ومن هؤلاء:

- الشنفري الازدي .

- تابط شرا .

- عروة بن الورد .

http://www.momeen.org/up/uploads/5b3fe3a94f.jpg

‘، الشنفري ،‘،
? - 70 ق. هـ / ? - 554 م


شاعر جاهلي ، يماني ، من فحول الطبقة الثانية وكان من فتاك العرب وعدائيهم ، وهو أحد الخلعاء الذين تبرأت منهم عشائرهم . قتلهُ بنو سلامان ، وقيست قفزاته ليلة مقتلهِ فكان الواحدة منها قريباً من عشرين خطوة، وفي الأمثال ( أعدى من الشنفري ) . وهو صاحب لامية العرب ، شرحها الزمخشري في أعجب العجب المطبوع مع شرح آخر منسوب إلى المبرَّد ويظن أنه لأحد تلاميذ ثعلب .وللمستشرق الإنكليزي ردهوس المتوفي سنة 1892م رسالة بالانكليزية ترجم فيها قصيدة الشنفري وعلق عليها شرحاً وجيزاً .


لامية العرب : للشنفري
أَقِيمُـوا بَنِـي أُمِّـي صُـدُورَ مَطِيِّـكُمْ
فَإنِّـي إلى قَـوْمٍ سِـوَاكُمْ لَأَمْيَـلُ

فَقَدْ حُمَّتِ الحَاجَاتُ وَاللَّيْـلُ مُقْمِـرٌ
وَشُـدَّتْ لِطِيّـاتٍ مَطَايَـا وَأرْحُلُ

وفي الأَرْضِ مَنْـأَى لِلْكَرِيـمِ عَنِ الأَذَى
وَفِيهَا لِمَنْ خَافَ القِلَـى مُتَعَـزَّلُ

لَعَمْـرُكَ مَا بِالأَرْضِ ضِيـقٌ على امْرِىءٍ
سَرَى رَاغِبَـاً أَوْ رَاهِبَـاً وَهْوَ يَعْقِـلُ

وَلِي دُونَكُمْ أَهْلُـون : سِيـدٌ عَمَلَّـسٌ
وَأَرْقَطُ زُهْلُـولٌ وَعَرْفَـاءُ جَيْـأََلُ

هُـمُ الأَهْلُ لا مُسْتَودَعُ السِّـرِّ ذَائِـعٌ
لَدَيْهِمْ وَلاَ الجَانِي بِمَا جَرَّ يُخْـذَلُ

وَكُـلٌّ أَبِـيٌّ بَاسِـلٌ غَيْـرَ أنَّنِـي إذا
عَرَضَتْ أُولَى الطَرَائِـدِ أبْسَـلُ

وَإنْ مُـدَّتِ الأيْدِي إلى الزَّادِ لَمْ أكُـنْ
بَأَعْجَلِهِـمْ إذْ أَجْشَعُ القَوْمِ أَعْجَلُ


تابط شرا
اسمه ثابت‏بن جابر . وسبب لقبه انه اخذ ذات يوم سيفا تحت ابطه وخرج ، وكان تابط شرا من الصعاليك حاد البصر والسمع يلحق بالخيل ، ويغزو على رجليه ، وانه مات قتيلا .

واكثر شعره في الحماسة والفخر ، ومن شعره في الفخر:

يا عبد ما لك من شوق وايراق
ومر طيف على الاهوال طراق

لا شي‏ء اسرع مني ليس ذا عذر

وذا جناح بجنب‏الريد خفاق

توفي الشاعر تابط شرا عام 530 للميلاد .

عروة بن الورد


http://www.momeen.org/up/uploads/8721a85372.jpg
عروة بن الورد من بني عبس ، وكان من فرسان العرب ، كان كريم الاخلاق عفيفا صادقا وفيا بالعهود ، وقد فضله
عروة بن الورد بن زيد العبسي ، من غطفان . من شعراء الجاهلية و فرسانها و أجوادها . كان يلقب بعروة الصعاليك لجمعه إياهم ، وقيامه بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم . قال عبد الملك بن مروان:
من قال إن حاتماً أسمح الناس فقد ظلم عروة بن الورد . شرح ديوانه ابن السكيت .

أبيات متفرقة له

إِذا المَرءُ لَم يَطلُب مَعاشاً لِنَفسِـهِ
شَكا الفَقرَ أَو لامَ الصَديقَ فَأَكثَـرا

وَصارَ عَلى الأَدنَينَ كَلّاً وَأَوشَكَت
صِلاتُ ذَوي القُربى لَهُ أَن تَنَكَّرا

وَما طالِبُ الحاجاتِ مِن كُلِّ وِجهَةٍ
مِنَ الناسِ إِلّا مَن أَجَـدَّ وَشَمَّـرا

فَسِر في بِلادِ اللَهِ وَاِلتَمِسِ الغِنـى
تَعِش ذا يَسارٍ أَو تَموتَ فَتُعـذَرا


# #

أَعَيَّرتُمونـي أَنَّ أُمّـي تَريـعَـةٌ
وَهَل يُنجِبَن في القَومِ غَيرُ التَرائِعِ

وَما طالِبُ الأَوتارِ إِلّا اِبـنُ حُـرَّةٍ
طَويلُ نَجادِ السَيفِ عاري الأَشاجِعِ

******
أَبلِغ لَدَيـكَ عامِـراً إِن لَقيتَهـا
فَقَد بَلَغَت دارُ الحِفاظِ قَرارَهـا

رَحَلنا مِنَ الأَجبالِ أَجبالِ طَيِّءِ
نَسوقُ النِساءَ عوذَها وَعِشارَها

تَرى كُلَّ بَيضاءِ العَوارِضِ طَفلَةٍ
تُفَرّي إِذا شالَ السِماكُ صِدارَها

وَقَد عَلِمَت أَن لا اِنقِلابَ لِرَحلِها
إِذا تَرَكَت مِن آخِرِ اللَيلِ دارَها
توفي ابن الورد سنة 596 للميلاد .

3- شعراء آخرون: وهناك افراد من الشعراء في يثرب وغيرها من مدن الحجاز والجزيرة العربية اعتنقوا اليهودية كالسموال بن عاديا ، او النصرانية كقس بن ساعدة .

السموال


http://www.momeen.org/up/uploads/45e6cb4f1f.jpg

، السَمَوأل ،‘،
? - 64 ق. هـ / ? - 560 م


السموأل بن غريض بن عادياء الأزدي . و اسمه معرب من الاسم العبري "شمويل" (שְׁמוּאֵל)
وهو شاعر جاهلي يهودي حكيم من سكان خيبر في شمالي المدينة ، كان يتنقل بينها وبين حصن له سماه الأبلق. أشهر شعره لاميته وهي من أجود الشعر ، والتي مطلعها :


إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه - فكل رداء يرتديه جميلُ

وفي علماء الأدب من ينسبها لعبد الملك بن عبدالرحيم الحارثي . وهو الذي تنسب اٍليه قصة الوفاء مع امرئ القيس .ومختصر القصة أن امرئ القيس ترك عند السموأل أهله وأدراعَه أمانة حتى يعود من رحلته إلى ملك الروم ، وقد حاول الملك الحارث بين ظالم أن يغري السموأل بتسليم أمانة امرئ القيس إليه فأبى ، ثم هدَّده بقتل ابنه إذا لم يعطه ذلك فأصرَّ السموأل على موقفه مضحياً بابنه الذي قتله الحارث بن ظالم .

لامية السمؤال


إذ المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
فـكـل رداء يرتديـه جمـيـل

وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
فليس إلى حسن الثناء سـبيل

تـعـيرنا أنـا قـليـل عـديـدنـا
فقلـت لهـا إن الكرام قليل

ومـا قل من كانـت بقايـاه مثلنا
شـباب تسـامى لـلـعلا وكهول

ومـا ضرنـا أنـا قـليل وجـارنـا
عـزيز وجـار الأكثريـن ذليل

لنـا جـبـل يـحتـلـه مـن نـجيره
منيع يرد الـطـرف وهو كليل

رسـا أصـلـه تحـت الثرى وسما به
إلى النجم فرع لا ينال طويل

هو الأبلق الفردالذي شاع ذكره
يعز على من رامه ويطول

وإنـا لـقـوم مـا نرى القتل سبة
إذا مـا رأتـه عامر وسـلول

يـقرب حـب المـوت آجـالـنا لـنا
وتـكـرهه آجـالـهم فتـطـول

ومـا مـات مـنا سـيد حـتف أنـفه
ولا طل مـنـا حيث كـان قتيل

تسـيل عـلى حـد الـظبات نفوسـنا
وليست على غير الظبات تسيل

صـفونا فـلم نـكدر وأخـلص سـرنا
إنـاث أطـابـت حـملنا وفحول

عـلـونـا إلـى خير الظهور وحطنا
لوقت إلى خير البطـون نزول

فنحن كماء المزن مـا في نـصابنا
كـهام ولا فـينا يـعد بـخيل

وتـنكر إن شئنا على الناس قولهم
ولا ينكرون القول حين نقول

إذا سـيـد مـنـا خـلا قـام سـيـد
قؤول لما قال الكرام فـعول

ومـا أخـمدت نـار لنا دون طارق
ولا ذمنا في الـنازلين نزيل

وأيـامنا مشـهـورة فـي عـدونـا
لـها غـرر مـعلـومـة وحجول

توفي ابن عاديا سنة 560ه . ق .

قس بن ساعدة الاياديهو اسقف نجران ، وكان خطيبها البارع وحكيمها ، ويتصف بالزهد في الدنيا ، وكان يحضر سوق عكاظ ويلقي الشعر .

يروى ان النبي صلى الله عليه وآله راى قس في سوق عكاظ على جمل احمر وهو يقول :

«ايها الناس ، اسمعوا وعوا انه من عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ما هو آت آت . . . آيات محكمات: مطر ونبات وآباء وامهات ، وذاهب وآت ، ضوء وظلام ، وبر وآثام ، لباس ومركب ، ومطعم ومشرب ، ونجوم تمور ، وبحور لا تغور) ، وسقف مرفوع ، وليل داج ، وسماء ذات‏ابراج ، ما لي ارى الناس يموتون ولا يرجعون . . . يا معشر اياد اين ثمود وعاد ؟ واين الآباء والاجداد ؟

ومن نوادر شعره:
وفي الذاهبين الاولين

من القرن لنا بصائر

لما رايت مواردا

للموت ليس لها مصادر

ورايت قومي نحوها

يمضي الاصاغر والاكابر

لا يرجع الماضي ولا

يبقى من الباقين غابر
ايقنت اني لا محالة

حيث صار القوم صائر توفي ابن ساعدة سنة 600 للميلاد .

‘، الأعشى ،‘،? - 7 هـ - ? - 628 م
ميمون بن قيس بن جندل من بني قيس بن ثعلبة الوائلي ، أبو بصير ، المعروف بأعشى قيس ،
ويقال له أعشى بكر بن وائل و الأعشى الكبير . من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية وأحد أصحاب المعلقات . كان كثير الوفود على الملوك من العرب، والفرس، غزير الشعر، يسلك فيه كلَّ مسلك، وليس أحدٌ ممن عرف قبله أكثر شعراً منه . وكان يُغنّي بشعره فسمّي (صناجة العرب) و كانت أشهر أبياته :

هريرة َ ودعها ، وإنْ لامَ لائمُ ، غداة َ غدٍ أمْ أنتَ للبينِ واجمُ

قال البغدادي: كان يفد على الملوك ولا سيما ملوك فارس فكثرت الألفاظ الفارسية في شعره .
عاش عمراً طويلاً وأدرك الإسلام ولم يسلم ، ولقب بالأعشى لضعف بصره ، وعمي في أواخر عمره. مولده ووفاته في قرية (منفوحة) باليمامة قرب مدينة الرياض وفيها داره وبها قبره .



قصيدة : هريرة َ ودعها ، وإنْ لامَ لائمُ


هريرة َ ودعها، وإنْ لامَ لائمُ،
غداة َ غدٍ أمْ أنتَ للبينِ واجمُ


لَقَدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتَهُ،
تقضّي لبناتٍ، ويسأمُ سائمُ


مبتَّلة ٌ هيفاءُ رودٌ شبابها،
لَهَا مُقْلَتَا رِئْمٍ وَأسْوَدُ فَاحِمُ


وَوَجْهٌ نَقِيُّ اللّوْنِ صَافٍ يَزينُهُ
معَ الحليِ لباتٌ لها ومعاصمُ


وَتَضْحَكُ عَنْ غُرّ الثّنَايَا، كأنّهُ
ذُرَى أُقْحُوَانٍ نَبْتُهُ مُتَنَاعِمُ


هيَ الهَمّ لا تَدْنُو، وَلا يَسْتَطِيعُها
منَ العيسِ إلاّ النّجياتُ الرّواسمُ


رَأَيْتُ بَني شَيْبَانَ يَظْهَرُ مِنْهُمُ
لقوميَ عمداً نغصة ٌ ومظالمُ


فإنْ تصبحوا أدنى العدوّ فقبلكمْ
مِنَ الدّهْرِ عَادَتْنَا الرِّبابُ وَدارِمُ


وسعدٌ وكعبٌ والعبادُ وطيءٌّ،
ودودانُ في ألفافها والأراقمُ


فما فَضّنا من صَانعٍ بَعْدَ عَهْدِكُمْ
فيطمعَ فينا زاهرٌ والأصارمُ


ولنْ تنتهوا حتى تكسّرَ بيننا
رِمَاحٌ بِأيْدِي شُجْعَة ٍ وَقَوَائمُ


وحتى يبيتَ القومُ في الصّفّ ليلة ً
يقولونَ نوّرْ صبحُ، واللّيلُ عاتمُ


وقوفاً وراءَ الطّعنِ، والخيلُ تحتهمْ،
تشدّ على أكتافهنّ القوادم


إذا ما سمعنَ الزّجرَ يمّمنَ مقدماً
عَلَيها أُسُودُ الزّارَتَينِ الضّرَاغِمُ


أبَا ثَابِتٍ أوْ تَنْتَمُونَ، فإنّمَا
يَهِيمُ لِعَيْنَيْهِ مِنَ الشرّ هَائِمُ


متى تلقنا، والخيلُ تحملُ يزّنا،
خناذيذَ منها جلّة ٌ وصلادمُ


فَتَلْقَ أُنَاساً لا يَخِيمُ سِلاحُهُمْ،
إذا كَانَ حمّاً للصّفِيحِ الجَماجمُ


وَإنّا أُنَاسٌ يَعْتَدِي البأس خَلفُنَا،
كمَا يَعتَدي المَاءَ الظماءُ الحَوَائِمُ


فَهَانَ عَلَيْنَا مَا يَقُولُ ابنُ مُسهِرٍ
برغمكَ إذْ حلّتْ علينا اللّهازمُ


يزيدُ يغضّ الطّرفَ دوني كأنّما
زَوَى بَينَ عَيْنَيْهِ عَليّ المَحَاجِمُ


فلا يَنبَسِطْ من بينِ عَينَيكَ ما انزَوَى،
وَلا تَلْقَني إلا وَأنْفُكَ رَاغِمُ


فأقسمُ باللهِ الّذي أنا عبدهُ،
لتصطفقنْ يوماً عليكَ المآتمُ


يَقُلْنَ حَرَامٌ مَا أُحِلّ بِرَبّنَا
وتتركُ أمولاً عليها الخواتمُ


أبَا ثَابِتٍ لا تَعْلَقَنْكَ رِمَاحُنَا،
أبَا ثَابِتٍ اقْعُدْ وَعِرْضُكَ سَالِمُ


أفي كُلّ عَامٍ تَقْتُلُونَ ونَتّدِي،
فتلكَ التّي تبيضّ منها المقادمُ


وَذَرْنَا وَقَوْماً إنْ هُمُ عَمَدوا لَنَا
أبَا ثَابِتٍ، وَاجْلِسْ فَإنّكَ نَاعِمُ


طَعامُ العِرَاقِ المُستَفيضُ الذي تَرى،
وفي كلّ عامٍ حلّة ٌ ودراهمُ


أتَأمُرُ سَيّاراً بِقَتْلِ سَرَاتِنَا،
وتزعمُ بعدَ القتلِ أنّكَ سالمُ

أبَا ثَابِتٍ! إنّا إذَا تَسْبِقُنّنا،
سيرعدُ سرحٌ أوْ ينبَّهُ نائمُ

بمُشْعِلَة ٍ يَغْشَى الفِرَاش رَشاشُهَا،
يبيتُ لها ضوءٌ منَ النّارِ جاحمُ


تَقَرُّ بِهِ عَيْنُ الّذي كَانَ شَامِتاً،
وَتَبْتَلُّ مِنْهَا سُرّة ٌ وَمَآكِمُ


وتلقى حصانٌ تخدمُ ابنة َعمّها،
كما كانَ يلقى النّصفاتُ الخوادمُ

إذا اتّصلتْ قالتْ: أبكرَ بنَ وائلٍ،
وبكرٌ سبتها، والأنوفُ رواغمُ

http://www.momeen.org/up/uploads/fe5db886ff.jpg

‘، الحارث بن حلزة ،‘،
? - 54 ق. هـ / ? - 570 م
الحارث بن حِلِّزَة بن مكروه بن يزيد اليشكري الوائلي . شاعر جاهلي من أهل بادية العراق ، وهو أحد أصحاب المعلقات . كان أبرص فخوراً، ارتجل معلقته بين يدي عمرو بن هند الملك بالحيرة، جمع بها كثيراً من أخبار العرب ووقائعهم حتى صار مضرب المثل في الافتخار ، فقيل: أفخر من الحارث بن حلّزة .


معلقة : الحارث بن حِلِّزَة اليشكري


آذَنَتْـنَـا بِبَيْنِهَـا أَسْمَـاءُ
رُبَّ ثَاوٍ يُمَـلُّ مِنْـهُ الثَّـوَاءُ

بَعْدَ عَهْـدٍ لَنَـا بِبُرْقَـةِ شَمَّـاءَ
فَأَدْنَـى دِيَارِهَـا الخَلْصَاءُ

فَالمُحَيَّـاةُ فَالصِّفَـاحُ فَأَعْنَـاقُ
فِتَـاقٍ فَعاذِبٌ فَالْوَفَـاءُ

فَرِيَـاضُ الْقَطَـا فَأَوْدِيَـةُ الشُّرْبُبِ
فَالشُّعْبَتَـانِ فَالأَبْـلاءُ

لا أَرَى مَنْ عَهِدْتُ فِيهَا فَأَبْكِي الــيَوْمَ
دَلْهَاً وَمَا يُحِيرُ البُكَاءُ

وَبِعَيْنَيْكَ أَوْقَـدَتْ هِنْـدٌ النَّـارَ
أَخِيرَاً تُلْـوِي بِهَـا العَلْيَاءُ

فَتَنَوَّرْتُ نَارَهَـا مِـنْ بَعِيـدٍ
بِخَزَازَى هَيْهَاتَ مِنْكَ الصِّلاءُ

أوْقَدَتْهَا بَيْنَ العَقِيـقِ فَشَخْصَيْــنِ
بِعُودٍ كَمَا يَلُوحُ الضِّيَاءُ

غَيْرَ أَنِّي قَدْ أَسْتَعِينُ عَلَى الْهَـمِّ
إذَا خَـفَّ بِالثَّـوِيِّ النَّجَاءُ

بِزَفُـوفٍ كَأَنَّـهَـا هِقْلَـةٌ أُمُّ
رِئَـالٍ دَوِّيَّـةٌ سَقْفَـاءُ

آنَسَـتْ نَبْـأَةً وَأَفزَعَهَـا القُــنَّاصُ
عَصْرَاً وَقَدْ دَنَا الإِمْسَاءُ

فَتَرَى خَلْفَهَا مِنَ الرَّجْـعِ وَالْوَقْــعِ
مَنِينَـاً كَأَنَّـهُ إِهْبَاءُ

وَطِرَاقَاً مِنْ خَلْفِهِـنَّ طِـرَاقٌ
سَاقِطَاتٌ أَلْوَتْ بِهَا الصَّحْرَاءُ

أَتَلَهَّـى بِهَا الْهَوَاجِرَ إِذْ كُلُّ ابْــنِ
هَـمٍّ بَلِيَّـةٌ عَمْيَـاءُ

وَأَتَانَا مِنَ الْحَـوَادِثِ وَالأَنْبَـاءِ
خَطْـبٌ نُعْنَـى بِهِ وَنُسَاءُ

إِنَّ إِخْوَانَنَـا الأَرَاقِـمَ يَغْلُـونَ
عَلَيْنَا فِي قِيلِهِـمْ إِحْفَـاءُ

يَخْلِطُونَ البَرِيءَ مِنَّا بِذِي الذَّنْــبِ
وَلا يَنْفَعُ الْخَلِيَّ الْخَلاءُ


زَعَمَوا أَنَّ كُلَّ مَنْ ضَرَبَ الْعَيْــرَ
مُـوَالٍ لَنَا وَأَنَّـا الوَلاءُ

أَجْمَعُوا أمْرَهُـمْ عِشَاءً فلَمَّـا
أَصْبَحُوا أَصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ

مِنْ مُنَادٍ وَمِنْ مُجِيبٍ وَمِنْ تَصْـهَالِ
خَيْلٍ خِلالَ ذَاكَ رُغَاءُ

أَيُّهَا النَّاطِـقُ الْمُرَقِّـشُ عَنَّـا
عِنْدَ عَمْـرٍو وَهَلْ لِذَاكَ بَقَاءُ

لا تَخَلْنَـا عَلَـى غَرَاتِـكَ إنَّـا
قَبْلُ مَا قَدْ وَشَى بِنَا الأَعْدَاءُ

فَبَقِينَـا عَلَى الشَّنَـاءَةِ تَنْمِيــنَا
حُصُـونٌ وَعِـزَّةٌ قَعْسَاءُ

قَبْلَ مَا الْيَوْمِ بَيَّضَتْ بِعُيُونِ
النَّــاسِ فِيهَا تَغَيُّـظٌ وَإِبَـاءُ

وَكَأَنَّ الْمَنُـونَ تَـرْدِي بِنَا أَرْعَنَ
جَوْناً يَنْجَابُ عَنْهُ الْعَمَاءُ

مُكْفَهِـرَّاً عَلَى الْحَـوَادِثِ لا تَرْتُوهُ
لِلدَّهْرِ مُـؤْيِدٌ صَمَّـاءُ

إِرَمِـيٌّ بِمِثْلِـهِ جَالَـتِ الْخَيْــلُ
وَتَأْبَى لِخَصْمِهَا الإِجْلاءُ

مَلِكٌ مُقْسِطٌ وَأَفْضَلُ مَنْ يَمـْـشِي
وَمِنْ دُونِ مَا لَدَيْهِ الثَّنَاءُ

أَيُّمَا خُطَّـةٍ أَرَدْتُـمْ فَأَدُّوهَــا
إِلَيْنَا تُشْفَى بِهَا الأَمْلاءُ

إِنْ نَبَشْتُمْ مَا بَيْنَ مِلْحَةَ فَالصَّاقِبِ
فِيهِ الأَمْوَاتُ وَالأَحْيَـاءُ


http://www.momeen.org/up/uploads/61f3f16e08.jpg

النابغة الذبياني ،‘،
؟؟ -18 ق .هـ - ؟؟ -605 م


هو زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني الغطفاني المضري ، أبو أمامة . شاعر جاهلي نصراني من الطبقة الأولى . له قصيدة يعدها البعض من المعلقات ، ومطلعها:



يا دار مية بالعلياء فالسند - أقوت وطال عليها سالف الأبد


http://www.momeen.org/up/uploads/09166a2f42.jpg


‘، الأعشى ،‘،? - 7 هـ - ? - 628 م
ميمون بن قيس بن جندل من بني قيس بن ثعلبة الوائلي ، أبو بصير ، المعروف بأعشى قيس ،
ويقال له أعشى بكر بن وائل و الأعشى الكبير . من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية وأحد أصحاب المعلقات . كان كثير الوفود على الملوك من العرب، والفرس، غزير الشعر، يسلك فيه كلَّ مسلك، وليس أحدٌ ممن عرف قبله أكثر شعراً منه . وكان يُغنّي بشعره فسمّي (صناجة العرب) و كانت أشهر أبياته :

هريرة َ ودعها ، وإنْ لامَ لائمُ ، غداة َ غدٍ أمْ أنتَ للبينِ واجمُ

قال البغدادي: كان يفد على الملوك ولا سيما ملوك فارس فكثرت الألفاظ الفارسية في شعره .
عاش عمراً طويلاً وأدرك الإسلام ولم يسلم ، ولقب بالأعشى لضعف بصره ، وعمي في أواخر عمره. مولده ووفاته في قرية (منفوحة) باليمامة قرب مدينة الرياض وفيها داره وبها قبره .



قصيدة : هريرة َ ودعها ، وإنْ لامَ لائمُ


هريرة َ ودعها، وإنْ لامَ لائمُ،
غداة َ غدٍ أمْ أنتَ للبينِ واجمُ


لَقَدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتَهُ،
تقضّي لبناتٍ، ويسأمُ سائمُ


مبتَّلة ٌ هيفاءُ رودٌ شبابها،
لَهَا مُقْلَتَا رِئْمٍ وَأسْوَدُ فَاحِمُ


وَوَجْهٌ نَقِيُّ اللّوْنِ صَافٍ يَزينُهُ
معَ الحليِ لباتٌ لها ومعاصمُ


وَتَضْحَكُ عَنْ غُرّ الثّنَايَا، كأنّهُ
ذُرَى أُقْحُوَانٍ نَبْتُهُ مُتَنَاعِمُ


هيَ الهَمّ لا تَدْنُو، وَلا يَسْتَطِيعُها
منَ العيسِ إلاّ النّجياتُ الرّواسمُ


رَأَيْتُ بَني شَيْبَانَ يَظْهَرُ مِنْهُمُ
لقوميَ عمداً نغصة ٌ ومظالمُ


فإنْ تصبحوا أدنى العدوّ فقبلكمْ
مِنَ الدّهْرِ عَادَتْنَا الرِّبابُ وَدارِمُ


وسعدٌ وكعبٌ والعبادُ وطيءٌّ،
ودودانُ في ألفافها والأراقمُ


فما فَضّنا من صَانعٍ بَعْدَ عَهْدِكُمْ
فيطمعَ فينا زاهرٌ والأصارمُ


ولنْ تنتهوا حتى تكسّرَ بيننا
رِمَاحٌ بِأيْدِي شُجْعَة ٍ وَقَوَائمُ


وحتى يبيتَ القومُ في الصّفّ ليلة ً
يقولونَ نوّرْ صبحُ، واللّيلُ عاتمُ


وقوفاً وراءَ الطّعنِ، والخيلُ تحتهمْ،
تشدّ على أكتافهنّ القوادم


إذا ما سمعنَ الزّجرَ يمّمنَ مقدماً
عَلَيها أُسُودُ الزّارَتَينِ الضّرَاغِمُ


أبَا ثَابِتٍ أوْ تَنْتَمُونَ، فإنّمَا
يَهِيمُ لِعَيْنَيْهِ مِنَ الشرّ هَائِمُ


متى تلقنا، والخيلُ تحملُ يزّنا،
خناذيذَ منها جلّة ٌ وصلادمُ


فَتَلْقَ أُنَاساً لا يَخِيمُ سِلاحُهُمْ،
إذا كَانَ حمّاً للصّفِيحِ الجَماجمُ


وَإنّا أُنَاسٌ يَعْتَدِي البأس خَلفُنَا،
كمَا يَعتَدي المَاءَ الظماءُ الحَوَائِمُ


فَهَانَ عَلَيْنَا مَا يَقُولُ ابنُ مُسهِرٍ
برغمكَ إذْ حلّتْ علينا اللّهازمُ


يزيدُ يغضّ الطّرفَ دوني كأنّما
زَوَى بَينَ عَيْنَيْهِ عَليّ المَحَاجِمُ


فلا يَنبَسِطْ من بينِ عَينَيكَ ما انزَوَى،
وَلا تَلْقَني إلا وَأنْفُكَ رَاغِمُ


فأقسمُ باللهِ الّذي أنا عبدهُ،
لتصطفقنْ يوماً عليكَ المآتمُ


يَقُلْنَ حَرَامٌ مَا أُحِلّ بِرَبّنَا
وتتركُ أمولاً عليها الخواتمُ


أبَا ثَابِتٍ لا تَعْلَقَنْكَ رِمَاحُنَا،
أبَا ثَابِتٍ اقْعُدْ وَعِرْضُكَ سَالِمُ


أفي كُلّ عَامٍ تَقْتُلُونَ ونَتّدِي،
فتلكَ التّي تبيضّ منها المقادمُ


وَذَرْنَا وَقَوْماً إنْ هُمُ عَمَدوا لَنَا
أبَا ثَابِتٍ، وَاجْلِسْ فَإنّكَ نَاعِمُ


طَعامُ العِرَاقِ المُستَفيضُ الذي تَرى،
وفي كلّ عامٍ حلّة ٌ ودراهمُ


أتَأمُرُ سَيّاراً بِقَتْلِ سَرَاتِنَا،
وتزعمُ بعدَ القتلِ أنّكَ سالمُ

أبَا ثَابِتٍ! إنّا إذَا تَسْبِقُنّنا،
سيرعدُ سرحٌ أوْ ينبَّهُ نائمُ

بمُشْعِلَة ٍ يَغْشَى الفِرَاش رَشاشُهَا،
يبيتُ لها ضوءٌ منَ النّارِ جاحمُ


تَقَرُّ بِهِ عَيْنُ الّذي كَانَ شَامِتاً،
وَتَبْتَلُّ مِنْهَا سُرّة ٌ وَمَآكِمُ


وتلقى حصانٌ تخدمُ ابنة َعمّها،
كما كانَ يلقى النّصفاتُ الخوادمُ

إذا اتّصلتْ قالتْ: أبكرَ بنَ وائلٍ،
وبكرٌ سبتها، والأنوفُ رواغمُ

http://www.momeen.org/up/uploads/fe5db886ff.jpg

‘، الحارث بن حلزة ،‘،
? - 54 ق. هـ / ? - 570 م
الحارث بن حِلِّزَة بن مكروه بن يزيد اليشكري الوائلي . شاعر جاهلي من أهل بادية العراق ، وهو أحد أصحاب المعلقات . كان أبرص فخوراً، ارتجل معلقته بين يدي عمرو بن هند الملك بالحيرة، جمع بها كثيراً من أخبار العرب ووقائعهم حتى صار مضرب المثل في الافتخار ، فقيل: أفخر من الحارث بن حلّزة .


معلقة : الحارث بن حِلِّزَة اليشكري


آذَنَتْـنَـا بِبَيْنِهَـا أَسْمَـاءُ
رُبَّ ثَاوٍ يُمَـلُّ مِنْـهُ الثَّـوَاءُ

بَعْدَ عَهْـدٍ لَنَـا بِبُرْقَـةِ شَمَّـاءَ
فَأَدْنَـى دِيَارِهَـا الخَلْصَاءُ

فَالمُحَيَّـاةُ فَالصِّفَـاحُ فَأَعْنَـاقُ
فِتَـاقٍ فَعاذِبٌ فَالْوَفَـاءُ

فَرِيَـاضُ الْقَطَـا فَأَوْدِيَـةُ الشُّرْبُبِ
فَالشُّعْبَتَـانِ فَالأَبْـلاءُ

لا أَرَى مَنْ عَهِدْتُ فِيهَا فَأَبْكِي الــيَوْمَ
دَلْهَاً وَمَا يُحِيرُ البُكَاءُ

وَبِعَيْنَيْكَ أَوْقَـدَتْ هِنْـدٌ النَّـارَ
أَخِيرَاً تُلْـوِي بِهَـا العَلْيَاءُ

فَتَنَوَّرْتُ نَارَهَـا مِـنْ بَعِيـدٍ
بِخَزَازَى هَيْهَاتَ مِنْكَ الصِّلاءُ

أوْقَدَتْهَا بَيْنَ العَقِيـقِ فَشَخْصَيْــنِ
بِعُودٍ كَمَا يَلُوحُ الضِّيَاءُ

غَيْرَ أَنِّي قَدْ أَسْتَعِينُ عَلَى الْهَـمِّ
إذَا خَـفَّ بِالثَّـوِيِّ النَّجَاءُ

بِزَفُـوفٍ كَأَنَّـهَـا هِقْلَـةٌ أُمُّ
رِئَـالٍ دَوِّيَّـةٌ سَقْفَـاءُ

آنَسَـتْ نَبْـأَةً وَأَفزَعَهَـا القُــنَّاصُ
عَصْرَاً وَقَدْ دَنَا الإِمْسَاءُ

فَتَرَى خَلْفَهَا مِنَ الرَّجْـعِ وَالْوَقْــعِ
مَنِينَـاً كَأَنَّـهُ إِهْبَاءُ

وَطِرَاقَاً مِنْ خَلْفِهِـنَّ طِـرَاقٌ
سَاقِطَاتٌ أَلْوَتْ بِهَا الصَّحْرَاءُ

أَتَلَهَّـى بِهَا الْهَوَاجِرَ إِذْ كُلُّ ابْــنِ
هَـمٍّ بَلِيَّـةٌ عَمْيَـاءُ

وَأَتَانَا مِنَ الْحَـوَادِثِ وَالأَنْبَـاءِ
خَطْـبٌ نُعْنَـى بِهِ وَنُسَاءُ

إِنَّ إِخْوَانَنَـا الأَرَاقِـمَ يَغْلُـونَ
عَلَيْنَا فِي قِيلِهِـمْ إِحْفَـاءُ

يَخْلِطُونَ البَرِيءَ مِنَّا بِذِي الذَّنْــبِ
وَلا يَنْفَعُ الْخَلِيَّ الْخَلاءُ


زَعَمَوا أَنَّ كُلَّ مَنْ ضَرَبَ الْعَيْــرَ
مُـوَالٍ لَنَا وَأَنَّـا الوَلاءُ

أَجْمَعُوا أمْرَهُـمْ عِشَاءً فلَمَّـا
أَصْبَحُوا أَصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ

مِنْ مُنَادٍ وَمِنْ مُجِيبٍ وَمِنْ تَصْـهَالِ
خَيْلٍ خِلالَ ذَاكَ رُغَاءُ

أَيُّهَا النَّاطِـقُ الْمُرَقِّـشُ عَنَّـا
عِنْدَ عَمْـرٍو وَهَلْ لِذَاكَ بَقَاءُ

لا تَخَلْنَـا عَلَـى غَرَاتِـكَ إنَّـا
قَبْلُ مَا قَدْ وَشَى بِنَا الأَعْدَاءُ

فَبَقِينَـا عَلَى الشَّنَـاءَةِ تَنْمِيــنَا
حُصُـونٌ وَعِـزَّةٌ قَعْسَاءُ

قَبْلَ مَا الْيَوْمِ بَيَّضَتْ بِعُيُونِ
النَّــاسِ فِيهَا تَغَيُّـظٌ وَإِبَـاءُ

وَكَأَنَّ الْمَنُـونَ تَـرْدِي بِنَا أَرْعَنَ
جَوْناً يَنْجَابُ عَنْهُ الْعَمَاءُ

مُكْفَهِـرَّاً عَلَى الْحَـوَادِثِ لا تَرْتُوهُ
لِلدَّهْرِ مُـؤْيِدٌ صَمَّـاءُ

إِرَمِـيٌّ بِمِثْلِـهِ جَالَـتِ الْخَيْــلُ
وَتَأْبَى لِخَصْمِهَا الإِجْلاءُ

مَلِكٌ مُقْسِطٌ وَأَفْضَلُ مَنْ يَمـْـشِي
وَمِنْ دُونِ مَا لَدَيْهِ الثَّنَاءُ

أَيُّمَا خُطَّـةٍ أَرَدْتُـمْ فَأَدُّوهَــا
إِلَيْنَا تُشْفَى بِهَا الأَمْلاءُ

إِنْ نَبَشْتُمْ مَا بَيْنَ مِلْحَةَ فَالصَّاقِبِ
فِيهِ الأَمْوَاتُ وَالأَحْيَـاءُ


http://www.momeen.org/up/uploads/61f3f16e08.jpg

النابغة الذبياني ،‘،
؟؟ -18 ق .هـ - ؟؟ -605 م


هو زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني الغطفاني المضري ، أبو أمامة . شاعر جاهلي نصراني من الطبقة الأولى . له قصيدة يعدها البعض من المعلقات ، ومطلعها:



يا دار مية بالعلياء فالسند - أقوت وطال عليها سالف الأبد


لقب بالنابغة لأنه نبغ في الشعر بعد أن كبر وتقدمت به السن , وقيل بل لأنه قال: ( فقد نبغت لنا منهم شئون) . أما الدكتور يوسف خليف الذي كتب عنه وعن عصره في كتاب " الروائع من الأدب العربي" فيغلب عليه الظن بأنه لقب به لنبوغه في الشعر وتفوقه فيه . بل هو في رأيه قمة شامخة من قمم مدرسة الصنعة الجاهلية التي سمي أربابها بعبيد الشعر ـ لعكوفهم الطويل على تجويد شعرهم و نخله و تهذيبه ـ شأنه شأن زهير بن أبي سلمى و لبيد بن ربيعة و عبيد بن الأبرص . حتى لقد ارتضاه شعراء عصره حكما بينهم في سوق عكاظ (حيث كانت تضرب له قبة حمراء متميزة , ويأتيه الشعراء من شتى القبائل ليعرضوا عليه شعرهم) .وهو الذي حكم بتفضيل الخنساء على حسان بن ثابت في قصة له مأثورة.




معلقة : النابغة الذبياني



يَـا دَارَ مَيَّـةَ بالعَليْـاءِ ، فالسَّـنَـدِ
أَقْوَتْ ، وطَالَ عَلَيهَـا سَالِـفُ الأَبَـدِ

وقَفـتُ فِيهَـا أُصَيـلا كـي أُسائِلُهـا
عَيَّتْ جَوَاباً ، ومَا بالرَّبعِ مِـنْ أَحَـدِ

إلاَّ الأَوَارِيَّ لأْيــاً مَــا أُبَيِّنُـهَـا
والنُّؤي كَالحَوْضِ بالمَظلومـةِ الجَلَـدِ

رَدَّتْ عَلـيَـهِ أقَاصِـيـهِ ، ولـبّـدَهُ
ضَرْبُ الوَلِيدَةِ بالمِسحَـاةِ فِـي الثَّـأَدِ

خَلَّـتْ سَبِيـلَ أَتِـيٍّ كَـانَ يَحْبِسُـهُ
ورفَّعَتْـهُ إلـى السَّجْفَيـنِ ، فالنَّضَـدِ


أضحتْ خَلاءً ، وأَضحى أَهلُهَا احْتَمَلُوا
أَخْنَى عَليهَا الَّذِي أَخْنَـى عَلَـى لُبَـدِ

فَعَدِّ عَمَّا تَـرَى ، إِذْ لاَ ارتِجَـاعَ لَـهُ
وانْـمِ القُتُـودَ عَلَـى عَيْرانَـةٍ أُجُـدِ


مَقذوفَةٍ بِدَخِيـسِ النَّحـضِ ، بَازِلُهَـا
لَهُ صَريفٌ ، صَريفُ القَعْـوِ بالمَسَـدِ

كَأَنَّ رَحْلِي ، وَقَـدْ زَالَ النَّهَـارُ بِنَـا
يَومَ الجليلِ ، عَلَـى مُستأنِـسٍ وحِـدِ


مِنْ وَحشِ وَجْرَةَ ، مَوْشِـيٍّ أَكَارِعُـهُ
طَاوي المَصِيرِ ، كَسَيفِ الصَّيقل الفَرَدِ

سَرتْ عَلَيهِ ، مِنَ الجَوزَاءِ ، سَارِيَـةٌ
تُزجِي الشَّمَالُ عَلَيـهِ جَامِـدَ البَـرَدِ


فَارتَاعَ مِنْ صَوتِ كَلاَّبٍ ، فَبَاتَ لَـهُ
طَوعَ الشَّوَامتِ مِنْ خَوفٍ ومِنْ صَرَدِ

فبَثّهُـنَّ عَلَـيـهِ ، واستَـمَـرَّ بِــهِ
صُمْعُ الكُعُوبِ بَرِيئَـاتٌ مِـنَ الحَـرَدِ

وكَانَ ضُمْرانُ مِنـهُ حَيـثُ يُوزِعُـهُ
طَعْنَ المُعارِكِ عِندَ المُحْجَـرِ النَّجُـدِ

شَكَّ الفَريصـةَ بالمِـدْرَى ، فَأنفَذَهَـا
شك المُبَيطِرِ ، إِذْ يَشفِي مِـنَ العَضَـدِ

كَأَنَّه ، خَارجَا مِـنْ جَنـبِ صَفْحَتِـهِ

http://www.momeen.org/up/uploads/a799d5b44d.jpg

، أوس بن حَجَر ،‘،
95 - 2 ق. هـ / 530 - 620 م
أوس بن حجر بن مالك التميمي أبو شريح.شاعر تميم في الجاهلية، أو من كبار شعرائها، أبوه حجر هو زوج أم زهير بن أبي سلمى ، كان كثير الأسفار ، وأكثر إقامته عند عمرو بن هند في الحيرة. عمّر طويلاً ولم يدرك الإسلام. في شعره حكمة و رقة ، وكانت تميم تقدمه على سائر الشعراء العرب . وكان غزلاً مغرماً بالنساء.



قصيدة : ودّعْ لميسَ وداعَ الصّـارمِ اللاحِـي

ودّعْ لميسَ وداعَ الصّـارمِ اللاحِـي
إذْ فنّكتْ في فسـادٍ بعـدَ إصْـلاحِ

إذْ تستبيـكَ بمصقـولٍ عوارضُـهُ
حمشِ اللّثاتِ عذابٍ غيـرِ ممـلاحِ

وقدْ لهـوتُ بمثـلِ الرّثـمِ آنسـة ٍ
تُصْبي الحليمَ عَرُوبٍ غير مِكْـلاحِ

كأنّ رِيقَتَها بعـد الكَـرَى اغْتَبَقَـتْ
من ماءِ أصْهَبَ في الحانوتِ نَضّاحِ

أوْ مـنْ معتّقـة ٍ ورهـاءَ نشوتُهـا
أوْ مـنْ أنابيـبِ رمّـانٍ وتـفّـاحِ

هبّتْ تلومُ وليستْ ساعـة َ اللاحـي
هلاّ انتظرتِ بهذا اللّـومِ إصباحـي

إنْ أشْرَبِ الخَمْرَ أوْ أُرْزَأ لها ثمَنـاً
فلا محالَـة َ يومـاً أنّنـي صاحـي

ولا محالَـة َ مـنْ قبـرٍ بمحنـيـة
ٍ وكفـنٍ كسـرَاة ِ الثـورِ وضّـاحِ

دَعِ العَجوزَيْـنِ لا تسمـعْ لِقِيلهمـا
وَاعْمَدْ إلى سيّدٍ في الحيّ جَحْجـاحِ

كـانَ الشّبـابُ يلهِّينـا ويعجبُـنَـا
فَمَـا وَهَبْنـا ولا بِعْنـا بِـأرْبَـاحِ

إنّي أرقتُ ولمْ تأرقْ معِي صاحـي
لمستكـفٍّ بعيـدَ الـنّـومِ لــوّاحِ

قد نمتَ عنّي وباتَ البرقَ يُسهرنـي
كما استْتَضـاءَ يَهـوديٌّ بِمِصْبـاحِ

يا منْ لبـرقٍ أبيـتُ اللّيـلَ أرقبُـهُ
في عارِضٍ كمضيءِ الصُّبحِ لمّـاحِ

دانٍ مُسِـفٍّ فوَيـقَ الأرْضِ هَيْدبُـهُ
يَكـادُ يَدفَعُـهُ مَـن قـامَ بِالـرّاحِ




الخاتمة:

**د لا ل**
2012-02-11, 13:51
، حاتَم الطائي ،‘،
? - 46 ق. هـ / ? - 577 م

حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي القحطاني ، أبوعدي . شاعر جاهلي ، من قبيلة طيء فارس جواد يضرب المثل بجوده . كان من أهل نجد ، وزار الشام فتزوج من ماوية بنت حجر الغسانية ، ومات في عوارض (جبل في بلاد طيء) يعتبر أشهر العرب بالكرم و الشهامة ويعد مضرب المثل في الجود و الكرم. كان يدين بالمسيحية ، سكن وقومه في بلاد الجبلين ( أجا و سلمى ) التي تسمى الآن منطقة حائل ، وتقع شمال السعودية . توجد بقايا أطلال قصره وقبره في بلدة توارن في حائل .



قصيدة : مهلاً نـوار، اقلـي اللـوم والعـذلا،


مهلاً نـوار، اقلـي اللـوم والعـذلا،
ولا تقولي، لشيء فات، مـا فعـلا؟

ولا تقولـي لمـال، كنـت مهلكـه،

مهلاً، وإن كنت أعطي الجن والخبـلا

يرى البخيل سيـل المـال واحـدة ،
إن الجواد يرى ، فـي مالـه، سيـلا

إن البخيـلَ، إذا مـا مـات، يتبعـه

سُوءُ الثّناءِ، ويحوي الـوارِثُ الإبِـلا

فاصدقْ حديثـك، إن المـرء يتبعـه
ما كان يَبني، إذا مـا نَعْشُـهُ حُمِـلا

لَيـتَ البخيـلَ يـراهُ النّـاسُ كُلُّهُـمُ
كما يراهم، فـلا يقـرى ، إذا نـزلا

لا تعذليني على مـال وصلـت بـهِ
رحماً، وخير سبيل المال مـا وصـلا

يَسعى الفتى ، وحِمامُ الموْتِ يُدرِكُـه
ُ وكلُّ يوْمٍ يُدَنّـي، للفتـى ، الأجَـلا

إني لأعلـم أنـي سـوف يدركنـي
يومي، أصبح، عن دنيـاي، مشتغـلا

فليتَ شعري، وليـتٌ غيـرُ مُدرِكـة
ٍ لأيّ حالٍ بهـا أضْحَـى بنُـو ثُعَـلا

أبلـغْ بنـي ثعـل عنـي مغلغلـة ،
جهد الرسالـة لا محكـاً، ولا بطـلا

أغزوا بني ثعـل، فالغـزو حظكـم،
عُدّوا الرّوابي ولا تبكوا لمـن نكَـلا

ويهـاً فداؤكـم أمـي ومـا ولـدتْ،
حامُوا على مجدِكم، واكفوا من اتّكـلا


http://www.momeen.org/up/uploads/1b82e9ba08.jpg

‘، زُهَير بن أبي سُلمَى ،‘،
? - 13 ق. هـ / ? - 609 م


زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رباح المزني ، من مُضَر . حكيم الشعراء في الجاهلية و في أئمة الأدب من يفضّله على شعراء العرب كافة . قال ابن الأعرابي : كان لزهير من الشعر ما لم يكن لغيره . كان أبوه شاعراً، وخاله شاعراً، وأخته سلمى شاعرة، وابناه كعب و بجير شاعرين ، وأخته الخنساء شاعرة . ولد في بلاد مُزَينة بنواحي المدينة وكان يقيم في الحاجر (من ديار نجد) ، واستمر بنوه فيه بعد الإسلام . قيل: كان ينظم القصيدة في شهر وينقحها ويهذبها في سنة فكانت قصائده تسمّى (الحوليات)، أشهر شعره معلقته .



معلقة : زهير بن أبي سلمى

أَمِـنْ أُمِّ أَوْفَـى دِمْنَـةٌ لَـمْ تَكَـلَّـمِ
بِحَوْمَـانَـةِ الــدُّرَّاجِ فَالمُتَـثَـلَّـمِ

وَدَارٌ لَـهَـا بِالرَّقْمَتَـيْـنِ كَأَنَّـهَـا
مَرَاجِيْعُ وَشْمٍ فِـي نَوَاشِـرِ مِعْصَـمِ

بِهَـا العِيْـنُ وَالأَرْآمُ يَمْشِيـنَ خِلْفَـةً
وَأَطْلاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِـنْ كُـلِّ مَجْثَـمِ

وَقَفْتُ بِهَا مِنْ بَعْـدِ عِشْرِيـنَ حِجَّـةً
فَلأيَـاً عَرَفْـتُ الـدَّارَ بَعْـدَ تَوَهُّـمِ

أَثَافِيَ سُفْعـاً فِـي مُعَـرَّسِ مِرْجَـلِ
وَنُؤْيـاً كَجِـذْمِ الحَـوْضِ لَـمْ يَتَثَلَّـمِ

فَلَمَّا عَرَفْـتُ الـدَّارَ قُلْـتُ لِرَبْعِهَـا
أَلاَ أَنْعِمْ صَبَاحاً أَيُّهَـا الرَّبْـعُ وَاسْلَـمِ

تَبَصَّرْ خَلِيْلِي هَلْ تَرَى مِـنْ ظَعَائِـنٍ
تَحَمَّلْنَ بِالْعَلْيَـاءِ مِـنْ فَـوْقِ جُرْثُـمِ

جَعَلْنَ القَنَـانَ عَـنْ يَمِيـنٍ وَحَزْنَـهُ
وَكَمْ بِالقَنَـانِ مِـنْ مُحِـلٍّ وَمُحْـرِمِ

عَلَـوْنَ بِأَنْمَـاطٍ عِـتَـاقٍ وكِـلَّـةٍ
وِرَادٍ حَوَاشِيْهَـا مُشَاكِـهَـةُ الــدَّمِ

وَوَرَّكْنَ فِي السُّوبَـانِ يَعْلُـوْنَ مَتْنَـهُ
عَلَيْـهِـنَّ دَلُّ النَّـاعِـمِ المُتَـنَـعِّـمِ

بَكَرْنَ بُكُـورًا وَاسْتَحْـرَنَ بِسُحْـرَةٍ
فَهُـنَّ وَوَادِي الـرَّسِّ كَالْيَـدِ لِلْـفَـمِ

وَفِيْهِـنَّ مَلْهَـىً لِلَّطِيْـفِ وَمَنْـظَـرٌ
أَنِيْـقٌ لِعَيْـنِ النَّـاظِـرِ المُتَـوَسِّـمِ

كَأَنَّ فُتَاتَ العِهْـنِ فِـي كُـلِّ مَنْـزِلٍ
نَزَلْنَ بِـهِ حَـبُّ الفَنَـا لَـمْ يُحَطَّـمِ

فَلَمَّـا وَرَدْنَ المَـاءَ زُرْقـاً جِمَامُـهُ
وَضَعْنَ عِصِـيَّ الحَاضِـرِ المُتَخَيِّـمِ

المصدر: من عدة مصادر

**د لا ل**
2012-02-11, 14:00
دراسات في الشعر الجاهلي
ليوسف خليف
************************************************** ***
الفصل الأول

الشعر الجاهلي بين الرواية والتدوين



القضية التي يبدو انها اصبحت لا تقبل جدلا حولها

هي ان العرب في العصر الجاهلي كانوا يعرفون الكتابة

وهي قضية ثابتة بشهادة الواقع التاريخي من ناحية

وشهادة النصوص الادبية من ناحية اخرى

فالجزيرة العربية لم تكن متخلفة حضاريا ولم تكن بمعزل عن الحضارات المجاورة لها

كما صورها الباحثون القدماء ..



والنقطة الحاسمة في الموضوع ان مجتمع الجزيرة العربية

كان يعرف اسلوبين مختلفين من الحياة الاجتماعية:

احدهما مجتمع البادية وكانت وحدة الحياة فيه القبيلة المتنقلة

والاخر مجتمع المدن وكانت وحدة الحياة فيه القبيلة المستقرة

ومما لا شك فيه ان الكتابة كانت معروفة في مجتمع المدن

وبخاصة المدن التجارية..

ففي مثل هذه المدن تكون الكتابة امرا حيويا لابد منه لقيام حياة

اقتصادية منظمة بها..



وهذه المسألة اصبحت مقررة بين الباحثين ولم تعد موضع نظر بينهم

وانما المشكلة تتركز في مجتمع البادية والى اي مدة كانت الكتابة منتشرة فيه

وقد حاول بعض الباحثين امثال كرنكو و بلاشير

ان يثبتوا انتشار الكتابة في مجتمع البادية

ولكن الادلة التي جاءوا بها كانت هزيلة

وانه من النادر حتى في ايامنا هذه ان نجد بين البدو من يعرف القراءة والكتابة



وحتى في المدن التي انتشرت فيها الكتابة

لم تكن الكتابة تستخدم الا في مجالات محدودة

وذلك لانها لم تأخذ شكل ظاهرة حضارية بقدر ما اخذت شكل ظاهرة حيوية

فقد كانت ضرورة حيوية ظهرت في المجتمع لتفي ببعض احتياجاته الاساسية

وعلى وجه التحديد فقد استخدمت الكتابة في:

تسجيل الديون و تدوين الصكوك و قيد المعاملات المالية

و اثبات حسابات البيع و الشراء وفوائد الربا




وقد وقف ناصر الدين الاسد طويلا امام هذه المسألة وحاول ان يستقصي

المجالات التي كانت تستخدم فيها الكتابة في العصر الجاهلي

ونحن لا ننكر عليه محاولاته ولا نختلف معه فيما انتهى اليه من نتائج

وانما موضوع الخلاف يتركز حول ما ذهب اليه من محاولة

لاثبات ان الكتابة كانت تستخدم لتدوين الشعر في هذا العصر ..

نستكمل الفصل الاول ..


ونحن لا ننكر ان من الشعراء الجاهليين من عرفوا الكتابة

ولكن هذا لا يعني مطلقا ان العرب دونوا الشعر في ذلك العصر

وشغلوا بتدوينه او حتى فكروا في ذلك

وذلك لأن مثل هذا العمل يستلزم مستوى حضاريا معينا

تكون فيه الكتابة ظاهرة حضارية وليست مجرد ظاهرة حيوية

وهذا مالم يكن متوفرا في العصر الجاهلي..



ومن هنا كنا لانطمئن الى قصة كتابة المعلقات وتعليقها على استار الكعبة

وهذا الخبر مصدره ابن عبد ربه في القرن الرابع الهجري

ولم يقل به احد قبله

فأين كان الرواة الذين جمعوا الشعر الجاهلي و اخباره؟

وكيف اغفلوا ذكرها

ولم يذكرها حماد وهو الذي قام بجمع هذه المعلقات؟

واين كانت هذه المعلقات حين دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة ؟

وكيف كان مصيرها؟؟
نستكمل الفصل الاول ...


لم تكن الكتابة اذن وسيلة لتدوين الشعر في العصر الجاهلي

وان تكن قد استخدمت في ظروف معينة لتدوين بعض قصائد ومقطوعات منه

وهي قصائد ومقطوعات لا نملك دليلا على انها وصلت الى عصر التدوين مكتوبة

اما الاغلبية المطلقة من نصوص هذا الشعر فقد احتفظ بها الرواة في ذاكرتهم

وتناقلوها عبر الاجيال عن طريق الرواية الشفوية

وهي حقيقة تجد تأييدا لها فيما يقرره ابن سلام


كانت الرواية الشفوية اذن الوسيلة الاساسية لحفظ الشعر الجاهلي

وكان لكل شاعر راوٍ أو رواة يلازمونه ويأخذون عنه شعره

ثم يتولون اذاعته بين الناس

وكان هؤلاء الرواة عادة من ناشئة الشعراء الذين يلازمون كبارهم

لا من اجل الرواية فحسب وانما من اجل تعلم الشعر

وهم غالبا من اسرة الشاعر او قبيلته

واحيانا هم غرباء عن القبيلة ...



والواقع أن دور الراوي كان خطيرا

فهو الذي ينقلنا من حالة انتشار فوضوية الى حالة جمع مرتب للاثار الشعرية

كما يقول بلاشير

وكانت مهمته الاساسية معاونة الشاعر على نشر قصائده بين الجماهير

ولكنه في بعض الاحيان كان يعينه على انشائها

ويصحح ما بها من خطأ ويقوم ما اعوج منها

فإذا ما ودع الشاعر الحياة اصبح الراوي الامين على تراثه الفني

والمسئول لا عن نشره واذاعته بين الناس فحسب

وانما ايضا عن جمعه واعلان الظروف والمناسبات التي أوحت به ...



ومعنى هذا ان مهمة الراوي لم تكن تنتهي بانتهاء حياة شاعره

بل كانت تزداد اهمية وخطرا

اذ يصبح مسئولا امام التاريخ الادبي عن حمل امانة الكلمة والحفاظ عليها

وتسليمها للأجيال التالية سليمة كاملة كما سلمها صاحبها اليه

**د لا ل**
2012-02-11, 14:02
دراسة في الشعر الجاهلي \ بقلم فالح الحجية

طبقات الشعراء الجاهليين)


الشعراء الجاهليون اجمالا يمكن حصر امكاناتهم ونتاجاتهم ومكانتهم في عصرهم في ثلاث طبقات الاولى اولئك الذين كرسوا حياتهم في قول الشعر
واتخذوه حرفة لهم فهم يتغنون فيه وبكل ماجاؤا به من قصائد رائعة التنسيق والحبك والبلاغة وقد ملىء شعرهم بالصور الشعرية والاخيلة فهم قادرون على التعبير بمتا يختلج في انفسهم من عاطفة جياشة وفي قومهم باصدق تعبير ومنهم من صاغ الحكمة شعرا باحسن اسلوب وامتن عبارة واصدق احساس فهم الشعراء الفحول واصحاب المعلقات ومن شاكلهم
اما الطبقة الثانية فهم الذين لا يقولون الشعر الا عابرا او عن قلة فهم يقولون القصيدة مترجمين ما في نفوسهم من احساس او عاطفة قوية فيهم او اثر حادثة او حالة المت بهم ويغلب على شعر هؤلاء صفة السرد او الخبر الا انه لا يخلو من مقطوعات شعرية قيمة جدا
اما الطبقة الثالثة فهي طبقة الشعراء الصعاليك وهو طبقة نشاءت بين الطبقيتين وسموا بالصعاليك لفقرهم – لاحظ كتابي في الادب والفن -- المراءة في الشعر الجاهلي – وقد عاش الصعاليك على الغزو وتحدي المصاعب وحب المغامرة وكانوا يمقتون الاغنياء البخلاء ويستبيحون اموالهم ويقسمونها بينهم
وهؤلاء الصعاليك يفخرون بكبريائهم ويمتازون يخفة حركاتهم وتنقلهم وعدم مبالاتهم في حهم للمال فهم يسيرون على نهج – كل يوم له رزقه - فلا يدخرون مالا ولا يحسبون لغد حساب فان لم يجدوا طعاما لهم في يوم من الايام اخذوه بالاغارة والقتال



مكانة الشعراء الجاهليين
-------------
الشاعر العربي يتميز بمكانته العالية المرموقة في قومه وعند قبيلته او القبائل الاخرى تبعا لقوة شاعريته واشتهاره بين القبائل فكما كان يقال فلان فارس القبيلة الفلانية يقال فلان شاعرها واذا نبغ في القبيلة شاعر او ابدع في القصيد كان ذلك مدعاة للفرح والابتهاج به واقامة الحفلات والتكريم له فيما تتقدم القبائل الاخرى للتهنئة لقبيلته وذلك لان الشاعر بمثابة الفارس حا مي الاعراض فهو لسان قومه الذي يتكلم عنهم في المجتمعات والوفود وفي المناظرات والمواسم والاسواق حيث كانت اسواق الشعر قائمة ورائجة مثل سوق عكاظ وسوق المربد خيرشاهد على ذلك و هومقوي عزيمة قومه في الحرب وناقل الاخبار ويمكن القول بان الشاعر في الجاهلية بمثابة الصحيفة هذا اليوم تنشر كل خبر يقع وتنتصرلوجهة نظر محرريها اواحزابهم والعاملين فيها اوما انشئت لاجله .

خصائص الشعر العربي
----------------------
اختص الشعر العربي الجاهلي بتمثيل الحياة في الجزيرة العربية التي قيل فيها و يمثل صورة صادقة واضحة المعالم والملامح لحياة المجتمع البدوي في صور نابعة من حياة العربي ذاته فنلاحظ في الشعرالجاهلي الخيام والاطلال والحلو الترحال والابل والصحراء المجدبة والرمال المحرقة وما يعتريها اثناء جريان الرياح وفيه تتجسد معالم عادات القوم من غزو وحب وثأر وشجاعة وحفظ للجوار فالشعر تجسيد حي لمشاعرالشاعر في قومه وما يعتمل في نفسه من عاطفة وحب وكره وبغض وحكمة ورثاء ووصف لما تقع عينه عليه اويؤثر في نفسيته مثل وصف لحيوان او مكان او اطلال
ويمتاز الشعر العربي بانه يمثل صورا جلية واضحة لاعمال القوم ويمتاز بمتانة شعرية عالية وباسلوب قوي تظهر البداوة فيه جلية الا ما ندر حيث شعراء الحاضرة وبالاضافةالى ذلك فهو ديوان العرب ففيه تاريخ العرب وانسابهم ووقائعهم وحكمهم وادابهم
وقد تحدى الشعر الجاهلي عواقب ونوائب الزمن وطول المدى فهو خالد على مرور الدهر وما زالت هذه الاشعار والقصائد حية بكل معاني الحياة وتعبر في بعض الاحيان عن حالة الانسان في هذا القرن وعاطفته لحد الان وستبقى تمثل نفسية الانسان العربي ونوازعه وما يعتمل في قلبه من عواطف ومشاعرواحاسيس.

**د لا ل**
2012-02-11, 14:47
جذور (جينالوجيا) الشعر الجاهلي دراسة في نقد النقد - د. محمد بلوحي*

إن بداية ظهور الفن بعامة والشعر بخاصة عند الإنسان قضية موغلة في القدم، لا يمكن الجزم فيها بحكم، ولا سيما أن الأدلة المادية قليلة، أو منعدمة في بعض المواطن، فإذا أراد الباحث أن يقارب تراثاً شعرياً كتراثنا الجاهلي – اعتمد في الحفاظ عليه على الرواية الشفهية التي تنازعتها الأهواء والعصبيات – فإنه سيصطدم أول ما يصطدم بتباين الآراء والقراءات وتضاربها، وكل قراءة تدعي لنفسها ملك حقيقة الفصل في قضية بداية ظهور الشعر الجاهلي.


اختلف القدماء من الرواة والمدونين والنقاد في أولية الشعر الجاهلي، وألقت هذه القضية بثقلها على القراءات الحديثة، بل وجدت فيها كثيراً من الأقلام ميداناً يجب التمحيص فيه والتدقيق، بالعودة إلى المصنفات التراثية، بل وإلى الكتب المقدسة علّها تجد نصوصاً تقوي بها حجتها وتدعم بها مذهبها.


يرجع اختلاف القدماء في هذه المسألة بالأساس إلى الزخم الذي واكب عملية التدوين في العصر العباسي، والتي كان يهدف من ورائها دارسو الشعر الجاهلي إلى تدوين أكبر قدر ممكن من الأخبار والأشعار قبل اندثارها بذهاب حامليها من الرواة، وكان هدفهم الجمع أولاً ثم التمحيص ثانياً، وذلك بخلاف تدوين الحديث النبوي الشريف الذي راعى فيه المحدثون مقاييس جنبت كثيراً تدوين ما وضع على رسول الله كذباً وذلك من أجل المحافظة على المصدر الثاني من مصادر الشريعة الإسلامية. كان القصد من وراء تدوين أخبار شعراء الجاهلية وشعرهم المحافظة على اللغة الصحيحة لوضع قواعدها، وضبط أحكامها، وكان هذا الاهتمام بالتدوين يقع في الدرجة الثانية إذا ما قورن بمسألة الحديث النبوي التي تتعلق بالشريعة، بل كان بعض الرواة والمدونين يرون أنّ تدوين أخبار الشعراء الجاهليين وأشعارهم لا يرقى إلى مسألة تدوين الحديث النبوي الشريف.


لقد فصل بعض القدماء في مسألة أولية الشعر العربي، فذهبوا إلى أن عمره يمتد بين القرن والقرنين قبل ظهور الإسلام على أكثر تقدير، إذ نجد الجاحظ يقرر أن عمر الشعر العربي قصير بالمقارنة مع عمر الإنسانية السحيق، فهو "حديث الميلاد، صغير السن، أول من نهج سبيله، وسهل الطريق إليه، امرؤ القيس بن حجر، ومهلهل بن ربيعة.. فإذا استظهرنا الشعر، وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام – خمسين مئة عام – وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمئتي عام"(1)، أما ابن سلام الجمحي فيروي عن عمر بن شبة أنه ليس "للشعر والشعراء أول يوقف عليه، وقد اختلف في ذلك العلماء، وادعت القبائل كل قبيلة لشاعرها أنه الأول.. فادعت اليمانية لامرئ القيس، وبنو أسد لعبيد بن الأبرص، وتغلب لملهل، وبكر لعمرو بن قميئة والمرقش الأكبر، وإياد لأبي دواد.. وزعم بعضهم أن الأفوه الأودي من أقدم هؤلاء، وأنه أول من قصد القصيد، قال: وهؤلاء النفر المدعى لهم التقدم في الشعر متقاربون، لعل أقدمهم لا يسبق الهجرة بمئة سنة أو نحوها"(2)، ولم تقتصر الإشارة إلى هذه المسألة عند هذين العلمين، بل نجد أن جل الرواة قد ألمحوا إليها في مصنفاتهم ضمن أخبارهم أو تعاليقهم، ولكنهم أشاروا إلى المسألة دون الخوض والتمحيص فيها والتقليب في مضمونها.


يدرك المتأمل في هذه الروايات والأخبار أن جلها يتفق على فترة التأريخ لعمر الشعر الجاهلي ما بين القرن والقرنين كبداية للشعر العربي، وهذا ما جعل المستشرق كارل نارلينو ينتصر لقول الجاحظ ومن ذهب مذهبه من "العلماء العرب الذين قالوا بمدة مئة وخمسين سنة تقريباً للشعر الجاهلي، لم يبعدوا عن الصواب إذا فرضنا أنهم أرادوا بذلك ما وصل إلينا من الأشعار القديمة" 3-إن هذه الإشارة الأخيرة في النص يقرن فيها فرضية هذا المنحى بفرض أن هذا الاتجاه صائب إذا أراد به أصحابه ما وصل إلينا من الأشعار القديمة، أما إذا أخذنا بما لم يصل إلينا، فذاك ما يفتح باب القول بأن المدة التي أشارت إليها المصنفات القديمة والتي ذكرنا بعضها فيما سبق غير دقيقة وغير معبرة عن أوليات الشعر العربي القديم.


فالتضارب الذي وسم مواقف الكثير من القدماء من إشكالية أولية الشعر العربي هو الذي فتح المجال أمام الكثير من المستشرقين لإبداء تحفظ كبير حيال الجزم في هذه الإشكالية، والقول بأنه "ليس من الواضح متى بدأ العرب في نظم الشعر، فبعضهم يرجعه إلى آدم، والبعض يدعي تقديم قصائد من عهد إسماعيل وعلى الرغم من أن ملوك جنوب الجزيرة العربية ألّفوا نقوشهم بلغاتهم ولهجاتهم، فإن الأشعار التي اهتموا بنظمها، حسبما يقول الأثريون المسلمون، إنما كتبت بالعربية التي كتب بها القرآن، لكن يبدو أن الرأي العام يقرر أن الشعر العربي- على الشكل الذي استقر عليه فيما بعد – بدأ قبل ظهور الإسلام ببضعة أجيال قليله"(4) فالشك هو المقياس الأساس الذي تبناه المستشرقون منذ البداية في التعامل مع هذه الإشكالية التي اعتمدت جل أطروحاتها على موروث استعان في نقله له بالرواية الشفهية التي لا ترقى إلى مقام الدليل الموثق سندا، أو ماديا بواسطة الكشوف الحفرية أو المخطوطات الموثقة.


إذا كانت بعض الدراسات العربية الحديثة تسعى جاهدة إلى القول بأن جذور الشعر العربي موغلة في القدم، فإن كثيراً من المستشرقين وبخاصة مرجوليوث على وجه الخصوص حاولوا إثبات أن البداية الحقيقية للشعر العربي إنما ظهرت بعد الإسلام لا قبله "والكمية الهائلة من النقوش التي ترجع إلى ما قبل الإسلام والتي نملكها الآن مكتوبة بعدة لهجات، ليس فيها شيء من الشعر.. ولا يمكن أن تستنتج من النقوش العربية أنه كانت لدى العرب أية فكرة عن النظم أو القافية، على الرغم من أن حضارتهم في بعض النواحي كانت متقدمة جداً.. فإن كان القرآن يتحدث عن الشعر على أنه شيء يحتاج إلى تعلم، فمن المعقول أن نفترض أنه يشير إلى تلك الصنعة التي تستلزم العلم بالأبجدية، لأن القافية العربية تقوم في تكرار نفس المجموعة من الحروف الساكنة، والعلم بنظام نحوي، لأن النظم يتوقف على الفارق بين المقاطع الطويلة والقصيرة، وارتباط بعض النهايات ببعض المعاني، فيمكن إذن أن يكون ما يشهد عليه القرآن هو أنه قبل ظهوره كان بين العرب الكهان المعروفين بأنهم شعراء، ومن المحتمل أن لغتهم كانت غامضة، كما هي الحال لأي ألوان الوحي"(5) وهذا الاستنتاج يقوم على قاعدة فيلولوجية طبقها المستشرقون في دراستهم للشعر العربي القديم.


فمفهوم الشعر والشعراء في الجاهلية والملتبس بكلام وتعاويذ الكهان، وما كان يصدر عنهم من كلام مسجوع مبني على نغم موسيقي متجانس وإيقاع متناغم يتداخل في كثير من الصفات مع الإيقاع الشعري الجاهلي هو الذي خَيّل لمرجوليوث وجعله يقرّ ويؤكد أن الذي نَصّ عليه القرآن من شعر ما هو إلا سجع الكهان، وشتان بين ما هو شعر وما هو سجع الكهان، وأنهما جنسان وإن التقيا في بعض الخصوصيات التعبيرية فإنهما يختلفان في الكثير منها، لذلك فإن مذهب مرجوليوث يحتاج إلى سند علمي يؤكده، وإلا كان الحكم مبنياً على فرضيات تخمينية لا تجد من النصوص ما تشد به عضدها.


إن إشارة المستشرق كارل نالينو فتحت الباب أمام القراءة العربية الحديثة لتتجاوز الروايات والأخبار القديمة، وتؤسس لقراءة تذهب إلى أن أولية الشعر العربي القديم موغلة في القدم، بل القول أن أول شاعر عربي كان نبياً، وذلك إشارة إلى سيدنا إسماعيل عليه السلام، فنجد نجيب محمد البهبيتي يعنون الفصل التاسع من مؤلفه 6 بأن أبا الشعر العربي الأول نَبيّ وهو "إسماعيل أبو الشعر العربي نشأ بعمله في العاربة، واتخذ أول أشكاله على صورة أناشيد يتغنى بها المصلون في صلاتهم بالمعبد، ينظمها لهم إمامهم الديني الذي تولى قيادتهم الدينية بعد أن ترك أبوه له رعايتهم وتعليمهم دين التوحيد الجديد.. ولذا وجد إسماعيل نفسه مسؤولاً عن الصغيرة والكبيرة فيه فهو الإمام، وهو ناظم الأناشيد، وهو مرتلها، والمصلون من ورائه يرددون، والصلاة في المعابد الأولى كلها كانت أناشيد منظومة، تُغنى وتصحبها الموسيقى وإسماعيل هو الموجه لهذا كله، وهو القائم به وعليه. وقد أكسب هذا الماضي الأول الشعر قدسية النبي التي لزمته حتى آخر العهد الجاهلي حتى إن العرب الذين لقنوا هذا المعنى في تاريخهم كله لما تقدم إليهم النبي بالقرآن باعتباره وحيا من الله قالوا له: بل هو شعر مثل الذي كان يُوحى من قبله للشعراء، فشأنه فيما أوحي إليه شأن غيره من الشعراء فيما يوحى إليهم: أي يدافعونه عن ملك ظنوه طالبه" وهي قراءة تنطلق من فرضية تحتاج إلى أدلة موثقة تعضد به ما تذهب إليه، لأن مسألة نسبة بداية الشعر العربي القديم إلى إسماعيل عليه السلام تحتاج إلى ترو وتمحيص دقيق حتى لا نبني أحكاماً علمية بهذه الأهمية على فرضيات غير مؤسسة.


يربط البهيبتي قدسية الشعر عند العرب بالاعتقاد الذي كانت العرب تعتقده من أن الشاعر كان يقوم في قومه مقام النبي، ويحتج بقول أبي عمرو بن العلاء الذي يرويه أبو حاتم الرازي في الزينة بحيث "كان الشعراء في الجاهلية يقومون من العرب مقام الأنبياء في غيرهم"(7)، ويبني عليه البهبيتي حكماً يلتبس حكماً يلتبس فيه عليه بين ما هو شعر وما هو وحي، وحجته في ذلك قراءة رواية أبي عمرو بن العلاء دون المساس من دلالتها الأساسية أو جوهرها بشيء، وبذلك يذهب (إلى القول بأن الذين كانوا يقومون في العرب مقام الأنبياء في الجاهلية كانوا ينورون لهم طريقهم، ويوسعون لهم آفاقهم بالشعر الذي كان العرب –شأنهم في هذا شأن العالم القديم- يرونه إلهاماً يتنزل على الشاعر من وحي قوي قدسية تختار الشاعر من بين الناس لتهب له من العلم ما تصطفيه به دونهم. فهو كيان مقدس يلتف على قوة مقدسة تتحكم فيه، وتعتلج بقلبه، وتفور به، فيهيج على لسانه قولاً منسجماً مستوياً مواجا، ينتقل أثره إلى قلب سامعه، فيتجاوب القلبان بالأصل ورجع صداه ويمتزج النفسان بمعنى واحد، وكأنهما كيان واحد"(8) وتلك موازنة عجيبة من البهبيتي بين ما هو وحي وما هو شعر، وكأننا به لا يفرق بين مصدر كل واحد منهما، بل ويجعل كليهما من مصدر بشري، وذاك ما يدعو إليه الاستقراء، لأن مصدر كل منهما معروف لدى العام والخاص، ولا حاجة لنا بالتفصيل فيه، فالنبي موحى إليه لا دخل له في ما يوحى إليه إلا من جهة التبليغ، أما الشاعر فهو المبدع الخلاق لما يقوله، أما إذا كان يصطلح ويستعمل لفظي النبوة والوحي على غير ظاهر معناهما، بل على دلالة أدبية تنزاح فيها اللفظة عن معناها الأصلي إلى معنى ثان يراد به الإلهام والتفرد قياساً لما ورد في قول النبي (صلى الله عليه وسلم) لما سمع قول الشاعر الجاهلي:


سَتُبْدِي لَكَ الأيّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلاً


*** ويأْتيكَ بالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوّد


فقال: "هذا من كلام النبوة" (9) فذاك رأي مؤسس، لأن اللفظة تأخذ دلالاتها بحسب المعنى الذي يقصد إليه.


يحاول البهبيتي أن يؤسس لرأيه القائل بأن الشعر العربي منبعه إسماعيل عليه السلام، ويورد ما أورده ابن رشيق في العمدة "حكى أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين النيسابوري أن كعب الأحبار قال له عمر بن الخطاب وقد ذكر الشعر: يا كعب هل تجد للشعراء ذكراً في التوراة؟ فقال كعب: أجد في التوراة قوماً من ولد إسماعيل، أناجيلهم في صدورهم ينطقون بالحكمة، ويضربون الأمثال، لا نعلمهم إلا العرب"(10)، وانطلاقاً من هذا النص يصبو البهبيتي إلى التأسيس لطرحه السابق، وبعد قراءة نص ابن رشيق ومناقشته مستفيضة يخلص في النهاية إلى أن (الشعر العربي الأول نشأ في حضن المعبد، وكان نبعه إسماعيل، وهذا هو سر ارتفاع الشعر في معيار القيمة حتى يمس القدسية باعتباره فتحا من فتوح إسماعيل، وهو سر ارتقاء الشعراء إلى منزلة تضعهم في العرب موضع الأنبياء في غيرهم من الأمم، وتصير أشعارهم في صدورهم بمنزلة أناجيل الأنبياء في أسفارهم"(11)، وهي نتيجة تبرر علو منزلة الشعر والشعراء عند العرب في الجاهلية، وتفصح عن جانب من سر اهتمامهم بهذا الفن من القول حتى سموا ما جاد منه بالمعلقات، فعلقت في صدورهم ورووها أباً عن جدّ حتى وصلت إلينا، لكن الذي ينقص رأي البهبيتي النصوص الموثقة التي يعتمد عليها في مثل هذا الطرح، حتى يرقى إلى درجة الطرح العلمي المؤسس، وإلا بقي مجرد افتراض يجد الآخذ به نفسه في نهاية الأمر كمن يجري وراء سراب بقيعة يحسبه ماء حتى إذا وصل إليه لم يجد شيئاً.


نحن لا ننفي نشأة الشعر عموماً وعند العرب خاصة نشأة دينية، ونرى في هذا الرأي جانباً من الصحة، ولكنه لا يرقى إلى درجة اليقين، ولاسيما وأننا نبحث في مسألة لا نملك عليها من الأدلة الموثقة الشيء الكثير، بل ما زالت ميداناً خصباً للبحث والتنقيب، معتمدين في ذلك على العلوم الحفرية، علنا نجد ما يفسر كثيراً من جوانب مسألة أولية الفن عامة عند العرب والشعر خاصة، وهذا ما جعل بروكلمان يقر بصعوبة الفصل في مسألة أولية الشعر عند العرب، فشعر العرب كان –حسب تصوره- "فنا مستوفيا لأسباب النضج والكمال، منذ ظهر العرب على صفحة التاريخ، ولا تستطيع رواية مأثورة أن تقدم لنا خبراً صحيحاً عن أولية الشعر، وإذا فلا يسعنا إلا أن نستخلص من الملابسات المشابهة عند شعوب بدائية أخرى نتائج معينة يمكن تطبيقها أيضاً على العرب، إذا قدمت الأحوال الممكن التعرف عليها عند هؤلاء نقاطاً يعتمد عليها في ذلك"(12).


بذلك يأخذ بروكلمان بمنهج تطبيق الملابسات المشابهة التي وجدت عند الأمم البدائية الأخرى لاستخلاص فرضية حول أولية الشعر عند العرب، مشيراً إلى صعوبة الفصل في هذه المسألة لانعدام الرواية المأثورة التي تقدم الخبر الصحيح الذي يفصل في القضية، وبذلك يؤكد لنا أن أي قول يذهب إليه أي باحث في هذه المسألة هو قول احتمالي لا يقيني، خاضع لمبدأ الأخذ والرد، ولكن على الرغم من هذه الإشارة المبكرة لبروكلمان إلا أن كثيراً من القراءات العربية الحديثة خاضت في هذه المسألة محاولة في بعض الأحيان القول فيها بلغة الجزم، وفي بعض الأحيان الأخرى بلغة الاحتمال.


إن ارتباط الشعر بالحياة العامة للعرب منذ القدم جعل بعض القراءات تربط أولية الشعر الجاهلي بالكثير من المحطات الهامة في حياة الأمة العربية في سيرورة تاريخها الطويل، ولاسيما وأنها كانت أمة تقطن في موطن لزمته الكثير من الظواهر الطبيعية وما ينتج عنها من آثار أخلاقية واجتماعية وسياسية، كان على العربي الاهتمام بها أيما اهتمام حتى يوفر لنفسه أسباب البقاء، ومن أهمها الماء والكلأ وخصوبة الأرض، والدفاع عن النفس والحياض.


يشير جواد عليّ إلى أن أولية الجاهلي لا يمكن أن نقر ببدايتها بنحو قرن أو قرنين قبل ظهور الإسلام كما ذهبت إلى ذلك رواية الجاحظ وغيره، ويصف ذلك بالخطل في الرأي، والفساد في الحكم، إذ يؤكد أن "الشعر أقدم من هذا العهد بكثير، وقد أشار المؤرخ (سوزيموس)Zosimus إلى وجود الشعر عند العرب، وهو من رجال القرن الخامس للميلاد، إلى تغني العرب بأشعارهم، وترنيمهم في غزواتهم بها، وفي إشارته إلى الشعر عند العرب دلالة على قدم وجوده عندهم، واشتهاره شهرة بلغت مسامع الأعاجم، فذكره في تاريخه. في سيرة القديس (نيلوس) Nilus المتوفى حوالي سنة 430 بعد الميلاد، أن أعراب طور سيناء كانوا يغنون أغاني وهم يستقون الماء من البئر،… والأشعار المروية في كتب التواريخ والأدب عن حفر آبار مكة وغيرها من هذا القبيل، فقد روي أن (عبد المطلب) لما حفر بئر (زمزم)، قالت (خالدة بنت هاشم):


في تُرْبَة ذَاتِ غَذَاةٍ سَهْلَه


*** نَحْنُ وَهَبْنَا لِعَدِيٍّ سَجْلَه


تُرْوِي الحَجِيجَ زَعْلَةً فَزَعْلَه


وأن عبد شمس قال:


حَفَرْتُ خَمَّا وَحَفَرْتُ رَمَّا


*** حَتَّى أَرَى المَجْدَ لَنَا قَدْ تَمَّا.(13)


كما يورد نصوصاً كثيرة في التغني بالماء وحفر الآبار. والماء من المصادر الأساسية التي ألبسها العربي القديم لبوس القدسية لما لحياته وحياة الخلق من حوله من ارتباط بوجودها، من هنا يمكن ترجيح الرأي الذي ينتصر إلى ربط أولية الشعر عند العرب بحفر الآبار واستخراج الماء، لذا "نجد في كتب السير شعراً قيل في حفر بئر زمزم، وفي آبار أخرى، مما يدل على أن العرب كانوا قبل هذا العهد، إذا حفروا بئراً، قالوا شعراً فيها، وهو شعر يمكن أن نسميه شعر الآبار، وهو يعود ولاشك إلى عرف قديم، قد يتقدم على الميلاد بكثير، وهو يجب أن يكون من أقدم ما قيل من شعر، لما للبئر من أهمية في حياة العرب"(14)، وبذلك يفصل جواد علي في ربط مسألة أولية الشعر الجاهلي بالبحث عن الماء، فيذهب –بخلاف البهبيتي- إلى إرجاع أولية الشعر عند العرب إلى التغني بالماء وبوجوده، لما للماء ومصادره من أهمية بالغة في حياة العربي في صحراء قاحلة وجود الماء فيها أهم من العبادة والمعابد، وهو رأي تؤسس له النصوص الشعرية المأثورة والتي أورد البعض منها اعتماداً على ما ورد في فتوح البلدان والروض الأنف وسيرة ابن هشام وغيرها من المصادر التراثية التي اهتمت بالموضوع وما ورد فيها من أشعار مأثورة، وإن كانت لا تشكل قصائد مطولة وإنما البيت أو البيتين، لأن العربي في ذلك الوقت لم يكن مهيأ لقول القصائد الطوال، ولكن على الرغم من هذه الأبيات الشعرية القليلة التي تظهر وكأنها نتف شعرية، إلا أنها تشكل نصوصاً مؤسسة يمكن الاعتماد عليها في التأريخ لأولية الشعر العربي.


لم تقصر القراءة الحديثة القول في البحث عن أولية الشعر الجاهلي وبخاصة عند جواد عليّ على ما ورد في الماء من أشعار بل ذهبت إلى القول بأن أولية الشعر عند العرب ارتبطت بالحياة اليومية في سلمها وحربها، ومعاشها ومعادها، إذ لم يقتصر التغني بالشعر على حفر الآبار وحدها، وإنما تغنى به عند بنائهم بناء أو حفرهم خندقاً، أو إقامتهم سوراً، أو قيامهم بزرع أو حصاد، وفي أعمال أخرى يناط القيام بها إلى جماعة في الغالب، وكذلك في الغارات وفي الحروب… ورووا أن من الشعراء الجاهليين من كان يتغنى بشعره، وأن حسان بن ثابت أشارَ إلى التغني بالشعر بقوله:


تَغَنَّ بِالشِّعْرِ إِمَّا كُنْتَ قَائِلَهُ


*** إِنَّ الغِنَاءَ لِهَذَا الشِّعْرِ مِضْمَارُ


ولابد أن تكون في الأهازيج وفي أشعار الحج، أنغام يرنم على وقعها الشعر، الذي هو شعر الغناء. فإننا نجد من النتف الباقية من الجمل التي يقولها الحجاج في أثناء حجهم، آثار شعر كان مقروناً بالغناء. ونظراً لوجود تماس مباشر بين هذا الشعر وبين الحياة العامة، فإن في استطاعتنا القول إنه قد يكون من أقدم أنواع الشعر عند العرب، وهو شعر لم ينبع من ألسنة الشعراء المحترفين، وإنما خرج على كل لسان، وساهم فيه كل شخص: رجل وامرأة، مثقف وجاهل، حكيم وسوقي. وهو بعد نابع من صميم الحياة، ومن باطن القلب، للترفيه عن النفس، ولتخفيف التعب، ومازال الناس يتغنون عند وقوع مثل هذه الأمور لهم، وهو غناء لم يحظ ويا للأسف بالرعاية والعناية، لذلك لا نجد له ذكراً في الكتب إلا في المناسبات(15)، وهي قراءة نجد أصولها فيما يذهب إليه كارل بوخر K. Bucher في مؤلفه العمل والنغم والذي أشار إليه كارل بروكلمان فأورد فيه خلاصة رأي بوخار الذي يذهب فيه إلى "أن حركات العمل الطبيعية المنتظمة، لاسيما حركات العمل الجماعي، كانت تحث من تلقاء نفسها على التغني بأغان موزونة مصاحبة للعمل وميسرة له تيسيراً نفسياً. وقد رويت لنا عن العرب أيضاً مثل هذه الأغاني التي تصحب العمل"(16). وهو ربط لأولية الشعر عند العرب بالثقافة الشعبية والأصول الأنثروبولوجية.


تمثل الثقافة الشعبية عند الكثير من الدارسين-وبخاصة عند المهتمين بالدراسات الشعبية والأنثرولوجية- المهد الأول للفن بعامة والشعر بخاصة، لاسيما عند أمة كالأمة العربية وعمق ارتباطها بالشعر كفن قولي، لأنه كان المناسب لأمة ترتحل أكثر مما تستقر، وهي قراءة تحمل الكثير من الجوانب التي تؤسس لمذهبها إّا ما راعينا إيغال القضية في القدم، وقلة الأدلة المادية التي تقطع دابر الشك باليقين، وبذلك لا يجد الدارس لمثل هذه القضايا إلا الافتراض والبناء على بعض الأدلة الشفوية بخاصة ما تعلق منها بالعادات والتقاليد المأثورة عن الأمة العربية والتي توارثتها الأجيال أباً عن جَدٍّ مشافهة، وتعلق بها العام والخاص، المثقف والجاهل، الحكيم والسوقي، الرجل والمرأة، فأصبحت ممارسة يومية للترويح عن النفس من عناء الحياة ومتاعبها.


فالقول بشعبية أولية الشعر العربي قول يرتاح له الباحث باعتبار أن الفن عامة والشعر خاصة لم يولد متكاملاً في بنيته الخارجية والداخلية كما وصل إلينا في معلقاته وإنما سبقته محاولات متكررة انفرادية وجماعية حتى استوى على عوده بالشكل الذي وصل إلينا في معلقاته وغيرها من القصائد والمقطوعات التي زخرت بها المصنفات الأدبية القديمة.


إن ربط جواد علي أولية الشعر العربي بالأناشيد والغناء المتصل بالحياة اليومية للعربي، جعله يلمّح إلى إمكانية ربط أولية هذا الشعر بالطقوس السحرية كما يربط ذلك الغربيون، لأن "بين الشعر والسحر صلة كبيرة، بل رأى البعض منهم أن الغرض الذي قصد إليه من الشعر في الأصل هو السحر، ودليل ذلك أن الغناء عند الشعوب البدائية، ليس متسقاً مع نغم العمل وإيقاع اليد العاملة، فنجد الغناء عند البناء أو الجر أو الحفر، أو الزرع لا يتسق مع نوع حركة العمل، وإنما كان يسلي العمال ويسعفهم بقوى سحرية، وهو الغرض من جميع فن القول عند البدائيين، أي تشجيع العمل بطريق سحري"(17)، وهي قراءة تستمد أصولها من القراءة التي ذهب إليها (برويس) Preuss في كتابه الحضارة العقلية عند الشعوب البدائية- والتي أوردها بروكلمان في مؤلفه السالف الذكر كذلك- إذ يرى أنه "افتراض لا يقوى على النهوض أمام الحقائق الثابتة في علم الأجناس البشرية، وليس بمقنع لتفسير ما وجده الباحثون عند الأمم البدائية، فإن آثار الغناء المصاحب لحركات العمل الإيقاعية المنتظمة قليلة نادرة، على حين تصاحب الأغاني في كل مكان من الأرض أعمالاً غير مرتبطة بنظم الإيقاع، كالغزل والحياكة، والجدل، مما لا يمكن أن يشتمل على وحدة إيقاعية؛ فلم يكن الغناء في مثل هذه الأحوال متسقاً مع نغم العمل تسهيلاً له كما تقدم، وإنما كان الغناء يسلي العمال ويسعفهم بقوى سحرية. وإذاً فلابد أن يكون الغرض الذي قصد إليه الشعر في الأصل، ما دام لم يكن مقصوداً منه مجرد المسامرة، هو الغرض من جميع فن القول عند البدائيين، وتشجيع العمل بطريق سحري"(18)، حتى يجعل من العامل عاملاً منتجاً.


يرى بروكلمان أن المنحى السحري للشعر عند العرب لم يتجل في كل الأغراض الشعرية، بل ظهر في غرض الهجاء دون سواه "فمن قبل أن ينحدر الهجاء إلى شعر السخرية والاستهزاء، كان في يد الشاعر سحر يقصد به تعطيل قوى الخصم بتأثير سحري. ومن ثم كان الشاعر، إذا تهيأ لإطلاق مثل ذلك اللعن، يلبس زيا خاصاً شبيهاً بزي الكاهن. ومن هنا أيضاً تسميته بالشاعر، أي العالم، لا بمعنى أنه كان عالماً بخصائص فن أو صناعة معينة، بل بمعنى كان شاعراً بقوة شعره السحرية، كما أن القصيدة كانت هي القالب المادي لذلك الشعر"(19)، وبذلك نجد بروكلمان يقصر ارتباط أولية الشعر عند العرب بالسحر في غرض الهجاء، وفي المرحلة الأولى لظهور هذا الغرض عند العرب، أما جواد علي فيعمم ذلك على الشعر الذي كان يصاحب العمل، وبذلك ينتصر لرأي (برويس) Preuss.


أما مرجليوث فينفي وجود الشعر عند العرب ولو كان موجوداً لأُثّر في "الكمية الهائلة من النقوش التي ترجع إلى ما قبل الإسلام والتي نملكها الآن مكتوبة بعدة لهجات، ليس فيها شيء من الشعر… ولا يمكن أن نستنتج من النقوش العربية أنه كانت لدى العرب أية فكرة عن النظم أو القافية، على الرغم من أن حضارتهم في بعض النواحي كانت متقدمة جداً… فإن كان القرآن يتحدث عن الشعر على أنه شيء يحتاج إلى تعلم، فمن المعقول أن نفترض أنه يشير إلى تلك الصنعة التي تستلزم العلم بالأبجدية، لأن القافية العربية تقوم في تكرار نفس المجموعة من الحروف الساكنة، والعلم بنظام نحوي، لأن النظم يتوقف على الفارق بين المقاطع الطويلة والقصيرة، وارتباط بعض النهايات ببعض المعاني. فيمكن إذن أن يكون ما يشهد عليه القرآن هو أنه قبل ظهوره كان بين العرب الكهان المعروفين بأنهم"شعراء"؛ ومن المحتمل أن لغتهم كانت غامضة، كما هي الحال في ألوان الوحي"(20)، وهو طرح معروف يكاد ينفرد به مرجليوث حول أصل الشعر العربي القديم ومدى صحته، فالعرب لم يعرفوا الشعر ولم ينظموه وأن ما عرف عنهم ما هو إلا ضرب من سجع الكهان وما شابهه من الكلام ذي الإيقاع المتجانس، وأن اسم الشاعر اختلط عند العرب باسم الكاهن، وهو رأي فيه من الغلو الذي لا يصمد أمام الشعر الوافر الذي وصل إلينا من الفترة العربية قبل الإسلام، وإن داخله بعض النحل بفعل الرواية الشفهية.


إن الاختلاف في الطرح حول أولية الشعر الجاهلي هو السمة الرئيسة التي تميزت بها جلّ الدراسات التي تعرضت لهذا الموضوع، وهذا ما حدا بيوسف خليف في مؤلفه (دراسات في الشعر الجاهلي) إلى الوقوف على هذه الحقيقة، لأن "الباحثين مختلفون حول طبيعة هذه التجارب والمحاولات التي بدأ بها الشعر العربي قبل حرب البسوس. وبين أيدينا نظريتان أساسيتان: نظرية قديمة ذهب إليها العلماء العرب منذ عصر التدوين، ونظرية حديثة يذهب إليها بعض المستشرقين، ويتابعهم فيها بعض الباحثين المحدثين"(21)، و..؟.. أن النظرية القديمة تذهب إلى أن أول نشأة الشعر العربي كانت عبارة عن مقطوعات قصيرة أو أبيات قليلة العدد، يرتجلها الشاعر في مناسبات طارئة ليعبر بها عن انطباعات سريعة مؤقتة، ثم أخذ الشعراء يطيلون في مقطوعاتهم، ويزيدون من عدد أبياتهم، خاضعين في ذلك لسُنَّة التطور الحتمية وقانون النشوء والارتقاء الطبيعي، حتى تكاملت لهم القصيدة العربية الطويلة في صورتها المعروفة على يد المهلهل في أيام حرب البسوس.


فالمهلهل أخو كليب أول من قصد القصائد الطوال وضمنها الغزل، وذاك ما تذهب إليه بعض الروايات في المصادر القديمة مثل الأغاني، كما تؤكد بعض الروايات في المصدر نفسه أن أول شاعر هو امرؤ القيس، وهو المتأخر زماناً بقليل عن زمن المهلهل، وهذا ما حدا بالمستشرق مرجوليوت إلى القول بأن "الدعوة الخاصة بالمهلهل إنما تستند إلى اسمه، فمعناه: "صانع النسيج الرقيق" والمراد هنا "النسيج الشعري"، بينما تفسير الاسم بمعنى "الصانع" أدى إلى هذه الفكرة العجيبة وهي أنه كان أول شاعر انحرف عن جادة الصدق"(22)، وهي تخمينات وتأويلات لا ترقى إلى مصاف الحجج العلمية الدامغة التي تستند إلى براهين مادية ذات طابع علمي.


فإذا كان البحث في أولية الشعر الجاهلي ينسب للمهلهل أم لامرئ القيس- وهما المتأخران زمنياً- أمراً يجد فيه الباحث صعوبة، فما بالنا بالرأي الذي يذهب إلى أن أولية الشعر العربي تعود إلى آدم أو إسماعيل عليهما السلام أو عاد وثمود، علماً أننا لا نقيم في النسب ما فوق عدنان، ولا نجد لأولية العرب المعروفين شعراً، فكيف بعاد وثمود؟… ما لسان حمير وأقاصي اليمن اليوم بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا، فكيف على عهد عاد وثمود.(23)


إن مسألة اللسان الذي كتب به الشعر الجاهلي الأول جعلت القراءة الحديثة تثير قضية تطور اللغة العربية في حد ذاتها والمراحل التي مرت بها حتى وصلت إلينا كما هو الحال عليه في النص الشعري الجاهلي، مستوية موحدة في لغة قريش، لأن "لغة الشعر الجاهلي وهي التي يقال لها اللغة العربية الفصحى-والتي نزل بها القرآن الكريم- هي فرع من مجموعة من اللغات عرفت عند المستشرقين باسم "اللغات السامية"؛ وقد انكبت على دراستها منذ قرنين من الزمان على الأقل مجموعة كبيرة من علماء الغرب يبحثون أصولها وقواعدها وعلاقاتها بعضها ببعض معتمدين في دراساتهم على ما اكتشف من نقوش وكتابات ومخربشات لهذه اللغات في الجزيرة العربية وجنوبي العراق وفي الشام وسيناء"(24). إن هذه اللغات السامية التي تتألف من قسمين: لغات سامية شمالية تمركزت في العراق مثل البابلية والآشورية والكلدانية، وأخرى تمركزت في الشام مثل الكنعانية والفينقية والآرامية والعبرية والأوجاريتية والسريالية والنبطية وغيرها، وثانية سامية جنوبية من اللهجات العربية المختلفة: ويقصد بها: عربية قريش واللهجات الصفوية والثمودية واللحيانية، وهي لهجات عربية شمالية، وجنوبية مثل المعينية والسبئية والقتبانية والأوسانية والحضرمية والحميرية(25). فمسألة أولية الشعر العربي تفضي إلى طرح السؤال طرحاً حاداً: بأي لغة كتب أول نص شعري جاهلي؟، وكيف استوى عبر المراحل حتى وصل إلى لغة قريش فوصلنا بها في المقطوعات والقصائد التي حوتها مدونات الشعر العربي القديم؟.


إن الخوض في مسألة اللغات السامية بين شمالية وجنوبية، والتطورات التي لحقت بنظام اللسان حتى استوى على تكوينه الأخير من اسم وفعل وحرف وأيهما الأول الفعل أم الحرف أم الاسم، ومسألة النطق والكتابة وتطور الكتابة العربية حتى مراحل نضجها الأخير مسائل في غاية الصعوبة والتعقيد والفصل فيها يحتاج إلى دراسة معمقة لا يسمح بها المقام ها هنا بالإضافة إلى أسانيد علمية قوية موثقة.


وهذا ما يصعب على أي قراءة الفصل فيه، مما يبرهن على أن الفصل في أولية الشعر العربي مسألة محفوفة بالمخاطر والقول في أن أول شاعر عربي كان نبياً-كما ذهب إلى ذلك البهبيتي- أو عاد وثمود مسألة تحتاج إلى تدقيق نظر و"أن الجهود التي بذلت عن أولية الشعر العربي لم تتعد نتائجها مرحلة الفروض التي لم يثبت منها فرض بصورة علمية حتى الآن"(26)، وهذا ما يؤكده بروكلمان إذ قال:(27) "لا تستطيع رواية مأثورة أن تقدم لنا خبراً صحيحاً عن أولية الشعر-عند العرب- وإذاً لا يسعنا أن نستخلص من الدراسات المشابهة عند شعوب بدائية أخرى نتائج معينة يمكن تطبيقها أيضاً على العرب"، فالبحث العلمي اليوم بوسائله المتميزة من حفريات واجتماعيات وعلم مقارنة اللغات السامية يمكن له أن ينير طريق البحث في أولية الشعر العربي إذا توفرت له الوسائل الكفيلة بذلك، وإلا بقى البحث في هذه المسألة ضرباً من الافتراضات التي لا تستند إلى سند مادي عتيد.


إن التأريخ لأولية الشعر العربي بعصر المهلهل وامرئ القيس، أي بخمسين ومئة عام أو مئتي عام قبل ظهور الإسلام-كما ذهب إلى ذلك الجاحظ- مذهب لم تستغه القراءة الحديثة معتمدة في ذلك على أن الشعر العربي الذي استوى على هذه الدرجة الفنية الراقية والصنعة المتميزة والموسيقى المبدعة يبرهن على أن هناك مراحل متقدمة تعد بالقرون كانت فترة اختمار وتبلور واستواء قبل أن ينضج بهذا الشكل المتميز عند أقدم شاعرين وصل إلينا شعرهما كالمهلهل وامرئ القيس.


تؤكد القراءة الحديثة في مسألة أولية الشعر العربي أن اللغات السامية ترجع في كتاباتها إلى نوعين من الخطوط، الخط المسند، وهو الخط الذي دونت به اللهجات العربية الجنوبية، ثم الخط المشتق من الخط الآرامي المتأخر وخط النبط وبه كتبت اللغات السامية، والخط المسند أقدم عهداً من الخط المشتق وهو خط العرب الأول، وهناك خط ثان مأخوذ من الخط النبطي والذي يعرف عند المستشرقين بالخط العربي الشمالي، فهو الذي شاع بين ذلك وخاصة على أيدي اليهود والنصارى الذين كانوا يكتبون به حتى كاد يهيمن على الخط المسند، وكان خط العرب عند ظهور الإسلام (28).


أما بأية لغة كتبت النصوص الأولى من الشعر العربي فتلك مسألة وقفت أمامها القراءة الحديثة وقفة حذر نظرا لقلة الأدلة المادية التي تسند عليها فرضياتها مادام (أن كل النصوص التي وصلتنا كانت لهجات عربية أخرى، منها ما هو بعيد عن العربية الفصحى، ومنها ما هو قريب منها وخاصة نقش النمارة النبطي) (29). فالعربية التي وصلنا بها الشعر الجاهلي هي لغة قريش وبها نزل القرآن الكريم، مما جعل القراءة الحديثة تحاول الوقوف عند التعليل الذي يمكن أن تنتهجه لمعرفة كيفية توحد اللهجات العربية تحت راية قريش واتخاذها لغة رسمية، خاصة، وأن اللهجة (تشتمل على ألفاظ وعناصر بعضها قديم جداً يعود عهدها إلى أقدم اللهجات السامية، وبعضها يمثل التطور الذي مرَّ على اللهجات في جزيرة العرب في بادية الشام وأطراف العراق، هذا المتأخر ما يشير إلى ابتعاد معناه عن معنى الكلمة الأم، ووروده في معان جديدة تولدت من ذلك التطور)(30).


ولما كان النظر إلى هذه المسألة صعباً بسطت القراءة الحديثة أطروحات وفرضيات حاول فيها الباحثون من أمثال علي جواد في المفصل وشوقي ضيف في العصر الجاهلي، ومن قبلهم المستشرقون نولدكة وجويدي وفيشر وبلاشير تتبع المسألة والميل إلى (الرأي الذي يقول: إن القبائل العربية الشمالية اصطلحت فيما بينها على لهجة أدبية فصحى كان الشعراء على اختلاف قبائلهم وتباعدهم وتقاربها ينظمون فيها شعرهم، فالشاعر حين ينظم شعره يرتفع عن لهجة قبيلته المحلية إلى هذه اللهجة الأدبية العامة، ومن ثم اختفت جملة الخصائص التي تميزت بها كل قبيلة في لهجتها، فلم تتضح في شعر شعرائهم إلا قليلاً جداً" (31)، واختلف هؤلاء الباحثون في أي لهجة وقع عليها الاتفاق لجعلها اللغة الأدبية ذات الطابع الفصيح، وهل كان هذا الاتفاق بدافع العامل السياسي أو الثقافي، باعتبار أن الجزيرة العربية شهدت تحولات عديدة كبرى مروراً ببروز قبائل في نظم الشعر على قبائل أخرى،مما أهل لغتها لأن تكون لغة أدبية وذلك ما يذهب إليه المستشرق نالينو حيث (جمع اللغويون والنحاة منها مادتهم اللغوية، وهي قبائل مَعْد التي وحد ملوك كندة كلمتها تحت حكمهم قبل منتصف القرن الخامس الميلادي، وفي رأيه أنها تولدت من إحدى اللهجات النجدية وتهذبت في زمن مملكة كندة، وصارت لغة أدبية بين العرب)(32)، أما بروكلمان فكان يرى أن (الفصحى كانت لغة فنية قائمة فوق اللهجات وإن غذتها جميعاً)(33). وكلها قراءات تقوم على فرضيات تحاول من خلالها التأسيس لتأويلات مختلفة.


هذه الفرضيات والقراءات هي التي حاول حنفي حسنين أن يتتبعها، وهي التي جعلته ينتهي إلى (أنها جميعاً تمثل فروضاً علمية لم يثبتها أي باحث منهم، وإنما هي حدس يختلفون فيه، وبه كثير من التعميم) (34). مما جعله يؤكد أن عوامل دينية وسياسية واقتصادية، ساعدت لهجة قريش على السيادة خلال القرن السادس الميلادي فأصبحت لغة الشعر، وأن قبيلة (قريش استطاعت أن تدمغ هذه اللغة الأدبية الموحدة بطابعها الخاص، وبلهجتها المستقلة، نتيجة لمركز القوة الديني والاقتصادي الذي كانت تحتله خلال القرن السادس الميلادي، وقبيل ظهور الإسلام، حتى إِذا نزل القرآن الكريم وجد البيئة اللغوية التي تفهمه دون عناء على الرغم من اختلاف اللهجات، فقبله كان الشعر الجاهلي، يجوب آفاق الجزيرة يحمل مشعل اللهجة الواحدة، فيجد الآذان العربية كلها تطرب له وتتحمس لاستقباله) (35). وبذلك ندرك أن الشعر الذي سبق توحيد اللهجة لم تحفظه العرب، ولم تروه لأنه قيل بلهجات متفرقة استعصى على العرب الحفاظ عليها وعلى شعرها، ولو بحث الدارسون في التراث الشعبي كالأغاني والأناشيد والأهازيج لوجدوا بواكير الشعر العربي في هذه الألوان من الأشعار نظراً للارتباط العميق بالنفس في المرحلة الأولى لتبلور الحس الشعري لدى العربي، هذا الحس الذي ولد مقاطع الغناء والأناشيد والأهازيج الحماسية نظراً لارتباطها بحياته الوجدانية والمعاشية والسياسية وكان الرجز السيد الغالب على هذه المقاطع الغنائية لبساطة موسيقاه وقربها من النثرية المسجوعة ذات الإيقاع المؤثر كالمقطوعة التي أنشدتها هند بنت عتبة ونسوة من قريش في غزوة أحد لتحميس فرسان قريش من المشركين لمجابهة جيش المسلمين، والتي يروى أنها من إنشاد أعرابيات في يوم قار لتحميس الفرسان المقاتلين:


إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِق


*** وَنَفْرِشِ النَّمَارِق


أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِق


*** فِرَاق غَيْر وَامِق (36).


وبذلك تحاول هذه الأطروحات أن تذهب إلى أنه في مثل هذه المقطوعة الشعرية تبلورت بواكير الشعر العربي سواء أكان في لهجاته المحلية أم في اللغة الأدبية قبل أن يخطو إلى مرحلة القصيدة ذات المواضيع المتميزة والأخيلة الراقية والموسيقى المتعددة في بحورها المعروفة.


ولئن حاولت القراءة التاريخية أن تفصل في إشكالية أوّلية الشعر الجاهلي، بتبنيها الأطروحات التي فصلنا فيها سلفاً، فإننا ندرك أن المسألة شائكة لا يمكن الفصل فيها بقول: وإنما تبقى المسألة خاضعة للتخمينات والفرضيات التي لا تستند إلى السند العلمي القائم، لأن الإشكالية موغلة في القدم وفرضياتها مبنية على الاحتمال الذي لا يرقى إلى القول الفصل، على الرغم من أن القراءة التاريخية حاولت بكل ما أوتيت أن تبحث في الإشكالية، ويبقى جهدها جهداً يستحق التقدير، كما يعتبر جهداً علمياً أغنى المكتبة العلمية وزودها برؤى لم يكن لها أن تصل إليها لو لم يبذل روادها جهداً من أجل التأسيس لمقاربة إشكالية أولية الشعر الجاهلي، كما لم تقف القراءة للشعر الجاهلي عند هذه الإشكالية بل تعدتها لتبحث في إشكاليات اتصلت مباشرة بما وصل إلينا من نصوص هذا الشعر، فعملت من أجل دراسة وتمحيص مسألة مصادر هذا الشعر وبخاصة ما وصل إلينا عن طريق الرواة.


الإحالات:


(1) الحيوان الجاحظ: تح: عبد السلام هارون دار إحياء العلوم لبنان 1996 1/59.


(2) طبقات فحول الشعراء ابن سلام: تح: محمود محمد شاكر مطبعة المدني المؤسسة السعودية بمصر مصر. ص: 3.


(3) تاريخ الآداب العربية كارلو نالينو: دار المعارف مصر ط:2 1970 ص 68.


(4) نشأة الشعر العربي ديفيد صمويل مرجوليوث: ضمن كتاب: دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي: تر عبد الرحمن بدوي دار العلم للملايين لبنان ط1/ 1979 ص: 93 – (ويقصد بالأثريين المسلمين: رواة الشعر العربي القديم- هيئة التحرير)


(5) نشأة الشعر العربي ديفيد صمويل مرجوليوث: ضمن كتاب: دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي: تر عبد الرحمن بدوي دار العلم للملايين لبنان ط1/ 1979 ص: 90 91.


(6) الشعرالعربي في محيطه التاريخي القديم نجيب محمد البهبيتي: دار الثقافة للنشر والتوزيع المغرب ط1/ 1987 ص: 71.


(7) الشعرالعربي في محيطه التاريخي القديم نجيب محمد البهبيتي: ص: 71.


(8) المرجع السابق: ص 72.


(9) العقد الفريد ابن عبد ربه: تح: أحمد أمين وأحمد الزين وإبراهيم الأنباري دار الكتاب لبنان لبنان 5/271.


(10) الشعرالعربي في محيطه التاريخي القديم نجيب محمد البهبيتي: ص:75.


(11) المرجع السابق: ص 79.


(12) تاريخ الأدب العربي كارل بروكلمان: تر: عبد الحليم النجار دار المعارف مصر ط/2 1/44.


(13) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام جواد علي: دار العلم للملايين لبنان مكتبة النهضة العراق ط2/ 1978 9/410.


(14) المرجع السابق: ص 412.


(15) ينظر المرجع السابق: ص9/412.


(16) تاريخ الأدب العربي كارل بروكلمان: تر عبد الحليم النجار 1/44 45.


(17) المرجع السابق: ص9/414.


(18) نفسه: 1/45.


(19) المرجع السابق: ص 1/46.


(20) نشأة الشعر العربي ديفيد صمويل مرجوليوث من كتاب: دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي: تر: عبد الرحمن بدوي ص: 90-91.


(21) دراسات في الشعر الجاهلي يوسف خليف: مكتبة غريب مصر د.ت د.ط ص: 41.


(22) نشأة الشعر العربي ديفيد صمويل مرجوليوث دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي: تر: عبد الرحمن بدوي ص: 95.


(23) ابن سلام: طبقات فحول الشعراء ص: 11.


(24) الشعر الجاهلي مراحله واتجاهاته الفنية (دراسة نصية) سيد حنفي حسنين: ص: 8.


(25) ينظر المرجع السابق: ص 9 10.


(26) الشعر الجاهلي مراحله واتجاهاته الفنية (دراسة نصية) سيد حنفي حسنين: ص: 7.


(27) بروكلمان: تاريخ الأدب العربي 1/44.


(28) ينظر: سيد حنفي حسنين: الشعر الجاهلي مراحله واتجاهاته الفنية (دراسة نصية) ص: 11.


(29) المرجع السابق: ص: 19.


(30) الشعر الجاهلي مراحله واتجاهاته الفنية (دراسة نصية) سيد حنفي حسنين: ص: (20).


(31) المرجع السابق: ص: 20.


(32) الشعر الجاهلي مراحله واتجاهاته الفنية (دراسة نصية) سيد حنفي حسنين: ص:21.


(33) المرجع السابق: ص:21.


(34) نفسه ص: 21.


(35) نفسه ص: 23.


(36) التاريخ الطبري: دار المعارف مصر 2/ 208.


* - كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة سيدي بلعباس- الجزائر


مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 81-82

**د لا ل**
2012-02-11, 15:05
إعداد فهرس للحياة العقلية في العصر الجاهلي

مظاهر الحياةالعقلية في العصر الجاهلي
صار من الثابت بين الباحثين أن العصر الجاهلي لايشمل كل ما سبق الإسلام من حقب طوالٍ، ولكنه يقتصر على حقبة لا تزيد على القرنين منالزمان، وهي ما اصطلح الباحثون على تسميتها بالجاهلية الثانية، وفي تلك الحقبة ظهرهذا الإنتاج الغزير الناضج من الشعر والنثر، واكتملت للغة العربية خصائصها التيبرزت من خلال هذا النتاج الأدبي الوفير، كما استقرَّ أيضًا رسم حروفها الألفبائية. فما انتهى إلينا، إذن، من أدب جاهلي هو أدب الجاهلية الثانية، وهو ما نستطيع الحديثعنه ودراسة فنونه وخصائصه، أما أدب ما قبل هذه الحقبة التاريخية فهو أدب ما يسمىبالجاهلية الأولى، وهو أدب لم تتوافر نصوص منه، فالحديث عنه غير ممكن. ومن هنا فإنالأبحاث التي استقصت أولية الشعر العربي أو أولية اللغة العربية تقوم على مجردالحدس والتخمين، أو على نوع من الأخبار الوهمية والخرافات.
على أن اللغةالعربية التي سُجِّلت بها النصوص الأدبية في عصر الجاهلية الثانية هي واحدة منالأسرة السامية التي تشمل: 1- الأكادية والبابلية والآشورية. 2-الآرامية. 3- الكنعانية. 4- الحبشية. 5- ثم العربية بفرعيها: الشمالي والجنوبي.

وإذاكانت الأمية قد شاعت بين العرب، فإن هذا لا يعني قط انعدام القراءة والكتابة لديهم،فلقد انتشرت بينهم القراءة والكتابة بالقدر الذي يسمح لهم بتدوين معاملاتهم وآدابهموإذا كانت الذاكرة العربية التي تميزت بالقوة قد حفظت قدرًا كبيرًا من الأشعار، فإنالتدوين أيضًا كان مساندًا للرواية الشفوية.
أمّا طرح ابن سلام في كتابه طبقاتفحول الشعراء لقضية الانتحال فينبغي أن يؤخذ على أنه دليل على ما بذله الأقدمون منجهود لتنقية الشعر الجاهلي من التزييف، ووضع المعايير العلمية الدقيقة لضمان سلامةالشعر الجاهلي وتوثيقه.
الشعر الجاهلي. أما مراكز الشعر العربي في العصرالجاهلي، فإنه بالإضافة إلى الجزيرة العربية نفسها: نجدًا وحجازًا، فقد عاش الشعرالعربي وازدهر في إمارتين اثنتين هما: إمارة الغساسنة والمناذرة، وقد قامتا فيالأطراف الشمالية من شبه الجزيرة.
أما إمارة الغساسنة، فقد قامت في بلاد الشام،حيث اتخذ الرومان، ثم خلفاؤهم البيزنطيون من بعدهم، من الغساسنة حلفاء لهم ضدأعدائهم التقليديين من الفرس، وحلفائهم من المناذرة في العراق. وقد كان الغساسنةعربًا من الجنوب نزحوا إلى الشمال، وأقاموا إمارتهم العربية تلك في شرق الأردن،وكانوا قد تنصّروا في القرن الرابع الميلادي. وكانت إمارة الغساسنة على جانب كبيرمن الثراء والتحضّر، ومن أهم ملوكهم الحارث الأصغر، ثم ابناه من بعده النعمانوعمرو، والأخير هو الذي قصده النابغة الذبياني، كما قصد حسان بن ثابت النعمان بنالمنذر أيضًا ومدحه في قصائد شهيرة، منها قصيدته التي من أبياتها:
أولاد جَفْنةحول قبر أبيهمُ قبر ابن مارية الكريم المفضِلِ
وكما قامت إمارة الغساسنة فيالشام، فقد قامت إمارة المناذرة في العراق. وكما كان الغساسنة عربًا ذوي أصولٍيمنية، فكذلك كان المناذرة. ومثلما قصد شعراءُ الجزيرة أمراءَ الغساسنة، فكذلكقصدوا أمراءَ المناذرة، الذين كان من أشهرهم المنذر بن ماء السماء حوالي (514 - 554م)، وعمرو بن هند (554 - 569م) الذي ازدهرت الحركة الأدبية في أيّامه، وقد وفدعليه في الحيرة، حاضرة المناذرة، عمرو بن قميئة والمسيَّب بن عَلَس والحارث بنحِلِّزة وعمرو بن كلثوم.كما وفد النابغةُ الذبياني على أبي قابوس النعمان بن المنذرالرابع (580 - 602م)، ووفد عليه أيضًا أوس بن حجر والمنخل اليشكري ولبيد والمثقِّبالعبدي وحجْر بن خالد.
ولا شك أن طبيعة المنافسة السياسية بين المناذرةالتابعين لدولة فارس والغساسنة الموالين للبيزنطيين قد انعكست على الحياة الأدبيةعلى نحوٍ ليس بالقليل.

ازدهر الشعر العربي، إبان الجاهلية، ازدهارًا عظيمًاتمثل في هذا العدد الكبير من الشعراء الذين تزخر المصادر بأسمائهم وأشعارهم، إذنظموا في جاهليتهم الأخيرة قبل الإسلام كثيرًا من الشِّعر. ومع هذا فقد ضاع معظمهذا الشعر، على حد قول أبي عمرو بن العلاء : "ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلاأقلُّه، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علمٌ وشعر كثير". وقد اشتهرت في الجاهلية بيوتكاملة بقول الشعر، فالنعمان بن بشير، مثلاً، كان أبوه وعمه شاعرين، وكذلك جده، ثمأولاده من بعده. وكعب بن مالك الصحابي الشاعر كان أبوه وعمه شاعرين، ثم أبناؤهوأحفاده، وكذلك كان أمرُ بيت أبي سُلمى، ومنه زهير وولداه كعب وبُجير، وأخوال كعبشعراء، ومنهم بشامةُ ابن الغدير. ثم هناك حسان بن ثابت الصحابي الشاعر، وقد تسلسلالشعر في بيته لبضعة أجيال.
عرف تاريخ الشعر العربي، في العصر الجاهلي، نساءًشواعر منهنَّ على سبيل المثال: الخنساء وخِرْنَق وكبشة أخت عمرو بن معْدي كَرِبوجليلة بنت مُرَّة امرأة كُليب الفارس المشهور، ولها في كليب مراثٍ من عيون الشعرالعربي، وقيسة بنت جابر امرأة حارثة بن بدر ولها أيضًا مراثٍ في زوجها، وأميمةامرأة ابن الدُّمَيْنة. وقد كان أبو نُواس الشاعر العباسي يروي لستين شاعرة منالعرب.
والناظر في المصادر العربية تهوله تلك الكثرة من الأشعار والشعراء خاصةإذا ضَمّ إليها ما جاء في كتب التاريخ والسير والمغازي والبلدان واللغة والنحووالتفسير، إذ تزخر كلها بكثير من أشعار الجاهليين بما يوحي أن الشعر كان غذاءحياتها، وأن هذه الأمة قد وهبت من الشاعرية الفذة ما يجعل المرء يتوهم أن كل فرد منرجالها ونسائها وعلمائها كان يقول الشعر. وتدلُّ هذه الكثرة من الشعر والشعراء علىأن الشاعرية كانت فطرة فيهم، ثم ساندت هذه الفطرة الشاعرة عواملُ أخرى منها تلكالطبيعة التي عاش العربي الأول كل دقائقها من جبال ووهادٍ ووديان وسماء ونجوموأمطار وسيول وكائنات. لقد كانت الطبيعة كتابًا مفتوحًا أمام بصر الشاعر العربيوبصيرته، ومن هنا استلهمها في أشعاره. ويضاف إلى الطبيعة تلك الحروب التي ألهبتمشاعره بحماسة موّارة، ثم حياة الإنسان العربي في بساطتها وفضائلها، وفي معاناتهوصراعاته ضد الجدب والخوف معًا. ومن ثم جاء هذا الشعر ممثلاً لحياة الجزيرة العربيةفي بيئاتها وأحوالها المختلفة، ولحياة الإنسان العربي في أخلاقه وطباعه وعاداتهوعقائده وبطولاته وأفكاره.
كانت للشاعر العربي في قبيلته منزلة رفيعة. كما كانترموز القبيلة العربية الأساسية ثلاثة، هي: القائد، والفارس والشاعر. وكان الشاعر فيالقبيلة لسانها الناطق والمدافع معًا. بل كان بيت الشعر أحيانًا يرفع من شأن قبيلة،كما يُحكى عن بني أنف الناقة الذين كانوا يعيَّرون بلقبهم، حتى كان الرجل منهميحتال على إخفاء لقبه، فما إن قال فيهم الحطيئة بيته الشهير:
قومٌ هم الأنفوالأذناب غيرُهُمُ ومن يُسوِّي بأنف الناقةِ الذَّنبا
حتى صاروا يباهون بلقبهمونسبهم.
يُعدُّ الشعر العربي الجاهلي سجلاً حقيقيًا للحياة العربية والعقلالعربي في ثقافاته وخبراته الحية والمتنوعة، وقد كان الشِّعر الجاهليّ النموذجوالمثال الذي يحتذيه اللاحقون احتذاءً حفظ على الأمة العربية أصالتها، ولكنه لميحُلْ قَطُّ دون محاولات التطور والتجديد في مختلف العصور. وصار الشعر العربيالجاهلي مع قرينه الإسلامي مصدرًا أساسيًا في حركة التأليف في العلوم العربيةوالإسلامية: لغةً ونحوًا وبلاغةً وتفسيرًا، كما انبثق عنه علم العروض والقوافي، وهوأوثق العلوم صلةً بالشعر، فضلاً عن كتب المختارات الشعرية على اختلاف مناهجها، ثمتلك الشروح التي أضاءت النصَّ الشعري أمام قارئه، وبددت عامل الغرابة اللغوية، وغذتالأذواق، بل وأبقت على قريحة الشاعرية العربية، على تباين في مستوى تلك القرائح: أفرادًا وأقاليم وعصورًا.
واشتهرت في الأدب الجاهلي قصائد عُرفت بالمعلقات هيمن النماذج الرّائعة في الأدب العربي.


مظاهر الحياةالعقلية في العصر الجاهلي
صار من الثابت بين الباحثين أن العصر الجاهلي لايشمل كل ما سبق الإسلام من حقب طوالٍ، ولكنه يقتصر على حقبة لا تزيد على القرنين منالزمان، وهي ما اصطلح الباحثون على تسميتها بالجاهلية الثانية، وفي تلك الحقبة ظهرهذا الإنتاج الغزير الناضج من الشعر والنثر، واكتملت للغة العربية خصائصها التيبرزت من خلال هذا النتاج الأدبي الوفير، كما استقرَّ أيضًا رسم حروفها الألفبائية. فما انتهى إلينا، إذن، من أدب جاهلي هو أدب الجاهلية الثانية، وهو ما نستطيع الحديثعنه ودراسة فنونه وخصائصه، أما أدب ما قبل هذه الحقبة التاريخية فهو أدب ما يسمىبالجاهلية الأولى، وهو أدب لم تتوافر نصوص منه، فالحديث عنه غير ممكن. ومن هنا فإنالأبحاث التي استقصت أولية الشعر العربي أو أولية اللغة العربية تقوم على مجردالحدس والتخمين، أو على نوع من الأخبار الوهمية والخرافات.
على أن اللغةالعربية التي سُجِّلت بها النصوص الأدبية في عصر الجاهلية الثانية هي واحدة منالأسرة السامية التي تشمل: 1- الأكادية والبابلية والآشورية. 2-الآرامية. 3- الكنعانية. 4- الحبشية. 5- ثم العربية بفرعيها: الشمالي والجنوبي.

وإذاكانت الأمية قد شاعت بين العرب، فإن هذا لا يعني قط انعدام القراءة والكتابة لديهم،فلقد انتشرت بينهم القراءة والكتابة بالقدر الذي يسمح لهم بتدوين معاملاتهم وآدابهموإذا كانت الذاكرة العربية التي تميزت بالقوة قد حفظت قدرًا كبيرًا من الأشعار، فإنالتدوين أيضًا كان مساندًا للرواية الشفوية.
أمّا طرح ابن سلام في كتابه طبقاتفحول الشعراء لقضية الانتحال فينبغي أن يؤخذ على أنه دليل على ما بذله الأقدمون منجهود لتنقية الشعر الجاهلي من التزييف، ووضع المعايير العلمية الدقيقة لضمان سلامةالشعر الجاهلي وتوثيقه.
الشعر الجاهلي. أما مراكز الشعر العربي في العصرالجاهلي، فإنه بالإضافة إلى الجزيرة العربية نفسها: نجدًا وحجازًا، فقد عاش الشعرالعربي وازدهر في إمارتين اثنتين هما: إمارة الغساسنة والمناذرة، وقد قامتا فيالأطراف الشمالية من شبه الجزيرة.
أما إمارة الغساسنة، فقد قامت في بلاد الشام،حيث اتخذ الرومان، ثم خلفاؤهم البيزنطيون من بعدهم، من الغساسنة حلفاء لهم ضدأعدائهم التقليديين من الفرس، وحلفائهم من المناذرة في العراق. وقد كان الغساسنةعربًا من الجنوب نزحوا إلى الشمال، وأقاموا إمارتهم العربية تلك في شرق الأردن،وكانوا قد تنصّروا في القرن الرابع الميلادي. وكانت إمارة الغساسنة على جانب كبيرمن الثراء والتحضّر، ومن أهم ملوكهم الحارث الأصغر، ثم ابناه من بعده النعمانوعمرو، والأخير هو الذي قصده النابغة الذبياني، كما قصد حسان بن ثابت النعمان بنالمنذر أيضًا ومدحه في قصائد شهيرة، منها قصيدته التي من أبياتها:
أولاد جَفْنةحول قبر أبيهمُ قبر ابن مارية الكريم المفضِلِ
وكما قامت إمارة الغساسنة فيالشام، فقد قامت إمارة المناذرة في العراق. وكما كان الغساسنة عربًا ذوي أصولٍيمنية، فكذلك كان المناذرة. ومثلما قصد شعراءُ الجزيرة أمراءَ الغساسنة، فكذلكقصدوا أمراءَ المناذرة، الذين كان من أشهرهم المنذر بن ماء السماء حوالي (514 - 554م)، وعمرو بن هند (554 - 569م) الذي ازدهرت الحركة الأدبية في أيّامه، وقد وفدعليه في الحيرة، حاضرة المناذرة، عمرو بن قميئة والمسيَّب بن عَلَس والحارث بنحِلِّزة وعمرو بن كلثوم.كما وفد النابغةُ الذبياني على أبي قابوس النعمان بن المنذرالرابع (580 - 602م)، ووفد عليه أيضًا أوس بن حجر والمنخل اليشكري ولبيد والمثقِّبالعبدي وحجْر بن خالد.
ولا شك أن طبيعة المنافسة السياسية بين المناذرةالتابعين لدولة فارس والغساسنة الموالين للبيزنطيين قد انعكست على الحياة الأدبيةعلى نحوٍ ليس بالقليل.

ازدهر الشعر العربي، إبان الجاهلية، ازدهارًا عظيمًاتمثل في هذا العدد الكبير من الشعراء الذين تزخر المصادر بأسمائهم وأشعارهم، إذنظموا في جاهليتهم الأخيرة قبل الإسلام كثيرًا من الشِّعر. ومع هذا فقد ضاع معظمهذا الشعر، على حد قول أبي عمرو بن العلاء : "ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلاأقلُّه، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علمٌ وشعر كثير". وقد اشتهرت في الجاهلية بيوتكاملة بقول الشعر، فالنعمان بن بشير، مثلاً، كان أبوه وعمه شاعرين، وكذلك جده، ثمأولاده من بعده. وكعب بن مالك الصحابي الشاعر كان أبوه وعمه شاعرين، ثم أبناؤهوأحفاده، وكذلك كان أمرُ بيت أبي سُلمى، ومنه زهير وولداه كعب وبُجير، وأخوال كعبشعراء، ومنهم بشامةُ ابن الغدير. ثم هناك حسان بن ثابت الصحابي الشاعر، وقد تسلسلالشعر في بيته لبضعة أجيال.
عرف تاريخ الشعر العربي، في العصر الجاهلي، نساءًشواعر منهنَّ على سبيل المثال: الخنساء وخِرْنَق وكبشة أخت عمرو بن معْدي كَرِبوجليلة بنت مُرَّة امرأة كُليب الفارس المشهور، ولها في كليب مراثٍ من عيون الشعرالعربي، وقيسة بنت جابر امرأة حارثة بن بدر ولها أيضًا مراثٍ في زوجها، وأميمةامرأة ابن الدُّمَيْنة. وقد كان أبو نُواس الشاعر العباسي يروي لستين شاعرة منالعرب.
والناظر في المصادر العربية تهوله تلك الكثرة من الأشعار والشعراء خاصةإذا ضَمّ إليها ما جاء في كتب التاريخ والسير والمغازي والبلدان واللغة والنحووالتفسير، إذ تزخر كلها بكثير من أشعار الجاهليين بما يوحي أن الشعر كان غذاءحياتها، وأن هذه الأمة قد وهبت من الشاعرية الفذة ما يجعل المرء يتوهم أن كل فرد منرجالها ونسائها وعلمائها كان يقول الشعر. وتدلُّ هذه الكثرة من الشعر والشعراء علىأن الشاعرية كانت فطرة فيهم، ثم ساندت هذه الفطرة الشاعرة عواملُ أخرى منها تلكالطبيعة التي عاش العربي الأول كل دقائقها من جبال ووهادٍ ووديان وسماء ونجوموأمطار وسيول وكائنات. لقد كانت الطبيعة كتابًا مفتوحًا أمام بصر الشاعر العربيوبصيرته، ومن هنا استلهمها في أشعاره. ويضاف إلى الطبيعة تلك الحروب التي ألهبتمشاعره بحماسة موّارة، ثم حياة الإنسان العربي في بساطتها وفضائلها، وفي معاناتهوصراعاته ضد الجدب والخوف معًا. ومن ثم جاء هذا الشعر ممثلاً لحياة الجزيرة العربيةفي بيئاتها وأحوالها المختلفة، ولحياة الإنسان العربي في أخلاقه وطباعه وعاداتهوعقائده وبطولاته وأفكاره.
كانت للشاعر العربي في قبيلته منزلة رفيعة. كما كانترموز القبيلة العربية الأساسية ثلاثة، هي: القائد، والفارس والشاعر. وكان الشاعر فيالقبيلة لسانها الناطق والمدافع معًا. بل كان بيت الشعر أحيانًا يرفع من شأن قبيلة،كما يُحكى عن بني أنف الناقة الذين كانوا يعيَّرون بلقبهم، حتى كان الرجل منهميحتال على إخفاء لقبه، فما إن قال فيهم الحطيئة بيته الشهير:
قومٌ هم الأنفوالأذناب غيرُهُمُ ومن يُسوِّي بأنف الناقةِ الذَّنبا
حتى صاروا يباهون بلقبهمونسبهم.
يُعدُّ الشعر العربي الجاهلي سجلاً حقيقيًا للحياة العربية والعقلالعربي في ثقافاته وخبراته الحية والمتنوعة، وقد كان الشِّعر الجاهليّ النموذجوالمثال الذي يحتذيه اللاحقون احتذاءً حفظ على الأمة العربية أصالتها، ولكنه لميحُلْ قَطُّ دون محاولات التطور والتجديد في مختلف العصور. وصار الشعر العربيالجاهلي مع قرينه الإسلامي مصدرًا أساسيًا في حركة التأليف في العلوم العربيةوالإسلامية: لغةً ونحوًا وبلاغةً وتفسيرًا، كما انبثق عنه علم العروض والقوافي، وهوأوثق العلوم صلةً بالشعر، فضلاً عن كتب المختارات الشعرية على اختلاف مناهجها، ثمتلك الشروح التي أضاءت النصَّ الشعري أمام قارئه، وبددت عامل الغرابة اللغوية، وغذتالأذواق، بل وأبقت على قريحة الشاعرية العربية، على تباين في مستوى تلك القرائح: أفرادًا وأقاليم وعصورًا.
واشتهرت في الأدب الجاهلي قصائد عُرفت بالمعلقات هيمن النماذج الرّائعة في الأدب العربي.





الحياة العقلية في العصر الجاهلي
العصر الجاهلي :*

*تمهيد:
*يجدر بنا قبل دراسة بعض نماذج الأدب الجاهلي من(الشعر والنثر)وإن كان النثر قليلا جدا مقارنة بالشعر أن نقدم بهذه اللمحة عن بيئة الأدب،و مظاهر الحياة العربية المختلفة من سياسية، واجتماعية، ودينية وعقلية فالأدب صورة للحياة وللنفس وللبيئة الطبيعية و الاجتماعية.
*ويطلق الأدب الجاهلي على أدب تلك الفترة التي سبقت الإسلام بنحو مائة وثلاثين عام قبل الهجرة.وقد شب هذا الأدب وترعرع في بلاد العرب،يستمد موضوعاته ومعانيه،ويستلهم نظراته وعواطفه من بيئتها الطبيعية والاجتماعية والفكرية،ويحدد لنا بشعره ونثره فكرة صادقة عن تلك البيئة.مما يعين الدارس على فهم أدب ذلك العصر،واستنتاج خصائصه التي تميزه عن سائر العصور الأدبية التي جاءت بعده مع أن الكثير منه مجهول لضياع أثاره ولا نعرف عنه إلا القليل .
*بلاد العرب:
يطلق على بلاد العرب جزيرة العرب أو الجزيرة العربية وتقع في الجنوب الغربي من أسيا، وهي في الواقع شبه جزيرة،لأن الماء لا يحيط بها من جهتها الشمالية،لكن القدماء سموها جزيرة تجوزا،وهي في جملتها صحراء ،بها الكثير من الجبال الجرداء،ويتخللها وديان تجري فيها السيول أحيان، وإلى جانب ذلك: بعض العيون والواحات.
*وتحد جزيرة العرب بنهر الفراة وبادية الشام شمالا،وبالخليج العربي،وبحر عمان شرقا،وبالبحر العربي والمحيط الهندي جنوبا وببحر الأحمر (بحر القلزم)غربا،وتبلغ مساحتها نحو ربع أوروبا،وتتكون الجزيرةالعربية من جزأين كبيرين:
*(ا)أما الحجاز:فسمي بهذه التسمية لأن سلسلة جبال السراة التي يصل ارتفاعها أحيانا إلى 3150م،تمتد من الشمال إلى بلاد اليمن جنوبا،فسمته العرب حجازا،لأنه حجز بين تهامة ونجد.والحجاز أرضه قفر، قليلة المطر شديدة الحرارة،إالا في بعض المناطق كالطائف التي يعتدل جوها ،وتجود أرضها وأشهر مدن الحجاز :مكة،وبها (الكعبة )البيت الحرام ،ويثرب (المدينة المنورة)التي هاجر إليها النبي صلى الله عليه وسلم،وبها لحق بربه.وكان يسكن الحجاز من القبائل العربية (قريش)في مكة،و(الأوس والخزرج)في المدينة ،و(ثقيف)في الطائف.
*(ب)وأما اليمن:فيقع جنوبي الحجاز،وهو أرض منخفضة على شاطئ البحر الأحمر،مرتفعة في الداخل،وقد إشتهر بالثروة والغنى والحضارة،جوه معتدل بسبب إشرافه على المحيط الهندي(البحر العربي)و البحر الأحمر،وأمطاره غزيرة وأرضه خصبة.وأشهر مدن اليمن: نجران التي اشتهرت في الجاهلية بإعتناق أهلهاالنصرانية،وصنعاء في الوسط وهي عاصمة اليمن الحديثة،وفي الشمال الشرقي منها مأرب المعروفة بسدها الذي ورد في القران في قصة سبأ.ومن أكبر القبائل التي كانت تسكن اليمن قبيلة همدان،وقبيلتامذحج ومراد.ومناخ شبه الجزيرة قاري،حار صيفا،بارد شتاء،وليس بها أنهار ولذا يعتمد أهلها على الأمطار.
أصل العرب:
يرجع أصل العرب لإلى شعبين عضيمين كبيرين،تفرعت منهما القباائل العربية،وهما:
*(أ)عرب الشمال أوالحجازيون: وهم من نسل عدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ويسمون: بالعرب المستعربة،لأن إسماعيل عليه السلام لم تكن لغته الأصلية اللغة العربية،وإنما نطق بها لما رحل مع أبيه إبراهيم إلى الحجاز وأصهلر إلى قبيلة جرهم،وتكلم بلسانهم.
*(ب)عرب الجنوب:وهم من نسل قحطان،ويسمون بالعرب العاربة،لأن العربية في الأصل لغتهم ولسانهم.وكل العدنانيين و القحطانيين ينقسمون إلى فرعين أساسيين،وكل فرع ينقسم إلى قبائل متعددة،والقبيلة هي الوحدة التي أقاموا عليها نظامهم الاجتماعي،ومن أشهر القبائل العدنانية:بكر،وتغلب وهما من فرع ربيعة،قريش وكنانة وأسد وقيس وتميم وهم من فرع مضرومن أشهر قبائل القحطانيين:طيئ وكندة ولخم والأزد وغسان، وهم من فرع كهلان،وقضاعة وجهينة و عذرة وكلب وهم من فرع حمير.
و القبيلة:
أسرة واحدة كبيرة تنتمي إلى أب وأم واحدة،ولها شيخ هو سيد القبيلة،ومن وظائفه الفصل بين المتخاصمين وسيادته مستمدة من احترام وإجلال القبيلة له و علاقة القبائل تقوم غالبا على العداء،فالقبيلة إما مغيرة أو مغار عليها،إلا أن يكون بين بعض القبائل حلف أو مهادنة.ولكل قبيلة شاعر أو أكثر يرفع ذكرها،ويتغنى بمفاخرها،ويهجو أعداءها،وكل فرد في القبيلة متعصب لقبيلته، مادح لمحاسنها،وعلى القبيلة أن تحميه، وتدافع عنه،وتطالب بدمه،فالفرد من القبيلة و إليها،حتى ليقول قائلهم:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد.
لغة العرب:
*اللغة العربية هي إحدى اللغات السامية التي نشأت عن أصل واحد،وهي:(الاشورية والعبرية والسريانية والحبشية)،وتقتصر اللغات العربية في كتابتها على الحروف دون الحركات،ويزيد حروفها عن اللغات الآرية مع كثرة الاشتقاق في صيغها وقد مرت اللغة العربية بأطوار غابت عنها مراحلها الأولى،ولكن مؤرخي العربية اتفقوا على أن للعرب منذ القديم لغتين:جنوبية أو قحطا نية،ولها حروف تخالف الحروف المعروفة، وشمالية أو عدنانية،وهي أحدث من لغة الجنوب،وكل ما وصلنا من شعر جاهلي فهو بلغة الشمال،لأن الشعراء الذين وصلتنا أشعارهم إما من قبيلة ربيعة أو مضر،وهما منا القبائل العدنانية،أو من قبائل يمنية رحلت إلى الشمال، كطيئ وكندة و تنوخ،وقد تقاربت اللغتان على مر الأيام بسبب الاتصال عن طريق الحروب و التجارة والأسواق الأدبية كسوق عكاظ قرب الطائف،وذي المجاز و مجنة قرب مكة. وبذلك تغلبت اللغة العدنانية على القحطانية،وحين نزل القران الكريم بلغة قريش،تمت السيادة للغة العدنانية،وأصبحت معروفة باللغة الفصحى. وقد كان لنزول القران بها اثر في رقيها وحفظها وإثرائها بكمية هائلة من الألفاظ و التعبيرات و المعاني مما أعان على بسط نفوذها،واستمرار الارتقاء بها في المجالات العلمية والأدبية إلى عصرنا الحالي.
العرب الذين أخذت عنهم اللغة:

*قال (أبو نصر الفارابي) في أول كتابه المسمى بالألفاظ والحروف: *كانت(قريش)أجود العرب انتقاء للأفصح من الألفاظ،وأسهلها على اللسان عند النطق،وأحسنها مسموعا، وأبينها عما في النفس.والذين أخذت عنهم العربية هم (قيس)و(تميم)و(أسد) وعليهم إتكل في الغريب و الأعراب والتصريف،ثم(هذيل)وبعض(كنانة)وبعض(الطائيين) ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر القبائل. وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط،ولا عن سكان البراري ممن يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم.
*و الذي نقل اللغة واللسان العربي عن هؤلاء وأثبتها في كتاب فصيرها علما و صناعة هم أهل(البصرة) و(الكوفة) فقط من بين أمصار العرب.
*حياة العرب السياسية:
تاريخ العرب في الجاهلية غامض،ولم يدون،لتفشي الأمية بينهم،ومع ذلك فقد كانت هناك حياة سياسية، بعضها متصل بنظام حياتهم الداخلية و بعضها الأخر متصل بعلاقتهم وإتصالهم بمن حولهم:
(أ)أما فيما يتصل بنظمهم الداخلية: فقد قامت في اليمن دولة سبأ،التي كانت عاصمتها (مأرب) ،كما قامت دولة حمير التي كانت عاصمتها (ظفار) وقد حاربت الفرس والأحباش،وفي الشمال نجد العدنانيين الذين تعددت قبائلهم وأكبر فروعهم :ربيعة و مضر وكانت بينهما أحداث كثيرة وحروب طويلة،كحرب البسوس بين بكر وتغلب وحرب داحس والغبراء يبن عبس وذبيان،وكانت مكة أعظم موطن العدنانيين و قد سكنتها كنانة و قريش،وانتهت إليهما ولاية البيت الحرام ثم انحصرت في قريش.
*(ب)وأما فيما يتصل بعلاقة العرب بغيرهم:فقد اتصلوا بمن حولهم عن طريق التجارة،وأشار القران الكريم إلى ذلك وكانت هذه التجارة وسيلة إلى معرفتهم ببعض شؤون الممالك وعمرانها،كما نقلوا عن طريق تلك الرحلات كثيرا من ألفاظ تلك الأمم كالفارسية والرومية و المصرية والحبشية و أدخلوها في لغتهم. *وبالإضافة إلى ذلك فقد أقامت الدولتان الكبيرتان (الفرس و الروم) إمارتين عربيتين على حدودها لدفع غزوات العرب،فكونت (فارس) من القبائل المجاورة لحدودها إمارة الحيرة وكان أميرها يعينه ملك فارس ومن أشهرهم النعمان بن المنذر الذي مدحه النابغة الذبياني و إعتذر إليه كذلك أقام الروم إمارة الغساسنة و كانوا يدينون بالنصرانية،واشتهروا بالكرم وقد مدح حسان بن ثابت وغيره بعض أمرائهم،ونتج عن هذا الاتصال بين العرب وجيرانهم تسرب أنواع من الثقافات إليهم،ظهرت في الألفاظ و القصص و الأخبار.

*حياة العرب الأجتماعية
ينقسم العرب إلى قسمين رئيسيين:
*(أ)سكان البدو: وهم أغلب سكان الجزيرة،وعيشتهم قائمة على الإرتحال و التنقل وراء العشب و الماءومن ثم سكنوا الخيام المصنوعة من الوبر و الشعر والصوف،وقد أكثر الشعراء في وصفها و الوقوف أمام أطلالها (ما بقي من أحجار بعد رحيل سكانها) ،وأكثر طعام أهل البادية: الحليب و التمر،والإبل عماد حياتهم،يأكلون من لحومها،ويشربون من ألبانها،ويكتسبون من أوبارها،ويحملون عليها أثقالهم،ولقد قوموا بها الأشياء،وافتدوا بها أسراهم في الحروب: وقال فيها شعراؤهم القصائد الطويلة،كما كانوا يعنون بالخيل، فاستخدموها في الصيد و السباق والحروب،وكانت متاع المترفين،لذلك ورد فيها أقل مما ورد في الإبل.
*وكانت العلاقة بين القبائل العربية علاقة عداء،فسادت الحروب حياتهم وانبعثت من خلالها صيحات السلام، وظهرت عاطفة الإنتقام و الأخذ بالثأر،وكثر في أشعارهم وصف الوقائع و الفخر بالإنتصار والحرص على الشرف،ومن أجل ذلك سادت الأخلاق الحربية فيهم،وهي الشجاعة والكرم والوفاء،ومارس العرب من متع الحياة الصيد،وتفشت بينهم عادة شرب الخمر و لعب الميسر،وخاصة بين المترفين منهم،وقامت حياة العربي في الصحراء على أساس الاعتماد على النفس،ومواجهة الحياة بخيرها وشرها.وشاركت المرأة الرجل في كثير من شؤون الحياة ،وفي الحروب كن يخرجن لإثارة الحماسة،ومما يدل على مكانتها،أنه لا تكاد تخلو قصيدة من الافتتاح بذكرها والتغزل بها.
*(ب)أماسكان الحضر:فقد سكنوا المدن،وعاشوا في استقرار،واتخذوا الدور والقصور،وكانوا أقل شجاعة وأشد حبا للمال،وكان أهل اليمن أرسخ قدما في الحضارة،وقد نقل المؤرخون كثيرا من أحوالهم،في ثيابهم الفاخرة،وأطباق الذهب والفضة التي يأكلون فيها،وتزيين قصور أغنيائهم بأنواع الزينة،وقد أمدهم بذلك كثرة أموالهم عن طريق التجارة و الزراعة،وكانت (قريش) في مكة أكثر أهل الحجاز تحضرا،فقد أغنتهم التجارة ومن يأوي إليهم من الحجيج،فنعموا بما لم ينعم به غيرهم من سكان الحجاز.
حياة العرب الدينية:
تعددت الأديان بين العرب،وكان أكثرها انتشارا عبادة الأصنام و الأوثان،واتخذوا لها أسماء ورد ذكرها في القران الكريم،مثل: (اللات،والعزى،ومناة) وقد عظمها العرب وقدموا لها الذبائح،وتأثرت حياتهم بها،حتى جاء الإسلام فأزالها وأنقذهم من شرها وكان من العرب من عبدوا الشمس كما في بعض جهات اليمن ،ومن عبدوا القمر كما في كنانة،وقد انتشرت اليهودية في يثرب واليمن وانتشرت النصرانية في ربيعة و غسان و الحيرة ونجران،وهناك طائفة قليلة من العرب لم تؤمن بالأصنام ولا باليهودية ولا بالنصرانية و اتجهت إلى عبادة الله وحده وهؤلاء يسمون بالحنفاء وكان من بينهم زيد بن عمرو بن نفيل،وورقة بن نوفل وعثمان بن الحارث.وهكذا تعددت الأديان بين العرب،و اختلفت المذاهب حتى أشرق نور الإسلام فجمع بينهم،وأقام عقيدة التوحيد على أساس من عبادة الخالق وحده لا شريك له.

*حياة العرب العقلية:
*العلم نتيجة الحضارة،وفي مثل الظروف الاجتماعية التي عاشها العرب،لا يكون علم منظم،ولا علماء يتوافرون على العلم،يدونون قواعده و يوضحون مناهجه إذ أن وسائل العيش لا تتوافر،ولذلك فإن كثيرا منهم لا يجدون من وقتهم ما يمكنهم من التفرع للعلم،والبحث في نظرياته وقضاياه.
*وإذا كانت حياة العرب لم تساعدهم على تحقيق تقدم في مجال الكتب والعمل المنظم،فهناك الطبيعة المفتوحة بين أيديهم،و تجارب الحياة العملية وما يهديهم إليه العقل الفطري،وهذا ما كان في الجاهلية،فقد عرفوا كثيرا من النجوم ومواقعها،والأنواء وأوقاتها،واهتدوا إلى نوع من الطب توارثوه جيلا بعد جيل،وكان لهم سبق في علم الأنساب والفراسة،إلى جانب درايتهم القيافة والكهانة،كما كانت لهم نظرات في الحياة. *أما الفلسفة بمفهومها العلمي المنظم،فلم يصل إليها العرب في جاهليتهم ،وإن كانت لهم خطرات فلسفية لا تتطلب إلا التفات الذهن إلى معنى يتعلق بأصول الكون،من غير بحث منظم وتدليل وتفنيد،من مثل قول زهير:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
*واكبر ما يتميز به العرب الذكاء وحضور البديهة وفصاحة القول لذلك كان أكبر مظاهر حياتهم الفكرية: لغتهم وشعرهم وخطبهم ووصاياهم و أمثالهم.

المؤلفات التي تناولت الحياة العقلية في العصر الجاهلي هي:
كتاب للشيخ مصطفى الغلاييني::::::::::::::::::::رجال المعلقات العشر.
كتاب لجورجي زيدان:::::::::::::::::: تاريخ الآداب العربية.
لعبد الرحمان شيبان::::::::::::::::::::::::::الادب الجاهلي.
كتاب لطه حسن:::::::::::::::::::العصر الجاهلي كتاب.

**د لا ل**
2012-02-11, 15:07
مظاهر الحياة العقلية في العصر الجاهلي
مقدمة :
لقد وجد في أطراف الجزيرة العربية في الجاهلية شئ من العلم، ففي اليمن كان هنالك شئ من العلم والفن وظهر ذلك في طرق إرواء الأرض وهندسة بناء القصور ، كما عُرف الطب والزراعة وبيطرة الدواب وإن لم يكن ذلك علي درجة كبيرة. وقد جائهم ذلك من الفرس والرومان والحبشة حيث كانت اليمن علي إتصال بتلك الأمم
ونجد أيضا في الحيرة العلوم والفنون وقد بنيت بها القصور كقصري الخور نق والسدير وجائهم ذلك من الفرس واليونان حيث كانت الصلة وثيقة بين الفرس وملوك الحيرة مما عمل علي نقل هذه العلوم والمعارف إلي الحيرة.
وفي الشام وُجدت أيضا بعض العلوم والفنون وقد وصلتهم من الرومان واليونان ولقد فتحت صلة الغساسنة ملوك الشام بالرومان طريق العلم إلي جزء من بلاد العرب
أما في أوساط الجزيرة حيث يقيم البدو فقد انعدم العلم اللهم إلا ما استفاده البدو من التجارب أو ما هدتهم إليه العقول أو ما جائهم فيصورة فردية من الأمم المجاورة كعلوم النجوم ومطالعها والطب حيث كانوا يداوا بعض الأمراض بالكي والنباتات الصحراوية وكذا الفراسة وعلم الأنساب والكهانة والعرافة وبيطرة الخيل والجمال والتاريخ وأعظم مظاهر الحياة العقلية عند العرب تلك اللغة التي وصلتنا بما تحمله في طياتها من أمثال وتجارب وحكم وشعر وأدب.
أخلاق العربي في الجاهلية:
لا شك أن أهل الجاهلية كانت فيهم دنايا ورذائل وأمور ينكرها العقل السليم ويأباها الوجدان، ولكن كانت فيهم من الأخلاق الفاضلة المحمودة ما يروع الإنسان ويفضى به إلى الدهشة والعجب، فمن تلك الأخلاق‏:‏
1 ـ الكرم‏:‏ وكانوا يتبارون في ذلك ويفتخرون به، وقد استنفدوا فيه نصف أشعارهم بين ممتدح به ومُثْنٍ على غيره، كان الرجل يأتيه الضيف في شدة البرد والجوع وليس عنده من المال إلا ناقته التي هي حياته وحياة أسرته، فتأخذه هزة الكرم فيقوم إليها، فيذبحها لضيفه‏.‏ ومن آثار كرمهم أنهم كانوا يتحملون الديات الهائلة والحمالات المدهشة، يكفون بذلك سفك الدماء، وضياع الإنسان، ويمتدحون بها مفتخرين على غيرهم من الرؤساء والسادات‏.‏
2 ـ الوفاء بالعهد‏:‏ فقد كان العهد عندهم دينًا يتمسكون به، ويستهينون في سبيله قتل أولادهم، وتخريب ديارهم، وتكفي في معرفة ذلك قصة هانئ بن مسعود الشيباني، والسَّمَوْأل بن عاديا، وحاجب بن زرارة التميمي‏.‏
3 ـ عزة النفس والإباء عن قبول الخسف والضيم‏:‏ وكان من نتائج هذا فرط الشجاعة وشدة الغيرة، وسرعة الانفعال، فكانوا لا يسمعون كلمة يشمون منها رائحة الذل والهوان إلا قاموا إلى السيف والسنان، وأثاروا الحروب العوان، وكانوا لا يبالون بتضحية أنفسهم في هذا السبيل‏.‏
4 ـ المضي في العزائم‏:‏ فإذا عزموا على شيء يرون فيه المجد والافتخار، لا يصرفهم عنه صارف، بل كانوا يخاطرون بأنفسهم في سبيله‏.‏
5 ـ الحلم، والأناة، والتؤدة‏:‏ كانوا يتمدحون بها إلا أنها كانت فيهم عزيزة الوجود؛ لفرط شجاعتهم وسرعة إقدامهم على القتال‏.‏
6 ـ السذاجة البدوية، وعدم التلوث بلوثات الحضارة ومكائدها‏:‏ وكان من نتائجها الصدق والأمانة، والنفور عن الخداع والغدر‏.‏
‏ حياة العرب الأجتماعية
ينقسم العرب إلى قسمين رئيسيين:
(أ) سكان البدو: وهم أغلب سكان الجزيرة،وعيشتهم قائمة على الإرتحال و التنقل وراء العشب و الماءومن ثم سكنوا الخيام المصنوعة من الوبر و الشعر والصوف،وقد أكثر الشعراء في وصفها و الوقوف أمام أطلالها (ما بقي من أحجار بعد رحيل سكانها) ،وأكثر طعام أهل البادية: الحليب و التمر،والإبل عماد حياتهم،يأكلون من لحومها،ويشربون من ألبانها،ويكتسبون من أوبارها،ويحملون عليها أثقالهم،ولقد قوموا بها الأشياء،وافتدوا بها أسراهم في الحروب: وقال فيها شعراؤهم القصائد الطويلة،كما كانوا يعنون بالخيل، فاستخدموها في الصيد و السباق والحروب،وكانت متاع المترفين،لذلك ورد فيها أقل مما ورد في الإبل.
(ب) أماسكان الحضر: فقد سكنوا المدن،وعاشوا في استقرار،واتخذوا الدور والقصور،وكانوا أقل شجاعة وأشد حبا للمال،وكان أهل اليمن أرسخ قدما في الحضارة،وقد نقل المؤرخون كثيرا من أحوالهم،في ثيابهم الفاخرة،وأطباق الذهب والفضة التي يأكلون فيها،وتزيين قصور أغنيائهم بأنواع الزينة،وقد أمدهم بذلك كثرة أموالهم عن طريق التجارة و الزراعة،وكانت (قريش) في مكة أكثر أهل الحجاز تحضرا،فقد أغنتهم التجارة ومن يأوي إليهم من الحجيج،فنعموا بما لم ينعم به غيرهم من سكان الحجاز.
حياة العرب الدينية:
تعددت الأديان بين العرب،وكان أكثرها انتشارا عبادة الأصنام و الأوثان،واتخذوا لها أسماء ورد ذكرها في القران الكريم،مثل: (اللات،والعزى،ومناة) وقد عظمها العرب وقدموا لها الذبائح،وتأثرت حياتهم بها،حتى جاء الإسلام فأزالها وأنقذهم من شرها وكان من العرب من عبدوا الشمس كما في بعض جهات اليمن ،ومن عبدوا القمر كما في كنانة،وقد انتشرت اليهودية في يثرب واليمن وانتشرت النصرانية في ربيعة و غسان و الحيرة ونجران،وهناك طائفة قليلة من العرب لم تؤمن بالأصنام ولا باليهودية ولا بالنصرانية و اتجهت إلى عبادة الله وحده وهؤلاء يسمون بالحنفاء وكان من بينهم زيد بن عمرو بن نفيل،وورقة بن نوفل وعثمان بن الحارث.وهكذا تعددت الأديان بين العرب،و اختلفت المذاهب حتى أشرق نور الإسلام فجمع بينهم،وأقام عقيدة التوحيد على أساس من عبادة الخالق وحده لا شريك له
الشعر في العصر الجاهلي:
يظل الشعر الجاهلي ثرياً، لا يمكن أنْ تحيط به دراسة، وينطوي الشعر الجاهلي على معضلات تعترض القاريء ، إذ يلتقي بنصوص أدبية، فيها قدر من الصعوبة والغموض، وتشتمل على قدر من الخصائص الفنية والجمالية التي لها أهميتها وقيمتها



أهم الشعراء في العصر الجاهلي:
الأعشى
? - 7 هـ / ? - 628 م
ميمون بن قيس بن جندل من بني قيس بن ثعلبة الوائلي، أبو بصير، المعروف بأعشى قيس، ويقال له أعشى بكر بن وائل والأعشى الكبير.
من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية وأحد أصحاب المعلقات.
فلا تحرِمنّي نداكَ الجزيل
فإنّي أُمرؤ قَبْلكُمْ لم أُهَنْ أبو طالب
85 - 3 ق. هـ / 540 - 619 م
عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم من قريش، أبو طالب والد الإمام علي كرم الله وجهه، وعم النبي صلى اللَه عليه وسلم كافله ومربيه ومناصره كان من أبطال بني هاشم رؤسائهم، ومن الخطباء العقلاء الأباة.
ألا إنَّ خيرَ الناسِ حيّاً وميِّتاً
بِوادي أشِيٍّ غيَّبَتْهُ المقابِر أوس بن حجر
95 - 2 ق. هـ / 530 - 620 م
أوس بن حجر بن مالك التميمي أبو شريح.
شاعر تميم في الجاهلية، أو من كبار شعرائها، أبوه حجر هو زوج أم زهير بن أبي سلمى، كان كثير الأسفار، وأكثر إقامته عند عمرو بن هند في الحيرة
تَنَكَّرتِ مِنّـا بَعـدَ مَعرِفَـةٍ لَمـي وَبَعدَ التَّصَابِي وَالشَّـبَابِ المُكَـرَّمِ
المعلقات العشر:
معلقة عنترة بن شداد معلقة زهير بن أبي سلمى
معلقة طرفة بن العبد معلقة امرئ القيس
معلقة لبيد بن ربيعة العامري معلقة النابغة الذبياني
معلقة عمرو بن كلثوم معلقة الأعشى
معلقة عُبَيد بن الأبرص معلقة الحارث بن حلزة

النثر: النثر هو كلام اختيرت ألفاظه وانتقيت تراكيبه وأحسنت صياغة عباراته بحيث يؤثر في المستمع عن طريق جودة صنعته. فهو يختلف عن الكلام العادي الذي يتكلم به الناس في شؤونهم العادية. وأنواع النثر الجاهلي هي: الخطابة والأمثال والحكم والقصص وسجع الكهان. وسجع الكهان يتصف بقصر جمله وكثرة غريبه والتوازن في عباراته، ويحرص الكاهن على إخفاء كلامه باتباع هذا الأسلوب، والخطابة من أبرز أنواع النثر في العصر الجاهلي، وتتلوها من ناحية الأهمية: الأمثال؛ لسيرورتها بين عامة الناس وخاصتهم ولهذا فسنتناول هذين النوعين بشيء من التفصيل
أبرز كتاب النثر:
قيس بن خارجة بن سنان زهير ابن جناب هاشم بن عبد مناف وابنه عبد المطلب
هانيء بن مسعود الشيبان حاجب بن زرارة الحارث بن عبّاد البكرى
* قس بن ساعدة أكثم بن صيفى

المؤلفات التي تناولت الحياة العقلية في العصر الجاهلي هي:
كتاب للشيخ مصطفى الغلاييني :::::::::::::::::::: رجال المعلقات العشر.
كتاب لجورجي زيدان :::::::::::::::::: تاريخ الآداب العربية.
لعبد الرحمان شيبان ::::::::::::::::::::::::: الادب الجاهلي.
كتاب لطه حسن ::::::::::::::::::: العصر الجاهلي كتاب

مدلول مصطلح الجاهلية :
ونحب أن نصحح بعض المفاهيم الخاطئة عن هذا العصر ، فقد درج أكثر القدماء والمحدثين على تفسير معنى الجاهلية بالأمية، أي عدم معرفة القراءة والكتابة، وَوُصمَ العصرُ الجاهليُّ بالتخلّف الحضاريّ، وأبناء العصر بالتخلّف الثّقافيّ. ولكن النظرة الموضوعية أسهمتْ في إزالة الغبار الذي علق بهذا المصطلح، وقد رأى فيليب حَتي أن الحقيقة خلاف ذلك. فالجاهلية في المعنى الصحيح هي ذلك العصر ، الذي لم يكن لبلاد العرب فيه ناموس وازع، ولا نبيٌّ ملهم، ولا كتاب منـزل . فمن الخطأ أن نصف بالجهل والهمجية هيئة اجتماعية امتازت بما يمتاز به عرب الجنوب من ثقافة ، وحضارة قطعتْ في ميدان التجارة والأشغال شوطاً بعيداً قبل الإسلام بقرون متطاولة “.
وهكذا ينتهي المؤلف إلى تفسير فكرة الجاهلية على أساس ديني محض، فالعرب لم يكونوا أُميين، ووصْفهم بالجاهلية إنما هو تعبير عن أميتهم الدينية. وشبيه بذلك ما ذهب إليه الدكتور ناصر الدين الأسد، حيث يقول نافياً تجهيل الجاهلية :” إن حياة العرب في الجاهلية – فيما بدا لنا- بعيدة كل البعد عما يتوهمه بعض الواهمين ، أو يقع فيه بعض المتسرعين الذين لا يتوقفون، ولا يتثبتون، فيذهبون إلى أن عرب الجاهلية لم يكونوا سوى قوم بدائيين، يحيون حياة بدائية في معزل عن غيرهم من أمم الأرض… ونذهب إلى أن عرب الجاهلية الأخيرة كانوا من الحضارة بمنزلة لا سبيل إلى تجاوزها ، ولا مزيد عليها لمستزيد….
ومن الباحثين من ذهب إلى أن كلمة الجاهلية أُطلقتْ على هذا العصر ، ليست مشتقة من الجهل الذي هو ضد العلم ونقيضه، وإنما هي مشتقة من الجهل بمعنى السفه والغضب ، والنّزق، فالكلمة إذن تنصرف إلى معنى الجهل الذي هو مقابل الحلم، ومن هذا قولُ الشنفرى الأزدي في لاميته:
ولا تزدهي الأجهالُ حِلْمي ولا أُرى سؤولاً بأعقاب الأقاويل أنمل
والى هذا المعنى يذهب عمرو بن كلثوم في معلقته إلى القول:
ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا
بُغاةً ظالمين وما ظُلمْنا ولكنّـا سنبـدأ ظالمينـا
وواضح من هذه الأقوال أن الجهل هنا يُقصد به الحمقُ والسّفهُ ، وعدمُ ضبط النفس ، وفقدانُ سيطرة العقل ، وعدمُ السلوك الحكيم.
ولكن ينبغي أن ننبه إلى أن هذا لم يكن حال القوم في مجموعهم، ولم يكن كل من عاش في ذلك العصر متصفاً بهذه الصفات التي تتنافى مع العقل والحكمة، والاتزان، والروية . فقد كان هناك أفراد اشتهروا بالعقل السديد ،والرأي الصائب، وبُعْدِ النظر، كزهير بن أبى سلمى، وأوس بن حجر، وعبيد بن الأبرص، والحارث بن عوف، وهرم بن سنان ، وقيس بن عاصم ، والحارث بن عباد، وعامر بن الظرب العدواني ، والربيع بن زياد العبسي. وكانت سمتهم الظاهرة الحكمة ، حتى أن العرب اتخذوا من أولئك العقلاء حكاماً ، يستشيرونهم في شؤونهم ، ويحكمونهم في دمائهم ومواريثهم، اذكرُ منهم : اكثم بن صيفي ، وضمرة بن ضمرة النهشلي، وربيعة بن مخاشن، وحاجب بن زراة .
والأولى أن تكون كلمة الجاهلية قد أُطلقتْ – حين أطلقت – لتدل على شيوع عبادة الأوثان بينهم، فلا شك أن من بين العرب من كان يركع لصنم، أو ينحر لنصب، أو يتمسح بوثن، تقرباً لله وزلفى. فالجاهلية مصطلح إسلامي يشير إلى أن العرب قبل الإسلام لم تكن ناعمة بزمن الإسلام، وإشراق تعاليمه)، وليس ثمة ما يُسوّغ انصراف مصطلح الجاهلية إلى توحّش العرب ، وجهلهم بعلوم زمانهم
ويمكن ردّ التطرف ضد العرب قبل الإسلام ، ونعتهم بالتوحش ، والجهل المطبق إلى ثلاثة أسباب :
الأول : دينيّ ، ويتضح من خلال الحرص على تبيان أثر الإسلام في المجتمع العربي ، وكأنّ الإسلام قد خلق هؤلاء الذين آمنوا خلقاً جديداً ،لم يكونوا قبله شيئاً يذكر
الثّاني: شعوبي، ومن المعلوم أن الشعوبية تنوء بكراهية العرب، فلم تتركْ عادة قبيحة ، إلا وألصقتْها بالعرب، إذ لم يرُق لهم كونُ العرب أمةً تسعى للمعرفة والخير) .
الثالث : المستشرقون ، وإذا كان بعضهم – ممن اتسم سلوكه بالموضوعية، والأمانة العلمية – قد أفاد مكتبة العصر الجاهلي الأدبية ، سواء أكان ذلك بالأبحاث ، أو تحقيق بعض دواوين الشعراء ، فإن دراسات بعضهم من أمثال مرجوليوث ،ورينان وأوليري ، ” قد أساؤوا إلى العرب وأدبهم وحضارتهم وعقليتهم ” إساءة متعمدة فقد صدروا – فيما كتبوا – عن روح عنصرية يبرأ منها العلم
صورة موهومة شائعة عن حياة العرب قبل الإسلام
شرّ ما تُصابُ به الشّعوبُ ، أن يتحرّى القائمون على ثقافتها مرضاة العوام، بكل ما يسخط الحق ، ويمسخ التاريخ.
يكتب الكاتبون كتباً ومقالات ، ويتحدث الواعظون في مجالسَ وندواتٍ، فلا يكون لهؤلاء ولا لأولئك حديثٌ أحبّ إليهم ، ولا أرضى لعواطفهم من أن يخلعوا على الأمة العربية في عصر ما قبل الإسلام كلّ ما يضع من أحساب العرب، ويغضّ من أقدارهم، ويرمي بهم في مطارح الرذيلة، وكأن الإسلام قد خلق الذين أيدوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- خلقاً جديداً ، لم يكونوا قبله شيئاً يذكر بفضل أو ينسب إلى كرم.
وحقيقة الأمر ” أن الإسلام لا يمكن أن يكون شجرة منبتة الأصل عن البيئة التي وجدت فيها، لا تمتّ بنسب إلى عقول العرب، وهذا يخالف طبيعة الأشياء”).
ويكفي للدّلالة على خُلق القوم قبل الإسلام ، وعلى ما كانوا يتّصفون به من مُثُل عليا – ما قال الرسول- صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر :” يا أبا بكر ، أيّةُ أخلاق في الجاهلية هذه ، ما أشرفها ! بها يدفع الله عزّ وجلّ بأس بعضهم عن بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم”. وإذا أسبغ الرسول الكريم على العرب في جاهليتهم هذا الشرفَ، وأثنى عليهم، فليس عجيباً أن يروى عن عمرَ بن الخطاب – رضي الله عنه- قولُه:” إني لأعلم متى تهلك العرب، إذا جاوزوا الجاهلية فلم يأخذوا بأخلاقها ، وأدركوا الإسلام فلم يَقُدْهُمُ الورع”
ولستُ أزعم أني سأفتح في هذا الكتاب فتوحاً في التاريخ والاجتماع، ولكني أرجو أن أكشف عن بعض الحقائق.
فقد غبر الناس في وهم عجيب ، وتصوّر أعجب منه للحياة السابقة للإسلام. فعندهم أن العرب قد جاءهم الإسلام ، وهم يعيشون عيش الجماعات البدائية ، التي تبرأ حياتها من النظام، فهم في فرقة أبداً ، وفي حروب لا تنقطع، وليست حروبهم في سبيل غاية سامية، وإنما هي غارات قبلية يشنها قويُّهم على ضعيفهم، وتقوم فيها القبيلة للقبيلة، والطائفة للطائفة في جماعة لا تربط فيها بين الناس إلا تلك الروابطُ الساذجةُ من القرابة أو النّسب، التي تقوم بين أعضاء الأسرة، وأن هذه الروابطَ هي التي تنتهي عندها كلّ العلاقات، وتتكيف على مقتضاها الفضائل والأخلاق.
وأول ما أحبّ أن أقولَه هو أن هذه الصورةَ ليستْ صحيحة، وأن هذا الوهمَ خاطئ، فالعرب يوم جاءهم الإسلام لم تكن تنزل من حياتهم تلك المنزلة الجسيمة هذه الدّواعي التافهة، والعرب لم يكونوا يومئذ جماعة بدائية، يعيش أهلها عيْش السّائمة ، لا تحكمهم فيما بينهم إلا تلك العلاقاتُ ،التي لا تسود الجماعاتِ إلا في الطّور الباكر من تاريخها.
وانك ليسقط عندك هذا الوهمُ، إذا أنت نظرت فوجدت أن هذه الأمة التي تُصور لنا هذا التصوير، هي نفسها التي تتحدث لغة تستطيع ، وأنت مطمئن تمام الاطمئنان، أن تضعها في مقدمة اللغات القديمة والحديثة كلها ، سلامة ،واكتمالاً، وجمالاً ، ووفاء ،وحيوية.
فهذه اللغة موزونة ، يعتمد اللفظ من ألفاظها على بنية موسيقية سليمة … وما كذلك تكون لغات الأمم، إذا كانت عند بداية تكونها الاجتماعي، وعلى عتبة التنبه العقلي والفكري. وإنما تكون عند هذه المرتبة لغة قوم بعد أن تدور في آفاق واسعة من التعبير عن الحاجات والمشاعر ، وتمتد إلى أعماق بعيدة من التحضر لا يمكن أن تتهيأ لأمة من الأمم، إذا كانت عند مطلع التكوين الاجتماعي والقومي. فاللغة العربية لا يمكن أن تكون لغةَ قوم كانت تلك حالهم قبل الإسلام مباشرة.
الجاهلية في اللغة والأصول :
الظاهر أن الجاهلية نسبة إلى الجاهل وهو من لفظ الجهل الذي هو ضد العلم والمعرفة، وهناك رأي يقول إنها ليست من الجهل الذي هو ضد العلم، ولكن من الجهل الذي هو السفه أي ضد الحلم، وهو شدة الأنفة والخفة والغضب.
والواقع أنه لا تعارض بين الاثنين؛ فإن العرب قد أطلقت الجهل على المعنيين كما أن بينهما صلات وروابط، إحداها معرفي والآخر أخلاقي.
وقد استخدمت النصوص الشرعية معنى ثالثًا لهذه اللفظة، بأن جعلت من الجاهلية مذهبًا وطريقة تضاد وتقابل منهج الحياة في الإسلام.
فمن الآيات التي وردت فيها هذه المادة بمعنى العلم قوله تعالى: “للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربًا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف” (البقرة: 273)، ومن الآيات التي وردت فيها بمعنى الطيش والسفه قوله تعالى: “إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليمًا حكيمًا” (النساء: 17).
ويلاحظ أن القرآن الكريم قد أورد مصطلح “الجاهلية” بالمعنى الثالث في سياقين:
الأول: يقابل بين النبوات وأتباعها وبين الجاهلين؛ فهي على المستوى الاعتقادي تتضمن موقفًا من الوحي والغيب بأسسه ومنطلقاته، يرتكز على تصور الخالق بشكل مادي مجسد تدركه الحواس.
الثاني: استخدم الجاهلية كمرجعية تقاس عليها الأشياء فثمة اعتقاد بالله سبحانه وتعالى له آثار سلوكية مختصة بالجاهلية يتباين بشكل كامل عن اعتقاد آخر له آثار سلوكية أخرى يختص بها الإسلام.
وبناء على ذلك، استخدمت لفظة الجاهلية كوصف للاعتقاد (آل عمران: 154، والحكم
أديان العرب في الجاهلية :
كانت لبلاد الحجاز أهميتها من الناحية الدينية، ففيها تلاقت جميع الأديان الوثنية وعبدة الكواكب والنار إلى جانب اليهودية والنصرانية، وقد كان بعض العرب يقدّسون الحيوان ويعبدونه لتحصيل البركة ويتسمّون بأسماء الحيوان، أو بأسماء طيور أو أسماء حيوانات مائية أو بأسماء نباتات أو بأسماء أجزاء من الأرض أو بأسماء حشرات، فهذه الأسماء تدل على تقديس العرب للحيوانات والنبات إلى جانب تفاؤلهم بها، كذلك كانوا يتعمدون تسمية أبنائهم بمكروه الأسماء وتسمية عبيدهم بمحبوب الأسماء، وكانت هذه التسميات تتسم بطابع الحياة التي كان يعيشها المجتمع العربي آنذاك.
ومن اللافت للانتباه أنّ العربي في تلك الحقبة كان يتجنب قتل بعض الحيوانات اعتقاداً منه أنه لو قتله جوزِيَ بقتله، بالإضافة إلى ذلك، فإنه كان يتفاءل ببعض الطيور كالحمام ويتشاءم من بعضها كالغراب، وأكثر من ذلك، فإنه كان يؤمن بوجود قوى خفية روحية مؤثرة في العالم والإنسان، وهذه تكمن في بعض الحيوانات والطيور والنبات والجماد وبعض مظاهر الطبيعة المحيطة به كالكواكب، الأمر الذي أدى به إلى أن يربط بين هذه الكائنات والموجودات وبين القوى الخفية.
ولكن هذه الحالة الاعتقادية ما لبثت أن تطورت ممثلة بالوثنية التي تجاوزت حدود المعقول، وأدت إلى عبادة قطع من الصخور التي كان يستحسن مظهرها وهيئتها، وهذا بدوره أدى إلى نسج الأساطير والقصص بالموجودات التي تحيط به، كالجبال والآبار والأشجار.
ولم يكن تقديسه لهذه المظاهر الطبيعية وعبادته لها باعتبارها تمثل أرباباً، ولكنه كان يشعر تجاهها بنوع من الإجلال والتقدير، وقد تنوّعت طرق تعاطيه معها، فتارة يقدسها، وأخرى يستقسم بها وثالثة يأكلها حين الجوع…
أ ـ عبدة الأصنام والأوثان:
كان العرب في الجاهلية يعبدون الأصنام والأوثان والأنصاب التي تحوّلت كما يبدو إلى أصنام، وكانت الأصنام على أشكال متنوعة، منها ما هو على صورة إنسان أو حيوان أو طير، ومن أشهرها (ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسرا، واللات والعزى، ومنآة، وهبل..).
ب ـ عبدة الكواكب والنار:
لم تقتصر الحياة الدينية في شبه الجزيرة العربية على عبادة الأصنام والأوثان، بل وجدت بعض الفئات الأخرى التي انصرفت إلى عبادة الكواكب والنجوم بأشكالها المتعددة كالشمس والقمر والزهرة وعطارد والثريا وغيرها..
وقد عرفت هذه الجماعة بالصابئة التي استمدّت أصولها الاعتقادية كما تدعي بالأخذ من محاسن ديانات العالم وإخراج القبيح منها قولاً وفعلاً، ولهذا سموا بـ”الصابئة”، وقد وجد إلى جانب هؤلاء عبدة النار “المجوسية”، وكانت قد عرفت هذه الديانة عن طريق الفرس في الحيرة واليمن، كما انتشرت الزندقة بين صفوف سكان شبه الجزيرة في الحيرة.
والزنادقة قوم أنكروا الخالق والبعث، ومنهم من أنكر الرسالة وأنكر بعث الأنبياء، وإلى جانب هذه النظرات الاعتقادية وعبادة الأوثان، نجد أنه كان للعرب آراء ومعتقدات خرافية، فمثلاً كانت لهم في الجاهلية مذاهب في النفوس، فمنهم من زعم أنّ النفس هي الدم وأن الروح هي الهواء، وزعمت طائفة أن النفس طائر ينبسط في جسم الإنسان فإذا مات لم يزل مطيفاً به في صورة طائر يصرخ على قبره مستوحشاً ويسمونه “إلهام” و”الواحدة”، كما أنهم كانوا يعتقدون بالوهميات كالغول وغير ذلك…
تأثيرات عرب الجاهلية :
قال المعترضون إنه بما أن محمداً كان قد عزم على إنقاذ العرب وتحريرهم من عبادة الأصنام وهدايتهم إلى عبادة الله، وبما أنه كان يعرف أنهم كانوا في زمن إبراهيم مؤمنين بوحدانية الله، وبما أنهم حافظوا على كثير من العادات والفروض بطريق التوارث عن آبائهم الأتقياء، فإنه لم يُلزِمهم أن يتركوها كلها، بل بذل الجهد في إصلاح ديانتهم، وإبقاء كل عادة قديمة رأى أنها موافقة ومناسبة. فقال: »ومن أحسن ديناً ممَّن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلاً« (سورة النساء 4: 125)، وقال: »قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين« (سورة آل عمران 3: 95)، وقال: »قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين« (سورة الأنعام 6: 161). وبما أن محمداً ظن أن العرب حافظوا من عصر إبراهيم على جميع عاداتهم وفروضهم، ما عدا عبادة الأصنام والشِرك ووأد البنات والأطفال وما شاكل ذلك من العادات الكريهة، أبقى كثيراً من هذه العادات الدينية والأخلاقية في ديانته وحافظ عليها.
ومعروفٌ أن بعض قبائل جنوب بلاد العرب وشرقيها اختلطوا مع نسل حام بن نوح، وقال ابن هشام والطبري وغيرهما إن كثيرين من سكان جهات بلاد العرب الشمالية والغربية تناسلوا من سام بن نوح، وبعضهم تناسل من قحطان (يقطان)، وبعضهم تناسل من أولاد قطورة زوجة إبراهيم الثانية، وتناسل البعض الآخر (ومنهم قبيلة قريش) من إسماعيل بن إبراهيم. ولا ينكر أحد أن جميع القبائل التي تناسلت من ذرية سام كانوا يؤمنون بوحدانية الله. ولكن مع مرور العصور أخذوا الشرك وعبادة الأصنام من القبائل السورية وسكان الجهات المجاورة لهم، وأفسدوا ديانة أسلافهم، وفسدوا هم أنفسهم. ومع ذلك، لما نسيت جميع الأمم الأخرى (ما عدا اليهود) وحدانية الله، كان سكان الجهات الشمالية والغربية من شبه الجزيرة العربية متمسكين بالوحدانية تمسكاً راسخاً. والأرجح أن دخول عبادة الشمس والقمر والكواكب بين سكان تلك الجهات بدأ في عصر أيوب (أيوب 31: 26-28). وقال هيرودوت، أشهر مؤرخي اليونان (نحو 400 ق م) إن العرب سكان تلك الجهات كانوا يعبدون معبودين فقط، هما »أُرُتال« و»ألإلات« (تاريخ هيرودوت، كتاب 3 فصل . وقصد هيرودوت بالمعبود »أُرُتال« الله، فإن هذا هو اسمه الحقيقي. ومع أن هيرودوت زار بلاد العرب، إلا أنه كان أجنبياً، فلم يتيسَّر له ضبط هذا الاسم، فحرَّفه لجهله باللغة العربية وتهجئتها والنطق بها. ومن الأدلة القوية الدالة على أن هذه التسمية (أي الله) كانت مشهورة ومنتشرة بين العرب قبل زمن محمد، أنه كثيراً ما ذُكر اسم الله في سبع معلَّقات العرب (وهي تأليف مشاهير شعراء العرب قبل مولد محمد، أو على الأقل قبل بعثته) فقد ورد في ديوان النابغة ما نصه:
لهم شيمةٌ لم يعطها اللهُ غيرَهم من الجود والأحلام غير مَوَازِبِ
محلَّتهم ذاتُ الإلهِ ودينُهم قويمٌ فما يَرجون غيرَ العواقبِ
وأيضاً:
ألم ترَ أن اللهَ أعطاك سورةً ترى كل مَلِكٍ دونها يتذبذبُ
أنك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ إذا طلعَت لم يبْدُ منهنَّ كوكبُ
وأيضاً:
ونحن لديه نسألُ اللهَ خُلْدَهُ يردُّ لنا مُلكاً وللأرض عامراً
ونحن نزجّي الخُلد إن فاز قِدْحُنا ونرهبُ قِدحَ الموتِ إن جاء قاهراً
وقال لبيد في ديوانه:
لعمرِك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجراتُ الطيرِ ما اللهُ صانعُ
وقد كانت الكعبة من قديم الأيام أقدس مسجد عند جميع قبائل العرب. قال ثيودور الصقلي، أحد مؤرخي اليونان (نحو 60 ق م) إن العرب كانوا يعتبرون الكعبة في ذلك الوقت مسجداً مقدساً (تاريخ ثيودور الصقلي كتاب 3) وكان يطلق على هذا المقدس »بيت الله«. ويُستدل من دخول أداة التعريف على لفظ الجلالة أن العرب لم ينسوا عقيدة وحدانية الله، وأنه كان عندهم كثير من المعبودات، حتى أطلق عليهم القرآن بسببها اسم »المشركين« لأنهم أشركوا مع الله غيره من المعبودات وعبدوها، وظنوا أنها شريكة معه في الإكرام والعبادة. ولكنهم كانوا يقولون لا نعبد هذه المعبودات الثانوية كما نعبد الله الحي (الذي هو الله) بل بالعكس إنّا نعتبرهم شفعاء، ولنا الرجاء أن بشفاعتهم نستميل الله الحقيقي لإجابة طلباتنا. وقال الشهرستاني: »إن العرب كانوا يقولون الشفيع والوسيلة منّا إلى الله تعالى هم الأصنام المنصوبة، فيعبدون الأصنام التي هي الوسائل« (الملل والنحل ص 109). ومن الأدلة على أن عبَدة الأصنام كانوا يعتقدون بهذا، ما ورد في كتاب »المواهب اللدنية«: »قدِم نفرٌ من مهاجري الحبشة حين قرأ محمد »والنجم إذا هوى« (سورة النجم 53: 1) حتى بلغ »أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى« (53: 19 و20) ألقى الشيطان في أمنيته (أي في تلاوته) »تلك الغرانيق العُلى، وإن شفاعتهنَّ لتُرتجي« فلما ختم السورة سجد (ص) وسجد معه المشركون لتوهُّمهم أنه ذكر آلهتهم بخير. وفشى ذلك بالناس وأظهره الشيطان حتى بلغ أرض الحبشة، ومَن بها مِن المسلمين: عثمان بن مظعون وأصحابه، وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا معه (ص) وقد أمِن المسلمون بمكة، فأقبلوا سِراعاً من الحبشة«.
وذكر ابن إسحق، وابن هشام، والطبري وكثيرون غيرهم من مؤرخي الإسلام هذه الحكاية أيضاً، وأيدها يحيى، وجلال الدين، والبيضاوي في تفاسيرهم لسورة الحج 22: 52 »وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فينسخ الله ما يلقي الشيطان«. وقال الشهرستاني بخصوص مذاهب قدماء العرب وعاداتهم: »والعرب الجاهلية أصناف، فصنفٌ أنكروا الخالق والبعث وقالوا بالطبع المحيي والدهر المغني، كما أخبر عنهم التنزيل. وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا. وقوله: »وما يهلكنا إلا الدهر« (سورة الجاثية 45: 23). وصِنفٌ اعترفوا بالخالق وأنكروا البعث، وهم الذين أخبر الله عنهم بقوله: »أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد« (سورة ق 50: 14). وصنفٌ عبدوا الأصنام وكانت أصنامهم مختصة بالقبائل، فكان وُدٌّ لكلب، وهو بدومة الجندل، وسُواع لهذيل، ويغوث لمَذْحَج ولقبائل من اليمن، ونسر لذي الكلاع بأرض حمير، ويَعوق لهمذان، واللات لثقيف بالطائف، والعُزَّى لقريش وبني كنانة، ومناة للأوس والخزرج، وهُبَل أعظم أصنامهم. وكان هُبل على ظهر الكعبة، وكان آساف ونائلة على الصَّفا والمروة. وكان منهم من يميل إلى اليهود، ومنهم من يميل إلى النصرانية، ومنهم من يميل إلى الصابئة، ويعتقد في أنواء المنازل اعتقاد المنجِّمين في الكواكب حتى لا يتحرك إلا بنوء من الأنواء، ويقول أمطرنا بنوء كذا. وكان منهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الجن. وكانت علومهم علم الأنساب، والأنواء، والتواريخ، وتفسير الأحلام، وكان لأبي بكر الصديق فيها يدٌ طولى«.
وكانت الجاهلية تفعل أشياء جاءت شريعة الإسلام بها، فكانوا لا ينكحون الأمهات والبنات، وكان أقبح شيء عندهم الجمع بين الأختين، وكانوا يعيبون المتزوّج بامرأة أبيه ويسمونه »الضيزن«. وكانوا يحجّون البيت ويعتمرون ويحرمون ويطوفون ويسعون ويقفون المواقف كلها ويرمون الجمار، وكانوا يكسبون في كل ثلاثة أعوام شهراً، ويغتسلون من الجنابة. وكانوا يداومون على المضمضة والاستنشاق وفرق الرأس والسواك والاستنجاء وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان، وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى (من كتاب الملل والنحل للشهرستاني).
قال ابن إسحاق وابن هشام إن ذرية إسماعيل كانوا أولاً يعبدون الله الواحد ولا يشركون معه أحداً، ثم سقطوا في عبادة الأصنام. ومع ذلك فقد حافظوا على كثير من العادات والفروض التي كانت في أيام إبراهيم، فلم ينسوا أن الله كان أرفع من معبوداتهم، بل أنه هو الحاكم والمتسلط عليها جميعاً. وذُكر في
سيرة الرسول:
»خلفت الخلوف ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسمعيل غيره، فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات. وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم يتمسكون بها، من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف على عرفة والمزدلفة وهدي البدن والإهلال بالحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه. فكانت كنانة وقريش إذا أهلوا قالوا: »لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك«. فيوحدونه بالتلبية ثم يُدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده«.
وذكر في القرآن قوله »إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر، ما من شفيع إلا من بعد إذنه. ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون« (سورة يونس 10: 3). فالواضح من هذا أن العرب في أيام الجاهلية كانوا يعبدون الله بشفاعة العزى ومناة واللات (كما يطلب المسلمون في الوقت الحاضر غفران الخطايا من الله عز وجل بشفاعة الأولياء). وحينئذ يصدق على العرب الوثنيين لا مسلمي هذا الزمان قول القرآن إنهم مشركون. فينتج من ذلك أن سكان بلاد العرب حافظوا على عبادة الله إلى عصر محمد، واعترفوا بوحدانيته. وبناءً على ذلك يقول المعترضون إن محمداً أخذ هذه العقيدة من قومه وتعلمها من جدوده وأسلافه، ويتضح من اسم والده »عبد الله« واسم ابن أخيه »عبيد الله« الوارد فيهما لفظ الجلالة بأداة التعريف (وهي دلالة على الوحدانية) أن هذه العقيدة الشريفة كانت معروفة قبل بعثة محمد، وأن الديانة الإسلامية أخذت عادات الطواف والإهلال والإحرام وغيرها كثيراً من ديانة هذه القبائل القديمة.
وكان الختان من هذه العادات، كما قال الشهرستاني. ويتضح من نبذة صغيرة تسمى »رسالة برنابا« أن الختان لم يكن عند العرب فقط من قديم الزمان، بل كان مرعياً عند أمم كثيرة أيضاً، فإن مؤلف هذه الرسالة (التي كُتبت نحو سنة 200م) قال: »إن كل سوري وعربي، وجميع كهنة الأصنام يختتنون«. وكان الختان مرعياً عند قدماء المصريين أيضاً. ومع أن العرب كانوا يعبدون أصناماً كثيرة في أيام محمد، حتى كان يوجد في الكعبة 360 تمثالاً، إلا أن ابن إسحق وابن هشام قالا إن عمراً بن لحي وهذيل بن مدركة أتيا بعبادة الأصنام منسوريا إلى مكة خمسة عشر جيلاً قبل عصر محمد. ولا يحتاج أحد إلى وحي وإلهام لمعرفة قباحة وبطلان هذه العادة المستحبَّة جداً عند العرب، بحيث لم يتمكن محمد من منعهم عن مزاولتها. وهذا هو سبب تقبيل الحجاج الحجر الأسود إلى يومنا هذا.
واضحٌ أن مصدر الديانة الإسلامية الأول كان تلك الفروض الدينية والعادات والاعتقادات التي كانت متداولة وسائدة في أيام محمد بين قبائل العرب، ولا سيما قريش .
ولم أعرف جواباً يرد به المسلمون على أقوال المعترضين هذه، إلا قولهم إن هذه الفروض والعادات أنزلها الله أولاً على إبراهيم، ثم أمر محمداً أن يبلغها للناس ثانية ليتمسكوا بها تمسكاً راسخاً. ولكن واضحٌ من خمسة أسفار موسى أن الاعتقاد بوحدانية الله، وفرض الختان كان من أركان ديانة إبراهيم، إلا أنه لم يرد في التوراة والإنجيل ذكر لمكة ولا للكعبة ولا للطواف ولا للحجر الأسود ولا للإحرام. ولا شك أن العادات المرتبطة والمتعلقة بهذه الأشياء هي اختراعات عبدة الأصنام، وليس لها أدنى ارتباط ولا علاقة بدين إبراهيم.
وقال المعترضون إن بعض آيات القرآن مقتبسة من القصائد التي كانت منتشرة ومتداولة بين قريش قبل بعثة محمد. وأوردوا بعض قصائد منسوبة إلى امرئ القيس مطبوعة في الكتب باسمه تأييداً لقولهم. ولا شك أنه ورد في هذه القصائد بعض أبيات تشبه آيات القرآن، بل هي عينها، أو تختلف عنها في كلمة أو كلمتين، ولكنها لا تختلف معها في المعنى مطلقاً. وهاك الأبيات التي يوردها المعترضون، وقد أظهرنا العبارات التي اقتبسها القرآن بخط أوضح:
دنت الساعةُ وانشقَّ القمر عن غزالٍ صاد قلبي ونفر
أحور قد حرتُ في أوصافه ناعس الطرف بعينيه حَوَر
مرَّ يوم العيــد في زيـنته فرماني فتعاطى فعقر
بسهامٍ من لِحاظٍ فاتــكِ فتَرَكْني كهشيمِ المُحتظِر
وإذا ما غــاب عني ساعةً كانت الساعةُ أدهى وأمرّ
كُتب الحسنُ على وجنته بسَحيق المِسْك سطراً مُختصَر
عادةُ الأقمارِ تسري في الدجى فرأيتُ الليلَ يسري بالقمر
بالضحى والليلِ من طُرَّته فَرْقه ذا النور كم شيء زَهَر
قلتُ إذ شقَّ العِذارُ خدَّه دنت الساعةُ وانشقَّ القمر
وله أيضاً:
أقبل والعشاقُ من خلفه كأنهم من كل حدبٍ يَنْسلون
وجاء يوم العيد في زينته لمثل ذا فليعملِ العاملون
وقال المؤرخون إنه جرت العادة سابقاً بين العرب أنه إذا نبغ بينهم رجل فصيح بليغ، وألف قصيدة بديعة غراء علَّقها على الكعبة، وأن هذا هو سبب تسمية »المعلقات السبع« بهذا الاسم، لأنها عُلِّقت على الكعبة. غير أن بعض المحققين الثقاة أنكروا أن هذا هو سبب التسمية. إلا أن هذا قليل الأهمية. وقال المفسر الشهير أبو جعفر أحمد بن إسماعيل النحاس (توفي سنة 338 هـ) في هذا الصدد: »اختلفوا في جامع هذه القصائد السبع، وقيل إن أكثر العرب كانوا يجتمعون بعكاظ ويتناشدون الشعر، فإذا استحسن الملك قصيدة قال: علقوها واثبتوها في خزانتي. فأما قول من قال عُلِّقت على الكعبة، فلا يعرفه أحد من الرواة. وأصح ما قيل في هذا إن حماداً الرّاوية، لما رأى زُهد الناس في الشعر، جمع هذه السبع وحضَّهم عليها، وقال لهم: هذه هي المشهورات. فسُمِّيت »القصائد المشهورة« لهذا السبب. وقال السيوطي بالفكرة نفسها، وأضاف إليها أن الأشعار كانت تُعلَّق على الكعبة (كتاب مذكر ج 2 ص 240).
ومن الحكايات المتداولة في عصرنا الحاضر أنه لما كانت فاطمة بنت محمد تتلو آية »اقتربت الساعة وانشق القمر« (سورة القمر 54: 1) سمعتها بنت امرئ القيس وقالت لها: هذه قطعة من قصائد أبي، أخذها أبوك وادعى أن الله أنزلها عليه. ومع أنه يمكن أن تكون هذه الرواية كاذبة، لأن امرء القيس توفي سنة 540م، ولم يولد محمد إلا في سنة الفيل (أي سنة 570 م) إلا أنه لا ينكر أن الأبيات المذكورة واردة في سورة القمر 54: 1 و27 و29؛ وفي سورة الضحى 93: 1 و2؛ وفي سورة الأنبياء 21: 96؛ وفي سورة الصافات 37: 61، مع اختلاف طفيف في اللفظ وليس في المعنى. مثلاً ورد في القرآن »اقتربت« بينما وردت في القصيدة »دنت«. فمن الواضح وجود مشابهة بين هذه الأبيات وبين آيات القرآن. فإذا ثبت أن هذه الأبيات هي لامرئ القيس حقيقةً، فحينئذ يصعب على المسلم توضيح كيفية ورودها في القرآن، لأنه يتعذر على الإنسان أن يصدق أن أبيات وثني كانت مسطورة في اللوح المحفوظ قبل إنشاء العالم.
ولستُ أرى مخرجاً لعلماء الإسلام من هذا الإشكال إلا أن يقيموا الدليل على أن امرء القيس هو الذي اقتبس هذه الآيات من القرآن، أو أنها ليست من نظم إمرئ القيس الذي توفي قبل مولد محمد بثلاثين سنة. ولو أنه سيصعب علينا أن نصدق أن ناظم هذه القصائد بلغ إلى هذا الحد من التهتك والاستخفاف والجراءة، بعد تأسيس مملكة الإسلام حتى يقتبس آياتٍ من القرآن ويستعملها بالكيفية المستعملة في هذه القصائد!
الخاتمة :
لا يبدو أننا نسير على طريق سَويّ رغم ادعاء مرورنا بتاريخ عريض من الرقي والتحضّر بحكم انفتاحنا على حضارات عدة، ولكن يبدو أننا وقفنا على أعتابها فقط متفرّجين دون الاستفادة من مرورنا ذاك فنكصنا إلى مقولتنا الأثيرة “انصر أخاك ظالماً ومظلوماً” لنكرّس حياتنا من جديد لمفاهيم جاهلية في عصر لن يلتفت للوراء أبداً، فمضت كل الشعوب بما اكتسبت في مسيرتها وتأخرنا نحن رغم إرادتنا الكبيرة التي نراهن عليها، وعلى ما يمكن أن تحققه مفاهيم لازلنا نلوكها بتلذذ كالحرية واحترام الإنسان لأخيه الإنسان وعدم توزيع التهم على الآخرين دون حساب رغم كل الاختلافات.
إن أشد ما يؤلم هنا هو استنفار مثقف وشاعر ليستجدي أقلام أصدقائه ضد من يرى أنهم – ربما – اقتبسوا مفردتين أو ثلاثة من قصيدة له ضمنوها قصائد بأسمائهم رغم اختلاف الصورة والبناء والرؤية. وليس هذا بالمهم، فتاريخ الاقتباسات مليء بأكثر من هذا، ولكن المهم حقاً، أو ما ينبغي التوقف عنده أن هذه “الفزعة” كانت من الخطورة بحيث لم يحسب حسابها أصدقاء الشاعر حين نصّبوا من أنفسهم قضاة بعد أن أوجدوا التهمة ثم صاغوا حكمهم بتجريم هذا الشاعر وكل ما في أيديهم أرباع أدلة قد لا تصمد كثيراً بوجه أي تمحيص منصف، فقد غفلوا تماماً في غمرة “فزعتهم” أن مثل هذه الاتهامات والتقريرات المسبقة التمترس من النوع الذي يعاقب عليه القانون الجزائي في أي بلد في العالم إذا ما طالب الشاعر المتهم “جرّهم” إلى المحكمة بادعاء اتهامهم له بقائمة كبيرة من التهم مثل (سطى، سرق، لطش، لص، محتال، سارق).
إن مقولة الغابرين تلك أعمت بصر وبصيرة أصدقاء الشاعر فتخلوا عن مقولاتهم العظيمة في المبادئ والأخلاق والقيم العليا التي يتنافخون بها ضد التمترس و “الإخوانية”، وأثبت هؤلاء أن هذه الشعارات مجرد كلام ليل يمحوه الارتطام على صخرة الجاهلية. وهنا؛ هنا فقط، تختفي أقنعة وتظهر وجوهٌ على حقيقتها.

**د لا ل**
2012-02-11, 15:09
مظاهر الحياة العقلية في العصر الجاهلي

إن طبيعة العقل العربي لا تنظر إلى الأشياء نظرة عامة شاملة، وليس في استطاعتها ذلك. فالعربي لم ينظر إلى العلم نظرة عامة شاملة كما فعل اليوناني، كان يطوف فيما حوله؛ فإذا رأى منظرا خاصا أعجبه تحرك له، و جاس بالبيت أو الأبيات من الشعر أو الحكمة أو المثل. "فأما نظرة شاملة وتحليل دقيق لأسسه وعوارضه فذلك ما لا يتفق والعقل العربي.
وفوق هذا هو إذا نظر إلى الشيء الواحد لا يستغرقه بفكره، بل يقف فيه على مواطن خاصة تستثير عجبه، فهو إذا وقف أمام شجرة، لا ينظر إليها ككل، إنما يستوقف نظره شيء خاص فيها، كاستواء ساقها أو جمال أغصانها،
و إذا كان أمام بستان، لا يحيطه بنظره، ولا يلتقطه ذهنه كما تلتقطه "الفوتوغرافيا"، إنما يكون كالنحلة، يطير من زهرة إلى زهرة، فيرتشف من كل رشفة". إلى أن قال: "هذه الخاصة في العقل العربي هي السر الذي يكشف ما ترى في أدب العرب - حتى في العصور الإسلامية - من نقص وما ترى فيه من جمال".
وقد خلص من بحثه، إلى أن هذا النوع من النظر الذي نجده عند العربي، هو طور طبيعي تمر به الأمم جميعاً في أثناء سيرها إلى الكمال،
نشاً من البيئات الطبيعية والاجتماعية التي عاش فيها العرب، وهو ليس إلا وراثة لنتائج هذه البيئات، "ولو كانت هنالك أية أمة أخرى في مثل بيئتهم، لكان لها مثل عقليتهم،
و أكبر دليل على ذلك ما يقرره الباحثون من الشبه القوي في الأخلاق والعقليات بين الأمم التي تعيش في بيئات متشابهة أو متقاربة، وإذ كان العرب سكان صحارى، كان لهم شبه كبير بسكان الصحارى في البقاع الأخرى من حيث العقل والخلق".
أما العوامل التي عملت في تكوين العقلية العربية وفي تكييفها بالشكل الذي ذكره، فهي عاملان قويان. هما: البيئة الطبيعية، وعنى بها ما يحيط بالشعب طبيعيا من جبال وانهار وصحراء وغير ذلك،
والبيئة الاجتماعية، وأراد بها ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك. وليس أحد العاملين وحده هو المؤثر في العقلية.

وحصر أحمد أمين مظاهر الحياة العقلية في الجاهلية في الأمور التالية: اللغة والشعر والأمثال والقصص. وتكلم على كل مظهر من هذه المظاهر وجاء بأمثلة استدل بها ما ذهب إليه.
والحدود التي وضعها أحمد أمين للعقلية العربية الجاهلية، هي حدود عامة، جعلها تنطبق على عقلية أهل الوبر وعقلية أهل المدر، لم يفرق فيها بين عقلية من عقلية الجماعتين.
وقد كونها ورسمها من دراساته لما ورد في المؤلفات الإسلامية من أمور لها صلة بالحياة العقلية ومن مطالعاته لما أورده "أوليري" "وبراون" وأمثالهما عن العقلية العربية،
ومن آرائه وملاحظاته لمشكلات العالم العربي ولوضع العرب في الزمن الحاضر. والحدود المذكورة هي صورة متقاربة مع الصورة التي يرسمها العلماء المشتغلون بالسامية عادة عن العقلية السامية،
وهي مثلها أيضا مستمدة من آراء وملاحظات وأوصاف عامة شاملة، ولم تستند إلى بحوث علمية ودراسات مختبرية، لذا فأنني لا أستطيع أن أقول أكر مما قلته بالنسبة إلى تحديد العقلية الساميّة، من وجوب التريث والاستمرار في البحث ومن ضرورة تجنب التعميم والاستعجال في إعطاء الأحكام.
وتقوم نظرية أحمد أمين في العقلية العربية على أساس إنها حاصل شيئين وخلاصة عاملين، أثرا مجتمعين في العرب وكوّنا فيهما هذه العقلية التي حددها ورسم معالمها في النعوت المذكورة.
والعاملان في رأيه هما: البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية. وعنى بالبيئة الطبيعية ما يحيط بالشعب طبيعياً من جبال وأنهار وصحراء ونحو ذلك،
وبالبيئة الاجتماعية ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك. وهما معاً مجتمعين غير منفصلين، أثّرا في تلك العقلية. ولهذا رفض أن تكون تلك العقلية حاصل البيئة الطبيعية وحدها، أو حاصل البيئة الاجتماعية وحدها.
وخطاً من أنكر أثر البيئة الطبيعية في تكوين العقلية ومن هنا انتقد "هيكل" "Heagel"، لأنه أنكر ما للبيئة الطبيعية من أثر في تكوين العقلي اليوناني، وحجة "هيكل" أنه لو كان للبيئة الطبيعية أثر في تكوين العقليات،
لبان ذلك في عقلية الأتراك الذين احتلوا أرض اليونان وعاشوا في بلادهم، ولكنهم لم يكتسبوا مع ذلك عقلهم ولم تكن لهم قابليتهم ولا ثقافتهم.

وردّ "أحمد أمين" عليه هو أن "ذلك يكون صحيحاً لو كانت البيئة الطبيعية هي المؤثر الوحيد، إذن لكان مثل العقل اليوناني يوجد حيث يوجد إقليمه،
و ينعدم حيث ينعدم، أما والعقل اليوناني نتيجة عاملين، فوجود جزء العلة لا يستلزم وجود المعلول".
وأثر البيئة الطبيعية في العرب، أنها جعلت بلادهم بقعة صحراوية تصهرها الشمس، ويقل فيها الماء، ويجف الهواء، وهي أمور لم تسمح للنبات أن يكثر، ولا للمزروعات أن تنمو، آلا كَلأً مبعثراً هنا وهناك،
وأنواعاً من الأشجار والنبات مفرقة استطاعت أن تتحمل الصيف القائظ، والجوّ الجاف، فهزلت حيواناتهم، وتحلت أجسامهم، وهي كذلك أضعفت فيها حركة المرور، فلم يستطع السير فيها إلا الجمل،
فصعب على المدنيات المجاورة من فرس وروم أن تستعمر الجزيرة، وتفيض عليها من ثقافتها، اللهم إلا ما تسرب منها في مجار ضيقة معوجة عن طرق مختلفة".
وأثر آخر كان لهذه البيئة الطبيعية في العرب، هو أنها أثرت في النفوس فجعلتها تشعر أنها وحدها تجاه طبيعة قاسية، تقابلها وجهاً لوجه، لا حول لها ولا قوة، لا مزروعات واسعة ولا أشجار باسقة،
تطلع الشمس فلا ظل لها، ويطلع القمر والنجوم فلا حائل، تبعث الشمس أشعتها المحرقة القاسية فتصيب أعماق نخاعه، ويسطع القمر فيرسل أشعته الفضية الوادعة فتبر لبّه، وتتألق النجوم في السماء فتمتلك عليه نفسه، وتعطف الرياح العاتية فتدمر كل ما أتت عليه.
أمام هذه الطبيعة القوية، والطبيعة الجميلة، والطبيعة القاسية، تهرع النفوس الحساسة إلى رحمن رحيم، والى بارئ مصور والى حفيظ مغيث- إلى الله-. ولعل هذا هو السر في الديانات الثلاث التي يدين بها أكثر العالم، وهي اليهودية والنصرانية والإسلام نبعث من صحراء سيناء وفلسطين وصحراء العرب.
والبيئة الطبيعية أيضاً، هي التي أثرت-على رأيه-في طبع العربي فجعلته كثيباُ صارماً يغلب عليه الوجد، موسيقاه ذات نغمة واحدة متكررة عابسة حزينة، ولغته غنية بالألفاظ، إذا كانت تلك الألفاظ من ضروريات الحياة في المعيشة البدوية، وشعره ذو حدود معينة مرسومة، وقوانينه تقاليد القبيلة وعرف الناس، وهي التي جعلته كريماً على فقره، يبذل نفسه في سبيل الدفاع عن حمى قبيلته.
كل هذه وأمثالها من صفات ذكرها وشرحها هي في رأيه من خلق هذه البيئة الطبيعية التي جعلت لجزيرة العرب وضعاً خاصاً ومن أهلها جماعة امتازت عن بقية الناس بالمميزات المذكورة.

وقد استمر "أحمد أمين"، في شرح أثر البيئة الطبيعية في عقلية العرب وفي مظاهر تلك العقلية التي حصرها كما ذكرت في اللغة والشعر والأمثال والقصص، حتى انتهى من الفصول التي خصصها في تلك العقلية،
أما أثر البيئة الاجتماعية التي هي في نظره شريكة للبيئة الطبيعية في عملها وفعلها في العقلية الجاهلية وفي كل عقلية من العقليات، فلم يتحدث عنه ولم يشر إلى فعله،
ولم يتكلم على أنواع تلك البيئة ومقوماتها التي ذكرها في أثناء تعريفه لها، وهي: "ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك"، ثم خلص من بحثه عن العقلية العربية وعن مظاهرها وكأنه نسي ما نسبه إلى العامل الثاني من فعل،
بل الذي رأيته وفهمته من خلال ما كتبه انه أرجع ما يجب إرجاعه إلى عامل البيئة الاجتماعية - على حد قوله - إلى فعل عامل البيئة الطبيعية وأثرها في عقلية العرب الجاهليين. وهكذا صارت البيئة الطبيعية هي العامل الأول الفعال في تكوين تلك العقلية، وحرمنا بذلك من الوقوف على أمثلته لتأثر عامل البيئة الاجتماعية في تكوين عقلية الجاهليين.
وأعتقد إن "أحمد أمين" لو كان قد وقف على ما كتب في الألمانية أو الفرنسية أو الإنكليزية عن تأريخ اليمن القديم المستمد من المسند، ولو كان قد وقف على ترجمات كتابات المسند أو الكتابات الثمودية والصفوية واللحيانية، لما كان قد أهمل الإشارة إلى أصحاب تلك الكتابات، ولعدٌل حتماً في حدود تعريفه للعقلية العربية،
ولأفرز صفحة أو أكثر إلى أثر طبيعة أرض اليمن وحضرموت في عقلية أهل اليمن وفي تكوين حضارتهم وثقافتهم، فإن فيما ذكره في فصوله عن العقلية العربية الجاهلية ما بحب رفعه وحذفه بالنسبة إلى أهل اليمن وأعالي الحجاز.
المظهر الاجتماعي
الشعر الجاهلى
هو الشعر الذى قيل قبل الإسلام بنحو من مائة وخمسين إلى مئتى عام في رأى بعض المحققين الذين أشاروا إلى أن الشعر الناضج يعود إليها وقد اشتمل على شعر عدد كبير من الشعراء على رأسهم شعراء المعلقات مثل عنترة وزهير ولبيد وامرىء القيس كما ضم دواوين عدد من الشعراء والشاعرات الذى وصلنا شعر بعضهم كاملا تقريبا ووصلتنا شذرات من شعر بعضهم ويتميز هذا الشعر بجزالة لفظه ومتانة تراكيبه واحتوائه على معلومات غنية عن البيئة الجاهلية بما فيها من حيوان وطير وجماد كما أنه عبر عن أحداث حياة العرب وتقاليدهم ومعاركهم المشهورة وأماكن معيشة قبائلهم وأسماء آبار مياههم وأسماء فرسانهم المشهورين ومحبوباتهم حتى قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه ( كان الشعر علم قوم لم يكن لديهم علم أصح منه ) واعتبر هذا الشعر سجلا لحياة الأمة العربية قبل ظهور الإسلام كما اعتمد عليه علماء اللغة في وضع قواعد النحو والاستشهاد على صحتها واعتمد عليه مفسرو القرآن في بيان معانى الكلمات ومدى ورودها في لغة العرب
اصل العرب ومساكنهم
كتب كثير من علماء الأنساب والتاريخ في اصل العرب وقد كثرت الأقوال وتضاربت الآراء خصوصا بين القديم والحديث فالاعتماد عند المتقدمين على الكتب المدونة وعند بعض العصريين على الآثار القديمة التي نقب عنها في جوف الأرض وحيث أن أمر التنقيب عقيم في جزيرة العرب وبالأخص لم يجر حتى اليوم في الربع الخالي مع صحراء الأحقاف فاصبح الاعتماد فيما يتعلق بشؤون العرب حتما على الكتب المدونة لأنه لم يكن أمامنا ما ينفي صحتها غيران كتب التاريخ والأنساب المتعلقة بي اصل العرب وتقسيمهم تحتوي على أقوال كثيرة فقد لخصت منها ما يأتي بعد جهد كبير وفحص دقيق
يرجع اصل العرب إلى سام بن نوح عليه السلام وكان مسكنهم قبل أن يسكنوا الجزيرة جهات العراق ثم نزح فريق منهم إلى الجزيرة التي يكون موقعها بالنسبة للعراق غرب جنوبي فسمى بنو سام النازحين منهم إليها (عربا) أي الغربيين لان حرف الغين المعجمة كان مفقودا من اللغة السامية فكانوا ينطقون بالعين المهملة عوضاً عن الغين المعجمة ويضعونها موضعها ومن ذلك الحين أطلق على من نزح من بني سام إلى الجزيرة العربية اسم العرب ، ثم سميت الجزيرة باسمهم .
والذي نزح هم ( عاد ) ومسكنهم الأحقاف المسماة الآن بصحراء الأحقاف الواقعة في القسم الجنوبي من الجزيرة . ( وثمود ) ومسكنهم الحجر ووادي القرى بين الحجاز والشام المسمى الآن بمدائن صالح الواقع في القسم الشمالي من الجزيرة . و ( طسم ) و ( جديس ) ، ومسكنهما اليمامة الواقعة في قلب الجزيرة ، والبحرين المسماة الآن بالأحساء ، الواقعة في القسم الشرقي من الجزيرة على الخليج العربي .

و ( عمليق ) ومسكنهم عمان ، الواقع في القسم الشرقي بجنوب من الجزيرة .
قال الجرجاني : إن بني عمليق ملكوا مصر ، ومنهم فرعون إبراهيم ، وفرعون يوسف ، وفرعون موسى . و ( أميم ) ومسكنهم رمل عالج بين اليمامة والشحر ، والمسمى الآن بالربع الخالي . و( عبيل ) ، ومسكنهم الجحفة بقرب المدينة . و ( عبد ضخيم ) ، ومسكنهم الطائف . و ( حضروا ) ومسكنهم الرس ، وأما الكلدانيون ، قال ابن خلدون في تاريخه : إنهم من الطبقة التي قبل نوح عليه السلام ، فهم من بني آدم ، ولم يكونوا من بني سام بن نوح .
ويحد الجزيرة العربية شرقاً بحر الهند والخليج العربي المسمى بالخليج الفارسي ـ لأن العرب استعمرته وبنت فيه ملاحتها قبل الفرس ـ وبعض العراق إلى الكوفة . وغرباً البحر الأحمر ، على أيلة وهي العقبة ، ثم إلى البلقاء المسماة ( الأردن ) ، وبعض بادية الشام وفلسطين وشمالاً من الكوفة والفرات بالعراق ، إلى عانة وبالس ، من الجزيرة الفراتية ، إلى سلمية وإلى مشارف غوطة دمشق إلى مشارف حوران ، إلي البلقاء من برية الشام وبعض فلسطين . وجنوبا بحر الهند .
وتنقسم الجزيرة إلى خمسة أقسام كبيرة :
الأول : القسم الشرق ، وهو يشتمل على عمان وقطر والأحساء والكويت وما حاذى ذلك من مدن وقرى ، من الجهة الشمالية إلى الكوفة .
الثاني : القسم الغربي ، وهو يشتمل على اليمن وتهامة وعسير والحجاز إلى أيلة وما حاذاها من جهة الشمال إلى البلقاء .
الثالث : القسم الشمالي ، وهو يشتمل على كل ما وقع ما بين الكوفة وحوران والبلقاء إلى أيلة من قرى وبادية
الرابع : القسم الجنوبي ، وهو يشتمل على حضرموت .
الخامس : قلب الجزيرة ، وهو يشتمل على عموم نجد ، بما فيه اليمامة والقصيم وشمر وجبلي سلمى وأجا ، وما جاور ذلك مع الربع الخالي بصحراء الأحقاف ونجران .
المظهر الديني:
ينشأ سؤال، ما هذه المعالِم؟ أو حينما ننظر إلى العرب قبل الإسلام، كيف كانوا يُمارسون شعائرهم وعقائدهم، إلى أن الإسلام جاء وحوَّلهُم من عُبَّاد أصنام وأوثان إلى مُوحّدين يَعْبُدون الله وحده لا شريك له وإلى مسلمين؟
وهذه مِنَّة كُبرى ونعْمَة كُبرى. نجد أن العرب قبل الإسلام مثل غيرهم من الأمم أيضاً، ولا يُظَن أن العرب في العَصْر الجاهلي تفرّدوا بمثل هذه العبادات، ولكن أمّة اليونان، وأمّة الرومان، والمصريون القدماء، والبابليون، والفِينِقيون، والآشوريون، كَثير من الأمم كانوا يتوجهون إلى عبادات مادية وإلى عبادة الكائنات الطَّبيعية.
أولا:فنجد أنّ العرب كانوا يتوجّهون أو بعْض العرب إلى عبادة النباتات والجمادات والطير والحيوان، لأن هذا كان يدور حَولهم فيجدون في شيء منها مصدر القوة فيَعْبدونه.
ثانيا:كانوا يتوجّهون إلى عبادة النجوم والكَواكب، وجاءتهم هذه المظاهِر من الصابِئة وبقايا الكِلدانيِّين.
ثالثا:كانوا يتوجّهون أيضاً، كانوا يتأثّرون بما يُسمَّى التثليث في العِبادة، مظهر التثليث في العبادة؛ بحيث كانوا يجْمَعون بين ثلاث ظواهر من الظواهر الطبيعية، وهي: القَمر، والشَّمس، والزُّهْرة، أو القَمر يقابِل ودّ عندهم، وكان صنماً، والشمس تقابل اللات، والزُّهْرة تُقابل العُزَّى. فالقمر والشمس والزُّهْرة، أو ودّ واللات والعُزَّى، وهذا التثليث كان شائِعاً عند عَرب الجُنوب، كما يروي ابن الكلبي في كتابه "الأصنام". كانوا يَرجِعون بآلهتهم إلى الثالوث المقدس، هو: القمر أو ود، والشمس أو اللات، والزُّهْرة أو العُزَّى.
وأيضاً نراهم يقدسون النار، ويظهر ذلك أو أثر ذلك أو أثر تقْدِيسهم النار، يظهر في إيقادهم للنار عند أحلافِهم، واستمطارهم السماء، وتقديم القرابين إليها. ويقال: إن المَجوسية كانت متفشّية في تَميم، وعُمان، والبحرين، وبعض القبائل العربية. نجد أيضاً إلى جِوار عبادة النباتات والجمادات والطَّير والحَيوان، عِبادة النجوم والكواكب، مظهر التثليث في العبادة، عبادة النار.
وعبادة الأصنام، وهي العبادة الشائعة عند العرب، الأصنام والأوثان، وفَرْقٌ بين الصَّنَم والوََثَن: "الصَّنَم": هو التمثال الذي يصنع على هيئة بَشَر أو نَبَات أو حَيوان أو ما إلى ذلك، هذا هو الصَّنَم.
أمّا "الوَّثَن": فهو حَجَر يأخذه العَربيّ أو البَدوي طبعاً في العَصْر الجاهلي ويتخذ منه رَمْزاً للعِبادة. وكانت عِبادة الأصنام منتشرة بين العرب انتشاراً واسعاً، قد صوَّروها أو نَحتوها رَمزاً لآلهتِهم. وقد يَرون في بعض الأحجار والأشجار والآبار ما يَرمز إليهم. فالعُزَّى كانت لغَطفان، وهي شجرة وقد قَطعها خالد بن الوليد، وكان مِن مأثوراته أنه قال:
منْ هُم المشركون؟ هم الذين كانوا يعبدون الأصنام ويقولون: ما نعبدهم إلاّ ليقرِّبونا إلى الله زلفى، أي: كان منهم فريق يعرف الله ولكن كان يشرك مع الله آلهة أخرى، ولذلك قال الحق -سبحانه وتعالى-: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخرى، ثم يقول سبحانه.. وَلا تَذَرُنَّ وَدّاًوَلا سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً
إذاً، ينْشأ سُؤال: ما أشهر الأصنام التي كان يعبدها العرب؟ وهذا الذي نقوله يظهر في شِعْر الجاهليين أيضاً، ومن لا يدرس حياة العرب الدينية أو الاجتماعية أو الثقافية، دراسة موسعة ومستقْصية، لن يعرف كيف يفكّ رموز الكلمات، أو رموز بعض الإشارات في أبيات الشِعْر الجاهلي. من الأصنام التي كان يعْبدها العرب: "اللات" وكان معْبَدها في الطائف، وكانت عبادة "اللات" شائعة بين العَرب الجَنوبيِّين، وفي الحجاز، ويقال: "إنه كان صَخرة مربّعة بيضاء، بَنَت عليه ثَقيف بيتاً. وكانت قريش وجَميع العرب يعظِّمونه"؛ ولذلك سَمّوْا بـ"وهب اللات" و"عبد شمس" مثلاً.
"مناة" و"العُزَّى". وكانت "مناة" صخرة منصوبة على ساحل البحر بين المدينة ومكة، ولها مكانة. وأيضاً نَجِد "وَد" وكان من الآلهة الجنوبية ويؤلّه مع "اللات" و"العُزَّى". وربما تأثروا في هذه العِبادة بما يشاع عند المَسيحيِّين والنَّصرانيِّين. وكان هذا "وَد" صنمه بدَومة الجَنْدل. أيضاً هناك "سُواع" وهذا كان صنم هُذَيل وكِنانة. وأيضاً "يَغُوث" و"يعوق" و"نسر". وكان هناك أيضاً بعض القبائل وضعت أشكالاً وتماثيل، أشكالاً لهذه الأصنام؛ فكان "ود" على صورة "رجل"، و"سُواع على صورة "امرأة"، و"يَغُوث" على صورة "أسد"، و"يعوق" على صورة "فرس"، و"نسر" على صورة "النسر" من الطير. ومن أصنامهم أيضاً "هُبَل"، وهُبَل كان من عَقيق أحمر على صورة إنسان مكْسور اليد اليُمنى، وقريش جعلتها له من ذهب. ولكن هذه الأصنام كلها بمجيء الإسلام كُسِّرت وأزيحت ولم يَعُد منها قليل. ويقال: كان حول الكعبة في فتح مكة ثلاثمائة وستون صنماً، والمصطفى -صلى الله عليه وسلم- أزاحها وأزالها حين نشر رسالة التوحيد في مكة المكرمة، وفي الجزيرة العربية، بل وفي العالم كلّه. ومن أصنام قريش أيضاً المشهورة: "إساف" و"نائلة"، ولهما قصة تشبه الأسطورة، يقال: إنهما كانا شخصيْن أتيا أعمالاً مُسيئة فمُسِخا حَجَرين، وبعد ذلك عبدهما الناس، ومنها "رضا" و"تيم" و"شمس"، إلى آخر هذا كله. فنجد هذه الأصنام كلها انتشرت عند الجاهليين وكان لها أثر في شِعْرهم وفي نَثْرهم.
المظهر الثقافي:
لا شكّ أن معالِم الحياة الدينية تُعَد معْلَماً ثقافِياً أيضاً، لأنّ العبادات والآلهة والعقائد، رغم أنها مَزعومة وأنها باطلة، ولكنها تدلُّ على بحث أيضاً، وتدلُّ على نَظَر وتأثُر بالأمم الأخرى، وما إلى ذلك.
والحياة الثقافية عند العرب نجد لها أكثر من مِحور:
المحور الاول :هو ما علاقة عرب الشمال بعرب الجنوب، أو حضارة القحطانيِّين وحضارة سبإ، وما تلبَّس بها من معارف ومن حضارة ومن ازدهار بحضارة أهل الشمال. نجِد أن العرب الشماليِّين كانوا على صِلة بالحضارات المجاورة، كما يقول الدكتور شوقي ضيف، وكان تجار مَكة يدخلون في مصر والشام وبلاد فارس. وكان الحيريون يتصلون مباشرة بالفُرس، وبلاد فارس، والفُرس والروم كانت لهم ثقافاتهم ولهم عاداتهم ولهم تقاليدهم، وإن كان التأثير لم يكن عميقاً كما حدث في العصر العباسي مثلاً، وكان الغساسنة يتصلون بالروم وقد تنصروا وشاعت النصرانية في قبائل الشام، والعراق، ونزل بينهم كثير مِن اليهود في الحجاز واليمن.
إذاً هذا المَظهر التأثري، هو التأثر بالناحية العَقدية، فشاعت النصرانية، وشاعت اليهودية، في كَثير من المناطق العربية.
وكل ذلك معناه اتصال العرب الشماليين بالأمم المُجاورة وحضاراتها، ولكن كما قلت: أن ذلك كان في حُدود ضَيقة، وكان في حدود تأثر بالمَظهر التجاري، أو التبادل التجاري، أو المَعارف الضَّيقة، فالعرب كانوا يعْتَزّون بسِماتهم، ويعْتَزون بخصائصهم، ويعْتَزون بتقاليدهم، ويعْتَزون بأعرافهم. والعرب الجنوب يبدو أنهم بعد أن دَالت حضارتهم "حضارة سبإ" هاجروا وانتشروا في بلاد كثيرة، ولم يكن عندهم ثقافة ذات معالم بيِّنة، وحتى من وجْهة التنظيم السياسي كان يعمّهم النظام الإقطاعي، ولذلك حينما ضعُفت دولتهم الأخيرة دولة سبأ، تحولوا سريعاً إلى قبائل، وحدثت هِجْرات كثيرة من الجنوب إلى الشمال، وإلى المناطق العربية.
وهناك كتاب في هذا الشأن يمكن أن يُرجع إليه وهو كتاب: "الثقافة العربية أسبق من ثقافة العبريِّين واليونان" للأستاذ محمود عباس العقاد، وهو يرى أن المنطقة العربية القديمة تشمل الجزيرة العربية، وتشمل الشام، وتشمل العراق، وتشمل حتى مصر، والمغرب العربي، مع أن المنطقة العربية الآن هي المنطقة العربية القديمة، وهذه النظرة التوسعية الشمولية، تجعلنا نعيد كثيراً من الحِسابات والأحكام، لأن كثيراً من الباحثين حينما يتكلّم عن الثقافة العربية القديمة، يحصر كلامه في شِبه الجزيرة العربية فقط، وهذه تكون أحكاماً مسوّرة أو محدودة بقيود كثيرة.
ولكن هنا شُبْهة أثيرت، وهي: شُبْهة تَفوُّق الجِنْس الآري على الجنس السامي، سواء كانوا عرباً أو غير عرب، وهذه الشبهة أثارها المستشرقون الأوربيون وغيرهم، حتى يثبتوا أن الرومان، وأن الجنس الآري، وأن الأوربيِّين بصفة عامة، هُم جِنس مُتَفوّق تفكيراً، وسلوكاً، وحضارةً، وميراثاً، وما إلى ذلك. وهذه الشبهة مَرفوضة، لأنه ليس هناك جِنس مميز من أول التاريخ إلى آخره، وإنما التأثر والتأثير و الصلات بين الحضارات.
نسأل سؤالاً: ما أهم معارف العرب وعُلومهم في العصر الجاهلي؟ العرب لم يكن عندهم عِلْم مُنَظَّم ولكن عندهم معَارف كثيرة.
أولا:عِلْم الأنساب والأيام.
ثانيا:معْرفة العرب بالنجوم ومطالعها وأنوائها، ولذلك نرى رأياً للجاحظ في هذا الكلام وآراء كثيرة. يقول الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين": وإنَّ العرب عرفوا الأنواء ونُجوم الاهتداء، لأن من كان بالصحاح الأماليس، -أي: الأرض المستوية التي ليس بها ماء ولا شجر- مضطرّ إلى التماس ما يُنْجيه ويُؤدّيه -أي: يُعْينه- ولحاجته إلى الغَيث وفِراره مِن الجَدب، وضَنه بالحياة، اضطرته الحاجة إلى تَعرُّف شَأن الغَيث، مِن أين يأتي؟ ما هي أحواله؟ ما هي مَواعِيده؟ ولأنه في كل حال يرى السماء وما يجري فيها من كوكب، ويرى التعاقب بينها، والنجوم الثوابت فيها، وما يسير منها مجْتمعاً، وما يسير منها فارِداً، وما يكون منها راجِعاً ومستقيماً؛ كل هذا تأمله في أحوال السموات والكواكب، نشأ من أن الماء يأتيه، كما قال تعالى: {وَفِيالسَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}. فالحاجة دفَعته إلى تأمّل هذه الأشياء، وتُلَخِّص أعرابية هذه المعرفة حين قِيل لها أتعرفين النجوم؟ قالت سبحان الله! أما أعرف أشباحاً وقوفاً عليَّ كلَّ ليلة. وأيضاً هناك أعرابي وصف لبعض أهل الحَاضِرة نجوم الأنواء، ونجوم الاهتداء، ونجوم ساعات الليل، والسُّعُود والنُّحُوس.
وقال قائل لشيخ عبادي: -كان حاضراً- أما ترى هذا الأعرابي يعْرف مِن النجوم ما لا نعْرِف، قال: مَنْ لا يعْرف أجزاع بيته؟ يعني: مَن الذي لا يعرف ما في سقْف بيته، نجد وسيقان النخل تُجْعل سقفاً للخيمة.
إذاً، هناك أيضاً شهادة أخرى يقولها صاعد بن أحمد، المتوفَّى (435هـ): كان للعرب معْرفة بأوقات النجوم ومطالعها ومغايبها. وأيضاً العرب عندهم معارف طبية، والعِيافَة، والتَّنَبؤ، والفِراسَة، والقِيافَة، والحِكَم والأمثال، كل ذلك يدلُّ على رجاحة العقل وعلى النظر الدقيق.
أيضاً، نرى أن معارف العرب كما قلت: هناك معارف طبية ولكنها مبْنية على الملاحظة والخِبرة ومزجت ببعض الخرافات، وأيضاً العِيافَة والتَّنبؤ بملاحظة حَركة الطيور، والفِراسة والقِيافَة. ولكن يهمنا أن نعرف كيف ظهر أثر هذا في أشعارهم؟ نجد أن كتب الأمثال والأدب، تمتلئ بما دار على لسان لقْمان وغيره مِن حكماء الجاهلية من حِكَم، مثل قول أكثم: "مقْتل الرجل بين فكَّيْه"، وقول عامر بن ضرب: "ربّ زارع لنفسه حاصد سواه". وفي الشعر الجاهلي كَثير من هذه الحِكم. وهي تذكر في ثنايا كلامهم، وتدلُّ على ثقافة ومعرفة، ولكنها ثقافة ومعرفة نابعة من التجربة. يقول طرفة في معلّقته:
أرى العيش كنزاً ناقصاً كلّ ليلةٍ
وما تنقص الأيام والدهر ينْفَد
وأيضاً زهير في معلّقته كَثير من الحِكم، وكان شاعراً حكيماً -كما قلنا قبل ذلك-، يقول:
وأعلم ما في اليوم والأمسِقبْله
ولكنني عن عِلْم ما في غدٍعمِ
ومن لا يُصانِعْ في أموركثيرة
يضرَّس بأنياب ويوطَأبمَنْسِمِ
ومَن لا يَذُدْ عن حَوضه بسلاحه
يُهدَّمومن لا يَظلِم الناس يُظْلم
ومن هاب أسباب المناياينلْنَه
ولو رام أسباب السماءبسلَّمِ
ومهما تكن عند امرئ منخَليقةٍ
وإن خَالها تَخْفى على الناستُعْلمِ
هذه الحِكم تدلُّنا أيضاً على معرفة وثقافة وإن كانت ثقافة نَظرية.
تعريف للمعلقات
كان فيما اُثر من أشعار العرب ، ونقل إلينا من تراثهم الأدبي الحافل بضع قصائد من مطوّلات الشعر العربي ، وكانت من أدقّه معنى ، وأبعده خيالاً ، وأبرعه وزناً ، وأصدقه تصويراً للحياة ، التي كان يعيشها العرب في عصرهم قبل الإسلام ، ولهذا كلّه ولغيره عدّها النقّاد والرواة قديماً قمّة الشعر العربي وقد سمّيت بالمطوّلات ، وأمّا تسميتها المشهورة فهي المعلّقات . نتناول نبذةً عنها وعن أصحابها وبعض الأوجه الفنّية فيها :
فالمعلّقات لغةً من العِلْق : وهو المال الذي يكرم عليك ، تضنّ به ، تقول : هذا عِلْقُ مضنَّة . وما عليه علقةٌ إذا لم يكن عليه ثياب فيها خير ، والعِلْقُ هو النفيس من كلّ شيء ، وفي حديث حذيفة : «فما بال هؤلاء الّذين يسرقون أعلاقنا» أي نفائس أموالنا . والعَلَق هو كلّ ما عُلِّق .
وأمّا المعنى الاصطلاحي فالمعلّقات : قصائد جاهليّة بلغ عددها السبع أو العشر ـ على قول ـ برزت فيها خصائص الشعر الجاهلي بوضوح ، حتّى عدّت أفضل ما بلغنا عن الجاهليّين من آثار أدبية4 .
والناظر إلى المعنيين اللغوي والاصطلاحي يجد العلاقة واضحة بينهما ، فهي قصائد نفيسة ذات قيمة كبيرة ، بلغت الذّروة في اللغة ، وفي الخيال والفكر ، وفي الموسيقى وفي نضج التجربة ، وأصالة التعبير ، ولم يصل الشعر العربي إلى ما وصل إليه في عصر المعلّقات من غزل امرئ القيس ، وحماس المهلهل ، وفخر ابن كلثوم ، إلاّ بعد أن مرّ بأدوار ومراحل إعداد وتكوين طويلة .
وفي سبب تسميتها بالمعلّقات هناك أقوال منها :
لأنّهم استحسنوها وكتبوها بماء الذهب وعلّقوها على الكعبة ، وهذا ما ذهب إليه ابن عبد ربّه في العقد الفريد ، وابن رشيق وابن خلدون وغيرهم ، يقول صاحب العقد الفريد : « وقد بلغ من كلف العرب به )أي الشعر) وتفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد تخيّرتها من الشعر القديم ، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة ، وعلّقتها بين أستار الكعبة ، فمنه يقال : مذهّبة امرئ القيس ، ومذهّبة زهير ، والمذهّبات سبع ، وقد يقال : المعلّقات ، قال بعض المحدّثين قصيدة له ويشبّهها ببعض هذه القصائد التي ذكرت :
برزةٌ تذكَرُ في الحسـ ـنِ من الشعر المعلّقْ
كلّ حرف نـادر منـ ـها له وجـهٌ معشّ
أو لأنّ المراد منها المسمّطات والمقلّدات ، فإنّ من جاء بعدهم من الشعراء قلّدهم في طريقتهم ، وهو رأي الدكتور شوقي ضيف وبعض آخر . أو أن الملك إذا ما استحسنها أمر بتعليقها في خزانته .
هل علّقت على الكعبة؟
سؤال طالما دار حوله الجدل والبحث ، فبعض يثبت التعليق لهذه القصائد على ستار الكعبة ، ويدافع عنه ، بل ويسخّف أقوال معارضيه ، وبعض آخر ينكر الإثبات ، ويفنّد أدلّته ، فيما توقف آخرون فلم تقنعهم أدلّة الإثبات ولا أدلّة النفي ، ولم يعطوا رأياً في ذلك .

**د لا ل**
2012-02-11, 15:13
بحث حول العصر الجاهلي تعريفه و لمحة عن حياة العرب * مختصر*
تعريف العصر الجاهلي
هي تلك الفترة التي سبقت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم واستمرت قرابة قرن ونصف من الزمان .
" " سبب تسميته بالعصر الجاهلي " "
سمي بذلك لما شاع فيه من الجهل وليس المقصود بالجهل الذي هو ضد العلم بل هو الجهل الذي ضد الحلم .
العوامل التي أثرت في الأدب الجاهلي:
1 طبيعة السلالة العربية .
2 بيئة العرب الجغرافية .
3 حياة العرب الإجتماعية والأخلاقية .
4 حياتهم السياسية .
5 حياتهم الدينية .
6 حياتهم العقلية ونعني بها علومهم ومعارفهم .
7 أسواقهم واقتصادهم .
8 المعلقات كمظهر لاهتمامهم بالبلاغة والشعر.

البيئة الجغرافية للعرب " "
شبه جزيرة العرب صحراوية في معظمها يسود أرضها الجفاف ولكن حين تحظى بمطر أو ينبوع يتحول بعض أجزائها روضات بهيجة تسر الناظرين.
ولاشك أن الإنسان هو ابن الأرض تطبعه بطابعها وتلون أخلاقه ومزاجه وعاداته بلون تضاريسها ومن هنا فقد طبعت الصحراء أخلاق العرب بطابعها فتحلوا بالشهامة والكرم والنجدة وكراهة الخسة والضيم وقد كانت كل هذه الصفات موضوعات خصبة أمدت الأدب العربي بمعظم أفكاره ومعانيه.

حياة العرب الاجتماعية " "
كان عرب الجاهلية فريقيين وهم : حضر وكانوا قلة وبدو وهم الكثرة .
أما الحضر فكانوا يعيشون في بيوت مبنية مستقرة ويعملون في التجارة - الزراعة - الصناعة ويحيون حياة استقرار في المدن والقرى ومن هؤلاء المدن سكان مدن الحجاز : مكة -يثرب - الطائف - سكان مدن اليمن كصنعاء - وكثيرون من رعايا مملكة المناذرة ومملكة الغساسنة .
كما أنه من أشهر حضر الجاهلية سكان مكة وهم قريش أحلافها وعبيدها وكانت قوافلهم آمنة محترمة لأن الناس يحتاجون إلى خدمات قريش أثناء موسم الحج ولهذا ازدهرت تجارة قريش وكانت لها رحلتان تجاريتان رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى الشام.
وأما أهل البادية فكانت حياتهم حياة ترحال وراء منابت العشب لأنهم يعيشون على ماتنتجه أنعامهم وكانوا يحتقرون الصناعة ويتعصبون للقبيلة ظالمة أو مظلومة .
2- كانت المرأة شريكة مخلصة للرجل في حياته تساعده في حاضرته أوباديته وتتمتع باحترامه حتى لقد اشتهرت بعض النساء في الجاهلية بالرأي السديد.





حياة العرب الأخلاقية " "
كانت لعرب الجاهلية أخلاق كريمة تمم الإسلام مكارمها وأيدها كما كانت لهم أخلاق ذميمة أنكرها الإسلام وعمل على محوها .
فمن أخلاقهم الكريمة: الصدق- الوفاء- النجدة- حماية الذمار- الجرأة والشجاعة- العفاف- احترام الجار- الكرم وهو أشهر فضائلهم وبه مدحهم الشعراء.
" " أما عاداتهم الذميمة " "
الغزو -النهب والسلب- العصبية القبلية - وأد البنات- شرب الخمر - لعب القمار.

حياتهم السياسية " "
كان العرب من حيث حياتهم السياسية ينقسمون إلى قسمين :
1- قسم لهم مسحة سياسية ، وهؤلاء كانوا يعيشون في إمارات مثل: إمارة الحيرة- امارة الغساسنة - إمارة كندة - مكة يمكن اعتبارها من هذا القبيل لأن نظاماً سياسياً كان ينتظمها .
2- قسم ليس لهم وضع سياسي ، وهم من البدو الرحل ينتمون إلى قبيلة معروفة وتخضع كل قبيلة لشيخها .

الحياة الدينية للعرب " "
كان معظم العرب وثنيين يعبدون الأصنام ومن أشهر أصنامهم: هبل- اللات- العزى-مناة كما كانت لهم هناك أصنام خاصة في المنازل.
كما أن من العرب من عبد الشمس والقمر والنجوم ، وكان القليل من العرب يهود أو نصارى لكنهم لم يكونوا على بصيرة وفهم لشريعتهم .
على أن فئة من عقلاء العرب لم تعجبهم سخافات الوثنية وهدتهم فطرتهم الصافية فعدلوا عن عبادة الأصنام وعبدوا الله على ملة ابراهيم عليه السلام وكانوا يسمون الحنفاء .
ومن هؤلاء: قس بن ساعدة - ورقة بن نوفل - أبو بكر الصديق - كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يتعبد في الغار على ملة ابراهيم فكان أيضا من الحنفاء .

مظاهر الحياة العقلية عند العرب

*تمهيد:
*يجدر بنا قبل دراسة بعض نماذج الأدب الجاهلي من (الشعر والنثر) وإن كان النثر قليلا جدا مقارنة بالشعر أن نقدم بهذه اللمحة عن بيئة الأدب،و مظاهر الحياة العربية المختلفة من سياسية، واجتماعية، ودينية وعقلية فالأدب صورة للحياة وللنفس وللبيئة الطبيعية و الاجتماعية.
*ويطلق الأدب الجاهلي على أدب تلك الفترة التي سبقت الإسلام بنحو مائة وثلاثين عام قبل الهجرة.وقد شب هذا الأدب وترعرع في بلاد العرب،يستمد موضوعاته ومعانيه،ويستلهم نظراته وعواطفه من بيئتها الطبيعية والاجتماعية والفكرية،ويحدد لنا بشعره ونثره فكرة صادقة عن تلك البيئة.مما يعين الدارس على فهم أدب ذلك العصر،واستنتاج خصائصه التي تميزه عن سائر العصور الأدبية التي جاءت بعده مع أن الكثير منه مجهول لضياع أثاره ولا نعرف عنه إلا القليل.



لغة العرب:

*اللغة العربية هي إحدى اللغات السامية التي نشأت عن أصل واحد،وهيhttp://www.ibtesama.com/vb/images/smilies/frown.gifالاشورية والعبرية والسريانية والحبشية)،وتقتصر اللغات العربية في كتابتها على الحروف دون الحركات،ويزيد حروفها عن اللغات الآرية مع كثرة الاشتقاق في صيغها وقد مرت اللغة العربية بأطوار غابت عنها مراحلها الأولى،ولكن مؤرخي العربية اتفقوا على أن للعرب منذ القديم لغتين:جنوبية أو قحطا نية،ولها حروف تخالف الحروف المعروفة، وشمالية أو عدنانية،وهي أحدث من لغة الجنوب،وكل ما وصلنا من شعر جاهلي فهو بلغة الشمال،لأن الشعراء الذين وصلتنا أشعارهم إما من قبيلة ربيعة أو مضر،وهما منا القبائل العدنانية،أو من قبائل يمنية رحلت إلى الشمال، كطيئ وكندة و تنوخ،وقد تقاربت اللغتان على مر الأيام بسبب الاتصال عن طريق الحروب و التجارة والأسواق الأدبية كسوق عكاظ قرب الطائف،وذي المجاز و مجنة قرب مكة. وبذلك تغلبت اللغة العدنانية على القحطانية،وحين نزل القران الكريم بلغة قريش،تمت السيادة للغة العدنانية،وأصبحت معروفة باللغة الفصحى. وقد كان لنزول القران بها اثر في رقيها وحفظها وإثرائها بكمية هائلة من الألفاظ و التعبيرات و المعاني مما أعان على بسط نفوذها،واستمرار الارتقاء بها في المجالات العلمية والأدبية إلى عصرنا الحالي.

*حياة العرب العقلية:

*العلم نتيجة الحضارة،وفي مثل الظروف الاجتماعية التي عاشها العرب،لا يكون علم منظم،ولا علماء يتوافرون على العلم،يدونون قواعده و يوضحون مناهجه إذ أن وسائل العيش لا تتوافر،ولذلك فإن كثيرا منهم لا يجدون من وقتهم ما يمكنهم من التفرع للعلم،والبحث في نظرياته وقضاياه.
*وإذا كانت حياة العرب لم تساعدهم على تحقيق تقدم في مجال الكتب والعمل المنظم،فهناك الطبيعة المفتوحة بين أيديهم،و تجارب الحياة العملية وما يهديهم إليه العقل الفطري،وهذا ما كان في الجاهلية،فقد عرفوا كثيرا من النجوم ومواقعها،والأنواء وأوقاتها،واهتدوا إلى نوع من الطب توارثوه جيلا بعد جيل،وكان لهم سبق في علم الأنساب والفراسة،إلى جانب درايتهم القيافة والكهانة،كما كانت لهم نظرات في الحياة. *أما الفلسفة بمفهومها العلمي المنظم،فلم يصل إليها العرب في جاهليتهم ،وإن كانت لهم خطرات فلسفية لا تتطلب إلا التفات الذهن إلى معنى يتعلق بأصول الكون،من غير بحث منظم وتدليل وتفنيد،من مثل قول زهير:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
*واكبر ما يتميز به العرب الذكاء وحضور البديهة وفصاحة القول لذلك كان أكبر مظاهر حياتهم الفكرية: لغتهم وشعرهم وخطبهم ووصاياهم و أمثالهم.

**د لا ل**
2012-02-11, 15:16
النثر فى العصر الجاهلى


الادب الجاهلي: هو أدب الفترة التي سبقت ظهور الاسلام بنحو قرن ونصف قرن، وليس معني ذلك أن تلك الفترة هي كل العصر الجاهلي، فالواقع أن العصر الجاهلي أطول من ذلك كثيرا،لكن الأدب الذي وصل إلينا عاش أصحابه قبل الإسلام بقرن ونصف قرن فقط،وضاع أدب السابقين عليهم؛لأن العصر الجاهلي لم يكن عصر تدوين،فقد كان الاعتماد علي الحفظ والرواية جيلا بعد جيل.
ويشمل الادب في العصر الجاهلي فنّي القول: فن الشعر،وفن النثر.

أما الشعر: فهو الكلام الموزون المقفي،وهو الأسلوب الذي يصور به الشاعر عواطفه وإحساسه معتمدا علي موسيقي الكلمات ووزنها،وعلي عنصري الخيال والعاطفة.
أما النثر: فيقوم علي التفكير والمنطق ولا يعتمد علي وزن أو قافية،ولذلك يمكننا أن نقول : ((ان الشعر مظهر الوجدان والنثر مظهر العقل والثقافة)) ولذلك الشعر أسبق من (النثر الفني) لأن الشعر يقوم علي الخيال والعاطفة،اما النثر الفني فيقوم علي التفكير والمنطق،والخيال أسبق في الوجود من التفكير والمنطق.

ما أسباب قلة النثر الجاهلي؟
إن ما روي من النثر الجاهلي قليل بالنسبة لما روي من الشعر وذلك للأسباب الاتية:
سهولة حفظ الشعر لما فيه من إيقاع موسيقي.
الاهتمام بنبوغ شاعر في القبيلة يدافع عنها ويفخر بها.
ﺠ- كان العرب لم يدونوا أثارهم الأدبية لتفشي الاميةالامانة بينهم وإعتمادهم علي الحفظ والرواية،ومع ذلك وصل إلينا من النثر قدر يكفي لإستنباط خصائصه الفنية.

فنون النثر الجاهلي وخصائصه:
1- الخطابة. 2- الوصايا.
3- الامثال. 4- الحكم.



وسنتناول كل فن وأهم خصائصه الفنية فيما يلي:-
1-الخطابة.
وهي من أقدم فنون النثر،لأنها تعتمد علي المشافهة،لأنها فن مخاطبة الجمهور بأسلوب يعتمد علي الاستمالة وعلي اثارة عواطف السامعين،وجذب انتباههم وتحريك مشاعرهم،وذلك يقتضي من الخطيب تنوع الاسلوب،وجودة الالقاء وتحسين الصوت ونطق الإشارة.
أما الإقناع فيقوم علي مخاطبة العقل،وذلك يقتضي من الخطيب ضرب الأمثلة وتقديم الأدلة والبراهين التي تقنع السامعين.

ﺠ - للخطبة أجزاء ثلاثة هي (المقدمة – والموضوع – والخاتمة).
د- أهداف الخطبة: الإفهام والإقناع والإمتاع والإستمالة.
ﻫ- خصائص أسلوب الخطبة:
1- وضوح الفكرة. 2- جودة العبارة وسلامة ألفاظها.
3- الإكثار من السجع غير المتكلف.
4- التنوع في الاسلوب بين الخبري والانشائي.
5- قلة الصور البيانية.

ﺠ- أسباب ازدهار الخطبة في العصر الجاهلي:
ازدهرت الخطبة لاكتمال عوامل ازدهارها وهي:-
1- حرية القول. 2- دواعي الخطابة كالحرب والصلح والمغامرات.
3- الفصاحة فكل العرب كانوا فصحاء.

ولقد اجتمعت كل هذه الخصائص في خطبة (قس من ساعدة الايادي) والجدير بالذكر أنه أول من قال في خطبته: (أما بعد) وتسمي (فصل الخطاب)، لأنها تفصل المقدمة عن الموضوع.





2- الوصايا
1- الوصية: قول حكيم صادر عن مجرب يوجه الي من يحب لينتفع به، وهي من ألوان النثر التي عرفها العرب في الجاهلية.
2- أجزاء الوصية:
أ- المقدمة: وفيها تمهيد وتهيئة لقبولها.
ب- الموضوع: وفيه عرض للأفكار في وضوح واقناع هاديء.
ﺠ- الخاتمة: وفيها إجمال موجز لهدف الوصية.
ولقد رأينا ذلك في (وصية أم لإبنتها عند زواجها)
(لأمامة بنت الحارث).

3- خصائص أسلوب الوصية:
أ- وضوح الألفاظ.
ب- قصر الجمل. ﺠ- الإطناب بالتكرار والترادف والتعليل.
د- تنوع الاسلوب بين الخبر والإنشاء.
ﻫ- الإقناع بترتيب الأفكار وتفصيلها وبيان أسبابها.
و- الإيقاع الموسيقي الجميل وتجلي كل ذلك في وصية أم لإبنتها.
وهناك فرق بين الوصية والخطبة ألا وهو:-
أن الخطبة: هي فن مخاطبة الجماهير لاستمالتهم واقناعهم.
اما الوصية: فهي قول حكيم لانسان مجرب يوصي به من يحب لينتفع به في حياته.

الأمثال
المثل: قول موجز سائر علي الألسنة وارد في حادثة أو مستمد من ملاحظة في البيئة.
نشأة المثل: كانت الحادثة تقع،ويدور فيها القول،وتأتي من بين الكلمات عبارة قوية مركزة في تلخيص الموقف،او استخلاص العبرة منه،فيكون وقعها قويا علي السامع وتتلقفها الألسنة فتذيع وتنتشر وتصبح مثلا يلقي في كل موقف يشبه الموقف الذي سيقت فيه العبارة اول ما سيقت. وهذا يسمي (مورد المثل).
يضرب المثل في موقف يشبه الحالة التي ورد فيها مع المحافظة علي لفظ المثل وضبطه وهذا يسمي: (مضرب المثل) وهو استعارة تمثيلية ولذلك فكل مثل له مودر ومضرب.
أنواع المثل: أ- بعض الامثال يرتبط بحادثة واقعية.
ب- بعض الأمثال يرتبط بقصة خيالية.
ﺠ- بعض يمثل منهجا معينا في الحياة كقولهم:
(ان الحديد بالحديد يٌِفًلح)
د- وبعضها ما يحمل توجيها خاصا كقولهم: (قبل الرماء تملأ الكنائن).
ﻫ- وبعضها يبني علي ملاحظة مظاهر الطبيعة او يرتبط بأشخاص اشتهروا
بصفات خاصة.
5- ويرجع سر انتشار المثل وذيوعه في الجاهلية الي:-
أ- إنها بيئة فطرية تغلب فيها الامية وتشتد الحاجة الي التجارب المستخلصة في اقوال لها معني صادق.
ب- كذلك يرتبط المثل بحادثة او حكاية تساعد علي أانتشاره.
ﺠ- تصاغ الأمثال غالبا في عبارة حسنة،يظهر فيها دقة التشبيه بين المورد والمضرب، وذلك ما يرضي ذوق العربي.


المثل صوت الشعب
فهو مرآة تنعكس عليها صورة الحياة الاجتماعية والسياسية والطبيعية،وهي تعبير عن عامة الناس لصدوره دون تكلف،ولذلك يتجه الباحثون عن طبائع الشعوب الي دراسة أمثالها،واذا رجعنا الي الامثال وجدناها صوتا للشعب لما يأتي:-
1- لأنها مرتبطة بالبيئة وما فيها من حرب وصلح ومفاوضات.
2- تعبر عن صفات العرب وأخلاقهم وعاداتهم.
ﺠ- ترتبط بحياتهم واحداثها وتعبر عن طرق تفكيرهم ولذلك تتنوع الامثال من أمة الي أخري تبعا لأختلاف البيئة والثقافة وأختلاف العصور.






الخصائص الفنية للامثال
1- ايجاز اللفظ. 2- قوة العبارة.
3- دقة التشبيه. 4- سلامة الفكرة.
نماذج لأمثال العرب في الجاهلية
جزاءه جزاء سنمار:
يضرب لمن يحسن في عمله فيكافأ بالاساءة اليه.
رجع بخفي حنين:
يضرب هذا المثل في الرجوع بالخيبة والفشل.
انك لا تجني من الشوط العنب
يضرب لمن يرجو المعروف في غير اهله
او لمن يعمل الشر وينتظر من ورائه الخير.

4- من حكم العرب في الجاهلية
الحكمة: قول موجز مشهور صائب الفكرة رائع التعبير،يتضمن معني مسلما به،يهدف الي الخير والصواب وتعبر عن خلاصة خبرات وتجارب صاحبها في الحياة.
فيم تلتقي الحكمة والمثل؟ وفيم يختلفان؟
تتفق الحكمة مع المثل في: الايجاز،والصدق،وقوة التعبير،وسلامة الفكرة.
وتختلف الحكمة عن المثل في أمرين:-
لا ترتبط في اساسها بحادثة او قصة.
انها تصدر غالبا عن طائفة خاصة من الناس لها خبرتها وتجاربها وثقافتها.
اسباب انتشارها:-
قد شاعت الحكمة علي ألسنة العرب لاعتمادها علي التجارب واستخلاص العظة من الحوادث ونفاذ البصيرة والتمكن من ناحية البلاغة.







الخصائص الفنية لأسلوب الحكمة
1- روعة التعبير 2- قوة اللفظ
3- دقة التشبيه 4- سلامة الفكرة مع الايجاز
الحكمة صوت العقل:
لأن الحكمة قول موجز يقوم علي فكرة سديدة وتكون بعد تأمل وموازنة بين الامور واستخلاص العبرة منها ولذلك فهي تعبر عن الرأي والعقل.

نماذج من حكم العرب في الجاهلية
مصارع الرجال تحت بروق الطمع:
فيها دعوة الي القناعة فأن الطمع يقتل صاحبه.
رب ملوم لا ذنب له
دعوة الي التحقق من الامر قبل توجيه اللوم للبريء.
أدب المرء خير من ذهبه
معناها ان قيمة الانسان بأدبه لا بماله.
من فسدت بطانته كان كالغاص بالماء
معناها (فمن استعان بقوم غير صالحين لم يفلح في عمله ويكون مثله كمثل من يقف الماء في حلقه ، فلا يجد سبيلا الي ازالة غصته).فهي تدعو الي حسن اختيار الاعوان.
من شدد نفر،ومن تراخي تألف: (( فالناس تنفر من الشديد القاسي وتميل الي اللين الرحيم)).
وهي تدعو الي اللين في المعاملة، وحسن معاملة الناس.

**د لا ل**
2012-02-11, 15:17
خصائـص النثـر الجاهلي


إن ما روى من النثر الجاهلي قليل بالنسبة لما روى من الشعر وذلك للأسباب الآتية :
1 - سهولة حفظ الشعر لما فيه من إيقاع موسيقى .
2 - وللاهتمام بنبوغ شاعر في القبيلة ، يدافع عنها ويفتخر بأمجادها .
3 - كما أن العرب لم يدونوا آثارهم الأدبية ؛ لتفشى الأمية بينهم واعتمادهم على الحفظ والروايـة .

فنون النثر الجاهلي :
1 - الخطابـة . 2 - الوصايـا . 3 - الأمثـال . 4 - الحكـم .

أولاً : الخطابـة : وهى فن مخاطبة الجماهير للإقناع والإمتاع .
وأجزاؤهـا : المقدمـة ، والموضـوع ، والخاتمـة .
خصائصها :

1 - السهولة والوضوح .
2 - قصر الفقرات .
3 - التنويع بين الخبر والإنشاء .
4 - الإطناب بالتكرار والتفصيل والإقناع بالحجج .
5 - والإمتاع بروعة الصور وجمال التعبير .
عوامل رقى الخطابة :
1 - حرية القول والشجاعة في إبداء الرأي .
2 - الفصاحة والقدرة على التعبير .
3 - الدواعي والمناسبات التي تستعمل فيهـا الخطابة من : تنافس وصراع وحروب تدفع إلى القول لإثارة الحمية وإلهاب الحماسـة.





ثانيـاً : الوصايـا :
هي القول الصادر من مجرب خبير إلى من هو أقل منه تجربة كابن أو بنت " فهي ليست في مواجهة الجماهير كالخطبة " .
خصائصها :

1 - اشتمالها على كثير من الحكم .
2 - يغلب على أسلوبها السجع لتأثيره الموسيقى .
3 - سهولة اللفظ .
4 - قصر الفقرات .
ثالثاً : الأمثـال :
المثل : قول موجز بليغ يعتمد على حادثة أو قصة أو مناسبة قيل فيها , ويضرب في الحوادث المشابهة لها .
إن المثل قول موجز بليغ يعتمد على حادثة أو قصة أو مناسبة قيل فيها , ويضرب في الحوادث المشابهة لها ، و انتشر على الألسنة له مورد ومضرب .
خصائصها :
1 - إيجاز اللفظ . قوة العبارة .

3 - دقة التشبيه وسلامة الفكرة .

رابعاً : الحكـم :

الحكمة قول موجز مشهور صائب الفكرة رائع التعبير يتضمن معنى مسلماً به يهدف إلى الخير والصـواب وبه تجربة إنسانية عميقة.

أسباب انتشارها :
1 - اعتماد العرب على التجارب .
2 - استخلاص العظة من الحوادث .
3 - نفاذ البصيرة والتمكن من ناصية البلاغة .
خصائص الحكمة :
1 - روعة التعبير .
2 - وقوة اللفظ .
3 - دقة التشبيه .
4 - سلامة الفكرة مع الإنجاز

**د لا ل**
2012-02-11, 15:19
تعريف النثر الجاهلي
النثر هو الكلام الذي لم ينظم في أوزان وقواف وهو على ضربين :
أما الضرب الأول فهو النثر العادي الذي يقال في لغة التخاطب , وليست لهذا الضرب قيمه أدبيه إلا مايجري فيه أحيانا من أمثال وحكم , وأما الضرب الثاني:
فهو النثر الذي يرتفع فيه أصحابه إلى لغة فيها فن ومهاره وبلاغه وهذا الضرب هو الذي يعني النقاد
في اللغات المختلفه ببحثه ودرسه وبيان مامر به من أحداث وأطوار ,ومايمتاز به في كل طور من صفات
وخصائص وهو يتفرع إلى جدولين كبيرين , هما الخطابه والكتابه الفنيه
ويسميها بعض الباحثين باسم النثر الفني وهي تشمل القصص المكتوب كما تشمل الرسائل الأدبيه المحبره , وقد تتسع الكتابه التاريخيه المنمقه , ومن يرجع إلى العصر الجاهلي وأخباره يجد هذا الضرب الأخير من النثر يلعب دورا مهما في حياة العرب حينئذ , إذ كان عرب الجاهليه مشغوفين بالتاريخ والقصص عن فرسانهم ووقائعهم وملوكهم , يقطعون بذلك أوقات سمرهم في الليل وحول خيامهم , وقد دارات بينهم أطراف من أخبار الأمم المجاوره لهم ممتزجه بالخرافات والأساطير , ففي السيره النبويه أن النضر بن الحارث المكي كان يقص على قريش أحاديث عن أبطال الفرس أمثال رستم وإسفنديار , وأكثر ماكان يستهويهم من القصص أحاديث قصاصهم عن أيامهم وحروبهم في الجاهليه , مما يصوره لنا كتاب شرح النقائض لأبي عبيده وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وقد تلاهما اللغويون والأدباء يعنون بتلك الأيام والحروب عنايه واسعه على نحو ماهو معروف عن ابن عبد ربه في " العقد الفريد وابن الأثير في الجزء الأول من كتابه الكامل والميداني في الفصل التاسع والعشرين من كتابه مجمع الأمثال

**د لا ل**
2012-02-11, 15:20
نبذة عن النثر في العصر الجاهلي,,, (للنثر وعشـــــــــاقه...

النثر أسبق انواع الكلام في الوجود لقرب تناولة ,وعدم تقيدة وضرورة استعماله, وما وصل الينا قليل منه بما وصل الينا من الشعر ....

أنــــــــــــــــــــــــــواع النثــــــــر:

يكاد النثر (http://www.bnikhaled.com/vb/showthread.php?t=12208)الجاهلي يقتصر على نوعين هما:

1-الخــطــب والــوصــايا
2-الــحِــكــم والأمــــثـــال

ولكـن هناك انواع اخرى على نطاق ضيق كسجع الكهان والكهان كما هو معروف يدعون علم الغيب....

كما وجد نوع اخر وهو القصص الذي كانو مشغوفين فية شغفا شديد وقد ساعدهم ذلك على اوقات فراقهم
حيث يجتمعون كانو للسمر صغارا وكبارا يستمعوون لها وكانت هذه القصص تور حول ايامهم وحروبهم والجن وغيرها...

خصـــــــــــــــــــــائص النثــــــــر الجاهلي:

يمتاز النثر (http://www.bnikhaled.com/vb/showthread.php?t=12208)في الجاهلية بجريانة مع الطبع , يسير مع الاخــــلاق البدوي وبيئتة ,فهو قوي التركيب, موجز الاسلوب, سطحي الفــــكرة

وسنلحظ هذا الاسلوب مــن خـــلال القراءة المتعمقة لاهم انواعة:

>>1-الــــــخـــــــــطب والوصـــايا<<

الخطبة والوصية كلتاهما يراد بهما التأثير في المستمع ,الا ان الاولى تكون على ملأ من الناس , والاخرى تكون لقوم معينين كوصية اب لابنة عند السفر او المـوت .

أما الخطابة فكانت ذا شأن لدى الجاهليين, وربما تفوقت على الشعر أحيانا .
وقد كانت الدواعي للخطابة كثيرة ومتنوعة منها: الفخر بالأحساب ، والسفارة بين القبائل , والنصح والارشاد....

اسمــــــاء بعض الخطباء :

قس بن سعادة الايادي ,, والحارث بن عباد البكري, اكثم بن صيفي التميمي...

نــمـأااااذج من الخــطــب والوصــــــــــــــايا:

خطبــــــــــــــــة قس بن سعــادة الاياي (في سوق عكاظ)

يبدو أن قس كان ينكر المنكرالذي شاع في الجاهلية وكانت هذة الخطبة لقس في سوق عكـــاظ

(( أيها الناس ,أسمعو واعوا, من عاش مات, ومن مات فات, وكل ماهو ات ات, ان في السماء لخبر ,وان في الارض لعبر ,ايات محكمات , ومطر ونبات ,ونجوم تزهر, وبحار تزخر ,وليل داج ,وسماء ذات ابراج ,مالي ارى الناس يذهبون, ولايرجعون؟! ارضو فاقاموا ,أم تركوا فناموا, يامعشر اياد ؟اين ثمود وعاد؟ وأين الفراعنة الشداد؟؟

فــي الــذاهبيــن الاولين من القرون الاولى لنا بصائر
لمـــا رايــــــــت مواوردا للــمـوت ليـــس لها مـصــادر
ورايــت قومـــي نحـوها تــمضــي الاصـاغر والاكـابر
لا يــرجع المــاضي اليها ولا مــن الــباقـــين غــابــر
ايــقنــت انتتي لامـحـالة حيـــث صـــار الــقوم صـائر

وهنــــاك خطبة اكثم بن صيفي بين ايدي كسرى من ارادها فقط يكتب رداْ انه يريدها

وصيــــــــــــــــــــــــــــــــــــة زهــير بن جــناب الــكــلبي لبنـــيه يقول :

((يابني اني قد كبرت سنا, وبلغت حرسا,من دهري ,فاحكمتني التجارب والامور تجارب واختبار , أياكم والخور (الضعف) عند المصائب , والتواكل عند النوائب,فان ذلك داعية للغم,وشماته للعدو,وسوء ظن للرب , واياكم ان تخونوا بالاحداث مغترين ولها امنين ومنا ساخرين فانة ما سخر قوم الاقد ابتلو , ولكن توقعوها ,فان الانسان في الدنيا غرض تحاورة الرماة , فمقصر دونه, ومجاوز لموضعة, وواقع عن يمينة وشمالة , ثم لا بد ان يصيبة))

((وصــــــــيـــــــــة ذي الاصــــــبــــــع لابــــــنـــــــة ))

(يابني أن اباك قد فني وهو حي وعاش حتى سئم العيش واني موصيك بما ان حفظتة بلغت في قومك ما بلغتة فا حفظ عني ألن جانبك لقومك يحبوك وتواضع
لهم يرفعوك وأبسط لهم وجهك يطيعوك واكرم صغارهم كما تكرم كبارهم يكرمك
كبارهم ويكبر على مودتك صغارهم واسمح بمالك واحم حريمك وأعزز جارك واعن من استعان بك وأكرم ضيفك واسرع النهضة في الصريخ فان لك اجلا لايعدوك وصن وجهك عن مسالة احد شيئا فبذلك يتم سؤدودك)

**د لا ل**
2012-02-11, 15:22
مميزات النثر الجاهلي القديم
الميزات العامة للنثر الجاهليّ : هو وليد الطبع ، بعيد عن الصنعة و الزخرف و الغلوّ ، يشيع فيه السجعُ ، يسير مع أخلاق البدوي و بيئته و هو قوي اللفظ ، متين التركيب ، سطحي الفكرة ، ينزع نزعة الإيجاز و الموسيقی في الجملة و الأسلوب و يرسل مقطّعاً لا يربط بين أفكاره رابط . فنون النثر الجاهليّ هي المثل و الخطابة و القصص .
النثر في صدر الإسلام :
إنّ الأدب المخضرم فقد كثيراً مِن الأغراض و المعاني الجاهليّة و تبدّل بها أغراضاً و معاني إسلامية أما أسلوبه فبقي جاهلياً في الأكثر و كذلك قلّ الشعر في هذا العصر و كثُر النثر و ازدهرت الخطابة مِن أجل الدعوة إلی دين ا... بالحكمة و الموعظة الحسنة و استنهاض المسلمين للجهاد و نشر رسالة الدين المبين .
النثر الفني في العصر الأمويّ :
كانت قاعدة البلاغة في هذا العصر الإيجاز فاتّسم النثر بسمة الإيجاز و كان شديد الصلة بالنثر القديم . يقسم النثر الإيجازي في هذا العهد إلی ثلاثة أنواع هامة : الخطابة و التوقيعات و الرسائل .


التوقيعات : عبارات بليغة موجزة تحمل في طيّاتها معانيَ وسيعةً و كان الخلفاءُ و الولاةُ يكتبونها في أسفل الشكاوی و المظالم أو المطالب و الحاجات . ظهرت في صدر الإسلام و بلغت ازدهارها في عهد بني أمية . و الميزة التي تتميّز بها التوقيعات هي الإيجاز و البلاغة .
النثر الفني في العصر العباسيّ :
اتسعت الكتابة في هذا العصر لتسجّل ما تُنتجه العقولُ الإسلاميّة مِن علوم لغوية و شرعية و علوم طبيعية و كونية و فلسفيّة و لتستوعب ما يترجم مِن اللغات الأخری و تفنن الكتّاب في نثرهم متوخّين الأسلوبَ البلاغي الأفضل و اتجهوا إلی الوضوح و الابتعاد عن الألفاظ الغامضة و المعاني المبهمه ليدخل الكلام إلی القلوب و العقول و هكذا فعل الخطباء في خُطَبِهم و المتكلّمون في محاوراتهم الكلامية و كتّاب الدواوين في رسائلهم .
مراحل النثر العربيّ في المشرق :
1- نثر صدر الإسلام و الدولة الأمويّة الذي يمتاز بالسجع و المزاوجة و الترسّل و الميل إلی الجمل القصيرة و الإيجاز التام و ترادف الجمل و الاقتباس مِن القرآن الكريم مع جمالٍ في المعنی و اللفظ .
2- نثر عبدالحميد الكاتب في أواخر الدولة الأمويّة و طريقته في الكتابة ، يمتاز بالإطناب و التفصيل و توليد المعاني ، و الموازنة بين الجمل بتقارب كلماتها في العدد و الصيغة و خلوّ الجمل مِن زخرف اللفظ و مُحسناته إلا ما جاء عفواً ، و عدم التزام السجع.



3- نثر ابن المقفع الذي يشبه نثر عبد الحميد الكاتب في بسط المعاني و توكيدها . اعتنی ابن المقفع بتكرير الجمل المتقاربة في معناها مع العناية بالتحليل النفسي و التجارب الأخلاقية و تطويع اللغة للمعاني المستحدثة .
4- نثر الجاحظ الذي يمتاز بالجمل القصار و الفقرات المتقابلة و تعدد النعوت للشيء الواحد و إجادة استخدام حروف الجر متتابعة متغايرة و استقصاء كل أجزاء المعنی و تعدد طرق التعبير ، إضافة إلی الفكاهة و السخرية و مزج الجد بالهزل ، و الإطناب غير المملّ و جزالة في الألفاظ .
5- نثر ابن العميد الذي يقوم علی توخّي السجع القصير الفقرات و الاقتباس مِن القرآن و أحاديث الرسول (ص) و تضمين الأمثال السائرة و نثر الأبيات الحكيمة و الإشارات التاريخيّة و الإكثار مِن أنواع البديع .
6- نثر القاضي الفاضل الذي ساد في القرن السادس و يمتاز بالتزام السجع الطويل المنمق و التشبيه و الاستعارة و الغلوّ المفرط في التورية و الجناس و الطباق و مراعاة النظير و التوجيه الذي هو احتمال الكلام وجهين احتمالاً مطلقاً .
هذه خصائص النثر الشرقي أما النثر في الأندلس فلم يكن يختلف عن النثر في المشرق فبعد شيوع طريقةٍ ما في الشرق كانت تشيع تلك الطريقة في الغرب كذلك و في الأندلس بالذات . بل إن كثيراً مِن أدباء الأندلس كانوا يسافرون إلی الشرق للاستفادة مِن أدبائه . فسلّام بن يزيد كان تلميذاً للجاحظ مدة عشرين سنة و كان ابن
زيدون مِن المعجبين بالجاحظ و المقلّدين له . و هكذا بقية الطرق النثرية التي كان آخرها طريقة القاضي الفاضل في الكتابة التي شاعت في الأندلس في القرن السابع الهجري . إنّ أهم خصائص النثر الأندلسي هو أن أكثر ممارسيه كانوا شعراء و كانوا يميّزون بين مواضع النثر و الشعر .
مراحل النثر العربيّ في الأندلس :
1- طور الفطرة و السذاجة و الفصاحة الذي امتدّ مُنذ فتح الأندلس في نهاية القرن الأول حتی بداية القرن الرابع أي مدة قرنين و هو طور يخلو مِن التأنق و التصنّع و كان أقرب إلی الخطابة مِنه إلی الكتابة حيثُ المعاني الواضحة المترتبة كما تترتب في ذهن الخطيب و الألفاظ السهلة و الأسلوب الخإلی مِن الالتواء و التكلّف .
2- طور القوة للكتابة الأندلسية حيثُ امتهن الكتابةَ كتّابٌ محترفون فأجادوا فيها و طوّروها و إن كانوا مقلّدين لكتاب المشرق فيها . فكانت كتابات الجاحظ و ابن العميد و تلاميذهما هي المثل الأعلی لكتّاب الأندلس . هناك وضوح في المعنی و لا إغراق في البديع .
3- طور ضعف الكتابة الأندلسية و مِن ثُمَّ زوالها ، في هذا الطور زاد الاهتمام بالألفاظ علی حساب المعاني فكانت طريقة القاضي الفاضل هي المثل الأعلی و قد تكلّف الكتّاب في التزام التزامات صعبة مِن البديع .






النثر في العهد التركي :
تناول الكتّاب في هذا العصر النثر الفنيّ و النثر العلمي . و كان النثر الفني علی نوعين الكتابة الديوانية و الرسائل الأدبيّة . كانت موضوعات النوعِ الأول الرسائلَ التي تصدر عن " ديوان الإنشاء " و مِن ميزاتها المحافظة علی الألقاب و النماذج المرعيّة و قد طغی عليها الزخرف اللفظي فشوّهها و قضی عليها انتشار اللغة التركية . أما النوع الثاني فكان موضوعها الإخوانيات و قد ذهب برونقها تكلّفُ المُحسنات اللفظية و مِن أصحابها بدر الدين الحلبي و القلقشندي . و لكن النثر العلمي فقد سار أصحابه علی الأسلوب المرسل و أسفّ المتأخرون مِنهم فاقترب إنشاؤهم مِن النثر العامي .
النثر الفني في العصر الحديث :
كان تطور النثر في هذا العهد أكثر اتساعاً و أعمق أثراً مِن تطور الشعر . و قد اجتاز النثر في هذا العهد ثلاثة أطوار : الطور الأول هو طور البعث و اليقظة ، و قد ظل النثر فيه متأثّراً بأسلوب القاضي الفاضل و أسلوب الآنحطاط . و الطور الثاني هو طور المحاولات المحمودة و قد قدّم المعنی علی اللفظ و لكن التحرر لم يكن تاماً و الطور الثالث هو طور النهضة الحقيقية و قد قصرت الكتابة علی المعاني و جری فيها علی أساليب عالمية رفيعة الفن .
أغراض النثر و فنونه : اتّسعت أغراض النثر و فنونه في هذا العهد فتناولت مشكلات الحياة و مظاهرها و نزعاتها المختلفة .
يمكن تقسيم النثر بالنظر إلی أغراضه و فنونه إلی ثلاثة أقسام :
8

1- النثر الأدبيّ : يمتاز بتخير اللفظ و التأنق في نظم العبارات و قد اشتهر فيه الشيخ ناصيف اليازجي و أحمد فارس الشدياق و الشيخ إبراهيم اليازجي و مصطفی المنفلوطي و سليمان البستاني .
2- النثر الاجتماعي : يمتاز بصحة العبارة و البعد عن الزخرف و قد اشتهر فيه المعلم بطرس البستاني و قاسم أمين و جبران خليل جبران و أحمد زغلول .
3- النثر السياسيّ : يمتاز بالسهولة و الوضوح و يعتمد الأدلة الخطابية و التصوير السريع و قد اشتهر فيه أديب إسحاق و مصطفی كامل
أقسام النثر الأدبيّ الحديث :
1 ) المقامة 2) الخطابة 3) القصة 4) التمثيل 5) الصحافة

**د لا ل**
2012-02-11, 15:23
نصوص من النثر الجاهلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المنان الذي خلق الانسان وعلمه البيان واعطى العرب افصح لسان وصلى الله على نبيه المجتبى والمصطفي بافصح لسان والمقدم على سائر قحطان وعدنان وبعد فقد لفت نظري وشد انتباهي سؤال أحد الاخوة في هذا الملتقى الكريم المبارك حول النثر الجاهلي وهل هو موجود أم انه معدوم مفقود وها انا بعون الله ذكر نصوصا مما ذكره علماؤنا رحمهم الله مما نقلوه في بطون كتبهم والذي يهمني من الموضوع هو تجريد ذكر ما استطعت الوقوف عليها مجردا دون تصنيفها تحت فن معين فمعلوم أن النثر الجاهلي مقسم الى موضوعات مثل الخطابة والوصايا والامثال والحكم والمحاورات والمفاضالات (المنافرات) وهكذا وبعض العلماء ينقص من ذلك ويدمج بعضه ببعض وهذا كله لا يهمنا ولا يهمنا الا السرد الصرف مع ذكر المرجع المذكور فيه النص والله المستعان وعليه التوكل وبعد فهذا اوان الشروع بالمقصود
النص الاول
وهو عبارة عن محاورة كلامية بين مرة بن حنظلة التميمي وبين أبيه حنظلة وكان مرة من فصحاء العرب وهذا النص انقله بتمامه من كتاب الصعقة الغضبية في الرد على منكري العربية للطوفي الصرصري 311-312 فقال رحمه الله :ومن فصحائهم: مرة بن حنظلة التميمي وحكايته في فصاحته من أظرف ما سُمع ,وذلك أن أباه حنظلة قال له يوما في بعض عتب عليه_ وكان قد عتى عليه وعصى امره, وكان بالرد على ابيه مولعا, وكان أبوه له قاليا_:
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/images/icons/start.gifإنّك لمُرٌ يا مرة.
قال: أعجبتني حلاوتك يا حنظلة.
قال : إنك لخبيث كاسمك.
قال: أخبث مني من سماني.
قال: ما اراك من الناس.
قال أجل , تشبهني بمن ولدني.
قال قد يخرج الله الخبيث من الطيب.
قال : كذلك أنت من أبيك.
قال: قد حرصتُ صلاحك جهدي.
قال ما أوتيتُ إلا من عجزك.
قال: ما هذا باول كفرك النعم.
قال: من أشبه أباه فما ظلم
قال:لأدعون الله عليك, فلعله أن يخزيك.
قال: تدعوا إذن عالما بك.
قال: لا يعلم منى الا خيرا.
قال: مادح نفسه يقرئك السلام
قال :إنك ما علمتُ للئيم.
قال : ما ورثته عن كلالة.
قال: لقد كنت مشؤما على إخوتك إذ أفنيتهم.
قال:ما أكثر عمومتي يا مبارك.
قال:ولد الناس ولدا وولدتُ عدوا.
قال:الاشياء قروض, والقلوب تتجازى, ومن يزرع شوكا لا يحصد عنبا.
قال:أراحنى الله منك.
قال:قد فعل إن أحببت.
قال:وكيف لي بذلك؟.
قال:تخنق نفسك حتى تستريح.
قال:سود اللهٌ وجهَك.
قال: بيّض الله عينيك.
قال: قم من بين يديّ.
قال:على أن تؤمنني لقاك.
قال: لأمسكن من أمرك ما كنتُ مضيعا.
قال: لايحصل في يديك الا الخيبة.
قال:لعن الله أما ولدتك.
قال:إذ لَقِحت منك.
قال:أنت بأمك أشبه.
قال:ما كانت بشرٍّ من أم زوجها.
قال:والله إن قمت إليك لأبطشن بك.
قال: ما تراك أبطش مني.
قال:وإن فعلتُ تفعل؟.
قال:وانت من ذلك في شك؟!
فسكت وتركه http://www.ahlalhdeeth.com/vb/images/icons/end.gif

بسم الله الرحمن الرحيم
النص الثاني
وهو عبارة عن محاورة جرت بين فصيح من فصحاء العرب واسمه ضمرة بن ضمرة النهشلي وبين النعمان بن المنذر وكان يغير على مسالح النعمان وكان يطلبه فلا يظفر به حتى اذا عيل صبره أرسل اليه أن ادخل في طاعتي ولك مائة من الابل فقبلها وأتاه حتى دخل عليه ,فلما نظر اليه ازدراه وكان دميما فقال :{تسمع بالمعيدي خير من ان تراه} فقال له:{مهلا ايها الملك إن الرجال لا يكالون بالصيعان وانما المرء باصغريه قلبه ولسانه ,إن قاتل قاتل بجنان، وإن نطق نطق ببيان.فقال صدقت , وهو ذلك .هل لك علم بالامور وولوج فيها؟ قال: والله إني لابرم منها المسحول وأنقض منها المفتول واجيلها حيث تجول,ثم انظر ما يؤول. وليس للامور بصاحب من لاينظر بالعواقب. فقال :صدقت ,لله درك فاخبرني بالعجز الظاهر والفقر الحاضر والداء العياء والسوأة السوآء . فقال :أما العجز الظاهر فالشاب قليل الحيلة , اللزوم للحليلة, الذي إذا غضبت ترضاها، وإن رضيت تفداها. واما الفقر الحاضر فالمرء لاتشبع نفسه, وإن كان من ذهب حلسه. وأما الداء العياء : فجار السوء ،إن كان فوقك قهرك, وإن كان دونك همرك،وإن اعطيته كفرك,وإن حرمته شتمك. فإن كان ذلك جارك فاخل له دارك، وعجل منه فرارك، وإلا اقم بذل وصغار ،وكن ككلب هرّار. واما السوأة السوآء: فالحليلة الصخابة ، الخفيفة الوثابة ، السليطة السبابة، التي تضحك من غير عجب ،وتغضب من غير غضب, الظاهر غيبها، المحفوف عيبها، فزوجها لا يصلح له حال،ولا ينعم له بال،إن كان غنيا لم ينفعه غناه,وإن كان فقيرا أبدت له قلاه. فأراح الله منها اهلها، ولا متع بها بعلها.} فاعجب النعمان حسن كلامه وحضور جوابه،فاحسن جائزته واحبسه قبله وفي رواية قال له: أنت ضمرة, أي كانت كأبيك . فسمي ضمرة بن ضمرة ،وكان اسمه قبل ذلك شقة بن ضمرة.

الصعقة الغضبية في الرد على منكري العربية ص309 وما بعدها

بسم الله الرحمن الرحيم
النص الثالث
قال الميداني في مجمع الامثال تحت المثل 146(إن العصا قرعت لذي حلم) قيل إن اول من قرعت له العصا عمرو بن مالك بن ضبيعة أخو سعد بن مالك الكناني , وذلك أن سعدا أتي النعمان بن المنذر ومعه خيل قادها واخرى عراها فقيل له: لما عريت هذه وقدت هذه؟ قال: لم أقد هذه لامنعها ولم اعر هذه لاهبها. ثم دخل على النعمان ,فسأله عن ارضه فقال: أما مطرها فغزير, واما نبتها فكثير, فقال له النعمان: إنك لقوال , وإن شئتُ اتيتك بما تعيا عن جوابه,قال : نعم ,فامر وصيفا له أن يلطمه , فلطمه لطمة, فقال ما جواب هذه ؟ قال: سفيه مامور ،قال :الطمه أخرى فلطمه,قال: ما جواب هذه ؟ قال:لو أُخذ بالاولى لم يعد للاخرى,وإنما أراد النعمان أن يتعدى سعد في المنطق فيقتله, قال: الطمه ثالثة,فلطمه, قال:ما جواب هذه ؟ قال رب يؤدب عبده, قال: الطمه أخرى فلطمه، قال فما جواب هذه ؟ قال: ملكت فأسجح, فأرسلها مثلا, قال النعمان:أصبت فامكث عندي, واعجبه ما رأي منه, فمكث عنده ما مكث. ثم إنه بد للنعمان أن يبعث رائدا, فبعث عمرا أخا سعد , فأبطأ عليه ، فأغضبه ذلك فأقسم لئن جاء ذامّا للكلأ أو حامدا له ليقتلنه, فقدم عمرو, وكان سعدعند الملك , فقال سعد: أتأذن لي أن اكلمه ؟ فقال :إذن يقطع لسانك,قال:فأشير إليه؟ قال إذن تقطع يدك , قال:فأقرع له العصا؟ قال ك فاقرعها فتناول سعد عصا جليسه وقرع بعصاه قرعة واحدة, فعرف أنه يقول له : مكانك ثم قرع بالعصا ثلاث قرعات ,ثم رفعها الى السماء ومسح عصاه بالارض , فعرف أنه يقول له: لم اجد جدبا. ثم قرع العصا مرارا ثم رفعها شيئا وأومأ الى الارض , فعرف أنه يقول : ولا نباتا, ثم قرع العصا قرعة وأقبل نحو الملك , فعرف أنه يقول : كلمه , فاقبل عمرو حتى قام بين يدي الملك, فقال له: أخبرني هل حمدت خصبا او ذممت جدبا؟ فقال عمرو : لم أذمم هزلا ,ولم أحمد بقلا الارض مشكلة لاخصبها يعرف , ولا جدبها يوصف , رائدها واقف , ومنكرها عارف ,وآمنها خائف قال الملك : أولى لك
فقال سعد بن مالكيذكر قرع العصا:
قرعت العصا حتى تبين صاحبي ***** ولم تك لولا ذاك في القوم تقرع
فقال:رأيت الارض ليس بممحل ***** ولا سارح فيهاعلى الرعي يشبع
سواء فلا جدب فيعرف جدبها ***** ولا صابها غيث غزير فتمرع
فنجى بها حوباء نفس كريمة ***** وقد كاد لولا ذاك فيهم تقطع


بسم الله الرحمن الرحيم
النص الرابع
كان بباب النعمان بن المنذر , مخالس بن مزاحم الكلبي وقاصر بن سلمة الجذامي , وكان بينهما عدواة فأتى قاصر الى ابن فرتنى -وهو عمرو بن هند أخو النعمان بن منذر_ وقال له: إن مخالسا هجاك وقال في هجائه:
لقد كان من سمّى اباك فرتنى ***** به عارفا بالنعت قبل التجارب

فسماه من عرفانه جرو جيأل ***** خليلة قشع خامل الرجل ساغب
أبا منذر أنى يقود ابن فرتنى ***** كراديس جمهور كثير الكتائب
وما ثبتت في ملتقى الخيل ساعة ***** له قدم عند اهتزاز القواضب

فلما سمع عمرو ذلك أتى النعمان فشكا مخالسا , وأنشده الابيات , فأرسل النعمان الى مخالس, فلما دخل عليه قال : لاأم لك أتهجو امرأ هو ميتا خير منك حيا , وهو سقيما خير منك صحيحا, وهو غائبا خير منك شاهدا, فبحرمة ماء المزن , وحق أبي قابوس لئن لاح لي أن ذلك كان منك لأنزعن غَلْصَمَتك من قفاك ولأطعمنك لحمك, قال مخالس: أبيت اللعن! كلا والذي رفع ذروتك بأعمادها , وأمات حسادك باكمادها ما بُلّغْـتً غير أقاويل الوشاة , ونمائم العصاة, وما هجوت أحدا , ولا أهجو امرأ ذكرت أبدا , وإني اعوذ بجدك الكريم , وعز بيتك القديم ,أن ينالني منك عقاب , أو يفاجئني منك عذاب , قبل الفحص والبيان , عن أساطير أهل البهتان, فدعا النعمان قاصرا فسأله, فقال قاصر: أبيت اللعن ! وحقك لقد هجاه, وما اروانيها سواه, فقال مخالس: لا يأخذنّ ايها الملك منك قول امرئ آفك, ولا توردني سبيل المهالك ,واستدلل على كذبه بقوله:إني ارويتُه مع ما تعرف من عداوته, فعرف النعمان صدقه, فأخرجهما , فلما خرجا قال مخالس لقاصر :شَقِىَ جدك, وسَفَل خدك، وبطل كيدك, ولاح للقوم جرمك, وطاش عني سهمك, ولأنت أضيق جحرا من نقاز, وأقل قرىً من الحامل على الكرّاز.

**د لا ل**
2012-02-11, 16:03
العصبية القبلية في العصر الجاهلي مفهومها ومظاهرها

د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
المصدر: كتاب العصبية القبلية

أولاً: مفهوم العصبية:
1- تعريف العصبية لغة[1] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn1):
العصبية في اللغة: مشتقة من ((العَصْبِ))، وهو: الطَّيُّ والشَّدُّ. وعََصَبَ الشيءَ يَعْصِبُهُ عَصْبًا: طَوَاه ولَوَاه، وقيل: شدَّه. والتَّعَصُّب: المحاماة والمدافعة.

والعََصَبَة: الأقاربُ من جهة الأب، وعَصَبَةُ الرَّجُلِ: أولياؤه الذكورُ من وَرَثَتِه، سُمُّوا عَصَبَةً لأنهم عَصَبُوا بنسبه، أي: أحاطوا به، فالأب طَرَفٌ والابن طرف، والعم جانب والأخ جانب، والجمع: العَصَبَات، والعرب تسمِّي قرابات الرجل: أطرافَهُ، ولمَّا أحاطتْ به هذه القراباتُ وعَصَبَتْ بنسبه، سُمُّوا: عَصَبَةً، وكلُّ شيءٍ استدار بشيء فقد عَصَبَ به.

والعُصْبَة والعِصَابة: الجماعة؛ ومنه قوله تعالى: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يُوسُف: 8]، ومنه حديث: ((اللَّهُمَّ إنْ تُهْلِكْ هَذِه الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ، لاَ تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ))[2] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn2).

وعَصِيب: شديد؛ ومنه قوله تعالى: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هُود: 77].

2- العصبية في الاصطلاح:
قال الأزهري في "تهذيب اللغة": ((والعصبية: أن يدعو الرجل إلى نصرة عَصَبته والتألُّبِ معهم، على من يناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين))[3] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn3).
وعرَّفها ابن خلدون بأنها: ((النُّعَرَةُ[4] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn4) على ذوي القربى، وأهلِ الأرحام أن ينالهم ضَيْم، أو تصيبَهم هَلَكة... ومن هذا الباب الولاء والحِلْف، إذ نُعَرَةُ كلِّ أحدٍ على أهل ولائه وحِلْفه))[5] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn5).

وعرَّفها بعضهم بأنها: ((رابطة اجتماعية سيكولوجية (نفسية) شعورية ولا شعورية معًا، تربط أفراد جماعة ما، قائمة على القرابة، ربطًا مستمرًّا، يبرز ويشتد عندما يكون هناك خطر يهدد أولئك الأفراد؛ كأفراد أو كجماعة))[6] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn6).

وعرفها آخرون بأنها: التلاحم بالعصب، والالتصاق بالدم، والتكاثر بالنسل، ووفرة العدد، والتفاخر بالغلبة والقوة والتطاول))[7] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn7).
وهناك من الباحثين من فسرها بأنها ((رابطة الدم)) أو ((تكاتف اجتماعي)) أو ((تضامن قبلي)) [8] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn8)، إلى غير ذلك من تعريفات وتفسيرات للعصبية؛ تدور في مجملها حول معنيين رئيسين: ((الاجتماع))، و((النُّصْرة)) ؛ فهما يمثلان صُلب العصبية، ومع أن العلماء والكتّاب قد ذكروا للعصبية تعريفات متنوعة، إلا أنها لا تخرج في مجملها عن هذين المعنيين؛ سواء كان ذلك الاجتماع والتناصر حقًّا أم لا.

ثانيًا: مفهوم القَبَلِيَّة:
هي نسبةٌ إلى القَبِيلَة، ويُنسب إليها أيضًا فيقال: قَبِيلِيَّة، و((القبيلة من الناس: بنو أب واحد. ومعنى القبيلة من ولد إسماعيل: معنى الجماعة؛ يقال لكل جماعة من أب واحد: قبيلة))[9] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn9).
هذا هو المعنى العام للقبيلة، في القديم والحديث.
وإن الناظر في النظام الاجتماعي عند العرب، يدرك أن هذا المفهوم كان واسعًا في الجاهلية، ثم هذّبه الإسلام، فأقرّ بعضه، ونهى عن بعض، وتتمثل سعة النظام الاجتماعي في العهد الجاهلي، في قبوله انضمام أفراد للقبيلة لا ينتمون إلى أبيهم؛ ومن صور ذلك:

1 - المُستعرِبون:
هم ناس دخلوا جزيرة العرب، وخالطوا العرب، فأخذوا لسانهم، وأتقنوه، فصاروا منهم، ولنا في إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر - وقد كانت أَمَة - مثال ناصع، وهو من تشرفت به العرب، جاء إلى مكة صبيًّا، فاستقر بها، وشب، وخالط العرب، وصاهر جُرهُمًا، فصار بينهم كأنه منهم.
وقد أجمعت معاجم العربية على أن لفظ ((العرب المستعرِبة)) يعني: أولئك الذين ليسوا بعرب خُلَّص، وإنما هم من خالطوا العرب، فاستعربوا، فصاروا عربًا[10] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn10).

2 - الحلفاء من داخل جزيرة العرب:
وهم: قوم نزحوا من مكان إلى مكان داخلَ جزيرة العرب، فاستقروا مع قوم من قبيلة غير قبيلتهم، فحالفوهم فصاروا منهم.
ومن هؤلاء من هو معروف القبيلة والنسب، والأمثلة على ذلك عديدة.

منهم على سبيل المثال: حذيفةُ بن اليَمَان العَبْسي، ونسبه معلوم في بني عَبْس، فأصاب أبوه دمًا في قومه، فنزح إلى المدينة، وكان اسمه: حُسَيلاً، وقيل: جَرْوة، فحالف بني عبد الأشهل، فسماه قومه اليمان؛ لأنه حالف اليمانية[11] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn11)، وقد تزوج منهم الرَّباب بنتَ كعبٍ من بني عبد الأشهل، فولدت له حذيفة، وكانا في بني عبد الأشهل: لهما ما لأحدهم، وعليهما ما على أيٍّ منهم.
ومنهم: ياسر بن عامر العَنْسي اليماني، استقر في مكةَ فحالف أبا حذيفة ابن المُغِيرة المخزومي؛ فزوجه أَمَته سُميَّة بنت خيَّاط، وغيرهم كثير.

3 - الموالي:
وهم: من طالهم السَّبْي، إما نتيجة للحروب، أو لسبب آخر.

ومنهم: من يكون من الأحرار فيقع ظلمًا في السَّبْي؛ ليصبح بعدها مملوكًا يُباع ويُشترى! وهذا من الظلم الشديد الذي حذر منه الإسلام؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قَالَ اللهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ))[12] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn12).
وقد كان هذا واقعًا مُعاشًا قبل الإسلام، فأبطله الإسلام، ورفضه رفضًا باتًّا. وفي قصة أبي تميمة الهُجَيمي - الآتية في سياق هذا البحث - أكبر دليل على هذا الواقع المؤلم[13] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn13).

4 - التَّبَنِّي:
كان التبنّي أمرًا واقعًا قبل الإسلام؛ يلجأ إليه الناس: إما لأن أحدهم ظل عقيمًا، أو لأنه رزق إناثًا فحسب، أو لأن أولاده الذكور لا يعيشون، أو لأي سبب آخر. يصير الابن الدخيل بعدها ابنًا منتسبًا لأبيه الذي تبناه، له من الحقوق ما لأبناء الرجل من صُلْبه، وعليه من الواجبات ما عليهم. وقد يكون المتبنى معروف القبيلة والنسب؛ كزيد بن حارثةَ الكلبي رضي الله عنه الذي تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد يكون معروف الجهة غيرَ معروف القبيلة والنسب؛ كسالمٍ مولى أبي حذيفة.
ولولا أن الإسلام منع هذه العادة، لأضحى المنتسبون لبعض قبائل العرب الكبرى ممن ليسوا معروفي النسب أعضاءً فيها، دون أن يطالهم نقص في حياتهم الاجتماعية.
ولم يكن من مقاصد الشرع - بمنعه عادة التبني - أن يكرِّس للقَبَلِيَّة البغيضة، وإنما أراد الإسلام بذلك تنظيم حياة الناس على أسس حَقَّة، لا اعوجاجَ فيها.
ولو كان هذا المنع لتكريس القَبَلِيَّة لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ)) [14] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn14) ؛ فجعل صلى الله عليه وسلم الولاء في مرتبة النسب.

تهذيب الإسلام للنظام الاجتماعي الذي كان سائدًا في الجاهلية:
من خلال هذا العرض يتضح أن النظام الاجتماعي في الجاهلية كان أكثر مرونة مما هو عليه الآن، ومع ذلك فقد هذبه الإسلام ليصبح أكثر مرونة.
من أجل ذلك، فإن التعصب النَّسَبي أمر لا مسوِّغ له البتة. ولعل قصة عبدالله بن حُذَافة السَّهْمي - وهو من قريش - خير دليل على بطلان مسألة الاعتداد بالنسب؛ وقد كان من أمره أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((سَلُونِي عَمَّا شِئْتُم))، فقال رجل: مَنْ أبي؟ قال: ((أَبُوكَ حُذَافَةُ))، فقام آخر، فقال: من أبي يا رسول الله؟ فقال: ((أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ)). فلما رأى عمرُ ما في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغضب، قال: يا رسول الله، إنا نتوب إلى الله عز وجل[15] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn15). وقد قالت أم عبدالله ابن حذافة: ((ما سمعت بابن قطُّ أعقَّ منك؛ أأمنتَ أن تكون أمُّك قد قارفَتْ بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية؛ فتفضحَها على أعين الناس؟!))[16] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn16).

فقد برّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ عبدالله، لكنها مع ذلك وصفت ابنها بالعقوق؛ لِمَا كانت تعرفه عن مجتمع الجاهلية، مما كان يقع فيه الناس من مقارفة الفواحش؛ علمًا أن بعضها كان مباحًا عندهم ولا يُعَدُّ عيبًا في عُرْفهم؛ فقد أخبرت عائشةُ عروةَ رضي الله عنهما: ((أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنِكاحٌ منها نكاحُ الناس اليوم؛ يخطب الرجل إلى الرجل وَلِيَّتَه أو ابنته، فيُصدِقُها، ثم يَنْكِحها، ونكاحٌ آخرُ؛ كان الرجل يقول لامرأته - إذا طَهُرَتْ من طَمْثها -: أرسلي إلى فلانٍ فاستبضِعي منه، ويعتزلها زوجها، ولا يَمَسُّها أبدًا، حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضِع منه، فإذا تبين حملُها أصابها زوجُها إذا أحبّ، وإنما يفعل ذلك رغبة في نَجَابة الولد! فكان هذا النكاح نكاحَ الاستبضاع، ونكاحٌ آخرُ؛ يجتمع الرهط ما دون العشَرة، فيدخلون على المرأة، كلُّهم يُصيبها، فإذا حمَلت ووضعت، ومر عليها ليالٍ بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنُك يا فلانُ، تسمِّي من أحبَّتْ باسمه، فيَلْحَقُ به ولدُها، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل، ونكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة، لا تمتنع ممن جاءها، وهنّ البغايا، كن يَنْصِبنَ على أبوابهن راياتٍ تكون عَلَمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها، جُمِعوا لها، ودَعَوْا لهم القافةَ[17] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn17)، ثم ألحقوا ولدها بالذي يَرَوْنَ، فالتاطَ[18] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn18) به، ودُعِي ابنَه، لا يمتنع من ذلك، فلما بُعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم، هدم نكاحَ الجاهلية كلَّه، إلا نكاح الناس اليوم))[19] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn19).

فإذا علمنا أن الإسلام هو الذي هدم الأنكحة الباطلة؛ التي كان الناس عليها، علمنا أن الأوعية الاجتماعية - القبائل والأنساب - كان كثير منها مبنيًا على أساس غير صحيح، يدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أُخْرِجْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ))[20] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn20)، وأن سلامة الأنساب وطهارتها لم تتضح ولم تكتمل إلا بالإسلام والالتزام به، وعلمنا يقينًا أن الافتخار بالأنساب إنما هو دعوى جاهلية محضة.

هذا هو الواقع الأليم الذي كان يعيشه الناس في الجاهلية، فاستنقذهم الإسلام منه؛ وأقام المجتمعات على النحو السليم؛ وبذا يمكن أن نتفهَّم قصد نَهَار بن تَوْسِعة[21] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn21)، حين قال:
أَبِي الإِسْلاَمُ لاَ أَبَ لِي سِوَاهُ إِذَا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَوْ تَمِيمِ[22]


فقد تيقن أن القبيلة: هي وعاء اجتماعي لتنظيم التواصل والتعارف بين الناس وحَسْبُ، وليس موضوعًا للافتخار؛ إذ لا فخر لأحد بأوضاع جاهلية قبيحة أبطلها الإسلام، وعادات مستشرية هذبها.
من خلال التعريفات السابقة لـ ((العصبية)) و((القبلية)) يمكن أن نعرِّف ((العصبية القبلية)) بأنها: ((تضامنُ قومٍ تَجْمَعُهم آصرة النسب أو الحلف، مع نصرة بعضهم بعضًا ضِدَّ من يناوئهم؛ ظالمين كانوا أم مظلومين)). وقد سأل واثلةُ ابن الأسقع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن العصبية؟ فقال: ((أَنْ تُعِينَ قَوْمَكَ عَلَى الظُّلْمِ))[23] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn23).

أنواع العصبيات:
للعصبية أنواع متعددة، وما سبق في تعريفها من أنها تعصُّب ذوي القربى والتحالف، وتضامن أبناء القبيلة؛ إنما هو أصل معناها في اللغة، وهو يعود إلى كلمة عَصَبَة، غير أن معناها قد تُوسِّع فيه بعدُ، فأُطلقت على أنواع أخرى من التعصُّبات؛ بحسب الغرض الذي نشأت لأجله، والسبب الذي اعتمدَتْ عليه، وإن من الصعوبة البالغة، حصر أنواعها، لكن يمكن أن نضرب أمثلة لها بعصبيات: ((الجنس، أو اللون، أو اللغة، أو المذهب، أو الوطن، أو الحزب، أو القوم، أو الجنسية... وهكذا))، ومنها - لا شك - عصبية النسب، أو العصبية القبلية التي هي مَدار بحثنا هذا.

ثالثًا: مظاهر العصبية القبلية في العصر الجاهلي:
لم يكن العرب في الجاهلية أمة واحدة، ولا شعبًا واحدًا، بل كانوا قبائل وعصائب متفرقة، تحكمها أعراف قبلية متنوعة، وقد كانت العصبية القبلية هي أساس النظام الاجتماعي الجاهلي، الذي شعاره: ((انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا))[24] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn24)، الداعي إلى نصرة المنتسب إلى القبيلة دون اعتبارٍ لكونه مُحِقًّا أو غير محق، وبخاصة " أن مجتمع القبيلة في العصر الجاهلي - بعلاقاته وعاداته وأعرافه - مجتمع يولد فيه العربي، ثم ينشأ متشرِّبًا عاداته وأعرافه التي تُبنى على دعامة أساسية هي النسب، وحينما يفتح الفرد عينيه على ما حوله يجد أن كل امرئ في قبيلته يتغنَّى بانتمائه إليها، ويعتدُّ بأَرُومَته[25] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn25)؛ بدءًا من والده وإخوته، وانتهاءً إلى رهطه وعشيرته، فـ((جنسيته)) هي جنسية القبيلة المنحدر منها، و((هُويَّته)) التي يحملها في حِلِّه وتَرحاله اسمُ قبيلته، ذلك الاسم الذي يميزه عن أفراد القبائل الأخرى، ويعصمه عن أن يتيه بينهم"[26] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn26).

وبما أنّ العصبية القبلية كانت أساسًا للنظام الاجتماعي في العصر الجاهلي، فقد تأصَّلت في نفوس العرب بعامة، والأعراب منهم بخاصة؛ لعيشهم في الصحارى والقِفَار. وتجلّت في كثير من نواحي حياتهم، وقد كان من أهم مظاهرها:

1- الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب:
"كان التفاخر والتعاظم بين أهل الجاهلية سمة اجتماعية سائدة؛ إذ كانت المفاخرة بمآثر الآباء والأجداد، وبالسيادة والريادة، أمرًا شائعًا، حتى إنهم ينطلقون أحيانًا إلى المقابر، فكانوا يشيرون إلى القبر بعد القبر، ويقولون: فيكم مثل فلان، ومثل فلان؟!"[27] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn27)

"ومن أهم مظاهر التزام الفرد بالقبيلة: حرصه الشديد على النسب، والاعتزاز به، فقد كان أقوى صلة تربطه بقومه، وتشدّ أواصر العصبية معهم، فلا غرابة بعد ذلك أن يطمح إلى أن يجعل نسبه في الذروة من الشرف والرفعة، وأن يجعل الأجداد والآباء - الذين ينتمي إليهم - في مقام السادة العظماء. نجد صدى ذلك في قول معاوية بن مالك[28] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn28):
إِنِّي امْرُؤٌ مِنْ عُصْبَةٍ مَشْهُورَةٍ حَشَدٍ لَهُمْ مَجْدٌ أَشَمُّ تَلِيدُ
أَلْفَوْا أَبَاهُمْ سَيِّدًا وَأَعَانَهُمْ كَرَمٌ وَأَعْمَامٌ لَهُمْ وَجُدُودُ
إِذْ كُلُّ حَيٍّ نَابِتٌ بِأَرُومَةٍ نَبْتَ العِضَاهِ فَمَاجِدٌ وَكَسِيدُ[29]


فالشاعر يؤكِّد انتماءه إلى قومه، الذين يشكلون عُصْبة قوية ملتحمة الأطراف، تشمخ متطاولة بأمجادها نحو السماء، قد رعاها الآباء، والأعمام، والجدود، حتى جعلوها كشجرة وارفة الظلال تنضح عبيرًا فوّاحًا من المجد والسيادة.

وعلى هذه الشاكلة يَنْزِع سلامةُ بن جندل السَّعدي[30] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn30) إلى الفخر بانتسابه إلى قومه، الذين يجمعون إلى شرف المحتد[31] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn31)، شجاعةً في القتال، ورأيًا صائبًا في حل قضايا القبيلة، وإحلال الوفاق والوئام بين أفرادها؛ فيقول:
إِنِّي امْرُؤٌ مِنْ عُصْبَةٍ سَعْدِيَّةٍ ذَرْبَى الأَْسِنَّةِ[32] كُلَّ يَوْمِ تَلاَقِي
لاَ يَنْظُرُونَ إِذَا الكَتِيبَةُ أَحْجَمَتْ نَظَرَ الْجِمَالِ كُرِبْنَ بِالأَْوْسَاقِ[33]
يَكْفُونَ غَائِبَهُمْ وَيُقْضَى أَمَُْرُهُمْ فِي غَيْرِ نَقْصٍ مِنْهُمُ وَشِقَاقِ
وَالْخَيْلُ تَعْلَمُ مَنْ يَبُلُّ نُحُورَهَا بِدَمٍ كَمَاءِ الْعَنْدَمِ[34] المُهْرَاقِ[35]

إن اعتزاز الإنسان العربي بنسبه جعله يغلو فيه أحيانًا، فلا يرى نسبًا يضاهي نسب قبيلته نُبْلاً وشرفًا، ولا يرضى أن يتطاول أحد من القبائل الأخرى فيدعي لنفسه نسبًا أشرف من نسبه، أو حَسَبًا أشرف أرومة منه، وما الرواية الآتية إلا صورة واضحة لذلك الغلو.

فقد ورد أن بدر بن مَعْشَر - من بني مُدرِكة - وقف في الجاهلية بسوق عكاظ يفخر بنسبه، ويقول:
نَحْنُ بَنُو مُدْرِكَةَ بنِ خِنْدِفِ مَنْ يَطْعَنُوا فِي عَيْنِهِ لم يَطْرِفِ[36]
وَمَنْ يَكُونُوا قَوْمَهُ يُغَطْرِفِ[37] كَأَنَّهُ لُجَّةُ بَحْرٍ مُسْدِفِ[38]

ثم مد رجله، وقال: أنا أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني فليضربها. فلم يطق الأحمر بن مازن الهوازني عنجهيته، وادعاءه رفع نسب قبيلته فوق أنساب القبائل الأخرى، فاستلّ سيفه وضرب رِجْلَه فأَنْدَرها[39] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn39) من الركبة، غير مبالٍ بحرمة الشهر الحرام، وقد كاد الشر أن يستفحل بين قبيلتي الرجلين، لولا أنهم جنحوا إلى الصلح فيما بينهم[40] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn40).

تلك - لا شك - صورة للغلو الشديد في التعصب القبلي، وهي - إنصافًا - الصورة السائدة في العصر الجاهلي. وكانت تلك الحادثة دافعًا حدا بالأحمر الهوازني إلى المزيد من الفخر بنفسه وقبيلته حين صورها في قوله[41] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn41):
إِنِّي وَسَيْفِي حَلِيفَا كُلِّ دَاهِيَةٍ مِنَ الدَّوَاهِي الَّتِي بِالْعَمْدِ أَجْنِيهَا
إِنِّي نَقَمْتُ عَلَيْهِ الْفَخْرَ حِينَ دَعَا جَهْرًا وَأَبْرَزَ عَنْ رِجْلٍ يُعَرِّيهَا
ضَرَبْتُهَا آنِفًا إِذْ مَدَّهَا بَطَرًا وَقُلْتُ: دُونَكَهَا، خُذْهَا بِمَا فِيهَا
لَمَّا رَأَى رِجْلَهُ بَانَتْ بِرُكْبَتِهَا أَوْمَا إِلَى رِجْلِهِ الأُْخْرَى يُفَدِّيهَا[42]

2- الطَّبَقِيَّة:
لقد كان أهل الجاهلية يعاملون الناس حسب منازلهم ودرجاتهم، ويُعمِلون مبدأ عدم التكافؤ بين الناس؛ فقد كان هناك سادة القوم وأشرافهم؛ من أمراء العرب، ورجال الدين، والتجار، ورؤساء العشائر، والشعراء، وغيرهم، وكان هناك من ينتمون إلى الطبقات الدنيا؛ كالفقراء، والصعاليك، والمحتاجين، وأبناء السبيل، وأصحاب الحِرف اليدوية، بالإضافة إلى العبيد وغيرهم، وكانت هناك طبقات وبيوت ترى لنفسها فضلاً على غيرها، وامتيازًا، فتترفع على الناس، ولا تشاركهم في عادات كثيرة، حتى في بعض مناسك الحج.
ولقد أشار القرآن الكريم في كثير من آياته إلى أولئك الذين اختصوا أنفسهم بامتيازات، وترفعوا على الناس، بل على دعوات الرسل - عليهم السلام - وفي السيرة النبوية الكثير من المواقف، والأحداث البارزة، الشاهدة على هذا الواقع الطبقي الجاهلي[43] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn43).

3- الأخذ بالثأر:
لا شك أن معاقبة الجاني والثأر منه أمر جائز، فقتل القاتل مثلاً شيء لا ينكره شرع ولا عقل ولا عرف، إنما المذموم هو قتل غير القاتل بحجة أنه من آل فلان، أو ترك القاتل لأنه ليس كُفْئًا للمقتول، ثم السعي في قتل من هو كفء للمقتول وإن كان بريئًا، وهو ما كان سائدًا في العصر الجاهلي. فقد كان من خُلُق القوم في الجاهلية: الحرص على الأخذ بالثأر على أي حال، واستثارة الهمم للقتال، ليتمثل بذلك اعتزاز العربي بعصبيته، وصون كرامته، والحفاظ على هذه الكرامة إنما هو حفاظ على حيَاته نفسها، وكيانه في مجتمع ينهار فيه كل شيء إذا لم يَذُد فيه عن حياضه، ويركب للشر كل مركب[44] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn44)، ويهون على العربي أمر الحياة، ويستهين بالموت من أجل ثأره، فإذا وجب الثأر دفاعًا عن الحرمات وحفظًا للكرامة، فإن المَنِيّة عند العربي خير من إعطاء الدَّنِيّة. فالأخذ بالثأر إذًا هو معنًى من المعاني التي تعبر عن روح العصبية، وهذا الخلق - على ما فيه من شر - يتصل بكرامة العربي التي تدفعه إلى أن يقتص بنفسه من المعتدين، بيد أنه تنقصه الشريعة التي يدين بها الجميع، ويمتثلون لنصوصها، ويخضعون لوجوه تطبيقها. إلى جانب هذا كان معنى الثأر أيضًا يستتبع ضروبًا من الشجاعة، والرجولة، والاستبسال، جعلت حصونهم ظهور خيلهم، ومِهادهم الأرض، وسقوفهم السماء، وجُنَّتهم السيوف، وعُدَّتهم الصبر.

وتتشعب معاني الأخذ بالثأر، وما يتصل به من فكرة دفع الديات، وما يرتبط به أيضًا من قيم وعادات خاصة برفضها أو بقبولها والرضا بها؛ حسمًا للقتال وإقرارًا للسلام، ثم علاقة ذلك كله بمفهموم الكرامة عند العربي، ومعنى الشرف في معجم أخلاقه[45] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn45).

4- الحروب:
إن ((النُّعَرَة)) - وهي الصياح، ومناداة القوم بشعارهم؛ من أجل الاستغاثة بهم، وحثهم على الحرب - هي مظهر أساس من مظاهر العصبية، وحين ينادي أحد قومه؛ فلا بد من إجابته، دون النظر إلى طبيعة موقفه، أو فعله، هل هو ظالم أو مظلوم[46] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn46)، ومن ذلك قول قُرَيْط بن أُنَيْف أحد بني العَنْبَر:
قَوْمٌ إِذَا الشَّرُّ أَبْدى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ طَارُوا إِلَيْه زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانا
لاَ يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ فِي النَّائِبَاتِ عَلَى ما قَالَ بُرْهَانَا[47]

ويمضي العربي بهذه الروح الجَسُور إلى القتال، لا يتردَّد ولا تخور قواه، ولا تصده هيبة الموت عن الإقدام؛ فقد عقد العزم على الحرب، فلا رجعة عنها؛ وهذا أحدهم يقول: ((حتى إذا جاشت نارها، وسُعِّرت لظاها، وكَشَفَت عن ساقها، جعلتُ مَقَادَها رمحي، وبرقها سيفي، ورعدها زئيري، ولم أقصر عن خوض خُضَاخِضها[48] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn48)، حتى أنغمسَ في غمرات لُجَجها، وأكون فُلْكًا[49] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn49) لفرساني إلى بُحْبوحة كَبْشها[50] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn50)، فأستمطرها دمًا، وأترك حماتها جَزَرَ السباعِ[51] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn51) وكُلِّ نَسْرٍ قَشْعَم[52] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn52)))[53] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn53).

ومع ذلك: فإن حياة الجاهليين لم تكن ثأرًا ودماء وحسب، ولم تَحُلْ روحُ العصبية بينهم وبين التمسك ببعض القيم والفضائل التي أقرها الإسلام، وقد صوَّرتها لنا بعض أشعارهم، كما عبر عنها ما نُسِب إليهم من خطابة، بل إن قيم العصبية نفسها لم تكن كلها مما يرفضه الدين، وتنبذه طبيعة الحياة المتحضرة، فإذا كانت هذه العصبية قد دفعت العربي إلى الثأر، والدماء، والاعتداد بالقوة، والرغبة في البطش والعدوان، فقد دفعته في الجانب الآخر إلى ضروب من الشجاعة، والاستبسال، والحفاظ على الكرامة، والاعتزاز بالشرف[54] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn54).

5- مظاهر أخرى:
ما ذكرته آنفًا هو أبرز مظاهر العصبية القبلية في العصر الجاهلي وهناك مظاهر أخرى تتمثل فيما يلي:
أ - التحاكم إلى أهواء مشايخ العشائر والطواغيت والكهان ونحوهم وترك التحاكم إلى طريقة الرسل عليهم الصلاة والسلام.
ب - التنقُّص من قَدْر القبيلة التي لا تسعى إلى الشر، وتكره الظلم كما في تتمة أبيات قُريط بن أنيف[55] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn55) وهي قوله:
لكنَّ قَوْمِي وإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيْءٍ وإِنْ هَانَا
يَجْزُونَ مِنْ ظُلْمِ أَهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً ومِنْ إِسَاءَةِ أَهْلِ السُّوءِ إِحْسَانَا[56]

فقد مدح الشاعر في البيتين الأولين القوم الذين يسرعون جماعات وأفرادًا في نصرة أخيهم عند النائبات والملمات دون أن يطلبوا منه على استغاثته دليلاً وبرهانًا، ثم استدرك واستثنى قومه - على سبيل التنقص لهم - لأنهم لا يفعلون ذلك على الرغم من كثرة عددهم، بل يقابلون الظلم بالصفح والإساءة بالإحسان، فالبيتان ظاهرهما المدح وباطنهما الذم لأنهما استدراك بعد مدح كما ذُكر آنفًا.

ومنه قول الشاعر:
قُبَيِّلَةٌ لا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ وَلاَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ[57]


وهذا البيت جاء في غرض الهجاء لهذه القبيلة وهو أيضًا ((ذم بما يشبه المدح)) فقوله ((قُبيِّلة)) من تصغير التحقير، والمراد أنها ضعيفة جدًا وفاقدة للقدرة على الغدر أو الظلم.
جـ - التفرق الحسي والمعنوي وعِمِّيَّة الراية وترك الإمارة ورد الصاع صاعين ومنه:
أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا[58]


د - التقليد في الباطل واتباع طريقة الآباء دون تمييز كما وصفهم الله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزّخرُف: 23].

حكم الإسلام في العصبية الجاهلية
لقد بات من المسلّم به أن الشريعة الإسلامية لم تأت لتهدم كل ما كان عليه الناس قبلها، لتؤسس على أنقاضه بناءً جديدًا لاصلة له بفطرة البشر وما تقتضيه سنن الاجتماع، وإنما جاءت لتُحِقّ الحق وتبطل الباطل، ومما لا شك فيه أيضًا أن عادات العرب وتقاليدهم وأخلاقهم ومعاملاتهم في العصر الجاهلي - بمختلف جوانب الحياة - لم تكن سيئة كلها، بل منها ماكان ممدوحًا فأقره الإسلام ونبي الإسلام؛ انطلاقًا من قوله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُِتَمِّمَ صَالِحَ الأَْخْلاَقِ))[59] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn59)، ومنها ما كان مذمومًا فأبطله الإسلام، أو صحّح فهمه، وطريق إعماله، فأصبح بعدها أمرًا محمودًا.

وبما أن العصبية الجاهلية كانت بمثابة الأساس للأعراف القبلية السائدة آنذاك، وكانت في الوقت نفسه من أسباب الفرقة، والتقاتل بين الناس؛ لذا فقد ركز الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، "وحاربها بكل قوة، ودون هوادة، وحذر منها، وسد منافذها؛ لأنه لا بقاء للدين العالمي، ولا بقاء للأمة الواحدة مع هذه العصبيات، ومصادر الشريعة الإسلامية زاخرة بإنكارها، وتشنيعها، وما أكثر النصوص في ذلك"[60] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn60).

ويمكن تلخيص حكم الإسلام في العصبية الجاهلية في الأمور الآتية:
1- إلغاء العصبية الجاهلية، والتحذير منها؛ ويتجلى ذلك في كثير من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ)) [61] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn61)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ومَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ[62] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn62)؛ يَغْضبُ لعَصَبَةٍ، أو يَدْعُو إلَى عَصَبَةٍ، أو يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ؛ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ))[63] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn63).

2- تقرير المساواة بين الناس، وعدم الاعتراف بالامتيازات الطبقية، أو النفوذ الموروث؛ فأساس التفاضل: التقوى والعمل الصالح؛ قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...} الآية [الحُجرَات: 13]، وعن أبي نَضْرة قال: حدثني من سمع خُطْبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق؛ فقال: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلا لأحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلاّ بِالتَّقْوَى)) [64] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn64)، وعن عائشةَ رضي الله عنها أن قريشًا أهمَّهم شأنُ المرأة المخزومية التي سرقَتْ، فقالوا: من يكلّم فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامةُ، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلّمه أسامةُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟))، ثم قام فاختطب، فقال: ((أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)) [65] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn65).

3- إلغاء كل مظاهر العبودية لغير الله؛ من نحو تقديس الأعراف القبلية، والانسياق معها باطلاً دون تبصُّر، إلا لمجرد الهوى واجتماع الناس عليها، ومِنْ ثَمَّ إثبات العبودية لله وحده؛ قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *} [الذّاريَات: 56].

4- النهي عن الطعن في الأنساب، وعن التفاخر؛ والتعاظم بالآباء، والأجداد، والمآثر، والأمجاد؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى َلا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، ولا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ))[66] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn66).

ومن أعظم صور التواضع في الإسلام: أن جبريل عليه السلام جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى السماء، فإذا مَلَك ينزل، فقال جبريل عليه السلام: إن هذا الملك ما نزل منذ يومِ خُلِقَ قبل الساعةِ، فلما نزل قال: يا محمد، أرسلَني إليك ربُّك: أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يجعلك، أو عبدًا رسولاً؟ قال جبريل عليه السلام: تواضعْ لربك يا محمّد، قال: ((بَلْ عَبْدًا رَسُولاً)) [67] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftn67).
ـــــــــــــــــــــــ
[1] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref1) انظر: مادة (ع ص ب) في "تهذيب اللغة" للأزهري (45-51)، و"الصحاح" للجوهري (1/182-183)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/2964-2966)، و"القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص 148)، و"موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم" للتهانوي (946).
[2] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref2) جزء من حديث أخرجه مسلم (1763)، من حديث عمر رضي الله عنه.
[3] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref3) "تهذيب اللغة" للأزهري (2453 ع ص ب).
[4] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref4) النُّعَرَةُ: بضم النون، وفتح العين؛ كـ«هُمَزَة»، والعامَّة تقول: النَّعْرَة على وزن التَّمْرَة. انظر: "تاج العروس" للزبيدي (7/543 ن ع ر).
[5] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref5) "مقدمة ابن خلدون" (ص235).
[6] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref6) "فكر ابن خلدون، العصبية والدولة" لمحمد عابد الجابري (ص168).
[7] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref7) "خُلُق ودين (دراسات اجتماعية أخلاقية)" لإبراهيم سلامة (ص81).
[8] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref8) "فلسفة التاريخ عند ابن خلدون" لزينب الخضيري (ص179- 182).
[9] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref9) "لسان العرب" لابن منظور (5/3519 ق ب ل).
[10] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref10) المرجع السابق (4/ 2863 ع ر ب)، وانظر: «البداية والنهاية» لابن كثير (1/121).
[11] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref11) انظر: "تهذيب الكمال" للحافظ المِزِّيّ (5/495).
[12] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref12) أخرجه البخاري (2227)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[13] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref13) انظر ما سيأتي (ص89-90).
[14] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref14) رواه الشافعي في "المسند" (ص456)، وابن حبان (4950)، والبيهقي (10/293)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[15] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref15) متفق عليه، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أخرجه البخاري (92)، ومسلم (2360).
[16] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref16) أخرجه مسلم (2359)، من حديث أنس رضي الله عنه.
[17] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref17) القافة: جمع قائف، وهو الذي ينظر إلى شبه الولد بأبيه. انظر: "لسان العرب" (5/3776 ق و ف).
[18] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref18) التاط: التاط ولدًا، واستلاطه: استلحقه، أي: بنسبه. انظر: "لسان العرب" (5/4098 ل و ط).
[19] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref19) أخرجه البخاري (5127). وانظر في شرح الحديث: «فتح الباري» للحافظ ابن حجر (9/184-186).
[20] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref20) أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (13273)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (32173) من حديث جعفر الصادق عن أبيه رفعه.
[21] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref21) شاعر فارس، من بكر بن وائل، عاش في العصر الأموي، في عهد هشام بن عبدالملك، من سكان خراسان، له ترجمة في "تاريخ دمشق" لابن عساكر (62/314).
[22] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref22) انظر: "الكتاب" لسيبويه (2/282).
[23] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref23) أخرجه أبو داود (5119)، والطبراني في "الكبير" (236).
[24] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref24) وقد قيل: إن أول من قال: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» هو جُنْدُب بن العنبر، وقد عنى بها ظاهرها، وهو: ما اعتيد من حمية الجاهلية. كما في: "فيض القدير" للمناوي (3/59). لكنَّ الإسلام هذَّب هذا المبدأ الجاهلي فيما بعد؛ ففي "صحيح البخاري" (2444) من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»، قالوا: يا رسول الله، هذا نَنْصُرُهُ مظلومًا، فكيف نَنْصُرُهُ ظالمًا؟ قال: «تأخُذُ فوقَ يَدَيْهِ».
[25] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref25) الأَرُومة: أصل كل شجرة، وأصلُ الحَسَب: أَرومة، وكذلك أصلُ كل شيء ومجتمَعُه. انظر: "معجم المقاييس" لابن فارس (1/49-50 أرم).
[26] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref26) "الخفجي" مجلة شهرية، العدد 12، ذو القعدة 1413هـ - يونيو 1993م، الشاعر والقبيلة، د. عبدالغني زيتوني (ص20).
[27] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref27) "الإسلام والعروبة" لمجدي رياض (ص98).
[28] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref28) هو: ابن مالك بن جعفر بن كلاب، شاعر جاهلي، لقبه: معوِّد الحكماء. انظر: "نزهة الألباب في الألقاب" لابن حجر (2/187).
[29] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref29) "المفضليات" للمفضل الضبِّي (ص355).
[30] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref30) شاعر جاهلي من بني تميم، من الفرسان، ومن وُصَّاف الخيل. انظر: "الأعلام" للزركلي (3/106).
[31] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref31) المَحْتِد: الأصل. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزآبادي، (ص352 ح ت د).
[32] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref32) ذَرِب الشيءُ ذَرْبًا، أي: صار حديدًا ماضيًا. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (ص79 ذرب).
[33] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref33) الأوساق: جمع وَسْقٍ، وهو ستون صاعًا، وقال الخليل بن أحمد: الوَسْق: حِمْل البعير، والوِقْر: حمل البغل والحمار. انظر: "مختار الصحاح" للرَّازي (ص619- و س ق). فالأوساق: الأحمال الثقيلة، والمقصود هنا: تجشُّم قومِه تحمّلَ مشاقِّ الحرب وويلاتِها دون سائر الأقوام.
[34] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref34) العندم: شجر أحمر، «دم الأخوين» انظر: "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص1473/عندم)
[35] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref35) "ديوان سلامة بن جندل" صنعة: محمد بن الحسن الأحول، (ص151- 152).
[36] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref36) لم يطرف: أي مات، وهو كقولهم: «ما بَقِيَتْ منهم عين تَطْرِف». انظر: "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص1075 ط رف)
[37] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref37) يُغطرف: يمشي مختالاً فخورًا. انظر: القاموس المحيط (ص 1088 غ ط ر ف).
[38] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref38) مسدف: مظلم. انظر: القاموس المحيط (ص 1058 س د ف)
[39] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref39) فأَنْدَرَها: ندر الشيءُ، سقط وشذّ. والمقصود: فقطعها برُكْبتها. انظر: "مختار الصحاح" للرَّازي (561 ن د ر).
[40] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref40) "العقد الفريد" لابن عبد ربه، (6/87 - 88).
[41] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref41) "المؤتلف والمختلف" للآمدي، (ص42).
[42] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref42) انظر: "مجلة الخفجي" الشاعر والقبيلة، (ص20 - 21).
[43] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref43) انظر: "الإسلام والعروبة" لمجدي رياض (ص96 - 97).
[44] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref44) "القيم الخُلُقية في الخطابة العربية" لسعيد حسين منصور (ص24).
[45] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref45) انظر: "القيم الخلقية في الخطابة العربية" لسعيد حسين منصور (ص24 - 26).
[46] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref46) انظر: "الإسلام والعروبة" لمجدي رياض، (ص94).
[47] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref47) البيتان في "خزانة الأدب" للبغدادي (7/413-414)، و"العقد الفريد" لابن عبد ربه (1/296).
[48] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref48) خُضَاخِضها، بالضم: الكثير الماء والشجر من الأمكنة. "القاموس المحيط" (ص827 خ ض ض).
[49] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref49) فُلْكًا: سفينة. "القاموس المحيط" (ص1228 ف ل ك).
[50] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref50) كبشها: كبش القوم: سيدهم، وقائدهم. "القاموس المحيط" (ص778 ك ب ش).
[51] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref51) جَزَر السباع: قِطَعًا لها. "القاموس المحيط" (ص465 ج ز ر).
[52] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref52) القشعم من النسور: المُسِنّ، الضخم. "القاموس المحيط" (ص1484 ق ش ع م).
[53] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref53) "جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب" للسيد أحمد الهاشمي (1/231).
[54] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref54) انظر: "القيم الخُلُقُية في الخطابة العربية"، لسعيد حسين منصور، (ص25، 33).
[55] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref55) انظر: (ص39).
[56] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref56) البيتان في "خزانة الأدب" للبغدادي (7/413-414)، و"العقد الفريد" لابن عبد ربه (1/296).
[57] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref57) انظر: "جمهرة الأمثال" للعسكري (1/81).
[58] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref58) البيت لعمرو بن كلثوم بن مالك، من بني تغلب (39 ق.هـ). انظر: "خزانة الأدب" لابن حجَّة الحموي (1/64، 423، 252).
[59] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref59) أخرجه أحمد (8939)، والبخاري في "الأدب المفرد" (273)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (45).
[60] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref60) "رِدَّة ولا أبا بكر لها" لأبي الحسن الندوي (ص12).
[61] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref61) أخرجه أبو داود (5121)، من حديث جبير بن مُطعِم رضي الله عنه.
[62] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref62) عِمِّيَّة، أي: في الأمر الأعمى للعصبية، فلا يستبين المقاتلُ ما وجه الأمرِ الذي عليه يقاتِل. انظر: "لسان العرب" (4/3115 ع م ي).
[63] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref63) جزء من حديث أخرجه مسلم (1848)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[64] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref64) سبق تخريجه (ص7)، هامش (1).
[65] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref65) متفق عليه، من حديث عائشة رضي الله عنها: أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688).
[66] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref66) أخرجه مسلم (2865)، من حديث عِيَاض بن حِمَارٍ المجاشعي رضي الله عنه.
[67] (http://www.asabia.com/Articles/ArticleDetails.aspx?CategoryID=2&ArticleID=48#_ftnref67) أخرجه أحمد (7160)، والبزار في "كشف الأستار" (2462)، وأبو يعلى في "مسنده" (6105)، وابن حبان (2137)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

**د لا ل**
2012-02-11, 16:08
يمكن الحديث عن "النثر الجاهلي" إلاّ بطريقة استرجاعية تخترق حاجزين أساسيين يفصلان "العصر الجاهلي" عن العصور اللاحقة في تاريخ الثقافة العربية-الإسلامية،
أولهما: القرآن والممارسة النبوية، ومن ثمّ الصورة التي ركبّت لذلك العصر من خلالهما.
والثاني: التدوين المتأخر عن تلك الحقبة الذي استدعى "بعض المظاهر الثقافية" لذلك العصر، وتحديداً المظاهر التي تمكنت من اختراق الحاجز الأول، لأنها تطابقت في رؤيتها معه.
ومهما حفرت الدراسات المتخصصة في العصر الجاهلي عامة، وفي آدابه خاصة، سعياً وراء العثور على "حقيقة موضوعية" لذلك العصر، فإنها ستواجه بالحاجزين اللذين أشرنا إليهما. ذلك إن "الشؤون الجاهلية" في معظمها، أعيد تشكيلها في ضوء معايير الرؤية الدينية، وإكراهات عصر التدوين بملابساته الثقافية والسياسية والاجتماعية وبمنظوره المغاير لما كانت عليه الطبيعة الثقافية للحقبة الجاهلية. وإذا خُصص الحديث في "النثر الجاهلي" فالأمر يزداد التباساً وغموضاً بسبب التدخل اللانهائي بين النص القرآني بوصفه نثراً وضروب النثر الأخرى التى عُرفت آنذاك من جهة، وبين الرسول بوصفه نبيّاً ومحدّثاً وخطيباً وطائفة كبرى من المتنبئين والمحدّثين والخطباء. ويزداد ذلك التداخل إذا أخذنا في الاعتبار شيوع الروح الديني والتنبؤي والأدب النثري كما يدل عليه القرآن والحديث والشذرات المتناثرة التي وصلت إلينا من النثر المنسوب إلى تلك الحقبة. يضاف إلى كل ذلك، إستراتيجية الإقصاء والاستحواذ المزدوجة التي مارسها الخطاب الديني تجاه مظاهر التعبير النثري المعاصرة له، أو تلك التي سبقته. ففي عصر شفاهي مثل العصر الجاهلي تزداد احتمالات التداخل بين الخطابات الشفاهية، وتذوب في بعضها، ويعاد أحياناً إنتاجها في صور مختلفة في ضوء مقتضيات الرواية الشفهية وحاجات التلقي وأيدلوجيا العصر الذي تظهر فيه المرويات أو تعاد فيه روايتها، وإجمالاً فان الثقافات الشفاهية لم توفر ظروفاً تساعد على حماية نصوصها الأدبية، وهي في واقع الحال لا تستطيع ذلك لأن تلك النصوص رهينة التداول الشفاهي الذي يتعرّض لإكراهات وانزياحات واقصاءات كثيرة. وغالباً ماتدمج الشذرات والنبذ المتبقية من نصوص متماثلة في الموضوع والأسلوب فتظهر من تلك الأمشاج نصوص جديدة تسهل نسبتها إلى هذا أو ذاك، وتخضع لروح العصر الذي تعرف فيه، ويظهر الراوي بوصفه وسيطاً بين جملة من النصوص ومتلقيها، وعموماً فالنصوص القديمة، بما فيها الدينّية تمنح الوسيط(= الراوي) مكانة مهمة، فهو يوصل بين قطبين: مصدر النص وغالباً ما يكون مجهولاً، وفي النصوص الدينية إلهياً، ومتلقيه. وهذا الملتقي يكون جمهوراً قبلياً أو طائفة دينية أو نخبة في مجلس أو فرداًَ مخصوصاً. وقوة التواصل بين الوسيط والمتلقي هي التي تٌكتسب - في الثقافات الشفاهية - المرويات الشفوية دلالاتها وأهميتها ووظائفها. وعلى أية حال فالصورة التى ركبّها القرآن والرسول للعصر الجاهلي تقتضي وقفة نستكشف من خلالها المنظور القرآني للأدب والنثر السردي بخاصة، وطبيعة الممارسات التى عزّز بها الرسول ماهية ذلك المنظور الديني.
(http://www.maraya.net/Memo/Sirat/intro_21/intro21_2.html)

**د لا ل**
2012-02-11, 16:12
المعلقاات الشعرية

تحتل المعلقات المقام الاول بين قصائد الجاهلية .
هي قصائد طوال من اجود ما وصل الينا من الشعر الجاهلي . وقد زعم ابن عبد ربه وابن رشيق وابن خلدون انها سبع قصائد ، فكتبت‏بماء الذهب وعلقت على استار الكعبة ، سميت‏ب: المعلقات تارة والمذهبات تارة اخرى ، وسميت‏بالسبع الطوال ثالثة وايضا بالسموط .
وقد ذهب الرواة الى ان اول قصيدة نالت اعجاب المحكمين في سوق عكاظ هي معلقة امرئ القيس .
اهم شعراء المعلقات:

ونحدث عن:
1- امرؤ القيس الكندي: لقب بالملك الضليل ، لقب ذكر في نهج البلاغة ، توفي سنة 540م .
2- طرفة بن العبد البكري: كان اقصرهم عمرا ، اشتهر بالغزل والهجاء ، توفي سنة 569م .
3- الحارث بن حلزة اليشكري: اشتهر بالفخر ، واطول الشعراء عمرا ، توفي سنة 580م .
4- عمرو بن كلثوم: كان مشهورا بالفخر ، امه ليلى بنت المهلهل ، توفي سنة 600م .
5- علقمة الفحل: كان شاعرا بدويا ، توفي سنة 603م .
6- النابغة الذبياني: زعيم الشعراء في سوق عكاظ ، توفي سنة 604م . 7- عنترة بن شداد العبسي: اشتهر بانه احد فرسان العرب ، واكثر شعره بالغزل والحماسة ، توفي سنة 615م .
8- زهير بن ابي سلمى: كان اعفهم قولا ، واكثرهم حكمة ، ابنه كعب بن زهير من شعراء صدر الاسلام ، توفي زهير سنة 627م .
9- الاعشى الاكبر (اعشى القيس)، اراد ان يلتحق بالاسلام فخدعه قومه حيث قالوا له: نعطيك مائة ناقة لكي تؤجل اسلامك الى السنة القادمة ، فوافق ، وبعد ستة اشهر توفي اي مات كافرا وذلك سنة 629م .
10- لبيد بن ربيعة العامري: الوحيد الذي اسلم ، وقال الشعر في العهد الجاهلي والاسلامي .

**د لا ل**
2012-02-11, 16:15
بحث عن المعلّقات
التعريف المختصر الكامل للمعلقات من كافة الجوانب
كان فيما اُثر من أشعار العرب ، ونقل إلينا من تراثهم الأدبي الحافل بضع قصائد من مطوّلات الشعر العربي ، وكانت من أدقّه معنى ، وأبعده خيالاً ، وأبرعه وزناً ، وأصدقه تصويراً للحياة ، التي كان يعيشها العرب في عصرهم قبل الإسلام ، ولهذا كلّه ولغيره عدّها النقّاد والرواة قديماً قمّة الشعر العربي وقد سمّيت بالمطوّلات ، وأمّا تسميتها المشهورة فهي المعلّقات (http://www.cars2arab.com/vb/forumdisplay.php?f=80). نتناول نبذةً عنها وعن أصحابها وبعض الأوجه الفنّية فيها :
فالمعلّقات لغةً من العِلْق : وهو المال الذي يكرم عليك ، تضنّ به ، تقول : هذا عِلْقُ مضنَّة . وما عليه علقةٌ إذا لم يكن عليه ثياب فيها خير1 ، والعِلْقُ هو النفيس من كلّ شيء ، وفي حديث حذيفة : «فما بال هؤلاء الّذين يسرقون أعلاقنا» أي نفائس أموالنا2 . والعَلَق هو كلّ ما عُلِّق3 .
وأمّا المعنى الاصطلاحي فالمعلّقات : قصائد جاهليّة بلغ عددها السبع أو العشر ـ على قول ـ برزت فيها خصائص الشعر الجاهلي بوضوح ، حتّى عدّت أفضل ما بلغنا عن الجاهليّين من آثار أدبية4 .
والناظر إلى المعنيين اللغوي والاصطلاحي يجد العلاقة واضحة بينهما ، فهي قصائد نفيسة ذات قيمة كبيرة ، بلغت الذّروة في اللغة ، وفي الخيال والفكر ، وفي الموسيقى وفي نضج التجربة ، وأصالة التعبير ، ولم يصل الشعر العربي الى ما وصل إليه في عصر المعلّقات (http://www.cars2arab.com/vb/forumdisplay.php?f=80)من غزل امرئ القيس ، وحماس المهلهل ، وفخر ابن كلثوم ، إلاّ بعد أن مرّ بأدوار ومراحل إعداد وتكوين طويلة .
وفي سبب تسميتها بالمعلّقات هناك أقوال منها :
لأنّهم استحسنوها وكتبوها بماء الذهب وعلّقوها على الكعبة ، وهذا ما ذهب إليه ابن عبد ربّه في العقد الفريد ، وابن رشيق وابن خلدون وغيرهم ، يقول صاحب العقد الفريد : «وقد بلغ من كلف العرب به (أي الشعر) وتفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد تخيّرتها من الشعر القديم ، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة ، وعلّقتها بين أستار الكعبة ، فمنه يقال : مذهّبة امرئ القيس ، ومذهّبة زهير ، والمذهّبات سبع ، وقد يقال : المعلّقات (http://www.cars2arab.com/vb/forumdisplay.php?f=80)، قال بعض المحدّثين قصيدة له ويشبّهها ببعض هذه القصائد التي ذكرت :
برزةٌ تذكَرُ في الحسـ ـنِ من الشعر المعلّقْ
كلّ حرف نادر منـ ـها له وجهٌ معشّق5
أو لأنّ المراد منها المسمّطات والمقلّدات ، فإنّ من جاء بعدهم من الشعراء قلّدهم في طريقتهم ، وهو رأي الدكتور شوقي ضيف وبعض آخر6 . أو أن الملك إذا ما استحسنها أمر بتعليقها في خزانته .
هل علّقت على الكعبة؟
سؤال طالما دار حوله الجدل والبحث ، فبعض يثبت التعليق لهذه القصائد على ستار الكعبة ، ويدافع عنه ، بل ويسخّف أقوال معارضيه ، وبعض آخر ينكر الإثبات ، ويفنّد أدلّته ، فيما توقف آخرون فلم تقنعهم أدلّة الإثبات ولا أدلّة النفي ، ولم يعطوا رأياً في ذلك .
المثبتون للتعليق وأدلّتهم :
لقد وقف المثبتون موقفاً قويّاً ودافعوا بشكل أو بآخر عن موقفهم في صحّة التعليق ، فكتبُ التاريخ حفلت بنصوص عديدة تؤيّد صحّة التعليق ، ففي العقد الفريد7 ذهب ابن عبد ربّه ومثله ابن رشيق والسيوطي8وياقوت الحموي9وابن الكلبي10وابن خلدون11 ، وغيرهم إلى أنّ المعلّقات (http://www.cars2arab.com/vb/forumdisplay.php?f=80)سمّيت بذلك; لأنّها كتبت في القباطي بماء الذهب وعلّقت على أستار الكعبة ، وذكر ابن الكلبي : أنّ أوّل ما علّق هو شعر امرئ القيس على ركن من أركان الكعبة أيّام الموسم حتّى نظر إليه ثمّ اُحدر ، فعلّقت الشعراء ذلك بعده .
وأمّا الاُدباء المحدّثون فكان لهم دور في إثبات التعليق ، وعلى سبيل المثال نذكر منهم جرجي زيدان حيث يقول :
«وإنّما استأنف إنكار ذلك بعض المستشرقين من الإفرنج ، ووافقهم بعض كتّابنا رغبة في الجديد من كلّ شيء ، وأيّ غرابة في تعليقها وتعظيمها بعدما علمنا من تأثير الشعر في نفوس العرب؟! وأمّا الحجّة التي أراد النحّاس أن يضعّف بها القول فغير وجيهة; لأنّه قال : إنّ حمّاداً لمّا رأى زهد الناس في الشعر جمع هذه السبع وحضّهم عليها وقال لهم : هذه هي المشهورات»12 ، وبعد ذلك أيّد كلامه ومذهبه في صحّة التعليق بما ذكره ابن الأنباري إذ يقول : «وهو ـ أي حمّاد ـ الذي جمع السبع الطوال ، هكذا ذكره أبو جعفر النحاس ، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنّها كانت معلّقة على الكعبة»13 .
وقد استفاد جرجي زيدان من عبارة ابن الأنباري : «ما ذكره الناس» ، فهو أي ابن الأنباري يتعجّب من مخالفة النحاس لما ذكره الناس ، وهم الأكثرية من أنّها علقت في الكعبة .
النافون للتعليق :
ولعلّ أوّلهم والذي يعدُّ المؤسّس لهذا المذهب ـ كما ذكرنا ـ هو أبو جعفر النحّاس ، حيث ذكر أنّ حمّاداً الراوية هو الذي جمع السبع الطوال ، ولم يثبت من أنّها كانت معلّقة على الكعبة ، نقل ذلك عنه ابن الأنباري14 . فكانت هذه الفكرة أساساً لنفي التعليق :
كارل بروكلمان حيث ذكر أنّها من جمع حمّاد ، وقد سمّاها بالسموط والمعلّقات للدلالة على نفاسة ما اختاره ، ورفض القول : إنّها سمّيت بالمعلّقات لتعليقها على الكعبة ، لأن هذا التعليل إنّما نشأ من التفسير الظاهر للتسمية وليس سبباً لها ، وهو ما يذهب إليه نولدكه15.
وعلى هذا سار الدكتور شوقي ضيف مضيفاً إليه أنّه لا يوجد لدينا دليل مادّي على أنّ الجاهليين اتّخذوا الكتابة وسيلة لحفظ أشعارهم ، فالعربية كانت لغة مسموعة لا مكتوبة . ألا ترى شاعرهم حيث يقول :
فلأهدينّ مع الرياح قصيدة منّي مغلغلة إلى القعقاعِ
ترد المياه فما تزال غريبةً في القوم بين تمثّل وسماعِ؟16
ودليله الآخر على نفي التعليق هو أنّ القرآن الكريم ـ على قداسته ـ لم يجمع في مصحف واحد إلاّ بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) (طبعاً هذا على مذهبه) ، وكذلك الحديث الشريف . لم يدوّن إلاّ بعد مرور فترة طويلة من الزمان (لأسباب لا تخفى على من سبر كتب التأريخ وأهمّها نهي الخليفة الثاني عن تدوينه) ومن باب أولى ألاّ تكتب القصائد السبع ولا تعلّق17 .
وممّن ردّ الفكرة ـ فكرة التعليق ـ الشيخ مصطفى صادق الرافعي ، وذهب إلى أنّها من الأخبار الموضوعة التي خفي أصلها حتّى وثق بها المتأخّرون18 .
ومنهم الدكتور جواد علي ، فقد رفض فكرة التعليق لاُمور منها :
1 ـ أنّه حينما أمر النبي بتحطيم الأصنام والأوثان التي في الكعبة وطمس الصور ، لم يذكر وجود معلقة أو جزء معلّقة أو بيت شعر فيها .
2 ـ عدم وجود خبر يشير إلى تعليقها على الكعبة حينما أعادوا بناءَها من جديد .
3 ـ لم يشر أحد من أهل الأخبار الّذين ذكروا الحريق الذي أصاب مكّة ، والّذي أدّى إلى إعادة بنائها لم يشيروا إلى احتراق المعلّقات (http://www.cars2arab.com/vb/forumdisplay.php?f=80)في هذا الحريق .
4 ـ عدم وجود من ذكر المعلّقات (http://www.cars2arab.com/vb/forumdisplay.php?f=80)من حملة الشعر من الصحابة والتابعين ولا غيرهم .
ولهذا كلّه لم يستبعد الدكتور جواد علي أن تكون المعلّقات (http://www.cars2arab.com/vb/forumdisplay.php?f=80)من صنع حمّاد19 ، هذا عمدة ما ذكره المانعون للتعليق .
بعد استعراضنا لأدلة الفريقين ، اتّضح أنّ عمدة دليل النافين هو ما ذكره ابن النحاس حيث ادعى انّ حماداً هو الذي جمع السبع الطوال .
وجواب ذلك أن جمع حماد لها ليس دليلا على عدم وجودها سابقاً ، وإلاّ انسحب الكلام على الدواوين التي جمعها أبو عمرو بن العلاء والمفضّل وغيرهما ، ولا أحد يقول في دواوينهم ما قيل في المعلقات (http://www.cars2arab.com/vb/forumdisplay.php?f=80). ثم إنّ حماداً لم يكن السبّاق الى جمعها فقد عاش في العصر العباسي ، والتاريخ ينقل لنا عن عبد الملك أنَّه عُني بجمع هذه القصائد (المعلقات) وطرح شعراء أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة20 .
وأيضاً قول الفرزدق يدلنا على وجود صحف مكتوبة في الجاهلية :
أوصى عشية حين فارق رهطه عند الشهادة في الصحيفة دعفلُ
أنّ ابن ضبّة كان خيرٌ والداً وأتمّ في حسب الكرام وأفضلُ
كما عدّد الفرزدق في هذه القصيدة اسماء شعراء الجاهلية ، ويفهم من بعض الأبيات أنّه كانت بين يديه مجموعات شعرية لشعراء جاهليين أو نسخ من دواوينهم بدليل قوله :
والجعفري وكان بشرٌ قبله لي من قصائده الكتاب المجملُ
وبعد ابيات يقول :
دفعوا إليَّ كتابهنّ وصيّةً فورثتهنّ كأنّهنّ الجندلُ21
كما روي أن النابغة وغيره من الشعراء كانوا يكتبون قصائدهم ويرسلونها الى بلاد المناذرة معتذرين عاتبين ، وقد دفن النعمان تلك الأشعار في قصره الأبيض ، حتّى كان من أمر المختار بن أبي عبيد واخراجه لها بعد أن قيل له : إنّ تحت القصر كنزاً22 .
كما أن هناك شواهد أخرى تؤيّد أن التعليق على الكعبة وغيرها ـ كالخزائن والسقوف والجدران لأجل محدود أو غير محدود ـ كان أمراً مألوفاً عند العرب ، فالتاريخ ينقل لنا أنّ كتاباً كتبه أبو قيس بن عبدمناف بن زهرة في حلف خزاعة لعبد المطّلب ، وعلّق هذا الكتاب على الكعبة23 . كما أنّ ابن هشام يذكر أنّ قريشاً كتبت صحيفة عندما اجتمعت على بني هاشم وبني المطّلب وعلّقوها في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم24 .
ويؤيّد ذلك أيضاً ما رواه البغدادي في خزائنه25 من قول معاوية : قصيدة عمرو بن كلثوم وقصيدة الحارث بن حِلزه من مفاخر العرب كانتا معلّقتين بالكعبة دهراً26 .
هذا من جملة النقل ، كما أنّه ليس هناك مانع عقلي أو فنّي من أن العرب قد علّقوا أشعاراً هي أنفس ما لديهم ، وأسمى ما وصلت إليه لغتهم; وهي لغة الفصاحة والبلاغة والشعر والأدب ، ولم تصل العربية في زمان إلى مستوى كما وصلت إليه في عصرهم . ومن جهة اُخرى كان للشاعر المقام السامي عند العرب الجاهليين فهو الناطق الرسمي باسم القبيلة وهو لسانها والمقدّم فيها ، وبهم وبشعرهم تفتخر القبائل ، ووجود شاعر مفلّق في قبيلة يعدُّ مدعاة لعزّها وتميّزها بين القبائل ، ولا تعجب من حمّاد حينما يضمّ قصيدة الحارث بن حلزّة إلى مجموعته ، إذ إنّ حمّاداً كان مولى لقبيلة بكر بن وائل ، وقصيدة الحارث تشيد بمجد بكر سادة حمّاد27 ، وذلك لأنّ حمّاداً يعرف قيمة القصيدة وما يلازمها لرفعة من قيلت فيه بين القبائل .
فإذا كان للشعر تلك القيمة العالية ، وإذا كان للشاعر تلك المنزلة السامية في نفوس العرب ، فما المانع من أن تعلّق قصائد هي عصارة ما قيل في تلك الفترة الذهبية للشعر؟
ثمّ إنّه ذكرنا فيما تقدّم أنّ عدداً لا يستهان به من المؤرّخين والمحقّقين قد اتفقوا على التعليق .
فقبول فكرة التعليق قد يكون مقبولا ، وأنّ المعلّقات (http://www.cars2arab.com/vb/forumdisplay.php?f=80)لنفاستها قد علّقت على الكعبة بعدما قرئت على لجنة التحكيم السنوية ، التي تتّخذ من عكاظ محلاً لها ، فهناك يأتي الشعراء بما جادت به قريحتهم خلال سنة ، ويقرأونها أمام الملإ ولجنة التحكيم التي عدُّوا منها النابغة الذبياني ليعطوا رأيهم في القصيدة ، فإذا لاقت قبولهم واستحسانهم طارت في الآفاق ، وتناقلتها الألسن ، وعلّقت على جدران الكعبة أقدس مكان عند العرب ، وإن لم يستجيدوها خمل ذكرها ، وخفي بريقها ، حتّى ينساها الناس وكأنّها لم تكن شيئاً مذكوراً .
موضوع شعر المعلّقات
لو رجعنا إلى القصائد الجاهلية الطوال والمعلّقات منها على الأخصّ رأينا أنّ الشعراء يسيرون فيها على نهج مخصوص; يبدأون عادة بذكر الأطلال ، وقد بدأ عمرو بن كلثوم مثلاً بوصف الخمر ، ثمّ بدأ بذكر الحبيبة ، ثمّ ينتقل أحدهم إلى وصف الراحلة ، ثمّ إلى الطريق التي يسلكها ، بعدئذ يخلص إلى المديح أو الفخر (إذا كان الفخر مقصوداً كما عند عنترة) وقد يعود الشاعر إلى الحبيبة ثمّ إلى الخمر ، وبعدئذ ينتهي بالحماسة (أو الفخر) أو بذكر شيء من الحِكَم (كما عند زهير) أو من الوصف كما عند امرئ القيس .
ويجدر بالملاحظة أنّ في القصيدة الجاهلية أغراضاً متعدّدة; واحد منها مقصود لذاته (كالغزل عند امرئ القيس ، الحماسة عند عنترة ، والمديح عند زهير . .) ،
عدد القصائد المعلّقات
لقد اُختلف في عدد القصائد التي تعدّ من المعلّقات (http://www.cars2arab.com/vb/forumdisplay.php?f=80)، فبعد أن اتّفقوا على خمس منها; هي معلّقات : امرئ القيس ، وزهير ، ولبيد ، وطرفة ، وعمرو بن كلثوم . اختلفوا في البقيّة ، فمنهم من يعدّ بينها معلّقة عنترة والحارث بن حلزة ، ومنهم من يدخل فيها قصيدتي النابغة والأعشى ، ومنهم من جعل فيها قصيدة عبيد بن الأبرص ، فتكون المعلّقات (http://www.cars2arab.com/vb/forumdisplay.php?f=80)عندئذ عشراً .
نماذج مختارة من القصائد المعلّقة مع شرح حال شعرائها
أربع من هذه القصائد اخترناها من بين القصائد السبع أو العشر مع اشارة لما كتبه بعض الكتاب والأدباء عن جوانبها الفنية.. لتكون محور مقالتنا هذه :
امرؤ القيس
اسمه : امرؤ القيس ، خندج ، عدي ، مليكة ، لكنّه عرف واشتهر بالاسم الأوّل ، وهو آخر اُمراء اُسرة كندة اليمنيّة .
أبوه : حجر بن الحارث ، آخر ملوك تلك الاُسرة ، التي كانت تبسط نفوذها وسيطرتها على منطقة نجد من منتصف القرن الخامس الميلادي حتى منتصف السادس .
اُمّه : فاطمة بنت ربيعة اُخت كليب زعيم قبيلة ربيعة من تغلب ، واُخت المهلهل بطل حرب البسوس ، وصاحب أوّل قصيدة عربية تبلغ الثلاثين بيتاً .
نبذة من حياته :
قال ابن قتيبة : هو من أهل نجد من الطبقة الاُولى28 . كان يعدّ من عشّاق العرب ، وكان يشبّب بنساء منهنّ فاطمة بنت العبيد العنزية التي يقول لها في معلّقته :
أفاطمُ مهلاً بعض هذا التدلّل
وقد طرده أبو ه على أثر ذلك . وظل امرؤ القيس سادراً في لهوه إلى أن بلغه مقتل أبيه وهو بدمّون فقال : ضيّعني صغيراً ، وحمّلني دمه كبيراً ، لا صحو اليوم ولا سكرَ غداً ، اليوم خمرٌ وغداً أمرٌ ، ثمّ آلى أن لا يأكل لحماً ولا يشرب خمراً حتّى يثأر لأبيه29 .
إلى هنا تنتهي الفترة الاُولى من حياة امرئ القيس وحياة المجون والفسوق والانحراف ، لتبدأ مرحلة جديدة من حياته ، وهي فترة طلب الثأر من قَتَلة أبيه ، ويتجلّى ذلك من شعره ، الّذي قاله في تلك الفترة ، الّتي يعتبرها الناقدون مرحلة الجدّ من حياة الشاعر ، حيكت حولها كثير من الأساطير ، التي اُضيفت فيما بعد إلى حياته . وسببها يعود إلى النحل والانتحال الذي حصل في زمان حمّاد الراوية ، وخلف الأحمر ومن حذا حذوهم . حيث أضافوا إلى حياتهم ما لم يدلّ عليه دليل عقلي وجعلوها أشبه بالأسطورة . ولكن لا يعني ذلك أنّ كلّ ما قيل حول مرحلة امرئ القيس الثانية هو اُسطورة .
والمهم أنّه قد خرج إلى طلب الثأر من بني أسد قتلة أبيه ، وذلك بجمع السلاح وإعداد الناس وتهيئتهم للمسير معه ، وبلغ به ذلك المسير إلى ملك الروم حيث أكرمه لما كان يسمع من أخبار شعره وصار نديمه ، واستمدّه للثأر من القتلة فوعده ذلك ، ثمّ بعث معه جيشاً فيهم أبناء ملوك الروم ، فلمّا فصل قيل لقيصر : إنّك أمددت بأبناء ملوك أرضك رجلاً من العرب وهم أهل غدر ، فإذا استمكن ممّا أراد وقهر بهم عدوّه غزاك . فبعث إليه قيصر مع رجل من العرب كان معه يقال له الطمّاح ، بحلّة منسوجة بالذهب مسمومة ، وكتب إليه : إنّي قد بعثت إليك بحلّتي الّتي كنت ألبسها يوم الزينة ليُعرف فضلك عندي ، فإذا وصلت إليك فالبسها على الُيمن والبركة ، واكتب إليّ من كلّ منزل بخبرك ، فلمّا وصلت إليه الحلّة اشتدّ سروره بها ولبسها ، فأسرع فيه السمّ وتنفّط جلده ، والعرب تدعوه : ذا القروح لذلك ، ولقوله :
وبُدِّلْتُ قرحاً دامياً بعد صحّة فيالك نُعمى قد تحوّلُ أبؤسا
ولمّا صار إلى مدينة بالروم تُدعى : أنقرة ثقل فأقام بها حتّى مات ، وقبره هناك .
وآخر شعره :
ربّ خطبة مسحنفَرهْ وطعنة مثعنجرهْ
وجعبة متحيّرهْ تدفنُ غداً بأنقرةْ
ورأى قبراً لامرأة من بنات ملوك العرب هلكت بأنقره فسأل عنها فاخبر ، فقال :
أجارتنا إنّ المزار قريبُ وإنّي مقيم ما أقام عسيبُ
أجارتَنا إنّا غريبانِ هاهنا وكلّ غريب للغريب نسيبُ30
وقد عدَّ الدكتور جواد علي والدكتور شوقي ضيف وبروكلمان وآخرون بعض ما ورد في قصّة امرئ القيس وطرده ، والحكايات التي حيكت بعد وصوله إلى قيصر ودفنه بأنقرة إلى جانب قبر ابنة بعض ملوك الروم ، وسبب موته بالحلة المسمومة ، وتسميته ذا القروح من الأساطير .
قالوا فيه :
1 ـ النبيّ(صلى الله عليه وآله) : ذاك رجل مذكور في الدنيا ، شريف فيها منسيّ في الآخرة خامل فيها ، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار31 .
2 ـ الإمام علي(عليه السلام) : سُئل من أشعر الشعراء؟ فقال :
إنّ القوم لم يَجروا في حَلبة تُعرفُ الغايةُ عند قصبتها ، فإنْ كان ولابُدّ فالملكُ الضِّلِّيلُ32 . يريد امرأ القيس .
3 ـ الفرزدق سئل من أشعر الناس؟ قال : ذو القروح .
4 ـ يونس بن حبيب : إنّ علماء البصرة كانوا يقدّمون امرأ القيس .
5 ـ لبيد بن ربيعة : أشعر الناس ذو القروح .
6 ـ أبو عبيدة معمّر بن المثنّى : هو أوّل من فتح الشعر ووقف واستوقف وبكى في الدمن ووصف ما فيها . . .33
معلّقة امرئ القيس
البحر : الطويل . عدد أبياتها : 78 بيتاً منها : 9 : في ذكرى الحبيبة . 21 : في بعض مواقف له . 13 : في وصف المرأة . 5 : في وصف الليل . 18 : في السحاب والبرق والمطر وآثاره . والبقية في اُمور مختلفة .
استهلّ امرؤ القيس معلّقته بقوله :
قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزِلِ بِسِقْط اللِّوَى بين الدَّخُوْلِ فَحَوْمَلِ
فتوضِحَ فالمقراة لم يعفُ رسمُها لما نسجتها من جنوب وَشَمْأَلِ
وقد عدّ القدماء هذا المطلع من مبتكراته ، إذ وقف واستوقف وبكى وأبكى وذكر الحبيب والمنزل ، ثمّ انتقل إلى رواية بعض ذكرياته السعيدة بقوله :
ألا ربّ يوم لَكَ منهُنَّ صالحٌ ولاسيّما يومٌ بدراة جُلجُلِ
ويومَ عقرت للعِذارى مطيّتي فيا عجباً من رحلِها المتحمّلِ
فضلّ العذارى يرتمينَ بلحمها وشحم كهذّاب الدِّمَقْسِ المُفَتَّلِ
وحيث إنّ تذكّر الماضي السعيد قد أرّق ليالي الشاعر ، وحرمه الراحة والهدوء; لذا فقد شعر بوطأة الليل; ذلك أنّ الهموم تصل إلى أوجها في الليل ، فما أقسى الليل على المهموم! إنّه يقضّ مضجعهُ ، ويُطير النوم من عينيه ، ويلفّه في ظلام حالك ، ويأخذه في دوامة تقلّبه هنا وهناك لا يعرف أين هو ، ولا كيف يسير ولا ماذا يفعل ، ويلقي عليه بأحماله ، ويقف كأنّه لا يتحرّك . . يقول :
وليل كموج البحرِ أرخى سدوله عليّ بأنواع الهمومِ ليبتلي
فقُلْتُ لَهُ لمّا تمطّى بصلبِهِ وأردف أعجازاً وناءَ بِكَلْكَلِ
ألا أيّها الليلُ الطويل ألا انجلي بصبح وما الأصْبَاحُ منكَ بِأمْثَلِ
وتعدّ هذه الأبيات من أروع ما قاله في الوصف ، ومبعث روعتها تصويره وحشيّة الليل بأمواج البحر وهي تطوي ما يصادفها; لتختبر ما عند الشاعر من الصبر والجزع .
فأنت أمام وصف وجداني فيه من الرقّة والعاطفة النابضة ، وقد استحالت سدول الليل فيه إلى سدول همّ ، وامتزج ليل النفس بليل الطبيعة ، وانتقل الليل من الطبيعة إلى النفس ، وانتقلت النفس إلى ظلمة الطبيعة .
فالصورة في شعره تجسيد للشعور في مادّة حسّية مستقاة من البيئة (http://www.cars2arab.com/vb/forumdisplay.php?f=80)الجاهلية .
ثمّ يخرج منه إلى وصف فرسه وصيده ولذّاته فيه ، وكأنّه يريد أن يضع بين يدي صاحبته فروسيته وشجاعته ومهارته في ركوب الخيل واصطياد الوحش يقول :
وقد أَغتدي والطير في وُكُناتِها بِمُنْجرد قيدِ الأوابدِ هيكلِ
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِل مُدْبر معاً كجُلْمُودِ صَخْر حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ
وهو وصف رائع لفرسه الأشقر ، فقد صوّر سرعته تصويراً بديعاً ، وبدأ فجعله قيداً لأوابد الوحش إذا انطلقت في الصحراء فإنّها لا تستطيع إفلاتاً منه كأنّه قيد يأخذ بأرجلها .
وهو لشدّة حركته وسرعته يخيّل إليك كأنّه يفرّ ويكرّ في الوقت نفسه ، وكأنّه يقبل ويدبر في آن واحد ، وكأنّه جلمود صخر يهوى به السيل من ذورة جبل عال .
ثمّ يستطرد في ذكر صيده وطهي الطهاة له وسط الصحراء قائلاً :
فظلّ طهاةُ اللحمِ ما بين منضج صفيف شواء أو قدير معجّلِ
وينتقل بعد ذلك إلى وصف الأمطار والسيول ، التي ألمّت بمنازل قومه بني أسد بالقرب من تيماء في شمالي الحجاز ، يقول :
أحارِ ترى برقاً كأنّ وميضَهُ
كلمعِ اليدين في حبيٍّ مكَلّلِ
يضيءُ سناهُ أو مصابيحُ راهب
أهانَ السَّليطَ في الذُّبالِ المفتّلِ
قعدتُ له وصحبتي بين حامِر
وبين إكام بُعْدَ ما متأمّلِ
استهلّ هذه القطعة بوصف وميض البرق وتألّقه في سحاب متراكم ، وشبّه هذا التألّق واللمعان بحركة اليدين إذا اُشير بهما ، أو كأنّه مصابيح راهب يتوهّج ضوؤها بما يمدّها من زيت كثير .
ويصف كيف جلس هو وأصحابه يتأمّلونه بين جامر وإكام ، والسحاب يسحّ سحّاً ، حتّى لتقتلع سيوله كلّ ما في طريقها من أشجار العِضاه العظيمة ، وتلك تيماء لم تترك بها نخلاً ولا بيتاً ، إلاّ ما شيّد بالصخر ، فقد اجتثّت كلّ ما مرّت به ، وأتت عليه من قواعده واُصوله .
لبيد بن ربيعة
هو لبيد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة . . الكلابي
قال المرزباني : كان فارساً شجاعاً سخيّاً ، قال الشعر في الجاهلية دهراً34 .
قال أكثر أهل الأخبار : إنّه كان شريفاً في الجاهلية والإسلام ، وكان قد نذر أن لا تهبّ الصبا إلاّ نحر وأطعم ، ثمّ نزل الكوفة ، وكان المغيرة بن شعبة إذا هبّت الصبا يقول : أعينوا أبا عقيل على مروءته35 .
وحكى الرياشي : لمّا اشتدّ الجدب على مضر بدعوة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وفد عليه وفد قيس وفيهم لبيد فأنشد :
أتيناك يا خير البريّة كلّها لترحمنا ممّا لقينا من الأزلِ
أتيناك والعذراء تدمى لبانها وقد ذهلت أمّ الصبيّ عن الطفلِ
فإن تدعُ بالسقيا وبالعفو ترسل الـ ـسّماءَ لنا والأمر يبقى على الأَصْلِ
وهو من الشعراء ، الّذين ترفعوا عن مدح الناس لنيل جوائزهم وصِلاتهم ، كما أنّه كان من الشعراء المتقدّمين في الشعر .
وأمّا أبوه فقد عرف بربيعة المقترين لسخائه ، وقد قُتل والده وهو صغير السّنّ ، فتكفّل أعمامهُ تربيتَه .
ويرى بروكلمان احتمال مجيء لبيد إلى هذه الدنيا في حوالى سنة 560م . أمّا وفاته فكانت سنة 40هـ . وقيل : 41هـ . لمّا دخل معاوية الكوفة بعد أن صالح الإمام الحسن بن علي ونزل النخيلة ، وقيل : إنّه مات بالكوفة أيّام الوليد بن عقبة في خلافة عثمان ، كما ورد أنّه توفّي سنة نيف وستين36 .
قالوا فيه :
1 ـ النبي(صلى الله عليه وآله) : أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد :
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل37
وروى أنّ لبيداً أنشد النبي(صلى الله عليه وآله) قوله :
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطلُ
فقال له : صدقت .
فقال :
وكلّ نعيم لا محالة زائلُ
فقال له : كذبت ، نعيم الآخرة لا يزول38 .
2 ـ المرزباني : إنّ الفرزدق سمع رجلاً ينشد قول لبيد :
وجلا السيوف من الطلولِ كأنّها زبر تجدّ متونَها أقلامُها
فنزل عن بغلته وسجد ، فقيل له : ما هذا؟ فقال : أنا أعرف سجدة الشعر كما يعرفون سجدة القرآن39 .
القول في إسلامه
وأمّا إسلامه فقد أجمعت الرواة على إقبال لبيد على الإسلام من كلّ قلبه ، وعلى تمسّكه بدينه تمسّكاً شديداً ، ولا سيما حينما يشعر بتأثير وطأة الشيخوخة عليه ، وبقرب دنوّ أجله; ويظهر أنّ شيخوخته قد أبعدته عن المساهمة في الأحداث السياسية التي وقعت في أيّامه ، فابتعد عن السياسة ، وابتعد عن الخوض في الأحداث ، ولهذا لا نجد في شعره شيئاً ، ولا فيما روي عنه من أخبار أنّه تحزّب لأحد أو خاصم أحداً .
وروي أنّ لبيداً ترك الشعر وانصرف عنه ، فلمّا كتب عمر إلى عامله المغيرة ابن شعبة على الكوفة يقول له : استنشد من قبلك من شعراء مصرك ما قالوا في الإسلام . أرسل إلى لبيد ، فقال : أرجزاً تُريد أم قصيداً؟ فقال :
أنشدني ما قلته في الإسلام ، فكتب سورة البقرة في صحيفة ثمّ أتى بها ، وقال : أَبدلني الله هذا في الإسلام مكان الشعر . فكتب المغيرة بذلك إلى عمر فنقص من عطاء الأغلب خمسمائة وجعلها في عطاء لبيد40 .
وجعله في اُسد الغابة من المؤلّفة قلوبهم وممّن حسن إسلامه41 ، وكان عمره مائة وخمساً وخمسين سنة ، منها خمس وأربعون في الإسلام وتسعون في الجاهلية42 .
معلّقة لبيد بن ربيعة
البحر : الكامل . عدد الأبيات : 89 موزّعة فيما يلي : 11 في ديار الحبيبة . 10 في رحلة الحبيبة وبعدها وأثره . 33 في الناقة . 21 في الفخر الشخصي . 14 في الفخر القبلي .
يبدأ الشاعر معلقته ببكاء الأطلال ووصفها ، وكيف أنّ الديار قد درست معالمها حتّى عادت لا ترى فقد هجرت ، وأصبحت لا يدخلها أحدٌ لخرابها :
عفت الديار محلّها فمقامها بمنىً تأبّد غولها فرجامها
رزقت مرابيع النجوم وصابها ودقَ الرواعد جودها فرهامها
ثمّ عاد بمخيلته شريط الذكريات ، ذكريات فراق الأحبّة فيتحدّث عن الظعائن الجميلات الرشيقات ، وعن هوادجهنّ المكسوّة بالقماش والستائر :
مشاقتك ظعن الحيّ يوم تحمّلوا فتكنّسوا قطناً تصرّ خيامها
من كلِّ محفوف يظلّ عصيّه روح عليه كلّةٌ وقرامها
ويرى أن يقطع أمله منها ويترك رجاءه فيها ما دامت نوار قد تغيّر وصلها :
ما قطع لبانه من تعرّض وصله ولشرّ واصل خلّة صرّامها
ثمّ يأخذ في وصف ناقته بألفاظ غريبة وتعابير بدوية متينة ، فهو يشبهها بالغمامة الحمراء تدفعها رياح الجنوب فيقول :
فلها هبابٌ في الزمامِ كأنّها صهباء خفّ مع الجنوب حمامُها
واُخرى يشبّهها بالبقرة الوحشيّة قائلاً :
خنساءُ ضيّعتِ الغريرَ فلم ترِمْ عُرْضَ الشّقائقِ طوفها وبُغامُها
لمعفّر قَهْد تنازعَ شلوهُ غبسٌ كواسبُ ، لا يُمَنّ طعامُها
وعلى الرغم من تعرّضه لوصف الناقة فلم تفته الحكمة :
صادفْنَ منها غرّة فأصبنها إنّ المنايا لا تطيش سهامها
ويقول :
لتذودهنّ وأيقنت إن لم تَزُدْ أن قد أحمّ من الحتوفِ حمامها
فهو مؤمن بقضاء الله ، قانع بما قسم له وكتب عليه ، راض بذلك ، ويدعو النّاس إلى الرضا :
فاقنع بما كتب المليكُ فإنّما قسم الخلائق بيننا علاّمها
ثمّ ينتقل لبيد للفخر بفروسيّته ، وكونه يحمي قومه في موضع المحنة والخوف ، يرقب لهم عند ثغور الأعداء وهو بكامل عدّته متأهّباً للنزال ، حتّى إذا أجنّه الظلام نزل من مرقبه إلى السهل ، وامتطى جواده القوي السريع :
ولقد حميت الحيّ تحمل مثكتي
فرطٌ وشاحي إذ غدوت لجامها
فعلوت مرتقباً على ذي هبوة
حرج إلى أعلامهنّ قَتَامُها
حتّى إذا ألقت يداً في كافر
وأجنّ عورات الثغور ظلامها
أسهلت وانتصبتْ كجذعِ منيفة
جرداءَ يَحْصَرُ دونَها جرّامُها
ولبيد خير شاعر برّ قومه ، فهو يحبّهم ويؤثرهم ويشيد بمآثرهم ويسجّل مكرماتهم ، ويفخر بأيّامهم وأحسابهم ، فسجّل في معلّقته فضائل قومه ، وافتخر بأهله وخصّهم بأجود الثناء :
إنّا إذا التقت المجامعُ لم يزل
منّا لزازُ عظيمة جشّامُّها
من معشر سنّت لهم آباؤهم
ولكلّ قوم سنّةٌ وإمُامها
لا يطبعون ولا يبور فعالُهم
إذ لا يميل مع الهوى أحلامُها
وهم السعاةُ إذا العشيرة اُفظِعَتْ
وهُمُ فوارسها وهم حكّامُها
وهُمُ ربيعٌ للمجاور فيهمُ
والمرملاتِ إذا تطاولَ عامُها
وهُمُ العشيرةُ أن يُبَطّئ حاسدٌ
أو أن يميلَ مع العدى لوّامُها
زهير بن أبي سلمى
هو زهير بن أبي سلمى ـ واسم أبي سلمى : ربيعة بن رباح المزني من مزينة ابن أد بن طايخة .
كانت محلّتهم في بلاد غطفان ، فظنّ الناس أنّه من غطفان ، وهو ما ذهب إليه ابن قتيبة أيضاً .
وهو أحد الشعراء الثلاثة الفحول المقدّمين على سائر الشعراء بالاتّفاق ، وإنّما الخلاف في تقديم أحدهم على الآخر ، وهم : امرؤ القيس وزهير والنابغة . ويقال : إنّه لم يتصل الشعر في ولد أحد من الفحول في الجاهلية ما اتصل في ولد زهير ، وكان والد زهير شاعراً ، واُخته سلمى شاعرة ، واُخته الخنساء شاعرة ، وابناه كعب ومجبر شاعرين ، وكان خال زهير أسعد بن الغدير شاعراً ، والغدير اُمّه وبها عرف ، وكان أخوه بشامة بن الغدير شاعراً كثير الشعر .
ويظهر من شعر ينسب إليه أنّه عاش طويلا إذ يقول متأفّفاً من هذه الحياة ومشقّاتها حتّى سئم منها :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم
قالوا فيه :
1 ـ الحطيئة اُستاذ زهير : سئل عنه فقال : ما رأيت مثله في تكفِّيه على أكتاف القوافي ، وأخذه بأعنّتها حيث شاء ، من اختلاف معانيها امتداحاً وذمّاً44 .
2 ـ ابن الاعرابي : كان لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره45 .
3 ـ قدامة بن موسى ـ وكان عالماً بالشعر ـ : كان يقدّم زهيراً .
4 ـ عكرمة بن جرير : قلت لأبي : مَن أشعر الناس؟ قال : أجاهليةٌ أم إسلامية؟ فقلت : جاهلية ، قال : زهير46 .
مميّزات شعره :
امتاز زهير بمدحيّاته ، وحكميّاته ، وبلاغته ، وكان لشعره تأثير كبير في نفوس العرب . وكان أبوه مقرّباً من اُمراء ذبيان ، وخصوصاً هرم بن سنان والحارث ابن عوف ، وأوّل قصيدة نظمها في مدحهما على أثر مكرمة أتياها . معلّقته المشهورة .
ويؤخذ من بعض أقواله أنّه كان مؤمناً بالبعث كقوله :
يؤخَّر فيودَع في كتاب فيدَّخَرْ ليومِ الحسابِ أو يعجّلْ فينتقمِ
وممّا يدلّ على تعقّله وحنكته وسعة صدره حِكمه في معلّقته ، وقد جمع خلاصة التقاضي في بيت واحد :
وإنّ الحقّ مقطعه ثلاث : يمينٌ أو نفارٌ أو جلاءُ
معلّقة زهير بن أبي سلمى
البحر : الطويل . عدد الأبيات : 59 موزّعة فيما يلي : 6 في الأطلال . 9 في الأظعان . 10 في مدح الساعين بالسلام . 21 في الحديث إلى المتحاربين . 13 في الحكم .
يبدأ الشاعر معلّقته بالحديث عمّا صارت إليه ديار الحبيبة ، فقد هجرها عشرين عاماً ، فأصبحت دمناً بالية ، وآثارها خافتة ، ومعالمها متغيّرة ، فلمّا تأكّد منها هتف محيّياً ودعا لها بالنعيم :
أمن اُمّ أوفى دِمنةٌ لم تَكَلَّمِ بحَوْمانَةِ الدّرّاجِ فالمتثَلَّمِ
وقفتُ بها من بعدِ عشرينَ حجّةً فَلاَْياً عرفتُ الدار بعد توهُّمِ
فلمّا عرفتُ الدار قلت لربعها ألا أنعم صباحاً أيّها الربع وأسلمِ
ثمّ عاد بالذاكرة إلى الوراء يسترجع ساعة الفراق ، ويصف النساء اللاتي ارتحلن عنها ، فيتبعهنّ ببصره كئيباً حزيناً ، ويصف الطريق الّتي سلكنها ، والهوادج التي كنّ فيهاو . . . :
بكرن بكوراً واستحرنَ بسحره
فهنّ ووادي الرسّ كاليدِ للفمِ
جعلن القنان عن يمين وحزنه
وكم بالقنان من محلّ ومحرمِ
فلمّا وردنَ الماء زرقاً جمامه
وضعْنَ عِصِيَّ الحاضرِ المتخيَّمِ
وفيهنّ ملهى للّطيف ومنظر
أنيق لعين الناظر المتوسّمِ
وكأنّه حينما وصل إلى هذا المنظر الجميل الفتّان سبح به خاطره إلى جمال الخلق وروعة السلوك ، وحبّ الخير والتضحية في سبيل الأمن والاستقرار ، فشرع يتحدّث عن الساعين في الخير ، المحبّين للسلام ، الداعين إلى الإخاء والصفاء ، فأشاد بشخصين عظيمين هما هرم والحارث ، وذلك لموقفهما النبيل في إطفاء نار الحرب بين عبس وذبيان ، وتحمّلهما ديات القتلى من مالهما وقد بلغت ثلاثة آلاف بعير ، قال :
سعى ساعياً غيظ من مرّة بعدما
تبزّل ما بين العشيرة بالدمِ
فأقسمت بالبيت الّذي طاف حوله
رجال بنوه من قريش وجرهمِ
يميناً لنعم السّيّدان وُجدتما
على كلّ حال من سحيل ومبرمِ
تداركتما عبساً وذبيان بعدما
تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشمِ
وقد قلتما : إن ندرك السلم واسعاً
بمال ومعروف من القول نسلمِ
فأصبحتما منها على خير موطن
بعيدين فيها من عقوق ومأثمِ
ثمّ وجّه الكلام إلى الأحلاف المتحاربين قائلاً :
هل أقسمتم أن تفعلوا ما لاينبغي؟ لا تظهروا الصلح ، وفي نيّتكم الغدر; لأنّ الله سيدخره لكم ويحاسبكم عليه ، إن عاجلاً أو آجلاً ، يقول :
ألا أبلغ الأحلاف عنّي رسالة وذبيان هل أقسمتم كلّ مقسمِ
فلا تكتمنّ الله ما في صدوركم ليخفى ومهما يكتم اللهُ يعلمِ
يؤخّر فيوضع في كتاب فيدّخر ليوم الحساب أو يعجّل فينقمِ
ويختمها بتأكيد معروف الممدوحين عليه فيقول :
سألنا فأعطيتم وعدنا فعدتمُ ومن يكثر التسآلَ يوماً سيحرمِ
عنترة بن شدّاد العبسي
هو عنترة بن عمرو بن شدّاد بن عمرو... بن عبسي بن بغيض47، وأمّا شدّاد فجدّه لأبيه في رواية لابن الكلبي، غلب على اسم أبيه فنسب إليه، وقال غيره: شدّاد عمّه، وكان عنترة نشأ في حجره فنسب إليه دون أبيه، وكان يلقّب بـ (عنترة الفلحاء) لتشقّق شفتيه. وانّما ادّعاه أبوه بعد الكبر، وذلك لأنّه كان لأمة سوداء يقال لها زبيبة، وكانت العرب في الجاهلية إذا كان للرجل منهم ولد من اُمّه استعبده.
وكان سبب ادّعاء أبي عنترة إيّاه أنّ بعض أحياء العرب أغاروا على قوم من بني عبس، فتبعهم العبسيّون فلحقوهم فقاتلوهم عمّا معهم، وعنترة فيهم، فقال له أبوه أو عمّه في رواية اُخرى: كرّ يا عنترة، فقال عنترة: العبد لا يحسِن الكرّ، إنّما يحسن الحلاب والصرّ، فقال: كرّ وأنت حرّ، فكرّ وقاتل يومئذ حتّى استنقذ ما بأيدي عدوّهم من الغنيمة، فادّعاه أبوه بعد ذلك، وألحق به نسبه48.
كان شاعرنا من أشدّ أهل زمانه وأجودهم بما ملكت يده، وكان لا يقول من الشعر إلاّ البيتين والثلاثة حتّى سابّه رجل بني عبس فذكر سواده وسواد اُمّه وسواد اُخوته، وعيّره بذلك، فقال عنترة قصيدته المعلّقة التي تسمّى بالمذهّبة وكانت من أجود شعره: هل غادر الشعراء من متردّمِ49 .
وكان قدشهد حرب داحس والغبراء فحسن فيها بلاؤه وحمد مشاهده.
أحبّ ابنة عمّه عبلة حبّاً شديداً، ولكنّ عمّه منعه من التزويج بها. وقد ذكرها في شعره مراراً وذكر بطولاتها أمامها، وفي معلّقته نماذج من ذلك.
وقد ذكر الأعلم الشنتمري في اختياراته من أشعار الشعراء الستة الجاهليين ص461 أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) حينما أنشد هذا البيت :
ولقد ابيتُ على الطوى وأظله حتى أنال به كريم المأكلِ
قال(صلى الله عليه وآله): ما وصف لي أعرابي قط، فأحببتُ أن أراه إلاّ عنترة .
نماذج من شعره:
بكرت تخوّفني الحتوف كأنّني
أصبحتُ عن عرضِ الحتوفِ بمعزلِ
فأجبتها إنّ المنيّة منهلٌ
لابدّ أن اُسقى بذاك المنهلِ
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي
أنّي امرؤٌ سأموتُ إن لم اُقتلِ
ومن إفراطه:
وأنا المنيّة في المواطن كلّها والطعنُ منّي سابقُ الآجالِ
وله شعر يفخر فيه بأخواله من السودان:
إنّي لتعرف في الحروب مواطني في آل عبس مشهدي وفعالي
منهم أبي حقّاً فهم لي والدٌ والاُمّ من حام فهم أخوالي50
قال الدكتور جواد علي: اِن صحّ هذا الشعر هو لعنترة دلّ على وقوف الجاهليين على اسم «حام» الوارد في التوراة على أنّه جدّ السودان، ولابدّ أن تكون التسمية قد وردت إلى الجاهليين عن طريق أهل الكتاب51.
وقد اختلف في موته، فذكر ابن حزم52 انّه قتله الأسد الرهيص حيّان بن عمرو بن عَميرة بن ثعلبة بن غياث بن ملقط. وقيل: إنّه كان قد أغار على بني نبهان فرماه وزر بن جابر بن سدوس بن أصمع النبهاني فقطع مطاه، فتحامل بالرميّة حتّى أتى أهله فمات53.
معلّقة عنترة العبسي
البحر: الكامل. عدد الأبيات : 80 بيتاً. 5 في الأطلال. 4 في بعد الحبيبة وأثره. 3 في موكب الرحلة. 9 في وصف الحبيبة. 13 في الناقة. 46 في الفخر الشخصي . . .
يبدأ عنترة معلّقته بالسؤال عن المعنى الذي يمكن أن يأتي به ولم يسبقه به أحد الشعراء من قبل، ثمّ شرع في الكلام فقال: إنّه عرف الدار وتأكّد منها بعد فترة من الشكّ والظنّ فوقف فيها بناقته الضخمة ليؤدّي حقّها ـ وقد رحلت عنها عبلة وصارت بعيدة عنه ـ فحيّا الطلل الّذي قدم العهد به وطال...
فيقول:
هل غادر الشعراء من متردّمِ
أم هل عرفت الدار بعد توهُّمِ
يا دار عبلة بالجواء تكلّمي
وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي
فوقفت فيها ناقتي وكأنّها
فدن لأقضي حاجة المتلوّمِ
حُيّيتَ من طللِ تقادمَ عهدهُ
أقوى وأقفر بعد اُمّ الهيثمِ
ثمّ سرد طرفاً من أسباب هيامه، فقال:
إنّها ملكت شغاف قلبه بفم جميل، أبيض الأسنان طيّب الرائحة، يفوح العطر من عوارضه:
إذ تستبيك بذي غروب واضح عذب مقبّله لذيذ المطعمِ
ثمّ قارن بين حاله وحالها; فهي تعيش منعّمة، وهو يعيش محارباً، وتمنّى أن توصله إليها ناقة قويّة لا تحمل ولا ترضع وتضرب الآثار بأخفافها فتكسرها... فقال:
تمسي وتصبح فوق ظهر حشيّة
وأبيت فوق سراة أدهم ملجمِ
وحشيتي سرج على عبل الشوى
نهد مراكله نبيل المحزمِ
ثمّ يتجّه بالحديث إلى الحبيبة يسرد أخلاقه وسجاياه قائلاً:
إن ترخي قناع وجهك دوني فإنّي خبير ماهر بمعاملة الفرسان اللابسين الدروع، وأنا كريم الخلق لين الجانب إلاّ إذا ظُلمت فعند ذلك يكون ردّي عنيفاً مرّاً:
إن تغدفي دوني القناع فإنّني
طبّ بأخذ الفارس المستلئم
أثني عليّ بما علمت فإنّني
سهل مخالقتي إذا لم اُظلمِ
فإذا ظُلمت فإنّ ظلمي باسل
مرّ مذاقته كطعم العلقمِ
ثمّ يستمرّ البطل في وصف بطولته لحبيبته، فيحثّها أن تسأل عنه فرسان الوغى الّذين شهدوه في معترك الوغى وساحات القتال ليخبروها بأنّ لعنترة من الشجاعة ما تجعله لا يهاب الموت بل يقحم فرسه في لبّة المعركة، ويقاتل، وبعد الحرب ـ وكعادة الجيش المنتصر ـ فإنّ أفراده ينشغلون بجمع الغنائم، امّا هو فيده عفيفة عن أخذ الغنائم، فقتاله لا للغنيمة وإنّما لهدف أبعد وهو أن يكسب لقومه شرف الانتصار.
ويستمرّ في مدح نفسه فيذكر في شعره معان نبيلة، وهي معان ارتفعت عنده إلى أروع صورة للنبل الخلقي حتّى لنراه يرقّ لأقرانه الّذين يسفك دماءهم، يقول وقد أخذه التأثّر والانفعال الشديد لبطشه بأحدهم:
فشككت بالرمح الطويل ثيابَهُ ليس الكريم على القنا بمحرّمِ
فهو يرفع من قدر خصمه، فيدعوه كريماً، ويقول إنّه مات ميتة الأبطال الشرفاء في ساحة القتال.
وكان يجيش بنفسه إحساس عميق نحو فرسه الّذي يعايشه ويعاشره حين تنال منه سيوف أعدائه ورماحهم، يقول مصوّراً آلامه وجروحه الجسديّة وقروحه النفسية:
فأزورّ من وَقْعِ القَنا بِلبَانهِ وشكا إليّ بعبرة وتَحَمْحُمِ
لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكى ولكان لو عَلِمَ الكلامَ مكلِّمي
وكأنّما فرسه بضعة من نفسه.
ثمّ يختم قصيدته بأنّه يعرف كيف يسوس أمره ويصرف شؤونه، فعقله لا يغرب عنه، ورأيه محكم، وعزيمته صادقة، ولا يخشى الموت إلاّ قبل أن يقتصّ من غريمه:
ذلّل ركابي، حيث شئت مشايعي
لبّي وأحفره بأمر مبرمِ
ولقد خشيت بأن أموت ولم تكن

**د لا ل**
2012-02-11, 16:22
الأدب :


كلمة عامة وشاملة وهو يمثل الجانب الايجابي سلوكات أي من شأنه أن يرفع من قيمة الفرد



الجاهلي :


هو كل سلوك من شأنه أن يحط من قيمة الفرد يمثل الجانب السلبي



الأدب الجاهلي :


مفهومه العام : يطلق على الفترة الزمانية 150 إلى 200 ما بلغنا من شعر ونثر في تلك الفترة



مفهومه الخاص : هو ما يتصل بالشعر والنثر حيث أن العرب قسموا كلامهم إلى شعر ونثر




وبعد التمهيد المبسط بالتعريف بالمفهومين ندخل عالم الشعر بــ :



طبقات الشعراء :


الطبقة الأولى : الشعراء الجاهليون


الطبقة الثانية : الشعراء المخضرمون


الطبقة الثالثة : الشعراء الإسلاميون


الطبقة الرابعة : الشعراء المحدثون (المولدون )




وان شاء الله سنقوم بدراسة الطبقة الأولى وهى الشعراء الجاهليون ، شعراء المعلقات



شعراء المعلقات :


امرئ القيس


عمر ابن كلثوم


زهير بن أبي سلمه


النابغة الذبياني


عنترة بن ربيعة


الحارث بن حلزة



وهناك من يضيف :



علقمة الفحل


الأعشى


النابغة الجعدي


عروة بن الورد





وبإذن الله كل مرة أقدم لكم شاعرا من هؤلاء مع عشر أبيات الأولى من معلقته وشرحها



وقبل هذا .....هذه لمحة حول مفهوم المعلقة




تعريف المعلقات :


لغة : من العلق وهو المال الذي يكرم عليه المرء ، تقول ، هذا علق مضنة وما عليه علقة إذا لم يكن عليه نياب فيها خير والعلق هو النفيس من كل شيء وفي حديث حذيفة : فما بال هؤلاء الذين يسرقون أعلاقنا ، أي نفائس أموالنا والعلق هو ما عُلِق


اصطلاحا : فالمعلقات قصائد جاهلية بلغ عددها السبع أو العشر على قول برزت فيها خصائص الجاهلي حتى عدت أفضل مابلغنا عن الجاهلين من آثار أدبية أربعة والناظر إلى المعنيين اللغوي والاصطلاحي يجد العلاقة واضحة بينهما فهي قصائد نفسية ذات قيمة كبيرة بلغت الذروة في اللغة وفي الخيال والفكر والموسيقى وفي نضج التجربة وأصالة التعبير ، ولم يصل الشعر العربي إلى ما وصل إليه في عصر المعلقات من غزل امرئ القيس وحماس المهلهل وفخر ابن كلثوم إلا بعد أن مر بادوار ومراحل إعداد وتكوين طويل المدى




المثبتون لتعليق المعلقات :



بن عبد ربه ، ابن رشيق ، السيوطي ، ياقوت ألحمري ، ابن الكلبي ، ابن خلدون ، ...



وهناك معارضون للتعليق ومن بينهم الدكتور جواد علي الذي رفض فكرة التعليق لأمور عدة نذكر بعضها :


· 1- انه حينما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتحطيم الأصنام والأوثان التي في الكعبة وطمس الصور لم يذكر وجود المعلقات أو جزء معلقة أو بيت شعر فيها


· 2- عدم وجود خبر يشير إلى تعليقها على الكعبة حينما أعادوا بناءها من جديد


· 3- عدم وجود من ذكر المعلقات من حملة الشعر من الصحابة والتابعين ولا غيرهم




امرؤالقيس



نحو (130 - 80 ق. هـ = 496 - 544م)


هو امرؤالقيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن معاوية بن ثور وهو كندة. شاعرجاهلي يعد أشهر شعراء العرب على الإطلاق، يماني الأصل، مولده بنجد. كان أبوه ملكأسد وغطفان، ويروى أن أمّه فاطمة بنت ربيعة بن الحارث بن زهير أخت كليب ومهلهل ابنيربيعة التغلبيين. وليس في شعره ما يثبت ذلك، بل إنه يذكر أن خاله يدعى ابن كبشة حيث يقول:

خالي ابنُ كبشة قد علمتَ مكانه - وأبو يزيدَ ورهطُهُأعمامي

قال الشعر وهو غلام، وجعل يشبب ويلهو ويعاشر صعاليك العرب، فبلغ ذلكأباه، فنهاه عن سيرته فلم ينته، فأبعده إلى حضرموت موطن أبيه وعشيرته، وهو في نحوالعشرين من عمره. أقام زهاء خمس سنين، ثم جعل يتنقل مع أصحابه في أحياء العرب، يشربويطرب ويغزو ويلهو، إلى أن ثار بنو أسد على أبيه فقتلوه، فبلغه ذلك وهو جالس للشرابفقال: رحم الله أبي! ضيعني صغيراً وحملني دمه كبيراً، لا صحو اليوم ولا سكر غداً،اليوم خمر وغداً أمر. وذهب إلى المنذر ملك العراق، وطاف قبائل العرب حتى انتهى إلىالسموأل، فأجاره ومكث عنده مدة، ثم قصد الحارث بن شمر الغساني في الشام، فسيرهالحارث إلى القسطنطينية للقاء قيصر الروم يوستينياس، ولما كان بأنقرة ظهرت في جسمهقروح فأقام فيها إلى أن مات.

وليس يعرف تاريخ ولادة امرئ القيس ولا تاريخوفاته، ويصعب الوصول إلى تحديد تواريخ دقيقة مما بلغنا من مصادر. وتذهب بعضالدراسات الحديثة إلى أن امرأ القيس توفي بين عام 530م. وعام 540م. وأخرى إلى أنّوفاته كانت حوالي عام 550م. وغيرها تحدّد عام 565م. إلاّ أن هناك بعض الأحداثالثابتة تاريخياً ويمكن أن تساعد على تحديد الفترة التي عاش فيها



العشر أبيات الاولى من معلقته :




قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ

بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ


فَتُوْضِحَ فَالمِقْراةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُها

لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وشَمْألِ


تَرَى بَعَرَ الأرْآمِ فِي عَرَصَاتِهَـا

وَقِيْعَـانِهَا كَأنَّهُ حَبُّ فُلْفُــلِ


كَأنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُـوا

لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ


وُقُوْفاً بِهَا صَحْبِي عَلَّي مَطِيَّهُـمُ

يَقُوْلُوْنَ لاَ تَهْلِكْ أَسَىً وَتَجَمَّـلِ


وإِنَّ شِفـَائِي عَبْـرَةٌ مُهْرَاقَـةٌ

فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ


كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَهَـا

وَجَـارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَـلِ


إِذَا قَامَتَا تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُمَـا

نَسِيْمَ الصَّبَا جَاءَتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ


فَفَاضَتْ دُمُوْعُ العَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً

عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِي مِحْمَلِي


ألاَ رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِـحٍ

وَلاَ سِيَّمَا يَوْمٍ بِدَارَةِ جُلْجُـلِ




شرح العشر الابيات الاولى :


خاطب الشاعر صاحبيه ، وقيل بل خاطب واحدا وأخرج الكلام مخرج الخطاب لاثنين ، لان العرب من عادتهم إجراء خطاب الاثنين على الواحد والجمع ، فمن ذلك قول الشاعر: فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر، وأن ترعياني أحمِ عِرضاً ممنّعاً خاطب الواحد خطاب الاثنين ، وإنما فعلت العرب ذلك لان أدنى أعوان الرجل هم اثنان : راعي إبله وراعي غنمه ، وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة ، فجرى خطاب الاثنين على الواحد لمرور ألسنتهم عليه ، ويجوز أن يكون المراد به : قف قف ، فإلحاق الألف إشارة الى أن المراد تكرير اللفظ كما قال أبو عثمات المازني في قوله تعالى : "قال رب أرجعون " المراد منه أرجعني أرجعني ، جعلت الواو علما مشعرا بأن المعنى تكرير اللفظ مرارا ، وقيل : أراد قفن على جهة التأكيد ، فقلب النون ألفا في حال الوصل ، لأن هذه النون تقلب ألفا في حال الوقف ، فحمل الوصل على الوقف ، ألا ترى أنك لو وقفت على قوله تعالى : "لنسفعن" قلت : لنسفعا . ومنه قول الأعشى: وصلِّ على حين العشيّات والضحى ولا تحمد المثرين واللهَ فاحمدا = أراد فاحمدَن ، فقلب نون التأكيد ألفا ، يقال يكى يبكي بكاء وبكى ، ممدودا ومقصورا ، أنشد ابن الأنباري لحسان بن ثابت شاهدا له: بكت عيني وحق لها بكاها، وما يعني البكاء ولا العويل فجمع بين اللغتين ، السقط : منقطع الرمل حيث يستدق من طرفه ، والسقط أيضا ما يتطاير من النار ، والسقط أيضا المولود لغير تمام ، وفيه ثلاث لغات :سَقط وسِقط وسُقط في هذه المعاني الثلاثة ، اللوى:رمل يعود ويلتوي ، الدخول وحومل: موضعان . يقول : قفا وأسعداني وأعيناني ، أو : قف وأسعدني على البكاء عند تذكري حبيباً فارقته ومنزلا خرجت منه ، وذلك المنزل أو ذلك الحبيب أو ذلك بمنقطع الرمل المعوج بين هذين الموضعين



والجمع أرسم ورسوم ، وشمال ، فيها ست لغات : شمال وشمال وشأمل وشمول وشَمْل و شَمَل ، نسج الريحين: اختلافهما عليها وستر إحداهما إياها بالتراب وكشف الأخرى التراب عنها . وقيل : بل معناه لم يقتصر سبب محوها على نسج الريحين بل كان له أسباب منها هذا السبب ، ومر السنين ، وترادف الامطار وغيرها . وقيل : بل معناه لم يعف رسم حبها في قلبي وإن نسجتها الريحان . والمعنيان الاولان أظهر من الثالث ، وقد ذكرها كلها ابن الانبارى


الآرآم : الظباء البيض الخالصة البياض ، وأحداهما رئم ، بالكسر ، وهي تسكن الرمل ، عرصات (في المصباح) عرصة الدار : ساحتها ، وهي البقعة الواسعة التي ليس فيها بناء ، والجمع عراص مثل كلبة الكلاب ، وعرصات مثل سجدة وسجدات ،وعن الثعالبي : كل بقعة ليس فيها بناء فهي عرصة ، و(في التهذيب) : سميت ساحة الدار عرصة لأن الصبيان يعرصون فيها أي يلعبون ويمرحون ؛ قيعان : جمع قاع وهو المستوي من الأرض ، وقيعة مثل القاع ، وبعضهم يقول هو جمع ، وقاعة الدار : ساحتها ، الفلفل قال في القاموس : كهدهد وزبرج ، حب هندي . ونسب الصاغاني الكسر للعامة : و(في المصباح) ، الفلفل: بضم الفاءين ، من الأبرار ، قالوا : لايجوز فيه الكسر . يقول الشاعر : انظر بعينيك تر ديار الحبيبة التي كانت مأهولة بأهلها مأنوسة بهم خصبة الأرض كيف غادرها أهلها وأقفرت من بعدهم أرضها وسكنت رملها الظباء ونثرت في ساحتها بعرها حتى تراه كأنه حب الفلفل . في مستوى رحباتها




غداة : (في المصباح) ، الغداة : الضحوة ، وهي مؤنثة ، قال ابن الأنباري . ولم يسمع تذكيرها ، ولو حملها حامل على معنى أول النهار جاز له التذكير ، والجمع غدوات ، البين : الفرقة ، وهو المراد هنا ، وفي القاموس : البين يكون فرقة ووصلا ، قال الشارح : بأن يبين بينا وبينونة ، وهو من الأضداد ، اليوم : معروف ، مقدارة من طلوع الشمس إلى غروبها ، وقد يراد باليوم والوقت مطلقا ، ومنه الحديث : "تلك أيام الهرج" أي وقته ، ولا يختص بالنهار دون الليل ، تحملوا واحتملوا : بمعنى : ارتحلوا ، لدي : بمعنى عند ، سمرات ، بضم الميم : من شجر الطلح ، الحي: القبيلة من الأعراب ، والجمع أحياء ، نقف الحنظل : شقة عن الهبيد ، وهو الحب ، كالإنقاف والانتفاف ، وهو ، أي الحنظل ، نقيف ومنقوف ، وناقفة وهو الذي يشقه . والشاعر يقول : كأني عند سمرات الحي يوم رحيلهم ناقف حنظل ، يريد ، وقفت بعد رحيلهم في حيرة وقفة جاني الحنظلة ينقفها بظفره ليستخرج منها حبها


نصب وقوفا على الحال ، يريد ، قفا نبك في حال وقف أصحابي مطيتهم علي ، والوقوف جمع واقف بمنزلة الشهود والركوع في جمع شاهد وراكع ، الصحب : جمع صاحب ، ويجمع الصاحب على الأصحاب والصحب والصحاب والصحابة والصحبة والصحبان ، ثم يجمع الأصحاب على الأصاحيب أيضا ، ثم يخفف فيقال الأصاحب ، المطي : المراكب ، واحدتها مطية ، وتجمع المطية على المطايا والمطي والمطيات ، سميت مطية لأنه يركب مطاها أي ظهرها ، وقيل : بل هي مشتقة من المطو وهو المد في السير ، يقال : مطاه يمطوه ، فسميت الرواحل به لانها تمد في السير ، نصب الشاعر أسى على أنها مفعول له. يقول : لقد وقفوا علي ، أي لاجلي أو على رأسي وأنا قاعد ، رواحلهم ومراكبهم ، يقول لي : لا تهلك من فرط الحزن وشدة الجزع وتجمل بالصبر . وتلخيص المعنى : انهم وقفوا عليه رواحلهم يأمرونه بالصبر وينهونه عن الجزع


المهراق والمراق: المصبوب ، وقد أرقت الماء وهرقته وأهرقته أي صببته ، المعول : المبكى ، وقد أعول الرجل وعول إذا بكى رافعا صوته به ، والمعول : المعتمد والمتكل عليه أيضا ، العبرة : الدمع ، وجمعها عبرات ، وحكى ثعلب في جمعها العبر مثل بدرة وبدر. يقول : وإن برئي من دائي ومما أصابنى وتخلصي مما دهمني يكون بدمع أصبه ، ثم قال : وهل من معتمد ومفزع عند رسم قدر درس ، أو هل موضع بكاء عند رسم دارس ؟ وهذا استفهام يتضمن معنى الإنكار ، والمعنى عند التحقيق : ولا طائل في البكاء في هذا الموضع ، لأنه لا يرد حبيبا ولا يجدى على صاحبه خيراً، أو لا أحد يعول عليه ويفزع إليه في هذا الموضع . وتلخيص المعنى : وإن مخلصي مما بي هو بكائي . ثم قال : ولا ينفع البكاء عند رسم دارس


الدأب والدأب ، بتسكين الهمزة وفتحها : العادة ، وأصلها متابعة العمل والجد في السعي ، يقال : دأب يدأب دأبا ودئابا ودؤوبا ، وأدأبت السير : تابعته ، مأسل ، بفتح السين: جبل بعينه ، ومأسل ، بكسر السين : ماء بعينه ، والرواية فتح السين. يقول عادتك في حب هذه كعادتك من تينك ، أي قلة حظك من وصال هذه ومعاناتك الوجد بها كقلة حظك من وصالها ومعاناتك الوجد بهما ، قبلها أي قبل هذه التي شغفت بها الآن


ضاع الطيب وتضوع ؛ انتشرت رائحته ، الريا : الرائحة الطيبة. يقول : إذا قامت أم الحويرث وأم الرباب فاحب ريح المسك منهما كنسيم الصبا إذا جاءت بعرف القرنفل ونشره . شبه طيب رياهما بطيب نسيم هب على قرنفل وأتى برياه ، ثم لما وصفهما بالجمال وطيب النشر وصف حاله بعد بعدهما


الصبابة ، رقة الشوق ،وقد صب الرجل يصب صبابة فهو صب ، والأصل صبب فسكنت العين وأدغمت في اللام ، والمحمل : حمالة السيف، والجمع المحامل ،والحمائل جمع الحمالة . يقول : فسالت دموع عيني من فرط وجدي بهما وشدة حنيني إليهما حتى بل دمعي حمالة سيفي . نصب صبابة على أنه مفعول له كقولك : زرتك طمعا في برك ، قال الله تعالى : " من الصواعق حذر الموت "، أي لحذر الموت ، وكذلك زرتك للطمع في برك ، وفاضت دموع العين مني للصبابة

في رب لغات : وهي ، رُبْ ورُبَ ورُبُ ورَبَ ، ثم تلحق التاء فتقول : ربة وربت ، ورب : موضوع في كلام العرب للتقليل ، وكم : موضوع للتكثير ، ثم ربما حملت رب على كم في المعني فيراد بها التكثير ، وربما حملت كم على رب في المعني فيراد بها التقليل . ويروى ؛ ألا رب "يوم" كان منهن صالح ، والسي : المثل ، يقال : هما سيان أم مثلان . ويجوز في يوم الرفع والجر ، فمن رفع جعل ما موصولة بمعني الذي ، والتقدير : ولا سيّ اليوم الذي هو بدارة جلجل ، ومن خفض جعل ما زائدة وخفضه بإضافة سي إليه فكأنه قال : ولا سي يومأي ولا مثل يوم دارة جلجل ، وهو غدير بعينه . يقول : رب يوم فزت فيه بوصال النساء وظفرت بعيش صالح ناعم منهن ولا يوم من تلك الأيام مثل يوم دارة جلجل ، يريد أن ذلك اليوم كان أحسن الأيام وأتمها ، فأفادت ولا سيما التفضيل والتخصيص

هذا تفصيل عن امرؤ القيس وحياته

**د لا ل**
2012-02-11, 16:23
عنترة بن شداد



نحو (... - 22 ق. هـ = ... - 601م)



هو عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن مخزوم بن ربيعة، وقيل بن عمرو بن شداد، وقيل بن قراد العبسي، على اختلاف بين الرواة. أشهر فرسان العرب في الجاهلية ومن شعراء الطبقة الولى. من أهل نجد. لقب، كما يقول التبريزي، بعنترة الفلْحاء، لتشقّق شفتيه. كانت أمه أَمَةً حبشية تدعى زبيبة سرى إليه السواد منها. وكان من أحسن العرب شيمة ومن أعزهم نفساً، يوصف بالحلم على شدة بطشه، وفي شعره رقة وعذوبة. كان مغرماً بابنة عمه عبلة فقل أن تخلوله قصيدة من ذكرها. قيل أنه اجتمع في شبابه بامرئ القيس، وقيل أنه عاش طويلاً إلى أن قتله الأسد الرهيفي أو جبار بن عمرو الطائي.
وتعدّدت الروايات في وصف نهايته، فمنها: أنّ عنترة ظل ذاك الفارس المقدام، حتى بعد كبر سنه وروي أنّه أغار على بني نبهان من طيء، وساق لهم طريدة وهو شيخ كبير فرماه
- كما قيل عن ابن الأعرابي- زر بن جابر النبهاني قائلاً: خذها وأنا ابن سلمى فقطعمطاه، فتحامل بالرمية حتى أتى أهله ، فقال وهو ينزف: وإن ابنَ سلمى عنده فاعلموادمي- وهيهات لا يُرجى ابن سلمى ولا دمي
رماني ولم يدهش بأزرق لهذَمٍ- عشيّةحلّوا بين نعْقٍ ومخرَم
وخالف ابن الكلبي فقال: وكان الذي قتله يلقب بالأسدالرهيص. وفي رأي أبي عمرو الشيباني أنّ عنترة غزا طيئاً مع قومه، فانهزمت عبس، فخرّعن فرسه ولم يقدر من الكبر أن يعود فيركب، فدخل دغلا وأبصره ربيئة طيء، فنزل إليه،وهاب أن يأخذه أسيراً فرماه فقتله. أما عبيدة فقد ذهب إلى أن عنترة كان قد أسنّواحتاج وعجز بكبر سنّه عن الغارات، وكان له عند رجل من غطفان بكر فخرج يتقاضاهإيّاه فهاجت عليه ريح من صيف- وهو بين ماء لبني عبس بعالية نجد يقال له شرج آخر لهم يقال لها ناظرة- فأصابته فقتلته



العشر أبيات الاولى :




هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَـرَدَّمِ أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ

أَعْيَاكَ رَسْمُ الدَّارِ لَمْ يَتَكَلَّـمِ حَتَّى تَكَلَّمَ كَالأَصَـمِّ الأَعْجَـمِ

وَلَقَدْ حَبَسْتُ بِهَا طَوِيلاً نَاقَتِي أَشْكُو إلى سُفْعٍ رَوَاكِدِ جثَّـمِ

يَا دَارَ عَبْلَـةَ بِالجَوَاءِ تَكَلَّمِي وَعِمِّي صَبَاحَاً دَارَ عَبْلَةَ وَاسْلَمِي

دَارٌ لآنِسَةٍ غَضِيْضٍ طَرْفُـهَا طَوْعَ العِناقِ لذيـذةِ المُتَبَسَّـمِ

فَوَقَفْتُ فِيهَا نَاقَتِي وَكَأنَّـهَا فَدَنٌ لأَقْضِي حَاجَـةَ المُتَلَـوِّمِ

وَتَحُلُّ عَبْلَـةُ بِالجَـوَاءِ وَأَهْلُنَـا بِالْحَـزْنِ فَالصَّمَـانِ فَالمُتَثَلَّـمِ

حُيِّيْتَ مِنْ طَلَلٍ تَقادَمَ عَهْدُهُ أَقْوَى وَأَقْفَـرَ بَعْدَ أُمِّ الهَيْثَـمِ

حَلَّتْ بِأَرْضِ الزَّائِرِينَ فَأَصْبَحَتْ عَسِرَاً عَلَيَّ طِلاَبُكِ ابْنَـةَ مَخْرَمِ

عُلِّقْتُهَا عَرَضَاً وَاقْتُـلُ قَوْمَهَا زَعْمَاً لَعَمْرُ أَبِيكَ لَيْسَ بِمَزْعَـمِ

وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلا تَظُنِّـي غَيْرَهُ مِنِّي بِمَنْزِلَـةِ المُحِبِّ المُكْـرَمِ






مناسبة القصيدة :




لعنترة ديوان طبع طبعات مختلفة ومن طبعاته تلك التي حققها عبد المنعم شلبي وكتب مقدمتها إبراهيم الابياري ونشرتها المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة بدون تاريخ إن اغلب شعره في الوصف والحماسة والفخر وبعضه في الغزل واقله في الهجاء وذروته شعر المعلقة ولنظمها سبب يتصل بأصل عنترة إذا انتزع الشاعر الفارس إقرار أبيه بنسبه انتزاعا وبقى عليه انتزاع إقرار الناس بملكاته وحدث أن شتمه رجل من عبس وعيره بلونه فرد عليه عنترة قائلا :


إني لاحتضر البأس وأوافي المغنم .....وأعف عن المسألة وأجود بما ملكت يدي



فقال له الرجل أنا اشعر منك فرد عليه عنترة ستعلم دلك وانشد معلقته وفيها دليل على عبقريته في نظمها على الكامل وجعل رويها الميم وهي في شرح القز ويني 74 بيت وفي غيره من الكتب 75بيت





شرح الأبيات العشر الاولى :




المعلقة من حيث المبني :




إن المتمعن في المقطع الأول من المعلقة يجدها تعبر عن البكاء والدموع والذكريات التي حوتها الليالي وهي كذلك تعبر عن الألم العمى في نفسية الشاعر وهده عادة الشعراء الجاهليين


بدا عنترة معلقته بالوقوف على الأطلال والتسليم عليها والجزع لفراق الأحبة ووصف الديار المقفرة بعد رحيل أهلها عنها وهو ما نجده في الأبيات 08 الأولى إذ يقول فيها :




........



بغض النظر عن هده المقدمة الطلالية هناك أبيات يتحدث فيها الشاعر عن عشقه لعبلة ويأسه من فراقها فراح يشكو الصد والبعد ثم أشار إلى تبعه أخبارها وافتتانه بحبها وابتسامتها والتفاتتها إلا أن تغزل عنترة بعبلة نمط آخر من الغزل وهو الغزل العفيف الحب العذري كما برع عنترة في غرض الوصف وأطال فمن شدة حبه لجواده بلغ به المقام إلى التحليل النفسي وانتقل من التأدب و المصانعة في مخاطبة الأدهم إلى المشاركة الوجدانية


لقد صبر الأدهم عن الألسنة الوالغة في جلده ولحمه غادية رائعة في صدره كحبال البئر صاعدة هابطة ولم يخذل عنترة ولكن عنترة أحس بها في نفسه من شكوى مكظومة وألم حبيس إذ يقول :


يدعونا عنترة والرماح كأنما .......أشطان بئر لبان الأدهم


مازلت ارميهم نعرة اشتكي ...ولو كان لو علم الكلام مكلم



كما نجده يصف الحرب ومجرياتها وبلائه الحسن فيها ، ثم ينتقل إلى غرض الفخر وبما أن عنترة كان عاجزا عن مجارات سادة عبس لنسبه وأمجاده التالية فهو قادر على قهرهم بقوة الساعد ومضاء السيف من القوة الأنسب لها وزيدت الختام أن عنترة اطلع على الفخر الفردي نزعة واقعية وتتمثل في تقدير الخلق الكريم والقويم والعمل النافع والأمجاد الموروثة




من حيث المبنى :




1- نغم موسيقي رشيق تخلل كل القصيدة فاستعمل بحر الكامل الذي يتلاءم والأغراض الموجودة في القصيدة ولو كان يجزي والمحاورة اشتكى ولو كان لو علم الكلام مكلم


2- البناء متين شأنه شأن الشعراء الجاهلين المنظومين على القوة في التعيير والبلاغة نجده مثلا استعمل المقاطع تعبيرا عن آلمه وحزنه فيها يقول متردم ، رسم ، الدار ، أما حين راح يستعطف عبلة ويتذكر الذكريات الخالية قد استعمل مفردات ذات الحروف الخفيفة التي تحمل في طياتها معاني الود والشوق وظف


3- وظ الشاعر الكثير من الصور البيانية تعبيرا عن جمال الطبيعة وكذلك في وصف جوداه في قوله


4-و:ان قارة تاجر قسيمة ........سبقت عوارضها البك من الفم



زهير بن أبي سلمى





(... - 13 ق. هـ = ... - 609 م)








هو زهير بن أبي سُلمى ربيعةبن رباح بن قرّة بن الحارث بن إلياس بن نصر بن نزار، المزني، من مضر. حكيم الشعراءفي الجاهلية، وفي أئمة الأدب من يفضله على شعراء العرب كافة. كان له من الشعر ما لميكن لغيره، ولد في بلاد مزينة بنواحي المدينة، وكان يقيم في الحاجر من ديار نجد،واستمر بنوه فيه بعد الإسلام. قيل كان ينظم القصيدة في شهر ويهذبها في سنة، فكانتقصائده تسمى الحوليات. إنه، كما قال التبريزي، أحد الثلاثة المقدمين على سائرالشعراء، وإنما اختلف في تقديم أحد الثلاثة على صاحبيه، والآخران هما امرؤ القيسوالنّابغة الذبياني. وقال الذين فضّلوا زهيراً: زهير أشعر أهل الجاهلية



مناسبة قصيدة زهير بن ابي سلمة





هناك حوادث هامة أثرت في حياة زهير وصقلت موهبته منها الشعرية


حرب الداحس والغبراء : لما شب زهير كانت الحرب دائرة الرحى بين عبس وذبيان وطال بها الأمد


زوجته أم أوفى : وهي مناط غزله في معلقته بها افتتح قصيدته المطولة مما يدل على انه كان يحبها فذكر ديارها وبكى أطلالها ولكن الأقدار شاءت إن يموت أولاده فتزوج امرأة أخرى


وفاة ابنه سالم : يروى أن كان جميل المنظر وسيمة الطلعة رثاه والده في بعض الأبيات متأثرا بفراقه.


نظم زهير قصيدته استجابة لموقف هرم بن سنان والحارث بن عوف حيث مدحهما بصنيعهما وسعيهما في حقن الدماء وتحملهما ديات القتلى من القبيلتين عبس وذبيان ، دامت هذه الحرب 40 سنة ولم يقصد زهير بشعره تكسبا وإنما اعترافا منه بالفضل





مضمون المعلقة من حيث المعنى :




إن الناظر لمعلقة زهير بن أبي سلمه يجد أن هذا الأخير وقف في أبياته على جوانب عديدة إذ استطاع إن يحقق لصنعة الشعر في العصور القديمة كل ما يمكن من تجويد ، فالشعر عنده حرفة وقد اعتمد على الكثير من الأغراض ، إذ استهل معلقته كعادة الجاهلين بذكر الديار والوقوف على الآثار وهذا ما نستخلصه في البيت الأول ...من البيت 01 إلى 05


شرحها : في هذه الأبيات يصف الشاعر ديار أم أوفى فيقول أنها أصبحت كالوشم في المعصم ، والمعصم هو موضع السوار من اليد ، أما في البيت الثاني من الآبيات الأربعة يقول بهذه الديار بقر وحشي واسعات العيون وضباي يمشين خلفه ( تتابع ) أما البيتين الثالث والرابع فيقول وفقت بدار آم أوفى عشرين عام وعرفت دارها بعد جهد ومشقة ( توهم ) فلما عرفت الدار قلت مجيبا إياها طاب عيشك في صباحك ثم ينتقل الشاعر إلى نظم المعلقة وهو الإشادة الحميدة بالسيدين هرم بن سنان والحارث بن عوف



وهذه الآبيات التي قالها مشيدا بهما :



فأقسمت بالبيت الذي طاق حوله ...رجال بنوه من قريش وجرهم


يمينا لنعم السيدان وجدتما ....على كل حال من سحيل ومبرم


تداركتما عبسا وذبيان بعدما ....تفاونوا ودقوا بينهم عطر منشم


نجد بغض النظر عن الأغراض الأخرى غرض الحكمة في قوله :


سأمت تأليف الحياة ومن يعش ....ثمانين حولا لا أبا لك يسأم


رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ...تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم


ومن لم يصانع في أمور كثيرة ...يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم




مضمون القصيدة من حي المبنى :



للمعنى علاقة وثيقة بالمبنى وانطلاقا لما شرحناه نكتشف مضمون القصيدة من حيث المبنى


كما جاءت ألفاظ الشاعر زهير متناسقة الألفاظ واضحة المعاني دقيقة بحيث تمكن زهير من إشراكنا شعوريا في رحلته فيها من تعب ، واعتمد على نغمة موسيقية تحت تفعيلات البحر الطويل


فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن

**د لا ل**
2012-02-11, 16:24
معلقة عمرو بن كلثوم





عمرو بن كلثوم هو من قبيلة تغلب كان أبوه كلثوم سيد تغلب و أمه ليلى بنت المهلهل المعروف ( بالزير ) و في هذا الجو من الرفعة

و السؤدد نشأ الشاعر شديد الإعجاب بالنفس و بالقوم أنوفاً عزيز الجانب ، فساد قومه و هو في الخامسة عشرة من عمره تقع
معلقة ابن كلثوم في ( 100 ) بيت أنشأ الشاعر قسماً منها في حضرة عمرو بن هند ملك الحيرة و كانت تغلب قد انتدبت الشاعر للذود عنها
حين احتكمت إلى ملك الحيرة ، لحل الخلاف الناشب بين قبيلتي بكر و تغلب ، و كان ملك الحيرة ( عمرو بن هند ) أيضاً .
مزهواً بنفسه و قد استشاط عضباً حين وجد أن الشاعر لا يقيم له ورناً و لم يرع له حرمة و مقاماً فعمد إلى حيلة يذله بها فأرسل ( عمرو بن هند ) إلى عمرو بن كلثوم ( يستزيره )
و أن يزير معه أمه ففعل الشاعر ذلك و كان ملك الحيرة قد أوعز إلى أمه أن تستخدم ليلى أم الشاعر و حين طلبت منها أن تناولها الطبق قالت ليلى : لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها . . . . ثم صاحت ( واذلاه ) يالتغلب ! فسمعها ابنها عمرو بن كلثوم فوثب إلى سيف معلق بالرواق
فضرب به رأس عمرو بن هند ملك الحيرة و على إثر قتل الملك نظم الشاعر القسم الثاني من المعلقة و زاده عليها .
( و هي منظومة على البحر الوافر ) و من أطرف ما ذكر عن المعلقة أن بني تغلب كباراً و صغاراً كانوا يحفظونها و يتغنون بها




زمناً طويلاً . توفي الشاعر سنة نحو ( 600 ) للميلاد بعد أن سئم الأيام و الدهر.





الأبيات العشر من معلقته :






1- أَلا هُبِّي بصَحْنِكِ فَاصْبَحينا ............. وَلا تُبْقِي خُمورَ الأَندَرِينا



2- مُشَعْشَعَةً كانَّ الحُصَّ فيها ....... إِذا ما الماءُ خالَطَها سَخِينا




3- تَجُورُ بذي اللُّبَانَةِ عَنْ هَوَاهُ .......... إِذا مَا ذاقَها حَتَّى يَلِينا




4- تَرَى الّلحِزَ الشّحيحَ إِذا أُمِرَّتْ ............ عَلَيْهِ لمِالِهِ فيها مُهينا




5- صَبَنْتِ الْكَأْسَ عَنّا أُمَّ عَمْرٍو ...... وكانَ الْكَأْسُ مَجْراها الْيَمِينا




6- وَمَا شَرُّ الثّلاثَةِ أُمَّ عَمْروٍ ............ بِصاحِبِكِ الّذِي لا تصْبَحِينا




7- وَكَأسٍ قَدْ شَرِبْتُ بِبَعْلَبَكِّ ...... وَأُخْرَى في دِمَشْقَ وَقَاصِرِينا




8- وَإِنَّا سَوْفَ تُدْرِكُنا الَمنَايَا ................ مُقَدَّرَةً لَنا وَمُقَدِّرِينا




9- قِفِي قَبْلَ التَّفَرُّقِ يَا ظَعِينا ............ نُخَبِّرْكِ الْيَقِينَ وَتُخْبِرِينا








10- قِفِي نَسْأَلْكِ هَلْ أَحْدَثْتِ صِرْماً .... لِوَ شْكِ الْبَيْنِ أَمْ خُنْتِ اْلأَمِينَا





شرح الأبيات العشر :




هب من نومه يهب هبا : إذا استيقظ ، الصحن : القدح العظيم والجمع الصحون ، الصبح: سقي الصبوح ، والفعل صبح يصبح ، أبقيت الشيء وبقيته بمعنى ، الأندرون : قرى بالشام يقول : ألا استيقظي من نومك أيتها الساقية واسقيني الصبوح بقدحك العظيم ولا تدخري خمر هذه القرى



شعشعت الشراب : مزجته بالماء ، الحص : الورس ، وهونبت في نوار أحمر يشقه الزعفران . ومنهم من جعل سخينا صفة ومعناه الحار ، من سخن يسخن سخونة ، ومنهم من جعله فعلا من سخي يسخى سخاء ، وفيه ثلاث لغات : إحداهن ما ذكرنا ، والثانية سخو يسخو ، والثالثة سخا يسخو سخاوة يقول : اسقنيها ممزوجة بالماء كأنها من شدة حمرتها بعد امتزاجها بالماء ألقي فيها نور هذا النبت الأحمر ، وإذا خالطها الماء وشربناها وسكرنا جدنا بعقائل أموالنا وسمحنا بذخائر أعلاقنا ، هذا إذا جعلنا سخينا فعلا وإذا جعلناه صفة كان المعنى : كأنها حال امتزاجها بالماء وكون الماء حارا نور هذا النبت . ويروي شحينا ، بالشين المعجمة ، أي إذا خالطها الماء مملوءة به . والشحن : الملء ، والفعل شحن يشحن ، والشحين بمعنى المشحون كالقتيل بمعنى المقتول ، يريد أنها حال امتزاجها بالماء وكون الماء كثيرا تشبه هذا النور



يمدح الخمر ويقول : انها تميل صاحب الحاجة عن حاجته وهواه إذا ذاقها حتى يلين ، أي إنها تنسي الهموم والحوائج أصحابها فاذا شربوها لانوا ونسوا أحزانهم وحوائجهم




اللحز : الضيق الصدر ، الشحيح البخيل الحريص ، والجمع الأشحة الأشحاء ، الشحاح أيضا مثل الشحيح ، والفعل شح يشح والمصدر الشح وهو البخل معه حرص يقول : ترى الانسان الضيق الصدر البخيل الحريص مهينا لماله فيها ، أي في شرائها ، إذا أمرت الخمر عليه ، أي إذا أديرت عليه



الصبن : الصرف ، والفعل صبن يصبن يقول : صرفت الكأس عنا يا أم عمرو وكان مجرى الكأس على اليمين فأجريتها على اليسار



يقول : ليس بصاحبك الذي لا تسقينه الصبوح هو شر هؤلاء الثلاثة الذين تسقيهم ، أي لست شر أصحابي فكيف أخرتني وتركت سقيي الصبوح



يقول : ورب كأس شربتها بهذه البلدة ورب كأس شربتها بتينك البلدتين



يقول : سوف تدركنا مقادير موتنا وقد قدرت تلك المقادير لنا وقدرنا لها ، المنايا : جمع المنية وهي تقدير الموت



أراد يا ظعينة فرخم ، والظغينة : المرأة في الهودج ، سميت بذلك لظعنها مع زوجها ، فهي ، فعيلة بمعنى فاعلة ، ثم أكثر استعمال هذا الأسم للمرأة حتى يقال لها ظعينة وهي في بيت زوجها يقول : فقي مطيتك أيتها الحبيبة الظاعنة نخبرك بما قاسينا بعدك وتخبرينا بما لاقيت بعدنا



الصرم : القطيعة ، الوشك : السرعة ، والوشيك : السريع ، الأمين : بمعنى المأمون يقول : فقي مطيتك نسألك هل أحدثت قطيعة لسرعة الفراق أم هل خنت حبيبك الذي نؤمن خيانته ؟ أي هل دعتك سرعة الفراق إلى القطيعة أو الخيانة في مودة من لا يخونك في مودته إياك





معلقة طرفة بن العبد




هو عمرو بن العبد الملقب ( طرفة ) من بني بكر بن وائل ، ولد حوالي سنة 543 في البحرين من أبوين شريفين

و كان له من نسبه ما يحقق له هذه الشاعرية فجده و أبوه و عماه المرقشان و خاله المتلمس
كلهم شعراء مات أبوه و هو بعد حدث فكفله أعمامه إلا أنهم أساؤوا تريبته و ضيقوا عليه فهضموا
حقوق أمه و ما كاد طرفة يفتح عينيه على الحياة حتى قذف بذاته في أحضانها يستمتع بملذاتها فلها و سكر و لعب
و أسرف فعاش طفولة مهملة لاهية طريدة راح يضرب في البلاد حتى بلغ أطراف جزيرة العرب ثم عاد إلى قومه
يرعى إبل معبد أخيه ثم عاد إلى حياة اللهو بلغ في تجواله
بلاط الحيرة فقربه عمرو بن هند فهجا الملك فأوقع الملك به مات مقتولاً و هو دون الثلاثين من عمره سنة 569 . من آثاره : ديوان شعر أشهر ما فيه المعلقة
نظمها الشاعر بعدما لقيه من ابن عمه من سوء المعاملة و ما لقيه من ذوي قرباه من الاضطهاد في المعلقة ثلاثة أقسام كبرى
( 1 ) القسم الغزالي من ( 1 ـ 10 ) ـ ( 2 ) القسم الوصفي ( 11 ـ 44 ) ـ ( 3 ) القسم الإخباري ( 45 ـ 99 ) .
و سبب نظم المعلقة ( إذا كان نظمها قد تم دفعة واحدة فهو ما لقيه من ابن عمه من تقصير و إيذاء و بخل و أثرة و التواء عن المودة
و ربما نظمت القصيدة في أوقات متفرقة فوصف الناقة الطويل ينم على أنه وليد التشرد و وصف اللهو و العبث يرجح أنه نظم
قبل التشرد و قد يكون عتاب الشاعر لابن عمه قد نظم بعد الخلاف بينه و بين أخيه معبد . شهرة المعلقة و قيمتها : بعض النقاد
فضلوا معلقة طرفة على جميع الشعر الجاهلي لما فيها من الشعر الإنساني ـ العواصف المتضاربة ـ الآراء في الحياة ـ و الموت
جمال الوصف ـ براعة التشبيه ، و شرح لأحوال نفس شابة و قلب متوثب . في الخاتمة ـ يتجلى لنا طرفة شاعراً جليلاً من فئة
الشبان الجاهليين ففي معلقته من الفوائد التاريخية الشيء الكثير كما صورت ناحية واسعة من أخلاق العرب الكريمة و تطلعنا
على ما كان للعرب من صناعات و ملاحة و أدوات ... و في دراستنا لمعلقته ندرك ما فيها من فلسفة شخصية و من فن و تاريخ



الأبيات العشر من معلقته :






1-لخِولة أَطْلالٌ بِيَرْقَةِ ثَهْمَدِ ........... تَلُوحُ كَبَاقي الْوَشْمِ في طَاهِرِ الْيَدِ


2 - وُقُوفاً بِهَا صَحْبي عَلَيَّ مطِيَّهُمْ ......... يَقُولُونَ لا تَهْلِكْ أَسَىً وَتَجَلَّدِ

3 -كأنَّ حُدُوجَ الَمْالِكِيَّةِ غُدْوَةً ............. خَلا يا سَفِين بِالنَّوَاصِفِ مِنْ دَدِ

4 -عَدُو لِيَّةٌ أَوْ مِنْ سَفِينِ ابْنِ يَامِنٍ ......... يَجُوز بُهَا الْمّلاحُ طَوراً وَيَهْتَدِي

5 -يَشُقُّ حَبَابَ الَماءِ حَيْزُ ومُها بها ......... كما قَسَمَ التِّرْبَ الْمَفايِلُ باليَدِ

6 -وفِي الَحيِّ أَخْوَى يَنْفُضُ المرْ دَشادِنٌ ......... مُظَاهِرِ سُمْطَيْ لُؤْلؤٍ وَزَبَرْجَدِ

7 -خَذُولٌ تُراعي رَبْرَباً بِخَميلَةٍ ............... تَنَاوَلُ أَطْرَافَ الَبريرِ وَتَرْتَدِي

8 - وَتَبْسِمُ عَنْ أَلْمى كأَنَّ مُنَوّراً ........... تَخَلَّلَ حُرَّ الرَّمْلِ دِعْصٍ لَهُ نَدِ

9 -سَقَتْهُ إِيَاُة الشَّمْس إِلا لِثَاتِهِ ............. أُسِفّ وَلَمْ تَكْدِمْ عَلَيْهِ بإثْمدِ


10 -وَوَجْهٌ كأنَّ الشَّمْسَ أَلفَتْ رِداءَهَا ......... عَلَيْهِ نَقِيُّ اللَّوْنِ لَمْ يَتَخَدَّدِ


شرح العشر ابيات :



خولة : اسم امرأة كلبية ، الطلل : ماشخص من رسوم الدار ، والجمع أطلال وطلول ، البرقة والأبرق والبرقاء : مكان اختلط ترابه بحجارة أو حصى ، والجمع الأبارق والبراق والبرق ، ثهمد : موضع ، تلوح : تلمع ، واللوح اللمعان ، الوشم : غرز ظاهر اليد وغيره بإبرة وحشو المغارز بالكحل أو النقش بالنيلج ، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لعن الله الواشمة والمستوشمة " يقول : لهذه المرأة أطلال ديار بالموضع الذي يخالط أرضه حجارة وحصى من ثهمد فتلمع تلك الأطلال لمعان بقايا الوشم في ظاهر الكف


تفسير البيت هنا كتفسيره في قصيدة أمرىء القيس ، التجلد : تكلف الجلادة ، أي التصبر


الحدج : مركب من مراكب النساء ، والجمع حدوج وأحداج ، المالكية : منسوبة إلى بني مالك قبيلة من كلب ، الخلايا: جمع الخلية وهي السفينة العظيمة ، السفين : جمع سفينة ، النواصف : جمع الناصفة ، وهي أماكن تتسع من نواحي الأودية مثال السكك وغيرها ، دد ، قيل : هو اسم واد في هذا البيت ، وقيل دد مثل يد ، يقول : كأن مراكب العشيقة المالكية غدوة فراقها بنواحي وادي دد سفن عظام . شبه الشاعر الإبل و عليها الهوادج بالسفن العظام ، وقيل : بل حسبها سفنا عظاما من فرط لهوه وولهه ، إذا حملت ددا على اللهو ، وإن حملته على أنه واد بعينه فمعناه على القول الأول

عدولي : قبيلة من أهل البحرين ، وابن يامن : رجل من أهلها ، الجور : العدول عن الطريق ، والباء للتعدية ، الطور : التارة ، والجمع الأطوار يقول : هذه السفن التي تشبهها هذه الإبل من هذه القبيلة أو من سفن هذا الرجل ، الملاح يجريها مرة على استواء واهتداء ، وتارة يعدل بها فيميلها عن سنن الاستواء ، وكذلك الحداة تارة يسوقون هذه الإبل على سمت الطريق ، وتارة يميلها عن الطريق ليختصروا المسافة ، وخص سفن هذه القبيلة وهذا الرجل لعظمها وضخمها ثم شبه سوق الإبل تارة على الطريق وتارة على غير الطريق بإجراء الملاح السفينة مرة على سمت الطريق ومرة عادلا عن ذلك السمت
حباب الماء : أمواجه ، الواحدة حبابة ، الحيزوم : الصدر ، والجمع : الحيازم ، الترب والتراب والترباء والتورب والتيراب والتوراب واحد ، الفيال : ضرب من اللعب ، وهو أن يجمع التراب فيدفن فيه شيء، ثم يقسم التراب نصفين ، ويسأل عن الدفين في أيهما هو ، فمن أصاب فسمر ومن أخطأ فمر ، يقال : فايل هذا الرجل يفايل مفايلة وفيالا إذا لعب بهذا الضرب من اللعب . شبه الشاعر شق السفن الماء بشق المفايل التراب المجموع بيده
الأحوى : الذي في شفتيه سمرة ، يقال : حوي الفرس مال إلى السواد ، فعلى هذا شادن صفة أحوى ، وقيل بدل من أحوى ، وينفض المرد صفة أحوى ، الشادن : الغزال الذي قوي واستغني عن أمه ، المظاهر : الذي لبس ثوبا فوق ثوب أو درعا فوق درع ، السمط : الخيط الذي نظمت فيه الجواهر ، والجمع سموط يقول : وفي الحي حبيب يشبه ظبيا أحوى في كحل العينين وسمرة الشفتين في حال نفض الظبي ثمر الأراك لأنه يمد عنقه في تلك الحال ، ثم صرح بأنه يريد إنسانا ، وقال قد لبس عقدين أحدهما من اللؤلؤ والآخر من الزبرجد ، شبهه بالظبي في ثلاثة أشياء : في كحل العينين وحوة الشفتين ، وحسن الجيد ، ثم أخبر أنه متحل بعقدين من لؤلؤ وزبرجد

خذول : أي خذلت أولادها ، تراعي ربربا: أي ترعى معه ، الربرب : القطيع من الظباء وبقر الوحش ، الخميلة : رملة منبتة ، البرير: ثمر الأراك المدرك البالغ ، الواحدة بريرة ، الارتداء والتردي : لبس الدراء يقول : هذه الظبية التي اشبهها الحبيب ظبية خذلت اولادها وذهبت مع صواحبها في قطيع من الظباء ترعى معها في أرض ذات شجر أو ذات رملة منبتة تتناول اطراف الأراك وترتدي بأغصانه ، شبه الشاعر طول عنق الحبيب وحسنه بذلك


الألمى : الذي يضرب لون شفتيه إلى السواد ، والانثى لمياء ، والجمع لمي ، والمصدر اللمى ، والفعل لمي يلمى ، البسم والتبسم والابتسام واحد ، كأن منورا يعني اقحوانا منورا ، فحذف الموصوف اجتزاء بدلالة الصفة عليه ، نور النبت خرج نوره فهو منور ، حر كل شيء: خالصة ، الدعص : الكثيب من الرمل ، والجمع الادعاص ، الندى يكون دون الابتلال ، والفعل ندي يندى ندى ، ونديته تندية يقول وتبسم الحبيبة عن ثغر ألمى الشفتين كأنه أقحوان خرج نوره في دعص ند يكون ذلك الدعص فيما بين رمل خالص لايخالطه تراب ، وإنما جعله نديا ليكون الاقحوان غضا ناضرا


إياة الشمس وإياها : شعاعها ، اللثة : مغرز الأسنان ، والجمع اللثات ، الإسفاف : إفعال سففت الشيء أسفه سفا ، الإثمد : الكحل ، الكدم : العض . ثم وصف ثغرها فقال : سقاة شعاع الشمس ، أي كأن الشمس أعارته ضوءها . ثم قال : إلا لثاته ، يستثنى اللثات لأنه لا يستحب بريقها . ثم قال : إلا لثاته ، يستثنى اللثات لأنه لا يستحب بريقها . ونساء العرب تذر الإثمد على الشفاه واللثات فيكون ذلك أشد لمعان الأسنان

التخدد : التشنج والتغضن يقول : وتبسم عن وجه كأن الشمس كسته ضياءها وجمالها ، فاستعار لضياء الشمس اسم الرداء ، ثم ذكر ان وجهها نقي اللون غير متشنج متغضن . وصف وجهها بكمال الضياء والنقاء والنضارة ، وجر الوجه عطفا على ألمى




الحارث بن حلزة




نحو (... - 54 ق. هـ = ... - 570 م)





هو الحارث بن ظليم بن حلزّة اليشكري ، من عظماء قبيلة بكر بن وائل ، كان شديد الفخر بقومه حتى ضرب
به المثل فقيل : أفخر من الحارث بن حلزة ، ولم يبق لنا من أخباره إلا ما كان من أمر الاحتكام إلى عمرو بن هند سنة ( 554 ـ 569 )
لأجل حل الخلاف الذي وقع بين القبيلتين بكر و تغلب توفي سنة 580 للميلاد أي في أواخر القرن السادس الميلادي على وجه
التقريب . أنشد الشاعر هذه المعلقة في حضرة الملك عمرو بن هند رداً على عمرو بن كلثوم
و قيل أنه قد أعدّها و روّاها جماعة من قومه لينشدوها نيابة عنه لأنه كان برص و كره أن ينشدها من وراء سبعة ستور
ثم يغسل أثره بالماء كما كان يفعل بسائر البرص ثم عدل عن رأيه و قام بإنشادها بين يدي الملك
و بنفس الشروط السابقة فلما سمعها الملك و قد وقعت في نفسه موقعاً حسناً أمر برفع الستور و أدناه منه و أطمعه في جفنته

و منع أن يغسل أثره بالماء ... كان الباعث الأساسي لإنشاد المعلقة دفاع الشاعر عن قومه و تفنيد أقوال خصمه عمرو بن كلثوم ـ



معلومات حول المعلقة :





تقع المعلقة في ( 85 ) خمس و ثمانين بيتاً نظمت بين عامي ( 554 و 569 ) . شرحها الزوزني ـ
و طبعت في اكسفورد عام 1820 ثم في بونا سنة 1827 و ترجمت إلى اللاتينية و الفرنسية و هي همزية على البحر الخفيف




تقسم المعلقة إلى : 1 ـ مقدمة : فيها وقوف بالديار ـ و بكاء على الأحبة و وصف للناقة ( 1 ـ 14( 2 ـ المضمون : تكذيب أقوال التغلبيين من ( 15 ـ 20 )
عدم اكتراث الشاعر و قومه بالوشايات ( 21 ـ 31 ) مفاخر البكريين ( 32 ـ 39 ) مخازي التغلبيين و نقضهم للسلم ( 40 ـ 55 )
استمالة الملك ـ ذكر العداوة ( 59 ـ 64 ) مدح الملك ( 65 ـ 68 ) خدما البكريين للملك ( 69 ـ 83 ( القرابة بينهم
وبين الملك ( 84 ـ 85 ( . قيمة المعلقة : هي نموذج للفن الرفيع في الخطابة و الشعر الملحمي و فيها قيمة أدبية
و تاريخية كبيرة تتجلى فيها قوة الفكر عند الشاعر و نفاذ الحجة كما أنها تحوي القصص و ألواناً من التشبيه الحسّي
كتصوير الأصوات و الاستعداد للحرب و فيها من الرزانة ما يجعلها أفضل مثال للشعر السياسي و الخطابي في ذلك العصر .

و في الجملة جمعت المعلَّقة العقل و التاريخ و الشعر و الخطابة ما لم يجتمع في قصيدة جاهلية أخرى



الأبيات العشر من المعلقة :






1- آذَنَتْنا ببَيْنهِا أَسْمَاءُ ..................... ربَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ اُلْثَّوَاءُ

2- بَعْدَ عَهْدٍ لَنَا بِبُرْقَةِ شَمّا ............... ءَ فَأَدْنَى دِيَارِهَا اٌلْخَلْصاءُ

3- فَالُمحَيَّاةُ فالصِّفاحُ فَأَعْنا ............... قُ فِتَاقٍ فَعادِبٌ فَالْوَفَاءُ

4- فَرِياضُ اُلْقَطَا فأوْدِيَةُ الشُّرْ ...............بُبِ فالشُّعْبَتَانِ فالأَبْلاءُ

5- لا أرى مَنْ عَهِدْتُ فيهَا فأبكي اٌلْـ ......... ـيَوْمَ دَلْهاً وَمَا يُحِيرُ اُلْبُكَاء

6- وَبِعَيْنَيْكَ أَوْقَدَتْ هِنْدٌ اُلْنَّا ................. رَ أَخِيراً تُلْوِي بِها اُلْعَلْيَاءُ

7- فَتَنَوَّرْتُ نَارَهَا مِنْ بَعيدٍ ............... بِخَزَازَى هَيْهاتَ منْكَ الصَّلاءُ

8- أوْقَدَتْها بَينَ اُلْعَقِيقِ فَشَخْصَيْـ ............نِ بِعُودٍ كما يَلُوحُ الضٍّيَاءُ

9- غَيْرَ أَنّي قَدْ أَسْتَعِينُ على اٌلَهْمٍّ ........... إذا خَفَّ بالثَّوِيٍّ النٍّجاءُ




10- بِزَفُوفٍ كَأُنَّهَا هقْلَةٌ أُمُّ .......................... رئَالٍ دوِّيَّةٌ سَقْفاءُ





شرح العشر أبيات الاولى :




الإيذان : الإعلام ، البين : الفراق ، الثواء والثوي : الإقامة ، والفعل ثوى يثوي يقول : أعلمتنا أسماء بمفارقتها إيانا ، أي بعزمها على فراقنا , ثم قال : رب مقيم تمل إقامته ولم تكن أسماء منهم ، يريد أنها وإن طالت إقامتها لم أمللها ، والتقدير : رب ثاو يمل من ثوائه


العهد : اللقاء ، والفعل عهد يعهد يقول : عزمت على فراقنا بعد أن لقيتها ببرقة شماء وخلصاء التي هي أقرب ديارها إلينا

هذه كلها مواضع عهدها بها يقول : وقد عزمت على مفارقتنا بعد طول العهد

الاحارة : الرد من قولهم : حار الشيء يحور حورا ، أي رجع ، وأحرته أنا أي رجعته فرددته يقول : لا أرى في هذه المواضع من عهدت فيها ، يريد أسماء ، فأنا أبكي اليوم ذاهب العقل وأي شيء رد البكاء على صاحبه ؟ وهذا استفهام يتضمن الجحود ، أي لا يرد البكاء على صاحبه فائتا ولا يجدي عليه شيئا .. تحرير المعنى: لما خلت هذه المواضع منها بكيت جزعا لفراقها مع علمي بأنه لا طائل في البكاء ، الدله : ذهاب العقل ، والندليه إزالته

ألوى بالشيئ : أشار به . العلياء : البقعة العالية يخاطب نفسه ويقول : وإنما أوقدت هند النار بمرآك ومنظر منك ، وكأن البقعة العالية التي أوقدتها عليها كانت تشير إليك بها .. يريد أنها ظهرت لك أتم ظهور فرأيتها أتم رؤية

التنور : النظر إلى النار ، خزازى : بقعة بعينها ، هيهات : بعد الأمر جدا ، الصلاء : مصدر صلى النار ، وصلي بالنار يصلى صلى ويصلا إذا احترق بها أو ناله حرها يقول : ولقد نظرت إلى نار هند بهذه البقعة على بعد بيني وبينها لأصلاها ، ثم قال : بعد منك الاصطلاء بها جدا ، أي أردت أن آتيها فعاقتني العوائق من الحروب وغيرها

يقول : أوقدت هند تلك النار بين هذين الموضعين بعود فلاحت كما يلوح الضياء

غير أني : يريد لكني ، انتقل من النسيب إلى ذكر حاله في طلب المجد ، الثوي والثاوي : المقيم ، النجاء : الاسراع في السير ، والباء للتعدية يقول : ولكني أستعين على إمضاء همي وقضاء أمري إذا أسرع المقيم في السير لعظيم الخطب وفظاعة الخوف

الزفيف : إسراع النعامة في سيرها ثم يستعار لسير غيرها ، والفعل زف يزف ، والنعت زاف ، والزفوف مبالغة ، الهقلة : النعامة ، والظليم هقل ، الزأل : ولد النعامة ، والجمع : رئال ، الدوية منسوبة إلى الدو وهي المفازة ، سقف : طول مع انحناء ، والنعت أسقف يقول : أستعين على إمضاء همي وقضاء أمري عند صعوبة الخطب وشدته بناقة مسرعة في سيرها كأنها في إسراعها في السير نعامة لها أولاد طويلة منحنية لا تفارق المفاوز






لبيد بن ربيعة



( ... - 41 هـ = ... - 661 م)


هو لبيد بن ربيعة بن مالك العامري، أبو عقيل، من هوازن قيس. كان من الشعراء المعدودين وأحد الشعراء الفرسان الأشراف في الجاهلية، من أهل عالية نجد، أدرك الإسلام، ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم. يعد من الصحابة، ومن المؤلفة قلوبهم. ترك الشعر فلم يقل في الإسلام إلا بيتاً واحداً. وسكن الكوفة وعاش عمراً طويلاً.
اهتم المستشرقون الغربيون بشعراء المعلقات وأولوا اهتماماً خاصاً بالتعرف على حياتهم، فقد قالت ليدي آن بلنت وقال فلفريد شافن بلنت عن لبيد في كتاب لهما عن المعلقات السبع صدر في بداية القرن العشرين: عاش أيضاً في الجاهلية والإسلام. عمر طويلاً وترك نظم الشعر بعد إسلامه. قصة إسلامه أسطورة ورعٍ، إذ أن أخيه أربد قدم إلى الرسول بتفويض من كلاب وقد عزم، كما يقال، على غدره وقتله. حين نطق بعض كلمات عاقة ضربته صاعقة برق واختفى

كان لبيد شاعراً مخضرماً شهد الجاهلية والإسلام. هناك عدة روايات حول إسلامه. وفق الأغاني كان لبيد ضمن وفد ذهب إلى الرسول بعد وفاة أخ لبيد أربد، الذي قتلته صاعقة بعد يوم أو يومين من إلقائه خطبة ضد مباديء العقيدة الإسلامية. وهناك اعتنق الإسلام وكان طاعناً في السن. يقول آخرون إن تعليق القصائد على باب الكعبة كان عادة الشعراء كتحد عام في سوق عكاظ القادم، وهذا ما جعل لبيد يقول:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل*** وكل نعيم لا محالة زائل

استقر لبيد في الكوفة بعد إسلامه حيث وافته المنية قرابة نهاية عهد معاوية (660 ميلادية) في سن 157 سنة كما يذكر ابن قتيبة أو 145 كما ورد في الأغاني، تسعون منها في الجاهلية وما تبقى في الإسلام.
أرسل حاكم الكوفة يوماً في طلب لبيد وسأله أن يلقي بعضاً من شعره فقرأ لبيد الجزء الثاني من القرآن الكريم (سورة البقرة) وقال عندما انتهى " منحني الله هذا عوض شعري بعد أن أصبحت مسلماً."

عندما سمع الخليفة عمر بذلك أضاف مبلغ 500 درهم إلى 2000 درهم التي كان يتقاضها لبيد. حين أصبح معاوية خليفة اقترح تخفيض راتب الشاعر، ذكره لبيد أنه لن يعيش طويلاً. تأثر معاوية ودفع مخصصه كاملاً، لكن لبيد توفي قبل أن يصل المبلغ الكوفة.


أبيات العشر من المعلقة



ِعَفَتِ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا _ بِمِنَىً تَأَبَّـدَ غَوْلُهَا فَرِجَامُهَـا



فَمَدَافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُهَـا _ خَلَقَاً كَمَا ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُهَا



دِمَنٌ تَجَرَّمَ بَعْدَ عَهْدِ أَنِيسِهَا _ حِجَجٌ خَلَوْنَ حَلالُهَا وَحَرَامُهَا



رُزِقَتْ مَرَابِيْعَ النُّجُومِ وَصَابَهَا _ وَدْقُ الرَّوَاعِدِ جَوْدُهَا فَرِهَامُهَا



مِنْ كُلِّ سَارِيَةٍ وَغَادٍ مُدْجِنٍ _ وَعَشِيَّةٍ مُتَجَـاوِبٍ إِرْزَامُهَا



فَعَلا فُرُوعُ الأَيْهُقَانِ وأَطْفَلَتْ _ بِالجَلْهَتَيْـنِ ظِبَاؤُهَا وَنَعَامُهَـا



وَالعِيْـنُ سَاكِنَةٌ عَلَى أَطْلائِهَا _ عُوذَاً تَأَجَّلُ بِالفَضَـاءِ بِهَامُهَا



وَجَلا السُّيُولُ عَنْ الطُّلُولِ كَأَنَّهَا _ زُبُرٌ تُجِدُّ مُتُونَهَا أَقْلامُـهَا



أَوْ رَجْعُ وَاشِمَةٍ أُسِفَّ نَؤُورُهَا _ كِفَفَاً تَعَرَّضَ فَوْقَهُنَّ وِشَامُهَا



فَوَقَفْتُ أَسْأَلُهَا وَكَيْفَ سُؤَالُنَا _ صُمَّاً خَوَالِدَ مَا يَبِيْنُ كَلامُهَا




شرح أبيات المعلقة




عفا لازم ومتعد ، يقال : عفت الريح المنزل وعفا المنزل نفسه عفوا وعفاء ، وهو في البيت لازم ، المحل من الديار : ما حل فيه لأيام معدودة ، والمقام منها ما طالت إقامته به ، منى : موضع يحمى ضرية غير منى الحرم ، ومنى ينصرف ولا ينصرف يذكر ويؤنث ، تأبد : توحش وكذلك أبد يؤبد يأبد أبودا ، الغول والرجام : جبلان معروفان . ومنه قول أوس بن حجر : زعمتم أن غولا والرجام لكم ومنعجا فاذكروا فالأمر مشترك يقول : عفت ديار الأحباب وانمحت منازلهم ماكان منها للحلول دون الإقامة وما كان منا للإقامة ، وهذه الديار كانت بالموضع المسمى منى ، وقد توحشت الديار الغولية والديار الرجامية منها لارتحال قطانها واحتمال . سكانها ، والكناية في غولها ورجامها راجعة إلى الديار ، قوله : تأبد غولها ، أي ديار غولها ورجامها . فحذف المضاف
المدافع : أماكن يندفع عنها الماء من الربى والأخياف ، والواحد مدفع ، الريان : جبل معروف . ومنه قول جرير : ياحبذا جبل الريان من جبل وحبذا ساكن الريان من كنا التعرية : مصدر عريته فعري وتعرى ، الوحي : الكتابة ، والفعل وحى يحي والحي الكتاب ، والجمع الوحي ، السلام : الحجارة ، والواحد سلمة بكسر اللام ، فمدفع معطوف على قوله غولها يقول : توحشت الديار الغولية والرجامية ، وتوحشت مدافع جبل الريان لارتحال الأحباب منها واحتمال الجيران عنها. ثم قال : وقد توحشت وغيرت رسوم هذه الديار فعريت خلقا وإنما عرتها السيول ولم تنمح بطول الزمان فكأنه كتاب ضمن حجرا ، شبه بقاء الآثار لعدة أيام ببقاء الكتاب في الحجر ، ونصب خلقا على الحال ، والعامل فيه عري ، والمضمر الذي أضيف اليه سلام عائد إلى الوحي

التجرم : التكمل والانقطاع ، يقال ، تجرمت السنة وسنة مجرمة أي مكملة ، العهد ، اللقاء ، والفعل عهد يعهد ، الحجج : جمع حجة وهي السنة . وأراد بالحرام الأشهر الحرم ، وبالحلال أشهر الحل ، الخلو : المضي ومنه الأمم الخالية ، ومنه قوله عز وجل "وقد خلت القرون من قبلي" يقول : هي آثار ديار قد تمت وكملت وانقطعت إذ بعد عهد سكانها بها سنون مضت أشهر الحرم وأشهر الحل منها ، وتحرير المعنى : قد مضت بعد ارتحالهم عنها سنون بكمالها ، خلون : المضمر فيه راجع إلى الحجج ، وحلالها بدل من الحجج ، وحرامها معطوف عليها ، والسنة لا تعدو أشهر الحرم وأشهر الحل ، فعبر عن مضي السنة بمضيهما


مرابيع النجوم : الأنواء الربيعية وهي المنازل التي تحلها الشمس فصل الربيع ، الواحد مرباع ، الصوب : الإصابة ، يقال : صابه أمر كذا وأصابه بمعنى ، الودق : المطر ، وقد ودقت السماء تدق ودقا إذا أمطرت الجود : المطر التام العام ، وقال ابن الأنباري : هو المطر الذي يرضي أهله وقد جاد يجوده جودا فهو جود ، الرواعد : ذوات الرعد من السحاب ، واحدتها راعدة ، الرهام والرهم : جمع رهمة وهي المطرة التي فيها لين يقول : رزقت الديار والدمن أمطار الأنواء الربيعية فأمرعت وأعشبت وأصابها مطر ذوات الرعود من السحائب ما كان منه عاما بالغا مرضيا أهله وما كان منه لينا سهلا . وتحرير المعنى : أن تلك الديار ممرعة معشبة لترادف الأمطار المختلفة عليها ونزاهتها

السارية : السحابة الماطرة ليلا ، والجمع السواري ، المدجن : الملبس آفاق السماء بظلامه لفرط كثافته ، والدجن إلباس الغيم آفاق السماء ، وقد أدحن الغيم ، الإرزام : التصويت ، وقد أرزمت الناقة إذا رغت ، والأسم الرزمة ، ثم فسر تلك الأمطار فقال : هي كل مطر سحابة سارية ومطر سحاب غاد يلبس آفاق السماء بكثافته وتراكمه وسحابة عشية تتجاوب أصواتها ، أي كأن وعودها تتجاوب ، جمع لها أمطار السنة لأن أمطار الشتاء أكثرها يقع ليلا ، وأمطار الربيع يقع أكثرها غداة وأمطار الصيف يقع أكثرها عشيا . كذا زعم مفسرو هذا البيت
الأيهقان : بفتح الهاء وضمها : ضرب من النبت وهو الجرجير البري ، أطفلت أي صارت ذوات الأطفال ، المجلهتان : جانبا الوادي : ثم أخبر عن إخصاب الديار وأعشابها فقال : علت بها فروع هذا الضرب من النبت وأصبحت الظباء والنعام ذوات أطفال بجانبي وادي هذه الديار ، قوله : ظباؤها ونعامها ، يريد وأطفلت ظباؤها وباضت نعامها ، لأن النعام تبيض ولا تلد الأطفال ، ولكنه عطف النعام على الظباء في الظاهر لزوال اللبس . ومثله قول الشاعر: إذا ما الغانيات برزن يوما وزججن الحواجب والعيونا أي وكحلن العيون ، وقوله الآخر: تراه كأن الله يجدع أنفه وعينيه أن مولاه صار له وفر أي ويفقأ عينيه ، وقول الآخر : ياليت زوجك قد غدا منقلدا سيفا ورمحا أي وحاملا رمحا ، تضبط نظائر ما ذكرنا ، وزعم كثير من الأئمة النحويين والكوفيين أن هذا المذهب سائغ في كل موضع ، ولوح أبو الحسن الأخفش إلى أن المعول فيه على السماع
العين : واسعات العيون ، الطلا : ولد الوحش حين يولد إلى أن يأتي عليه شهر ، والجمع الأطلاء ، ويستعار لولد الإنسان وغيره ، العوذ : الحديثات النتاج ، الواحدة عائذ ، مثل عائط وعوط ، وحائل وحول ، وبازل وبزل ، وفاره وفره ، وجمع الفاعل على فعل قليل معول فيه على الحفظ ، الاجل أجلا ، الفضاء : الصحراء ، البهام : أولاد الضأن اذا انفردت ، وإذا اختلطت بأولاد الضأن أولاد الماعز قيل للجمع بهام ، وإذا انفردت أولاد العز من أولاد الضأن لم تكن بهاما ، وبقر الوحش بمنزلة الضأن ، وشاة الجبل بمنزلة المعز عند العرب ، وواحدة البهام بهم ، وواحد البهم بهمة ، ويجمع البهام على البهمات يقول : والبقر الواسعات العيون قد سكنت وأقامت على أولادها ترضها حال كونها حديثات النتاج وأولادها تصير قطيعا في تلك الصحراء فالمعنى من هذا الكلام : أنها صارت مغنى الوحش بعد كونها مغنى الإنس . ونصب عوذا على الحال من العين
جلا : كشف ، يجلو جلاء ، وجلوت العروس جلوة من ذلك ، وجلوت السيف جلاء صقلته ، منه أيضا ، السيول : جمع سيل مثل بيت بيوت ، شيخ وشيوخ ، الطلول : جمع الطلل ، الزبر : جمع زبور وهو الكتاب ، والزبر الكتابة ، والزبور فعول بمعنى المفعول بمنزلة الركوب والحلوب بمعنى المركوب والمحلوب ، الإجداد والتجديد واحد يقول : وكشفت السيول عن أطلال الديار فأظهرتها بعد ستر التراب إياها ، فكأن الديار كتب تجدد الأقلام كتابتها .. فشبه الشاعر كشف السيول عن الأطلال التي غطاها التراب بتجديد الكتاب سطور الكتاب الدارس ، وظهور الأطلال بعد دروسها بظهور السطور بعد دروسها ، وأقلام مضافة إلى ضمير زبر ، وأسم كان ضمير الطلول

الرجع الترديد والتجديد ، وهو من قولهم : رجعته أرجعته رجعا فرجع يرجع رجوعا . وقد فسرنا الواشمة ، الاسفاف : الذر ، وهو من قولهم : سف زيد السويق وغيره يسفه سفا النؤور : ما يتخذ من دخان السراج والنار ، وقيل : النيلج ، الكفف : جمع كفة وهي الدارات ، وكل شيئ مستدير كفة ، بكسر الكاف ، وجمعها كفف ، وكل مستطيل كفة بضمها ، والجمع كفف ، كذا حكى الأئمة ، تعرض وأعرض : ظهر ولاح ، الوشام : جمع وشم ، شبه ظهور الأطلال بعد دروسها بتجديد الكتابة وتجديد الوشم يقول : كأنها زبر أو ترديد واشمة وشما قد ذرت نؤورها في دارات ظهر الوشام فوقها فأعادتها كما تعيد السيول الأطلال إلى ما كانت عليه ، فجعل إظهار السيل الأطلال كإظهار الواشمة الوشم ، وجعل دروسها كدروس الوشم ، نؤورها اسم ما لم يسم فاعله ، وكففا هو المفعول الثاني بقي على انتصابه بعد إسناد الفعل إلى المفعول ، وشامها : فاعل تعرض وقد أضيف إلى ضمير الواشمة


الصم : الصلاب ، والواحد أصم والواحدة صماء ، خوالد : بواق ، يبين : بان يبين بيانا ، وأبان قد يكون بمعنى أظهر ويكون بمعنى ظهر ، وكذلك بين وتبين بالتضعيف قد يكون بمعنى ظهر وقد يكون بمعنى عرف واستبان كذلك ، فالأول لازم والأربعة الباقية قد تكون لازمة وقد تكون متعدية ، وقولهم : بين الصبح لذي عينين ، أي ظهر فهو هنا لازم ويروى في البيت : ما يبين كلامها وما يبين ، بفتح الياء وضمها ، وهما هنا بمعنى ظهر يقول : فوقفت أسأل الطلول عن قطانها وسكانها ، ثم قال وكيف سؤالنا حجارة صلابا بواقي لا يظهر كلامها ، أي كيف يجدي هذا السؤال على صاحبه وكيف ينتفع به السائل ؟ لوح إلى أن الداعي إلى هذا السؤال فرط الكلف والشغف وغاية الوله ، وهذا مستحب في النسيب والمرئية لأن الهوى والمصيبة يدلهان صاحبهما

**د لا ل**
2012-02-11, 16:27
النابغة الذبياني


(... - 18 ق. هـ = ... - 605 م)

هو زياد بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن مرّة بن عوف بن سعد، الذبياني، الغطفاني، المضري. شاعر جاهلي من الطبقة الأولى، من أهل الحجاز، ينتهي نسبه كما قال التبريزي إلى قيس بن عيلان، ويكنى بأبي أمامة، وقيل بأبي ثمامة، كما هو وارد في "الشعر والشعراء"، وبأبي عقرب على ما يذهب إليه البغدادي في خزانة الأدب. والنابغة لقب غلب على الشاعر، اختلف النقاد في تعليله وتفسيره، أما ابن قتيبة فيذكر أنه لقب بالنّابغة لقوله:
وحلّت في بني القين بن جسر- فقد نبغت لهم منا شؤون
وردّ ابن قتيبة هذا اللقب إلى قولهم: "ونبغ- بالشعر- قاله بعد ما احتنك وهلك قبل أن يهتر". وفي رأي البغدادي، أن هذا اللقب لحقه لأنه لم ينظم الشعر حتى أصبح رجلاً. وربّما كان اللقب مجازاً، على حدّ قول العرب: نبغت الحمامة، إذا أرسلت صوتها في الغناء، ونبغ الماء إذا غزر. فقيل: نبغ الشاعر، والشاعر نابغة، إذا غزرت مادة شعره وكثرت. ولا يعرف شيئاً يذكر عن نشأة الشاعر قبل اتصاله بالبلاط، فيما خلا ما نقله صاحب الروائع عن المستشرق دي برسفال، من مزاحمة النّابغة لحاتم الطائيّ على ماوية، وإخفاقه في ذلك.

وتتفق روايات المؤرخين على أن النّابغة نال حظوة كبيرة عند النعمان الذي قرّبه إليه بعد أن أحسن وفادته. ولا شك أن الشاعر نزل من نفس الملك منزلة طيبة فآثره هذا بأجزل عطاياه وأوفر نعمه، مما لم ينله شاعر قبله، ويذكر أبو الفرج في أغانيه أن النّابغة كان يأكل ويشرب في آنية من الفضة والذهب. وعن ابن قتيبة عن ابن الكلبي الرواية الآتية التي تثبت مكانة الشاعر عند النعمان. قال حسان بن ثابت: رحلت النعمان فلقيت رجلاً فقال: أين تريد فقلت هذا الملك قال: فإنك إذا جئته متروك شهراً، ثم يسأل عنك رأس الشهر ثم أنت متروك شهراً آخر ثم عسى أن يأذن لك فإن أنت خلوت به وأعجبته فأنت مصيب منه، وإن رأيت أبا أمامة النّابغة فاظعن، فإنه لا شيء لك. قال: فقدمت عليه، ففعل بي ما قال، ثم خلوت به وأصبت منه مالاً كثيراً ونادمته فبينما أنا معه في قبة إذ جاء رجل يرجز. فقال النعمان: أبو أمامة فأذنوا له، فدخل فحيا وشرب معه، ووردت النعم السود، فلما أنشد النابغة قوله:
فإنك شمسٌ والملوكُ كواكب- إذا طلعت لم يبدُ منهنَّ كوكبُ
دفع إليه مائة ناقة من الإبل السود، فيها رعاؤها، فما حسدت أحداً حسدي النّابغة لما رأيت من جزيل عطيته، وسمعت من فضل شعره.


الأبيات العشر الاولى

يَـا دَارَ مَيَّـةَ بالعَليْـاءِ ، فالسَّنَـدِ
أَقْوَتْ ، وطَالَ عَلَيهَا سَالِـفُ الأَبَـدِ
وقَفـتُ فِيـهَا أُصَيلانـاً أُسائِلُهـا
عَيَّتْ جَوَاباً ، ومَا بالرَّبـعِ مِنْ أَحَـدِ
إلاَّ الأَوَارِيَّ لأْيـاً مَـا أُبَـيِّـنُـهَا
والنُّؤي كَالحَوْضِ بالمَظلومـةِ الجَلَـدِ
رَدَّتْ عَليَـهِ أقَـاصِيـهِ ، ولـبّـدَهُ
ضَرْبُ الوَلِيدَةِ بالمِسحَـاةِ فِي الثَّـأَدِ
خَلَّتْ سَبِيـلَ أَتِـيٍّ كَـانَ يَحْبِسُـهُ
ورفَّعَتْهُ إلـى السَّجْفَيـنِ ، فالنَّضَـدِ
أمْسَتْ خَلاءً ، وأَمسَى أَهلُهَا احْتَمَلُوا
أَخْنَى عَليهَا الَّذِي أَخْنَـى عَلَى لُبَـدِ
فَعَدِّ عَمَّا تَرَى ، إِذْ لاَ ارتِجَـاعَ لَـهُ
وانْـمِ القُتُـودَ عَلَى عَيْرانَـةٍ أُجُـدِ
مَقذوفَةٍ بِدَخِيسِ النَّحـضِ ، بَازِلُهَـا
لَهُ صَريفٌ ، صَريفُ القَعْـوِ بالمَسَـدِ
كَأَنَّ رَحْلِي ، وَقَدْ زَالَ النَّـهَارُ بِنَـا
يَومَ الجليلِ ، عَلَى مُستأنِـسٍ وحِـدِ
مِنْ وَحشِ وَجْرَةَ ، مَوْشِيٍّ أَكَارِعُـهُ
طَاوي المَصِيرِ ، كَسَيفِ الصَّيقل الفَرَدِ



شرح ابيات المعلقة



1- العلياء: مكان مرتفع من الأرض.قال ابن السكت: قال: بالعلياء، فجاء بالياء لأنه بناها على عليت، والسند: سند الوادي في الجبل، وهو ارتفاعه حيث يسند فيه: أي يصعد فيه

2- ويروى وقفت فيها طويلا، ويروى طويلاناً وأصيلالاً فمن روى أصيلا أراد عشيا، ومن روى طويلا جار أن يكون معناه وقوفا طويلا، ويجوز أن يكون معناه وقفا طويلا، ومن روى أصيلانا ففيه قولان، أحدهما أنه تصغير أصلان وأصلان جمع أصيل كما يقال رغيف ورغفان، والقول الآخر بمنزلة غفران وهذا هو القول الصحيح، والأول خطأ لأن أصلانا لا يجوز أن يصغر إلا أن يرد إلى أقل العدد.
وهو حكم كل جمع كثير، وقوله عييت يقال عيبت بالأمر، إذا لم تعرف وجهه وقوله: جوابا منصوب على المصدر أي عيت أن تجيب وما بها أحد ومن زائدة للتوكيد فأنا به عيي

3-
ويروى أواري بضم الهمزة والنصب أجود، والأواري والأواخي واحد وهي التي تحبس بها الخيل، واللأي، البطء يقال التأت عليه صاحبته أي بعد بطء استبانها، والنؤي حاجز من تراب يعمل حول البيت والخيمة لئلا يصل إليها الماء والمظلومة الأرض من غير عمارة، ولا حجارة، وإنما قصد إلى الجلد لأن الحفر فيها يصعب فيكون ذلك أشبه شيء بالنؤي.
4- يروى بفتح الراء وضمها ردت عليه أقاصيه، وهذه الرواية أجود لأنه إذا قال ردت عليه أقاصيه. فأقاصيه في موضع رفع فأسكن الياء لأن الضمة فيها ثقيلة وإذا روي ردت فأقاصيه في محل نصب. والفتح لا يستثقل فكان يجب أن يفتح الباء إلا أنه يجوز إسكانها في الضرورة لأنه تسكين في الرفع والخفض، فأجرى النصب مجراهما وأيضا فإنه إذا روي ردت، فقد أضمر ما لم يجر ذكره أراد ردت عليه الأمة، إلا أن هذا يجوز إذا عرف معناه، وأقاصيه ما شذ منه ولبده سكنه أي سكنه حضر الوليدة والثأد الموضع الندي التراب، الثأد ثأد يثأد فهو ثئد
5- الأتي: النهر الصغير، أي خلت الأمة سبيل الماء في الأتي تحفرها، ورفعته ليس يريد به علت الماء، ومعناه [قدمته، وبلغت به] كما تقول ارتفع القوم إلى السلطان والسجفان ستران رقيقان يكونان في مقدمة البيت، والنضد ما نضد من متاع البيت
6- ويروى ارتحلوا، أخنى: أفسد لأن الخنا الفساد والنقصان، وقيل أخنى عليها أتى
7- يعني ما ترى من خراب الديار، والقتود خشب الرحل وهو للجمع الكثير وفي القليل أقتاد والواد قتد
8-
مقذوفة: أي مرمية باللحم، والدخيس والدخاس الذي قد دخل بعضه في بعض من كثرته، والنحض: اللحم، وهو جمع نحضة بالحاء المهملة، والضاد المعجمة، والبازل الكبير، والصريف: الصياح، والصريف من الإناث من شدة الإعياء، ومن الذكور من النشاط. والقعد بالضم البكرة، إذا كان خشبا وإذا كان حديدا فهو خطاف، ويروى صريف صريف بالرفع على المصدر وعلى النصب أجود وعلى البدل أحسن.
9- زال النهار أي انتصف، وبنا بمعنى علينا، والجليل الثمام أي موضع فيه ثمام. والمستأنس الناظر بعينه ومنه قوله تعالى: (إني آنست نارا) أي أبصرت ومنه قيل إنسان لأنه مرئي ويروى على مستوحش وهو الذي أوجس في نفسه الفزع
10-
خص وحش وجرة لأنها فلاة قليلة الشرب، والموشى الذي فيه ألوان مختلفة، طاوي أي ضامر، والمصير: المصار وجمعه مصران وجمع مصران مصارين أي هو يلمع كسيف الصقيل، والفرد الذي ليس له نظير ويجوز فيه فتح الراء وضمها.








الأعشى بن قيس


(... - 7 هـ = ... - 628 م)



هو ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل بن عوف بن سعد بن ضُبيعة، من بني قيس بن ثعلبة، وصولاً إلى علي بن بكر بن وائل، وانتهاء إلى ربيعة بن نزار. يعرف بأعشى قيس، ويكنّى بأبي بصير، ويقال له أعشى بكر بن وائل، والأعشى الكبير. عاش عمراً طويلاً وأدرك الإسلام ولم يسلم، ولقب بالأعشى لضعف بصره، وعمي في أواخر عمره. مولده ووفاته في قرية منفوحة باليمامة، وفيها داره وبها قبره.
من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية، كان كثير الوفود على الملوك من العرب، والفرس، فكثرت الألفاظ الفارسية في شعره. غزير الشعر، يسلك فيه كل مسلك، وليس أحد ممن عرف قبله أكثر شعراً منه. كان يغني بشعره فلقب بصنّاجة العرب، اعتبره أبو الفرج الأصفهاني، كما يقول التبريزي: أحد الأعلام من شعراء الجاهلية وفحولهم، وذهب إلى أنّه تقدّم على سائرهم، ثم استدرك ليقول: ليس ذلك بمُجْمَع عليه لا فيه ولا في غيره.


كان الأعشى بحاجة دائمة إلى المال حتى ينهض بتبعات أسفاره الطويلة ويفي برغباته ومتطلباته فراح بلاد العرب قاصداً الملوك.. يمدحهم ويكسب عطاءهم. ولم يكن يجتمع إليه قدر من المال حتى يستنزفه في لذّته.. ثم يعاود الرحلة في سبيل الحصول على مال جديد، ينفقه في لذّة جديدة.
أما ديوان الأعشى فليس أقلّ من دواوين أصحاب المعلقات منزلة عند النقّاد والرواة. عني به بين الأقدمين أبو العباس ثعلب- كما ذكر صاحب الفهرست- ثمّ عكف الأدباء على ما جمعه ثعلب، ينتقون منه القصائد والشواهد، وفي طليعة هؤلاء التبريزي الذي جعل قصيدة الأعشى اللامية "ودّع هريرة" إحدى معلقات الجاهليين كذلك اعتبرت لامية الأعشى: "ما بكاءُ الكبير بالأطلال" .. من المعلقات العشر في شرح آخر لتلك القصائد. وبين المستشرقين الذين أكبوا على شعر أبي بصير جمعاً واستدراكاً وشرحاً سلفستر دي ساسي (1826م- 1242هـ)، ثوربكه (1875م- 1292هـ)، ورودلف جاير الذي أمضى نصف قرن في صحبة الأعشى وشعره، بحيث أصدر في (1928م- 1347هـ) ديوان الشاعر القيسي في طبعة بعنوان: "الصبح المنير في شعر أبي بصير"..





الابيات العشر من معلقته :




وَدّعْ هُرَيْـرَةَ إنّ الرَّكْـبَ مرْتَحِـلُ
وَهَلْ تُطِيقُ وَداعـاً أيّهَـا الرّجُـلُ ؟
غَـرَّاءُ فَرْعَـاءُ مَصْقُـولٌ عَوَارِضُـهَا
تَمشِي الهُوَينَا كَمَا يَمشِي الوَجي الوَحِلُ
كَـأَنَّ مِشْيَتَـهَا مِنْ بَيْـتِ جَارَتِهَـا
مَرُّ السَّحَابَةِ ، لاَ رَيْـثٌ وَلاَ عَجَـلُ
تَسمَعُ للحَلِي وَسْوَاساً إِذَا انصَرَفَـتْ
كَمَا استَعَانَ برِيـحٍ عِشـرِقٌ زَجِـلُ
لَيستْ كَمَنْ يكرَهُ الجِيـرَانُ طَلعَتَـهَا
وَلاَ تَـرَاهَـا لسِـرِّ الجَـارِ تَخْتَتِـلُ
يَكَـادُ يَصرَعُهَـا ، لَـوْلاَ تَشَدُّدُهَـا
إِذَا تَقُـومُ إلـى جَارَاتِهَـا الكَسَـلُ
إِذَا تُعَالِـجُ قِـرْنـاً سَاعـةً فَتَـرَتْ
وَاهتَزَّ مِنهَا ذَنُـوبُ المَتـنِ وَالكَفَـلُ
مِلءُ الوِشَاحِ وَصِفْرُ الـدّرْعِ بَهكنَـةٌ
إِذَا تَأتّـى يَكَـادُ الخَصْـرُ يَنْخَـزِلُ
صَدَّتْ هُرَيْـرَةُ عَنَّـا مَـا تُكَلّمُنَـا
جَهْلاً بأُمّ خُلَيْدٍ حَبـلَ مَنْ تَصِـلُ ؟
أَأَنْ رَأَتْ رَجُلاً أَعْشَـى أَضَـرَّ بِـهِ
رَيبُ المَنُونِ ، وَدَهْـرٌ مفنِـدٌ خَبِـلُ





شرح الابيات :




قال أبو عبيدة: هريرة قينة كانت لرجل من آل عمرو بن مرثد، أهداها إلى قيس بن حسان بن ثعلبة بن عمرو بن مرثد فولدت له خليدا وقد قال في قصيدته
والركب لا يستعمل إلا للإبل، وقوله وهل تطيق وداعا، أي أنك تفزع إن ودعتها
قال الأصمعي] الغراء: البيضاء الواسعة الجبين، وروي عنه أنه قال الغراء البيضاء النقية العرض، والفرعاء الطويلة الفرع: أي الشعر [والعوارض الرباعيات والأنياب] تمشى الهوينى: أي على رسلها، والوجى يشتكي حافره، ولم يخف، وهو مع ذلك وحل فهو أشد عليه.
وغراء مرفوع لأنه خبر مبتدأ ويجوز نصبه بمعنى أعني، وعوارضها مرفوعة على أنها اسم ما لم يسم فاعله والهوينى في موضع نصب على المصدر وفيها زيادة على معنى مصدر.
المشية: الحالة، وقوله مر السحابة أي تهاديها كمر السحابة، وهذا مما يوصف به [النساء].
الحلي واحد يؤدي عن جماعة، ويقال في جمعه حلي، والوسواس جرس الحلي، إذا انصرفت: يريد إذا خفت، فمرت الريح، تحرك الحلي، فشبه صوت الحلي بصوت خشخشة العشرق على الحصباء
تختتل وتختل واحد [بمعنى تسرق وتخدع] فهي لا تفعل هذا
يقول لولا أنها تشدد إذا قامت لسقطت وإذا في موضع نصب والعامل فيها يصرعها
ذنوب المتن: العجيزة والمعاجز مقر الوشاح.
صفر الوشاح: أي خميصة البطن، دقيقة الخصر، فوشاحها يقلق عليها لذلك هي تملأ الدرع لأنها ضخمة، والبهكنة الكبيرة الخلق، وتأتى تترفق من قولك هو يتأتى لك لأمر، وقيل تأتى: تهيأ للقيام، والأصل تتأتى فحذف إحدى التاءين، تنخزل: تنثني، وقيل تتقطع ويقال خزل عنه حقه إذا قطعه
الدجن: إلباس الغيم السماء. وقوله للذة المرء كناية عن الوطء ويروى تصرعه. لا جاف: أي لا غليظ والتفل: المنتن الرائحة وقيل هو الذي لا يتطيب.

**د لا ل**
2012-02-11, 16:29
عَبيد بن الأبرَص
؟؟؟ - 25 ق.هـ / ؟؟؟ - 598 ق م


عبيد بن الأبرص بن عوف بن جشم الأسدي، أبو زياد، من مضر.
شاعر من دهاة الجاهلية وحكمائها، وهو أحد أصحاب المجمهرات المعدودة طبقة ثانية عن المعلقات. عاصر امرؤ القيس وله معه مناظرات ومناقضات، وعمّر طويلاً حتى قتله النعمان بن المنذر وقد وفد عليه في يوم بؤسه.
ت تعريف / بمعلقة عبيد بن الأبرص

على الرغم من هزال هذه القصيدة واضطرابها من الناحية الفنية، فإنها تعتبر من أشهر قصائد عبيد بن الأبرص، ذلك أن المنذر قد طلب إلى الشاعر أن يلقيها في حضرته. وقد أوردها التبريزي ضمن مجموعة (القصائد العشر). بدأها عبيدُ بذكر المنازل المقفرة وتقلّب صروف الزمان عليها، ثم انتقل إلى الحديث عن سنّة الحياة في تحوّل كل شيء، ونهاية الإنسان إلى الموت، ويستطرد في بقية القصيدة، أي في ثلاثة أرباعها، إلى وصف سفره بالنّاقة، ثم إلى وصف فرسه.
وأجمل ما في القصيدة هو المقطع الأخير الذي وصف به المعركة التي جرت بين العقاب والثعلب وانتصارها عليه. وهو وصف يكاد ينسينا جفاف المطلع واتشاحه بالألوان القاتمة. وقد ذكرها ابن سيده مثلاً على "الشعر المهزول غير المؤتلف البناء". وقال ابن كناية "ولم أر أحداً ينشد هذه القصيدة على إقامة العروض. "وقيل أيضاً: "كادت ألا تكون شعراً". وكل هذا لم يمنع من شهرة القصيدة. اعتمدنا في ذلك على: مطاع صفدي وإيليا حاوي، موسوعة الشعر العربي: الشعر الجاهلي، إشراف د. خليل حاوي، تحقيق وتصحيح أحمد قدامة، بيروت: شركة خياط، 1974، جـ2، ص582.


معلقة عبيد الأبرص

أقفـرَ من أهلهِ مَلْحـوبُ *** فالقُطبيَّــات فالذَّنـــوبُ

فَراكِـسٌ فثُعَيـلٍبــاتٌ *** فَـذاتَ فَـرقَـينِ فالقَـلِيبُ

فَعَـرْدةٌ ، فَقَفــا حِـبِرٍّ *** لَيسَ بِها مِنهُــمُ عَـريبُ

وبُدِّلَتْ مِنْ أهْلِها وُحوشًا *** وغًـيَّرتْ حالَها الخُطُــوبُ

أرضٌ تَوارَثَهـا الجُدوبُ *** فَكُـلُّ من حَلَّهـا مَحْـروبُ

إمَّـا قَتيـلاً وإمَّـا هَلْكـًا *** والشَّيْبُ شَـيْنٌ لِمَنْ يَشِـيبُ

عَينـاكَ دَمْعُهمـا سَـروبٌ *** كـأنَّ شَـأنَيهِمـا شَـعِيبُ

واهِيــةٌ أو مَعـينُ مَـعْنٍ *** مِنْ هَضْبـةٍ دونَها لَهـوبُ

أو فَلْجُ وادٍ بِبَطْـنِ أرضٍ *** لِلمـاءِ مِنْ تَحْتِهـا قَســيبُ

أوْ جَدولٌ في ظِلالِ نَخْـلٍ *** لِلمـاءِ مِنْ تَحتِهـا سَـكوبُ

تَصْبو وأنَّى لكَ التَّصابي ؟ *** أنَّي وقَد راعَـكَ المَشـيبُ

فإنْ يَكُـنْ حـالَ أجْمَعِهـا *** فلا بَـدِيٌّ ولا عَجـيبُ

أوْ يـكُ أقْفَـرَ مِنها جَـوُّها *** وعادَها المَحْـلُ والجُـدوبُ

فكُـلُّ ذي نِعْمـةٍ مَخلـوسٌ *** وكُـلُّ ذي أمَـلٍ مَكـذوبُ

فكُـلُّ ذي إبِـلٍ مَـوْروثٌ *** وكُـلُّ ذي سَـلْبٍ مَسْـلوبُ

فكُـلُّ ذي غَيْبـةٍ يَـؤوبُ *** وغـائِبُ المَـوْتِ لا يَغـيبُ

أعاقِـرٌ مِثْـلُ ذاتِ رَحْـمٍ *** أوْ غـانِمٌ مِثْـلُ مَنْ يَخـيبُ

مَنْ يَسْـألِ النَّاسَ يَحْرِمُوهُ *** وســــائِلُ اللهِ لا يَخـيبُ

باللهِ يُـدْرَكُ كُـلُّ خَـيْرٍ *** والقَـوْلُ في بعضِـهٍِ تَلغـيبُ

واللهُ ليسَ لهُ شَــريكٌ *** عـلاَّمُ مـا أخْفَـتِ القُلُـوبُ

أفْلِحْ بِما شِئْتَ قدْ يَبلُغُ بالضَّعْـ *** ـفِ وقَدْ يُخْـدَعُ الأرِيبُ

يَعِـظُ النَّاسُ مَنْ لا يَعِـظُ الدْ *** دَهْـرُ ولا يَنْفَـعُ التَّلْبِيبُ

إلاَّ سَــجِيَّـاتُ ما القُلُـو *** بُ وكمْ يُصَـيِّرْنَ شائنًا حَبِيبُ

سـاعِدْ بِأرضٍ إنْ كُنتَ فيها *** ولا تَقُـلْ إنَّنـي غَـريبُ

قدْ يُوصَلُ النَّازِحُ النَّائي وقد *** يُقْطَـعُ ذو السُّـهْمَةِ القَـريبُ

والمَرْءُ ما عاشَ في تَكْذيبٍ *** طُـولُ الحَيــاةِ لـهُ تَعْـذيبُ

يا رُبَّ مـاءٍ وَرَدتُّ آجِـنٍ *** سَـــبيلُهُ خـائفٌ جَـدِيبُ

رِيشُ الحَمـامِ على أرْجائِهِ *** لِلقَـلبِ مِنْ خَـوْفِـهِ وَجِـيبُ

قَطَعتـهُ غُـدْوة مُشِــيحًا *** وصــاحِبي بـادِنٌ خَبــوبُ

غَـيْرانةٌ مُوجَـدٌ فَقـارُهـا *** كـأنَّ حـارِكَهــا كَثِـيبُ

أخَـلَّفَ بـازِلاً سَـــديسٌ *** لا خُـفَّـةٌ هِـيَ ولا نَـيُـوبُ

كـأنَّهـا مِنْ حَمـيرِ غـاب *** جَـوْنٌ بِصَفْحـَتِــهِ نُـدوبُ

أوْ شَـبَبٌ يَـرْتَعي الرُّخامِي *** تَـلُـطُّـهُ شَـمْألٌ هَـبُـوبُ

فـذاكَ عَصْـرٌ وقدْ أرانـي *** تَحْمِـلُنـي نَهْـدَةٌ سَـرْحوبُ

مُضَـبَّرٌ خَلْـقُهـا تَضْـبيرًا *** يَنْشَـقُّ عَنْ وَجْهِهـا السَّـبيبُ

زَيْـتِـيَّـةٌ نائـمٌ عُـروقُهـا *** ولَـيِّنٌ أسْــرُها رَطِـيبُ

كـأنَّهـا لِقْــوَةٌ طَـلُـوبٌ *** تَـيْـبَسُ في وَكْـرِها القُـلُوبُ

بَـانَـتْ علَى إرْمٍ عَـذوبـًا *** كـأنَّهـا شَــيْخةٌ رَقُــوبُ

فَأَصْـبَحَتْ في غَـداةِ قُـرٍّ *** يَسْـقُطُ عَنْ رِيشِـها الضَّـريبُ

فَأبْصَرَتْ ثَعْلَـبًا سَـريعـًا *** ودونَـهُ سَــبْسَـبٌ جَـديـبُ

فَنَفَّـضَتْ رِيشَـها ووَلَّـتْ *** وَهْـيَ مِنْ نَهْضَـةٍ قَـريـبُ

فاشْـتالَ وارْتاعَ مِنْ حَسِيسٍ *** وفِعْلـهُ يَفعَــلُ المَـذْؤوبُ

فَنَهَضَـتْ نَحْـوَهُ حَثِـيثـًا *** وحَـرَّدتْ حَـرْدَهُ تَسِــيبُ

فَـدَبَّ مِنْ خَلفِهـا دَبيبـًا *** والعَـيْنُ حِمْـلاقُهـا مَقْلـوبُ

فـأدْرَكَتْـهُ فَطَـرَّحَتْــهُ *** والصَّـيْدُ مِنْ تَحْتِهـا مَكْـروبُ

فَجَـدَّلَـتْـهُ فَطَـرَّحَتْــهُ *** فكَـدَّحَتْ وَجْهَـهُ الجَـبوبُ

فعـاوَدَتْـهُ فَـرَفَّـعَـتْـهُ *** فـأرْسَـلَـتْـهُ وهُوَ مَكْـروبُ

يَضغُو ومِخْلَـبُهـا في دَفِـهِ *** لا بُـدَّ حَـيْزومُـهُ مَنقُــوبُ

**د لا ل**
2012-02-11, 16:33
السبع المعلقات (تحليل أنثروبولوجي) بنية المطالع في المعلقات – عبد المالك مرتاض

[/URL]

أولاً: لماذا الطلل؟

لقد علّل ابن قتيبة نقلاً عن بعض معاصريه أنّ “مُقصِّدَ القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار: فبكى وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق؛ ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها؛ إذ كان نازلة العمد في الحلول والظعن، على خلاف ما عليه نازلة المدر من انتقالهم من ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ، وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان، ثمّ وصل ذلك بالنسيب (…) ليُمِيلَ نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه”([URL="http://www.dernounisalim.com/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a8%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d9%84%d9%82%d8%a7%d8%aa-%d8%aa%d8%ad%d9%84%d9%8a%d9%84-%d8%a3%d9%86%d8%ab%d8%b1%d9%88%d8%a8%d9%88%d9%84%d 9%88%d8%ac%d9%8a-%d8%a8%d9%86%d9%8a/#_ftn1"][1] (http://www.dernounisalim.com/?attachment_id=1393)).
وإذاً، فقد نَبَّه النقاد القدماء لعلة ابتداء مقصِّدِي القصائدِ بذكر الديار، ووصف الدمن، والوقوف على الربوع يبكون لديها، ويشكون من تَحّمُّل أهلها عنها، ومزايلة الأحبة إياها فيذكرون الأيام الخوالي، والأزمان المواضي؛ وما كانوا نَعِموا به فيها من اللحظات السعيدات، مع الحبيبات الوامقات: إما بالنظرات والرنوات، وإما بتبادل أسقاط الحديث، وأما بنيل أكثر من ذلك منهنّ… يذكرون كلّ ذلك فتذرف منهم العيون تذرافاً، وتهيم بهم الصبابة، وترتعش في أعماقهم العواطف، وتلتعج في قلوبهم المشاعر، فينهال عليهم الشعر الجميل انهيالاً، كما تنهال من أعينهم الدموع الغزار حتى تبلّ محامِلَهم.
وكان هذا الدّيْدُن جِبِلّةً في ذلك المجتمع البدويّ الذي لم يك نظامه ينهض على الاستقرار كما كان ذلك مفترضاً في الحواضر العربية مثل مكة، ويثرب، وصنعاء، والحيرة…، وإنما كان ينهض على نظام التظعان: انتجاعاً للكلأ، والتماساً لمدافِع الماء، وارتشافاً لمنابعها، وارتواء بما في غدرانها؛ فكان المقام لا يكاد يستقرّ بهم قرارُه. وعلى الرغم من أنّ تلك المقامات التي كانت تقع لهم على عيون الماء وغدران الأمطار لا دَيَّارَ يعرفُ مُدَدَ أزمنتها؛ فإننا نفترض، مع ذلك، أنها كانت لا تزيد عن الشهرين والثلاثة. وعلى قِصَر هذه المدد التي كانت تُقَضَّى بتلك الغدران والمراعي المُمْرِعَةِ إلاّ أنها كانت مُجْزِئةً لاضطرام علاقات غرامية بين فتيات وفتيان ما أشدّ ما كانت قلوبهم تهفو للحبّ وتتعلقّ به. وغالباً ما كانت تلك العلاقات الغراميّة تقع بين أقاربَ وأهلِ عشيرة، لقيام تلك الحياة البدويّة المتنقلة على النظام القبلي أو العَشَريّ. وربما كانت تقع بين أجنبيّ عن القبيلة المتنقّلة بإحدى فتياتها…. وغالباً ما كان ذلك الحب يظلّ مكتوماً غير معلنٍ، وخفيَّاً غير ظاهرٍ؛ وإلاّ فهي المآسي للحبيبين الاثنين… ذلك بأنّ العرب كانوا يُحرِّمون على مَن يحبُّ فتاة ويشتهر حبُّه إيّاها أن يُقْدِم على اختطابها من أهلها. وكانوا يعدُّون ذلك من الفضائح وملطّخات الشرف. وإنّا لا نحسب أنّ أولئك الشعراء كانوا يصفون الدِمَنَ والأطلال، وخصوصاً أوائلهم، لمجرد حبّ الوصف، وإمتاع المتلقين؛ وإنما كانوا يصّورون عواطفهم الجيّاشة، ويعبرون عن تجاربهم الحميمة من خلال أشعارهم. من أجل ذلك كثيراً ما كنا نُلْفيهم يذكرون أسماء المواضع التي يقع حوالها الطلل البالي الذي زايلته الحبيبة وتحمّلت عنه إلى سوائه من مُخْصِبات الأرض، ومُرْوِيَات الأودية.
ولكننا نحسب أنّ ذِكْر أسماء النساء الحبيبات (زهير: أمّ أوفى؛ لبيد: نوار؛ عنترة: أم الهيثم؛ الحارث بن حلزة: هند…..) في المعلقات خصوصاً لم يكن يعني أن تلك الأسماء كانت تنصرف حقاً إلى حبيبات الشعراء، وإلاّ رُبَّتما كانوا قُتِلُوا قتلاً وَحِيّاً، وفُتِكَ بهم فتكاً ذريعاً. وإنما هي، في تمثّلنا على الأقل، أسماءٌ رمزيّة لا تعني إلاّ سمةً دالة على نساء بدون تخصيص للنسب، ولا تدليل على الانتماء العائليّ الحقيقيّ؛ ففي كلّ قبيلة عربية كان يوجد عدد لا يحصى من النساء ممن كن يَتَكَنَّين أويَتَسمين أُمَّ أوفى، ونَواراً، وأمَّ الهيثم، وهِنْداً…
والحق أنَّ ظاهرة الطلل في الشعر العربي قبل الإسلام الذي اتخذها له دأْباً لم تأتِ عبثاً؛ و لا لمجرد البكاء على عهود ماضية، وأزْمُنٍ خالية؛ ولا لمجرد الحنين والتعلق بالمكان؛ فتلك جوانب عاطفية وقد تناولها الناس قديماً وحديثاً من ابن قتيبة إلى نقاد عهدنا هذا؛ وإنما الذي يجب التوقّف لديه هو أن هذه الطلليات، أو المطالع الطللية، أو المقدمات الطللية- فبكلّ عبّر النقاد فيما نحسب -كانت جزءاً من تلك الحياة البدوية، الرعويّة، الشظِفَة، الضنْكة التي كان نظامها ينهض على إجبارية التنقل من مرعىً إلى مرعىً، ومن وادٍ إلى واد، ومن غديرٍ إلى غدير. وكانت القبيلة ربما اضطرت إلى التنقل فجأةً عن مستقرها من منزلها إذا خشيت العدوان عليها، أو الإغارة المبيتّة ضدها كما جاءت، مثلاً، بعض ذلك قبيلة بني أسدٍ حين تَوجَّسَتْ أن يُصَبِّحَها امرؤ القيس طلباً بثأر أبيه([2] (http://www.dernounisalim.com/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a8%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d9%84%d9%82%d8%a7%d8%aa-%d8%aa%d8%ad%d9%84%d9%8a%d9%84-%d8%a3%d9%86%d8%ab%d8%b1%d9%88%d8%a8%d9%88%d9%84%d 9%88%d8%ac%d9%8a-%d8%a8%d9%86%d9%8a/#_ftn2)).
ولما كان نظام حياتهم ينهض على الترحال، وعلى التكيف بطقس الصحراء القاسي الجاف؛ فقد كانوا يجتزئون بأقل ما يمكن التبلّغُ به في الطعام والشراب من وجهةٍ، وبأقلّ ما يمكن التدثّر به من وجهة أخراةٍ. فكانوا، في باديتهم، أقدر على الإجتزاء بأيسر الطعام وأشْظَفِهِ وأسوئه كأكْلِهمُ الْعِلْهِزَ، والحيّات، والجراد، وبأقلّ الشراب وأخبثه كالفظّ والمجدوح([3] (http://www.dernounisalim.com/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a8%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d9%84%d9%82%d8%a7%d8%aa-%d8%aa%d8%ad%d9%84%d9%8a%d9%84-%d8%a3%d9%86%d8%ab%d8%b1%d9%88%d8%a8%d9%88%d9%84%d 9%88%d8%ac%d9%8a-%d8%a8%d9%86%d9%8a/#_ftn3))، فكانوا أقدر الناس على احتمال الجوع، والظمأ، ووعثاء الأسفار، وأصبرهم على التنقّل في مجاهل الصحراء.
ولم تكن تلك الحواضر العربية القديمة، القليلة، مثلُ مكّة، والطائف، ويثرب، والحيرة، وصنعاء، كافيةً لأن تشعّ بحضارتها، واستقرارها، ونظامها الحَضَريّ القارّ.
وعلى غير ما يحاول أن يثبت أستاذنا نجيب محمد البهبيتيّ([4] (http://www.dernounisalim.com/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a8%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d9%84%d9%82%d8%a7%d8%aa-%d8%aa%d8%ad%d9%84%d9%8a%d9%84-%d8%a3%d9%86%d8%ab%d8%b1%d9%88%d8%a8%d9%88%d9%84%d 9%88%d8%ac%d9%8a-%d8%a8%d9%86%d9%8a/#_ftn4)) من أن العرب كانوا على حظ عظيم من الحضارة والرقي والتعلم: فإننا نميّز بين الحياة في القرى، والحياة في البادية القاحلة. ولا سواءٌ قومٌ تُفْعِمُهُمُ الحساسية بالحياة، وتطبع عواطفهم بالرقة لدى الحبّ، كما تطبع مشاعرهم بالغلظة والقسوة لدى التعرض للمهانة والضيم؛ قومٌ يحرصون على الموت كحرصهم على الحياة لا يبالون أن يُقْتُلُوا أو يُقْتَلُوا: حبُّ الضيف شِنْشِنَتُهُمْ، وإكرامه جبلَّتُهُم، ورعي الذمام خُلُقُهم، والوفاء بالعهد طبعهم، وفصاحة اللسان مجْدهُم، وذكاء الجنان هبة الطبيعة إياهم… وقوم ينتلقون من فجّ إلى فج، ومن كنف إلى كنف دون أن يستقر لهم قرار، لا يكادون يصطحبون أثناء تظعانهم إلاّ المُحِلاّت([5] (http://www.dernounisalim.com/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a8%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d9%84%d9%82%d8%a7%d8%aa-%d8%aa%d8%ad%d9%84%d9%8a%d9%84-%d8%a3%d9%86%d8%ab%d8%b1%d9%88%d8%a8%d9%88%d9%84%d 9%88%d8%ac%d9%8a-%d8%a8%d9%86%d9%8a/#_ftn5)).
ولعلّ كل ذلك، أو بعضه على الأقل، تجسده هذه المطالع الطلليّة التي وردت في القصائد التي عرفت في تاريخ النقد العربي تحت مصطلح “المعلقات”، أو “السبع الطوال” ([6] (http://www.dernounisalim.com/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a8%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d9%84%d9%82%d8%a7%d8%aa-%d8%aa%d8%ad%d9%84%d9%8a%d9%84-%d8%a3%d9%86%d8%ab%d8%b1%d9%88%d8%a8%d9%88%d9%84%d 9%88%d8%ac%d9%8a-%d8%a8%d9%86%d9%8a/#_ftn6)) التي تسميها العرب أيضاً “السُّمُوط”، فيما يزعم المفضّل الضبيّ([7] (http://www.dernounisalim.com/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a8%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d9%84%d9%82%d8%a7%d8%aa-%d8%aa%d8%ad%d9%84%d9%8a%d9%84-%d8%a3%d9%86%d8%ab%d8%b1%d9%88%d8%a8%d9%88%d9%84%d 9%88%d8%ac%d9%8a-%d8%a8%d9%86%d9%8a/#_ftn7)).
وقد لاحظنا أن بنبة كل معلقة تقوم على ثلاثة عناصر لا تكاد تعدوها، ولا تكاد تمرق عن نظامها: إذ كلٌّ منهنّ تبتدئ بذكر الطلل أو وصفه، ثم ذكر الحبيبة ووصفها، ثم الانتقال، من بعد ذلك، إلى الموضوع. ولا نستثني من هذا النظام إلاّ معلقة عمرو بن كلثوم التي تخرق العادة بابتدائها بالغزل، ثم وصف الطلل، قبل الانطلاق إلى الفخر. وعلى الرغم من خرق هذا الترتيب، فإن المعلقة تظلّ محافظة على البنية الثلاثية العناصر.
وما عدا ذلك فامرؤ القيس يبتدئ معلقته بوصف الطلل، أو البكاء على الربوع الدارسة، ثم يتدرج إلى الغزل الجسديّ بالنساء فيتوقف خصوصاً لدى حادثة دارة جلجل، لينتهي إلى الفَرَس والليل، والمطر ووصف القفر، أو طبيعة البلاد العربية اليمنية خصوصاً.
بينما نلفي زهيراً يبتدئ بالطلل، ويعوج على الغزل، وينتهي إلى وصف الحرب والتزهيد فيها. على حين أنّ طرفة، هو أيضاً، يبتدئ معلقته بذكر الطلل، ويثنّي بالغزل، وينتهي إلى وصف الناقة والافتخار بنفسه وبشيمه، وبإقباله على تبذير ماله في شراب الخمر، والإقبال على الملذّات. ولا يأتي إلاّ بعض ذلك لبيد الذي يبتدئ بوصف الطلل، ويثنّي بالتوقف لدى الغزل، لينتهي إلى الناقة فيصفها ويمجّدها، وينوّه بمكانتها، ويختم معلقته بوصف البقرة الوحشية وصفاً دقيقاً قائماً على تجربة ومُجسداً لمعرفة؛ ولكن على أساس ما لناقته بتلك البقرة الوحشية من علاقة، والتي منها التشابه في السرعة. أما عمرو بن كلثوم فيخالف جميع أصحاب السموط، كما سبقت الإشارة، بابتدائه بالغزل، ثمّ تعريجه على وصف الطلل، قبل الانتهاء إلى الفخر بنفسه، والاعتداد بقومه، في حماسة عجيبة، وغضبة عربية رهيبة.
وأما عنترة بن شداد فإنّا ألفيناه يبتدئ معلقته بوصف الطلل، قبل أن ينزلق إلى الحديث عن امرأة يجتهد في إغرائها به لينتهي، آخر الأمر، إلى وصف فرسه وحُسْنِ تجاوبه معه في المعارك، وقدرته العجيبة على فهمه، وإدراكه الذكيّ لما كان يريده منه وهو يجندل الأبطال في ساحة الوغى.
ولا يأتي الحارث بن حلّزة إلاّ بعض ذلك الضيع حيث يبتدئ بوصف الطلل، والتثنية بوصف حبيبته هندٍ، قبل الانتهاء إلى وصف الناقة التي ينزلق منها إلى وصف الحرب وشدائدها وأهوالها.
فكأنّ نظام البناء العامّ في هذه المعلقات يقوم على:

الطلل -المرأة – الفرس.
الطلل -المرأة – البعير.
الطلل -المرأة – الحرب
الطلل -المرأة -الماء.
الطلل -المرأة -الفخر.
وبتعبير رياضياتيٍّ (نحن نميّز بين النسبة إلى الرياضة، وإلى الرياضيات) تغتدي بنية المعلقات قائمة على بعض هذه القيم أو الرموز:
ا + ب + جـ
ا + ب + د
ا + ب + هـ
ا + ب + و
ا + ب + ز
إلا معلقة عمرو بن كلثوم فإنها تبتدئ بـ (ب)، ثم (أ)، ثم (ج).
ولكننا، لدى اختصار هذه النظرة إلى بنية هذه المعلقات، نلفيها؛ في أغلبها، تنهض على: الطلل- الغزل -الحرب. ذلك بأنّ الجُزْءَ الثالث من كل معلقة يمثّل، غالباً، إما الحرب صراحة؛ كما يمثل ذلك في معلقات زهير، والحارث بن حلّزة، وعنترة؛ وإمّا شيئاً من ملازماتها كما يتمثل بعض ذلك في وصف الفرس وجَوَبَان القفار ليلاً، ومعاشرة الذئاب والوحوش الضّارية حيث إنّ هذه المواضيع، كما نرى، هي أدنى ما تكون إلى الحرب، وأبعد ما تكون عن السلم؛ وكما يتمثل في الفخر الملتهب الذي يصادفنا في معلقة عمرو بن كلثوم خصوصاً. وإذن، فهناك خمس معلقاتٍ، على الأقلّ، ينتهين بالحديث عن الحرب، إما بصورة مباشرة، وإما بصورة غير مباشرة.
ومثل هذه السيرة تمثل، بصدق، الحياة العربية قبل ظهور الإسلام حيث كان البقاء للأقوى لا للأصلح، والوجود للأشجع لا للأجبن، إذْ لم تكُ أي قبيلةٍ بمنأىً عن الحرب إما بشنّها هي الغارة على سَوائِها؛ وإما بتعرضها، هي نفسها، لغارةٍ تشُنُّها عليها قبيلةً أخراةٌ مُعادية.
وذلك همٌّ آخر الهموم التي كانت تَضْطَرُّ القبائل العربيّة البدويّة إلى التّظعان على وجه الدهر، والتي كانت تحول دون قيام مجتمع مستقرٍّ ينهض على نظام مدنيّ. وقد نلحظ، أثناء ذلك، أنّ كلّ هذه العلاقات كانت تنهض على ما يسميه الأناسيّون (الأنثروبولوجيون) “نظام القرابة” ([8] (http://www.dernounisalim.com/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a8%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d9%84%d9%82%d8%a7%d8%aa-%d8%aa%d8%ad%d9%84%d9%8a%d9%84-%d8%a3%d9%86%d8%ab%d8%b1%d9%88%d8%a8%d9%88%d9%84%d 9%88%d8%ac%d9%8a-%d8%a8%d9%86%d9%8a/#_ftn8)).
كما أننا نلاحظ أنّ الماء يرتبط بالخصب، وأنّ الخصب يرتبط بالأرض، وأنّ الأرض ترتبط بالإخصاب لدى المرأة، وأنّ المرأة نلفيها في مركز اهتمام النصوص الشعريّة الجاهلية. وكلّ ذلك يحدث في وسط يتغيّر عبر الرُّتُوبِ، ويُمارُسُ عليه الانتقال والتحول، ولكنْ داخل حيز مغلق لا يعدوه.
ونتوقف الآن لدى طلليلة امرئ القيس لنحاول قراءتها من الوجهتين الانثروبولوجية والسِمَائياتيَّة، لنصف ونَُؤَّوِل معاً. ولعلَّنا، ببعض هذا السعي، أن نضيف شيئاً إلى القراءات الكثيرة التي سُبِقْنا إليها، قديماً وحديثاً.
وقبل أن نثبت الأبيات الستة الطلليلة المرقسيّة، نودّ أن نومئ إلى أننا لا نريد أن ننزلق إلى الحديث عن انتماء هذه الأبيات أو عدم انتمائها حقاً إلى امرئ القيس، وذلك على أساس ما ادّعت قبيلة كلب([9] (http://www.dernounisalim.com/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a8%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d9%84%d9%82%d8%a7%d8%aa-%d8%aa%d8%ad%d9%84%d9%8a%d9%84-%d8%a3%d9%86%d8%ab%d8%b1%d9%88%d8%a8%d9%88%d9%84%d 9%88%d8%ac%d9%8a-%d8%a8%d9%86%d9%8a/#_ftn9)) من أنها لامرئ قيسها المعروف بابن الحُمَام([10] (http://www.dernounisalim.com/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a8%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d9%84%d9%82%d8%a7%d8%aa-%d8%aa%d8%ad%d9%84%d9%8a%d9%84-%d8%a3%d9%86%d8%ab%d8%b1%d9%88%d8%a8%d9%88%d9%84%d 9%88%d8%ac%d9%8a-%d8%a8%d9%86%d9%8a/#_ftn10))، وقل إن شئت ابن حُمام، وق

**د لا ل**
2012-02-11, 16:35
المعلقات الشعرية

المعلقات هي من أشهر ما كتب العرب في الشعر وسميت معلقات. وقد قيل لها معلقات لأنها مثل العقود النفيسة تعلق بالأذهان. ويقال أن هذه القصائد كانت تكتب بماء
الذهب وتعلق على استار الكعبة قبل مجيء الإسلام، وتعتبر هذه القصائد أروع وأنفس ما قيل في الشعر العربي القديم لذلك اهتم الناس بها ودونوها وكتبوا شروحا لها,
وهي عادة ما
تبدأ بذكر الأطلال وتذكر ديار محبوبة الشاعر وتكون هذه المعلقات من محبته له شهاره الخاص.
وقيل إن حماد الراوية هو أول من جمع القصائد السبع الطوال وسماها بالمعلقات (السموط). وكان يقول أنها من أعذب ماقالت العرب وأن العرب كانو يسمونها بالسموط
(المعلقات). ذهب الأدباء والكتاب من بعده لدراستها. مثل ابن الكلبي. وابن عبد ربه صاحب العقد الفريد وأضاف بكتابه أمر تعليقها بالكعبة. قد تجدهم سبع قصائد
في كل كتاب قديم لكن منهم من أضاف قصيدة لشاعر وأهمل قصيدة الاخر. فاحتاروا من هم السبعة. فجعلوها عشر. (تاريخ الأدب العربي. [شوقي أبو خليل]
.وكتبت هذه المقاله من كتاب اسمه البطوله الذي كتبه ورد خطيب .

باللغة ..

فالمعلّقات لغةً من العِلْق : وهو المال الذي يكرم عليك ، تضنّ به ، تقول : هذا عِلْقُ مضنَّة . وما عليه علقةٌ إذا لم يكن عليه ثياب فيها خير ، والعِلْقُ هو النفيس من كلّ
شيء ، وفي حديث حذيفة : «فما بال هؤلاء الّذين يسرقون أعلاقنا» أي نفائس أموالنا . والعَلَق هو كلّ ما عُلِّق .
اصطلاحاً..

قصائد جاهليّة بلغ عددها السبع أو العشر ـ على قول ـ برزت فيها خصائص الشعر الجاهلي بوضوح ، حتّى عدّت أفضل ما بلغنا عن الجاهليّين من آثار أدبية.
والناظر إلى المعنيين اللغوي والاصطلاحي يجد العلاقة واضحة بينهما ، فهي قصائد نفيسة ذات قيمة كبيرة ، بلغت الذّروة في اللغة ، وفي الخيال والفكر ، وفي الموسيقى وفي
نضج التجربة ، وأصالة التعبير ، ولم يصل الشعر العربي إلى ما وصل إليه في عصر المعلّقات من غزل امرؤ القيس ، وحماس المهلهل ، وفخر ابن كلثوم ، إلاّ بعد أن مرّ بأدوار
ومراحل إعداد وتكوين طويلة .

هل المعلقات الظاهرة المتميزة الوحيدة........؟

هل المعلقات الظاهرة المتميزة الوحيدة في تراثنا الشعري في عصر ما قبل الإسلام؟ هل من المنطق
اختزال طليعة ما قدمه العرب من شعر في عصر ما قبل الإسلام إلى سبع أو عشر قصائد؟ لماذا لم
تقدم القبائل الأخرى قصائدها المميزة؟ أين دور قبيلة قريش؟ لماذا لم يخرج منها شاعراً له معلقة؟.
هذه تساؤلات ربما يطرحها بعض المهتمين بالشعر العربي، ونتائج البحث للإجابة عليها تؤكد أنه رغم
أن المعلقات العشر تمثل أكثر القصائد تميزاً في الشعر العربي في عصر ما قبل الإسلام، ومن يشك
في ذلك عليه أن يتصفح موقع واحة المعلقات وقراءة ما كتبه الشراح القدامى والباحثون المعاصرون
عنها، إلا أن ذلك لا يعني أنها الظاهرة المتميزة الوحيدة في شعر ذلك العصر، بل إن هناك ظواهر
أخرى متميزة لا يمكن إغفالها أو التقليل من قدرها ينبغي أن تحظى باهتمامنا، إذا ما أردنا أن نتخذ
من الشعر العربي أداة للنهوض باللغة العربية في واقعنا المعاصر.

النظر في هذين المؤلفين القيمين من تراثنا الأدبي العظيم يمكن أن يوضحا هذه الحقيقة بشكل لا لبس
فيه: كتاب طبقات فحول الشعراء الجاهليين لابن سلام الجمحي المتوفي سنة 232 هجرية، وكتاب
جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام لأبي زيد القرشي المتوفي سنة 170 هجرية. حيث
صنف الجمحي الشعراء الجاهليين في 12 طبقة تضم 73 شاعراً، واختار أبو زيد القرشي 49 شاعراً
ليكونوا أفضل الشعراء العرب في الجاهلية والإسلام وصنفهم إلى 7 مجموعات رئيسية.

فقد بدأ الجمحي تصنيفه لأفضل الشعراء الجاهليين بعشر طبقات رئيسية، في كل طبقة 4 شعراء، وأضاف لهم طبقتين آخرتين هما: طبقة أصحاب المراثي، وعددهم أيضاً 4 شعراء؛ وطبقة شعراء القرى، وعددهم 29 شاعراً موزعون كالتالي: 5 شعراء من المدينة، 9 من مكة، 5 من الطائف، 3 من البحرين، و7 شعراء من اليهود.

أما أبو زيد القرشي فقد صنف أفضل الشعراء إلى سبع مجموعات، تمثل كل مجموعة منهم ظاهرة مميزة، فبالإضافة إلى المعلقات السبع، وقد أسماها السبع الطوال، تحدث عن: المجمهرات، المنتقيات، المذهبات، عيون المراثي، المشوبات، والملحمات.

من جهة أخرى، فإن المعلقات نفسها ظاهرة زمنية محدودة لا يتجاوز عمرها المائة عام، مقارنة بعصر ما قبل الإسلام الذي تزيد مدته عن ألفي عام. وهو أمر يفرض علينا ضرورة التمييز بين ظاهرة التعليق وظاهرة المعلقات. التعليق عرف في أواخر العصر الجاهلي، بينما المعلقات لم تعرف إلا عام 200 هجرية، وكان أول من نقلها إلينا وعرفنا بها هو حماد الراوية


ما حاجتنا إلى المعلقات اليوم؟

 
اللغة أداة البيان ووعاء الفكر، الارتقاء بها، والتنقيب عن ذخائرها، والنهل من مفرداتها، وإعادة تعميق استخداماتها في حياتنا اليومية والاجتماعية، وتوظيف أكبر قدر منها في حياتنا الثقافية والعلمية والتعليمية، كبديل للمفردات والمفاهيم والاصطلاحات الدخيلة علينا من اللغات الأخرى، يعد مؤشراً أساسياً من مؤشرات النهوض. إذ لم نسمع في التاريخ الإنساني عن أمة واحدة نجحت في النهوض في ظل الاستعانة بلغة أخرى على حساب لغتها بحجة أنها لغة العصر، وإنما استعانت باللغات الأخرى فوظفتها لخدمة مفردات لغتها واصطلاحاتها ودلالات معانيها. وكانت حذرة كل الحذر من مفاهيم اللغات الأخرى، خشية أن تطغى على مفاهيم لغتها الأصلية. فانتشار مفهوم دخيل ذو دلالات معينة من شأنه أن يقمع المفهوم المستخدم في لغتنا الأصلية، فيكون ذلك مدعاة للاستهانة أو الاستخفاف به، أو استخدامه في غير موضعه وبشكل سلبي، أو عدم استخدامه أصلاً. وهذا الأمر لا يقبله عقل.

الألمان يضرب بهم المثل في الاعتزاز بلغتهم، وكذلك الإيطاليين، والروس، والأسبان، والصينيين، واليابانيين وغيرهم. غير أن الموقف الأبرز جسده الفرنسيين، صحافة ومفكرين وعامة، عندما شنوا مؤخراً هجوماً لاذعاً على رئيسهم نيكولاي ساركوزي عندما تحدث باللغة الإنجليزية أثناء زيارته للولايات المتحدة ولم يتحدث باللغة الفرنسية. فالمتعارف عليه في الدول المتقدمة، أن الرئيس أينما ذهب لا يتحدث إلا بلغة بلده، حتى ولو كان يجيد لغة الدولة التي يزورها. ويثور التساؤل هنا عن حال مناهج التعليم في هذه البلدان، هل تكون بغير لغتها الوطنية، وكذلك الحال لغة التخاطب التجاري والحكومي وما إلى ذلك.

بالنسبة لنا نحن العرب، الاستعانة باللغة الإنجليزية اليوم باعتبارها لغة العلم الحديث أمر هام ولا غنى عنه، بل إن الاستعانة باللغات الأخرى للأمم المتقدمة أمر ضروري لبناء قوتنا وتحقيق نهضتنا. لكن هناك فرق بين أن نتعامل مع اللغة الإنجليزية بالشكل الأمثل الذي لا يضر بلغتنا العربية، وبين أن تكون وسيلة يستخدمها البعض لانتزاع لغة القرآن الكريم من عقولنا أو يتقلص استخدامنا لها في كل مناحي حياتنا، حتى داخل بيوتنا، وبين أطفالنا. ما من شك أن هناك خيط رفيع يفصل بين الحالتين، يمكن تلخيصه بالقول أننا بحاجة إلى اللغات الأخرى من خلال لغتنا العربية، لا على حسابها، وعلى من يجيد اللغة الإنجليزية، عليه أن يجيد اللغة العربية قبلها. إن كل عمالقة الترجمة في تاريخنا العربي، الذين نقلوا إلى العربية أعمالاً رائدة، امتلكوا ناصية اللغة العربية بشكل جدير بالتقدير.

إنني أتساءل: لماذا أصبحت اللغة العربية في بلادنا ليست لغة التخاطب التجاري؟ ولا لغة التخاطب الحكومي في كثير من الوزارات والدوائر الحكومية؟ ولا لغة التخاطب بين كثير من الأكاديميين والمهنيين العرب؟ لماذا أصبحنا في هذه الأيام قلما نجد أسماء عربية لمحلاتنا أو شركاتنا أو مؤسساتنا؟ المفكر الكبير عبد الوهاب المسيري طالب بمنع أي أسماء غير عربية في محلات القاهرة. ما أحوجنا اليوم إلى مثل هذا الطرح. إنني أقترح للإجابة على هذه التساؤلات أن نقارن بين ما يحدث في باريس أو لندن أو بون أو طوكيو أو موسكو، وبين ما يحدث في مدننا العربية، ونتخذ من ذلك موعظة لنتبين حقيقة إجحافنا بحق لغتنا العظيمة.

إن الأدهى والأمر هو أن يتنصل من استخدام اللغة العربية بعض العرب ممن يدّعون أنهم يفضلون التحدث باللغة الإنجليزية، وهم الذين تعلموها من قاموس جيب صدر قبل مائة عام! علينا أن نتخذ من اهتمام الألمان والفرنسيين والإيطاليين والروس والصينيين واليابانيين بلغتهم قدوة في هذا الجانب، وعلينا كذلك أن نتعظ من عدونا الصهيوني، الذي أحيا لغة اندثرت منذ آلاف السنين لتكون أداة بيانه ووعاء فكره وإحدى مقومات قوته ووحدته.

إن اعتزازنا بلغتنا والاهتمام بها وتطوير استخدامنا لها، أساس الحفاظ على هويتنا وشخصيتنا الحضارية، والمدخل الحقيقي للإفاقة من سباتنا العميق وتحقيق نهضتنا وبناء قوتنا. وهنا أود أن أتوجه بتحية إجلال وتقدير إلى الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، على جعله العام 2008 عام الهوية في الإمارات، وأحيي الصحف ومراكز البحوث الإماراتية ومفكريها وأبناءها الذين اعتبروا أن إحياء اللغة العربية هو أساس الاهتمام بالهوية.

ويأتي الاهتمام بالقرآن الكريم والسنة النبوية كمصدر أساسي من مصادر تدعيم اللغة العربية، وهنا أوجه تحية إجلال للقرية الإلكترونية على مشروعها الجديد قيد الإنجاز، المسمى: "أطلس القرآن الكريم"، وهو حالياً وبشكل مؤقت يمثل إحدى الصفحات الفرعية لموقع المسالك دوت كوم
كما يأتي الشعر والأدب العربي، كمصدر أساسي آخر لتعميق اللغة العربية في نفوس أبنائنا، وخاصة في مراحل التعليم المدرسي. ولا ننسى أن القرآن الكريم نزل على محمد صلى الله عليه وسلم مستخدماً مفردات العرب واصطلاحاتهم في عصر ما قبل الإسلام، لذلك فكثيراً ما يقول شراح الشعر العربي لبيت من الأبيات عبارتهم المشهورة: "وكذلك قال القرآن كذا وكذا". وتأتي الاستفادة من الوسائل التتقنية الحديثة، وشبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، وتطويع الوسائط المتعددة لتساعد على تقديم اللغة العربية بشكل جذاب وبسيط ومشوق. وهنا تكمن القيمة الفعلية لواحة المعلقات.

من هنا، وضمن هذا السياق، فإن الاهتمام بالمعلقات، كنموذج من النماذج الهامة المساعدة على تدريس اللغة العربية في مدارسنا، وهي التي اتسمت بدقة المعنى وبعد الخيال وبراعة الوزن وصدق التصوير لحياة العرب الاجتماعية، وخاصة من خلال إظهارها بالصورة الممتعة المقدمة في واحة المعلقات، من الممكن أن يكون وسيلة مؤثرة وإيجابية تسهم في ترغيب أبنائنا في اللغة العربية وتعميق الاعتزاز بها في عقولهم ونفوسهم. إنني أطالب القائمين على نظم التعليم في الدول العربية منح المعلقات اهتماماً خاصاً. وجعلها مقرراً أساسياً من مقررات تدريس مادة اللغة العربية. ليس بالشكل التلقيني الجامد والمنفر، وإنما بالأسلوب التفاعلي الممتع والجذاب الذي يطرحه موقع واحة المعلقات، من خلال المزج بين الوسائط المكتوبة والمقروءة والمسموعة والمرئية، ووفقاً لتقنية التطوير الثاني لشبكة المعلومات الدولية Web 2، وما ارتبط بها من فهرسة حديثة للموضوعات، وتعاون متبادل بتقديم المستخدمين لإسهاماتهم، فضلاً عن تطويع خريطة القمر الصناعي لناسا وجوجل لتحديد الأماكن الوارد ذكرها في قصائد الشعر بشكل مباشر أو غير مباشر.




لمعلقات بين التذهيب والتعليق

 
اختار العرب قبل الإسلام من أشعارهم بعض القصائد اتسمت بدقة المعنى وبعد الخيال وبراعة الوزن وصدق التصوير لحياتهم الاجتماعية، اعتبروها واعتبرها النقاد والرواة والشراح قمة الشعر العربي. أسموها: "المطولات"، لكثرة عدد أبياتها، و"المذهبات"، لكتابتها مذهبة. غير أن تسميتها الأشهر: "المعلقات"، لتعليقها على ستار الكعبة، بعد الحصول على موافقة لجنة تحكيم تنظم سنوياً عرفت بسوق عكاظ.

وفيه يأتي الشعراء بما جادت به قريحتهم خلال سنة، فيقرأون قصائدهم أمام الملأ وأمام لجنة التحكيم، التي كان من أعضائها النابغة الذبياني، ليعطوا رأيهم في القصيدة، فإذا لاقت قبولهم واستحسانهم طارت في الآفاق وتناقلتها الألسن وعلقت على جدران الكعبة، أقدس مكان عند العرب، وإن لم يستجيدوها خمل ذكرها وخفي بريقها، حتى ينساها الناس وكأنها لم تكن شيئاً مذكوراً.

والمعلقات لغة، من العِلْق، وهو النفيس من كل شيء، والعَلَق هو كل ما عُلِّق. وهي اصطلاحاً قصائد نفيسة ذات قيمة كبيرة عددها سبع، هي: معلقة امرؤ القيس، معلقة طرفة بن العبد، معلقة زهير ابن أبي سلمى، معلقة لبيد العامري، معلقة عمرو ابن كلثوم، معلقة عنترة العبسي، ومعلقة الحارث بن حلزة. أو عشر، مضاف إليها ثلاث أخرى هي: معلقة النابغة الذبياني، معلقة الأعشى، ومعلقة عبيد بن الأبرص. وقد بلغت هذه المعلقات الذروة في اللغة والخيال والفكر والموسيقى ونضج التجربة وأصالة التعبير، برزت فيها خصائص الشعر في عصر ما قبل الإسلام بوضوح حتى عدت من أفضل الآثار الأدبية لهذا العصر.

ورغم أن أبا جعفر النحاس لم يعترف بتعليقها أصلاً، إلا أن ابن عبد ربه الأندلسي له رأي آخر في العقد الفريد كان الأكثر شهرة بين الناس قديماً وحديثاً، قال فيه: "وقد بلغ من كلف العرب به (أي الشعر) وتفضيلهم له أن عمدت إلى سبع قصائد تخيرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلقتها بين أستار الكعبة، فمنه يقال: مذهبة امرئ القيس، ومذهبة زهير، والمذهبات السبع، وقد يقال: المعلقات". قال ابن الكلبي: أن أول ما علق هو شعر امرئ القيس على ركن من أركان الكعبة أيّام الموسم حتى نظر إليه ثم اُحدر، فعلقت الشعراء ذلك بعده.

وللمعلقة الواحدة عدة روايات لأكثر من راوي، عرفناهم وعرفنا رواياتهم والفروق الدقيقة في ما بينها، من كتب التراث العربي التي ارتبطت بأسماء الرواة كمؤلفين، أو بأسماء الشراح الكبار من أمثال الزوزني والخطيب التبريزي والأنباري وغيرهم. كما عرفناهم من خلال حواشي ومقدمات المحققين المعاصرين للمعلقات، أو أحدث الدراسات عن المعلقات في الأدب العربي المعاصر والحديث، ومنها دراسات لكتاب غربيين أيضاً.

من أشهر هؤلاء الرواة: الأصمعي، الأعلم، البطليوسي، أبوعبيدة، القرشي، الطوسي، أبو سهل، والنحاس. كما أن هناك روايات تنسب للشراح الكبار المذكورين آنفاً. ويمكن القول أن درجة الاختلاف بين رواية وأخرى لنفس المعلقة لها عدة صور، منها: عدم المطابقة في ترتيب بعض الأبيات تقديماً وتأخيراً، التباين في بعض الكلمات التي قد تكون مرادفة لبعضها البعض أو مختلفة المعنى، وأحياناً وجود الفروق في بعض الحروف كحروف الجر.

لذلك، وإن كان الحرص على تقديم الروايات جميعاً، أمر مطلوب، إلا أن ذلك لا يمنع من أفضلية اتخاذ رواية واحدة، مثل رواية الزوزني على سبيل المثال، كرواية أساسية، تبنى عليها الشروح المختلفة للمعلقات والمواد الأخرى المرتبطة بها، مع الإشارة في عجالة إلى الفروق مع الروايات الأخرى.


شعراء المعلقات هم

أعشى قيس
النابغة الذبياني
امرؤ القيس
زهير بن أبي سلمى
طرفة بن العبد
عبيد بن الأبرص
عمرو بن كلثوم
عنترة بن شداد
لبيد بن ربيعة

 
وأشهر تلك المعلقات سبعة هي

* أمن أم أوفى دمنة لم تكلم، لـ (زهير بن أبي سلمى)0
* هل غادر الشعراء من متردم، لـ (عنترة بن شداد)0
* ألا هبي بصحنك فأصبحينا، لـ (عمرو بن كلثوم).
* آذتنا ببينها أسماء، لـ (الحارث بن حلزة اليشكري).
* عفت الديار محلها ومقامها، لـ (لبيد بن ربيعة العامري).
* قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل، لـ (امرؤ القيس).
* لخولة أطلال ببرقة ثهمد، لـ (طرفة بن العبد.)



نبذة عن شاعر المعلقات طرفة بن العبد

هو طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن بكر بن وائل الشاعر المشهور ،
وطرفه بالتحريك ، والجمع الطرفاء ، وطرفة لقبه الذي عرف به ، واسمه عمرو .
وقد عاش الشاعر يتيماً ، ونشأ في كنف خاله المتلمس ، فأبى أعمامه أن يقسموا ماله ،
وظلموا حقاً لأمه وردة ، وحرم من إرث والده .
وطرفة من الطبقة الرابعة عند ابن سلام ، ويقال :هو أشعر الشعراء بعد امرىء القيس ، ومرتبته
ثاني مرتبة ولهذا ثني بمعلقته ، وقد أجمعت المصادر على انه أحدث الشعراء سناً، وأقلهم عمراً،
كان في بيئة كلها شعر ، فالمرقش الأكبر عم والده ، والمرقش الأصغر عمه ، والمتلمس خاله ،
وأخته الخرنق شاعرة أيضاً، رثته حين وفاته .وكان طرفة معاصرا ًللملك عمرو بن هند ، وكان
ينادمه ، ولكنه هجاه ، فبعث به الى عامل له بالبحرين ، بأن يأخذ جائزته منه ،وأوعز عمرو الى
عامله المكعبر بقتله ، فقتله شاباً ، في هجر ، قيل : ابن العشرين عاماً ، وقيل: ابن الست و
عشرين عاماً ويقال : انه من أوصف الناس للناقة . وقد سئل لبيد عن أشعر الناس : فقال :
الملك الضليل ، ثم سئل : ثم من ؟ قال : الشاب القتيل ، يعني طرفة . . . وللشاعر
ديوان صغير مطبوع . توفي نحو سنة 60 ق. هـ / 564 م.

**د لا ل**
2012-02-11, 16:54
التعريف المختصر الكامل للمعلقات من كافة الجوانب

كان فيما اُثر من أشعار العرب ، ونقل إلينا من تراثهم الأدبي الحافل بضع قصائد من مطوّلات الشعر العربي ، وكانت من أدقّه معنى ، وأبعده خيالاً ، وأبرعه وزناً ، وأصدقه تصويراً للحياة ، التي كان يعيشها العرب في عصرهم قبل الإسلام ، ولهذا كلّه ولغيره عدّها النقّاد والرواة قديماً قمّة الشعر العربي وقد سمّيت بالمطوّلات ، وأمّا تسميتها المشهورة فهي المعلّقات . نتناول نبذةً عنها وعن أصحابها وبعض الأوجه الفنّية فيها :
فالمعلّقات لغةً من العِلْق : وهو المال الذي يكرم عليك ، تضنّ به ، تقول : هذا عِلْقُ مضنَّة . وما عليه علقةٌ إذا لم يكن عليه ثياب فيها خير1 ، والعِلْقُ هو النفيس من كلّ شيء ، وفي حديث حذيفة : آ«فما بال هؤلاء الّذين يسرقون أعلاقناآ» أي نفائس أموالنا2 . والعَلَق هو كلّ ما عُلِّق3 .
وأمّا المعنى الاصطلاحي فالمعلّقات : قصائد جاهليّة بلغ عددها السبع أو العشر ـ على قول ـ برزت فيها خصائص الشعر الجاهلي بوضوح ، حتّى عدّت أفضل ما بلغنا عن الجاهليّين من آثار أدبية4 .
والناظر إلى المعنيين اللغوي والاصطلاحي يجد العلاقة واضحة بينهما ، فهي قصائد نفيسة ذات قيمة كبيرة ، بلغت الذّروة في اللغة ، وفي الخيال والفكر ، وفي الموسيقى وفي نضج التجربة ، وأصالة التعبير ، ولم يصل الشعر العربي الى ما وصل إليه في عصر المعلّقات من غزل امرئ القيس ، وحماس المهلهل ، وفخر ابن كلثوم ، إلاّ بعد أن مرّ بأدوار ومراحل إعداد وتكوين طويلة .
وفي سبب تسميتها بالمعلّقات هناك أقوال منها :
لأنّهم استحسنوها وكتبوها بماء الذهب وعلّقوها على الكعبة ، وهذا ما ذهب إليه ابن عبد ربّه في العقد الفريد ، وابن رشيق وابن خلدون وغيرهم ، يقول صاحب العقد الفريد : آ«وقد بلغ من كلف العرب به (أي الشعر) وتفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد تخيّرتها من الشعر القديم ، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة ، وعلّقتها بين أستار الكعبة ، فمنه يقال : مذهّبة امرئ القيس ، ومذهّبة زهير ، والمذهّبات سبع ، وقد يقال : المعلّقات ، قال بعض المحدّثين قصيدة له ويشبّهها ببعض هذه القصائد التي ذكرت :
برزةٌ تذكَرُ في الحسـ ـنِ من الشعر المعلّقْ
كلّ حرف نادر منـ ـها له وجهٌ معشّق5
أو لأنّ المراد منها المسمّطات والمقلّدات ، فإنّ من جاء بعدهم من الشعراء قلّدهم في طريقتهم ، وهو رأي الدكتور شوقي ضيف وبعض آخر6 . أو أن الملك إذا ما استحسنها أمر بتعليقها في خزانته .
هل علّقت على الكعبة؟
سؤال طالما دار حوله الجدل والبحث ، فبعض يثبت التعليق لهذه القصائد على ستار الكعبة ، ويدافع عنه ، بل ويسخّف أقوال معارضيه ، وبعض آخر ينكر الإثبات ، ويفنّد أدلّته ، فيما توقف آخرون فلم تقنعهم أدلّة الإثبات ولا أدلّة النفي ، ولم يعطوا رأياً في ذلك .
المثبتون للتعليق وأدلّتهم :
لقد وقف المثبتون موقفاً قويّاً ودافعوا بشكل أو بآخر عن موقفهم في صحّة التعليق ، فكتبُ التاريخ حفلت بنصوص عديدة تؤيّد صحّة التعليق ، ففي العقد الفريد7 ذهب ابن عبد ربّه ومثله ابن رشيق والسيوطي8وياقوت الحموي9وابن الكلبي10وابن خلدون11 ، وغيرهم إلى أنّ المعلّقات سمّيت بذلك; لأنّها كتبت في القباطي بماء الذهب وعلّقت على أستار الكعبة ، وذكر ابن الكلبي : أنّ أوّل ما علّق هو شعر امرئ القيس على ركن من أركان الكعبة أيّام الموسم حتّى نظر إليه ثمّ اُحدر ، فعلّقت الشعراء ذلك بعده .
وأمّا الاُدباء المحدّثون فكان لهم دور في إثبات التعليق ، وعلى سبيل المثال نذكر منهم جرجي زيدان حيث يقول :
آ«وإنّما استأنف إنكار ذلك بعض المستشرقين من الإفرنج ، ووافقهم بعض كتّابنا رغبة في الجديد من كلّ شيء ، وأيّ غرابة في تعليقها وتعظيمها بعدما علمنا من تأثير الشعر في نفوس العرب؟! وأمّا الحجّة التي أراد النحّاس أن يضعّف بها القول فغير وجيهة; لأنّه قال : إنّ حمّاداً لمّا رأى زهد الناس في الشعر جمع هذه السبع وحضّهم عليها وقال لهم : هذه هي المشهوراتآ»12 ، وبعد ذلك أيّد كلامه ومذهبه في صحّة التعليق بما ذكره ابن الأنباري إذ يقول : آ«وهو ـ أي حمّاد ـ الذي جمع السبع الطوال ، هكذا ذكره أبو جعفر النحاس ، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنّها كانت معلّقة على الكعبةآ»13 .
وقد استفاد جرجي زيدان من عبارة ابن الأنباري : آ«ما ذكره الناسآ» ، فهو أي ابن الأنباري يتعجّب من مخالفة النحاس لما ذكره الناس ، وهم الأكثرية من أنّها علقت في الكعبة .

النافون للتعليق :
ولعلّ أوّلهم والذي يعدُّ المؤسّس لهذا المذهب ـ كما ذكرنا ـ هو أبو جعفر النحّاس ، حيث ذكر أنّ حمّاداً الراوية هو الذي جمع السبع الطوال ، ولم يثبت من أنّها كانت معلّقة على الكعبة ، نقل ذلك عنه ابن الأنباري14 . فكانت هذه الفكرة أساساً لنفي التعليق :
كارل بروكلمان حيث ذكر أنّها من جمع حمّاد ، وقد سمّاها بالسموط والمعلّقات للدلالة على نفاسة ما اختاره ، ورفض القول : إنّها سمّيت بالمعلّقات لتعليقها على الكعبة ، لأن هذا التعليل إنّما نشأ من التفسير الظاهر للتسمية وليس سبباً لها ، وهو ما يذهب إليه نولدكه15.
وعلى هذا سار الدكتور شوقي ضيف مضيفاً إليه أنّه لا يوجد لدينا دليل مادّي على أنّ الجاهليين اتّخذوا الكتابة وسيلة لحفظ أشعارهم ، فالعربية كانت لغة مسموعة لا مكتوبة . ألا ترى شاعرهم حيث يقول :
فلأهدينّ مع الرياح قصيدة منّي مغلغلة إلى القعقاعِ
ترد المياه فما تزال غريبةً في القوم بين تمثّل وسماعِ؟16
ودليله الآخر على نفي التعليق هو أنّ القرآن الكريم ـ على قداسته ـ لم يجمع في مصحف واحد إلاّ بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) (طبعاً هذا على مذهبه) ، وكذلك الحديث الشريف . لم يدوّن إلاّ بعد مرور فترة طويلة من الزمان (لأسباب لا تخفى على من سبر كتب التأريخ وأهمّها نهي الخليفة الثاني عن تدوينه) ومن باب أولى ألاّ تكتب القصائد السبع ولا تعلّق17 .
وممّن ردّ الفكرة ـ فكرة التعليق ـ الشيخ مصطفى صادق الرافعي ، وذهب إلى أنّها من الأخبار الموضوعة التي خفي أصلها حتّى وثق بها المتأخّرون18 .
ومنهم الدكتور جواد علي ، فقد رفض فكرة التعليق لاُمور منها :

1 ـ أنّه حينما أمر النبي بتحطيم الأصنام والأوثان التي في الكعبة وطمس الصور ، لم يذكر وجود معلقة أو جزء معلّقة أو بيت شعر فيها .
2 ـ عدم وجود خبر يشير إلى تعليقها على الكعبة حينما أعادوا بناءَها من جديد .
3 ـ لم يشر أحد من أهل الأخبار الّذين ذكروا الحريق الذي أصاب مكّة ، والّذي أدّى إلى إعادة بنائها لم يشيروا إلى احتراق المعلّقات في هذا الحريق .
4 ـ عدم وجود من ذكر المعلّقات من حملة الشعر من الصحابة والتابعين ولا غيرهم .
ولهذا كلّه لم يستبعد الدكتور جواد علي أن تكون المعلّقات من صنع حمّاد19 ، هذا عمدة ما ذكره المانعون للتعليق .
بعد استعراضنا لأدلة الفريقين ، اتّضح أنّ عمدة دليل النافين هو ما ذكره ابن النحاس حيث ادعى انّ حماداً هو الذي جمع السبع الطوال .
وجواب ذلك أن جمع حماد لها ليس دليلا على عدم وجودها سابقاً ، وإلاّ انسحب الكلام على الدواوين التي جمعها أبو عمرو بن العلاء والمفضّل وغيرهما ، ولا أحد يقول في دواوينهم ما قيل في المعلقات . ثم إنّ حماداً لم يكن السبّاق الى جمعها فقد عاش في العصر العباسي ، والتاريخ ينقل لنا عن عبد الملك أنَّه عُني بجمع هذه القصائد (المعلقات) وطرح شعراء أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة20 .
وأيضاً قول الفرزدق يدلنا على وجود صحف مكتوبة في الجاهلية :
أوصى عشية حين فارق رهطه عند الشهادة في الصحيفة دعفلُ
أنّ ابن ضبّة كان خيرٌ والداً وأتمّ في حسب الكرام وأفضلُ
كما عدّد الفرزدق في هذه القصيدة اسماء شعراء الجاهلية ، ويفهم من بعض الأبيات أنّه كانت بين يديه مجموعات شعرية لشعراء جاهليين أو نسخ من دواوينهم بدليل قوله :
والجعفري وكان بشرٌ قبله لي من قصائده الكتاب المجملُ
وبعد ابيات يقول :
دفعوا إليَّ كتابهنّ وصيّةً فورثتهنّ كأنّهنّ الجندلُ21
كما روي أن النابغة وغيره من الشعراء كانوا يكتبون قصائدهم ويرسلونها الى بلاد المناذرة معتذرين عاتبين ، وقد دفن النعمان تلك الأشعار في قصره الأبيض ، حتّى كان من أمر المختار بن أبي عبيد واخراجه لها بعد أن قيل له : إنّ تحت القصر كنزاً22 .
كما أن هناك شواهد أخرى تؤيّد أن التعليق على الكعبة وغيرها ـ كالخزائن والسقوف والجدران لأجل محدود أو غير محدود ـ كان أمراً مألوفاً عند العرب ، فالتاريخ ينقل لنا أنّ كتاباً كتبه أبو قيس بن عبدمناف بن زهرة في حلف خزاعة لعبد المطّلب ، وعلّق هذا الكتاب على الكعبة23 . كما أنّ ابن هشام يذكر أنّ قريشاً كتبت صحيفة عندما اجتمعت على بني هاشم وبني المطّلب وعلّقوها في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم24 .
ويؤيّد ذلك أيضاً ما رواه البغدادي في خزائنه25 من قول معاوية : قصيدة عمرو بن كلثوم وقصيدة الحارث بن حِلزه من مفاخر العرب كانتا معلّقتين بالكعبة دهراً26 .
هذا من جملة النقل ، كما أنّه ليس هناك مانع عقلي أو فنّي من أن العرب قد علّقوا أشعاراً هي أنفس ما لديهم ، وأسمى ما وصلت إليه لغتهم; وهي لغة الفصاحة والبلاغة والشعر والأدب ، ولم تصل العربية في زمان إلى مستوى كما وصلت إليه في عصرهم . ومن جهة اُخرى كان للشاعر المقام السامي عند العرب الجاهليين فهو الناطق الرسمي باسم القبيلة وهو لسانها والمقدّم فيها ، وبهم وبشعرهم تفتخر القبائل ، ووجود شاعر مفلّق في قبيلة يعدُّ مدعاة لعزّها وتميّزها بين القبائل ، ولا تعجب من حمّاد حينما يضمّ قصيدة الحارث بن حلزّة إلى مجموعته ، إذ إنّ حمّاداً كان مولى لقبيلة بكر بن وائل ، وقصيدة الحارث تشيد بمجد بكر سادة حمّاد27 ، وذلك لأنّ حمّاداً يعرف قيمة القصيدة وما يلازمها لرفعة من قيلت فيه بين القبائل .
فإذا كان للشعر تلك القيمة العالية ، وإذا كان للشاعر تلك المنزلة السامية في نفوس العرب ، فما المانع من أن تعلّق قصائد هي عصارة ما قيل في تلك الفترة الذهبية للشعر؟
ثمّ إنّه ذكرنا فيما تقدّم أنّ عدداً لا يستهان به من المؤرّخين والمحقّقين قد اتفقوا على التعليق .
فقبول فكرة التعليق قد يكون مقبولا ، وأنّ المعلّقات لنفاستها قد علّقت على الكعبة بعدما قرئت على لجنة التحكيم السنوية ، التي تتّخذ من عكاظ محلاً لها ، فهناك يأتي الشعراء بما جادت به قريحتهم خلال سنة ، ويقرأونها أمام الملإ ولجنة التحكيم التي عدُّوا منها النابغة الذبياني ليعطوا رأيهم في القصيدة ، فإذا لاقت قبولهم واستحسانهم طارت في الآفاق ، وتناقلتها الألسن ، وعلّقت على جدران الكعبة أقدس مكان عند العرب ، وإن لم يستجيدوها خمل ذكرها ، وخفي بريقها ، حتّى ينساها الناس وكأنّها لم تكن شيئاً مذكوراً .
موضوع شعر المعلّقات
لو رجعنا إلى القصائد الجاهلية الطوال والمعلّقات منها على الأخصّ رأينا أنّ الشعراء يسيرون فيها على نهج مخصوص; يبدأون عادة بذكر الأطلال ، وقد بدأ عمرو بن كلثوم مثلاً بوصف الخمر ، ثمّ بدأ بذكر الحبيبة ، ثمّ ينتقل أحدهم إلى وصف الراحلة ، ثمّ إلى الطريق التي يسلكها ، بعدئذ يخلص إلى المديح أو الفخر (إذا كان الفخر مقصوداً كما عند عنترة) وقد يعود الشاعر إلى الحبيبة ثمّ إلى الخمر ، وبعدئذ ينتهي بالحماسة (أو الفخر) أو بذكر شيء من الحِكَم (كما عند زهير) أو من الوصف كما عند امرئ القيس .
ويجدر بالملاحظة أنّ في القصيدة الجاهلية أغراضاً متعدّدة; واحد منها مقصود لذاته (كالغزل عند امرئ القيس ، الحماسة عند عنترة ، والمديح عند زهير . .) ،
عدد القصائد المعلّقات
لقد اُختلف في عدد القصائد التي تعدّ من المعلّقات ، فبعد أن اتّفقوا على خمس منها; هي معلّقات : امرئ القيس ، وزهير ، ولبيد ، وطرفة ، وعمرو بن كلثوم . اختلفوا في البقيّة ، فمنهم من يعدّ بينها معلّقة عنترة والحارث بن حلزة ، ومنهم من يدخل فيها قصيدتي النابغة والأعشى ، ومنهم من جعل فيها قصيدة عبيد بن الأبرص ، فتكون المعلّقات عندئذ عشراً .
نماذج مختارة من القصائد المعلّقة مع شرح حال شعرائها
أربع من هذه القصائد اخترناها من بين القصائد السبع أو العشر مع اشارة لما كتبه بعض الكتاب والأدباء عن جوانبها الفنية.. لتكون محور مقالتنا هذه :
امرؤ القيس
اسمه : امرؤ القيس ، خندج ، عدي ، مليكة ، لكنّه عرف واشتهر بالاسم الأوّل ، وهو آخر اُمراء اُسرة كندة اليمنيّة .
أبوه : حجر بن الحارث ، آخر ملوك تلك الاُسرة ، التي كانت تبسط نفوذها وسيطرتها على منطقة نجد من منتصف القرن الخامس الميلادي حتى منتصف السادس .
اُمّه : فاطمة بنت ربيعة اُخت كليب زعيم قبيلة ربيعة من تغلب ، واُخت المهلهل بطل حرب البسوس ، وصاحب أوّل قصيدة عربية تبلغ الثلاثين بيتاً .

نبذة من حياته :
قال ابن قتيبة : هو من أهل نجد من الطبقة الاُولى28 . كان يعدّ من عشّاق العرب ، وكان يشبّب بنساء منهنّ فاطمة بنت العبيد العنزية التي يقول لها في معلّقته :
أفاطمُ مهلاً بعض هذا التدلّل
وقد طرده أبو ه على أثر ذلك . وظل امرؤ القيس سادراً في لهوه إلى أن بلغه مقتل أبيه وهو بدمّون فقال : ضيّعني صغيراً ، وحمّلني دمه كبيراً ، لا صحو اليوم ولا سكرَ غداً ، اليوم خمرٌ وغداً أمرٌ ، ثمّ آلى أن لا يأكل لحماً ولا يشرب خمراً حتّى يثأر لأبيه29 .
إلى هنا تنتهي الفترة الاُولى من حياة امرئ القيس وحياة المجون والفسوق والانحراف ، لتبدأ مرحلة جديدة من حياته ، وهي فترة طلب الثأر من قَتَلة أبيه ، ويتجلّى ذلك من شعره ، الّذي قاله في تلك الفترة ، الّتي يعتبرها الناقدون مرحلة الجدّ من حياة الشاعر ، حيكت حولها كثير من الأساطير ، التي اُضيفت فيما بعد إلى حياته . وسببها يعود إلى النحل والانتحال الذي حصل في زمان حمّاد الراوية ، وخلف الأحمر ومن حذا حذوهم . حيث أضافوا إلى حياتهم ما لم يدلّ عليه دليل عقلي وجعلوها أشبه بالأسطورة . ولكن لا يعني ذلك أنّ كلّ ما قيل حول مرحلة امرئ القيس الثانية هو اُسطورة .
والمهم أنّه قد خرج إلى طلب الثأر من بني أسد قتلة أبيه ، وذلك بجمع السلاح وإعداد الناس وتهيئتهم للمسير معه ، وبلغ به ذلك المسير إلى ملك الروم حيث أكرمه لما كان يسمع من أخبار شعره وصار نديمه ، واستمدّه للثأر من القتلة فوعده ذلك ، ثمّ بعث معه جيشاً فيهم أبناء ملوك الروم ، فلمّا فصل قيل لقيصر : إنّك أمددت بأبناء ملوك أرضك رجلاً من العرب وهم أهل غدر ، فإذا استمكن ممّا أراد وقهر بهم عدوّه غزاك . فبعث إليه قيصر مع رجل من العرب كان معه يقال له الطمّاح ، بحلّة منسوجة بالذهب مسمومة ، وكتب إليه : إنّي قد بعثت إليك بحلّتي الّتي كنت ألبسها يوم الزينة ليُعرف فضلك عندي ، فإذا وصلت إليك فالبسها على الُيمن والبركة ، واكتب إليّ من كلّ منزل بخبرك ، فلمّا وصلت إليه الحلّة اشتدّ سروره بها ولبسها ، فأسرع فيه السمّ وتنفّط جلده ، والعرب تدعوه : ذا القروح لذلك ، ولقوله :
وبُدِّلْتُ قرحاً دامياً بعد صحّة فيالك نُعمى قد تحوّلُ أبؤسا
ولمّا صار إلى مدينة بالروم تُدعى : أنقرة ثقل فأقام بها حتّى مات ، وقبره هناك .
وآخر شعره :
ربّ خطبة مسحنفَرهْ وطعنة مثعنجرهْ
وجعبة متحيّرهْ تدفنُ غداً بأنقرةْ
ورأى قبراً لامرأة من بنات ملوك العرب هلكت بأنقره فسأل عنها فاخبر ، فقال :
أجارتنا إنّ المزار قريبُ وإنّي مقيم ما أقام عسيبُ
أجارتَنا إنّا غريبانِ هاهنا وكلّ غريب للغريب نسيبُ30
وقد عدَّ الدكتور جواد علي والدكتور شوقي ضيف وبروكلمان وآخرون بعض ما ورد في قصّة امرئ القيس وطرده ، والحكايات التي حيكت بعد وصوله إلى قيصر ودفنه بأنقرة إلى جانب قبر ابنة بعض ملوك الروم ، وسبب موته بالحلة المسمومة ، وتسميته ذا القروح من الأساطير .

قالوا فيه :
1 ـ النبيّ(صلى الله عليه وآله) : ذاك رجل مذكور في الدنيا ، شريف فيها منسيّ في الآخرة خامل فيها ، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار31 .
2 ـ الإمام علي(عليه السلام) : سُئل من أشعر الشعراء؟ فقال :
إنّ القوم لم يَجروا في حَلبة تُعرفُ الغايةُ عند قصبتها ، فإنْ كان ولابُدّ فالملكُ الضِّلِّيلُ32 . يريد امرأ القيس .
3 ـ الفرزدق سئل من أشعر الناس؟ قال : ذو القروح .
4 ـ يونس بن حبيب : إنّ علماء البصرة كانوا يقدّمون امرأ القيس .
5 ـ لبيد بن ربيعة : أشعر الناس ذو القروح .
6 ـ أبو عبيدة معمّر بن المثنّى : هو أوّل من فتح الشعر ووقف واستوقف وبكى في الدمن ووصف ما فيها . . .33
معلّقة امرئ القيس
البحر : الطويل . عدد أبياتها : 78 بيتاً منها : 9 : في ذكرى الحبيبة . 21 : في بعض مواقف له . 13 : في وصف المرأة . 5 : في وصف الليل . 18 : في السحاب والبرق والمطر وآثاره . والبقية في اُمور مختلفة .
استهلّ امرؤ القيس معلّقته بقوله :
قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزِلِ بِسِقْط اللِّوَى بين الدَّخُوْلِ فَحَوْمَلِ
فتوضِحَ فالمقراة لم يعفُ رسمُها لما نسجتها من جنوب وَشَمْأَلِ
وقد عدّ القدماء هذا المطلع من مبتكراته ، إذ وقف واستوقف وبكى وأبكى وذكر الحبيب والمنزل ، ثمّ انتقل إلى رواية بعض ذكرياته السعيدة بقوله :
ألا ربّ يوم لَكَ منهُنَّ صالحٌ ولاسيّما يومٌ بدراة جُلجُلِ
ويومَ عقرت للعِذارى مطيّتي فيا عجباً من رحلِها المتحمّلِ

فضلّ العذارى يرتمينَ بلحمها وشحم كهذّاب الدِّمَقْسِ المُفَتَّلِ
وحيث إنّ تذكّر الماضي السعيد قد أرّق ليالي الشاعر ، وحرمه الراحة والهدوء; لذا فقد شعر بوطأة الليل; ذلك أنّ الهموم تصل إلى أوجها في الليل ، فما أقسى الليل على المهموم! إنّه يقضّ مضجعهُ ، ويُطير النوم من عينيه ، ويلفّه في ظلام حالك ، ويأخذه في دوامة تقلّبه هنا وهناك لا يعرف أين هو ، ولا كيف يسير ولا ماذا يفعل ، ويلقي عليه بأحماله ، ويقف كأنّه لا يتحرّك . . يقول :
وليل كموج البحرِ أرخى سدوله عليّ بأنواع الهمومِ ليبتلي
فقُلْتُ لَهُ لمّا تمطّى بصلبِهِ وأردف أعجازاً وناءَ بِكَلْكَلِ
ألا أيّها الليلُ الطويل ألا انجلي بصبح وما الأصْبَاحُ منكَ بِأمْثَلِ
وتعدّ هذه الأبيات من أروع ما قاله في الوصف ، ومبعث روعتها تصويره وحشيّة الليل بأمواج البحر وهي تطوي ما يصادفها; لتختبر ما عند الشاعر من الصبر والجزع .
فأنت أمام وصف وجداني فيه من الرقّة والعاطفة النابضة ، وقد استحالت سدول الليل فيه إلى سدول همّ ، وامتزج ليل النفس بليل الطبيعة ، وانتقل الليل من الطبيعة إلى النفس ، وانتقلت النفس إلى ظلمة الطبيعة .
فالصورة في شعره تجسيد للشعور في مادّة حسّية مستقاة من البيئة الجاهلية .
ثمّ يخرج منه إلى وصف فرسه وصيده ولذّاته فيه ، وكأنّه يريد أن يضع بين يدي صاحبته فروسيته وشجاعته ومهارته في ركوب الخيل واصطياد الوحش يقول :
وقد أَغتدي والطير في وُكُناتِها بِمُنْجرد قيدِ الأوابدِ هيكلِ
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِل مُدْبر معاً كجُلْمُودِ صَخْر حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ

وهو وصف رائع لفرسه الأشقر ، فقد صوّر سرعته تصويراً بديعاً ، وبدأ فجعله قيداً لأوابد الوحش إذا انطلقت في الصحراء فإنّها لا تستطيع إفلاتاً منه كأنّه قيد يأخذ بأرجلها .
وهو لشدّة حركته وسرعته يخيّل إليك كأنّه يفرّ ويكرّ في الوقت نفسه ، وكأنّه يقبل ويدبر في آن واحد ، وكأنّه جلمود صخر يهوى به السيل من ذورة جبل عال .
ثمّ يستطرد في ذكر صيده وطهي الطهاة له وسط الصحراء قائلاً :
فظلّ طهاةُ اللحمِ ما بين منضج صفيف شواء أو قدير معجّلِ
وينتقل بعد ذلك إلى وصف الأمطار والسيول ، التي ألمّت بمنازل قومه بني أسد بالقرب من تيماء في شمالي الحجاز ، يقول :

أحارِ ترى برقاً كأنّ وميضَهُكلمعِ اليدين في حبيٍّ مكَلّلِيضيءُ سناهُ أو مصابيحُ راهب أهانَ السَّليطَ في الذُّبالِ المفتّلِقعدتُ له وصحبتي بين حامِروبين إكام بُعْدَ ما متأمّلِوأضحى يسحُّ الماء عن كلِّ فيقةيكبُّ على الأذهان دوحَ الكَنهْبَلِوتيماءَ لم يترك بها جذعَ نخلةولا اُطماً إلاّ مشيداً بِجَنْدَلِ

استهلّ هذه القطعة بوصف وميض البرق وتألّقه في سحاب متراكم ، وشبّه هذا التألّق واللمعان بحركة اليدين إذا اُشير بهما ، أو كأنّه مصابيح راهب يتوهّج ضوؤها بما يمدّها من زيت كثير .
ويصف كيف جلس هو وأصحابه يتأمّلونه بين جامر وإكام ، والسحاب يسحّ سحّاً ، حتّى لتقتلع سيوله كلّ ما في طريقها من أشجار العِضاه العظيمة ، وتلك تيماء لم تترك بها نخلاً ولا بيتاً ، إلاّ ما شيّد بالصخر ، فقد اجتثّت كلّ ما مرّت به ، وأتت عليه من قواعده واُصوله .

لبيد بن ربيعة
هو لبيد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة . . الكلابي
قال المرزباني : كان فارساً شجاعاً سخيّاً ، قال الشعر في الجاهلية دهراً34 .
قال أكثر أهل الأخبار : إنّه كان شريفاً في الجاهلية والإسلام ، وكان قد نذر أن لا تهبّ الصبا إلاّ نحر وأطعم ، ثمّ نزل الكوفة ، وكان المغيرة بن شعبة إذا هبّت الصبا يقول : أعينوا أبا عقيل على مروءته35 .
وحكى الرياشي : لمّا اشتدّ الجدب على مضر بدعوة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وفد عليه وفد قيس وفيهم لبيد فأنشد :
أتيناك يا خير البريّة كلّها لترحمنا ممّا لقينا من الأزلِ
أتيناك والعذراء تدمى لبانها وقد ذهلت أمّ الصبيّ عن الطفلِ
فإن تدعُ بالسقيا وبالعفو ترسل الـ ـسّماءَ لنا والأمر يبقى على الأَصْلِ
وهو من الشعراء ، الّذين ترفعوا عن مدح الناس لنيل جوائزهم وصِلاتهم ، كما أنّه كان من الشعراء المتقدّمين في الشعر .
وأمّا أبوه فقد عرف بربيعة المقترين لسخائه ، وقد قُتل والده وهو صغير السّنّ ، فتكفّل أعمامهُ تربيتَه .
ويرى بروكلمان احتمال مجيء لبيد إلى هذه الدنيا في حوالى سنة 560م . أمّا وفاته فكانت سنة 40هـ . وقيل : 41هـ . لمّا دخل معاوية الكوفة بعد أن صالح الإمام الحسن بن علي ونزل النخيلة ، وقيل : إنّه مات بالكوفة أيّام الوليد بن عقبة في خلافة عثمان ، كما ورد أنّه توفّي سنة نيف وستين36 .
قالوا فيه :
1 ـ النبي(صلى الله عليه وآله) : أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد :
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل37

وروى أنّ لبيداً أنشد النبي(صلى الله عليه وآله) قوله :
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطلُ
فقال له : صدقت .
فقال :
وكلّ نعيم لا محالة زائلُ
فقال له : كذبت ، نعيم الآخرة لا يزول38 .
2 ـ المرزباني : إنّ الفرزدق سمع رجلاً ينشد قول لبيد :
وجلا السيوف من الطلولِ كأنّها زبر تجدّ متونَها أقلامُها
فنزل عن بغلته وسجد ، فقيل له : ما هذا؟ فقال : أنا أعرف سجدة الشعر كما يعرفون سجدة القرآن39 .
القول في إسلامه
وأمّا إسلامه فقد أجمعت الرواة على إقبال لبيد على الإسلام من كلّ قلبه ، وعلى تمسّكه بدينه تمسّكاً شديداً ، ولا سيما حينما يشعر بتأثير وطأة الشيخوخة عليه ، وبقرب دنوّ أجله; ويظهر أنّ شيخوخته قد أبعدته عن المساهمة في الأحداث السياسية التي وقعت في أيّامه ، فابتعد عن السياسة ، وابتعد عن الخوض في الأحداث ، ولهذا لا نجد في شعره شيئاً ، ولا فيما روي عنه من أخبار أنّه تحزّب لأحد أو خاصم أحداً .
وروي أنّ لبيداً ترك الشعر وانصرف عنه ، فلمّا كتب عمر إلى عامله المغيرة ابن شعبة على الكوفة يقول له : استنشد من قبلك من شعراء مصرك ما قالوا في الإسلام . أرسل إلى لبيد ، فقال : أرجزاً تُريد أم قصيداً؟ فقال :
أنشدني ما قلته في الإسلام ، فكتب سورة البقرة في صحيفة ثمّ أتى بها ، وقال : أَبدلني الله هذا في الإسلام مكان الشعر . فكتب المغيرة بذلك إلى عمر فنقص من عطاء الأغلب خمسمائة وجعلها في عطاء لبيد40 .
وجعله في اُسد الغابة من المؤلّفة قلوبهم وممّن حسن إسلامه41 ، وكان عمره مائة وخمساً وخمسين سنة ، منها خمس وأربعون في الإسلام وتسعون في الجاهلية42 .

**د لا ل**
2012-02-11, 16:57
تحليل كامل للمعلقات


<LI id=active0>قائمة المعلقات (http://hanialtanbour.com/poems/57.html#)
معلقة زهير بن أبي سلمى
قراءة المعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/index.html)
شرح مفصل (http://hanialtanbour.com/poems/1.html)
شرح المعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/2.html)
نبذة عن الشاعر (http://hanialtanbour.com/poems/3.html)
تعريف بالمعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/4.html)
الاستماع للمعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/5.html)
معلقة عنترة بن شدّاد
قراءة المعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/6.html)
شرح مفصل (http://hanialtanbour.com/poems/7.html)
شرح المعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/8.html)
نبذة عن الشاعر (http://hanialtanbour.com/poems/9.html)
تعريف بالمعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/10.html)
الاستماع للمعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/11.html)
معلقة امرؤ القيس
قراءة المعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/12.html)
شرح مفصل (http://hanialtanbour.com/poems/13.html)
شرح المعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/14.html)
نبذة عن الشاعر (http://hanialtanbour.com/poems/15.html)
تعريف بالمعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/16.html)
الاستماع للمعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/17.html)
معلقة طرفة بن العبد
قراءة المعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/18.html)
شرح مفصل (http://hanialtanbour.com/poems/19.html)
شرح المعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/20.html)
نبذة عن الشاعر (http://hanialtanbour.com/poems/21.html)
تعريف بالمعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/22.html)
الاستماع للمعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/23.html)
معلقة عمرو بن كلثوم
قراءة المعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/24.html)
شرح مفصل (http://hanialtanbour.com/poems/25.html)
شرح المعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/26.html)
نبذة عن الشاعر (http://hanialtanbour.com/poems/27.html)
تعريف بالمعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/28.html)
الاستماع للمعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/29.html)
معلقة الحارث بن حلزة
قراءة المعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/30.html)
شرح مفصل (http://hanialtanbour.com/poems/31.html)
شرح المعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/32.html)
نبذة عن الشاعر (http://hanialtanbour.com/poems/33.html)
تعريف بالمعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/34.html)
الاستماع للمعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/35.html)
معلقة لبيد بن ربيعة
قراءة المعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/36.html)
شرح مفصل (http://hanialtanbour.com/poems/37.html)
شرح المعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/38.html)
نبذة عن الشاعر (http://hanialtanbour.com/poems/39.html)
تعريف بالمعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/40.html)
الاستماع للمعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/41.html)
معلقة الأعــشى
قراءة المعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/42.html)
شرح مفصل (http://hanialtanbour.com/poems/43.html)
نبذة عن الشاعر (http://hanialtanbour.com/poems/44.html)
تعريف بالمعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/45.html)
الاستماع للمعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/46.html)
معلقة عبيد بن الأبرص
قراءة المعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/47.html)
شرح مفصل (http://hanialtanbour.com/poems/48.html)
نبذة عن الشاعر (http://hanialtanbour.com/poems/49.html)
تعريف بالمعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/50.html)
الاستماع للمعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/51.html)
معلقة النابغة الذبياني
قراءة المعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/52.html)
شرح مفصل (http://hanialtanbour.com/poems/53.html)
نبذة عن الشاعر (http://hanialtanbour.com/poems/54.html)
تعريف بالمعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/55.html)
الاستماع للمعلقة (http://hanialtanbour.com/poems/56.html)
تحليل كامل للمعلقات
ما قبل الدخول في القرءاة (http://hanialtanbour.com/poems/57.html)
إثنولوجيّة المعلّقات (http://hanialtanbour.com/poems/58.html)
بنية المطالع في المعلقات (http://hanialtanbour.com/poems/59.html)
جماليّة الحيز في المعلّقات‏ (http://hanialtanbour.com/poems/60.html)
طقوس الماء في المعلقات (http://hanialtanbour.com/poems/61.html)
نظام النسج اللغوي في المعلقات‏ (http://hanialtanbour.com/poems/62.html)
الناصية والتناصية في المعلقات‏ (http://hanialtanbour.com/poems/63.html)
المستوى الثاني: التناصّ المضموني (http://hanialtanbour.com/poems/64.html)
جماليّة الإيقاع في المعلّقات‏ (http://hanialtanbour.com/poems/65.html)
الصورة الأنثويّة للمرأة في المعلّقات‏ (http://hanialtanbour.com/poems/66.html)
الزينة والتزيّن في المعلّقات‏ (http://hanialtanbour.com/poems/67.html)
مظاهر اعتقاديّة في المعلّقات ‏ (http://hanialtanbour.com/poems/68.html)
الصناعات والمُرتفقات الحضاريّة ‏ (http://hanialtanbour.com/poems/69.html)
مصادر البحث ومراجعه (http://hanialtanbour.com/poems/70.html)
عن المعلقات
مقدمة عامة عن المعلقت (http://hanialtanbour.com/poems/71.html)
قصة المعلقات-الجزء الاول (http://hanialtanbour.com/poems/72.html)
قصة المعلقات-الجزء الثاني (http://hanialtanbour.com/poems/73.html)
كتاب يشرح المعلقات السبع (pdf) (http://hanialtanbour.com/poems/74.html)
كتاب يشرح المعلقات العشر (pdf) (http://hanialtanbour.com/poems/75.html)





السبْع المعلّقات [مقاربةسيمائيّة/ أنتروبولوجيّة لنصوصها] - د.عبد الملك مرتاض منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998
دراســـــــة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998

ما قبل الدخول في القراءة:
-1-
كيف يمكن لأسراب متناثرة من السِّمات اللّفظيّة- حين تجتمع، وتتعانق، وتتوامق، وتتعانق، وتتجاور، وتتحاور، وتتضافر؛ فتتناسخ ولا تتناشز- فتغتدِي نسْجاً من الكلام سحريّاً، ونظاماً من القول عطريّا؛ فأما العقولُ فتبهرُها، وأمّا القلوب فتسحرها. فأنَّى ينثال ذلك القَطْرُ المعطَّرُ، ويتأتّى ذلك السحر المَضمّخ: لهذا النسْج الكلاميّ العجيب؟ وكيف تقع تلك العناية البلاغيّة والتعبيريّة للشاعر، فيتفوّق ويَسْتَميزُ؟ ولِمَ يتفاوت الشعراء فيْ ذلك الفضل: فإذا هذا يغترف من بحر، وذاك ينحت من صخر، على حدّ تعبير المقولة النقديّة التراثية. ولِمَ، إذن، يتفاوتون في درجات الشعريّة بين محلّق في العلاء، ومُعْدٍ في سبيلٍ كَأْداء، وَسَارٍ في ليلةٍ دَأْدَاء؟
-2-
ذلك؛ ويندرج أي‌ُّ ضرْب من القراءة الأدبيّة، ضمن إجراءات التأويليّة- أو الهرومينوطيقا- الشديدة التسلّط على أيّ قراءة نقرأ بها نصّاً أدبيّاً، أو دينيّاً، أو فلسفيّاً، أو قانونيّاً، أو سياسيّاً... لكنّ الذي يعنينا، هنا والآن، هو النصّ الأدبيّ الخالص الأدبيّة. والأدبيُّ، هنا، في تمثّلنا ممتدّ إلى الشعريّ، شامل له، معادل لمعناه.
وإنّا إِذْ نأتي اليوم إلى الشعر الجاهليّ بعامّة، وإلى القصائدِ المعلّقاتِ، أو المعلّقاتِ السبعِ، أو السَّبْعِ الطوال، أو السُّموط- فكلُّ يقال- لِنحاولَ قراءتها في أَضواءٍ من المعطيات جديدة، على الأقلّ ما نعتقده نحن: فإنما لكي نُبْرِزَ، من حيث نبتغي أن لا نبتغي، دور هذه التأويليّة المتسلّطة في تمزيق حجاب السريّة التي كان قُصارَاهَا حَجْبَ الحُمولةِ الأدبيّة للنص المقرءِ، أن المحلِّلِ، أو المؤَوَّلِ، أو مواراة الملامح الجماليّة للكتابة...
وسواء علينا أقرأنا نصوص المعلّقات السبع ضمن الإِجراء الأنتروبولوجي، أم ضمن الإِجراء السيمائِياني؛ فإننا في الطوريْن الاثنين معاً نَدْرُجُ في مُضْطَرَبِ التأويليّة ولا نستطيع المروق من حيزها الممتدّ، وفضائها المفتوح، وإجراءاتها المتمكّنة ممّا تودّ أن تتّخذ سبيلَها إِليه...
وإنّا لن ننظر إلى الشعر الجاهليّ نظرة مَنْ يرفضون أن يكون له سياق، أو أن ينهض على مرجعيّة، أو تكون له صلة بالمجتمع الذي ينتمي إِليه: من حيث هو بيئة شاملةُ المظاهر، متراكبة العلاقات؛ لأننا لو إِلى ذلك أردْنا، وإياهُ قَصَدْنا؛ لَمَا عُجْنا على مفهوم الأنتربولوجيا نسائله عن دلالاتها التّي تعدّدت بين الأمريكيّين والأوربيّين من وِجْهة، وتَطوّرت بين قرنين اثنيْن: القرن التاسع عشر والقرن العشرين من وجهة أخراة: كما كان شعراء ما قبل الإسلام يسائلون الربوع الدارسة، والأطلال البالية، والقِيعان التي هجرَها قطينُها، فعَزَّ أَنيسُها...
لكنّنا لسنا أيضاً اجتماعِيّيَن نتعصّب للمجتمع فنزعم أنه هو كلّ شيء، وأنّ ما عداه ممّا يبدو فيه من آثار المعرفة، ومظاهر الفنّ، ووجوه الجمال، وأَسقاط الأدب؛ لا يعدو كلّ أولئك أن يكون مجرّد انعكاس له، وانتساخ منه، وانبثاق عنه... ذلك بأنّ الفنّ قد يستعصم، والجمالَ قد يستعصي، والأدب قد يعتاص على الأَفهام فلا يعترف بقوانين المجتمع، ولا بتقاليده، فيثور عليها، وينسلخ منها رافضاً إِيّاها؛ مستشرفاً عالَماً جديداً جميلاً، وحالماً ناضراً، لا يخضع للقيود، ولا يذعن للنواميس البالية...
إِنّا لو شئنا أن نُدَارِسَ الأدب في ضوء المنهج الاجتماعيّ لكنّا استرحنا من كلّ عناء، ولما كنّا جشّمنا النفس ضنى القراءة في المعرفيّات الإنسانيّة، ولكنّا أخلدنا إلى هذه القراءة البسيطة التي تجتزىْ، مقتنعة واثقة من أمرها، بتأويل الظاهرة الأدبيّة، أو قل بتفسيرها على الأصحّ، في ضوء الظاهرة الاجتماعيّة، وتستريح؛ ولكنها لا تريح. بل إِنّ مفهوم التأويل الذي نصطنع هنا قد يكون في غير موضعه من الدلالة الاصطلاحية؛ إِذ عادة ما يكون هذا التأويل أدعى إِلى الجهد الفكري، والذهاب في مجاهله إِلى أقصى الآفاق الممكنة من حيث إِنّ المنهج الاجتماعيّ، في قراءة الأدب، لا يكاد يُعْنِتُ نفسّه، ولا يكاد يشقّ عليها، أو يجاهدها: إِذ حَكَمَ، سلَفاً، باجتماعيّة هذا النصّ، أي بابتذالِه؛ أي بتمريغه في السوقّيّة؛ أي بعزوه إِلى تأثير الدهماء. بل لا يجتزىْ بذلك حتى يجعَلَه نتاجاً من أثارها، ومظهراً من مظاهر تفكيرها، وطوراً من أطوار حياتها، بدون استحياء...
المنهج الاجتماعيّ بفجاجته، وسطحيّته، وسوقيّته، وفزَعِه إِلى شؤون العامّة يستنطقها: لا يُجْدِي فتيلاً في تحليل الظاهرة الأدبيّة الراقية، ولا في استنطاق نصوصها العالية، ولا في الكشف عمّا في طيّاتها من جمال، ولا في تقصّي ما فيها من عبقريّ الخيال... فأَوْلَى لعلم الاجتماع أن يظلّ مرتبطاً بما حدّده بنفسه لنفسه، وبما حَكَم به على وضعه، وهو النظر في شؤون العوامّ وعلاقاتهم: بعضهم ببعض، أو تصارع بعضهم مع بعض، أو تصارعهم مع مَنْ أعلى منهم، حسَداً لهم، وطمَعَاً في أرزاقهم؛ كما قرر ذلك ماركسهم فأقام الحياة كلَّها على صراع البنية السفلى مع العليا...
وعلى الرغم من أننا لا نعدم من يحاول ربط علم الاجتماع بالأنتروبولوجيا، أوجعل الأنتروبولوجيا مجرد فرعيّة اجتماعيّة، وأنّ قد يسمّى "الأنتروبولوجيا الاجتماعيّة" إِنما انبثق عن دراسة المجتمعات الموصوفة بـ "البدائيّة" (1): فإِنّ ذلك لا يعدو كَونَهُ حذلقةً جامعيّة تكاد لا تعني كبيرَ شيءٍ؛ وإِلاّ فما بالُ هذا العِلْمِ يتمرّد على علم الاجتماع، فيختلف عنه في منهجه، ويمرق عنه في تحديد حقوله؛ ممّا أربك علم الاجتماع نفسّه، فجعله يكاد لا يُعْنَى بشيء إِلاّ‍ ألفى نفسه خارج الحدود الحقيقيّة التي كان اتخذها، أصلاً، لطبيعة وضعه؛ وذلك كشأن البحوث المنصرفة إلى الدين، وإلى الأسطورة، وإلى السحر، وإلى السياسة، وإلى علاقات القربى بين الناس، وإلى كل، مظاهر العادات والتقاليد والمعتقدات والبيئات الأولى لنشوء الإنسان...
لقد استأثرت الانتروبولوجيا- أو علم معرفة الإنسان- بمعظم مجالات الحياة الأولى للإنسان، فإذا هي كأنها: "علم الحيوان للنوع البشريّ" (2)؛ إذ تشمل، من بين ما تشمله: علم التشريح البشريّ، وما قبل التاريخ، وعلم الآثار، وعلم وصف الشعوب، وعلم معرفة الشعوب، وعلم الاجتماع نفسه، والفولكور، والأساطير، واللسانيّات (3). فما ذا بقي لعلم الاجتماع أمام كلّ هذا؟
أم أنّ علم الاجتماع يستطيع أن يزعم أنه قادر على منافسة الأنتروبولوجيا في صميم مجالات اختصاصها؟ أنّا لا نعتقد ذلك. ولكن ما نعتقده أنّ الأنتروبولوجيا ليست علماً واحداً بمقدار ما هي شبكة معقّدة من علوم مختلفة ذات موضوع واحد مشترك هو الإنسان وتطوره التاريخيّ، وتطوره فيما قبل التاريخ أيضاً (4).
وإذن، فليس علم الاجتماع إِلاّ مجرّد نقطة من هذا المحيط، هذا العُباب الذي لا ساحل له؛ وليس إذن، إِلاّ مجرّد جملة من الظواهر التي تظهر في مجتمع ما، لتختفي، ربما، من بعد ذلك، أو لتستمر، ربما، إلى حين: كظاهرة الطلاق، أو ظاهرة المخدّرات، أو ظاهرة الجريمة، في مدينة من المدن، أو في بلد من البلدان.... على حين أنّ الأنتروبولوجيا هي العمق بعينه، وهي الأصل بنفسه؛ فهي تمثّل الجذور الأولى للإنسان، وفيزيقيّته وطبيعته، وعلاقته مع الطبيعة، وعلاقته بالآخرين، وعلاقته بما وراء الطبيعة المعتقدات- الدين- الأساطير)، وعلاقته بالأنظمة والقوانين (الأنظمة السياسيّة)، وعلاقته بالأقارب أو ارتباطه بالأسرة، وعلاقته بالعشيرة أو القبيلة، وعلاقته بالمحيط بكلّ أبعاده الطقسية، والاقتصاديّة، والثقافيّة (وتشمل الثقافة في نفسها: جملة من المظاهرة مثل الأسطورة، والسحر، وكيفيّات التعبّد، وهلّم جرّا.....).
فبينما عِلْمُ الاجتماع يتخذ، من بين ما يتّخذ، من الإحصاءات والاستبيانات إِجراءُ له في تحليل الظاهرة الاجتماعية وتفسيرها؛ نُلْغي العالِم الأنتروبولوجيّ "الغارق" في المجتمع الذي يدرسه،
يُعْنَى بصميم المعيش في هذا المجتمع. وأيّاً كان الشأن، فإنّ كُلاً منهما اغتدى الآن يستعير من منهج الآخر، دون أن يلفي في ذلك غضاضةً (5).
بيد أنّ الأنتروبولوجيا أوسعُ مجالاً، و أشدّ تسلّطاً على المجتمعات. ونحن نرى أنّ علم الاجتماع يتسلّط على الظاهرة من حيثُ كَوْنُها تَحْدُثُ وتتكرّر، وتشيع في مجتمع ما؛ أي كأنه يتسلّط على وصف ما هو كائن؛ على حين أنّ الأَناسِيَّةَ تتسلّط على المجتمعات التقليديّة، أو البدائيّة من حيث هي: فتصفها، ثم تحلّلها. فكأنّ علم الاجتماع يتسلّط على ظواهر اجتماعيّة منفردة ليصفها ويحلّلها، بينما الأَناسِيَّةُ تتسلّط على المجتمع البدائيّ في كلّيّاته فتجتهد في وصفها أوّلاً، ثم تحليلها آخراً.
وإذن، فلأْمرٍ ما أطلق العلماء على هذه المعرفيّة اصطلاح "علم الأناسة"، أو "علم الإنسان"، أو "الأناسيّة (كما نريد نحن أن نصطلح على ذلك): فكأنها العلم الذي بواسطته، وقبل علم النفس ذاته، يستطيع معرفة الإنسان في أصوله العرقيّة، وتاريخه الحضاريّ، وعلاقته بالعالم الخارجي.. بل الإيغال في معرفة معتقداته، وعاداته، وتقاليده، وأعرافه، وكلّ علاقاته بالطبيعة والكون...
-4-
ذلك، وأنّا ألفينا الناس دَرَسوا الشعر العربيّ القديم، وينصرف، لدينا، معنى القِدَمِ، وَهُنَا، إِلى عهدِ ما قبل الإسلام تحديداً: من جملة من المستويات، وتحت جملةٍ من الأشكال، وتحت طائفة من الزوايا، وعبر مختلف الرُّؤى والمواقف، وبمختلف الإجراءات والمناهج: انطلاقاً من أبي زيد القرشي، ومحمد بن سلاّم، ومروراً بالقرطاجنّي إِلى كمال أبي ديب، ومصطفى ناصف... ونحن نعتقد أنّ الذي لا يخوض في الظاهرة الشعريّة، العربيّة القديمة، من النقاد لا تكتمل أدواتُه، ولا تَنْفُقُ بضاعتُه من العلم، ولا يقوم له وجه من المعرفة الرصينة، ولا يذيع له صيت في نوادي الأدب؛ ولا يستطيع، مع كلّ ذلك، أو أثناء كلّ ذلك، أن يزعم للناس من قرائه أنه قادر على فهم الظاهرة الأدبيّة في أيّ عهد من العهود اللاّحقة، ما لَمْ يَعُجْ على هذه الأشعار يستنطقها استنطاقاً، ويقصّ آثارها، ويتسقّط أخبارها: فيعاشر أُولئِكَ الشعراءَ، ويقْعُدُ القُرْفُصَاءَ لِرُواتِهم، ويتلطّف مع أشباح أَرِئْيّائِهِمْ؛ ثمّ على الديار البالية، ويقترِئُ الأطلالَ الخالية؛ يتتبّع بَعَرَ الأَرْأمِ في العَرَصات، ويقف لدى الدِمَنِ المقفرات: يباكي الشعراء المدلّهين، ويتعذّب مع العشاق المدنّفين..
ما لَمْ يأتِ الناقدُ العربيُّ المعاصر شيئاً من ذلك.... ما لم ينهض بهذه التجربة الممتعة الممرعة... ما لم يجتهدْ في أَن ينطلق من الجذور الأدبيّة... ما لم يُصْرِرْ على الاندفاع من أرومة الأدب، وينابيع الشعر العذريّة... ما لمْ يُقْدِمْ، إذن، على البّدءِ مما يجب البدء منه: يظلّ، أخرى اللّيالي، مفتقراً، في ثقافته النقديّة، وفي ممارسته الدرسية، وفي تمثّله الجماليّ أيضاً، إلى شيء ما.... هو هذا المفقود مما كان يجب أن يكون، في مسيرته الأدبيّة، موجوداً موفوراً...
ولعلّ بعض ذلك التمثّل الذي نتمثّل به هذا الأمر، هو الذي حَملَنا على الإقبال على هذا الشعر الجميل الأصيل، والعُذْريّ الأثيل، نغترف من منابعه، ونرتشف من مدافعه؛ بعد أن كنّا في أول كتاب لنا، أصْلاً، عُجْنا على بعض شعر امرئ القيس نقرؤه ونحلّله، بما كنّا نعتقد، يومئذ، أنّه قراءة وتحليل... ولكن لاَ سواءٌ ما كنّا جِئناهُ منذ زهاء ثلاثين سنة، وما نزمع على مجيئه اليوم...
إنّ الاستهواءَ لا يكفي. فقد يَهْوى أحدُنا موضوعاً فيقبل عليه، بحبّ شديد، يعالجه.. ولكنه، مع ذلك، قد لا يبلغ منه ما كان يريد... وإذن، فهوايَتُنا هذا الشعرَ القديمَ ليست شفيعة لنا؛ ما لم نجدّد في سعينا، ونبتكر في قراءتنا، بعد أن كان تعاوَرَ على هذا الشعر الكبير مئات من النقاد والمؤرخين والدارسين، قديماً وحديثاً.... ولو جئنا نحصي من المحدثين، منذ عهد طه حسين فقط، من تناولوا هذا الشعر لألفينا عدَدَهم جمّاً، وسَوادَهم كُثْراً.... فما الذي غرَّنا بالخوض فيما خاضوا فيه، مع تغازُر العدد، وتوافر المدد، واعتياص الصّدد؟ فلعلّ الذي حَمَلنا على التجرّؤ، ودَفَعنا إلى التحفّز، مع ما نعلم من عدد السابقين لنا، هو الحريّة التي جعلها الله لنا حقاً؛ وهو، أيضاً، حبّ إبداء الرأي الذي جعله الله لنا باباً مفتوحاً، وسبباً ميسوراً، إلى يوم القيامة. وهو، بعد ذلك، ما نطمع فيه من القدرة على المسابقة والمنافسة، وما نشرئبّ إلى إضافته إلى قراءات الذين سبقونا. ولَوْلا أعْتِقادُنا بشيء من هذا التفرّد الشخصيّ في هذه القراءة التي ندّعي لها صفة الجدّة في كثير من مظاهرها ومساعيها؛ لما أعْنَتْنَا النفْسَ، وجاهدنا الوُكْد، في هذه الصحائف التي نَزْدَفُّها إلى قرائنا في المشرق وفي المغرب، وكلّنا طمع في أنها ستقدّم إليهم شيئاً مما لم تستطع القراءات السابقة تقديمَه إليهم، إن شاء الله....
ولمّا كان حرصُنا شديداً على ذلك، ورجاؤُنا شديداً في تحقيق ذلك- وبعد تدبّر وتفكّر- بدا لنا أن نجيء إلى بعض هذا الشعر العربي القديم، ممثّلاً في معلّقاته السبع العجيبات البديعات، فنقرأه قراءةً تركيبيّة الإجراء بحيث قد تنطلق من الإجراء الأنتروبولوجيّ، وتنتهي لدى الإجراء السيمائياتّي؛ إذا ما انصرف السعْيُ إلى النصّ. وتنطلق من الإجراء الشكّيّ العقلانّي، وتنتهي لدى استنتاج قائم على المساءلة أكثر مما هو قائم على الحكم والجواب.
وقد اغتدى، الآن، واضحاً أننا نحاول، في هذه التجربة، المزاوَجَة بين الأنتروبولوجيا والسيمائيّة لدى التعرض للنص، والمزاوجة بين المعلومات التاريخيّة وافتراض الفروض، لدى غياب النصّ، وحين التعرّض للحياة العامّة لدى العرب قبل الإسلام. وليست هذه المزاوجة بين الأنتروبولوجية، وما اصطلح عليه أنا بـ "السِيمائيّةِ"، أمراً مُستَهجَناً في مَسارِ علم المنهجة. فقد كنّا ألفينا بعض الدارسين الغربيين، ومنهم كلود ليفي سطروس، كان يزاوج بين الأنتروبولوجيا والبنوية؛ وكما كان يزاوج لوى قولدمان أيضاً بين البِنويّة والاجتماعية....
ونحن لم نجئ ذلك لمجرد الرغبة العارمة في هذه المزاوجة التي قد يراها بعضهم أنها تمّت، أو تتّم، على كُرْهٍ، وربما على غير طهْر!... ولكنّنا جئناه، اعتقاداً منّا أنّ الانطلاق في تأويل الظاهرة الشعريّة القديمة من الموقف الأنتروبولوجيّ هو تأصيل لمنابت هذا الشعر، وهو قدرة على الكشف عن منابعه... وعلى الرغم من أنّ كتابات ظهرت، في العِقديْن الأخيرين من هذا القرن، حول بعض هذا الموضوع، وذلك كالحديث عن الأسطورة في الشعر الجاهليّ مثلاً؛ فإنّ التركيب بين الأنتروبولوجيا والسيمائيّة، في حدود ما بلغناه من العلم على الأقلّ، لم ينهض به أحد من قبلنا.
ونحن إنما نُرْدفُ الأنتروبولوجيا السيمائيّة لاعتقادنا أنّ الأولى كَشَفٌ عن المنابت، وبحث في الجذور؛ وأنّ الأخراةَ تأويلٌ لمِرامِزِ تلك الجذور، وتحليل لمكامن من الجمال الفنّيّ، والدلالات الخفيّة، فيها. فلو اجتزأنا بالقراءة الأنتروبولوجيّة (والمفروض أنّ النسبة الصحيحة لهذا الاصطلاح تكون: "الأنتروبولوجويّة"، ولكننا ننبّه إليها، راهناً، دون استعمالها، حتى تألف اللغة العربيّة، العُلَمائيّة، هذا التمطّط الذي يُطيل منها...) وحدها لوقعنا في الفجاجة والنضوب. كما أننا لو اقتصرنا على القراءة السيمائياتيّة (ونحن نريد بهذه النسبة إلى قُصْرِ الإجراءات والممارسات التحليليّة على التطبيقات السيماءويّة...) وحدها، لما أَمنّا أن يُفْضِيَ ذلك إلى مجرّد تأويل للسطوح، وتفسير للأشكال، ووصف للظواهر، دون التولّج في أعماق الموالج، والتدرّج إلى أواخّي المنابت.
5-
وإنما فزِعْنا إلى هذه المقاربة الأنتروبولوجيّة- والمُرْدَفة أطواراً بالسيمائيّة- لأنّ النصوص الشعريّة التي نقرؤها قديمة؛ وأنها بحكم قدمها -أو جاهليّتها- تتعامل مع المعتقدات، والأساطير، والزجر، والكهانة، والقيافة، والحيوانات، والوشم، والمحلاّ‍ت (6)، وكلّ ما له صلة بالحياة البدائيّة، والعادات والتقاليد التي كانت تحلّ محل القوانين لدينا، لديهم... ونحن نعجب كيف لم يفكّر أحد من قبل في قراءة هذا الشعر، أو قراءة طرف من هذا الشعر على الأقلّ، بمقاربة أنتروبولوجيّة تحلّل ما فيه من بعض ما ذكرنا، أو من بعض ما لم نأت عليه ذكراً.. ذلك بأنّ أيّ قراءةٍ لهذه النصوص الأزليّة، أو المفترضة كذلك (عمرها الآن ستّة عشر قرناً على الأقلّ...)، لا تتخّذ لها هذه المقاربة ممارسة: قد لا نستطيع أن تبلغ من هذه النصوص الشعرية بعض ما تريد.
وعلى أنّنا لا نودّ أن يَتَطالَل مُتَطالِلٌ فيزعَمُ، لنا أو للناس، أنّنا إنما نريد من خلال هذه القراءة، تحت زاوية المقاربة الأنتروبولوجيّة، وتحت زاوية المقاربة السيمائياتيّة أيضاً: أنْ نَسْتَبين مقاصد الشعراء.. فذاك أمر لم نرم إليه؛ وذاك ما لم يعد أحد من حذاق منظّري النصوص الأدبيّة ومحلّليها يعيره شيئاً كثيراً من العناية؛ ولكننا إنما نريد من خلال تبيان مقاصد تلك النصوص ذاتها، وكما هي، وكما رُوِيَتْ لنا؛ أو رُويَ بعضها ونُسِجَ بعضها الآخر على روح الرواية الأصليّة وشكلها؛ أي كما وصلتنا مدّونة في الأسفار...
ومن الواضح أن من حق القارئ- المحلِّل- أن يؤوّل النصّ المقروء على مقصديّة الناصّ، ولكن دون أن يدّعيّ أن تأويله يندرج ضمن حكم الصّحة؛ إذ لا يستطيع أن يبلغ تلك المرتبة من العلم إلا إذا لابس الناصّ، وألَمَّ إلماماً حقيقياً بأحداث التاريخ التي تلابس النص والناصّ معاً، وعايش لحظة إبداع النص، وتواجَدَ في مكانه، وساءل الناصّ شخصيّاً عمّا كان يقصد إليه من وراء نسج نصّه المطروح للقراءة... ولِمَ قال ذلك؟ ولِمَ وَصَفَ هذا؟ ولِمَ، لَمْ يَصِفْ هذا؟ ولم كثّف هنا، ولم يُسَطّحْ؟ ولِمَ أومأ ولمْ يصرّح؟ أو، لِمَ صرّح ولم يُلَمّح؟ وهذا أمر مستحيل التحقيق.. إنّ تأويل النص قراءة للتاريخ، ولابحثاً عن الحقيقة، ولا التماساً للواقع، كما تدّعي المدرسة الواقعيّة التي تزعم للناس، باطلاً، أنّ الأدب يصف المجتمع كما هو؛ وأنها هي تستطيع أن تفسّره كما قَصَدَ إليه صاحُبه...، ولا طلباً للمَعيشِ بالفعل... ولكنه إنشاء لعالم جديد يُنْسَجُ انطلاقاً من عالم النصّ من حيث هو نصّ؛ لا من حيث مَقْصِدِيّةُ الناصّ من حَيْثُ هو ناصٌّ.
ولا سواءٌ تأويلٌ يكون منطلقُه من مَقْصِديَّة النصّ فيقرؤُه بحكم ما يرى مما توحي به القراءة؛ وتأويلٌ يكون منطلقه من مقصديّة الناصّ فيقرؤه على أساس أنّه يتناول حقيقة من الحقائق (ولا نريد أن ينصرف الوهم إلى معنى "الحقيقة" في اللغة القديمة، وقد استعملت في المعلّقات..)، ثمّ على أساس أنه يخوض في أمر التاريخ...
-6-
لكن لما ذا الضَرْبَ، أو المُضْطَرَبُ، في كلّ هذه المستويات لتأويل قراءة نصوص المعلّقات السبع؟ أَلأَنَّ الأمر ينصرف إلى النصّ الشعريّ، والنصّ صورةٌ إن شئت، ولكنه ليْسَها وحْدَها؛ وهو تَشاكُلٌ إن شئت، ولكنه ليسَهُ وحده؛ وهو لذّاتٌ فنيّة روحيّة إن شئت، ولكنه لَيْسَهُما وحدهما، وهو تجليات جماليّة إن شئت، ولكنه ليْسَها وحدها؛ وهو سمات لفظيّة إن شئت، ولكنه ليْسَها وَحْدَها؛ وهو لَعِبٌ باللغة إن شئت، ولكنه لَيْسَه وحده؛ وهو أسْلبَةٌ وتشكيل إن شئت، ولكنه ليسهما وحْدَهُما؛ وهو فضاء دلاليّ يتشكّل من الصوت وصَدى الصوت، والإيقاع وظِلّ الإيقاع، والمعنى ومعنى المعنى؛ فيحمل كلّ مقوّمات التبليغ في أسمى المستويات...؟ أم لأنّ الأمر ينصرف إلى غير كلِّ ذلك...؟
ولمّا كان الأمر كذلك، كان لا مناص، إذن، من قراءة النصّ الأدبي، بإجْرائِهِ في مستويات مختلفات أصلاً، لكنها، لدى منتهى الأمر، تُفْضي، مُجْتَمعةً، إلى تسليط الضياء على النصّ، وإلى جعل التأويلات المتأوّلة حَوَالَهُ بمثابة المصابيح المضيئة التي تزيح عن النص الظلام، وتكشف عن مغامضه اللّثام....

-7-
وممّا لاحظناه في قراءاتنا للمعلّقات أنّ هناك إلحاحاً، كأنه مقصود -أو كأنه دأب مسلوك في تقاليد بنية القصيدة العربيّة؛ أو كأنّه إرثٌ موروث من الأزمنة الموغلة في القِدَم، فيها: على ذكر أماكن جغرافيّة بعينها؛ مما حمل ياقوت الحموي على أن يستشهد، كثيراً، بهذه الأشعار الواردِ فيها ذِكْرُ الأماكن، في اجتهادٍ منه لتحديد الأمكنة في شبه الجزيرة العربيّة، وطرفي العراق والشام. ويبدو أنّ بعض الأمكنة كان من الخمول والغُمورَةِ بحيث لم يكنيعرف إلاّ في ذلك الشعر المستشهد به، ولا يكاد في سَوائِهِ...
ويحمل هذا الأمر على الاعتقاد بأنّ شعراء الجاهليّة كثيراً من كانوا يظْعَنون من مكان إلى مكان آخر؛ كما أن الحبيبات اللواتي كانوا يتحدثون عنهنّ، أو يشبّبون بهنّ؛ كُنّ، هنّ أيضاً، بحكم اتسام تلك الحياة بالتّرحال المستمرّ، والتّظعانِ غير المنقطع، يتحملّن مع أهليهنّ... فكان، إذن، ذِكْرُ الأمكنة؛ من هذه المناظير، أمراً مُنتَظراً في أشعار أولئك الشعراء....
-8-
وقد لاحظنا وحدة المعجم اللغويّ في نسج لغة مطالع المعلّقات بخاصّة، والشعر الجاهليّ بعامّة، بحيث لم يكن الشاعر، على ذلك العهد، يرعوي في أن يسلخ بيتاً كاملاً من شعر سوائه -إلاّ لفظاً واحداً- كما جاء ذلك طرفة بالقياس إلى امرئ القيس... أمّا سَلْخُ الأعجاز أو الصدور فحدّث عنها ولا حرج. فقد كان الشاعر إمّا أن يتناصّ مع نفسه، كما نلفي ذلك في سيرة شعر امرئ القيس، عبر المعلّقة والمطوّلة، مثل:
*فعادى عداءً بين ثورٍ ونعجة (تكرر في المعلّقة والمطوّلة)،
*وجاد عليها كلّ أسحم هطّال. (تكررا مرتين اثنتين في المطوّلة)
*ألحّ عليها كلّ أسحم هطّال.
على أننا نؤثر أن لا نفصّل الحديث عن هذه المسالة هنا، لأننا اختصصناها بفصل مستقلّ في هذا الكتاب.

-9-
كيف اختار شعراء المعلّقات، وسَواؤُهُمْ من غير شعراء المعلّقات من أهل الجاهليّة، استعمال الناقة في التّظعان إلى الحبيبة عِوَضاً عن الفَرَس؛ وبمَنْ فيهم امرؤ القيس الذي نلفيه يتحدث عن نحر ناقته للعذارى يوم دارة جلجل، ويعود إلى الحيّ، فيما تزعم الحكاية، رديفاً لفاطمة ابنة عمّه...؟ مع أنّ المسافة القصيرة التي كانت تقع بين الحيّ وغدير دارة جلجل يفترض أنها كانت قصيرة: فما منع امرأ القيس من اصطناع الفَرَس في تنقّله ذاك القصير؟ ولِمَ نلفي الفرسان والفُتّاكَ، مثل عنترة بن شداد، هو أيضاً، يتحدث عن ناقته، قبل أن يتحدث عن فرسه؟ فهل كان اصطناع الناقة في الأسفار دأباً مألوفاً لديهم لا يغادرونه، أم أنّ في الأمر سرّاً آخرَ؟ أم أنّ الخيل كانت عزيزة جداً لديهم، أثيرةً في نفوسهم؛ بحيث كانوا يَضِنّونَ بالارتفاق بها في الأسفار، ويذَرونَها مكرّمةً منعّمة للارتفاق بها في الحروب؟ بل لماذا كانوا يصطنعون جيادهم في الطرد، كما نلفي امرأ القيس يذكر ذلك بالقياس إلى جواده الذي يصفه بالعِتْقِ والكرم، وأنه كان سباقاً، وأنه يقيّد الأوابد..؟ فما بالُهُ حين اندسّ لِعَذارى دارة جلجل اصطنع الناقة وهي وئيدة السير، ثقيلة الخطو، مزعجة للتنقّل القريب، وهو الأمير الغنيّ الثريُّ:
فأين كان فرسه؟ وما منعه من اصطناعه، وقد كان يفترض أنه يظهر بمظهر الفارس المغامر، وليس أدلّ على الفروسيّة والرجوليّة شيء كركوب الخيل، وحمل السلاح، في منظور المرأة العربيّة على ذلك العهد..؟
-10-
ولا يمكن قراءة أيّ قصيدة من الشعر الجاهليّ، بَلْهَ قراءة أشهرِ قصائده سيرورةً، وأكثرها لدى الناس رواية؛ وهي المعلّقات السبع، دون التعرض لمسألة النحل والعبث بنصوصها، والتزيّد على شعرائها، والتصرّف في مادة شعرها: لبعد الزمان، وفناء الرجال، وانعدام الكتاب، وضعف الذواكر، وتدخّل العصبيّة القبليّة، وطفوح الحميّة الجاهليّة، وطفور المذهبيّة السياسيّة: لدى جمع الشعر الجاهليّ بعد أن مضى عليه ما يقرب من ثلاثة قرون من الدهر الحافل بالفتن والمكتظّ بالأحداث، والمتضرّم بالحروب.
ولم يكن هناك شعر أدعى إلى أن يُتَزَيَدَ فيه، ويُدَسّ عليه؛ كشعر المعلّقات التي جمعها أحد أوْضَعِ الرواة للشعر، وأَجْرَئِهِمْ على العبث به؛ وهو حمّاد الراوية بعد أن كان مضى على قدم المعلّقات وجوداً ما يقرب من ثلاثة قرون. والآية على ذلك أننّا لاحظنا أبياتاً إسلامية الألفاظ، كثيرة وقليلة، في جملة من المعلّقات مثل معلّقات زهير، ولبيد، وعمرو بن كلثوم... ولنضرب لذلك مثلاً في هذا التمهيد بالأبيات الأربعة، والتي نطلق عليها "أبيات القِرْبة" والمعزوة إلى امرئ القيس في نصّ المعلّقة... فإنها، كما لاحظ ذلك بعض القدماء أنفسهم (7)، مدسوسة عليه؛ وكأنّ امرأ القيس استحال إلى مجرّد صعلوك متشرّد، وضارب في الأرض متذلّل، يحمل على ظهره القراب، ويعاشر في حياته الذئاب..
إننا لا نَقْبلُ بأن تُغْزَى تلك الأبيات الأربعة الصعاليكيّة:
وقربةِ أقوامٍ جَعلْتُ عِصامَها


على كاهلٍ مِنّي ذَلول مُرَحّلِ

ووادٍ كجَوفِ العيرِ، قَفَرٍ، قطعتُه


به الذئب يعوي كالخليع المُعَيّلِ


إلى امرئ القيس، وذلك لعدم عيشه تلك التجربة، ولأنه كان موسراً غنيّاً، ولم يثبت قطّ أنه كان مضطراً إلى أن يحتمل القراب. بل لا نلفيه، في هذا الشعر يحتمل تلك القراب على ظهره فحسب، ولكنّا نلفيه متعوّداً على حملها، وإنما ذلك شأن الفقراء الصعاليك، وسيرة السفلة والمماليك... ثم لعدم حاجته أيضاً إلى أن يُخَاطِبَ السيَّد حين عوى في وجهه:
فقلت له لمّا عوى إِنّ شَأْننَا


قليلُ الغِنَى إن كنت لَمَّا تَمَوّلِ

كِلانا إذا ما نال شيئاً أفاتَه


ومن يحترثْ حرثي وحرَثكَ يهزل


ونحن لا نرتاب في أبيات القربة الأربعة فحسب، ولكننا نرتاب، أيضاً، في أبيات الليل الأربعة التي يصف فيها الليل، وأنه كموج البحر في عمقه وظلامه، وهوله وإبهامه، وذلك لبعض هذه الأسباب:
أوّلها: إنّ الأبيات الأربعة التي يزعم فيها الرواة الأقدمون- والرواة هنا مختصرون في شخص حمّاد الراوية وحده؛ إذ هو الذي جمع المعلّقات السبع وأغرى الناس بروايتها لما رأى من عزوفهم عن حفظ الشعر (8)- أنّ امرأ القيس يصف فيها الليل، هي أيضاً، لا تجاوز الأربعة، مَثَلُها مَثَلُ الأبيات الأربعة الأخراة التي شكّ فيها الأقدمون أنفسهم وعَزَوْها إلى تأبّط شرّاً (9)؛ ولذلك لم يتفقوا على إلحاقها بشعر امرئ القيس، على أساس أنها تخالف روح سيرة حياته لديهم.. وثانيها: إنّا وجدنا امرأ القيس حين يصف شيئاً يتولّج في تفاصيله، ويلحّ عليه بالوصف، بناء على ما وصلنا من الشعر الذي زعم الرواة الأقدمون أنه له: فنلفيه يصف حبيبته، وقل أن شئت حبيبتيْه- عنيزة أو فاطمة، وبيضة الخدر-، وقل أن شئت حبيباته إذا أدخلنا في الحسبان أمّ الحويرث، وجارتها أمّ الرباب، وعذارى دارة جلجل، وعنيزة، والحبالى، والمرضعات اللواتي كان طَرَقَ قبْلَها، أو قبَلَهنّ، وبيضة الخدر التي جاوز إليها الأحراس، وجازف بحياته من جلالها أمام من كانوا حِرَاصاً على قتله، وشداداً في معاملته.
ولقد استغرق منه وصْفُ مغامراته ومعاهراته، مع هؤلاء النساء، سبعة وثلاثين بيتاً ربما كانت أجمل ما في معلّقته. ومن أجمل ما قيل في الشعر العربيّ على وجه الإطلاق. فكأنّها الشعر الكامل. وكأنها السحر المكتوب. وكأنّها الشَّهْدُ المشتار. وكأنّها النص الأدبيّ الكامل: تشبيهاً، ونسجاً، وأسلبةً، وصورةً، وابتكاراً، وجمالاً..
على حين أنّنا ألفينا وصف الفرس يمتدّ في شعره على مدى ثمانية عشر بيتاً. وربما كان وصف الفرس لديه أجمل وصف قيل، هو أيضاً، في هذا الحيوان الجميل الأنيق، في الشعر العربيّ إطلاقاً.. بينما استغرق وصف المطر في معلّقته اثني عشر بيتاً. فما معنى، إذن، أن تستغرق هذه المواضيع الثلاثة، كلّ هذه الأحياز عبر المعلقة المَرْقِسيّةِ، وتمتدّ على كلّ هذه الأَفْضَاءِ، ويَقْصُرُ وصفُ الليل، وحده، فلا يجاوز أربعة أبيات، كما يقتصر وصف القربة، وقطع الوادي الأجوف ليلاً، ومخاطبة الذئب، على أربعة أبيات، فقط أيضاً، ولِمَ كان الملك الضليّل طويل النفس في بعض، وقصيَره في بعضٍ آخرَ؟
وآخرها: إنّ وحدة القصيدة تأبى أن يُقْحَمْ وصْفُ الليل: وأنه موقر بالهُمُوم، مُثْقَلٌ بالخطوب؛ وأنه كان يبتليه بما لا يقال، ويضربه بما لا يتصوّر: بين وصف الحبيبات الجميلات، وذكر الملذّات الرطيبات، ووصف الفرس الذي لم يركَبْه امرَؤُ القيس للذاته يوم دارة جلجل؛ ولكنه امتطي مطيّته التي نحرها للحسان، فيما تزعم تلك الحكاية العجيبة.... فما معنى، إذن، ذكر الهموم والأتراح بين التشبيب والطرد؛ بين لذّات الحبّ، ولذّات الصيد؟
-11-
كان أستاذنا الدكتور نجيب محمد البهبيتي حَكَمَ- كما سنناقشه في المقالة التي وقفناها على متابعة المرأة، بما هي أنثى، في المعلّقاتُ السبع، ضمن هذا الكتاب- برمزيّة المرأة، وبرمزيّة أسماء النساء في الشعر الجاهليّ (10) الذي المعلّقاتُ واسَطِةُ عِقْدِهِ. بينما ألفينا الدكتور علي البطل يعلّل الأسماء في الجاهليّة تعليلا‌ً معتقداتيّاً (11)؛ بينما نجد أبا عثمان الجاحظ يذهب إلى غير ذلك سبيلا؛ فيرى أنّ ذلك لم يكن مرجعه إلى معتقدات دينيّة خالصة، ولكن إلى معتقداتية خرافية حميمة. وكانوا يأتون ذلك على سبيل التفاؤل والتبرّك، وخصوصاً لدى تبشيرهم بميلاد الذكور. فكان الرجل منهم "إذا ولد له ذكر خرج يتعرّض لزجر الطير والفأل، فإن سمع إنساناً يقول حجراً، أو رأى حجراً سمّى ابنه به، وتفاءل فيه الشدّة والصلابة، والبقاء والصبر، وأنه يحطم ما لقي. وكذلك إن سمع إنساناً يقول ذئباً، أو رأى ذئباً، تأوّل فيه الفطنة والخبّ، والمكر والكسب. وإن كان حماراً تأوّل فيه طول العمر والوقاحة، والقوة والجلَد. وإن كان كلباً تأوّل فيه الحراسة واليقظة وبعد الصيت، والكسب، وغير ذلك (....).. ووجدناهم (...) يسمّون بقمر، وشمس، على جهة اللقب، أو على جهة المديح..." (12).
وممّا يقرّر الجاحظ حول هذه المسألة أنّ العرب كانت تفزع إلى مثل هذه الأسامي على سبيل التفاؤل، لا على سبيل المعتقدات التي يحاول بعض الباحثين المعاصرين تأوّلها (13)، وبرهاناتُهمْ على ذلك أدنى الوَهَن منها إلى الآد، وحججهم في ذلك أقرب إلى الضعف منها إلى القوة. ذلك بأنّ نصوصهم، في سعيهم، لا تكاد تذكر مع مثل هذه النصوص التي تتجسّد في مثل كلام الجاحظ، إذ ممّا يقرره أنه إذا: "صار حمار، أو ثورٌ، أو كلبٌ: اسمَ رجلٍٍ مُعظّم، تتابعت عليه العربُ تطير إليه، ثمّ يكثر ذلك في ولده خاصة بعده" (14).
وواضح أنّ هذا الأمر، في التسمية، لا يبرح قائماً إلى يومنا هذا؛ فما هو إلاّ أن يشتهر زعيم من الزعماء، أو سياسيّ من الساسة، أو بطل من الأبطال، أو مصلح من المصلحين، أو مغنّ من المغنّين، أوعالم منالعلماء، أو أديب من الأدباء.... وإذا الناس يتهافتون على اسمه يسمّون به أولاهم: تبركاً وتحبباً، وتفاؤلاً وتشبّهاً.
ولا يرى الجاحظ أنّ العرب إنما كانت تسمّي أولادها بمثل قمر وشمس على سبيل المعتقد بهذين الكوكبين الاثنين، أو على أساس أنّ العرب كانت تعبدهما وتقدّسهما، ولكنّ ذلك كان منها "على جهة اللقب، أو على جهة المديح"(15).
-12-
وعلى أننّا لا نريد أن يعتقد معتقد أنّا نرفض الترسبّات الدينيّة، الوثنية خصوصاً، والسحريّة، والمعتقداتية في الشعر الجاهليّ، كلّه أو بعضه؛ ولكن ما لانريد أن يعتقده معتقد هو أنّنا لا نميل إلى هذا التحمس، وهذا التحفز؛ وإلى الذهاب، بأيّ ثمن، إلى ذلك التعليل الأسطوري للصورة الشعريّة، وللوقائع، وللّغة... فقد كان الأعراب أغلظ أكباداً، وأحرص على التعامل في حياتهم اليوميّة بواقعها الشظف، ورتابتها المحسوسة، مع المادّة - من أن يقعوا فيما يريد أن يوقعهم فيه، على سبيل الإرغام، بعضُ الناقدين المعاصرين، وذلك بالذهاب إلى أنّ كلّ ما هو شمس أو قمر، أو ثوراً وبقر، أو عيراً وظبي، أو نمر أوكلب، أو ثعلب أو عجل، أو ليث أو ضبّ- ممّا كانوا يقدسونه فيما غَبَر من الأزمان، ومر من الدهْرِ الدَّهارير: لم يكن يدلّ بالضرورة على التمسّك تمسّكاً دينيّاً أو روحيّاً بتلك المعتقدات الوثنيّة؛ وإلاّ فماذا سيقال في النباتات والأشجار، والسحب والأمطار، والرمال والأنهار...؟
وإنما كانوا يسمّون أبناءهم بما كانوا يرون في بيئتهم البدويّة الشظفة: أنّه هو الأيّدُ الأقوى، أو الأشدّ الأبقى: سواء في ذلك الشجر والحجر؛ وسواء في ذلك الحيوان والهوامّ. على حين أنهم كا نوا يُؤْثِرونَ لعبيدهم الأسماء الجميلة الأنيقة اللطيفة مثل صبيح، ورباح.... ذلك بأنّ الأسماء التي تُرْعِبُ وتُخيف كانوا يرون بأنها قَمَنٌ بأن تُفْزِعَ يوم الوغى، وتُرْهِبَ في مآقِطِ النِزال، بالإضافة إلى ما كانوا يريدون أن يميلوا إليه من التفاؤل بالشيء لمجرّد منوحه لهم (16).
-13-
وممّا لا نوافق الدكتور البطل علىالذهاب إليه حول هذه المسألة حِرْصُه على الرجوع إلى أبعد الأزمنة إيغالاً في القدم، ثمّ إخضاع تلك الفترة إلى ما يطلق عليه "الفترة الطوطميّة" التي يحيل فيها قُرَّاءَه على الرجوع إلى الدكتور جواد عليّ الذي كان بسط هذه النظريّة الأنتروبولوجية بناء على تنظيرات مكلينان، وليس بناء على تنظيراته هو (17).
وإنما كان الأولى أن يحيل قراءه على الأصل الذي هو جون مكلينان الذي تعود محاولاته النظريّة إلى سنة تسع وستين وثمانمائة وألف للميلاد حيث كان نشر بعض المقالات التي نبّه فيها إلى ما أطلق عليه الطوطميّة (18). لكن لم يلبث أن جاء فرازر فنشر كتابه المؤلف من أربعة مجلدات انتقد فيها ماكلينان حيث اغتدت الطوطمية لديه: "مؤسسة ذات خصوصيّة من المعتقدات البدائية وهي تتناقض (....) مع التفكير الدينيّ، كما كان يريده وليم روبرتصون سميث، ومع التفكير العقليّ الذي كان يعتقد فرازر أنه كان الناطق باسمه، في آن واحد"(19).
وعلى أنّ الانتروبولوجيين انتقدوا انتقاداً شديداً تنظيرات فرازر، وفي طليعتهم الأسكندر قولد نويزر الذي رأى انّ إدراج ثلاث ظَواهِر في عِقْدٍ واحد من الزمن ضئيل العلميّة.. (20).
وأياً كان الشأن؛ فإن الطوطمية في مفهومها الأدنى والأشهر،تعني وجود العبقرية الراعية (21) التي ينشأ عنها "الأنظمةُ الطوطمية" (22)، والتي حاول بعض العلماء تطبيقها على المجتمعات البدائية في استراليا، وأمريكا... ولكننا، نحن، لا نحسبها ممكنة الانطباق على المجتمع العربيّ قبل الإسلام، بحذافيرها...
إنّ هناك دعائِمَ أربعاً تنهض عليها هذه النزعة الأنتروبولوجية، ولا تَوْفُرُ في الأسامي العربية القديمة وفوراً كاملاً؛ لأن الجاحظ وهو الأعلم بعادات العرب وتقاليدها، والأقرب إليها عهداً، والأدنى منها زمناً، والألصق بها نَسَباً؛ لم يذكر أنّ العرب كانت تسميّ أبناءها بأسماء الحيوانات على سبيل التقديس والتبرك؛ ولكنّ ذلك كان "على جهة الفال" (23)، وعلى سبيل حفظ نسب الجدّ، "وعلى شكل اسم الأب، كالرجل يكون اسمه عمر فيسمّي ابنه عميراً.. " (24). والآية على عدم ثبات مزعم الذين يزعمون بطوطميّة الأسماء العربية على عهد ما قبل الإسلام أنّ العرب كانوا يتسمون "أيضاً بأسماء الجبال: فتسموا بأبان وسلمى"(25). بل أنهم قد "سمّوا بأسد، وليث، وأسامة، وضرغامة، وتركوا أن يسمّوا بسبع وسبعة.وسبع هو الاسم الجامع لكلّ ذي ناب ومخلب" (26).
إنّ من أصول الطوطميّة الأربعة تحريم أكل الحيوان المقدّس، والشجرة المباركة؛ بينما لم تكن العرب تتحرج في أكل أيّ من الحيوانات وثمر الأشجار التي كانت تسمّي بها أبناءها.
وواضح أنّ الزجر من المعتقدات العربيّة الحميمة التي لا نكاد نظفر بها في الفكر البدائيّ لدى الإغريق، وقدماء المصريّين، والبابليين، والكنعانيين على هذا النحو الذي وقعنا عليه في النصوص الأدبيّة والتاريخية العربيّة. فليس الزجر سحراً، ولا ديناً، ولا حتّى معتقداً حقيقياً، ولكنه نحو من السلوك قام في معتقداتهم فسلكوه..
وأمّا تقديس الثور فإننا نلفيه في بعض الأساطير الكنعانيّة، حيث "كان الثور هو الحيوان المقدّس"(27) لدى الكنعانيّين.
وربما لم تعبد الشمس في شمال الجزيرة قطّ، لأنّنا لم نعثر على صنم من أصنامهم هناك كان يمثّل على الحقيقة التاريخية الدامغة، الشمس المعبودة التي عبدت في مأرب على عهد الملكة بلقيس، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم [28]. وما نراهم قد تسمّوا به من مثل عبد شمس لعله لم يك إلاّ أثراً شاحباً لذلك التوهج الوثنيّ القديم الذي محاه الزمن، ودرسه الدهر حيث أنّ بلقيساً كانت تعيش في القرنين، الحادي عشر، والعاشر قبل الميلاد.
"وقد كانت العرب- كما يقول ابن الكلبي- تسمّي بأسماء يعبّدونها؛ لا أدري أعبّدوها للأصنام، أم لا؛ منها "عبد ياليل" ، و "عبد غنم"، و "عبد كلال"، و "عبد رضى" (29).
ومن الغريب حقاً أنّ الأساطير تذكر أن الكنعانيين كانوا يقدسون الثور؛ وفي الوقت ذاته نلفي الإله "بعل" يذبح لشقيقته عناة "ثوراً ويشويه؛ فتأكل؛ ثم تغسل يديها بالندى والماء" (30).
إن هي، إذن، إلاّ أساطير في أساطير، والذي يحاول أن يستخلص منها علماً، أو يستنبط منها أحكاماً تاريخية، سيتورط في فخّ أسطوريتها فلا يفلح في بحثه، ولا يهتدي في أحكامه...
ويرى الدكتور البطل بأن العرب لم يكونوا، في الأزمنة الغابرة، "أصحاب حضارة زراعية يعتدّ بها (....) ولعل هذا هو سر اتجاههم إلى الشمس وهي أظهر ما في حياة الصحراء، خالعين عليها صفة الأمومة؛ فاعتبروها الربة، والآلهة الأم. ولعل هذا هو سر تأنيث الشمس في اللغة العربية على عكس اللغات التي ربطتها بإلهٍ ذكر"(31):
فالأولى: أن تأنيث الشمس، في اللغة العربية، لا حجة فيه على الأمومة، ولا على الإخصاب؛ لأن هناك أمماً أخراة ربما كانت تعبد الشمس، وهي، مع ذلك تذكّرها، فالتذكير والتأنيث، في اللغة، لا ينبغي له أن يخضع، في كل الأطوار، للمعايير التي يبني عليها الدكتور البطل حكمه.
والثانية: أن الماء من الأمور التي لفتت عناية الإنسان القديم، ومع ذلك نلفي الماء مذكّراً، في اللغة العربية، وهو رمز للإخصاب، أكثر بكثير من الشمس (وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ) (32): حتى أن ملك الروم كان بعث إلى معاوية بقارورة وقال له: "ابعث إليّ فيها من كل شيء" (33)، فملأها له ماء. فقال ملك الروم لما وردت عليه: "للّه أبوه ما أدهاه" (34)؛ وذلك على أساس أن اللّه جعل في الماء كل شيء... وإن كنا نلفي هذا الماء مؤنثاً في كثير من اللغات الأخراة كالفرنسية، والإنجليزية، والإسبانية...
والثالثة: أن العرب لم تكن تؤنث الأشياء والظواهر للتعظيم والتقدير، في كل الأطوار؛ ولذلك قال أبو الطيب المتنبي:
ولو كان النساء كَمَنْ فقدَنْا


لفُضِّلَتْ النساءُ على الرجالِ

وما التأنيثُ لاُسْمِ الشمسِ عَيْبٌ


ولا التذكيرُ فخْرٌ لِلْهلالِ (35)


وقد خاطب الله الكفار حين جعلوا له بناتٍ (أفرأيتُمُ اللاَّتَ والعُزَّى، ومَنَاةَ الثالثةَ الأُخْرى. ألَكُمُ الذّكَرُ وله الأُنُثَى؟ تلك إِذَنْ قِسْمَةٌ ضِيزَى" (36).
والرابعة: إنّ المشركين حين اتخذوا اللاّت يعبدونها من دون الله في الطائف وما والاها إنما "اشتّقّوا اسمها من اسم الله، فقالوا: اللاّتَ، يعنون مؤنّثة منه، تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا"(37). ويؤيّد ذلك ما ذهب إليه الزمخشري في تفسير بعض هذه الآيات حين قرر:
"إنّ اللاّت والعزّى ومناة: إناثٌ، وقد جعلتموهنّ لله شركاء، وما شأنكم أن تحتقروا الإناث وتستنكفوا من أن يُولدْنَ لكم، ويُنْسَبْنَ إليكم: فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أنداداً لله وتسمّونهنّ آلهة؟" (38).
وإذن، فلا يمكن أن يكون التأنيث للشمس تفخيماً لها وتعظيماً ، ولا تقديراً لها وتقديساً. ولو كانوا أرادوا إلى ما أراد إليه الدكتور البطل، وبناء على بعض ما رأينا من أمر هذه الآيات الكريمات، وما استنبطنا من تفسيرها: لكانوا، في رأينا، ذكّروها، لا أنّثوها.
فقد سقطت، إذن، تلك الحجة؛ ووهن: إذن، ذلك البرهان.
والخامسة: إنّا لا نعتقد أنه كان للمرأة العربيّة، على عهد ما قبل الإسلام، مكانةٌ محترمة، ومنزلة اجتماعية تتبوّؤُها إزاء الرجل الذي يطلّقها لأوهى الأسباب، وكان يطلبها للفراش لا للعِشْرة؛ فلمجرّد أن حكمت أمّ جندب لعلقمة الفحل على أمرئ القيس بادَرَ إلى تطليقها (39).
والسادسة: وأمّا مسألة عبادة الأرض، وأنّ المجتمعات الزراعيّة العتيقة "عبدت الأرض بوصفها أماً" (40)؛ فإنّ الإنسان البدائيّ عبد الأحجار، والأشجار، والشمس والقمر، والأرض والسماء، والحيوانات، والريح، وكل، مظاهر الطبيعة... فلا حجّة فيه على أنّ ذلك باقٍ في الصورة الشعريّة لما قبل الإسلام. فصنم "اللاّت" بينما يزعم بعض المفسريّن (41) أنه مؤّنث الله في لغتهم ومعتقداتهم جميعاً؛ كان الآخرون من المفسرين يرون أنّ اللاّت "كان(....) رجلاً يَلُتُّ السُّويْقَ، سويق الحجّ" (42). كما روى "عن ابن عباس، ومجاهد، والربيع بن أنس، أنهم قرأوا "اللاّت" بتشديد التاء وفسّروه بأنّه كان رجلاً يلتّللحجيج في الجاهلية السويق، فلمّا مات عكفوا على قبره، فعبدوه "(43). فالمعبودات لم يكنَّ نساءً فحسب؛ ولكنْ كُنَّ رجالاً أساساً. بل إنّا أصنام العرب يغلب عليها التذكير أكثر من التأنيث.
والسابعة: وأمّا اعتبار العرب أنهم ليسوا "أصحاب حضارة رزاعيّة يعتدّ بها "فإنا لا ندري كيف يمكن تناسي اليمن السعيد، وهو مهد العروبة، ومحْتِدُها الأوّل، وما كان فيه من زراعة نوّه بها القرآن (44)؛ وحيث كان سدّ مأرب العظيم قبل أن ينفجر؛ وحيث الجنتان عن يمين وشمال؛ وحيث البلدةُ الطيبة، والتربة الخصبة؛ وحيث الربُّ الكريم الغفور، وحيث كانت المرأة اليمنيّة "تمشي تحت الأشجار، وعلى رأسها مكتل أو زنبيل، وهو الذي تخترف فيه الثمار، فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يُحْتاج إلى كلفة ولا قطاف؛ لكثرته ونضجه واستوائه" (45)؛ وحيث، كما يقرر ابن عباس كانت بلاد اليمن "أخصب البلاد وأطيبها: تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل فتعمل بيديها وتسير بين الشجر، فيمتلئ المكتل بما يتساقط فيه من الثمر" (46).
أم لم يكن اليمن عربيَّ الأرض، عريق العروبة؟ أم لم يُبْنَ فيه أوَّلُ سدٍّ في تاريخ الزراعة على وجه الاطلاق؟ وإذن فكيف يمكن تَجْريدهمُ ممَّا هو ثابت لهم بالأخبار المتراوية، والآثار المتتالية، والوحي المنزّل، والتاريخ المفصّل؟
ومن الغبن العلميّ أن يحاول محاول بناء مسألة على هواء، وإقامتها على فراغ، بعد أن تستهويه استهواء، وبعد أن تشدّه إليه شدّاً؛ فيجتهد في أن يجعل من الحبّة قبّة، ومن القليل كثيراً، ومن العدم وجوداً.... وقد أحسسنا بشيء من ذلك ونحن نقرأ الدكتور البطل وهو يشقّ على نفسه، ويُعْنتُها ويُضْنيها، لإثبات ما لا يمكن إثباته باليقين الدامغ، والتاريخ الناطق، فيُحسُّ ببعض الخيبة في قرارة نفسه، فيقرر: "و لانقصد بهذا أنّ شعر هذه المرحلة المتأخّرة من تاريخ العرب، يحمل لنا في صورة الدين البدائيّ القديم، فقد كانت كثرة هذه الطقوس قد درست ولم يبق منها إلاّ آثار باهتة حتّى في الممارسات الدينيّة؛ ولكننا نرى أنّ الصور المتّرسبة في الشعر من الدين القديم هي من آثار احتذاء الشعراء لنماذج فنيّة سابقة، لم تصلنا، كانت وثيقة الصلة بهذا الدين..." (47).
ونحن نوافق الدكتور البطل على بعض ما أثبتناه له هنا لأنه عين الحقّ، وخصوصاً قوله: "فقد كانت كثرة هذه الطقوس قد درست ولم يبق منها إلاّ آثار باهتة حتّى في الممارسات الدينيّة. وهو عين الحق؛ لأنّ التاريخ العربيّ القديم دَرَسَ وباد، ولم يعد يُرْوى ولا يُعاد: فقد بادت طسم، وجديس، وجرهم، والعماليق، وعاد، وثمود... فمنهم من تفانوا فيما بينهم في حروب مدّمرة لم تُبْقِ منهم ديَّاراً، ولا تركت لهم آثاراً؛ ومنهم من سلّط الله عليهم العواصف الهوجاء، والأمطار الطوفانيّة فأبادتهم؛ ومنهم من فنوا بتهدّم سدّ مارب(سيل العرم)، فلم يصلنا مما قالوا إلاّ أقلّة، ولم يبق للتاريخ من معتقداتهم القديمة، ومعقتدانهم الوثنية، إلاّ مظاهر شاحبة لا تسمن من جوع، ولا تروى من ظمأٍ؛ فألفينا الأقدمين يفزعون لملء الفراغ التاريخيّ الهائل إلى أساطير التوراة، وأكاذيب يهود... بينما ألفينا المحدثين يصطنعون افتراض الفروض طوراً، ويفزعون إلى الاحترافيّة الفكريّة، واصطناع الإجراءات التأويليّة طوراً آخر: من أجل التوصّل إلى نتائج يقيمونها، في كثير من أطوارهم، على افتراضات تنقصها الشروط المنهجيّة لفرض الفروض، أو على نصوص واهِيَة التاريخيَّةِ. وفي الحاليْن الاثنتَين لا نجد من يقنعنا في غياب النصوص التاريخيّة التي لم تكتب عن العرب قبل ظهور الإسلام، إذ لم يسرع الناس في التأليف، وجمع الأخبار بكيفيّة مستفيضة إلاّ ابتداء من القرن الثاني للهجرة....
وحين جاؤوا يكتبون تاريخ العرب: الأيام، والشعر، واللغة، والأديان: تكأَّدَهُمْ ذهابُ الذين كانوا يحملون هذا الشعر، وتلك الأخبار. ولقد سُقِطَ في أيدي بعض القبائل التي ضاع شعر شعرائها، أو لم يكن لها، في الأصل، إلاّ شعراً قليل، فعَمَدتْ إلى النحل... كما صادف الرواة المحترفون في تعطّش الناس لأخبار أهل الجاهليّة مصدراً للرزق الكريم، ومنزلة للعز المنيع؛ فكان حمّاد الراوية يعيث في الشعر العربيّ فساداً على مرأىً ومسمع من العلماء الذين قصروا عن إصلاح أمره... وإذا عجزوا هم عن إصلاحه، وكان الزمن الجاهليّ لا يبرح طرياً رطباً، فمن المستحيل علينا نحن اليوم إصلاحه... (48).
ولم يكن الأصمعيّ الثقة العالم بقادر على إصلاح ما كان أفسده أستاذه خلف الأحمر الذي لازمه عشْرَ سنين؛ مثله مثل أبي عمرو بن العلاء العالم الثقة المتحرّج الذي كان يتردد ويتألّم ويتحرج، لأنه كان يعلم أنّ ما انتهى إلينا مما قالت العرب إلاّ أقّلُّهُ، ولو جاءنا وافراً لجاءنا "علم وشعر كثير" (49).
-14-
والذي يعنينا في كلّ ما أوردناه في الفقرة السابقة، وما ناقشنا به الصديق الدكتور عليّ البطل، أنّ تعليل التسميّة تعليلاً دينيًاً ليس أمراً مسلمّاً. ومن الأولى التفكير في تعليلها تعليلاً يقوم على التفاؤل والتبرّك، كما قرر ذلك أبو عثمان الجاحظ.
ذلك، وأنّا عايشنا هذه المعلّقات السبع العِجَابَ أكثر من سنتين اثنتين: ظَلْنَا، خلالَهُما، نقرؤُها، ونعيد قراءتها، حتّى تجمّع لدينا مقدارٌ صالح من الموادّ ممّا لو جئنا نحلّله كلّه لكان هذا العمل خرج في مجلّدين اثنين على الأقلّ؛ بالإضافة إلى الموادّ الأخراة الكثيرة التي ينصرف شأنها إلى الشعر الجاهليّ بعامّة، والتي قد نعود إليها يوماً لبلورتها، وإخراجها للناس. ولغزارة المادّة المصنَّفة، والمنبثقة عن قراءات نصوص المعلّقات السبع، ورغبة منّا في أن لا يكون الكتاب الذي نقدَّم بين أيدي الناس أضخم ممّا يجب، وأطول ممّا ينبغي: ونحن نحيا عصر السرعة، والميل إلى القليل المفيد: ارتأينا أن لا يزيد تقديمها على أكثر من عشر مقالات كلّ مقالة تعالج مستوىً بذاته، أو محوراً بعينه: مثل إثنولوجيّة المعلّقات، وبنية الطلليات المعلّقاتيّة، وفكرة التناص في المعلّقات، والصناعات والحرف، وطقوس الماء، والمرأة، وجماليّة الإيقاع، وجماليّة الحيز... وهلّم جرّا.
ذلك، وأنّا كنّا أزمعنا على تقديم فهارس تتناول من الحقول ذات العلاقة بالأنتروبولوجيا، لدى نهاية هذه الدراسة: ترصد بعض الظواهر التي لم نتمكّن من بلورتها، أو تحليلها في ثنايا هذه الدراسة مثل الألفاظ الدالّة على الزراعة، والزينة (أي الملابس والعطور والحليّ)، والألوان، والأديان، والمعتقدات، والألعاب... ثمّ ‎أضربنا عن ذلك لمّا رأينا حجم الكتاب طال، وموادّه اتّسعت... -ولعلّنا أن نأتي ذلك في الطبعة الثانية إن شاء الله....
فعسى أن نكون قد وفّقنا إلى إضافة لبنة صغيرة، جديدة، إلى ذلك الصرح الأدبيّ الشامخ.

**د لا ل**
2012-02-11, 17:00
دراســـــــة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998



1- إثنولوجيّة المعلّقات: أولاً: إثنولوجيّة المعلّقاتيّين:1 - الانتماء القبليّ لاُمْرِئْ القيس:
على الرغم من أنّ القحطانيّين يجسّدون أصل العروبة وجُرثومَتَها، ومهدها وأرومتها؛ وأنّهم يشكّلون ما يطلق عليه النسّابون العرب: "العرب العاربة"، فإنما حين نعدّ شعراء المعلّقات لا نلفي منهم إلاّ شاعراً واحداً- من بين السبعة- قحطانيّاً، وهو امرؤ القيس (وهو لقب له، واسمه فيما يزعم بعض اللغوّيّين: حُنْدُج (بضم الحاء المهملة، وسكون النون)، وهو في اللغة: الرملة الطّيبة، أو الكثيب من الرمل يكون أصغر من النّقا) (1) بن حُجْر بن عمرو بن الحارث بن حجر آكِل المُرَارِ (2) بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن ثور بن كندة (3) الذي ينتهي نسبه الأعلى إلى كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قطحان(4).
وليس نسب امرئ القيس، من جهة أمّه، أقلّ مجداً، ولا أدنى شرفاً، من مجد أبيه. بل ربما كان أعلى وأنبل، وأسمى وآثَل؛ ذلك بأنّ أمّه هي فاطمة بنت ربيعة بن الحارث بن زهير، وهي أخت كليب وائل الذي تضرب العرب به المثل في العزّ والمنعة، فقالت: "أعزّ من كليب وائل"، والذي بمقتله أضطرمت الحروب الطاحنة بين قبيلتي بكر وتغلب دهوراً طِوالاً (5). فكليب خال امرئ القيس، إذن، مَثَلُه مَثَلُ مهلهل بن ربيعة الذي يعدّ أوّل "من قصّد القصائد، وذكر الوقائع" (6)، وأوّل من هلهل الشعر.
ونعتقد أنّ امرأ القيس قد يكون تأثّر بخاله مهلهل الذي يبدو أنه كان مؤسّساً لبنية القصيدة العربيّة. ولكنّ ابن الأخت أخْمَلَ خاله، أو كاد يُخْمِله؛ وهو، على كلّ حال، لا يذكر إلاّ أنه أوّل من قصّد القصائد في رثاء أخيه كليب؛ بينما يذكر امرؤ القيس على أنّه أمير الشعراء العرب على وجه الإطلاق... وكثيراً ما يتفوّق التلميذ على أستاذه، ويشمخ النجل على من نَجَلَه.
ويبدو أنّ قباذ ملك الفرس هو الذي كان "ملّك الحارث بن عمرو جدّ امرئ القيس على العرب" (7).
على حين أنّ أهل اليمن يزعمون أنّ ملّك جدّ امرئ القيس لم يكن قباذ الفارسيّ، ولكنّه كان تبّعاً الأخير.
ثمّ لم تلبث بنو أسد أن ملّكت حجر بن عمرو، أبا امرئ القيس، عليها. ويبدو أنّ سيرته ساءت فيهم فثاروا عليه، ولم يلبثوا أن تطاولوا عليه وقتلوه في فتنة رهيبة (8). وزعم ابن الكلبي أنّ الذي كان سبباً في اضطرام تلك الفتنة رفْض بني أسد دفع الإتاوة السنويّة للملك (9).
ومن مقتل حجر تبتدئ مأساة امرئ القيس، الشاعر الحساس، والابن الأصغر لأبيه الذي تزعم الأخبار التي نرتاب فيها أنه كان أمر بقتله صغيراً حين رفض التخليّ عن قيل الشعر، ثم طرده فعاش متشرّداً بين القبائل (10). وقد حاول أن يثأر الشاعر لأبيه من بني أسد، فاستعدى عليهم ذا جدن الحميريّ الذي أمدّه بجيش طارد به قتلة أبيه، وفتك بهم فتكاً ذريعاً. ولكنه كان، كأنّه، يريد إبادتهم عن آخرهم؛ فلم يرْضَ بمنْ قُتلَ منهم، وظلّ يتنقّل بين جبلي طيئ في انتظار جمع الرجال وحشدهم لمحاربة من بقي من بني أسد... ولكنه حين يئس من تحقيق ذلك قرر الاستنجاد بقيصر الروم الذي أمدّه بجيش، فيما تزعم بعض الروايات، ثمّ ندم على ذلك إمّاً مخافة أن يغزوه امرؤ القيس إذا انتصر على أعدائه، وقَوِيَتْ شوكتهُ، وإمّا انتقاماً لشرف ابنته التي يقال إنها أحبّت امرأ القيس...
فأرسل إليه حلّة مسمومة وهو في سبيله إلى بلاد العرب، فتساقط جِلْدُه لمّا ارتداها..(11).
ولقد حاول حمّاد الراوية أن يضفي صبغة أسطوريّة على طفولة امرئ القيس، كما سبقت الإيماءة إلى ذلك، مثله في ذلك مثل ابن الكلبي (12)، ومثل ابن الكلبي في ذلك مثل أبي زيْدٍ القرشيّ (13)، حيث إنّ أبا زيد، خصوصاً، أورد أسجاعاً تسجّل مبتدأ تفتّق العبقريّة الشعريّة لأُمرئ القيس، وتصف أيام كان أبوه حُجْر كلّفه خلالها برعي الإبل، ثمّ برعي الخيل، ثم برعي الشاة؛ فكان في كلّ يوم يرسل أسجاعاً يصف فيها تجربته الرعويّة، فيئس منه أبوه وطرده...
وعلى الرغم من أننا اختصرنا حياة امرئ القيس اختصاراً شديداً- لأنّ أخباره مدوّنة في مظانّها- فإن الذي يعنينا، من كلّ ذلك، هو قبيلته التي لاقت عناء وعقوقاً من بني أسد. ويبدو أن الملك حجراً لم يكن يستمدّ قوته من كبر عشيرته التي لم تصنع شيئاً حين تعرّض للقتل:
1- إنّ قبيلة بني أسد رفضت دفع الإتاوة لحجر أبي الشاعر، فلما حاول إرغامهم على ذلك ما لبثوا أن تطاللوَا على مَقْتَلِه.
2- أنّ امرأ القيس أُريد لحياته أن تتّسم بالأسطوريّة حين أبى عليه أبوه قول الشعر، ومغازلة النساء؛ فحاول معاقبته برعي الأنعام؛ فلمّا لم يفلح طرده في رواية، وحاول قتله في رواية أخراة.
ونلاحظ أن هذه الحكاية تتّخذ لها سيرة القوانين التي تحكم الأساطير بحيث يسبق شرط الحظر والمنع من سُلوكِ سلوكٍ معيّن، ولكنّ الطرف الذي يفرض عليه المنع لا يبرح يُصِرّ على موقفه حتى يقع في المحظور، لتفجير الحكاية، وانطلاقها.... فلو استجاب امرؤ القيس لطلب أبيه، وأذعن لإرداته فلم يقل الشعر، ولم يتغزّل بالنساء، لكانت حياته عاديّة جداً، ولما كَلِفَ بذكر أخباره التاريخ عبر الأعصار والأمصار...
3- إنّ خيال الرواة اختصب اختصاباً شديداً لدى ذكر أخبار امرئ القيس، قبل مقتل أبيه، وبعده... ولا يزال الرواة يختلفون من حوله حتى تجرَّأ بعضهم على التشكيك في نسبه من أمّه، بل من أبيه أيضاً حيث إنّ هناك من الرواة من لا يتردّد في أن يجعله امرأ القيس بن السمط، وأن يجعل أمه تَمْلكَ بنت عمروٍ بن زبيد بن مذحج رهط عمرو بن معد يكرب(14).
ولعلّ مغالاة الرواة في هذا الاختلاف مؤئله إلى كَلَفِ الناس بعد أن استقرّوا بالأمصار- خصوصاً البصرة والكوفة- بمثل هذه الأخبار الجميلة يتسامرون بها ويتثاقفون. ونحسب أنّ التاريخانِيَّة، في هذه الأخبار، أكثر من التاريخيّة.
4- إنّ الناس كَلِفُوا بالحديث عن سيرة امرئ القيس وانتمائه القبليّ من جهتي أمّه وأبيه، وعن سيرة جده وأبيه أكثر من كلفهم بالحديث عن شعره الذي جمعه حمّاد الراوية، المشكوك في وثوق روايته بعد أكثر من قرنين من وفاته.
5- إنّ الاتفاق وقع- عبر الاختلاف- بين الرواة على أنّه يمنيّ، وأنّه من أسرة مالكة، ماجدة، وأنه، إذن، ملك بن ملك، بن ملك.
6- نلاحظ أنّ امرأ القيس ربما يكون أوّل شاعر عظيم يموت متسمّماً؛ أي يموت مغتالاً بحقد قيصر الروم وغدره ونذالته (ولا ينبغي أن ننسى أنّ أسطورة جميلة أخراة ارتبطت بسفر امرئ القيس إلى أنقرة، ومقامه بالقصر القيصريّ، ووقوع ابنة القيصر في غرام الشاعر العربيّ الوسيم... وأنّ قيصر الروم حين تابع امرأ القيس بالحّلة المسمومة إنما جاء ذلك انتقاماً لشرف ابنته؛ وقد يدلّ ذلك، إن صحّ، على أنّ علاقة الشاعر العربي بالأميرة الرومية جاوز مستوى النظرة إلى مستوى الفعل.... ولا يدلّ إصرار القيصر على الانتقام من امرئ القيس إلاّ على بعض ذلك... فكأنّ امرأ القيس كتب عليه أن تظلّ المرأة فاعلة في حياته، مؤثّرة فيها، إلى نهايتها، فيموت بسببها.
7- ونلاحظ، أيضاً، أنّ أبا امرئ القيس مات، هو أيضاً، مقتولاً، وأنّ كليهما قتل وهو متطلّع إلى مجد السلطة، وأبّهة الحكم. وأنّ كلاً منهما انقطع أمله بذلك القتل...
8- إنّ امرأ القيس يمثّل عهده عصر الجاهليّة بكلّ مايحمل اللفظ من معنى، وكان محكوماً على عظماء الرجال إمّا أن يَقْتِلوا، وإما أنْ يُقْتَلُوا: إذ قُتل حجر والد امرئ القيس، كما قُتل كليب وائل، أعز العرب، فطالب أخوه مهلهل بثأره؛ فاضطرمت حرب البسوس بين بكر وتغلب فتجسّدت في خمس حروب (15)، كما تعرّض مهلهل، خال امرئ القيس للأسر مرتين اثنتين: نجا في الأسْرَة الأولى، وهلك في الأخراة (16). بينما نلفي حفيده، وهو صاحب معلّقة أخراة، وهو عمرو بن كلثوم بن ليلى ابنة مهلهل بن ربيعة لا يتعرّض هو للفتك؛ ولكنه هو الذي يُقْدِم على الفَتْك بعمرو ابن هندٍ حين أرادت أمِه هند أن تنال من شرف ليلى ابنة مهلهل لَمَّا التمست منها أن تناولها الطَّبَق...
فالشاعر قتيل، والملك أبوه قتيل، والخال كليب- أعزّ العرب- قتيل، والخال الآخر- مهلهل أسير، وابن ابنة الخال -عمرو بنت كلثوم- قاتل...والبسوس طاحنة المعارك، مَهُولَةُ الأيام الخمسة.. والفتنة بين القبيلتين الأختين بكر وتغلب على أشدّها.... إنه عصر الشاعر امرئ القيس.... وإنه لانتِماؤُه القَبَليُّ... ولعلّ ولاءَهُ لتقاليد القبيلة، وحرصَه على شرفها.... وهوالذي جعله يخوض، هو أيضاً، حروباً طاحنة يشنّها على قبيلة بني أسد... فتنة... حروب... انتقام... تأرات... حبّ وغزل وخمر... نساء ولهو.... تلك هي
حياة المعلّقاتيّ الأوّل: امرئ القيس....
2- الانتماء القبليّ لبقيّة المعلقاتيّين:
لقد كنّا لاحظنا أنّ امرأ القيس، هو المعلّقاتيّ الوحيد الذي ينتهي نسبه الأعلى إلى قحطان من بين كلّ المعلّقاتيّين السبعة. وينشأ عن ذلك أنّ كلّ المعلّقاتيّين الستّة الآخرين ينتهي نسبهم الأعلى إلى عدنان إذْ نُلفي اثنين، من بينهم، ينتميان إلى بكر، وهما: طرفة بن العبد (17)، والحارث بن حلّزة (18). على حين أنّ عمرو بن كلثوم تغلبيّ (19)، وعنترة بن شدّاد عبسي/ قيسيّ، مضريّ (20)، وزهير بن أبي سلمى مُزَنِيّ/ تميميّ (وقد اختلط على بعض الناس أمر نسبه فعدّه غطفانيّاً، بينما هو مزنيّ، نزل بديار غطفان (21)، ولبيد بن أبي ربيعة قيسيّ (22). وكلّ من تغلب، وبكر، وعبس، وتميم، وقيس ينتهي نسبها الأعلى إلى عدنان.
وترتبط حياة معظم أولاء المعلّقاتيّين بقبائلهم بما لها من مآثر وأمجاد، وخطوب وأهوال؛ وذلك أمثال عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلّزة، وعنترة بن شداد، وطرفة بن العبد. وحتى زهير بن أبي سلمى اختصّ معلّقته بالأحداث المهولة، والحروب الطاحنة التي دارت بسبب سباق فرسي داحس (وكانت لقيس بن زهير سيد بني عبس)، والغبراء (وكانت لحمل بن بدر سيّد بني فزارة، غطفان). ولولا الصلح الذي سعى به كلّ من هرم بن سنان، والحارث بن عوف، وتحمّلهما دفع ديّات القتلى التي بلغت زهاء ثلاثة آلاف بعير، لتفانت عبس وفزارة. وإذا كانت دية القتيل غير الملك مائة بعير، فإنّ عدد الذين سقطوا ضحايا هذه الحروب من القبيلتين لا يقلّ عن ثلاثمائة رجل...
وعلينا أن نلاحظ أنّ موضوع معلّقة زهير، على ما يبدو فيه من حكمة وتأمّل في الكون؛ بأنّ الباعث الأوّل على قولها يَمْثُلْ في عادات عربيّة قديمة، وقد ظلّت قائمة إلى يومنا هذا، وهي تنظيم مسابقات بين الخيول... فلولا سباق تينك الفرسين لما وقعت حرب بين عبس وفزارة، ولولا تلك الحرب الطاحنة لما أنشأ زهير قصيدته المعلّقة...
على حين موضوع معلّقة عمرو بن كلثوم يرتبط بحادثة الطبق المشؤومة؛ وذلك لَمَّا التمست هند أمّ عمرو بن هند، ملك الحيرة من ليلى، أمّ عمرو بن كلثوم-وبنت مهلهل بن ربيعة خال امرئ القيس: أن تُناوِلَها الطبق، فأَبَتْ وصاحت: واذُلاَّه! وهي الحادثة التي أفضت إلى قتل ملك الحيرة عمرو بن هند على يد ابن كلثوم (23).
وكأن هذه المعلّقة، معلّقة ابن كلثوم، بمثابة سجّل لأعمال قبيلة تغلب، وما عانته من أهوال، وما لاقته من طوائل، سواء مع أختها قبيلة بكر، أم مع عمرو بن هند ملك الحيرة، الذي اتّهمته تغلب بالتحيّز لبكر في مسألة الرهائن... وقد كلفت تغلب بهذه القصيدة حتى قال أحد الشعراء يسخر منهم، ويتهكّم بهم:

ألهى بني تَغْلِبٍ عن كلّ مَكْرُمَةٍ




قصيدةٌ قالَها عمرو بن كلثوم (24)



بينما ترتبط أحداث معلّقة الحارث بن حّلزة، هي أيضاً، بقبيلة بكر التي ينتمي إليها الحارث، فجاء يردّ فيها على عمرو بن كلثوم التغلبيّ الذي غالى في المكابرة والمنافجة، وبالغ في المنافسة والمنافحة: فجاوز كلّ حدّ، وعدا كلّ طور. ويبدو الحارث بن حلّزة في معلّقته هذه ، على الهدوء البادي، داهيةً ألوى، استطاع أن يدافع عن قبيلته، ويبيّض وجهها، ويسُلَّها من الفتنة كما تسلّ الشعرة من العجين، ويبرئّها من كلّ ما كانت متّهمة به في علاقتها بملك الحيرة في مسألة الرهائن.... فحكمة هذا المعلّقاتي لا تتمثّل في سوق الأقوال، وضرب الأمثال؛ كما جاء ذلك طرفة وزهير، ولكن في الجدال والمساءلة والاحتكام إلى العقل.
والذي يعنينا في كلّ ذلك، أنّ همزيّة الحارث بن حلّزة تدرج في أحداث قبيلته، وتاريخها، وعلاقاتها العامة مع القبائل الأخراة من وجهة، ومع ملك الحيرة من وجهة أخراة: تذوب فيها، وتنطلق منها، لتعود فتنتهي إليها.
وترتبط معلّقة عنترة بحياته، وسيرته، ولونه، ارتباطاً وثيقاً إذ تزعم الرواة أنه تسابّ مع رجل من بني عبس (25) (ويفهم من هذه الرواية أنّ عنترة لم يكن يقول الشعر قبلها، لأنّ ذلك العبسيّ عيّره بسواد لونه، وعبوديّة أمّه، وأنه لم يكن يقول الشعر)، فردّ عليه عنترة في كلمة" (....).وأمّا الشعر، فسترى!" (62).
فموضوع معلّقة عنترة شديد الشبه بموضوع امرئ القيس الذي كان سجّل في معلّقته بعض سيرته، ومغامراته، وهواه، ولذّاته: ولم يكد يأتي عنترة إلاّ شيئاً من ذلك حين سجّل مواقفه في الحرب، وحسن بلائه في ساح الهيجاء، وإخلاصه في حبّ عبلة، ومحاورته لفرسه، ووصفه لمشاهد الأبطال الذين كان يجند لهم فيتهاوون في ساحة الوغى...
وترتبط حكاية معلّقة عنترة بسيرته وهي الفروسيّة النادرة، والشجاعة الخارقة من وجهة، ومعاناته من مأساة العبوديّة التي ورثها بحكم عبوديّة أمّه زبيبة حيث كان النظام القبليّ لدى أهل الجاهليّة، إذا كان الابن من أَمَتِه استعبده، ولم يُلْحِقْه بنسبه.
ولا شيءَ أجمل للشعر من الدفاع عن الهويّة، وإثبات الذات، والبرهنة على سمّو النفس، ونبل الخلاق، لإقناع الناس بأنّ السواد لا صلة له بالشخصية إذا عَظُمَتْ، وبالنفسْ إذا كرمت، وبالعزيمة إذا كبرت. فكان لا مناص لعنترة لكي يصبح شخصية مرموقة أن يقول الشعر، ويحبّ فتاة، ويبلي في ساحة الحرب؛ لكي يدافع عن القبيلة التي لولا تدخّله لكانت تعرضت للفناء والعار، كما تزعمه الأخبار (27).
وأمّا معلّقة طرفة بن العبد فإنها ترتبط، هي أيضاً، بأحداث مَهُولَةٍ حيث لم يكن الفتى يرعوى عن إطلاق لسانه في عمرو بن هند، ملك الحيرة، الذي دبّر له مكيدة خسيسة حين أرسله إلى عامله بالبحرين، ليقتله فقتله (28). فمعلّقته ترتبط، هي أيضاً، بحكاية مأساة ذاتيّة عاشها الشاعر الفتى. فهي شبيهة، من هذا الوجه، بمعلّقتي امرئ القيس وعنترة.
وتبقى معلّقة لبيد التي لا ترتبط بحادثة معينّة، كما أنه لم يفخر فيها بنفسه، ولا بقبيلته؛ ولكنّ موضوعها لمّا ارتبط بوصف البقرة الوحشية، وبالطبيعة، وعلى الجبلّة الأولى، فإنه صار مرتعاً خصيباً لكلّ تحليل أنتروبولوجيّ.
ونلاحظ أنّ ثلاثة من المعلّقاتيين ماتوا مقتولين: وهم امرؤ القيس (الحلّة المسمومة، المشؤومة)، وعنترة الذي قتله، في بعض الروايات الأسد الرهيص، بعد أن بلغ من العمر أرذله، وهو من عبس أيضاَ (29)، وطرفة بن العبد الذي يقال إنه قتله رجل عامّيّ مغمور، ويبدو أنّه كان سيّاف المعلّى بن حنش العبدي(30). كما أن طرفة نشأ يتيماً (واليتم يشبه العبوديّة...) حيث تُوفِّي أبوه وهو لايبرح صبيّاً؛ على حين أنّ امرأ القيس قضى طفولته مشرّداً منبوذاً حيث أنكر أبوه أمره والفتى لا يبرح غضّ الإهاب؛ بينما عاش عنترة طفولة العبد الذليل الذي يرعى الإبل، وينهض بأشقّ الأشغال، ويتجرع، أثناء ذلك، كثيراً من العُقَدِ في نفسه.
ثانياً: المعلّقات وتاريخ بلا أرقام:
متى كان يعيش المعلّقاتيون؟ وكم عُمِّرَ كلٌّ منهم؟ ولِمَ سكت المؤرخون عن أعمارهم، إلاّ ما كان من أمرَيْ طرفة ولَبيدٍ؟ وما أغفل الرواة عن هذه المسألة مع أنها ذات شأن بالقياس إلى كبار الرجال؟ أم أنّ هناك حلقاتٍ مفقودةً من التاريخ العربيّ قبل الإسلام؟ أم أنّ الرواة لم يكونوا يُولونَ لأَسْنانِ الرجال الكبار ما كانوا له أهلاً من العناية والاهتمام؟....
إنّ من حقّنا أن نثير أكثر من سؤال حَوالَ هذه المسألة وقد عرضنا لها في هذه الفقرة من البحث. ذلك بأنّ كلّ ما نعرف، هو أنّ امرأ القيس كان أوّل المعلّقاتيّين وأسبقهم زمناً. ونعرف ذلك، في الحقيقة، مضموناً لا منطوقاً. ولكن يبدو أنّ كلّ ما يباعد بين المعلّقاتيّ الأول، وهو امرؤ القيس، والأخير وهو لبيد لا يكاد يجاوز قرناً واحداً، وبعض قرن.
ولعلّ أوّل المؤرخين العرب تساؤلاً عن عهد امرئ القيس كان ابن قتيبة الذي قرّر أنْ ذا القروح كان يعيش على عهد أنو شروان، ملك الفرس (31) الذي ملك ما بين 531 و 579 ميلاديّة. وقل إن شئت، لمّا كان امرؤ القيس يعيش على عهد قيصر الأوّل الأكبر، ملك الروم، الذي كان يعيش بين
482 و 565 ميلادية؛ فإنّنا نتبنّى موقف الموسوعة العالميّة التي ذهبت إلى أن امرأ القيس توفّى زهاء سنة 550 ميلاديّة، أي قبيل ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلّم بزهاء إحدى وعشرين سنةً؛ أي بزهاء إحدى وستين سنة قبل البعثة المحمديّة (32).
ونحن نفترض، بناء على الأخبار المتضاربة والمتناقضة التي كتبت حول سيرة امرئ القيس (جمهرة أشعار العرب -الشعر والشعراء- الموشّح- الأغاني- خزانة الأدب، ولبّ لباب لسان العرب....) أنه لمّا قَتَلت بنو أسد أباه حجراً لم يكن شيخاً، وربما لم يكن كهلاً أيضاً، ولعله لم يكن جاوز الثلاثين من عمره، وأنه كان أصغر إخوته (33). ونفترض أيضاً أنّ حروبه مع بني أسد لم تدم، انطلاقاً من التحضير لها بالاستنجاد بقبيلتي بكر وتغلب، وفيهما أخواله، أكثر من سنة أو سنتين اثنتين على أبعد تقدير. كما أنّ الحملة الثانية التي قادها على بني أسد في جمع من أهل حمير، وشذّاذ من العرب (34): لا ينبغي لها أن تكون قد جاوزت أكثر من سنتين اثنتين أيضاً. كما أنّ تشرّده في جبلي طيئ، من بعد ذلك، وذهابه إلى أنقرة للاستنجاد بالقيصر جوستينان (482-565) (35) لا نعتقد أنّ ذلك كلّه جاوز ثلاث سنوات... فيكون تقدير عمر امرئ القيس، بناء على هذه الاستناجات التقريبيّة، لدى تسمّمه بحلّة جوستينان المشؤومة، أقلّ من خمسين سنة غالباً.
ولدى تتبّعنا لوفيات الشعراء الستّة الآخرين- وهم العدنانيّون- لاحظنا أنهم كانوا يعيشون، في معظمهم، في مدى زمنيّ متقارب: إمّا متعاصر، وإما سابقٍ أو لاحقٍ بقليل. وقد ذكر البغدادي أنّ زهيراً توفي بسنة واحدة قبل البعثة الشريفة (36). وحتى لبيد بن أبي ربيعة، وهو آخر المعلّقاتيّين وفاة (توفي في بداية خلافة معاوية) (في رأي ابن قتيبة، وفي أواخر خلافته في رأي أبي الفرج الأصبهاني (38). وإذا سلّمنا بما كاد المؤرخون يتفقون عليه) وهو أنه معدوداً في المُعَمَّريْنَ، وأنه توفيّ وسِنُّه مائةٌ وبِضعةٌ وأربعون عاماً في قول (39)، ومائةٌ وسبعٌ وخمسون سنةً في قولٍ آخرَ (40)؛ فإنّ ذلك لا يعني إلاّ أنّ لبيداً عاصر امرأ القيس على وجه اليقين.
ولمّا كان ضبط عمر لبيد يترواح بين مائة وسبعة وأربعين عاماً ومائة وسبعة وخمسين عاماً فإننا نجعل موقفنا بين ذلك وسطاً، ونقيمه على التقريب فنقول: إنه عاش قرناً ونصف قرن تقريباً، وأنه توفّي وسط عهد معاوية.
وإذا علمنا أنّ امرأ القيس توفّي قبل البعثة الشريفة بزهاء إحدى وستين سنة فإنّ لبيداً يكون قد عاش في الجاهليّة قريباً من قرن واحد. وأنه عاش في عهد الإسلام قريباً من نصف قرن. والذي يعنينا في كلّ ذلك خصوصاً: أنّ لبيداً، حسب هذه المعلومات التاريخيّة التي بنينا عليها استنتاجاتنا، عاصر امرأَ القيس يقيناً، وأنه حين توفّي الملك الضلّيل كان عمر لبيد زهاء أربعين عاماً....
وينشأ عن ذلك أنّ الزمن الذي عاش فيه المعلّقاتيّون السبعة كلّه (وذلك بإدخال بداية عمر امرئ القيس الذي نفترض أنه توفّي في سنّ الخمسين تقريباً، وكان ذلك زهاءً خمسمائة وخمسين ميلاديّة، أو قل كان ذلك سنة إحدى وستّين قبل البعثة المحمّديّة) لا يجاوز زهاء قرن وعشر سنوات قبل البعثة، وزهاء نصف قرن بعدها...
ولعلّ ذلك هو الذي حملنا على اعتبار نصوص المعلّقات وحدة واحدة، ومدرسة فنّيّة مندمجة، وأنه من العسير فهمُ نصِّ معلّقةٍ معزولاً عن نصوص المعلّقات الأخراة...
لكنّنا لا نستطيع، بكلّ حزن، تحديد أعمار جميع المعلّقاتيّين، حتّى على وجه الافتراض أو الاحتمال، كما كنّا جئنا ذلك بالقياس إلى امرئ القيس. وكلّ ما في الأمر أنّ عمرو بن كلثوم توفّي فبل سنة ثلاثين وستمائة ميلاديّة (41)، وأنّ زهيراً توفّي بسنة واحدة قبل البعثة النبويّة، بينما عنترة وطرفة توفيا في أواخر القرن السادس الميلادّي. على حين أنّ الحارث بن حلّزة كان يعاصر عمرو بن كلثوم، ولعّله هو أيضاً توفّي في أوائل القرن السابع الميلادّي.
إنّ ذلك كلَّ ما نستطيع قوله حول هذه المسألة التي لم يحقّق في شأنها، على هذا النحو، أحدٌ قبلنا، فيما بلغْناه من الاطلاع.
ثالثاً: المعلّقات وقِدَمِيُّةُ الشعر العربيّ
إنّ كلّ من يبحث في أمر الشعر الجاهليّ، قد يصاب بالحيرة والذهول، وهو يقرأ، هذه الأشعار الراقية التي ظلّت على مدى أكثر من أربعة عشر قرناً: نموذجاً يُحتذى، ومثالاً يقتدى، وكيف ورِثْنا القصيدة العربية ببنيتها الطللية المعروفة، وبإيقاعاتها المَسْكوكَة، وبتقاليدها الجماليّة المرسومة: من حاد عنها لا يكون شاعراً، ومن حاكاها عُدَّ في الشعراء...؟ وكيف أنّ امرأ القيس يتحدّث عن تاريخ لا يعرفه التاريخ، وهو وجود شعراء قبله كانوا يبكون الديار، ويقفون على الأطلال، ولا نعرف عنه شيئاً إلاّ أسماءهم، منهم ابن حمام..؟ وأين ذهب ذلك الشعر؟ وكيف أغفل التاريخ الشفويُّ سير أولئك الشعراء العماليق، كما نفترض بعضهم؟ فقد كانوا من الفحولة والشاعريّة ما جعل أعراب كلْب يزعمون أنّ الأبيات الخمسة الأولى من معلّقة امرئ القيس هي لأمرئ القيس الحمّام بن مالك بن عبيدة بن هبل "وهو ابن حمام الشاعر القديم، الذي يقول فيه بعض الناس: ابن خذام. وقد قيل أنه من بكر بن وائل، وهو الذي قال فيه امرؤ القيس:
*نبكي الديار كما بكى ابن حمام* _(42)؟
أم مثل ذلك الشعر العُذريّ البديع مما كان يهون على الناس فزهُدوا فيه، وعزفوا عنه؟ أم أن الفتن والحروب هي التي أودت بذلك الشعر كما أودت بأصحابه؟ أم أنّ اشتغال العرب بالجهاد، وفناء كثير منهم في حروب الردّة، يوم صفيّن، ويوم الجمل، وأيّام الفتن الأخراة المبكّرة التي حصدت كثيراً من أرواح الرجال هي التي عجّلت بدفن تاريخ الشعر العربي، وطمس معالمه الأولى الحقيقيّة إلى الأبد؟
ونعود لنتساءل، ولا نملك أكثر من هذا التساؤل الحيران: كيف ولد الشعر العربيّ راقياً كاملاً، وناضجاً رائعاً؟ وكيف نشأت القصيدة العربيّة- الجاهليّة- مكتملة البناء، محكمة النسج، بديعة السبك، على هذا النحو، ثمّ كيف لا نعرف قبل هؤلاء الشعراء العماليق شعراء أوساطاً قَبْلهم، ولا شعراء عماليق أمثالهم...؟ وكيف لانكاد نجد الرواة القدماء يوردون إلاّ أبياتاً قليلة، ممّا صحّ لديهم، قد لا تزيد عن العشرين بيتاً، في مجموعها؟ وكيف يمكن للمؤرخ فكُّ هذا اللّغز، وللباحث فهم هذا السّر؟
لقد اتفق قدماء مؤرّخي الأدب، على أنه "لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلاّ الأبيات يقولها الرجل في حاجته، وإنّما قُصِّدَت القصائدُ وطُوِّلَ الشعرُ على عهد عبد المطّلب، وهاشم بن عبد مناف" (43).
ونلاحظ أنّ أيّاً من مؤرّخي الأدب العربيّ القدامى (ابن سلاّم (44)، وابن قتيبة (45)، والشريف المرتضى (46)، والآمدي (47)....) لم يذكر مصدر خبره والظاهر أنّ مصدر هذه المصادر كلّها هو ابن سلاّم الجمحّي الذي لم يذكر هو، أيضاً من روى عنهم؛ ولا كيف صحّ لديه تلك الأبيات القديمة التي أثبتها، ولا كيف لم تصحّ لديه الأبيات الأخراة؟ (48).
وأنّا لا ندري كيف يمكن أن نقتنع بقدم تلك الأبيات التي أثبتها ابن سلاّم، وجاراه آخرون في إثباتها، على غيرها، وصحّتها من بين سَوائِها؛ في غياب التصريح باسماء الرواة، وانعدام اتّصال السَّنَدِ؟ ثمّ ماذا يعني هذا القِدَمُ الذي لم يكن أوائل المؤرخين يضبطونه بالأرقام؟ وناهيك أنّهم لا يكادرون يؤرّخون لموت أيّ من الشعراء الكبار، والشخصيّات العظام؛ ممّا يجعلنا نعمد، هنا، إلى فرض الفروض لتفسير مقولة ابن سلام المنصرفة إلى زمن تقصيد القصائد الذي ربط بعهدي هاشم بن عبد مناف، وابنه عبد المطّلب. وإذا كان ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلّم أَرَّخَتْ له كتب السيرة بحادثة غزو أبرهة مكّة، وهي الحادثة التي عرفت في القرآن الكريم بـ "أصحاب الفيل"؛ فإنّ عام الفيل حين نحاول ترجمته إلى الأرقام سيعني سنة 570 أو 571 ميلاديّة. ولقد نعلم أنّ عبد المطلّب بن هاشم، جدّ رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ توفّي وعُمْرُ محمّد ثماني سنوات (49): فيكون عهدُ عبد المطلب هو القرن السادس الميلادّي، وعهدُ هاشم ابن عبد مناف هو نهايّة القرن الخامس، وأوائل السادس الميلاديّ.
وقد كنّا رأينا، من قبل، أنّ امرأ القيس توفيّ زهاء سنة 550م. ممّا يجعل من عهد عبد المطلب عهداً لامرئ القيس أيضاً؛ ومن عهد هاشم بن عبد مناف عهداً لمهلهل بن ربيعة التغلبيّ الذي يزعم المرزبانيّ أنه هو "أوّل من قصّد القصائد، وذكر الوقائع" (50).
ويتفق القدماء على أنّ أوائل الأبيات الصحيحة رُوِيَتْ لدرُيد بن يزيد الذي ينتهي بنسبه الشريف المرتضى إلى حمير (51)، وابن كثير إلى قحطان (52). فكأن الشعر العربيّ قحطانيّ الميلاد، حميريّ النشأة، ثمّ عمّ، من بعد ذلك، في بني عدنان بالشمال.
ويذهب الجاحظ إلى أن الشعر العربيّ حديث الميلاد، صغير السنّ: "أوّل من نهج سبيله، وسهّل الطريق، إليه: امرؤ القيس بن حجر، ومهلهل بن ربيعة (....).
ويدلّ على حداثة قول الشعر، قولُ امرِئِ القيس بن حجر:

إِنَّ بني عوف ابْتَنَوْا حَسَناً




ضَيَّعَهُ الدُّخلولُ إَذْ غَدَرُوا



أَدَّواْ إلى جارهم خفَارَتَه




ولم يَضِعْ بالمغيب من نَصَروا



لا حِمْيَريٌّ ولا عَدَسٌ




و آَسْتُ عيرٍ يَحُكُّها الثَّفَرُ



لكنْ عويرٌ وفى بِذِمّته




لا قِصَرٌ عابه ولا عوَرُ



فانظر كم كان عمر زرارة (بن عدس). وكم كان بين موت زرارة ومولد النبيّ عليه الصلاة والسلام. فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له إِلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام" (53).
هذا هو النصّ الجاحظيّ الشهير الذي تداوله الدارسون منذ اثني عشر قرناً.
ونحن بعد أن تأمّلنا تعليق الجاحظ على أبيات امرئ القيس وجدنا هذا التعليق كأنه مقطوع عن كلام ساقط، ونص غائب، وإلا فما معنى تعجب أبي عثمان:" فأنظركم كان عمر زرارة، وكم كان بين موت زرارة ومولد النبيّ عليه الصلاة والسلام". ونحن نفترض أنّ ذكر زرارة كان ورد في شعر امرئ القيس مربوطاً بمناسبة تاريخيّة ذكر فيها زرارة بن عدس، أبو لقيط بن زرارة، فسقط من شعر امرئ القيس، إِن لم يكن ما افترضناه أَوّلاً من سقوط بعض كلام أبي عثمان.. ولم نر أحداً من الدارسين الذي استشهدوا بنصّ الجاحظ تنبّهوا إلى هذا البَتْر، أو إلى هذا الغموض على الأقلّ، ومنهم البهبيتي (54)، وشوقي ضيف(55): إذ هم يهملون الجملة التي استشهدنا بها نحن، ولا يأتون الشعر الذي استنبط منه الجاحظ حكمه حول عمر الشعر العربي قبل الإسلام؛ ويستأنفون؛ وقل أنهم يقطعونه قطعاً، ويبترونه بتراً، من قوله: "فإذا استظهرنا" مع أنّ هذا الاستظهار لم يكن إلا‍ّ نتيجة لمقدّمة، وحكماً مستنبطاً من نصّ...
ثمّ أين الدليل الخِرِّيتُ الذي يوجد في شعر امرئ القيس المستشهد به...؟ إنّ كلام أبي عثمان يفتقر إلى نقاش، ولا يمكن أن نجاريه عليه؛ إذ كان امرئ القيس نفسه يعترف بوجود شعراء قبل عهده، كما يدلّ على ذلك بيته الشهير:

عوجا على الطلَل المُحيل لعّلنا




نبكي الديار كما بكى ابن حمام



وإذ كان من المستحيل التصديقُ بأنّ معلقة امرئ القيس هي مطلع الشعر العربيّ؛ وإذ كان، إذن، من المستحيل إنكار أنّ الشعر العربيّ مرّ بمرحلة طويلة تطوّر فيها إلى أن أصبح الشاعر يقول القصيدة على ذلك النحو البديع المكتمل الذي بلغتنا عليه القصائد الجاهليّة الناضجة الأدوات الفنيّة.... كما يلاحظ ذلك أستاذنا الدكتور البهبيتي ممّا كان قرّره أبو عثمان، إذ: "النموّ الطبيعيّ للقصيدة العربيّة، أوزانها وموضوعاتها، واللغة ونحوها وأساليبها، وإيجازها، يستدعي أن تكون مرّت، قبل زمن امرئ القيس، بأطوار كثيرة، وتعثّرت تعثّرات جمّة حتّى اكتمل لها هذا الشكل الذي نجدها عليه في شعر امرئ القيس، ومن سبقه، أو جاء بعده "56).
وبينما يذهب الجاحظ إلى أنّ عمر الشعر العربيّ كلّه لا ينبغي له أن يرجع إلى أقدم من عهد امرئ القيس الذي يعدّ، في رأيه، "أوّل من نهج سبيله، وسهّل الطريق إليه" -مع مهلهل بن ربيعة- فأنه يقرر، بجانب ذلك- وهذا رأي عامّ أجمع عليه كلّ الذين تحدّثوا عن قدماء العرب -أن العرب كانت تحتال في تخليد مآثرها "بأن، تَعُمِدَ على الشعر الموزون، والكلام المقفّى، وكان ذلك هو ديوانها"(57).
فهل تعود فترة التخليد إلى قرن ونصف فقط، قبل ظهور الإسلام؟ وهل يمكن أن تخلّد حضارة، وتكرّس تقاليد جماليّة، وتؤصّل أصول هذا الشعر في رقيّه، وجماله، وكماله، وسَعَة ما فيه من خيال، وإبداع ما فيه من فنّ القول، وزخرف الكلام؛ كلّ ذلك في مثل الفترة القصيرة؟ وما ذهب إليه عليّ البطل من أنّ عمر الشعر العربيّ قد يعود إلى ألف عام قبل الإسلام (58) ليس مبالغاً فيه.
رابعاً: هل عمر الشعر العربيّ خمسة وعشرون قرناً قبل الإسلام؟
كثيراً ما كان المؤرخون القدماء يقعون في المحظور بتقريرهم الأخبار المستحيلة، وروايتهم الأشعار المنحولة، فمن ذلك اتفاقهم على أنّ عمرو بن الحارث بن مُضاض هو الذي قال تلك القصيدة الرائيّة البديعة التي لاندري ما منع حمّاداً الراوية من تصنيفها في المعلّقات، إلاّ إذا منعه من ذلك، حجمها القصيرُ، وهي التي يقول ابن مضاض، فيما تزعم كثير من الكتب التي تناولت المجتمع المكّيّ القديم، في بعضها:

وقائلةٍ والدمع سَكْبٌ مُبادر




وقد شرقَتْ بالدمع منّا المحاجرً



كأن لم يكن بين الحَجون إلى الصَّفا




أنيسٌ، ولم يَسْمُرْ بمكّة سامِرُ



بلى نحن كُنَّا أهلَها فأبادَنا




صروفُ اللّيالي والجُدودُ العواثِرُ(59)



فإن كان صاحب هذه القصيدة التي أثبتنا منها هذه الثلاثةَ الأبيات، هو عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهميّ، حقّاً؛ وأنّ هذه القصيدة وُجِدَتْ مكتوبة، فيما يزعم بعض الرواة الذين لم يسمّوا لابن هشام مَنْ رَووا عنهم، هم، على حَجَرٍ باليمن (60): فذلك يعني أنّ عمر الشعر العربيّ، بناء على المستوى الفنيّ الذي نصادفه في هذه القصيدة العجيبة، قد يكون جاوز ثلاثين قرناً قبل الإسلام؛ وذلك لأنّ هذا الجرهميّ كان يعيش قبيل زمن إبراهيم عليه السلام بزهاء قرن على الأقلّ، ولمّا كان إبراهيم كان يعيش في القرن التاسع عشر، أو الثامن عشر، قبل الميلاد (61): فإنّ عمر الشعر العربيّ قد يبلغ خمسة وعشرين قرناً على الأقلّ قبل الإسلام. ومن العجب العجيب أنّ جميع مُؤَرخي السيرة، وكلّ قدماء المؤرخين للحياة العربيّة قبل الإسلام، كانوا يتحدثون في ثقة تشبه اليقين عما يمكن أن نطلق عليه الدولة الجرهميّة التي حكمت مكّة وضواحيها بعد ولد اسماعيل عليه السلام: طوالَ زهاءِ خمسةِ قرونٍ ونصفٍ (62). فهل يصحّ تاريخ هذه الدولة، أو الأسرة الحاكمة (جرهم) دون صحّة شعر شاعرها، وهو أحد حكّامها غير المتوّجين؟ وهل يمكن تكذيب كلّ تلك الروايات التي رواها قدماء المؤرخين، والحال أنّ ابن هشام، وهو ثقة، يتحدّث عن وجود تلك القصيدة مكتوبةً على حَجَرِ باليمن؟ وكأنّ الشيخ كان واعياً بتساؤل الذي يأتون بعده فحسم هذه المسألة بعدم نسبتها إلى مجرّد الرواية الشفويّة الطائرة، ولكن إلى كتابه مرقومة على حجر؟ وإذا ذهب ذاهب إلى أنّ هذا الكلام الذي جاء عليه كلّ المؤرخين العرب القدماء هو مجرّد رجم بالغيب، وأسطورة في الأساطير، فما القول فيما جاؤوا به من بقيّة الأخبار الأخراة؟ وهل يمكن أن يكونوا سذّجاً يروون كلّ ما كان يقع لهم من أخبار، فنسلّم برفض كلّ ما جاؤوا به ونستريح!؟ أم أنّنا نرفض الرواية فقط، ونقول لابن هشام: لا ، إنّ ما تزعمه من أنّ تلك القصيدة وجدت مكتوبةً على الحجر باليمن، ليس صحيحاً؟ وإنما هو ليس صحيحاً لأنّنا ننفيه بدون إثباتاً. وحجج لهذا النفي، وإنما ننفيه، لأننا نستقدم العهد الذي قيلت فيه هذه القصيدة، وأنّ مضاض كان يعيش حقاً في مكة، بل كان يحكمها حقاً، ونتفق على أنه عربيّ قحّ، ونتفق على أن حكم أسرته لم يدم إلاّ زهاء خمسة قرون ونصف، ثم أطيح بحكمهم، وأُجْلُوا عن مكّة: ولكننا -وعلى الرغم من تسليمنا بكلّ ذلك؛ فإننا نرفض أن يكون بن مضاض قال ذلك الشعر؛ لأنّ الشعر العربي عمره قرن ونصف، أوقرنان اثنان على الأكثر، قبل الإسلام، فيما زعم أبو عثمان الجاحظ؟ مع أنّ المقولة التي تعزى إلى عمر بن الخطاب، والتي أومأ إليها ابن سلاّم إيماءً، وجاء بها ابن جنّي كاملة، تثبت أن الشعر العربي:
1- كثير.
2- قديم.
3- ضاع.
لكن الضياع لا يعني الإطلاقيّة التي لم يبق معها شيء. ويضاف إلى ذلك أن عمر بن الخطاب يعلّل ذهاب الشعر بذهاب الرجال وفنائهم في الحروب، والحال أنّ قصيدة ابن مضاض تزعم الرواة والكتب القديمة أنها كانت مدوّنة على حجر... فلقد ذهب، إذن، عمر إلى أنّ الشعر العربيّ كان: "علم القوم. ولم يكن لهم علم أصحّ منه. فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد، وغزو فارس والروم، ولهيت عن الشعر وروايته، فلمّا كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنّت العرب في الأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يؤولوا إلى ديوان مدوّن، ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقلّ ذلك، وذهب عنهم كثيره (63).
إنّ عمر، رضي الله عنه، إنما يتحدث عن انعدام التدوين، وتعويل العرب في حفظ شعرها على الرواية الشفويّة، فما القول في الشعر الذي دوّن، إن كان قد وقع تدوينه حقاً؟.
ويدلّ على ثبوت وجود كثير من الشعر العربيّ، وقدمه قبل الإسلام قول أبي عمرو بن العلاء الشهير: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلاّ أقلّه، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم، وشعر كثير" (64).
وإنّا لنعلم أنّ أمماً عربيّة قديمة كثيرة انقرضت منها طسم وجديس وعاد وثمود، ولكنّ جرهما لم تنقرض كلّها، ولكنها عادت إلى بلاد اليمن (65) بعد أن غلبتهم على حكم مكّة قضاعة (66)، كما كانت جرهم غلبت، قبل ذلك، بني إسماعيل فانتزعت منهم السقاية وخدمة البيت...
ونعود إلى أمر هذه القصيدة المحيِّرِ، وهي القصيدة التي يزعم ابن هشام أنها وجدت مكتوبة على حجر باليمن: هل كانت مكتوبة باللغة الحِمْيَريَّة؟ إنّا لا نعتقد ذلك. لأنّ كلّ التواريخ القديمة تزعم أنّ إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، إنما تعلّم العربية من جرهم، والحال أن العربيّة الإسماعيليّة هي العربيّة العدنانية التي نزل بها القرآن، وقيلت بها المعلّقات والوجه لدينا في حلّ هذا اللغر العجيب:
1- إنّ قبيلة جرهم حين وافت البيت من اليمن تطورت لغتها من الحميريّة إلى العربية الحديثة، بفعل الاحتكاك الذي كان يقع بين الذين يقصدون البيت العتيق. ولكن قد ينشأ عن هذا المذهب أنّ جرهماً قد تكون أقامت بمكّة أكثر من خمسة قرون ونصف، وهو الذي تزعمه أخبار التاريخ، كما سلفت الإشارة إلى ذلك.
2- إنّ القصيدة الرائيّة البديعة المنسوبة إلى ابن مضاض، وهو أحد ملوك جرهم، قد يكون تدوينها على الحجر وقع بعد اضطرار جرهم إلى العودة إلى اليمن.
3- ونلاحظ أنّ ابن هشام يورد أبياتاً ثلاثة أخراة معزوة إلى الشاعر نفسه، ويزعم أنها صحّت لديه، كما يؤكّد أنها وجدت مكتوبة على حجر باليمن (57). فكأنّ الأقدمين يريدون أن يثبتوا هذه الأبيات، ويؤكّدوا صحّتها بحكم أنها وجدت مدوّنة على الحجر، فيزعمون: "أنّ هذه الأبيات أول شعر قيل في العرب" (56).
ولكن المشكلة المعرفيّة المركزيّة في هذه المسألة أن هذا الشعر قديم جداً، وإننا لا نجد شعراً آخر يُرْوى، إلاّ ماكان من عهدي مهلهل بن ربيعة وامرئ القيس.... ولكنّنا كنّا زعمنا أن القصيدة المضاضية التي ذكرت، ذُكِرَ أنها وُجِدَتْ مكتوبةً على الحجر؛ فأمْرُها إذن مختلف. لكنّ الذي يبعد ذلك، أنّ لغتها راقية جداً، وأنّ الأسلوب أنيق، وأنّ النحو مستقيم، وأن الإيقاع مستقيم، وأنّ كلّ ما فيها يوحي بخضوعها للتهذيب والتشذيب، والتغيير والتبديل، إلاّ أن يكون عمر الشعر العربيّ أكثر بكثير ممّا يتصور أي متصور، وهذا أمر مستحيل. إذ ينشأ عن تقبّل نصّ هذه القصيدة كما روتها كتب الأخبار والسيرة، أنّ الشعر العربيّ كان عظيم الأزدهار على عهد جرهم، وأنّ اسماعيل عليه السلام حين تعلّم العربيّة لم يتعلّم مجرد لغة بدائيّة قصاراها أداءُ الحاجة الدنيا مما في النفس، ولكنها كانت لغة أدب رفيع... وهذا أمر محيّر...
إنّ الذي أردتُ أن أنبّه إليه في نقاش هذه الإشكاليّة هو أنّ القصيدة الجرهميّة لم تثبت على أنها رويت أصاغر عن أكابر، (وذلك مرفوض لبعد الزمن، وكثرة الفتن، وانعدام التدوين....)، ولكنها أثبتت على أساس أنها الفيت مكتوبةً على حجر باليمن.... وببعض ذلك تضيق شقّة المشكلة بحيث تغتدي مقتصرة على: هل وجدت مكتوبة، أو لم توجد مكتوبة؟ فإن كانت الإجابة بنعم- ولا أحد يمتلك في الحقيقة الإجابة لا بنعم، ولا بلا-: فما شأنُ اللغة التي كتبت بها ؟ وما بال الأسلوب الأنيق التي نسجت به؟ وينشأ عن التصديق أنّ الشعر العربيّ أقدم ممّا يظنّ الظانّون، والأقدمون أنفسهم يعترفون بقدميّة الشعر العربي- أقصد المتشددين في الرواية، والمحترزين في إثبات الأخبار أمثال ابن سلام- وحينئذ ننتهي إلى الميل إلى تقبّل نصّ هذه القصيدة إذا كانت وجدت، حقاً، مكتوبةً، مع ميلنا إلى أنه قد يكون وقع عليها بعض التهذيب لدى إثباتها كما رواها ابن اسحاق في القرن الأوّل الهجري (58-150؟ هـ).
والحقّ أن ابن سلاّم لَمَّا رفض الشعر إذا عاد إلى أكثر من عهد عدنان، فإنما كان مبدؤه قائماً على أساس الشعر المروّى (69)، لا على أساس الشعر المدوّن على الحجر.
والذي يعنينا في كل، هذا، وهنا والآن (وعلى أننا لم نرد أن نذهب، في بحث هذه المسألة المُعْتاصَةِ، مذهباً مُسْرِفاً في استقراء الآراء التي لا تكاد تخرج عما ذكرنا، ومناقشتها باستفاضة؛ إذ لو جئنا شيئاً لاستحالت هذه المقالة إلى كتاب....) أنّ المعلّقات نشأت على عهد مقصّد القصائد وهو المهلهل بن ربيعة التغلبيّ، خال امرئ القيس، وأنّ ذلك العهد، في أقصى التقديرات، لا يرجع إلى أكثر من قرن ونصف قبل البعثة النبويّة، وأنّ الشعر العربيّ ضاع باهمال أهله إيّاه، أو اشتغالهم بالجهاد، وسقوطهم بالآلاف في المعارك في ظرف قصير من الزمان أثناء الفتوح الأولى....
ولكن يستحيل علينا أن نصدّق أنّ الشعر العربي نشأ طفرة، ونبغ صبيّاً..... فعلينا أن نكون سذجاً باديِّ السذاجة إذا ما اعتقدنا بذلك... إلا لا يمكن أن يكون ذلك المستوى الفنيّ الرفيع الذي جاءت عليه تلك المعلّقات والأشعار الأخراة التي عاصرتها إلاّ بعد أن يكون الشعر العربيّ مرّ بمراحل طويلة تطوّر خلالها إلى أن بلغ تلك الدرجة العالية من الجودة والنضج والرصانة.... يجب أن تكون المعلّقات نشأت في بيئة شعريّة راقية، وفي جوّ أدبيّ خصب بحيث كان كلّ عربيّ يستطيع أن يقول البيت والأبيات يؤدّي بها حاجته. كما كانت القبائل تحتفل بنبوغ شعرائها فكانت "القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنّأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان، لأنّه حماية لأعراضهم، وذبّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم. وكانوا لا يهنّئون إلاّ بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج"(70).
وكانت النساء يروين الشعر كما يرويه الرجال، فكان الشعر بالقياس إلى العرب هو الثقافة الأولى، والعبقريّة الأولى ، والغاية الأولى.
ومع كلّ ذلك فإننا نميل إلى أنّ الشعر العربيّ، في الحقيقة، ضاع قبل مجيء الإسلام، فإشارة امرئ القيس إلى ابن حمام، وإشارة عنترة إلى أنّ الشعراء لم يكونوا غادروا شيئاً ممّا يقال إلاّ نسجوا من حوله الشعر... من الأمور التي تجعلنا نذهب إلى أنّ لعنة الضياع لم تأت على الشعر العربيّ بسبب الحروب والفتن التي وقعت بعد ظهور الإسلام: حروب الردّة، وصفيّن، والجمل، والنهروان، والحروب الطاحنة التي استمرت بين الأموّيين والخوارج، والأموّيين وابن الزبير... كلّ أولئك فتن مُدْلَهِمَّة أتت على من كان باقياً من حفظة القرآن، وحملة الشعر، ورواة الأخبار... ولم يكن الناس، في القرن الأوّل الهجرّي يدوّنون شيئاً من مآثرهم؛ فضاع علم كثير، وأخبار ذات شأن..
وإذن فالشعر العربيّ القديم اجتاحته الجوائح قبل الإسلام بالصواعق والطوافين والأعاصير التي أذهب الله بها أمماً عربيّة قديمةً مثل طسم وجديس وعاد وثمود....، كما اجتاحته جوائح أخراة تمثّلت في الفتن التي وقعت بين العرب المسلمينأثناء القرن الأول الهجري؛ فلما جاء الناس يدوّنون بعض تلك الأخبار، انطلاقاً من القرن الثاني للهجرة، لم يجدوا منها إلاّ بقايا ضحلة، فكثر الوضع، وقلّ الخير...
خامساً: معلّقات العرب هل علّقت حقاً...؟
لقد سال كثير من الحبر حول إشكاليّة تعليق المعلّقات: أين علّقت؟ وأيّان علّقت؟ وما الكيفيّة التي علّقت بها؟ ولِمَ علّقت؟....
إنّ كثيراً من النقاد العرب القدامى، (ابن رشيق، وابن عبد ربه، وابن خلدون وغيرهم....) كانوا يذهبون إلى أنّها علّقت على أركان الكعبة... لكن هل يقتضي التعليق، حتماً، أن يكون على جدران الكعبة؟ أو لا يكون ذلك التعليق إنما كان في مكتبات قصور بعض الملوك، أمثال المناذرة؟ أم أنها لم تعلّق أصلاً، ولكن حكاية التعليق اختلقها، لبعض التعبير، بعض الرواة المحترفين، غير الموثوقين، أمثال حماد الراوية، أو بعض رواة القبائل غير المحترفين لإرضاء النزعة العصبيّة، والحميّة القبليّة، والعنجهيّة الجاهليّة: فابتدأ الأمر بمعلقة واحدة هي معلّقة امرئ القيس؛ فلمّا رأت العدنانيّة ذلك كبر عليها أن لا يكون لها بعض ذلك فوسّعت فكرة دائرة التعليق إلى طائفة من القبائل العدنانيّة الماجدة حيث توزّعت المعلّقات الأخراة على بكر وتغلب (القبيلتين المتنافستين المتعاديتين اللتين دارت بينهما حروب طاحنة) وقيس، وغطفان....
ولقد جاهد الأستاذ طلال حرب نفسه أَعْنَتَ الجهاد وأشقَّه في سبيل رفض فكرة المعلّقات من أصلها (71)، متأثّراً في ذلك بما كان ذهب إليه الأستاذ مصطفى صادق الرافعيّ الذي أنكر فكرة المعلّقات من أساسها، وعدّها مجرّد أسطورة في الأساطير (72). وقد كان سبق إلى رفض هذه الفكرة أبو جعفر النحاس (73).
والحقّ أنّ كثيراً من قدماء المؤرخين العرب اصطنعوا مصطلح "معلّقة"، ولم يشكّوا، كما لم يشكّكوا في أمر تسميتها. ولقد وقعنا، فيما أتيح لنا الاطلاع عليه من مصادر قديمة، على زهاء ثمانية مصادر ورد فيها ذكر اصطلاح المعلّقة، أو المعلّقات، إمّا مرة واحدة، وإمّا مرات متعددة -كما هو الشأن بالقياس إلى البغدادي في خزانة الأدب- صراحة، منها نصوص قديمة يعود العهد بها إلى القرن الثاني الهجريّ. والنصوص التي وردت في تلك المصادر هي لأبي زيد القرشي (74)، وأبي الفرج الأصبهاني (75)، وابن عبد ربه الأندلسيّ(76)، وابن رشيق المَسَليّ القيرواني(77)، وياقوت الحموي (78)، وابن كثير (79)، وابن خلدون (80)، والبغدادي (81)... فهل يجب أن نعدّ هؤلاء جميعاً سُذَّجاً وغَفَلَةً عن العلم ففاتهم أن يعرفوا اللُّغْزَ في هذه المسألة؟ إننا نعتقد أنه لايمكن أو يوجد دخان بلا نار، ولا نار بلا مادّة قابلة للاحتراق. وأنّ الأخبار الكبيرة، أو ما نودّ أن نطلق عليه نحن كذلك، يمكن أن يُتَزَيَّدَ فيها، ويمكن أن تُنْحَلَ مُتونَها، وتُحَرَّفُ رواياتُها؛ لكننا لا نعتقد أنّها تُختلق من عدم، وتنشأ من هباء.... ففكرة المعلّقات، في تقديرنا، غالباً ما تكون قد وقعت بالفعل على نحو ما، ولقصائد ما، نرجّح أن تكون القصائد السبع نفسها التي شرحها الزوزني، لأنها فعلاً من روائع الشعر الإنسانيّ على الإطلاق...
والذين لم يذكروا المعلّقات باسمها صراحة أمثال ابن قتيبة، وابن سلام الجحمي، والمرزيانيّ، والجاحظ -من مؤرّخي الأدب القدماء- فإنهم، في الحقيقة، ذكروها ضمناً حيث وقع اختيارهم على كثير من الأشعار المعلّقاتيّة، أساساً، كما وقع ذلك خصوصاً بالقياس إلى معلّقة امرئ القيس التي كلف بها القدماء كلفاً شديداً: فلهجوا برواية أبياتها والتعليق عليها، وإبداء الإعجاب بها طوراً، وانتقادها طوراً آخر. ولكنّ الإعجاب كان هو الأغلب الأطفح...
ثمّ إن المصطلح النقديّ العربيّ ظلّ طول الدهر، وفي كثير من أطوار حياته، يعاني الاضطراب والتساهل والتسامح في الاستعمال؛ فإذا كان طه حسين حين كان يتحدث عن إحدى روايات نجيب محفوظ الشهيرة ألفيناه يصطنع اصطلاح "قصّة" (وهو يريد مصطلح) "رواية"، وكان ذلك في الأعوام الخمسين من هذا القرن: فما القول في النقاد القدماء الذين كثيراً ما كانوا يعبّرون عن المعلّقة بالطويلة لأنها طويلة فعلاً، ومذهبة، لأنها مذهبة فعلاً، او واحدة، لأنّ بعض المعلّقاتيين لم يشتهر إلاّ بها مثل عمر بن كلثوم، والحارث بن حلّزة، وعنترة بن شداد.... وقل إن شئتَ كلّ المعلّقاتيين ما عدا امرأ القيس الذي اشتهر بمطوّلته الأخراة، العجيبة، أيضاً.
وإذن، فلقد كان في أذهان من لم يذكروا المعلّقات السبع، تحت هذا المصطلح، أنها آثر القصائد لدى العرب، وأنّ وصفها بالتعليق لم يكن إلاّ ثمرة من ثمرات تلك العناية الفائقة بها، وترويتها للناشئة، وتَسْيير الرُّكبان بها... فقد ألفيناهم يذكرونها بعدّة أسماء أمثال السمط.. وبينما يذهب ابن عبد ربه إلى أنّه كان يقال للمعلّقات أيضاً "المذهبات"، فيقال: "مذهبة امرئ القيس، ومذهبة زهير، والمذهبات سبع، وقد يقال لها المعلّقات" (83)، ويجاريه في ذلك ابن رشيق فيقرر أنه كان "يقال: مذهبة فلان، إذا كانت أجود شعره. ذكر ذلك غير واحد من العلماء" (84)؛ نلفي أبازيد القرشي يميّز بين المذهبات والمعلّقات والمجمهرات(85)، بعد أن كان أطلق على المعلّقات في بداية الأمر مصطلح "السبع الطوال" نقلاً عن المفضّل، وليس عن أبي عبيدة كما زعم كثير من الناس(86) حيث إنّ النص المروّى عن أبي عبيدة ينتهي، ثم يورد بين قوسين نصّ المفضّل. فليس الخلاف إذن في الجوهر، ولكنه في الشكل؛ إذا يلاعُ كلّ القدماء بهذه السبع، لم يك إلاّ دليلاً خِرِّيتاً على اتفاقهم على روعتها وجودتها، بغضّ الطرف عن الأشكال التي اتخذتها في أذهان الناس...
وعلى أنّ ابن رشيق كان أورد في بداية كلامه أنّ الذي يقرره إنما هو نقلاً عن أبي زيد القرشي حيث قال: "وقال محمد بن أبي الخطاب في كتابه الموسوم بجمهرة أشعار العرب: إنّ أبا عبيدة قال: أصحاب السبع التي تسمّى السمط(87)" (88).... بينما أبو عبيدة، بناء على ما بين يدينا في كتاب "جمهرة أشعار العرب"، لم يقل شيئاً من هذا؛ ولكن الذي قال هو المفضّل حيث ذكر أبو الخطاب ذلك معزوّاً إلى المفضل إذ كتب: "وقال المفضّل: هؤلاء أصحاب السبع الطوال التي تسميها العرب السموط...." (89).
ونجد أبا الخطاب القرشي، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وهو أقدم هؤلاء المؤرخين جميعاً (توفي سنة 170هـ) يطلق مصطلح "المذهبات" على غير "المعلّقات" حيث قال: "وأمّا المذهبّات فللأوس والخزرج خاصّة: وهنّ لحسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، ومالك بن العجلان، وقيس ابن الخطيم، وأحيحة بن الجلاّح، وأبي قيس بن الأسلت، وعمرو بنو امرئ القيس" (90).
فما هذا الخلط، وما هذا الغُثاء من الآراء؟
فالأولى: إنّ ابن رشيق يجعل رواية القرشي عن أبي عبيدة، بينما الرواية في النصّ المستشهد به، هي في الحقيقة، عن المفضّل.
والثانية: لعلّ المصدر الأوّل المكتوب الذي تحدّث عن المعلّقات ضمناً: تحت مصطلح "السبع الطوال" طوراً، و"السموط" طوراً آخر، وصراحة حين قال: "تمّت المعلّقات، ويليها المجمهرات" (91) إنماهي "جمهرة أشعار العرب".
والثالثة: فات الأستاذ طلال حرب أن يطّلع على أن القرشيّ هو أيضاً ذكر مصطلح المعلّقات صراحة في صلب كتابه، فأخرجه من طبقة من ذكروا المعلّقات، كما فاته الاطلاع على ما ورد من معلومات ذات شأن حول المعلّقات -بذكر هذا المصطلح صراحة- في السيرة النبويّة لابن كثير(92).
والرابعة: إنّ ما حيّر الأستاذ طلال حرب بناء، على نصّ أو رده الرافعيّ، غير موثَّقٍ، معزوّاً لابن الكلبي (93) لا يحتاج إلى كُلِّ هذا العناء ما دام الرافعي لم يكن يلتزم بالمنهج الجامعيّ الصارم في توثيق النصوص التي يستشهد بها، وهو على كلّ حال، في بعض ذلك غير مُليم، لأنه لم يضع النص الذي نقله منسوباً إلى ابن الكلبي بين علامات التنصيص، ممّا يوحي، منهجيّاً، بأنّه متصرّفٌ فيه....
والخامسة: إنّ ما حيّر طلال حرب حين لم يتمكّن من الاطلاع على المصدر الذي استقى منه الرافعي، مرفوعاً إلى ابن الكلبيّ، والذي كان الرافعيّ أو رده: فإننا نميل إلى أنّ ذلك النص، قد يكون منقولاً من ابن كثير (94). ولكن لمّا كان الرافعي لا يلتزم باصطناع علامات التنصيص الأكاديميّة فإنه كان لايتحرّج في التصرّف في الكلام، وربما سها فعزا ما كان قاله ابن قتيبة حَوالَ عمرو بن كلثوم، كما سنرى، إلى ما قاله عن الحارث بن حلّزة (95). فقد كان ابن كثير، لدى تعرّضه للمعلّقات السبع، كثيراً ما يذكر ابن الكلبي. بيد أنّ النص الذي ذكره الرافعي متصرفٌ فيه غالباً، ونفترض أنه مركب من جملة نصوص (من ابن كثير، وابن رشيق، والبغدادي...)...
والسادسة: إنّ الأستاذ الرافعيّ وقع في خلط عجيب، ولبس مشين... ولا يمكن التعويل عليه فيما أورد في كتابه "تاريخ آداب العرب" حول هذه المسألة؛ إذ لم يتّبع أصول التوثيق الأكاديميّ المعمول به بين الباحثين، لأنه، مثلاً،:
1- يقول: "وقال ابن قتيبة في ترجمة طرفة: وهو أجودهم طويلة" (96). بينما لم يقل ابن قتيبة، في الأصل، شيئاً من هذا، ولكنّ القول مرويّ أولاً عن أبي عبيدة، والمقولة في أصلها، آخراً" أجودهم واحدة" (97)؛ وليست: "أجودهم طويلة" -إلاّ أن تكون طبعة الشيخ غير طبعتنا، فمعذرة.
2- ويخلط الرافعيّ بين النص الواردعن عمرو بن كلثوم فيجعله وارداً حول الحارث بن حلّزة، وذلك حين يقول:
"قال (ابن قتيبة) في ترجمة الحارث بن حلّزة عند ذكر قصيدته، وهي من جيّد شعر العرب، وإحدى السبع المعلّقات" (98).
والحق أنّ ذلك النص كان ورد عن شأن عمرو بن كلثوم، لا عن الحارث بن حلّزة؛ إذ يقول ابن قتيبة عن معلقة ابن كلثوم: "وهي من جيّد الشعر العربيّ القديم. وإحدى السبع" (99).
وقدسها الرافعي مرتين اثنتين: حين نقل النص من ابن قتيبة، ثم حين نقله من البغداديّ الذي يقرر هو أيضاً، نقلاً عن ابن قتيبة: "قصيدة عمرو بن كلثوم من جيّد شعر العرب، وإحدى السبع" (100). فالأمر إذن ينصرف إلى عمرو بن كلثوم لا إلى ابن حلّزة...
إنه لا أحد يستطيع القطع، أمام هذه الاختلافات بين المؤرخين، بعدم تعليقيّة المعلّقات السبع، وإلا فعلينا أن نرفض تاريخ الأدب العربيّ كلّه ونستريح.
سادساً: استبعاد فكرة التعليق:
ولكن هل هذا ممكن؟ وكيف نذهب مذهبين اثنين، متناقضين، في مقام واحدٍ، وكيف يمكن الجمع بين الاستنتاجين؟ وهلا اجتزأنا بموقف واحد صريح، وحكم واحد صارم واسترحنا؟ أو لا يكون هذا ضرباً من التردد، وجنساً من الاضطراب، في الموقف؟
وإنّا لانرى شيئاً من ذلك. وإنّا لا نجد أيّ حرج في وقوف الموقفين، وقيام المقامين معاً... ذلك بأنّنا، لا نؤمن بإصدار الأحكام القطعيّة حول القضايا المشكلة... ونحن إذ نفتح الباب لاستبعاد فكرة التعليق، بعد أن كنّا ملنا إلى استبعاد فكرة عدم التعليق؛ فلأننا نؤمن بحرية الفكر؛ ولأننا نعتقد أن أتّرَاكَ باب البحث مفتوحاً هو الأسلم والأرصن..
ونحن إذ كنّا نؤمن بفكرة التعليق؛ فإنما نصرفه إلى غير التعليق على أركان الكعبة....وهذا ما نودّ بحثه في هذه الفقرة...
وإذن، فأَنْ تكونَ القصائدُ السبع الطوال، أو المعلّقات السبع، علّقت على جدران الكعبة كما زعمت بعض المصادر القديمة، وثلاثة منها مغاربيّة (ابن رشيق، وابن عبد ربه، وابن خلدون) فذاك أمر نرتاب فيه؛ و لانميل إليه. وإنما نرتاب فيه لبعض هذه الأسباب:
1- إنّ الكعبة كانت تعرضت للنهب، وللسيول الجارفة (101)، وللتهدّم والتساقط(102).
2- إنّ المؤرخين القدامى من اتّفقوا على أنّ الكعبة لم تكن مسقوفة (103). وإذا لم تكن كذلك، فكيف يمكن تعليق جلود مكتوبة عليها، بَلَهْ ورق القباطيّ الشديد الحساسية للعوامل الجويّة (وذلك مجاراة لأقوال بعض الأقدمين مثل ابن رشيق الذي قرر بأنها كانت مكتوبة على القباطيّ) والحال إنّ أيّ كتابة لايمكن أن تبقى متوهّجة مقروءة، لزمن طويل، تحت تأثير العوامل الطبيعيّة مثل الرياح، وأشعّة الشمس، ورطوبة الليل، وبلّ المطر؟
3- اتّفق المؤرخين العرب القدامى أيضاً على أنّ الكعبة لم تكن مَمْلوطَة، ولكنّ بناءها كان عبارة عن رَضْم، أي رصْفِ حجرٍ على حجر من غير مِلاَطِ(104).
4-إنّ المؤرخين القدماء أمثال ابن هشام، وابن كثير، والمسعودي، وياقوت الحموي اتفقوا على أنّ الكعبة لم تسقف إلاّ حين جدّدت قريش بناءها الذي كان قبل البعثة بزهاء خمس سنوات فحسب. والذين يذهبون إلى تعليق تلك القصائد على أستار الكعبة إنما يذهبون، ضمناً، إلى أنّ ذلك كان على عهد الجاهليّة.
5- إنّ موادّ الكتابة، على تلك العهود، كانت من البدائيّة والبساطة بحيث لم يكن ممكناً، عقلاً، أن يكتب كاتب نصّاً طويلاً يقترب من ثمانين بيتاً، تزيد قليلاً، أو تنقص قليلاً، على جلد غزال، أو على قباطيّ.
6- إنّ هذه النصوص الشعريّة السبعة لطولها، لو جئنا نكتبها اليوم على جدران الكعبة، أو على جدران أيّ بناء آخر في حجم بنائها، على مواصفات العهود الأولى- وعلى ما نمتلك اليوم من وسائل متطورة للكتابة- للاقينا العناء والعنت في كتابتها كلها على تلك الجدران.
وعلى أننا كنا أثبتنا في الحيثيّة الثالثة، من هذا التحليل، أنّ جدران الكعبة لم تكن مملوطة بالملاط، ولكنّ حَجَرها كان عارياً، ويبدو أنّه كان مبنياً على الطريقة اليمنيّة التي تقوم على البناء بالحجر بدون ملاطٍ للربط بين الحجر والآخر. ولعلّ جدران الكعبة لم تملط إلا حين أعاد بناءها عبد الله بن الزبير، بعد أن تعرضت لقذفات المنجنيق التي قذفها بها الحجاج من أبي قبيس، وذلك حين احتمى بها ابن الزبير الذي كان أعاد بناءها بعد أن سمع من خالته عائشة رضي الله عنها حديثاً يرغّب في تجديد بنائها، وتغيير هندسة هيكلها (105).
7- كان في أهل الجاهليّة حنيفيّون، ولم يكن ممكناً أن يرضوا بأن تعلّق على جدران أقدس بيت وضع للناس أشعار تتحدث عن المضاجعة والمباضعة، وسيقان النساء وأثدائهن، وشعورهن وثغورهن...
فعلّ هذه العوامل، مجتمعةً، أن تَحْمِلنا على الذهاب إلى استبعاد فكرة تعليق تلك القصائد على جدران الكعبة، في أي عهد من العهود؛ وذلك على الرغم مما يروى عن معاوية بن أبي سفيان أنّه قال: "قصيدة عمرو بن كلثوم، وقصيدة الحارث بن حلزة من مفاخر العرب، كانتا معلّقتين بالكعبة" (106).
وهذه رواية غريبة، ولا ندري من أين استقاها البغدادي. وهي على كلّ حال تدلّ على أنّ فكرة التعليق كانت، فعلاً، واردة لدى الناس. وأنّ هناك إلحاحاً على التعليق الذي نصرفه نحن، بناء على هذه المقولة وغيرها، إلى أنّ العرب ربما كانت تعلّق هذه القصائد على الكعبة أثناء موسم الحج فقط، وذلك بعد أن تكون قد أُنْشِدَتْ في سوق عكاظ.. وأعتقد أن هذا المذهب قد يحل المشكلة من أساسها فيثبت التعليق فعلاً، ولكن يحدد من زمنه بحيث لايجاوز موسم حجّ واحد.. ومن الآيات على ذلك أن معاوية هنا، إن ثبتت رواية مقولته، يقرن بين قصيدتين متكاملتين على تناقضهما وهما القصيدتان اللتان تتحدثان عن العداوة التي كانت بين بكر وتغلب. فكأن تينك القصيدتين علّقتا على الكعبة معاً في موسم واحد. ونحن لم نهتد إلى هذا الرأي إلا من خلال مقولة معاوية الذي لا يتحدث عن معلقات، ولكنه يتحدث عن معلقتين اثنتين، كما رأينا.
فذلك،إذن، ذلك.
وأما فكرة القبول بالتعليق فيمكن أن تؤوّل على أساس أنها لم تكن على جدران الكعبة، إذ لا يمكن، من الوجهة المادية، ومن الوجهة التقنية أيضاً، تعليق كلّ هذه النصوص على جدران البيت، ولكنها عُلِّقَتْ في مكتبات ما. ويؤيد ذلك ما يعزى إلى بعض الملوك حيث "كان الملك إذا استجيدت قصيدة يقول: علقوا لنا هذه، لتكون في خزانته" (107).
وربما أتت فكرة التعليق أيضاً مما يُعْزَى إلى عبد الملك بن مروان من أنه طرح شعر أربعة معلقاتيين، وأثبت مكانهم أربعة (108) آخرين.
بل ربما أتت من "أنّ بعض أمراء بني أمية أمر من اختار له سبعة أشعارٍ فسماها المعلقات" (109). لكنّ البغدادي الذي يبدو أنه تفرّد بهذه الإشارة، على الأقلّ فيما اطلعنا عليه نحن من مصادر، لم يذكر المصدر الذي استقى منه هذه المعلومة، ولا كيف سمّاها المعلقات، وهي لم تعلق (وذلك ما يفهم من قول البغدادي)؟
إننا نعتقد أن ذكر أربع ملابسات تاريخية، وهي:
1- ورود ذكر اسم عبد الملك بن مروان، وأنه قرر طرح أربعة أسماء، وإثبات أربعة آخرين، من المعلقاتيين، ولم يكن ذلك ليحدث إلا بعد الاستئناس برأي نقّاد الشعر على عهده؛
2- ورود ذكر "بعض أمراء بني أمية"؛
3- ورود ذكر حماد الراوية المتوفّى سنة خمس وخمسين ومائة من الهجرة، وقد سلخ معظم عمره في عهد دولة بني أمية؛ وأنّه هو الذي جمع المعلقات فيما يزعم أبو جعفر النحاس (110)، وهو ذاك؛ فإنّ ابن سلام الجمحيّ كان أومأ إلى هذا حين ذكر "أنّ أوّل من جمع أشعار العرب، وساق أحاديثها، حمّاد الراوية. وكان غير موثوق به. وكان ينحل شعر الرجل غيره، وينحله غير شعره، ويزيد في الأشعار" (111).
(وإنما جئنا بما هو ذو صلة بعدم ثقة حمّاد الراوية لكي نربط بينه وبين ما سيقوله أبو جعفر النحاس الذي قرر أنّه لمّا رأى حماد الراوية "زهد الناس في حفظ الشعر، جمع هذه السبع وحضّهم عليها، وقال لهم: هذه المشهورات"(112).
4- كان سبق لنا، منذ قليل أن أوردنا قولاً لمعاوية يقرر فيه أنّ قصيدتي عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلزة من مفاخر العرب، وأنهما "كانتا معلقتين بالكعبة دهراً" (113). ومعاوية هو مؤسس الدولة الأموية...
ولقد ينشأ عن هذه الملابسات التاريخية الأربع:
1- إنّ فكرة التعليق، وحدوثها الاحتماليّ، لم تظهر إلاّ في العهد الأمويّ، لارتباطها بذكر أربع سِمَاتٍ تاريخيةً أمويّة: لا جاهليّة، ولا إسلامية، ولا عباسية.
2- إنّ إشارة أبي جعفر النحاس إلى زهد الناس في الشعر هو الذي حمل حماد الراوية، ليس على جمع القصائد السبع الطوال فحسب، ولكن على التهويل من شأنها، وربطها بمقدسات وطقوس دينيّة تتمثل في أركان الكعبة حتى يقبل الناس على حفظها، وروايتها، وتَرْويَتها، وترويجها، في الآفاق، وقد أفلح حماد، حقاً، فيما أراد إليه. ونحن ندين بالفضل في حفظنا المعلقات، وعنايتنا الشديدة بها إلى هذا العهد، من حيث هي أجود، أو من أجود الشعر العربي القديم على الإطلاق، وذلك على الرغم من احتمال زيادة حماد في نصوص هذه المعلقات ما لم يكن فيها.
3- إننا نميل إلى أنّ فكرة المعلقات ليست مجرد أسطورة في الأساطير، ولكن قد يكون لها أساس من التاريخ والواقع، بشرط ربطها بأمرين اثنين:
1- إنّ التعليق هو التعليق في خزانة بعض أمراء بني أمية أو ملوكها.
2- إنّ التعليق إذا انصرف إلى الكعبة إمّا أن يكون شكل الخطّ، حينئذ، على غير القباطيّ، ولا هو من مادة الذهب، ولا من شيء مما يزعم ابن رشيق، وابن عبد ربه. ولكنّ الكتابة ربما كانت بمداد الوَذْح المحرق، وعلى لوح من الألواح التي كانوا يكتبون عليها أشعارهم أول ما تُمْلَى.
وكانت تلك السيرة قائمةً إلى عهد جرير (114). وقد ظلّت في الحقيقة قائمة في كتاتيب القرآن ببلاد المغرب إلى يومنا هذا... وإمّا أنّ التعليق لم يكن يستمرّ لأكثر من أيام موسم الحج، أو لفترة معينّة، كأنها تشبه شكل المعارض على عهدنا هذا.. وقد يدل على ذلك قول معاوية:
"كانتا (يريد إلى معلقتي عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة) معلقتين بالكعبة دهراً" (115). فكأنّ معنى الدهر في كلام معاوية ينصرف إلى فترة محدّدة، ثم ينقطع. وهو أمر واضح.
4- إننا نستبعد أن تكون القصائد السبع الطوال كلها علقت على أركان الكعبة مجتمعة، وظلّ التعليق متتالياً فيها، وذلك للأسباب السبعة التي جئنا عليها ذكراً، في بعض هذا التحليل.
وإذن؟
وإذن، فنحن نميل إلى قبول فكرة التعليق بشرط ربطها بما قدمنا منذ حين من احترازات. على حين أنّ فكرة رفض التعليق يمكن الذهاب إليها إذا أصرّ المصرون على أنّ المعلقات علقت على أركان الكعبة، في وقت واحدً، وظلّت معلقة هناك، وأنها كتبت في القباطيّ، وأنّ حبرها كان ذهباً.
ولعلنا ببعض ذلك تعمدنا أن نذر الباب مفتوحاً للنقاش والجدال من حول هذه المسألة اللطيفة التي يلذّ حولها البحث، ويحلو عنها الحديث.... فليظل باب البحث مفتوحاً للمجتهدين..

**د لا ل**
2012-02-11, 17:05
جماليّة الحيز في المعلّقات
لقد خالفنا جماعة النقاد العرب المعاصرين في أنهم يصطنعون "الفضاء"، وفي أننا نصطنع "الحيز".
فلماذا إذاً الحيز، وليس الفضاء؟
إننا نعتقد أنّ الفضاء أوسع من أن يشمل الحيز شمولاً تفصيلياً، وأشسع دلالة من أن يحتوي هذه المساحة الضيقة، أو المحدودة الأطراف، التي نودّ إطلاقها على مكان جغرافيّ ما، أو على ما له صلة بالمكان الجغرافيّ، على نحو أو على آخر. فالفضاء كلُّ هذا الفراغ الشاسع الذي يحيط بنا من الكون الخارجيّ. وهو أيضاً كلّ هذا الفراغ الهائل الذي يمتدّ من حولنا مع امتداد مدى أبصارنا. أمّا أن نطلق الفضاء على مكان محدود بالمساحة والمسافة تركض فيه أحداث رواية، أو تضطرب حَوالَه حركةٌ حيزيّة حيّة في قصيدة شعرية؛ فإننا لا نرى إتيان ذلك إلاّ من الحرمان، وقصور الذوق اللغويّ.
إن الفضاء، في تصوّرنا، نحن على الأقلّ لمدلول هذا اللفظ، أوسع من مدلول لفظ الحيز الذي نتصرف فيه، نحن، تبعاً لورود أطواره، وتعرض أحواله في النصّ الأدبيّ شعراً كان أم سرداً. ذلك بأننا نعدُّ كلّ جسم ناتئٍ، كأن يكون شجرة، أو نبتة، أو كرسياً، أو سيارة، أو حيواناً متحركاً، أو إنساناً ماشياً، أو هيئة للحركة في أيّ من مظاهرها، أو نهراً جارياً، أو وادياً متخدّداً، أو ربوة عالية، أو كثيباً بادياً، أو نخلة باسقة، أو خيوط مطرٍ هاتنة، أو حبّات ثلجٍ هاطلة، أو طريقاً مستقيماً أو ملتوياً: حيزاً.
ثم لا نزال نتصرف في ذلك ونتوسع حتى نُنْشِئَ من النخلة العَيْدَانَةِ المَتَرَهْيئَةِ حيزاً، ومن امتداد القامة واهتزاز هيئتها حيزاً، ومن الفَيْءِ الذي تحدثه الشجرة الوارفة الظّلال، تحت أشعة الشمس المتوهجة، حيزاً، ومن تلاطم أمواج البحر وتصاخبها حيزاً، ومن كلّ شيء يمكن أن يتحرك، فيُمَسَّ، أو يُلْمَسَ، حيزاً.
وإننا، وانطلاقاً من هذا التصور، نَمِيزُ المكان من الفضاء، كما نَمِيزُ الفضاء من الحيز، كما نميز الحيز من المجال، كما نميز المجال من المحلّ، وهلّم جرا.... فنطلق، في العادة، المكانَ على كلّ حيز جغرافي معروف (ولعلّ التعريفات الفلسفية تجنح لهذا أيضاً، ولكن في سياق آخر) على حين أننا نطلق الحيز على الأحياز الخيالية والخرافية والأسطورية، وما لا يمكن أن يقع تحت حكم الاحتواء الجغرافيّ بشكل واضح دقيق.....
ولقد كان لنا في ذلك تطبيقاتٌ كثيرة على النصوص الأدبيّة التي حلّلناها في كتاباتنا الأخيرة (1).
وللمكان، وللحيز بعامة، على الإنسان فضل الاحتواء، وشرف الاشتمال، فالحيز شامل والإنسان مشمول. وقل إن شئت، كما ورد في بعض التعريفات الإسلامية القديمة، فالحيز شاغل والإنسان به مشغول. فلا يمكن لأيّ كائنٍ حيّ، كما لايمكن لأيّ آلة أيضاً، أن تكون، أو تتحرك، إلاّ في إطار الحيز الذي استهوى تفكير الفلاسفة منذ القديم فحاولوا فلسفته، وتحديده، ومفْهَمته(2).
وإذا كان المكان بالمفهوم الماديّ المحسوس لا يكاد يعنى به إلاّ الجغرافيّون؛ وإذا كان المكان بالمفهوم العامّ المجرد لا يعنى به إلاّ الفلاسفة؛ فإن الحيز، كما نتصوّره نحن، عالم شديد التعقيد، متناهي التركيب، يتشكّل بلا حدود، ويتنوع في أفق مفتوح.... ومن العسير الانتهاءُ فيه، نتيجةً لذلك، إلى تعريف صارم، وحكم قائم. ولعلّ سعة مفهوم الحيز وامتداد أبعاد مدلولاته هما اللذان جعلانا نُعْنَى به من الوجهة الأدبية الخالصة فنجتهد في بلورة مفهومه ضمن إطار الأدب البحث، لا ضمن إطار الفلسفة المجرد؛ وضمن إطار الخيال المجنّح، لا ضمن إطار الواقع المحدَّد.
ولقد كان للحيز شأنٌ شريف في أخيلة قدماء الشعراء العرب حيث استرعى أخيلة شعراء أهل الجاهلية فكان له لديهم أهمَّيةٌ فبكَوْهُ من خلال بكاء آهِلِه، وأحبّوه ضمن حُبِّ قاطنه، وحزِنوا عليه عبر الحزن على مُزايله؛ فإذا الشعر الجاهليّ بعامة، والمعلّقات بخاصة؛ تعجّ بذكر الأحياز عجيجاً، وتلهج بسردها ومَوْقَعَتِها لهجاً. ولعلّ أشهر بيت في الأدب العربي على وجه الإطلاق وهو:
قفا نبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزِلِ

بِسقْطِ اللِّوى بين الدّخول فَحَومَلِ


قائمٌ نسْجُه على ذكر الأمكنة، والحنين إليها، والازدلاف منها، والبكاء عليها، وبالتلذّذ بتردادها: فقرِنَتْ الحبيبة الذاهبة بالحيز الباقي، وبُكِيَتْ الراحلة بالمكان الدارس، والرسم البالي. ففي هذا البيت الذي يكمّله صِنْوُهُ الذي يليه، تصادفنا سلسلة من الأحياز الشعرية كأنّ النّاصّ كان يحرص أشدّ الحرص على أن يحدّد لنا من خلالها دار حبيبته، وموطن حبه، ومَسْقَطَ ذكرياته -أو لم نجده يُمَوقِعُ دار هذه الحبيبة بهذا المكان الذي لاتعرف الجغرافيا عنه شيئاً يذكر- وهو سِقْط اللِّوى- وإن كان الشعر قد يعرف عنه شيئاً يذكر...؟ ثم ألم تَمَوْقَعْ هذه الدار بين أربعة أمكنةٍ أخراةٍ كيما تكون هي واسطة عِقْدِها، ومركَزَ مَواقِعِها...؟
إنّ الشاعر العربيّ القديم لم يكن قادراً على قيل الشعر خارج المكان الذي كان يملأ عليه نفسه وروحه، ولا بالتخيّل خارج حبل الحنين العارم الذي كان يشدّه إلى هذا المكان شدّاً؛ فكان المكان، بالقياس إليه، بمثابة المادّة الكريمة التي يستمدّ منها إلهامه؛ بينما كانت الحبيبة، التي تقطنه، ثم تحمّلت عنه وزايلته إلى غير إياب، هي ينبوع الإلهام الثّرّ الذي كان يستلهمه: فيجهش بالبكاء، وتتبجّس نفسه بالحنين، ويطلق لسانه في الوصف، ويرسل ذاكرته مع الزمن الذاهب، والعهد الغابر، ثم لا يزال ينسج على الذكرى، والبكى، والحنين، نسوجاً متفرّعة عنها تقوم في وصف الناقة التي بفضلها استطاع أن يَعُوجَ على حيز الذكرى، ويَمرَّ دار الحبيبة المتحمّلة. كما تقوم في وصف البقرة الوحشية التي كانت تذكّره عيناها بعينيها؛ وفي وصف الرئم الذي كان يذكّره بياضه ببياضها، وجيدُه بجيدها، ورشاقته برشاقتها.... فحتى ما قد يَبدو، لأول وهلة، منفصلاً عن ملحمة المكان، بعيداً عن مناسبته، هو في حقيقته مُنْطَلقٌ منه، صابٌّ فيه، مُفْضٍ إليه. فلولا الناقةُ لما استطاع الشاعر الجاهليّ أن يعوج على طلل الديار المُقْفِرَةِ. ولكن ما كان ليكون لهذه الناقة شأنٌ لو ضربت به في أقاصي الأرض الشاسعة دون المَعاجِ على ذلك المكان الذي لم يكن يتجانَفُ عنه؛ وإنه كان، فيما يبدو، يتعّمد الجنوح له، والمَيْل عليه.
ذلك، وقد ذهب جميل صليبا إلى أنه لا تمييز في المعنى بين المكان والحيز(3). والأسوأ من ذلك أنه ذكر لفظ (espace) مرادفاً للمكان في عنوان مقالته، ثم لم يلبث، من بعد ذلك، أن أطْلَقَ عليه "المحل" أيضاً، وكتب مُقابِلَه الفرنسيّ بين قوسين وهو (lieu): ليتضح المعنى في الذهن، وليتبدّد الغموض من العقل. ونحن لا نوافقه على ذلك:
1- لأننا نرى أن المكان لا ينبغي أن يكون مرادفاً للفظ الفرنسي (espace) والانجليزيّ (space) والإيطاليّ (spazio)؛ إذ لا أحد من عقلاء الأمم الغريبة يطلق (le lieu) على (L’espace) ولا ( L’espace) على المكان إن ( Lelieu ) ليس المحلّ بالمفهوم الضيق، وإنما هو المكان.
وقد ألفينا الشيخ يعقد مادة أخراة في معجمه، تماشياً مع معجمات الفلسفة العالمية، تحت عنوان: "الأين" ويترجمها أيضاً بـ (lieu)(4). بيد أنه يلْبِسُه، تارة أخراة، بالحيز. ولم نجده خصّ هذا المصطلح بمادة على حدةٍ، كما كنا رأينا، حيث تناوله تحت مصطلح "المكان" الذي يبدو أنّ مفهومه ظلّ يلتبس، في المقررات الفلسفية العربية، بالمحلّ والحيز التباساً شديداً على الرغم من وجود بعض الإشارات التي توحي، في مقررات الفلاسفة المسلمين، بجزئيّة الأين، وكلية المكان.
وكنّا نودّ لو أنّ مصطلح (espace) ترجم تحت مصطلح الحيز الذي نتعصب له وننضح عنه، ومصطلح (lieu) تحت مصطلح المكان. وكنّا نودّ لو أنهم دقّقوا في شأنه تدقيقاً صارماً في ضوء المفاهيم الفلسفية المعاصرة التي بلورت إلى حدّ بعيد. وبدون ذلك، وفي انتظار ذلك أيضاً، سيظلّ الالتباس شأننا، والخلط سيرتنا، في اصطناع هذه المفاهيم التي هي موجودة، أصلاً، في التراث الفكري العربي الإسلاميّ؛ وإنما الذي ينقصها هو التطوير والتدقيق، والتوسعة والبلورة.
وإذن، فإننا نعتقد بسوء الترجمة التي اجتهد فيها جميل صليبا فاتخذها مقابلاً للمصطلح الغربي (Espase).وقد نشأ عن هذا المنطلق الذي نعتقد أنه خاطئ، تصوّر خاطئ، والشيخ يعرف هذا حقّ المعرفة.
وفي هذه الحال، قد يكون مصطلح "الفضاء" حين يتخذه النقاد العرب المعاصرون مرادفاً لـ (l’espace): أهون شرّاً، وأخفّ ضرّاً، وإنما تردّدنا، نحن، في متابعة أولاء النقاد في اصطناع هذا المصطلح لما أحسسناه، من الوجهة الدلالية، من سعة معناه؛ فهو عامّ جداً. وإذا كان النقاد الغربيون يصطنعون مصطلح (l’espasce)، فلأنهم لا يريدون به حتماً إلى المكان، ولا إلى الفضاء بمعناه الشامل أيضاً؛ حيث كيّفوه فصرفوه في مصارف ضيقة فأفادوا من هذا الصرف. من أجل كلّ ذلك ترجمناه نحن بـ "الحيز" (5) لاعتقادنا بأنه بمقدار ما هو ضيّق الدلالة أو دقيقها حين ينصرف الشأن إلى معنى المكان؛ بمقدار ما هو أشدّ تسلطاً، وأقدر قدرة على التنّوع الدلاليّ الذي وضع له بحيث لا يمتنع في الغرب، كما لا يمتنع في دلالة الحيز، بالمعنى الذي نريده له، أن يتمطّط ويتمدّد، ويتشعّب ويتبدّد، ويتحرك نحو الوراء كما يمكنه أن يتحرك نحو الأمام، ويَصَّاعَدَ إزاء الأعلى كما يهوي إزاء الأدنى: ينكمش كما ينطلق، ويتقلّص كما يتطالل.
وقد تعامل الفلاسفة المسلمون، ولكن بشيء من الغموض الذي لايُنْكَر؛ فهو لدى ابن سينا مثلاً: "السطح الباطن من الجرْم الحاوي المماسّ للسطح الظاهر للجسم المَحّوِيّ" (6). فالمكان لدى ابن سينا إذاً: سطح يتفرع عن السطح الأصليّ (الظاهر) الذي يَظْرِفُ الجسم (ولعل الجسم هنا بالمفهوم الفيزيائي، لا بالمفهوم المعجميّ البسيط). فكأنّ المكان لديه جزء مِمَّنْ، أو ممّا، يتجزّأ في المكان. أو قل: هو بعضٌ أدنى، لكلّ أعلى؛ أو جزء باطن، لكلّ ظاهر. فالحيز لديه (وذلك إذا حقّ أن نمرق به عن المتصوّر في ذهن ابن سينا أصلاً) كأنه مجرد هيئة محدودة في المكان؛ فالمكان أعمّ منها وأشمل؛ فما قولك في الفضاء الذي زعمنا أنه أوسع سعةً في الدلالة من المكان. ولو ذهبنانتلطّف في قراءة تعريف ابن سينا للمكان لألفيناه يدنو به إلى أدنى مستواه الدلاليّ. وكأنه كان يريد به، في منظورنا، إلى الحيز فطفر في تعبيره المكان.
وأيّاً كان الشأن، فإنّ المكان لدى جميل صليبا هو الحيز نفسه بصريح عبارته (7). لا فرق بينهما و لاتمييز. ولا اختلاف في معناها ولا ابتعاد. هذا ذلك، وذلك هذا. فأيّما مفكّرٍ اصطنع الحيز فهو إنما يريد، أو يجب أن يريد، إلى معنى المكان. وأيّما ناقد استعمل المكان في كتابته، أو تفكيره، فهو إنما يريد غالباً إلى الحيز. وهذا أمر لانتفق معه عليه.
وإذا كان علماء الكلام كانوا يرون أنّ الحيز، أو المكان (ما دام الفلاسفة العرب المسلمون، فيما يبدو، لم يميزوا المكان من الحيز، ولا الحيز من المكان بدقّة معرفية صارمة) هو "الفراغ" المتوهّم الذي يشغله الجسم، وينفذ فيه أبعاده"(8)؛ فإننا نلاحظ على هذا التعريف:
1-أنهم يصطنعون "الفراغ المتوهم"، وكأنهم كانوا يؤمنون ببعض ذلك إلى أنّ الحيز لا يَرِدُ على الحقيقة؛ وإنما يَرِدُ على التخيّل والتوهُّم. وكأنه ينشأ عن هذا أنّ هذا التعريف أليق بالحيز كما نتمثله نحن في الأدب، منه بالفلسفة التي تنشد الدقة والإحاطة والصرامة والشمول الذي لا يغادر شيئاً ولا يتّركه إلاّ قرّره وناقشه.
2-إنّ هذا "الفراغ المتوهّم" يجب أن يضادّه "الفراغ المدرَك". فكان الأولى، في تصورنا، اصطناع هذا المصطلح الموصوف؛ إذ كان لفظ التوهّم، في اللغة العربية، منصرفاً لمعاني الغلط، وسوء الإدراك، والإغراق في السهو، والوقوع في التخيّل الشاحب أكثر مما هو منصرف إلى الدلالة والإدراك الدقيق (9).ولعلّ الآية على ذلك قول زهير:
فلأياً عرفْتُ الدارَ بعد تَوَهُّمِ*


حيث إن المعرفة والإدراك جاءا بعد معاناة التوهّم، ومكابدة التخيّل. وإذاً، فإنّا لا ندري كيف يَلْبِسُ هؤلاء المتكلمون التوهّم بالتحقّق، ومجرّد التخيّل بالإدراك الصارم؟
3-أنهم يربطون هيئة هذا الفراغ، وهو غير الحيز لدينا (إذ ما أكثر من يكون الحيز في تمثّلنا عامراً لا خاوياً، وممتلئاً لا فارغاً) بوجود جسم ما يشغله ويملؤه. فكأنّ المكان لديهم كلّ حيز مشغول بجسم متشِكّل فيه، ماثلٍ فوق سطحه.
على حين أنّ المكان لدى الحكماء الإشراقيين يتمثلونه "بعداً منقسماً في جميع الجهات، مساوياً للبعد الذي في الجسم، بحيث ينطبق أحدهما على الآخر، سارياً فيه بكلّيّته"(10).
ولا نحسب أنّ هذا التعريف يبتعد كثيراً في إجماله عن تعريف المتكلّمين؛ وإنما يختلف عن تعريفهم في تفصيله؛ إذ تصوّر الإشراقيين للمكان أنه يتساوى، ضرورة، بَعْدُهُ بالبُعْد الذي في الجسم. فكأنّ المكان لا تتجسّد كينونته إلاّ بالكائن فيه؛ فتساوي بُعْد المكان بالبعد الكائن فيه لا يعني إلاّ بعض ذلك.
والحق أَنّ هَذا التعريف لا يكاد يختلف عن التعريف الشائع في الفلسفة العامة (11)؛ وإنما المزعج في تمثّل الفلاسفة المسلمين هو عدم مَيْزِهِمُ المكان (lieu) من الحيز (espace) والحيز من المكان؛ مع أنهما مفهومان مختلفان في مقررات الفلسفة العامة؛ إذ كلّ منهما يذكر في بابه، لا في باب الآخر (12).
من أجل ذلك لا نحسبنا مغالطين حين كنا زعمنا أنّ المفكرين العرب بعامة، والمحدثين منهم بخاصة، لا يكادون يَميزون المكان من الحيز، ولا الحيز من المكان، ولا المكان من المحل، الذي قرر فيه جميل صليبا ما قرر حين كتب: "المكان الموضع، وجمعه أمكنة، وهو المحل (lieu) المحدد الذي يشغله الجسم" (13). بينما نلفيه يطلق لفظ "lieu" الفرنسي، في موطن آخر، على الأين، في معجمه (14): فبأيّ القولين أو الأقوال نعمل؟ وما هذا الخلط المبين؟
إنّ الحيز، لدينا، لا يرتبط وجوده ولا مثوله، ضرورة، بالجسم الذي يشغله؛ لأننا نعدّ هذا الجسم الذي يشغله في حد ذاته حيزاً قائماً بنفسه فيه؛ فالشجرة لدينا من حيث هي هيئة نباتيّة تتكوّن من جذع وأغصان وفروع وأوراق: حيز يشغل مكاناً (وهذا المكان يشغل فضاء، وهذا الفضاء يشغل كوناً) إلاّ أنّ المكان لايكون إلاّ بهذا الحيز. فالحيز متفرّع، في تصوّرنا، عن المكان. فالمكان أصل ثابت، قائمٌ، باقٍ، لأنه مستقرّ الكينونة ذاتها، ولأنه موئل للكائنات من حيث هي لا تستطيع أن تُفْلِتَ من قبضته: صغيرة أو كبيرة، عاقلة أو غير عاقلة. فكما أن المَقام (بفتح الميم) مستقرّ للقيام من حيث هو هيئة حيزية، فإنّ المكان مستقرّ للكيان من حيث هو؛ فلا كينونة إلا بمكان. ولا مكان إلاّ بكينونة. فهما متلازمان لا يفترقان. بينما الحيز مجرد هيئة تعرض عبر المكان ذاته. من أجل ذلك ألفينا أرسطوطاليس يقرر، منذ القدم، أنّ المكان لا يتحرك، وأنه محيط بالشيء الذي فيه، وأنه ليس بجزء مما يحتويه (15). وإذا كان المكان ثابتاً باقياً، فإنّ الحيز عارض ناشئ طارئٌ فانٍ؛ وهو قابل للتغير والتبدل، والتمظهر والتشكّل.
خذ لذلك مثلاً آخر الشخصية الروائية حين تتنقّل في حيزها من نقطة (1)، ثم تتوقف إما للاضطرار، وإما على سبيل الاختيار في نقطة (ب)، لتنتهي إلى نقطة (ج) حيث تقضي حاجتها، ثم تعود إلى نقطة (ا)، ولكن عن طريق نقطة(د)، لا عن طريق نقطة (ب): فإننا نعدّ حركتها هذه حيزاً متحركاً عبر المكان.
فنحن إذاً، وبنعمة الله، نختلف مع الفلاسفة المسلمين الذين يربطون وجود المكان بالجسم الذي يشغله، فالمكان لديهم غائب ومنعدم خارج شغل الجسم إياه. ذلك ما فهمناه من مضمون تعريفهم ومنطوقه أيضاً. كما نختلف مع النقاد العرب المعاصرين الذي لا نراهم يتعاملون، في الغالب، إلاّ مع المكان الجغرافيّ (في التحليلات المُنْجَزَةِ حول السرديات مثلاً). أما حين يَمْرُقون به عن هذا الإطار، ويتناولون به الشعر تحت مصطلح "الفضاء"، فإننا لم نُلْفِهِمِ، وذلك في حدود إلمامنا بكتاباتهم التي يكتبون، تناولوا مفهوم الفضاء، من حيث هو مصطلح كما أرادوه أن يكون، فعرّفوه، وبلوروا دلالته انطلاقاً من الدلالة المعجمية إلى الدلالة المُصْطلحاتيّة.
إن الحيز، كما نتصوره نحن، هو هيئة تتخذ لها أشكالاً مختلفة لا نهاية لتمثّلها: فتعرض لنا ناتئة ومقَعَّرةً، ومسطّحة، ومستقيمة، ومعوّجة، وعريضة، وطويلة؛ كما تمْثُلُ لنا في صورة خطوط، وأبعاد، وأحجام، وأوزان، دون أن ترتبط، بالضرورة، بما، أو بِمَنْ، فيها.
ذلك، وأنّ في البادية العربيّة، أو في الحيز العاري، أو في الحيز المفترض كذلك: قد نلفي كلّ شجرة ذات دلالة، وكلّ نبتة ذا معنى، وكلّ صخرة ذات شأن، وكلّ منعطف طريق ذا مغزى، وكلّ عين ماء ذات خبر، وكلّ كثيب رمل ذا خطر.... حيث الحيز، ضمن ذلك الفضاء المنساح، هناك، أساس العلاقات بين الناس، وأساس التفكير في معنى الوجود، بل أساس العبادات والازدلاف إلى الله...
ذلك بأنّ العرب كانوا يثوون بأرض براح، فلم يكن يحول بينهم وبين تلك الأحياز العارية في كثير منها، حائل، ولم يكن يحجز بينهم وبين تلك الأمكنة المتنوعة المناظر حاجز: فكانت ألصق بقلوبهم وأعلق بنفوسهم، وأمثل في أبصارهم وبصائرهم فلا تكاد تمحّي منها أو تزول. ذلك إلى ما كانوا يحيونه فيها، أو في بعضها على الأقلّ، من جميل الذكريات، وما كانوا يقضّونه فيها من معسول اللحظات...
وللأحياز في هذه المعلّقات السبع حقّ علينا أن نصنّفها، انطلاقاً من قراءتها، لنرى ما كان يربطها، وما كان يناسب بينها: إذ هناك أحياز دالّة على المياه، وأخراة دالّة على الطرقات والمسالك، كما نلفي أحيازاً دالّة على الروابي والجبال، وأخراة دالّة على التلدات وكثبان الرمال....
وليس غريباً أن يكون للحيز شأن أهمّ في حياة أولئك الأعراب البادين من الحيز لدينا نحن اليوم الذي أصبحوا يتنقّلون في المدن الكبرى بباطن الأرض، ويسافرون بين القارات، وربما بين المدن المتقاربة أو المتباعدة، في الجوّ..... فلم يعد للحيز، كما نرى، في حياتنا الروحية والعاطفية والاجتماعية ما كان له في أخيلة أولئك الشعراء وعواطفهم الجياشة، ومشاعرهم الفياضة.
وعلى الرغم من أنّ شعراء المعلّقات كثيراً ماكانوا يذكرون أماكن جغرافيّة لا تبرح معروفة إلى يومنا هذا مثل الحجاز، والعراق، ودمشق وقاصرين، واليمامة، وبعلبكّ، ونجد.....، وأماكن مقدّسة في الجاهليّة والإسلام مثل البيت الحرام، وأماكن مقدّسة في الجاهلية فقط إذ ترتبط بالطقوس الوثنيّة مثل صنم دوار: فإنّ الأغلبيّة الغالبة من الأمكنة الأخراة تنضوي تحت الحيز الشعريّ المحض.
ولقد بلغ عدد هذه الأمكنة في المعلّقات زهاء ثلاثة ومائة موزّعة خمسة وعشرين حيزاً في معلّقة امرئ القيس وحدها، وثلاثة وعشرين في معلّقة الحارث بن حلّزة، وتسعة عشر لدى لبيد، واثني عشر لدى زهير، وعشرة لدى عنترة وعمرو بن كلثوم، بينما لم يرد في معلّقة طرفة إلاّ أربعة أحياز فحسب.
ذلك، وأنّا لاحظنا أنّ هناك أحيازاً يشترك في ذكرها أكثر من معلقاتيّ واحد، مثل: وجرة: التي يشترك في ذكرها امرؤ القيس ولبيد،
وتوضح: الذي يشترك في ذكره امرؤ القيس ولبيد أيضاً.
والقنان: الذي يشترك في ذكره امرؤ القيس وزهير بن أبي سلمى (وورد لدى زهير مرتين اثنتين).
والمتثلّم: الذي ورد ذكره لدى زهير وعنترة.
وبرقة: التي وردت في معلّقتي الحارث بن حلّزة وطرفة بن العبد.
وخزازى: الذي اشترك في ذكرها، أو ذكره، الحارث بن حلّزة وعمرو بن كلثوم.
فهؤلاء المعلّقاتيّون يشتركون في ذكر أمكنة بأعيانها؛ ممّا يدلّ على وحدة الثقافة، ووحدة الخيال؛ كما يشتركون في ذكر أحياز كثيرة تختلف من معلّقاتيٍّ إلى آخر، إلاّ أنّ الاشتراك في ذكرها، والحرص على سردها: قد لايعني إلاّ شيئاً واحداً، من منظورنا الخاصّ على الأقلّ؛ وهو وحدة الخيال -كما أسلفنا القال- لديهم، ووحدة التقاليد الشعرية في ممارساتهم؛ وإلاّ فَلِمَ لم يَشُذَّ واحدٌ منهم عن البكاء على الديار، وعن النسيب بالنساء؟ وإذا كان عالي سرحان القرشي يذهب إلى انعدام وحدة الرؤية الفنيّة في المعلّقات السبع (16)؛ فإننا لا نذهب مذهبة، ولا نتقبّل رأيه الذي تدلّ بعض مقررات مقالته على ضده، وذلك حين يقرر، ضمنيّاً، وحدة الرؤية الفنية في المعلّقات السبع من حيث يقرر منطوقاً مغايرتها واختلافها إذ يقول:
"ولو نظرنا إلى كلّ قصيدة من المعلّقات على حدة، لوجدنا لكلّ معلّقة بناء مغايراً لبناء المعلّقة الأخرى، حتى وأن تشابهت في بعض الجزئيّات مع المعلّقات الأخرى" (17).
وإنّا لنختلف معه، لأنّنا كنّا حاولنا إثبات الوحدة الفنيّة والبنوية (ولا نقول البنائيّة لأنّ البناء عامّ، والبنية خاصة. والغربيّون يَمِيزُونَ هذا من ذلك مَيْزاً كبيراً....) في المقالة التي وقفناها، ضمن هذا البحث، على بنية الطلليّات المعلّقاتيّة....
ولا ينبغي أن يُنْظَرَ إلى مسألة اختلاف بنية المعلّقات نظرة سطحيّة، أو عجلى؛ إذ لو جئنا نتابع اللغة الفنيّة، أو حتى اللغة في مستواها المعجميّ البَحْت؛ لألفينا أولاء المعلقاتيين يلتقون التقاء عجيباً في اصطناع اللغة الشعرية (18)، وفي لغة الوصف، وفي لغة الألوان، وفي الإيلاع الشديد بذكر مواطن الماء
(وقد أومأ إلى بعض الأستاذ سرحان نفسه، وإن لم يذكره في السياق الذي نودّ نحن ذكره فيه)، وفي الكَلَف الشديد بذكر الأحياز المتفِقَةِ الأسامي، أو المتشابهتها، وفي الإيقاع الشعريّ (أربع معلّقات وردت على إيقاع الطويل مثلاً)(19). يضاف إلى كلّ ذلك المضمون الحضاريّ العامّ: الطلل -المرأة -الناقة- الفرس- البقرة الوحشيّة- الظبي والرئم- النعامة....
فلا معلّقاتيّ يختلف عن الآخر إلاّ بما حبته به الطبيعة من تفرّد ذاتيّ ضيّق، أمّا البناء الفنيّ العامّ للقصيدة الجاهليّة بعامة، والقصيدة المعلّقة بخاصة؛ فإنه كان متشابهاً متقارباً، يكاد يغترف من ثقافة شعريّة واحدة، ويكاد يصف بيئة اجتماعية، وجغرافية أيضاً، واحدة. فقد كانت، إذن، مواقفهم، وأحداثهم، ومشاهدهم، وصورهم، ومعانيهم، وتعابيرهم، وتجاربهم، وتقاليدهم، ورؤيتهم إلى العالم، وإدراكهم للكون: تَتَشاكَهُ تشَاكُهاً يوحي بصدور هذا الأدب عن عقل متّحد، وفكر جماعيّ ذي مصدر متشابه. ذلك بأنّ المعاني والصور والتعابير والتراكيب تبدو أناشيد جماعيّة "أبدعها عقل الأمة، ونظمها ضميرها" (20).
إنّ المعلّقات تنهض على بنية ثلاثيّة، كما كنّا عالجنا ذلك بتفصيل في المقالة السابقة، تتمثّل خصوصاً في الطلل، والمرأة، ثم: إمّا في الناقة، وأما في الفرس، وأما في مضمون آخر: فهناك إذن: ا+ب: وهما عنصران -ربما- لايخطئان حتّى معلّقة عمرو بن كلثوم التي استثناها الأستاذ القرشي.... فهما إذن عنصران ثابتان، ثم ترى الشاعر المعلقاتي يثّلث بمضون قد يتفق فيه مع سَوائِهِ (الناقة: طرفة- لبيد- عنترة، والفرس: امرؤ القيس- عنترة- وربما عمرو بن كلثوم، والحرب: زهير- الحارث بن حلّزة- عمرو بن كلثوم)....
وأمّا مسألة شذوذ عمرو بن كلثوم في أنه لم يذكر الطلل، فإننا نعتقد أنّ هذا الاستثناء يقوم إذا تابعنا الترتيب الوارد لدى الزوزنيّ لهذه المعلّقة التي نعتقد أنّ ترتيبها يحتاج إلى إعادة ترتيب.... ذلك بأنّا نعتقد أن المطلع الحقيقيّ لهذه المعلّقة هو:
قفي قبل التفرق يا ظعينا

نُخَبِّرْك الِيقينا وتُخْبِرينَا

قفي نسألْكِ هل أحدثْتِ صَرْماً

لِوَشْكِ البَيْنِ أم خُنْتِ الأَمينا؟


ليأتي من بعد ذلك:
ألا هُبّي بصحنِكِ فاصْبَحينا

ولا تُبْقي خُمور الأندرينا


ليأتي:
وأنّا سوف تدركنا المَنايا

مقدّرةً لنا ومُقَدَّرينَا


قبل:
بيوم كريهة ضربا وطعنا

أقَرَّ به مواليك العيونا


فتكون بنيةُ هذه المعلّقة قائمةً على التزام الوقوف على الطلل مضموناً يدلّ عليه منطوقه:
قفي قبل التفرّق يا ظعينا

نُخَبِّركِ اليقينا وتُخبْرِينا


فهذه المرأة كانت ظاعنة لا مستقرّة، أزمعت الفراق، وآذنته بالبين، فتحمّلت في خدرها، عن حيّها.... فامرؤ القيس يتحدث عن البين:
كأنّي غداة البين يوم تحملّوا

لدى سَمُراتِ الحيّ ناقفُ حنظل


وعمرو بن كلثوم يتحدث عن وشك هذا البين:
لو شك البين أم خنتِ الأمينا؟


يوم ركبت الحبيبة ناقتها، وأزمعت التّظعان، وهمّت بالتَّزيالِ: فأين البَوْنُ، في هذا البين؟ شاعر جعل البين في الماضي فسرد وحكى، وشاعر آخر جعله في الحاضر فتساءل واستخبر أحدهما يقول:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل


وأحدهما الآخر يقول:
قفي قبل التفرق يا ظعينا:


الوقوف، والبين، والكشح، والمتن، وطول القامة، والساقان... فأين البَوْنُ، تارة أخراة؟ وعلى الرغم من أنّ الناس سيعترضون على هذا الترتيب الجديد الذي اقترحنا إجراءه على معلّقة عمرو بن كلثوم، وأن المطلع الذي جاءت عليه لدى الأقدمين هو المطلع الصحيح؛ فإننا لا نرى حلاًّ لهذه المسألة الفنية -إلحاق معلّقة عمرو بن كلثوم بمجموعة المعلّقات- غير إجراء هذا التغيير على ترتيبها... ولعلّ حجتنا في ذلك أنّ كافّة المعلّقاتيّين ممّن تحدثوا عن الخمر، مثل عنترة وطرفة، لم يبدأوا معلّقاتهم بالحديث عن الخمر، وإنما بدأوها بالحديث عن الطلل والمرأة، فكيف يشذّ عنهم عمرو بن كلثوم، والحال أنّ شعره الذي اقترحناه مطلعاً لمعلّقته وارد فيها؟ ألا يكون ذلك مجرد اضطراب وقع في الترتيب؟ وإلاّ فإنّ هذا الشعر أسهل ألفاظاً من أن يكون جاهليّاً!....
وأيّاً كان الشأن، فإنّ الثقافة الشعريّة واحدة لدى المعلّقاتين، حتى فيما قد يبدو لنا مختلفاً، فلا يمكن فهم معلقّة امرئ القيس إِلاّ في صَبِّهَا في الخضمّ الشعريّ المعلّقاتيّ العامّ؛ كما لا يمكن فهم زهير في تأملاته إلاّ بقرن شعره ببعض شعر طرفة، ولا فهم معلّقة الحارث بن حلّزة إلاّ في الإطار التاريخي والقَبَليّ للسياق الذي وردتْ فيه معلقة عمرو بن كلثوم، وهلمّ جرا...
فالمعلّقات مدرسة شعريّة، ولا ينبغي أن تُدْرَسَ إلاّ ضمن هذا المنظور الفنيّ، وضمن وحدة التصور لدى المعلقّاتيّين؛ إذ كانت تضطرب في مُضْطَربٍ حيزيّ واحد، وتَدْرُجُ ضِمْنَ وحدةٍ زمنيةٍ واحدة أيضاً. فمعظم هذه المعلّقات قيل في قرن واحد، وفي بلاد العرب، فكيف يمكنُ مدارَسَتُها منفصلة عن بعضها بعض، والتماس مواطن الاختلاف بينها على أساس تفرّدٍ غير واردٍ، وتميّز غيرِ ماثلٍ. إنّ كلّ ما في الأمر أنّ المعلّقاتيّ قد يختلف عن الآخر في تفاصيل بعض المضامين المتناولة كتفرّد امرئ القيس بوصف الليل، وتفرّد لبيد بوصف البقرة الوحشية... ولكنّ الاختلاف الفنيّ لا ينبغي أن يُلْتَمَسَ في مثل هذه التفاصيل المضمونيّة، ولكن يلتمس في مستوى البنية العامة للمعلّقة التي تظلّ، في رأينا، هي هي: لدى هؤلاء مثل لدى أولئك، في معظم تماثلاتها الفنية.... وفيما يلي نحاول متابعة الأحياز وأنواعها التي وردت في المعلقات.
أولاً: الحيز المائل:
لقد صادفتْنا أحياز كثيرة تضطرب في الماء- كما سيستبين ذلك بالتفصيل في المقالة التالية من هذا البحث- أو تحيل على ماء، وتركض في سائل، أو توحي بمثولها فيما له دلالة على هذا السائل. ونحن حين ندارس الحيز لا نريد أن نحلّله على ظاهره، ونمضي عنه عِجَالاً؛ ولكننا نريد أن نتوقف لديه توقّفا، ونسائله مُساءَلَةً، ونَلوُصه على ما رَسَمْنا نحن في ذهننا من تأويليّة القراءة الأدبيّة التي هي حقّ أدبيّ مشروع للناقد إلى يوم القيامة.
فنحن حين نقرأ، كما يذهب إلى بعض ذلك امبرتوايكو(21)، لا ينبغي، وبالضرورة الحتميّة، أن نهتدي السبيلَ إلى ما كان يريد إليه الناصّ من نصّه؛ فإنما الذي يزعم شيئاً من ذلك هو، حتماً، مكابِرٌ أو مغالط؛ ولكننا، إذن، نقرأ النص على أساس ما نريده له نَحْن... بيد أنّ ذلك لا ينبغي له أن يكون خارج سياقه، ولا بعيداً عن إطار مضمونه...
ولولا أن لكلّ شيء حدّاً، وما جاوز الحدّ انقلب إلى سوء الضدّ؛ لَكُنَّا أَقدمنا على إِملاء مجلّد كامل في أنواع الحيز في المعلّقات... ومن أجل أن لا نقع في بعض ذلك، سنجتزئ بالتوقّف لدى نَماذِجَ قليلةٍ من أصناف
هذا الحيز لِنَذَرَ لِمَنْ شاء أن ينسج على نهجنا المجال مفتوحاً...
* ولا سيّما يوم بدارة جلجل:
لقد ذهب الأقدمون، ومنهم ابن قتيبة(22)، والقرشي(23) إلى أنّ دارة جلجل غدير ماء كان يقع"بين شعبى وبين حسلات، وبين وادي المياه، وبين البردان -وهي دار الضباب- ممّا يواجه نخيل بني فزارة... وفي كتاب جزيرة العرب للأصمعي: دارة جلجل من منازل حجر الكندي بنجد" (24). ويبدو أنّ الناس كانوا يستحمّون فيه، وكانوا، فيما يبدو، يوردون إبلهم وأنعامهم فيه. وربما كانت العذارى يُيَمِمّنَه لينغمسن فيه، ويستمتعن بمائه تحت وهج شمس نجد، وَكُلْبة حرارتها، وأوج حمارتّها.
ونحن لم نر حكاية أدنى إلى المشاهد السينمائيّة منها بالحقيقة من حكاية دارة جلجل. فهي كما رواها الفرزدق عن جده -وهي الرواية الوحيدة التي ترددت في المصادر القديمة(25)- لا تخلو من تناقض:
فالأولى: كيف يحقّ لامرئ القيس، هذا الفتى الذي كان موصوفاً، أو كان يصف نفسه، بالإباحيّة والمجون أن يفضح سرباً من حسناوات الحيّ فيهِنَّ ابنةُ عمه فاطمة؟ وهل كان العربيّ يسمح بأن يهان شرفه إلى هذا الحدّ؟ وهل قتل عمرو بن كلثوم عمرو بن هند إِلاّ لأَنَّ أمه أرادَتْ أن تصطنع ليلى-أم عمرو بن كلثوم- حين التمست منها مناولتها الطبق(26)؟ فكيف يجرؤ العربيّ على قتل ملك همام من أجل هذه الحادثة، ولا يقتل حين تعرّى أخته أو حليلته أو ابنته اغتصاباً، وتهان في شرفها، والشمس متوهّجة، والنهار في ضحاه!؟
أَيْما ما قد يعترض به علينا مُعْتَرِضٌ -ولو على وجه الافتراض والتوقع- من أنّ امرأ القيس كان أميراً، ولم يكن أحد بقادر على أن يعرض له بسوء؛ فإننا نعترض عليه، كما اعْتُرِضَ علينا على سبيل الافتراض على الأقلّ، بأنّ إمارته لم تكن بقادرة على أن تشفع له في أن يفعل ذلك؛ وأنّ إمارته، على كلّ حال، كانت نسبيّة، كما كانت ملكيّة أبيه على بني أسد نسبية أيضاً؛ إذ لم يكن أبوه، في تمثّلنا، أكثر من شيخ قبيلة في حقيقة الأمر؛ وإلاّ فأين آثار مملكته، ومخلّفات حضارته؟ ثم من كان أعزّ نفراً، وأحدُّ شوْكاً، وأرفع قدراً: عمرو بن هند ملك الحيرة أم الملك الضلّيل؟
وإذن، فالضعف الأوّل يأتي إلى هذه الحكاية من هذه الناحية.
والثانية: كيف يتفرّد النساء هذا التفرّد بالمسير فلا يخبر بشأنهنّ عبد، ولا تشي بأمرهنّ أمة:
يتخلّفن وجهاً كاملاً من النهار دون أن يقلق على مصيرهنّ رجالهنّ فيسألوا عنهنّ...؟
والثالثة: كيف تتحدث حكاية دارة جلجل عن العبيد الذين جمعوا الحطب، وأجّجوا النار، فكان امرؤ القيس"ينبذ إلى الخدم منذلك الكباب(المتّخذ من لحم المطيّة المذبوحة للعذارى) حتى شبعوا"(27)؟ وهل كان الشَّيءُّ للحِسَانِ، أم للإماء والغلمان؟ ثمّ كيف تسكت الحكاية و عن ذكر أيّ أنيس من الرجال، لدى إِرادة انغماس الفتيات في ماء الغدير، ولدى إصرار امرئ القيس على أن لا يسلّم أياً منهنّ ملابسها إِلاّ إذا ما خرجت من ماء الغدير عارية، واستعرضت جسدها أمامه مقبلة ومدبرة، وكما ولدتها أمها!.. ثمّ فجأة يظهر العبيد حين يقرر الشاعر نحر مطيّته للنساء؟ ألم يكن ظهور هؤلاء العبيد لمجرد غاية فنيّة، لا من أجل غاية واقعيّة حتّى تجنّب الحكاية امرأ القيس تكلّف جمع الحطب على أساس أنه سيّد أمير، وتجنّب، في الوقت ذاته، أولئك النساء اللواتي كنّ يصطحبن فاطمة ابنة عمّ امرئ القيس على أساس أنهنّ سيدات عقيلات، لأنهنّ رفيقات ابنة عمّ الأمير المزعوم؟ (وإن كنّا ألفينا رواية ابن قتيبة تومئ إلى وجود عبيد كانوا مع النساء، ولكن كيف ظلّ دور العبيد منعدماً على هذا النحو....؟)
والرابعة:إنّ مطلع الحكاية يوحي بأنّ أولئك النساء كنّ مسافرات إلى حيّ آخر من ذلك الوجه من الأرض، على حين أنّ آخرها يوحي بأنهنّ أُبْنَ إلى حيّهنّ، وأن سفرهنّ لم يتمّ، وأن الرحلة لم تحدث، وأنهنّ لم يعدن إلى حيّهنّ حتى جَنَّهُنَّ، والشاعِرَ، الليلَ(27): فما هذا الخلط العجيب، والتناقض المريب؟
والأخراة، إنّ أبا زيد محمد بن أبي الخطاب القرشيّ يذهب إلى أنّ صاحبة دارة جلجل هي فاطمة ابنة عمّ امرئ القيس(28)، بينما يذهب ابن قتيبة إلى أنها فاطمة بنت العبيد بن ثعلبة ابن عامر العذرية(29)، على حين أنه كان يعدّ عنيزة"هي صاحبة دارة جلجل" (30). وإنما يدلّ هذا الخلط، وسوء الضبط، على شكّ في الصحّة، وريبة في الرواية: لذهاب الرجال، وانقطاع الزمان، وخيانة الذاكرة، وفساد الرواية.
وعلى أننا لا نريد أن نذهب إلى أبعد الحدود في البرهنة على أدبيّة هذه الحكاية وخياليّتها، وأنّ مسألة دارة جلجل مجرد حكاية جميلة إن وقع بعضها على نحو ما، فإنّ باقي ما ذكر من تفاصيلها لا يمكن لعاقل أن يصدّقه بِجَذاميره، ولا أن يتقبّله بحذافيره.
ونعمد الآن إلى تحليل بعض هذا الحيز المائيّ، ليس على أساس ما نعتقد من أسطوريتّه، ولكن على أساس ما اعتقد الناس من صدق واقعيّته. والحق أننا، بعدُ، شَرَعْنَا في بعض هذا التحليل حين حاولنا تناول الخلفيّة التاريخيّة، والأسس التاريخانِيّة، لا التاريخيّة، لهذه الحكاية الجميلة وحيزها البديع.
1. إننا نلاحظ أنّ النساء اللائي تعاملن مع هذا الحيز المائيّ الجميل لم يكنّ عجاِئَز شُمْطاً، ولا هِرَماتٍ شُعْثاً؛ ولكنّهنّ كنّ حِساناً رائعاتِ الجمال، باديات الدلال، نحيلات الخصور، طويلات القدود، سوداوات العيون، مشرقات الثغور، منسدلات الشعور.
2. إنهنّ كنّ مخدومات منعَّماتٍ، وثريّات مُوسِرَاتٍ، وإلى بعض ذلك أومأتْ رواية ابن قتيبة إِذْ ذكرت أنّ أولاء الفتيات"نزلن في الغدير، ونحّين العبيد، ثم تجردّن فوقعن فيه"(31).
3. لعل من الحقّ لنا أن نتمثّل هذا الغدير فنتصوره بمثابة مسبح صافٍ ماؤُه، أزرق لونه، وأنه، من أجل ذلك، لم يك حِمْئاً ولا مَوْحَلاً: تسوخ فيه الأقدام، ويتحرّك الماءُ والطين فيه فتتّسخ له الأجساد إذا غطست... بل كان إذن حيزاً مائِياً غيرَ ذلك شأناً؛ وإلاّ لَمَا أمكن للنساء السَّبْحُ فيه، والاستمتاع بمائه.
4. ولنا أن نتمثل ما كان يحيط بهذا الحيز المائيّ من أشجار، ونباتات؛ وما كان يكيّف به الهواء الصادر عنه، والذي يفترض أنه كان رطيباً. ولنا أن نتمثّل ما كان يجاور هذا الغدير أيضاً، وهو حيز مقعّر حتماً؛ وأنه كان مرتفعاً عنه قليلاً أو كثيراً. ولنا أن نتمثّل الطرقات والثَّنِيَّاتِ التي كانت تُفضي إليه، أو تُفْضي منه. ولنا أن نتمثّل أسراب النساء الأخريات، في غير ذلك اليوم الذي حدث فيه للشاعر ما حدث مع العذارى، واللائي كنّ ييمّمنه للتنزه والاستحمام؛ ولنا أن نتمثّل الإماء اللواتي كنّ يقصدنه ليغسلن على ضفافه الملابس والفرش، وكل ما يغسل وينظّف...
5. إنّ أيُّ مدفع للماء، غديراً كان أمْ بِئْراً، أم نَهْراً، أم عَيْناً، أم ساقية، أم سربّا: يكون مَظَنَّةً للحياة الناعمة، والخصب الضافي، والعمران القائم. فكأنّ دارة جلجل كانت هي الغدير الذي كان يستقي منه الحَيُّ لإِرْواءِ الأنعام، وغالباً ما كانوا يشربون هم أيضاً منه؛ وكلّ ما في الأمر أنهم كانوا يُمْهِلُوَن الجِرارَ حتى ترْسُب حَمْأَتُها، ويَقَرُّ في القَعْرَةِ طِينُها، ليصْفُوَ الماءُ وبَرِقَّ؛ فيشرَبوه مَرِيئاً.
فلم يكن هذا الحيز، إذن، منقطعاً عن الحياة الاجتماعية والحضاريّة للحيّ الذي كانت العذارى تَقْطُنُهُ؛ وإِنما كانت حكاية العُرْي مجرَّدَ مظهرٍ شعريّ غذاه الخيال الشعبيّ المكبوت فسار بين الناس على ما أراد ذلك الخيال؛ فأضاف إليه ما لم يكن فيه، حتى يتلاءم مع ما كانوا يودّون أن يكون الأمر عليه: فتسير به ركبانهم، وتتحدث به وِلْدانُهم. ولنلاحظْ أن حكاية العُرْي تفرّد بذكرها الفرزدق رواية عن جده، وأنها دوّنت، لأول مرة، بعد منتصف القرن الثاني الهجري؛ فكأنها دوّنت بعد عهد امرئ القيس بأكثر من قرنين اثنين.
ولا يذر امرؤ القيس، في حقيقة الأمر، شيئاً عن هذا المشهد الذي لم يكن يمنعه من ذكره لادين وقد كان وثنيّاً، ولا خوف وقد كان أميراً عزيزاً، ولا مروءة وقد كان، فيما تزعم الرواة، عاهراً زانياً(32). فما منعه من أن يفصّل القول في حادثة في هذا الحيز المائيّ الجميل، فيذكر هو ما ذكرت الرواة؟ وهل كان عَييّاً بَكِيّاً غيرَ مبينٍ،. وهو الشاعر العملاق، والفصيح المِهْذَار، واللسِنُ المِكْثار؟ وإِنما اجتزأ هو بذكر عقره مطّيته للعذارى، ولم يقل أكثر من ذلك، ولم يتحدّث عن العُرْي لا تَكْنيَةً ولا تصريحاً... أفلا تكون مسألة العُرْي حكايةً لفقها الرواة؟
6. وإذا سلّمنا بصحّة هذه الحكاية، وما علينا أن نكون سذَّجاً؛ فإنّ هذا الحيّز يغتدى عجيباً مثيراً: غديرَ ماءٍ مكتظّ بأجسام الفتيات العاريات، وفتىً قريباً منهنّ في اليابسة، جاثِماً على ملابسهنّ وهو ينظر إلى عوراتهنّ المغلّظة في شَبَقٍ شديد، ثمّ يستحيل المشهد العاري العامّ إلى مشاهِدِ عُرْيٍ جُزْئِيَّةٍ تمثل في ثُنائِيَّةِ الحركة التي تُحْدثها الفتاة وهي تخرج من الغدير عارية وحركة الرجل وهو يسلّمها ثيابّها، أو أنها هي نفسها تنحني على ثيابها لتأخذها لتستر بها جسدها والفتى ينظر ويتلّهّى: لا هو يخاف، ولا هو يستحي، ولا هو يرعوي!.. إنه مشهد على ما فيه مِنْ فعل الاغتفاص والاغتصاب- من الوجهة الأخلاقية والوجهة القانونيّة أيضاً؛ فإِنه من الوجهة الخياليّة لو وقع في أدب الغرْب لكانوا ملأوا به الدنيا وأقعدوها، ولكانوا صوّروه ألف تصوير، ولكانوا أخرجوه في تمثيلهم ألف إِخراج...
7. من غير الممكن أن لا نتمثّل في وهمنا حيز هذا الغدير الذي كان مسبحاً لأولئك العذارى... ونحن، مع ذلك، لا نستطيع، ولو أردنا وأصرَرْنا، أن نتمثّل حيّزه على وجه الدقّة: لغياب النصوص، وانعدام الوثائق، وغفلة الرجال، وشحّ الأخبار. بيد أنّ ذلك ما كان ليحظرنا من أن نساءل ولكن على أن لا نجيب، وقد يُلْتَمَسُ الجواب في إحدى المساءلات نفسها: فكيف كان، إِذن، شكل هذا الغدير(33)؟ وكم كان حجم مساحته؟ وهل كان مستطيلاً، أو مربّعاً، أو دائرياً، أو على شكل آخر من الأشكال الهندسيّة؟ وهل يمكن أن نفترض أنه لم يكن صغيراً جداً فلا يجاوز حجم شكل العين، ولا كبيراً جداً فيبلغ حجم البحيرة؟ ولكنّ ذلك كلّه لا يظاهرنا على أن نحدّد شكل هذا الغدير/ الأسطورة، ولا مساحته؛ وإنما تُتْرَكُ ملكة الإدراك، وطاقة التخيّل، مفتوحتين على كلّ احتمال، وتحت كل تأويل. فالقراءة الحيزيّة، من هذا المنظور بالذات، يجب أن تظلّ مفتوحة...
8. وعلينا أن نتمثل وجهاً آخر لهذا الحيز المائيّ: وهو سطحه حين تشرق عليه الشمس صباحاً، وسطحه حين توشك أن تغرب عنه مساء، وحين يداعبه النسيم الرُّخاءُ، وحين تعصف عليه السافِيَات... فسطحه تراه يتغير ويتشكل ويتبدل تبعاً لطبيعة الشمس، وشكل مائه يتغيّر تبعاً لحركة النسيم العليل فيتحرك السطح قليلاً قليلاً، أو لعصف السوافي فيتحرك السطح بعنف واغتفاص شديدين؛ فتراه متخذاً له تموّجات تحددها الاتجاهات الأربعة-المفترضة- للرياح العاصفة. فإن كانت الريح إنما تهبّ من جهات مختلفة، وهي التي تسميّها العرب المتناوِحَة، اتّخذ هذا الحيز المائيّ له شكلاً آخر...
9. ومن حقّنا أن نتساءل-وما لنا لا نتساءل؟- عن أشكال ضفاف هذا الغدير، فتبعاً لهذه الأشكال، تتحدّد الأحياز التي تحيط به. ونحن نفترض أن تكون جهة واحدة من هذه الضفاف، على الأقلّ، أعلى من الجهات الأخرى، وإلاّ فمن أين كانت هذه الأمواه تتجمع حتى تشكّل غديراً صالحاً لأن يسبح فيه الناس؟
وقد كِلفَتْ معلقة امرئ القيس بذكر الأحياز المائيّة كما نلاحظ ذلك في المجازات التالية:
- على قطن بالشيم أيمن صَوْبِهِ(أي مطره)
- كأنّ مكاكيّ الجِوَاءِ غُدّيَّةً(لا يمكن أن تتجمّع الطيْرُ إلاّ في جِوَاءٍ، أي وَادٍ، فيه ماء وخضرة...)
- ومرّ على القَنانِ من نَفَيَانِه(ممّا تطاير من قَطْرِ مائه)
- فأضحى يَسُحُّ الماءَ حول كُتَيْفَةٍ
- يكبّ على الأذقانِ دَوْحَ الكَنَهْبِلِ(استطاع السيل الجارف أن يجتثَّ الدوح)
- كأنّ السِبْاع فيه غَرْقَى عَشيَّةً(لا يكون الغرَق إلاّ في الماء، والمقصود هنا: انغمارُها، وغطْسُها)
- كأنّ ثبيراً في عرانينِ وبْلِهِ
كأنّ ذُرَى رِأْسِ المُجَيْمِرِ غُدْوَةً

من السيل والأَغْثَاءِ فلْكَهُ مغْزِلِ


- غذاها نَمِيرُ الماء غير المُحَلَّلِ...

وإذا كانت الخطّة التي رسمناها في هذا العمل لا تسمح لنا بأن نحلّل هذه الأحياز المرقسيّة كلها، بعد أن كنّا توقّفنا، طويلاً، لدى حيز مائيّ واحد وهو غدير دارة جلجل؛ فإِنَّ ذلك، مع ذلك، ما كان ليحول بيننا وبين أن نلاحظ أنّ ما لا يقلّ عن تسعة أحياز أخراة، كما رأينا، تنطلق من ماء، أو تُحيل على ماء. ولكنْ غالباً ما كان الشأن ينصرف إلى أمواه المطر والسيول وما يضطرب حَوالَها...
ولا نحسب أنّ الإيلاعَ بوصف المطر، في معلّقة امرئ القيس، والتلذّذ بذكر الماء، والتبدّع في وصف السيول والأغثاء التي تجترفها: كان وارِداً على سبيل الاتفاق والعفويّة، ولكنّ ذلك كان، في منظورنا؛ لأنّ العرب كانوا يحبّون الماء، فكانوا يَدْعُوَن لِمَنْ يُحِبّون بالسقْيا، وكانوا يتسقّطون مواطن المطر، ويتتبّعون مهاطله، ويرتعون النبات الذي ما كان لينبت إلاّ بوابل المطر، أو طَلِّهِ... من أجل ذلك تصرفّوا في أسامي درجات هذا المطر فإذا هو غيث، ورَذاذ، وجَدىً، ووابِلُ، وطَلٌّ، ووَسْمِيٌّ، وَوَليٌّ(34)، وحَيَا، وسَحاب، وسَمَاء، وشُؤبْوب، وهلمّ جرا...
والآية على العناية الشديدة التي كان يوليها العربيّ للخصب والماء، أنّ الحياة نفسها، في اللغة العربية، وارادة في تركيب الحَيَا والْحَيَاءِ، وهما المطر. فكأنّ الحياء يحيل على الحياة، وكأن الحياة تحيل على الحياء؛ لأن الحياة لا يجوز لها أن تقوم خارج كيان الماء...
******
وتصادفنا ظاهرة العناية بالصور المائية، أي بالصور الشعريّة التي تضطرب أحداثها في الماء، أو حواله، في معلّقة لبيد أيضاً. وقد تردّدت هذه الصور المائيّة، أو المضطربة في الحيز المائيّ أو السائل، سبع مرات على الأقلّ لدى لبيد.
والحقّ أنّنا وقعنا في حيرة من أمرنا حين أزمعنا على تحليل نموذج من الحيز المائيّ لدى لبيد، كما كنّا جئنا ذلك لدى امرئ القيس؛ إذ لولا صرامة متطلّبات المنهج المرسوم لكنّا قرأنا كلّ هذه الصور المائية الفائقة الجمال في هذا الشعر اللبيديّ العذريّ... ولكن لا مناص من الاجتزاء بوقفة واحدة، حول نموذج واحد من الحيز المائيّ لدى لبيد؛ فَأَسَفاً وعُذْراً.
وجلا السُّيولُ عن الطلولِ كأَنها

زُبُرٌ تُجِدُّ مُتُونَها أَقْلاَمُها


لقد كنّا حلّلنا حيز امرئ القيس المتمثل في غدير دارة جلجل، فتوقفنا، طويلاً، لدى شكله وموقعه، وما قد يحيط به، وما قد يتأثر به، وما قد يؤثّر فيه، وما قد كان حَوالَهُ من النعمة والنعيم، والرغد والجمال.
وأمّا هنا، ولدى لبيد، فالحيز المائي لم يعد يرى في هذه الصور الحيزيّة؛ إذْ كان غدير دارة جلجل إنما كان ثمرة من ثمرات تجمّع ماء المطر في حيز مقعّر بعينه؛ فإنّ السيول التي صنعت الحيز لدى لبيد لا نراها، ولكننا نرى آثارَها. لقد أصابت الأمطار هذا الحيز، وهذا الوجه من الأرض فخدّدت سَطْحَه، ووسَمَتْ وَجْهَه فبدا منه ما كان خافياً، وظهر ما كان مستتراً متوارياً؛ ومن ذلكم تلك الطلول التي كانت الرمال نسجت عليها كُثباناً حتى وارَتْها؛ فكان المارُّ ربما مَرَّها فاعتقد أنها كثبانٌ ليس تحتها بقايا حياةٍ، وأنقاض حضارة، وآثار مجتمع... حتى جاءت هذه السيول، فلم تبرح تُلِحّ عليها بالجَرْفِ حتى انجرفت، فبدت خدودٌ هنا، وخدود هناك، وبدا معها بقايا الديار المقفرة: أثافِيّها ونُؤيِها، ومَحَلِّها ومُقَامِها؛ فخَزِنَ لذلك غَوْلُها فِرجَامُها، كما حزن لذلك مَدافِعُ الرَّيَّانِ حين عُرّبَتْ رُسومها، فاغتدت كشكل الكتابة على الصخور...
كانت الطلول مدفونة تحت الرمال، جاثمة تحت التراب، فكانت الذكريات معها مدفونةً، فكانت القلوب من حبّها مشحونة. لقد كانت مغبّرَّة، مُرَمَّلَة، مُتَرّبةً، لا تكاد تبدو للعين؛ فلمّا أصابتْها هذه السيول الجارفة، والناشئة عن هذه الشآبيب الهاطلة؛ لمَّعَتْها فاغتدت كباقي الوشم في ظاهر اليد، وأظهرتها فأمست كلوحة مكتوبة تجدد مَتْنَها أقلامُها بالكتابة فلا تمَّحِى ولا تزول...
1. نلاحظ أنّ لبيداً يصطنع، في هذه اللوحة الحيزيّة، وسيلةً حضاريّة لم تبرح تشعّ بالنور على الإنسانية، وهي الكتابة. فحيزه يمتزج بآثار المطر الهاتن المفضي إلى تمثّل الزَّبْر الماثل. فهل كانت الكتابة شائعةً على النحو الذي يذكره لبيد بحيث كانت الألواح، وكانت المكتوبات عليها، أم إنما كان يومئ إلى مجرد الحفريّات المنقوشة على الصخور والأحجار، والتي يُفَترضُ أن لبيداً، وعامّةَ المستنيرين في عهود ما قبل الإسلام كانوا يلمّون بها فيتمثّلونها في أنفسهم على ما هون ما؟
إنّ منطوق بيت لبيد ومضمونه لا يُبْعِدَان أيّاً من الاحتمالين الاثنين...
2. إنّ الصورة الحيزيّة المائيّة هنا، كما سبقت الإيماءة إلى بعض ذلك، تقوم على خلفيّة حضاريّة لا يكاد التاريخ يعرف عنها إلاّ نُتفَاً قِلاَلاً، ونُبَذاً صِغَاراً. فالإشارة إلى الكتابة، هنا في بيت لبيد، إشارة دقيقة، وفي الوقت ذاته بريئة. فهي إذن توحي بوجود حضارة مكتوبة في الجزيرة قبل الإسلام الذي لم يُبْعَثْ في مجتمع جاهل متخلّف كما قد يتصوّر بعض المؤرخين، ولكنه بُعِثَ في مجتمع مستنير متعلم كانت حضارتُه الفّنية والجماليَّةُ والتقاليديّة تنهض على أسس وقيم مثل تمجيد الفصاحة، وتجويد الكلام، وقرْض الشعر، وارتجال الخُطَب، وارسال الحكم والأمثال وحماية المستجير(35). بل لقد كان في قريش"بقايا من الحنيفيّة يتوارثونها عن إسماعيل صلى الله عليه وسلّم، منها حجُّ البيت الحرام وزيارته، والختان والغسل، والطلاق والعتق، وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والرضاع والصهر" (36).
وقد زعم الزجّاجيّ أن"الحَنِيفَ في الجاهليّة مَنْ كان يَحُجُّ البيت، ويغتسل من الجنابة، ويختتن" (37).
3. إنّ الصورة الشعريّة، في هذا البيت الَّلبِيدِيّ، تنهض على حيز معلَّقّ في كَتِفِ جبل، حيث السيل حرْبٌ للمكان العالي؛ كما يعبّر أبو تمّام. فَلِعُلُوّ هذا الحيز، وحَزْنه، واتسامه بالارتفاع: يَسُرَ على السيل أن يعرِّيَهُ من ترابه، ويجرّده من رماله، فيتخدّد ويتجرّد، ويبدوَ ما كان منه متوارياً؛ فيغتدِيَ ظاهراً بادِياً. فلو كان هذا الحيز مقعَّراً أو مسطّحاً ممتدّاً على وجه من الأرض سهل، لما استطاع السيل أن يعرّيه؛ بل لكانت أغثاؤُه زادته انغماراً فوق انغمار: فلا تبدو الطلول، ولا تتعرّى الرسوم.
4. نؤكّد ما كنّا أومأنا إليه آنفاً من أننا، هنا، إنما نحن بصدد ملاحظة الحيز بعد حدوث فعل السيول؛ فهو حيزٌ مائيٌّ باعتبار العلاقة المفعوليّة التي تعرض لها. فكما أنّ الأحياز المائيّة(البحار- الأنهار- الآبار- العيون- الغدران...) كانت، أو تكون، ثمرةً من ثمرات تَهاتُنِ الأمطار؛ فإنَّ هذه الطلول التي كانت مغمورةً تحت ركام الرمال والتراب والأغثاء لم تغتَدِ كذلك إلاّ بفعل هذه الأمطار.
5. إنّ الحيز الميت الموحي بالحزن، والمفضي إلى القتامة والوجوم، بفعل السيول السائلة، والأمواه الجارفة؛ يستحيل إلى حيز آخر قمين بالجمال والنور، وهو رسوم الكتابة، وأشكال الخطوط. فالأقلام هنا كأنها بمثابة السيل الفاعل الذي لا يبرح ينشط ويتحرّك، ويدْفَع ويحتفر، إلى أن يَتّركَ أُثرَه بادياً على وجه الأرض وسطحها الهشّ؛ بينما المُتونُ تقابلُ سطح الأرض القابل لأنّ تعملَ فيه السيولُ فتخدِّدَه وتَسِمَهُ وسَمْاً. فكأنّ السيول أقلامٌ تَكتْبُ؛ وكأنّ الطلول متون كانت من أجل أن يُكْتَبَ فيها، أو عليها. فاللوحة الحيزيّة هنا مركّبة، ولا تُفْهَمُ إلا بتعويم هذا التركيب وإذابته في بعضه بعضٍ. فكما أنّ الأقلام تزبر بحروفها التي هي علامات تَتِّركُ على المَتْن المزبور؛ فإنّ السيول بحرفها وغشيانها سَطْحَ الأرض تَتَّرِكُ، هي أيضاً، على هذا المتن الأرضيّ علاماتٍ هي تلك الآثار الطليليّة المختلفةِ الأشكالِ التي تبدو من بعيدٍ كالكتابة على متن من المتون، أو وجه من الوجوه.
6. نلاحظ أنّ هذه اللوحة الحيزيّة المركّبة تنهض على مظاهِرَ تشاكليّة مثل تشاكل السيول التي تحفر بسيلانها سطح الأرض فتتّرك عليه علاماتٍ؛ وتطبعه بأماراتٍ؛ مثل الأقلام التي تَزْبُرُ بسيلان حِبْرها على الورق فتذر عليه أيضاً علامات. فالطلول تتشاكل مع الزّبر، والأقلام تتماثل مع السيول، ومتون الوَرق تتجانَسُ مع سطح الأرض الوارد في صدر البيت ضِمْناً، وقد غاب، لمقتضيات التكثيف الشعري، منطوقاً.
7. يجمع هذا الحيز المائيّ-الَّلبِيديّ- بين المظهر الأنتروبولوجيّ المتجسّد في الطلول البالية، وإن شئت في هذه التخديدات التي تذرها السيول على وجه الأرض بما ينشأ عن ذلك من طقوس تعامل الناس مع المطر، وخصوصاً في المناطق الصحراويّة، وبين المظهر السيماءَوِيّ الماثِلِ في سمة الكتابة التي تتركها المزابِرُ على القرطاس فتغتدي سماتٍ دالّةً يتفاهم المتلقّون من خلالها .
فالألفاظ المكتوبة، أو اللغة الخرساء، تغتدى مُمَاثِلاَتٍ(إقُونات) للأصوات الدالّة الغائبة ضمناً. فالألفاظ إذن سمات حاضرة دالّة على سمات غائبة. فالدلالة هنا تقوم على مبدأ المُمَاثِلِيةِ.
8. إنّ هذه الطلول كانت قائمة، ولكنها كانت شديدة البلى، متناهية الشحوب؛ فلما جاءت السيول جَلَتْها، وصقَلت آثارَها، فتجدّدت كفعل الكاتب حين يجدّد حروف كتابته على صفحة ورقة: فتبرُزُ بعد أمِحّاءٍ، ويتوهَّجُ لونُها بعد شحوب.
9. كأنّ النص هنا يصوِّرُ حيزاً حاضراً على سبيل العناية باللوحة الأماميّة. أمّا ما نطلق عليه نحن"الحيز الخلفيّ"، وهو الذي كان علّة في إيجاد الحيز الماثل، فالحديث عنه لم يكُ إلا عَرضاً؛ إذ السيول هي التي كانت علّة في تخديد الأرض، فالأخاديد سمة حاضرة دالّة على سمة غائبة هي السيول، فهي تنضوي تحت الصور السيماءَوِيَّةِ القائمة على مثول القربنة.
ونلفي صوراً لِلَوحاتٍ حيزية أخراة تَمْثُلُ في معلقّة لبيد كقوله:
رُزِقَتْ مرابيعَ النجوم وصابَها

ودْقُ الرَّواعِد: جَوْدُها فَرِهَامُها

يعلو طريقَةَ مَتْنِها مُتواتِرٌ

في ليلةٍ كَفَرَ النجومَ غَمامُها

من كلّ سارية وغادٍ مُدْجِنٍ

وعَشيَّةٍ متجاوبٍ إرزامُها


فَمَدافِعُ الرَّيَّانِ عُرّيَّ رَسْمُها
وأسْبلَ واكِفٌ من دِيَمةٍ

يُرْوي الخمائلَ دائِماً تَسْجامُها


عَلِهَتْ(جزعت) تَرَدَّدُ في نِهَاءِ(غدير) صُعَائِدٍ...
*****
ولعلّ عنترة أن يكون ثالث المعلّقاتيّنين الذين عُنُوا عنايةً شديدة برسم الحيز المائيّ، ووصف الأمكنة الخصيبة التي هي ثمرة من ثمرات تهاتن الأمطار، وتساقط الغيوث.
ونحن لا يسعنا إلاّ أن نتوقّف لدى الصورة الشعريّة المائية التي أبدع فيها، فحلّق وتفرّد... وهي تلك التي تَمْثُلُ في قوله:
أو رَوْضَةً أُنُفاً تضَمَّنَ نَبْتَها

غَيْثٌ قليلُ الدِمْنِ ليس بمُعْلَم

جادَتْ عليها كُلُّ عينٍ ثَرَّةٍ

فتركْنَ كلَّ حديقة كالدِرْهم

سَحّاً وتَسْكاباً فكُلُّ عشيّةٍ

يَجْرى عليها الماءُ لم يَتَصرَّمِ


فهذه اللوحة الحيزيّة بديعةُ المظهر، جميلة المنظر؛ فغيْثُها نظيف شريف؛ فكان نبتُه أنيقاً ناضراً، ومُخضَوْضِراً فاخراً؛ قد تغافص في هذه الحديقة الأُنُفِ فتكاثر واعشوشب، وَرَبَا واخْضَوْضرَ. لقد سقت الغيوث هذه الحديقة سَحّاً وتَسْكاباً، وأمطرتها جَوْداً غَدَقاً، وتَهْتَاناً طَبَقاً؛ حتى اهتزّت وربّتْ، واخْضَرَّتْ وأزهرَّتْ:
1. إنّ أوّل ما يسم هذا الحيز الخصيب البديع هو اخضرار نبْته، وتغافص عشبه متنامِياً متعاليا.
2. لم يكن هذا الحيز مخضرَّاً، أصلاً؛ ولكنه اخضرَّ بفعل تهاتن الأمطار، وتساكب الغيوث الكريمة عليه، فاستحال من مجرد حيز قاحل، إلى روضةٍ أُنُفٍ خَصِيبٍ.
3. إن هذا الحيز الأماميّ البديع، لا يلبث أن يُفضي إلى حيز أبدعَ منه بَدَاعَةً، وأروع منه روعةً؛ وهو الحيز الخلفيّ الناشئ عن الحيز الأماميّ الذي هو، في الأصل، مشهد تهاتن الأمطار خيوطاً بيضاءَ ممتدّة امتداداً عموديّاً من عَلُ إلى تَحْتُ؛ فتلك الخيوط المائيّة(القطر المتهاطل) -وهي حيز مائيّ- هي التي تفضي، بفعل تَسكابها المِلْحاح، وتَسْجامِها المِغْزار، إلى تشكيل حيز آخر هو هذه الِبَركُ المائيّة الصغيرة التي تحتقنها الأرض في أيّ بقعة منقعرة منها؛ حتى إذا ما أصابتها الشمس، وأشرقت عليها بأشعّتها، رأيت هذه العيون كالمرايا المثبتة على وجه الأرض، أو كالدراهم المستديرة الشّكل، الفضيّة اللون، الناصعة المنظر. فالحيزّ الغائب هو هذه الأشعة الشمسيّة التي بفضلها استحالت العيون المائيّة إلى ذات مرآة تُشَاكِهُ مَرْآةَ المرايَا الضخمة اللَّقَى في الفَلْوَاتِ، والعاكسة لأشِعَّةِ الشمس المتوهّجة.
4. ولعلّ من الواضح أنّ حيز العيون/الدراهم، أو العيون/ المرايا: لم يكن ممكِناً مشاهَدَةُ مَرْآتِهِ من مكان مستوٍ، ولكن من مكانٍ عالٍ. فكأنّ هذه الأمطارَ كانت تهاتنَتْ على سهول شاسعة، فتركتها عيوناً، عيوناً؛ ولكنّ مشاهدتها لم تكن ممكنة إلاّ من أَعالِيها، ومن فَوْقِ ذُرَاهَا، لِتَبْلُغَ رَوْعَةُ الجمالِ الطِبيعِيّ غايَتَاهَا...
5. واستخلاصاً من بعض ما حَّلْلنا، يمكن أن نعدّ هذا الحيز المائِيَّ متحوّلاً، أي أنه ليس أصلياً، لأنّ الأصل فيه القُحولَةُ لا الخِصْبُ، واليبس لا الإمراعُ الرَّطْب، ولم يغتِد إلى ما اغتدى إليه إلاّ بفضل الحَيَا النازل، والسماءِ الهاتن. فكأنّ هذا الحيز الخصيب الماثل في هذه اللوحة، يشكّل مُمَاثِلاً(إقونة) ناقصاً لحيز غائب. أو قل إنه على الأقل معلول لعلّة غائبة، فيكون الخصب معلولاً للماء، والماء معلولاً للسحاب؛ فهو إذن إمّا مُماثل ناقص، أو قرينة كاملة. أو ليس الخِصْبُ الماثل في هذا النص المؤلَّف من ثلاثة أبيات، إنما هو سمة حاضرة وقعت بفضل سمة غائبة، وهي المطر النازل؟ (38).
6. وبينما مَرآةُ العيونِ الثّرَّةِ، أو الغُدْران الصغيرة، التي تشكّلت بها الأرض المسقيَّةُ بماء المطر هي أيضاً إمّا مُمَاثل ناقص(غدران الماء الماثلة للعَيْنِ) تماثل مياه الأمطار الغائبة عن العين)؛ فإنّ الغدران لم تَكُ، وهي السِّمةُ الحاضرة، إلا قرينةً للسمة الغائبة التي هي الغيث الهاتن.
7. إنّ هذا الحيز المائيّ، أو الحيز الخصيب، له شبه بحيز لبيد:
وجَلا السيولُ عن الطُّلولِ كأَنها

زُبُرٌ تُجِدُّ مُتونَها أقْلامُها


من حيث تأثيرُ المطرِ في الأرض، غير أن صورة لبيد توحي بالوحشة، وصورة عنترة توحي بالأنس. ولا سواء مطر يُعَرّي الأرض فيذكّر بمدفونات الذكريات، ومطر يسقيها فتغتدي مُخْصِبَةً مخضرّة، ومُمْرِعة مُعْشِبة.
8. ويسْتَمِيزُ هذا الحيز-العَنْتَرَيّ- المسقِيُّ بتحديد علاقته بالزمن بحيث لا يكاد يحدث له ذلك إلاّ في العَشايا والأمساء. والذي يعرف الجزيرة العربيّة وَجَنوبَها خصوصاً يدرك مدى صدق هذا الوصف. ولعلّ من فوائد أمطار الأماسي أنّ الناس في معظمهم يكونون قد قضوا مآربهم اليوميّة فيكونون إمّا آبُّوا إلى بيوتهم، وإما هم بصدد الإيَابِ، كما أنه يتحاين مع حلول الليل ورطوبته التي تسمح للأرض بارتشاف الماء على مهل؛ ممّا يجعل النفع بهذا المطر أكثر. ولو تساكب المطر ضُحىً، ثمّ جاءت عليه الشمس المحرقة لكانت أتَتْ على رطوبة الماء، وجفّفتْ قشرة الأرض؛ فلا ينتفع النبات، أثناء ذلك، إلاّ قليلا.
*****
وأمّا الحيز المائيّ لدى المعلّقاتيّين الآخرين فإنه شحيح الوجود، وربما يكون طرفة بن العبد أذكرَهم له، وأكثرَهم تعامُلاً معه، وإن ظلّ هذا الحيز المائيّ إمّا بحريّاً ونهريّاً، كما في قوله:
- يجوز بها الملاّحُ طوارا ويَهْتَدِي
- يَشُقُّ حبابَ الماءِ حَيزْومُها بِها
- كَسُكَّانِ(ذَنَبِ السفينة) بُوصِيّ(ضرب من السفن) بِدِجْلَةَ مُصْعدِ؛
وإمَّا صحراويّاً، ولكنه يظلّ مع ذلك خِصْباً مثل قوله:
- (...) تَرْتَعِي

حدائِقَ مَوْليّ الأَسِرَّةِ أَغْيَدِ


ولكن أين ذلك من اللوحات الحيزية المائيّة البديعة التي كنّا صادفناها لدى امرئ القيس، ولبيد، وعنترة بن شداد؟
ولا يقال إلاّ مثلُ ذلك في الحارث بن حلّزة، وعمرو بن كلثوم، وزهير بن أبي سلمى.
****
ثانياً: الحيز الخصيب:
قد لا يختلف الحيز الخصيب عن الحيز المائيّ، فذلك ملحق بهذا، وهذا علّة في ذاك. وليس إِفراد الحيز الخصيب، هنا بالذكر، إِلاّ من باب التفصيل والتجزِيءِ.
فمن ذلك ما جاء في معلقة زهير بن أبي سلمى:
بها العِينُ والآرامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً

وأطلاؤُهُنَّ ينهَضْ من كُلِّ مَجْثَمِ


فهذه الرسوم الدَّوارِسُ، والطُّلولُ البَوالي، والدُّيارُ الخَوالي، أخضارَّ نباتُها، وتغازَر ماؤُها، فاغتدت مَراتِعَ خصيبةً للبقَر والثيران الوحشية؛ كما أمست مغانِيَ لِلأْرْءَامِ يتراكض فيها، ويطوّفن بين أرجائها. فلولا خِصْبُ هذا الحيز المسكوت عن اخضراره منطوقاً، ولكنه وارد في هذا البيت مضموناً: لما صادفْنا هذه الحيوانات الوحشيّة التي لا تعيش في مألوف العادة إلاّّ في الأماكن الخصيبة، والمغاني الرطيبة. وقد طاب لها المقام فيها إلى أن توالدت فتكاثرت بحيث لا نلفي الأبقار الوحشيّة وحدها هي التي تنعَمُ بهذا الإمراع والسكون؛ فقد يدلّ ذلك على أنّ وجودها هناك كان مجرّد عبور، ولكننا نصادف أَطلاءَها وهنّ ينهضن من كلّ مجثم، ويتواثبن في كلّ مرتع.
وإنما يدلّ قوله"من كلّ مجثم" على التكاثر والتسافد.
ومثل ذلك لا ينشأ إلاّ عن الخصب الذي هو بمثابة الرخاء للإنسان.
وتصادفنا لوحة حيزيّة أخراة خصيبة في بعض معلّقة لبيد، وتتجسّد في قوله:
من كلّ ساريَةٍ وغادٍ مُدْجنٍ

وَعِشيَّةٍ مُتجاوِب أَرْزَامُها

فَعَلا فروع الأيْهقانِ وأطفَلَتْ

بالجَلْهتَيْن ظِباؤُها ونَعامُها


- والعينُ ساكنُةُ على أطْلائِها
- فالضيف والجارُ الجَنِيبُ كَأنّما

هَبَطا تَبَالَةَ مُخْصِباً أهَضْامُها


فالأولى: إنّ هذه الصور الحيزيّة مُمرعة الخِصْب، شديدة الخضرة؛ فكأنها تمثّل حال الربيع في أوج طوره، وذروة اعْشِيشَابِه؛ فهل هي صورة حقيقيّة عاشها الناصّ فرسمها لنا رسْماً عبقرياً، أم هي مجرّد صورة جماليّة كان يتمثلَّهُا للطبيعة العذريّة فضمّنها نَصُّه، فأحسن نَسْجَه؟
والثانية: إننا نصادف تقارباً بلغ التشابه والتماثل بين قول عنترة:
سَحّاً وتَسْكاباً فكُلُّ عشيّةٍ

يجرى عليها الماء لم يَتَصرَّمِ


وبين قول لبيد بن أبي ربيعة:
من كلّ سارية وغادٍ مُدْجِنٍ

وعَشيَّةٍ متجاوبٍ إرْزامُها


وأيّاً كان الشأن؛ فإنّ بلاد العرب، وخصوصاً المرتفعات اليمنيّة، تتهاطل أمطارها، في الغالب، بالرعود أولاً، وبالعشايَا آخِراً. وما ورد لدى عنترة ولبيد قد يكون مجرد توكيد لهذه الحال الطقسيّة التي تبرح قائمة إِلى يومنا هذا.
والثالثة : إنّ قول لبيد:
والعِينُ ساكنةٌ على أطلائِها
يُشارِكهُ قولَ زهير:
بها العِينُ والأرآمُ يمشِينَ خِلْفَةً

وأطلاؤُهُنَّ ينهَضَ من كُلِّ مَجْثَمِ


وكلّ ما في الأمر أنّ أبقار لبيد لا تبرح محتضنة لأطلائها؛ على حين أنّ أبقار زهير كأنها كانِتْ تخلّت عن الحَضْن، وسَمحت لأطلائها بأن تسرح معها فتتلاعب في هذا الخصب الكريم، وهذا الحيز الرطيب.
ولعلّ هذا التشابه أن يدلّ، كما كنّا أومأْنا إلى بعض ذلك من قبل، على أن نصوص المعلقّات تشكّل وحدة واحدة على ما قد يبدو فيها من تفرّد؛ فالتفرّد إنما يَمْثُلُ على مستوى المعالجة والطرْح، لا على مستوى القضّية والمضمون. بل إننا لَنلاحظ أنّ التشابه يطفر على مستوى النسج وتوظيف اللفظ...
والرابعة : إنّ هناك تماثُلاً آخرَ يمثل في بيتَيْ زهير السابقيْن، وبيت لبيد:
فعلا فروعُ الأيهقانِ وأطفلَتْ

بالجلهتين ظباؤها ونَعامُها


فصورة الخصب في حيز زهير غائبة، وإنما يدلّ عليها الحال التي تعيشها الأبقارُ العِينُ، وأطلاؤهنّ المَرِحاتُ. على حين أنّ صورة الخصب في لوحة لبيد مفصّلة بشكل أدقَّ حيث إنه يذكر ارتفاع نبْت الأَيِهَقَانِ بفعل الغيوث المتهاتنة والمتتابعة... ولقد بلغ الخصب بهذه الْعِينِ إلى أن تسافدت، فتوالدت بما أطفلت بضفَّتيْ هذا الوادي الخصيب.
فالشأن في هذه اللوحة الحيزيّة المخضرّة ينصرف إلى الماء الجاري في الوادي المسكوت عنه، والذي تتضمّنه الجَلْهَتَانِ(الضفّتان)-؛ وإلى جَلْهَتَيْ هذا الوادي وقد جاء ذكرهما نَصّاً.
والخامسة : نجد كلاًّ من زهير ولبيد يتحدث عن ثلاثة أصناف من الحيوانات الوحشية- التي ترتبط حياتُها بالخصب والماء، والكلأِ والسَّماءِ-: العِين(الأبقار الوحشيّة)، والآرم- أو الأْرْآم- (الظباء البيضاء)، والأطلاء(أولاد البقر في السنّ الأولى التي قد لا تتجاوز شهراً واحداً) (39).
بيد أنّ لبيدا يفوق زهيراً بحيوان وحشيّ رابع هو النَّعام. ولعلّ ذلك أدعى إلى زيادة الخِصْبِ في حيزه، وأدلّ على تكاثر نباته، على الرغم من أنّ هذه الحيوانات كلها قادرة على العيش في الصحراء. ولكن لا ينبغي أن تتمثَّل هذه الصحراء على أنها مجرّد حيز أجرد أجدب، قاحل ما حل: لا نبت فيه ولا شجر، ولا عشب ولا كَلأَ؛ إِذ كلّ هذه الحيوانات إنما تتغذَّى من حُرِّ الكلأِ وخالِصِ أوَراقِ الأراكِ...
والسادسة: إنّ أطفال الظباء والنعام يؤكّد الخصب الخصيب لهذه اللوحة الحيزيّة لسببين:
1- لوجود الوادي وضفّتيه.
2- لا يمكن أن يقع الأطفالُ والحَضْنُ إلاّ إذا كان المكانُ خصيباً، والجوّ ملائماً للتكاثر والتسافد.
والسابعة: ومن الآيات على ثبوت خصب هذا الحيز، وإِلحاح النص المعلقّاتي عليه، معاودة لبيد الحديث عنه في موطن آخر من معلقّته، وهو قوله متحدثاً عن زوج البقرة والثور:
فتوسَّطا عُرْضَ السَّرِيّ وَصدَّعَا

مَسْجُورَةً مُتَجاوراً قُلاَّمُها

محفوفَةً وسْطَ اليَراعِ يُظِلُّها

منها مُصَّرعُ غابةٍ وقِيَامُها


ففي هذين البيتين نصادف لوحة حيزية عجيبة الخصب، فهناك:
1- الماء(السريّ وهو النهر الصغير، ومسجورة: أي عيناً مسجورة؛ أي عيناً نضَّاحَةً بالماء)،
2- الغابة،
3- اليراع (وهو القصب بما فيه اخضرار وبُسُوقٍ وتَرَهْيُؤٍ حين يُصيبه النسيم)،
4- يُظِلُّها(والضمير فيه يعود على اليراع).
فهنا لا يصادفنا الشجر وحده، ولا الماء وحده، ولكنهما اجتمعا؛ بل لقد اجتمع كلّ منهما في صورتين اثنتين: السريّ الذي هو نهْر صغيرٌ جارٍ، والعَيْن المسجورة بالماء، الطافحة به؛ فإن شئت، إذن، نظرت إِلى الماء في هذا الحيز جارِياً، وهو ذاك الماثل في هذا السرِيّ الذي قيّض الله مثله لمريم حين وضعت عيسى(40) -فكانت تتشرّب من مائه، وتننسّم من نسيمه- فعَلْت؛ وإن شئت، إذن، تظلَّلْت بظِلال اليَراع، وظِلال أشجار الغاب، أَتَيْتَ...
فكأنَّ هذا الحيز يمثّل طبيعة بعض بلاد الألب؛ ولكنّ الذي يذهب اليوم إلى بلدة إبّ مثلاً، باليمن، يدرك حقيقة هذه اللوحة الحيزيّة الخصيبة، وإنّ بلاد العرب، فيما يبدو، كانت من الخصب والماء على غير ما هي عليه الآن...
*****
ذلك، وأنّا كنّا، في الأصل، رَصْدَنَا أضرُباً أُخراةً من الحيز في هذه المقالة، ابتغاءَ تحليلِها، ولكن لَمَّا طال النفَس، أضرَبْنا عن ذلك إلى حين. ومما كنّا رصدناه من أنواع الحيز ما أطلقنا عليه: الحيز المتعالِي، والحيز المضيء، والحيز المنشطر، والحيز العارِي... وقد اجتزأنا، كما رأينا، بالحيز المائيّ، والحيز الخصيب، وركّزنا خصوصاً، على المظاهِر الجماليّة في تحليلاتنا لذيْنِكَ الضربَيْن من الحيز. فذلك، ذلك.
إحالات وتعليقات

نحيل مثلاً على كتابنا ا-ى، وشعريّة القصيدة، قصيدة القراءة. <LI value=1>أرسطو، الطبيعة، 271 - 278. <LI value=1>جميل طيبا، المعجم الفلسفيّ، 2. 412 - 413 . <LI value=1>م. س.، 1. 187 - 188 . <LI value=1>يقال: الحيز بتشديد الياء المكسورة، وبسكونها أيضاً، ويجمع على أحياز. <LI value=1>ابن سينا، رسالة الحدود، 94 . <LI value=1>م. س. <LI value=1>تعريفات الجرجاني، عن جميل صليبا، م. م. س. <LI value=1>ابن منظور، لسان العرب(وهم). <LI value=1>التهاونيّ، كشاف اصطلاحات الفنون، عن جميل صليبا، م. م. س. <LI value=1>DESCARTES, PRINCIPES de Philosophie, 2, p. 14; A. LALANDE, Dictionnaire de philosophie (lieu), p. 567 -568. <LI value=1>A. LALANDE, LBID, (Espace), p. 298- 299; Lieu, p. 567 -568. <LI value=1>جميل صليبا، م. م. س.، 2. 214. <LI value=1>م. س.، 1. 187 . <LI value=1>أرسطو، م. م. س.، ص306 . <LI value=1>عالي سرحان القرشي، بناء المعلقّات السبع، علامات، جدة، ج. 5، م 2/
سبتمبر 1992 <LI value=1>م. س.، ص171 . <LI value=1>تراجع المقالة التي كتبناها عن نظام النسج اللغويّ في المعلقّات، في هذا الكتاب. <LI value=1>تراجع المقالة التي دبّجناها عن الإيقاع والضجيج في المعلقات، في هذا الكتاب. <LI value=1>أنور أبو سليم، المطر في الشعر الجاهليّ، 108، دار الجيل، بيروت، 1987 <LI value=1>لعل مقالتنا التي كتبناها، ضمن هذه الدراسة، عن نظام النسيج اللغويّ في المعلّقات أن توضّح ملامح هذه المسألة. <LI value=1>ابن قتيبة، الشعر والشعراء، 1. 65 -66. <LI value=1>القرشيّ جمهرة أشعار العرب، 38 -39 . <LI value=1>ياقوت الحموي، معجم البلدان، 3. 120 ، 1604. <LI value=1>ابن قتيبة، والقرشي: م. م. س. <LI value=1>القرشيّ م. م. س.، ص. 39 . <LI value=1>م. س. <LI value=1>م. س. <LI value=1>ابن قتيبة، م. م. س.، 1- 64 . <LI value=1>م. س. <LI value=1>م. س.، 1- 65. <LI value=1>ابن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، 4101- 42 . <LI value=1>أخبرني أحد الشعراء المعاصرين أنه زار غدير دارة جلجل، وأنه قريب من مدينة الرياض ولكن من المحتمل أنّ هذا المكان تعرّض لتغيّرات محسوسة. <LI value=1>يراجع الثعالبي، فقه اللغة، ص 408، وابن سيدة، المخصص، 9- 79. <LI value=1>ابن قتيبة، كتاب العرب، ص. 361 - 464ـ في رسائل البلغاء. <LI value=1>م. س.، ص. 372. وقد ورد لفظ"الحنيفيّة" في أصل نصّ الكتاب تحت لفظ"الحنفيّة"، وهو محض خطا مطبعيّ سهي عن تصحيحه. <LI value=1>ابن منظور، م. م. س.،(حنف). <LI value=1>نحن الآن نصطنع مصطلح مُماثل ترجمة للمصطلح الغربيّ الذي ترجم إلى العربية، أولَ الأمر، تحت مصطلح أقونة، وهو لا يعني شيئاً في دلالة اللغة العربية. وقد أنى تعريبُه. وقد جئنا نحن ذلك.
الزوزني، ص. 93 .
إشارة إلى قوله تعالى: (فَنادَاها مِنْ تحتِها أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ ربُّكِ تَحْتَكِ سَرِياً)، مريم، 24 .

**د لا ل**
2012-02-11, 17:07
طقوس الماء في المعلقات
ما أكثر ما تحدّث الناس عن المطر في الشعر الجاهليّ؛ وما أكثر ما تحدّثوا عن علاقة الماء بالطقوس المعتقداتيّة مثل الاستسقاء، على عهد الجاهليّة الأولى، وما كان يصطحب ذلك من ممارسات لم تلبث أن اغتدت كالطقوس الوثنية لدى قدماء العرب(1).
وقد نَبِهَ إلى هذه المسألة قدماء كتّاب العرب مثل أبي عثمان الجاحظ(2)، ومثل بعض المعاجم الموسوعية(3)؛ فَدُوّنَ من حولها إشاراتٌ مختلفة هي التي يمكن أن تغتدى أساساً لأنتروبولوجيا الماء، وكلّ الطقوس الفولكلوريّة التي كانت ترتبط به حين تشحّ السماء، ويُلحّ الجدب، فيصيب الناس روع وهلع، وإشفاق وقلق..
ولا نريد نحن، في هذه المقالة، أن نتوقف لدى طقوس المطر وحدها؛ ولكننا نريد أن نمتدّ بوهمنا إلى كلّ ما هو سائل شفّاف، أو قابل للشَّفَافَةِ والسَّيَلان. كما أننا لا نريد أن نمتدّ بسعينا إلى كلّ الشعر الجاهليّ بِجَذاميره نستقريه لنرصد ما جاء فيه من طقوس الماء، وفولكلوريات المطر؛ ولكن بحكم محدوديّة موضوعنا، سنجتزئ برصد هذه الطقوس في المعلّقات السبع وحدها...وإنّا لدى قراءاتِنا المعلقّاتِ، من هذه الوِجْهة، صادفتنا مجازات كثيرة تدلّ على العناية الشدَيدَةِ بالمطر لدى أولئك المعلقّاتيّين.
والمطر، أو الماء، هو مصدر الحياة، فيه تَخْصَوْصِبُ الأرض، وبِقَطْرِه تَربْوُ الثَّرى، وبرذاذه يَخْضَوْضِرُ النبات ويزهو؛ فتمسي الطبيعة كالعروس تترهْيَأُ في ملابسها السندسيّة، وتتبختر في حُلَلِها المُخْضَوْضِرَة؛ لِمَا ينشأ عن ذلك من جمال بديع لمشهد الأرض وهي تزهو بما على وجهها من حقول وغلال، ولما ينشأ عن ذلك من تسافد الطيور، وتوالد الفراش، وتكاثر الحشرات الطائرة والزاحفة معاً، وكلّ الكائنات اللطيفة التي كانت أغرت عنترة بن شداد بأن يتوقّف لدى صورة الذباب وهو يترنّم، وحملت امرأ القيس على أن يلتفت إلى صورة الطير وهُنَّ يملأن الجِواءَ بأصواتَهنّ الحِدَادِ، والشديداتِ الاختلافِ؛ حتى كأنّهنّ كائنات سَكْرى بما شربت من سُلاف، وبما احتست من رحيق وراح...
أولاً: طقوس الماء في معلّقة امرئ القيس
1- المطر:
ربما تكون معلّقة امرئ القيس أكثر المعلّقات للمطر ذِكْراً، وأشدّها به اهتماماً، وأحرصها على التغنّي به تحت صور مختلفة، وفي لقطات مشهديّة متباينة. وَيَمْثُلُ ذلك خصوصاً في الإثني عشر بيتاً الأخيرة من معلّقته، من:
أصاحِ ترى برقا أُرِبكَ وَميضَه

كلَمْعِ اليديْن في حَبِيٍّ مُكَلَّلِ


إلى قوله:
كأنّ السِّباعَ فيه غَرْقى عَشِيَّةً

بأرجائه القُصوْى أنابيشُ عُنْصُلِ


ولعلّ الذي حمل امرأ القيس على تخصيص نسبة صالحة من أَبابيتِ معلّقته لوصف المطر من وِجْهة، وتخصيص هذا الوصف بنهايتها من وجهة أخراة: أن يكون الطقس اليمنيّ الذي يعرف إلى يومنا هذا بظاهرة الأمطار الرعديّة الغريزة، والتي لدى هطلها قد تمتلئ بها الأدوية، وقد تسيل بها المنحدرات، فتجرف الأغثاء، وتسقي الأرض، وتروى النبات في أزمنة معيّنة من السنة، وفي ساعات معيّنة من النهار.
لم يكن ممكناً لأمرئِ القيس، وهو العربيّ اليمنيّ، أن ينتقل بين القبائل، ويضرب في الأرض لاهياً أوّلاً، وطالباً بثأر أبيه آخراً، ثم لا يصف ما كان يعرض له من هذه الأمطار الرعديّة الشديدة الغزارة التي كانت تصادفه كلّ مساء من أسفاره، فكانت تضطره، غالباً، إلى أن يَلْتَحِدَ، وَصَحْبَهُ، إلى كَتِفِ جبل، أو جِذْع شجرة عظيمة، أوْ أيّ مُلْتَحَدٍ من المُلْتَحَدات...
كانت الرعود والبروق، وكان القَطْر الطَّلُّ، وكان المطر الثَّرُّ: تساور سبيلَه كلّ مساء من مُقاماته وتَظعانَاتِه؛ فلم يكمن له بُدٌّ من أن يصف ما كان يستمتع به طوراً-وهو الشاعر-، ويزعجه طوراً آخر: فيتأذّى له، وذلك حين تَظعانه غالباً.
ويمكن أن نلتمس أكثر من علّة لوصف أُمْرِئِ القيس المطر، واهْتِمامه بالماء، وَكَلَفِهِ بكلّ ما يسيل فتختصب له الأرضُ، ويربو له النبت:
فالأُولَى: أنّ البلاد العربيّة، منذ القِدَم، شحيحة، فيما يبدو، بالمطر، ضنينة بالهطل، تميل طبيعتها إلى الجفاف والإمحال، وإلى اليبس والجدب. فكان الناس ينتظرون تَهتان الغيث بفراغ الصبر، وحرارة الشوق، وشدّة التطلّع. والآية على ذلك أنهم كانوا يستسقون في طقوس معتقداتيّة، وممارسات فولكلوريّة عجيبة؛ حين كان المطر يعوزهم فيُلِمُّ عليهِم الجَدْبُ، وتشحّ من حولهم السماء. ولم يكن امرؤ القيس بدعاً من بقيّة الشعراء في الجاهلية، ولكنه، ربما فَسَحَ لهم في المجال، وهيَّأ من أجلهم السبيل؛ إذ نلفي عامّة شعراء أهل الجاهلية يلتفتون إِلى ظاهرة المطر، فإمَّا أن يصفوها وصفاً، وإِمَّا أن يجتزئوا بذكرها عَرَضاً(4).
والثانية: إنّ امرأ القيس كان ينتقل بين القبائل، وكان يختلف إلى الأسواق، وكان يتردّد على الحانات، وكان في كلّ ذلك لا يعدم مطراً هاتنا، وغيثاً هاطلاً؛ فكان مشهد خيوط الماء وهي تتساقط من فوقه يؤثّر في شاعريّته المرهفة فتفيض بما تفيض به، إلى أن جاء ينشئ معلقّته العجيبة فاختصّ المطر بخاتمتها ليكون ذلك أبقى من النفسْ، وأَذْكَرَ في القلب، وأجرى على اللسان. فهو يذكر المطر في مطلعها، ضمناً، حين يقول مثلا:
ترى بعر الأرآم في عرصاتها

وقيعانها كأنه حَبُّ فُلْفُل


فلولا المطر الهاتن لما كانت الآرام راتعة في تلك العرصات، ولا مَرِحَةً في تلك القيعان والتَّلَعَات: تمرح وتلعب، وتتواثب وتتراكض...
ولكنّ وصف الطلل صَرَف وهْمَه في وصف المطر والفراغ له إلى حين الانتهاء إلى خاتمة معلّقته فأشبعه وصفاً بديعاً جعلّنا نُحِسّ بأن الأرض، كأنها، كلّها، بدأت تتحرك بوديانها، والجبال تلقي بأَغثائها، والسواقي تتغازر بأَمْواهِها، فتُحيل سطحَ الأرض كلَّه إلى خصب وجمال ونعيم... وإذا كانت السعادة امتدّت إلى الطير فاغتدَيْنَ صادِحاتٍ، وإلى الحيوانات الأخراةِ فأمسَيْن سابحات؛ فما القول في بني البشر، وفيمن يُحسّون بجمال الطبيعة وعبقريّة تجليّها مزدهية مختالة كالحسناء المتبرّجة...
والأخراة: كأنّ امرأ القيس لِمَا كان يرى من أهمية الماء، من حيث هو عنصر للحياة، وللمطر من حيث هو وسيلة للخصب والعمران، ولما كان يرى من تهالك الأحياء على التنافس على مساقطه، وربما التحارب على غدرانه ومدافعه: شاء أن يسجّل، ربما من حيث لم يكن يشعر، ولكن على الطبيعة السمحة، في معلّقته، مشاهد الماء، ومناظِرَ المطر، وَمَرائِيَ العيون والغدران.
لم يكن في البلاد العربيّة إلاّ آبار وعيون قليلة احتفظت لنا بها كتب الموسوعات والمسالك بمعظم أسمائها(5).
كان العرب إذا أحبّوا أحَداً، كما أومأنا إلى ذلك مراراً، دَعَواْ له بالسَّقْيا، وحتى التحيّة، في اللغة العربية، قد يكون اشتقاقُها من الحَيَا(6) الذي هو الخصب والمطر. وناهيك أنّ الحَيا، بالقصر، إن شئت، والحياء، بالمدّ، إن شئت(7)، وهما اللذان يعنيان المطر؛ وردا في المادّة نفسها التي ورد فيها مادَّةُ الحياة.
فماذا كان يكون الشعر الجاهليّ لو خلا من ذكر المطر، ووصف السيول، وملاحظة الأنواء، والتغنّي بالخصب، والتلهّي بالحيا؟ وهل كان يمكن لامرئ القيس أن يضطرب في تلك المضطربات من الجَدْب والخِصْب، ومن الرعد والبرق، والهَطْل والهَتْن؛ ثمّ لا يحتفل بكلّ ذلك في شعره فيخلدّه عبر الأزمنة المتطاولة؟...
المطر والمعتقدات في المعلقات
لا نظنّ أن هناك من ينكر أنّ المطر في عامة المجتمعات البدائية، ومنها المجتمع الجاهليّ، يرتبط بطقوس فولكلورية، وبمعتقدات وثنيّة، وربما بمعتقدات دينيّة صحيحة كسنّة الاستسقاء التي يمارسها المسلمون كلّما ألحّ عليهم الجدب، وشحّت الأمطار في موسم الحرب والزرع... بيد أنّ هذه الفكرة لا ينبغي لها أن تطفح فتفيض فتغرق كلّ ما حوالها من المعقولات...
ذلك بأنّ بعض الدارسين العرب المعاصرين أرادوا أن يؤوّلوا كلّ شيء تأويلاً أسطوريّاً في الحياة الجاهليّة، وأن يربطوا كلّ صغيرة وكبيرة بخرافات بائدة لا نلفي لها أثراً صحيحاً في النصوص الشعريّة المظنونة بالصحة، وفي الأخبار المرويّة المظنونة بالثقة، ولا، ربّما، حتى في الحفريات الأثرية... ومن ذلك ما ذهب إليه الدكتور مصطفى ناصف حين توقّف لدى بعض أبيات امرئ القيس المطرية، ومنها:
أصاحِ ترى برْقاً أُريك وميضه

كلمع اليدين في حَبيّ مُكَلَّل

يُضيء سناه أو مصابيحُ راهِبِ

أمالَ السَّليط بالذُّبَالِ المُفَتَّل


فذهب إِلى أنَّ: البرق يُشبه في تحركه تحرّك اليدين، أو مصابيح الرهبان التي يصبّ الزيت عليها. وبعبارة أخرى: حينما هيّأ الراهب المصباح سقط المطر، فالمطر استجابة لدعوات راهب عظيم.
ويمكن أن نرى تقلّب الكفين سمة من سماته أيضاً. ويبدو أنّ مصباح الراهب وتقليب الكفين أعانا على ولادة المطر. فالولادة ظاهرة في قول امرئ القيس: إنّ السحاب متراكم، يشبه أعلاه الإكليل، وقد لمع البرق وتلألأ في أثنَائه.
هذه صورة واضحة الدلالة على فعل الانبثاق العظيم. وليس عندي شكّ في أنّ المعنى الروحيّ لولادة المطر قد فهِمَه شعراء العربية(8).
ونحن نعتقد أنّ مثل هذا الربط الحميميّ لإسراج الراهب مصباحه، ولابداء المرأة الحسناء معصميها، بتهتان المطر قد لا يقوم له أمر، ولا يستقيم له شأن. وهو يزداد سوءاً حين يقوم على التوكيد واليقين: على أنّ المذهب الذي ذهب إليه الشيخ سليم صحيح. (ويؤكّده قوله: "وليس عندي شكّ في أنّ المعنى الروحيّ لولادة المطر قد فهمه شعراء العربيّة"). وذلك من أغرب المواقف العلميّة التي يمكن أن يقفها باحث-مشهود له بحصافة الرأي- من قضيّة شائكة، بعيدة الزمن، بعيدة الحدوث:
فالأولى: هل كان العرب جميعاً مسيحيّين يربطون حياتهم الروحيّة بالأديرة والكنائس؟ وهل كانت توجد ديور بمكّة ويثرب، والحيرة، وسوائها من الحواضر العربيّة الأزليّة إذا استثنينا بعض الحواضر ذات التأثير الثانويّ كنجران مثلاً...؟ وهل يمكن أن نغيّر مجرى حياة أمّة كانت تقوم، أساساً، على الوثنيّة، والجاهليّة، والعصبيّة العمياء، والثأر، وعدم الارعواء في إراقة الدماء، والطيران نحو الشرّ: فنجعلها وديعة روحيّة، تنهض على التعبّد والتحنّث؟ ولو ربط الكاتب بعض ذلك بما اتفق عليه المؤرخون واللغويون القدامى من وجود بقايا حنيفيّة في المجتمع الجاهلي لَعَسَيْنا أن نسلّم له بِبَعْضِ ما ذهب إليه؛ لكنّه وقد ربط ذلك صراحة، بما لا يبعد عن هذه الحنيفيّة(9)، فإننا لا نستطيع الموافقة على رأيه... إنّ بضعة أديرةٍ كانت بشبه الجزيرة العربيّة كلها ما كان لها لتؤثّر في الحياة العقليّة، والدينية، والروحيّة، كلّ هذا التأثير... ولقد نعلم أنّ كل بيت عربيّ كان فيه صنم صغير يعبده صاحبه وأسرته(9)، فكيف إذن يقوم هذا النص التاريخيّ الماثل في أنه لم يكن:
"يظعن في مكة ظاعن منهم(...) إلاّ حمل معه حجراً من حجارة الحرم، تعظيماً للحرم. فحيثما نزلوا وضعوه فكانوا به كطوافهم بالكعبة"(10).
مع ما قرره مصطفى ناصف؟ بل لقد كان العرب في جاهليّتهم الأولى إذا لم يجدوا حجراً يعبدونه، من بعض تلك الحجارة، جمعوا حثية من التراب، وجاؤوا بالشاة فحلبوها عليه، ثمّ طافوا بها(11).
والثانية: أنّ العرب لم تكن تستمطر ببركة الأحبار والرهبان، كما لم تكن تستسقي بعناية الأديرة والكنائس؛ ولكنها كانت تستمطر بالأصنام والأوثان؛ فقد أجيب عمرو بن لحيّ حين سأل أهل مآب: ما بال هذه الأصنام التي تعبدون؛ أن: "هذه أصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا"(12): فماذا بقي من برهان في قول امرئ القيس:
يضيء سناه أو مصابيح راهب
إلاّ صورة شعرية ماديّة بريئة ممّا حمّلت إياه من هذه المعتقدات والروحيات والرهبانيات...؟ وهل يمكن أن يبقى معنى لقول الدكتور ناصف:
"حينما هيّأ الراهب المصباح سقط المطر؛ فالمطر استجابة لدعوات راهب عظيم".
بعد الذي رأينا من قولي ابن الكلبي وابن كثير القديمين، واللذين يثبتان فيهما وثنية الاستمطار، ومعتقداتية الاستسقاء، وأن الروحانية المسيحية التي يجعلها الدكتور ناصف علة في تأويل بيت امرئ القيس قد تغتدي غير ذات معنى... وإلاّ فعلينا أن نرفض ما ذهب إليه كلّ من ابن الكلبي وابن كثير، ونقبل برأي مصطفى ناصف. وإلاّ فعلينا، أيضاً، أن نرفض النصوص التاريخية التي تبدو موثوقة، ونقبل بمجرد قراءة تأويلية لنص شعري؟ وأنا لنعجب كيف فات الدكتور ناصف، وهو الملم بالتراث، والضارب في مضطرباته كلّ ضربان، أن يلّم على هذه النصوص القديمة ويستظهر بها لدى قراءة نصوص الشعر الجاهلي...؟
والثالثة: إنّ لمعان اليدين الذي يحتج به المتعصبون للقراءة الأسطورية لنصوص الشعر الجاهلي، وبخاصة نصوص المعلقات، والقائمة على المبالغة والتهويل والتضخيم، والذي ورد في قول امرئ القيس:
* كلمع اليدين في حبيّ مكلّل
كان تعبيراً، فيما نحسب، جارياً؛ أو كان تعبيراً مسكوكاً كما يريد أن يعبّر بعض المعاصرين، في اللغة العربية على تلك العهود الموغلة في القدم إذ كان كل عربي يطلق على إشارة اليد بالثوب، أو السوار، أو نحوهما: لمعانا(13)؛ ومن ذلك:
1- حديث زينب، رضي اللّه عنها، : "رآها تلمع من وراء الحجاب، أي تشير بيدها" (14).
2- ورد هذا التعبير نفسه في بيت للأعشى أيضاً:
حتى إذا لمع الدليل بحبه

سقيت وصبّ رواتها أشوالها(15).


3- وورد معناه في قول عديّ بن زيد العبّادي:
عن مبرقات بالبرين تبدر

وبالأكفّ اللامعات سور(16).


والأخراة: إن طقوس الاستمطار لم تكن لديهم قائمة على استدرار البركة من الرهبان العظام؛ كما زعم الدكتور مصطفى ناصف؛ ولكنهم:
"كانوا إذا تتابعت عليهم الأزمات، وركد عليهم البلاء، واشتد الجدب، واحتاجوا إلى الاستمطار؛ اجتمعوا، وجمعوا ما قدروا عليه من البقر؛ ثم عقدوا في أذنابها، وبين عراقيبها السلع والعشر(17)؛ ثم صعدوا بها في جبل وعر، وأشعلوا فيها النيران، وضجّوا بالدعاء والتضوع. فكانوا يرون ذلك من أسباب السقيا" (18).
فأين مصابيح الرهبان من هذا؟ وما صلة تشبيه ينصرف إلى تصوير انعكاس الضوء وانتشاره[وهو تشبيه ضوء كاسح بضوء شاحب من باب تقريب الصورة في ذهن المتلقي] بالاستمطار والاستسقاء في الجاهلية

بالاستمطار والاستسقاء في الجاهلية الأولى؟
إن ما أورد أبو عثمان الجاحظ، بناء على ما كان ورد في شعر أحد أكبر الشعراء الذين سجّلوا العادات والتقاليد والطقوس الفولكلورية العربية القديمة؛ وهو أمية بن أبي الصلت، يبعد تأويل مصطفى ناصف لذينك البيتين المرقسيّين المنصرفين إلى طقوس استمطار المطر... بادّعاء أن امرأ القيس إنما كان يومئ إلى تقليب الكفين؛ وأن العرب كانت تستظهر ببعض ذلك على استمطار المطر... كما أن ما كنا استشهدنا به من أشعار قديمة؛ بما اشتملت عليه من لمع اليدين: قد يضعف من مذهب الشيخ في جعل العرب وكأنهم لم يكونوا يستسقون إلاّ بركة أمثال ذلك" الراهب العظيم" على حد تعبيره.
ثم أين كان الشيخ من الحنيفية الإبراهيمية التي كانت لا تبرح بقية باقية منها في بلاد العرب؛ والتي كانت تسم سلوك كثير من عقلاء العرب وأشرافهم وسراتهم إلى أن جاء اللّه بالإسلام؛ فكانوا يحجون إلى البيت العتيق، ويغتسلون من الجنابة، ويختتنون، ويتحنثون(19)؟ وكيف أهمل الحديث عنها لدى قراءة شعر امرئ القيس، فذهب في تأويله إلى ما ذهب؟
*****
2. الغدران:
الغدران ابنة الأمطار، مَثَلُها مثل العيون والأنهار.
وقد مِرْنا بين هذه الغدران والأمطار التي هي المتسبّبةُ في تكوينها كِأَنَّ الأمطار قد تتهاتن ولكن إمّا أن تتسربَ داخل الثرى وتَغِيَضَ في أعماقها، وإِمَا أَنْ تَسِيَل بها الأوديةُ العميقةُ نحو المنحدرات البعيدة التي قد تمضي بها إلى نحو البحار. ويضاف إلى ذلك أنّ الغدران تمثّل، في المجتمعات البدائيّة، البحيرات والمسابح في المجتمعات المتطوّرة؛ حَذْوَ النعلِ بالنعل. فإنما العذارى، الوارد ذِكْرُهُنَّ في بيت امرئ القيس:
فظل العذارى يرتمين بلحمها

وشحْمٍ كَهُدَّابِ الدِمَقْسِ المُفَتَّلِ


يمّمن الغدير القريب من الحيّ إمّا لغسل الثياب، وإمّا للسباحة والاستحمام.
وللغدران، بعد، أثناء ذلك، خاصّيّة تمثل في أنها مَظَنّةٌ للخِصْب والجمال، والحياة والعمران. فالأمطار قد توجد اليوم، ولكنها قد لا توجد من بعد ذلك إلاّ بعد أسابيع، وربما بعد شهور؛ فتجفّ الأرض من جديد، ويذبل النبات، ويستحيل كلّ أخضر إلى شبه أسود، وتحزن الطبيعة بعد مرح وازدهاء. على حين أنّ الغدران مَظَنَّةٌ لأَنْ يَمْكُثََ ماؤُها، بحكم طبيعتها ووظيفتها أيضاً، شهوراً طِوالا فتتشكّل الحياة الوديعة الخصيبة من حولها ضفافها، وترتع الحيوانات وترتوي منها، وتزقزق الأطيار، وتخضرّ الأرض بجوارها إلى حدّ الازدهاء.
ونودّ أن نتوقّف لدى غدير دارة جلجل، تارةً أخرى. فقد تفرّد، فيما نعلم، برواية أسطورته الجميلة جدّ الفرزدق(20). وقد ظلّ تفسير دارة جلجل في قول امرئ القيس غيرَ متداوَلٍ بين الناس، في حدود ما انتهى إليه علمنا على الأقلّ، إلى نهاية القرن الأوّل الهجري حين حكى الفرزدق لفتيات البصرة، العاريات أيضاً، حكايتَها... ونلاحظ أنّ الفرزدق وقع له ما وقع للشاعر الآخر -امرئ القيس- قبل ذلك بقرنين على الأقل حيث يتكرر مشهد عرى النساء وهنّ يغتسلن في غدير بقرب البصرة، وأنّ الفرزدق وحده هو الذي اهتدى السبيل، أو ضلّ تلك السبيلَ؛ فوقع على أولئك النساء وهنّ يَستَحْمِمْنَ في ماء ذلك الغدير... وإنه حين استحى وعاد أدراجه يريد الابتعاد عنهن، هنّ اللواتي رَغِبْنَ إليه في أن يحدّثهنّ بحديث دارة جلجل... وإذا صحّت هذه الحكاية الجميلة، المتعلّقة، هذه المرة، بالشاعر الفرزدق، لا بالشاعر امرئ القيس، وبنسوة من البصرة لا بنسوة من نجد؛ فإنّ حكاية دارة جلجل لم تَكُ مشهورةً بين عامّة الناس في البصرة التي كانت عاصمة إشْعاع ثقافيّ وأدبيّ ونحويّ لدى نهاية القرن الأول للهجرة، وإلاّ لافْتَرَضْنا أنه يكون في أولئك النساء المستحمّات في الغدير مَن تعرف شيئاً عن حكاية غدير دارة جلجل؛ إذا نفترض أنه كان في أولئك النساء-نساء البصرة- مَن تروى شيئاً من شعر امرئ القيس الغزليّ... ومن العجيب، في كلّ الأطوار الممكنة والمستحيلة معاً، أنْ لا تُرْوَى هذه الحكاية الجميلة المتعلقة بغدير دارة جلجل عن خلف الأحمر، وخصوصاً عن حمّاد الراوية الذي كان هو الذي روى نصوص المعلّقات كما بلغتنا... (21).
وعلى ما في حكاية دارة جلجل من جمال سينمائيّ، وإثارة، ومغامرة، وعُرْي، وإباحيّة؛ وكلّ ما يمنعه المجتمع المحافظ عن الناس... فإنّ الذي يعنينا فيها خصوصاً مائيَّتُها(22).
فالأولى: إن ساحة العذارى -مع عنيزة التي لا يعرف التاريخ- بواقعيّته وأسطوريّته معاً- إلاّ اسمها(23)- في هذا الغدير- لم تحدث لأوّل مرة في التاريخ، ولكننا نفترض أنهنّ كنّ ييمّمنه كلّما كنّ يُرِدْن النزهة والمتاع ببرودة الماء وزرقته وجماله. ومن الواضح أنّ امرأ القيس لم تسنح له تلك الفرصة مصادفة، ولكننا نظنّ أنّ ذلك كان دأباً لديه ولديهنّ جميعاً، مألوفاً؛ فربما كنّ يقصدن الغدير في يوم معيّن، طوال موسم معيّن. من أجل ذلك استطاع أن يتسقط أخبار النساء، نساء الحيّ، ويقص آثارهنّ إلى أن وقع له معهنّ ما وقع، فيما يزعم جدّ الفرزدق الذي يبدو أنه حين حكى حكاية دارة جلجل لحفيده(وقد ذكر الفرزدق أنه كان في سنّ الصبا حين حكاها له إذ يقول: "وأنا يومئذ غلام حافظ"(24) إنما كان يرمي بها إلى ما يرمي الأجداد حين يحكون حكايات لأحفادهم الصغار: التسلية والمتعة، قبل الواقع والتاريخ...
والثانية: إنّ منظر الماء في الغدير، ومنظر العذارى عاريات في هذا الغدير، ومنظر ما يَحْدَوْدِقُ بِجَلْهَتَيْ هذا الغدير: كُلُّها يُحِيلُ على المشاهد البديعة الحسنة؛ فبمقدار ما هي مثيرة، نلفيها، في نفسها، عفويّة بريئة. فكأنّها تمثّل سلوك الطبيعة الأولى، وتجليّات الجمال الغَجَريّ في توحّشه وعذريتّه وحصانته من الاستعمال، ومنعته من الابتذال. فلم يك لأولاءِ النساء، فيما نفترض، أكثر من فلقة واحدة، كنّ يرتدينها لتستر أجسامهنّ، وربما عوراتهنّ فحسب، فمَنْ يدري...؟
ففي مشهد هؤلاء السابحات، في هذا الغدير المغمور بالماء، تكمن العادة في ممارستهنّ السباحةَ عارياتٍ فيه، وَتَمْثُلُ الحضارةُ في حيث إنَّ فِعلَ السِباحةِ يدلّ على الحدّ الأدنى من التمثّل العالي للحياة، والتذوّق المرهف للجمال، والتمتّع الواعي بالطبيعة. كما يكشف عن أنّ النساء العربيّات، على عهد الجاهليّة، كنّ يتنقّلن في الحيّ، أو بين الأحياء، أسراباً أسراباً؛ وكنّ في الغالب يمشين في موكب سيّدة ماجدة، وعقيلة موسِرة(وقد تبلورت هذه العادة الحضارية على عهد الدولة العباسيّة فكانت الخيزران والعبّاسة وزبيدة وغيرهنّ يمشين في عشرات من الجواري...). ويبدو أنّ هذه الماجدة الموسرة هنا كانت عنيزة. فمن أجلها إذن وقع تنقّل العذارى من الحيّ إلى الغدير ابتغاء السبْح والنزهة؛ ومن أجلها، أيضاً، كان امرؤ القيس يقصّ أثار النساء، ويتجسس على حركاتهنّ ومتّجهاتهنّ...
والثالثة: لقد نشأ عن هذه الحادثة-التي نميل إلى أسطوريّتها- شأن آخر لم نكن لنعرفه لولاها: فقد أفضى استيلاء الفتى على ملابس العذارى، وتردّدهنّ تردّداً طويلاً قبل الخروج إلى ملابسهنّ من الغدير وهنّ عاريات، إلى تدبير حَدَثٍ آخر يبدو متكلَّفاً ملفقّاً، ومتدبّراً مقحماً؛ وهو دعوةُ العذارى الفتى الشاعر إلى أن يستضيفهنّ؛ فاستجاب لرغبتهنّ، واقترح عليهن نحر ناقته لهنّ...
وهنا يطفر عنصر المائدة، وهي مسألة تحلو مدارستُها تحت زاوية الأنتروبولوجيا: كيفيّة النحر، والسلخ، وجمع الحطب، وإيقاد النار، وَخضْئِها وتأجيجها، ثم وضع اللحم عليها لينضج بفعل الشَيّ؛ ثم تناول الطعام على ضفاف ذلك الغدير مع العذارى... إنّ هذا المنظر يجمع كل معاني الجمال في أرقّ معانيه، وأروع تجليّاته، وأبدع مشاهداته... فالحيز يستحيل هنا إلى فضاء عبقريّ كأنّه سرّ الحياة ومعناها الأول...
ولمّا كان الحدث هنا، غير تاريخيّ، ولكنه تاريخانيّ؛ ولمّا كان، إذن، سينمائيّاً على الطريقة الهوليوديّة؛ فقد قبلت عنيزة وصُوَيْحِبَاتُها دعوةَ الشاعر المغامر... فنحر الفتى لهنّ مطيّته، وظلوا يشتوون لحمها، ويشربون من بعض خمر كانت في بعض رحله.
ويتسرّب الشكّ إلى تاريخيّة هذه الحادثة، لبعض هذه الأسباب:
أوّلها : إنّ فيها تناقضاً مريعاً، وأموراً لا تتفق مع طبيعة الأشياء، ولا مع تقاليد المجتمع العربي الذي يقوم على الغيرة الشديدة على المرأة...
وثانيها : إنّ الأسطورة، أو ما نراه نحن كذلك، تذكر لدى طفوح حادثة نحر الناقة: عبيداً لم يذكروا من قبل. فهل كان يمكن لفتىً مغامر يتتبّع فتيات في ضاحية من الحيّ أن يصطحب معه عبيداً وخدما؟
وثالثها : يدلّ نحر الناقة على أنّ امرأ القيس لم يكن يتنزّه، ولا يغازل، ولا يتمتّع من لهو؛ ولكنه كان أزمع على سفر طويل، وتَظعان بعيد. وإلاّ فمالَه لم يّتّخذ ركوبته فرساً، واتّخذها ناقة؛ وهي للفارس ليست الرَّكوبَةَ المثاليّة، ولا الركوبة الشديدةَ السرعةِ التي يحرص عليها الظاعن في تَظْعَانَاتِه القصيرة.. كان يجدر بالشاعر الأمير أن يتنقّل على فرسه لا على مطيّته، لأنّ سفره كان للنزهة، ولأنّ الحكاية الأسطوريّة، تزعم أنه كان معه عبيد... ألم يكن من الأولى أن يمتطي هو حصانه، ويترك بعض الجنائب يقودها العبيد لبعض خدماته في الطريق؟...
ورابعها : إنّ هؤلاء النساء حين كنّ أزمعن على الذهاب إلى الغدير(وكان يوماً معلوماً كما يفهم ذلك من نصّ الحكاية نفسها: "فلم يصل إليها(أي لم يصل امرؤ القيس إلى ابنة عمه فاطمة) حتى كان يوم الغدير") (25): ألم يكن من الأولى لهنّ أن يصطحبن معهنّ طعاماً ما، يلي بمتطلّبات النزهة؟ فما بال نحر الناقة، إذن؟ إلاّّ أن تكون تكملة لما كان معهنّ، وإضافة إلى ما كان لديهنّ، فنعم. ولكن، لا نَعَمْ! فقد ثَرِبَتِ العذارى امرأَ القيس فاصطنعن عبارة: "فضَحْتَنا، وحبَسْتنا، وأجعتنا" (26). والشاهد لدينا في هذا هو قولهنّ "وأَجعْتَنا"، وهي عبارة تدلّ على أنهن يَمَّمْنَ الغديرَ ولا طعام معهنّ.
وآخرها : تصور هذه الحكاية هؤلاء العذارى، ومعهنّ هذا الرجل، وكأنهم كانوا يعيشون في جزيرة نائية عن العالم، أو في غابة متوحّشة، أو في فلاةٍ قّفْرٍ: لا نظام، ولا قِيَمَ، ولا شرف، ولا غيرة، ولا حِمِيَّة جاهليّة... إنها حكاية ساذجة، على جمالها، تصور المجتمع العربي، على عهد الجاهليّة، مجتمعاً متحّللاً، إباحيّاً، من رغب إلى امرأة وَصَلَها؛ كما وقع ذلك لامرئ القيس بالأمر المقدَّر، والسلوك المدبّر؛ فظلّ بياضَ نهاره مع هؤلاء النساء، واستولى على ملابسهنّ كيما يَرَاهُن َ كلّهن عارياتٍ: ثمّ لم يحدث من بعد ذلك شيء... بل إنّ أولئك الحسان هن اللواتي دعونه إلى أن يُطعمهنّ من لحم ناقته؛ بحيث لم يغضبن جَرَّاءَ اغتصابِهِنَّ(إجبارهنّ على أن يراهنّ وهُنَّ عَوارٍ).
كما لم تغضب ابنة عمّه عنيزة التي أذلَّها وأهانها، وأقسرها على ما لم تك إليه راغبة أمام صويحباتها، وربما أمام العبيد أيضاً(مادام ذِكْرُ العبيد ورد في نصّ هذه الحكاية): فأين الشهامة العربية التي تتحلّى بها سِيَرُ الرجال، والتي تكتظّ بها نصوص الشعر؟ وأين الشرف العربيُّ الذي تحفل به مواقف الأبطال، في المجتمع الجاهليّ؟ أَلَمْ تَتفانَ بكر وتغلب، ابنا وائل، وهما أختان، من أجل جرح ضرْع ناقة كانت للبسوس خالة جساس بن مرة الشيبانيّ: على مدى أربعين سنة؟ وإذا اندلعت حرب طاحنة من أجل شرف ناقة امرأة كان جسّاس بن مرّة أجارها، في رواية، وأنها خالته في رواية أخرى، ومن أجل شرف طائر كان أجاره كليب وائل(27) أعزّ العرب: فما القول في شرف امرأة سيدة، بل في شرف سيدات عربيّات كنّ يتنزهن فوقع اغتصابهنّ...؟
وكانوا يأنفون أشدّ الأنفة أن يزوّجوا بناتهم لأيّ رجل شاع بينهم أنه وقع في غرام من يريد التزوج منها: خشية العار، وحرصاً على السِّمْع، ورغبة في حسن الصِّيتِ.
أم لم يقتل رباح بن الأسل الغَنَويُّ شأس بن زهير لمجرّد أن حليلته نظرت إليه(ونلاحظ أنّ المرأة هي التي حانت منها التفاتة فشاهدت الرجل وهو يغتسل في عين، وبدون قصدٍ منها هي... لا هو الذي كان ينظر إليها؛ ومع ذلك لم يرحمْه بعلُها، فرماه، وهو غافل في العين، بسهم كان فيه حتفه...) (28)؟ وعلى أننا لا نريد استيعاب هذه المسألة، ولا استقراء البحث فيها، هنا، لأنها معروفة لدى الناس... فكيف إذن يجوز أن نصدّق أنّ دارة جلجل حادثة تاريخية، وأنّ حكاية تعرية العذارى، ومعاقرتهنّ الخمر، ومغازلتهنّ في وضح النهار -وقد كنّ عقيلات كريمات- ممّا يجوز أن يحدث في حيٍّ من أحياء العرب؟
إنّ إيمائَة امرئِ القيس إلى يوم دارة جلجل، ربما كان مجرّد نظرة مختلسة، أو حديث عابر، أو إشارة بعين... فجاء إليها حُكّاةُ الأخبار، ورُواةُ الأساطير، والمُلْتَذُّونَ بما لم يكن، والمتعلّقون بما لم يوجد؛ فأضافوا إليها ما ليس فيها، وأَدخلوا عليها هذه المسحة السينمائيّة، باللغة العصريّة؛ كيما تكونَ مثيرةًً للعجب، وحاملة على الانتباه، وباعثة على التلذّذ والتمتّع... وإلاّ فما لهم سكتوا عمّا وقع لامرئ القيس مع أمّ الحارث الكلبيّة، وأمّ الرباب، وَسَوَائِهَما... إن لم يكن ما ذكره في شِعْرِه مجرّد تَبَاهٍ وادِّعاء، كما كان يفعل بعده عمر بن أبي ربيعة؟ فقد عهدنا الشعراءَ يتزيّدون ويتنفَّجون، وخصوصاً في تصوير صِلاتَهم بالنساء، وخصوصاً امرأ القيس الذي كان يتهم بأَنَّهُ مُفَرَّكُ يَزْهَدُ فيه النساء(29)، ويرغب عنه الحسان، على ما كان موصوفاً به من الوسامة والجمال....
إنّ ما تشتمل عليه الحكاية التي كَلِفَتْ كلفاً شديداً بتجميل الحيز، لم يكن له صلةٌ، في الغالب، حقيقةٌ بالتاريخيّة، ولكنّ صلته بالتاريخانيّة وثيقة. إنّ تلك الحكاية الجميلة تصوّر المجتمع العربيّ قبل الإسلام: كأنّه مجتمع يعيش في غابة، بحيث لا يوجد فرق بين حيوان وإنسان، وبين إِنْسٍ وَجَان... ولم يكن فيه محرّمات محرّمة، ولا ممنوعات ممنوعة: فكل، من رغب إلى شيء ناله، ومن تطلّع إلى رغبة اشْتارَها؛ كما جاء ذلك امرؤ القيس الذي عاد إلى الحيّ ممتطِياً غارِبَ بعير ابنةِ عمه فاطمة(بعد أن كان نحر مطيّته للعذارى، واشتواها لهنّ)، وهو يقبّلها، وهو يعانقها، وهو يغازلها، أمام القبيلة كلها(أمام صويحباتها- وأمام إِمائها، وأمام العبيد....): وَلاَ دَيَّارَ يُنْكِرُ عليه فِعْلَتَه، ولا أحَدَ يَنْعَى عليه سلوكَه... بل آب الشاعر المغامِرُ، العاشق الوامق، أَوْبَة الأبطال إلى الحيّ والقبيلةُ كلها تنظر ولا تعجب، تَرَى ولا تنكر!...
لكنّ الذي يعنينا في رسم هذا الحيز الجميل، ليس الجانب التاريخيّ، بالذات، ولكن الجانب التاريخانيَّ الميثولوجيّ خصوصاً... إنّ الذي أردنا التوقّف لديه، من حادثة دارة جلجل، ليس المنحى العقليّ، ولا الواقعيّ، ولا التاريخيّ، ولكنّ الأسطوري، أو التاريخانيّ؛ نكرر ذلك.
إنّ الذي يتأمّل أمر هذه الحكاية يُحِسُّ إحساساً شديداً بأنّ حاكيها كأنه كان يريد أن يشبع رغبة عارمة كامنة: يشبعها من اللذة الجسدية، ومن ملء العين بِالأَجْسَادِ النسويّة العارية، تحت الطبيعة العارية، وتحت وهج أشعّة الشمس المشرقة، وعلى ضفاف غدير أزرق الماء...
إنه لا يمكن أن يوجد مشهد أجمل من هذا على الأرض... ولا يمكن أن نلتمس حيزاً أروع من هذا الحيز الشعريّ الجميل الذي لا ينبغي أن نكون سذَّجاً فنلتمس البحث في صدقه أو عدم صدقه، أو نسعى إلى مناقشة تاريخيّته من عدم تاريخيته... لأنه لم يكن حيزاً من أجل تصوير واقع التاريخ، ولا وجه الجغرافيا، ولا سيرة الواقع المَعِيشِ في تلك الحقبة من الدهر؛ ولكنه حيز شعريّ خالص؛ كانت الغاية منه إمتاعَ المتلقَّي الشغوف بمثل هذه الحكايات، حكايات العشق والعري، في كل زمان ومكان...
فذلك، إذن، ذلك.
وهناك مواقع أُخراةٌ للماء، وذِكْرٌ لضُروبٍ ممّا يسيل كماء المطر، وماء العين والبئر، وماء السيل، وماء العَرَق، وماء الدمع، في معلّقة امرئ القيس... لم نرد التوقف لديها لسببين اثنين:
أولهما: إنّنا عجلون إلى تحليل المطر والماء في بعض المعلّقات الأخراة. ولا ينبغي أن يجاوز الحديث عن امرئ القيس طورَه، من حيث لا يبلغ عن سِوَائِهِ شأْوَه.
وآخرهما: وهو نتيجة للأوّل، إنّا لو جئنا نحلّل كلّ أحياز الماء بما فيها من جمال، لكان هذا المقال استحال إلى كتاب كامل؛ إذ سينشأ عن ذلك السعي أننا نتوقف لدى جمالية الحيز المائيّ، ولدى أحياز أخراة ذات صلة بهما... وهي سيرة فعلاً تذهب بنا، في هذا السعي، إلى بعيد...
*****
ثانياً: طقوس الماء في معلقة لبيد
لم تخْلُ معلّقة واحدة، من بواقي المعلّقات، من ذكر المياه، أو الأمطار، أو الغدران، أو العيون، أو ما في حكمها، أو ما يكون ملازماً لها، أو ما يكون ذا صلة بها.
وربما يكون لبيد أكثر المعلّقاتيّين، مع امرئ القيس، ذِكْراً للسوائل والسيول، والأمطار والغدران؛ إذ ورد في معلقته ذِكْرٌ لمدافع الرَّيَّان، وَوَدْق الرَّواعد، والجَوْد(بفتح الجيم)، والرِهام، والغَاد المُدْجن، والسيول، والسَرِيّ، والواكف من الدِّيمَة، والتَّسجام، والغَمام، والنِهاء(مفرده: َنِهْي(بفتح النون وكسرها): وهو الغدير)، وَأَسْبل، والخلج...
فكأنّ لبيد بن أبي ربيعة كان يريد أن يسقي شعرَه بهذه السواقي، كما يحتفظ بالماء، ويترقرق بالجَوْد، ويطفَح بالغمَام... وهي سيرة لعلّ الذي حمله عليها ما تتطلّبه الحياة من الماء الذي هو أصل الحياة. إذْ بدونه لا يكون ازدهار، ولا خصب، ولا رخاء، ولا جمال...
ونودّ أن نتوقّف لدى بعض العناصر الدالّة على الماء لدى لبيد، ومنها:
*عَلِهَتْ تَرَدَّدُ في نِهَاءِ صُعَائِدٍ.
إن النِّهاء، في اللغة العربيّة القديمة، يعني الغُدْران. وإذا كان امرؤ القيس أومأَ إِلى ما كان له في غدير دارة جلجل من مغامرات مع النساء، وإن لم يصرّح بذلك تصريحاً، وإن لم يصفه وصفاً... فعزّ على الرواة ذلك وهواة التزيّد في الأخبار فشحنوه بأسطورة النساء العاريات، وما نشأ عن ذلك من مائدة مثلت في نحر المطيّة المرقسيّة للعذارى، ثم العمْد إلى شي لَحْمِها لَهُنَّ، وسَقْيهنّ خمراً كانت معه... فإنّ لبيداً لا يربط الغدران بالنساء، ولكنّه يربطها بالحيوان. فكأنّ الحيز الجميل لديه منصرف إلى الحيوان، قبل الإنسان..
إنه يصف، في هذا المصراع الشعريّ، بقرة وحشيّة فقدت جُؤْذَرَها بعد أن أصابه الصيّادون بسهامهم فقتلوه من حيث لم تستطع، هي، حِمايَتَه، ولا إنقاذَه من مخالب الإنسان القَرِمِ إلى اللحم، والذي لا يشبع إلاّ إذا التهم لُحْمان الحيوانات:
صادَفْنَ منها غِرَّةً فأَصَبْنَها

إِنْ المَنَايَا لا تَطيش سِهَامُها


لقد ظلّت البقرة الأمّ تنتظر، من حول هذه الغدران الجميلة التي كانت تقع في صُعائد؛ فكانت تلوذ نجاة ببعض الشُّجيراتِ التي تَكْفُرُها وتُخْفْيها عن أعين الصيّادين القرِمين: ظلّت تنتظر ابنها لعله أن يَؤُوبَ، وتَرْقُبُ صغيرها عساه أن يعود: طَوالَ ليالٍ سَبْعٍ، بأَيّامها:
عَلِهَتْ تَرَدَّدُ في نِهاءِ صُعَائِدٍ

سَبْعاً تُؤَاماً كامِلا أَيَّامُها


ظلت البقرة الوحشية بغدران صُعائد تنتظر، وتترقب، وتتحسّس، وتتمسك بالأمل الخُلَّب، والرجاء الكُذَّبِ، لعل جُؤْذَرها أنْ يعودَ؛ ولكنْ أنَّى له ذلك وقد هَلَكَ برمية صياد؟...
ومع ذلك، بقيت تلك البقرة تقاوم اليأس؛ فكانت تَأْتَوِي إلى تلك الشُّجيرات التي كانت تتوقّى بها من المطر الهاطل، والوكف الهاتن: لعلّ صغيرها أن يعود...
البقرة عالِهَةٌ حَيْرَى... ولَبَنُها يتغازَرُ في ضَرْعِها... لقد أَلِفَتْ أن تستقبل الجُؤْذَرَ وهو يرضع من لبنها... فأيْنَ صغيرُها إذن ذاك الوديعُ البريءُ الذي كان يعتقد، أو كانت أمّه تعتقد، بغزيرتها الفطريّة أنّ الله وهَبَه الحياةَ ليحيا، لا ليحيا لكي يَخْتَطِفَ منه ذلك الصيّاد القاسي ما وهبه الله من حياة...؟
إنّ لبيداً لا يصوّر، هنا، جمال تلك الغدران، بمقدار ما كان يودّ، أو يودّ نصّه(إذا أوّلناه بحسب مقتضيات مَقْصِدِيَّةِ النص، لا بحسب مقتضيات مقصِديَّةِ الناصِّ): تصوير المآسي التي تقع، حَوَالها، في ذلك الحيز العاري المَخُوفِ، في صراع أبديٍّ بين الإنسان والحيوان، وبين الحيوان والطبيعة، وبين الطبيعة والإنسان: من أجل البقاء.
كان الصراع حَوَالَ غُدْران صُعائد: صراعاً وجوديّاً... فلم يعد الماء سبباً من أسباب الحياة، ولا عنصراً من عناصر الخِصْب والرخاء؛ ولكنّه اغتدى سبباً من أسباب الموت والفناء.... البقرة الوحشيّة الثكلى تُيَمِّمُ الغديرَ لأَنْ تَشَرَب مع إِشراقة شمس الصباح، وبعد ليلة نديّة ممطرة؛ فكانت ترى قوائمها تسيخ في الرِّمال والثَّرى... وتيمّمه أيضاً من أجل البحث الغريزيّ عن صغيرها المفقود... فيصادفها جمع من الصيّادين القرِمين إلى لَحْمِها؛ فيشدّون عليها بكِلابهم ويحاولون رَشْقَها بسهامهم؛ ولكنها تَشُدُّ هي، بدافع الدفاع عن الوجود المشروع، على الكلاب الملاحقة لها؛ فتقتل منها سُخَامَاً وَكَسَابِ؛ ثم تطلق، من بعد ذلك، قوائمَها للريح حتى لا تُصيبَها سهامَ الصيّادين المرسَلة عليها من كلّ اتجاه... إنها محنة وجوديّة رهيبة تمرّ بها هذه البقرة المسكينة التي لا يرحمها على الأرض أحد من البشر... فهي لم تفقد جُؤْذُرُّها فحَسْب، ولكنها، الآن توشك أن تفقد نفسَها أيضاً... فهبوطُها تلقاءَ غدران صُعائد، الحيزِ المائيّ الجميل، بحثاً عن صغيرها الضائع كاد يأتي عليها، فيلحقها بولدها المُتَقَصِّدِ.
يا لها مأساةً تعيشها هذه البقرة على ضفاف هذه الغدران التي كان من المفروض أن تمرح من حولها وترتع، عوض أن تشقى وتقلق!..
الغدير لدى امرئ القيس مصدر للسعادة والمرح والنزهة والجمال والمتاع، ولكنه لدى لبيد مصدر للشقاء والترح والتعب والشظف والصراع من أجل البقاء؛ إذْ لا الصّيادون الذين كانوا يكْمُنون قريباً منه لهذه البقرة الوحشية لاصطيادها حقّقوا ما كانوا يريدون إليه، حقاً؛ حيث على مدى سبعة أيّام من الانتظار والترقّب لم يستطيعوا الظَفر إلاّ بذلك الجُؤذَرِ الغضّ الذي لا يسمن ولا يغني؛ ولا البقرة الوحشيّة استطاعت أن تحتفظ بجؤذرها الفتيّ، وترتع معه، وتشبعه من لبنها الدافئ، وحنانها الغامر...
خسر الإنسان، لدى نهاية الأمر، والحيوان أُلْمَعَا، أمام هذه الطبيعة المتجسّدة في غدران صُعائد... فكأنها غدرانُ شؤمٍ ونكَدٍ، لا غدرانُ خير ورغَدٍ.
والرياح لدى لبيد كأنها ريح. والأمطار لديه كأنها مطر؛ وكأنّ الطبيعة حين تضطرب وتنشز إنما تُبْدِي عن غضَبِها وعُبوسها: فتربدّ سماؤُها، ويتغازر ماؤُها، وتسيل وديانها، وتدوّي بالرعد فِجاجُها؛ فيتضافر ما هو فوق، مع ما هو تحت: ليجعلا مِمَّنْ، ومِمَّا، يعيش على هذه الأرض مُعَنّىً معذّباً، وخائفاً مترقّباً:
باتتْ وأسبلَ واكِفٌ من دِيَمةٍ

يَروي الخمائلَ، دائِماً تَسْجَامُها

يعلو طريقَةَ مَتْنِها مُتَواتِرٌ

في لَيْلَةٍ كَفَرَ النّجومَ غَمامُها


الليل، الظلمات، الحَيا المتواتر، والقَطْرُ المُتهاتن: لا النجوم تُرَى فتُضيء بعض هذه الأصقاع من الأرض؛ ولا السماء تُقْلِعُ فيتاح للأحياء أن يَأْمَنُوا على أنفسهم غضبة هذه الطبيعة الهوجاء. فالبقرة لم تُصّبْ بفقدان جُؤْذُرِها فَقَطْ، ولكنها أصيبت، في ليلها ذلك البهيم، ببَلِيَّةٍ ممطرة باتت تُلِحُّ عليها بدِيمَتها السُّجُومِ.
وما عُفْرُ اللَّيالي، كالدَّآدِي! ليلةٌ دَأْدَاءُ كَفَرَ الغَمَامُ نُجومَ‍ها، وَغَطَّى السحابُ قمرَها وأَدَيمَها، وتناوحت رياحُها: فلم يعد أحدٌ يرى فيها شيئاً: إن مَدَّ يده انقطعتْ، وإن حرّك رجلَه تعثَّرَتْ. ليلُةٌ لا تَسْمَعُ فيها إلاّ تناوُح الرياح، وتصايُحَ الحيوانات، وتباكِيَ الأطفال...
وكلُّ هذه الأهوالِ التي هالَتْ الأرضَ في هذه الليلةِ الدَّأْدَاءِ إنما كان أسبابُها آتِيَةً من هذا الواكِفِ السُّجُوِم، وهذا المطر الهَتُونِ الذي يَفْتَأُ يَسْجُمُ ويدوم.
فعــــل الـمــــاء
وكأنَّ للماء عقدةً مع المعلّقاتيّ لبيد، فهو حين يصف ديار حبيبته يُنحِي باللوائم، من طرْف خفيّ، على جبروت الماء وما تسبّبه من مآسٍ وشقاء، وأتراح وعناء. فهذه السيول سارعت إلى الديار حتى اغتدت عافية. ولولا هذه السيول المتسلّطة لقاومت تلك الديار عوامل الزمن، فظلت كما عَهِدَها الشاعر حين غادرها... لكنّ السيول الجارفة لم ترحمه ولم ترحَمْها، فأمست أثراً بعد عين، ولم تُبْقِ منها السيولُ إلاّ آثاراً تُحْزِنُ أكثرَ مما تُفْرِح، وتشقي أكثر مما تُسْعِد...
إنّ الماء هنا أيضاً لا يكون مَظِنَّةً للسعادة والرَّخاء والنعيم، بمقدار ما يكون مَظِّنةَ شقاءٍ وقساوة وجحيم.
بيد أنّ هذا الماء بأشكاله المختلفة: من غُدران، وأنهار، وأمطار، وسيول، وعيون، لا يلبث أن يثوب إلى جِبِلَّتِهِ الأولى التي يُسِّرَتْ له؛ وهو إخصاب الأرض وتخْضِيرُها، وإِنبات النباتات والتمكين لها في النَّماء. ويمْثُل ذلك خصوصاً في وصف الرسوم والديار، وما آلَ إليه أمرُها بعد أن تَحَمَّل عنها قطينُها:
رُزقَتْ مرابيعَ النُّجوم وصابَها

ودْقُ الرواعِدِ جَوْدُها فَرِهامُها

مِنْ كلِّ ساريةٍ وغادٍ مُدْجِنٍ

وَعِشيَّةٍ مُتَجاوبٍ إرزامُها

فَعَلاَ فروعُ الأيهقانِ وأطفلَتْ

بالجَلْهَتَيْنِ: ظِباؤُها ونَعَامُها

والعِينُ ساكنةٌ على أَطْلائِها

عوذاً تَأَجَّلُ بالفَضاءِ بهامُها

وجلاَ السُّيولُ عن الطُّلولِ كأنَّها

زُبُرٌ تُجِدُّ مُتبونَها أَقْلاَمُها


إنّ هذه الطبيعة المتجسدة في هذه اللوحة الحيزية الخصيبة العجيبة، والمترسمة عبر هذه الأبيات الخمسة لَهِيَ ذاتُ طبيعة عذريّة، كريمة، سعيدة، سخيّة، غنيّة، معطاء. فهذه الديار، أو قل: هذه الآثار الباقية من الديار، ألحّت عليها الأمطار حتّى أصبحت سيولاً تجرفها، وصابَها ودْقُ الرواعد بما هي أمطار غزيرة حتى لم تَتَّرِكْ حجراً، ولا شجراً، ولا غُثاءً، إلاّ اجتثّتْه اجتثاثاً، واقتلعته اقتلاعاً؛ فتخدّد وَجْهُ الأرض، وارتسمت على سطحه ارتسامات كأَنَّها خطوط الكتابة حين تخطّ على صفحة القرطاس.
وماذا عن النهر؟ وماذا عن هذا الأَيْهَقَان المُخضِّر، المُمَرِع الناضِر؟ ثم ماذا عن هذه الظباء المتواثبة وِبَهامِها الرَّاتعة؟ ثمّ ماذا عن هذه العِينِ-هذه الأبقار الوحشّية الواسعات العيون- وهي ساكنة في هذا الوادِ المُمْرِعِ: على أطلائها؟ ثمّ ماذا عن هذه الطبيعة العذريّة الساحرة؟ ثمّ ماذا عن هذه الأمْواهِ الزرقاء، المتغازرة الجارية؟ وكيف سكنت الأبقار وهي تُرْضِعُ أطلاءها؟ وكيف مرحت الظباء وهي تتواثب مع بهامها؟
كأنّ عبقريّة الحياة، بكل ما فيها من نضارة وبهاء، ووداعة وسخاء، لم تتجَلَّ إلاّ في هذا الوادِي الخصيب، ولم تَمْثُلُ إلاّ في هذا الربيع الرطيب؟
الرعود تُدوّي فيتجاوب دَوِيُّها عبْر مَهاوِي الأودية، وخلال الفجاج السحيقة؛ فالأصوات تنحدر من نحو العلاء إلى نحو أعماق الفجاج التي تشبه المهاويَ اللاّمتناهِيَةَ لِعمقها، وَبُعْدِ قَعْرِها. وإنها لَعَشَايَاً عجيبةٌ تلك التي تُرزِمُ فِجَاجُها وَتِلاعُها، وَتَصْدَى جبالُها وسفوحُها. وإنها لعَشَايَا رطيبةٌ هذه التي يدجن سَحابُها، وتغدق سارِيتُها، فتَسْقِي الأرض، وتُسِيلُ الوديان، وتُحْيي الموات، وتُنبت النبات...
إن الماء يعود، هنا، إلى طبيعته الأولى. إنه يتّخذ له وظيفة طقوسيّة بحيث تتجاوب السماء مع الأرض، ويتضافر الأسفل والأعلى، وتتهيّأ كلّ الكائنات الحيّة لاستقبال هذا الماء، هذا المطر، هذا الحيا: بما هو له أهل من العناية والاحتفاء والاحتفال: والإنسان في كلّ ذلك يستوي مع النبات والحيوان. بل رُبَّتَمَا ألفينا هذا الدأْبَ يتجلَّى في سلوك الحيوانات أكثر ممّا يبدو في سلوك الإنسان الذي يعنيه على كلّ حال، كثيراً، أمرُ هذا المطر الذي بفضله يتغافص نبْتُ النبات، وتربُو فروعُ الأيقهانِ، وتُخْصِبُ الجَلْهَتَانِ، وتتناسل الأبقار فتتكاثر حتّى يكتظّ بها الوادي، وتتلافح الظباء فتتعدّد حتى تحتلف بها السفح: فيَيْسُرُ على الإنسان اصطيادُها إن شاء، ويتمتع بالنظر إليها إن شاء، وَيَعُبُّ، في ماء المطر إن شاء...
فالماء هنا هو الحياة نفسها.
فما كان للإنسان ليكون لولا هذا الماءُ الذي بفضله كان له كلُّ شيءٍ على الأرض ممّا يشتهي أكلَه أو شربَه، أو لمْسَه أو شَمَّه...
وإذن، فغدران صُعائد الشقيّة المُشقية مَعاً ليستْ إلاّ أمراً عارضاً، وشأناً عابِراً، لتلك البقرة الوحشية التي اصْطِيدَ طَلْؤُها فأمستْ ثَكْلَى: تبغم وتخور، وتضطرب من حولها وتدور، لعلّها أن تقع على جُؤْذُرِها المفقود، ولكن سُدىً!.. الأبقار هنا ساكنات على أطلائها تُرْضِعُها من ألبانها، بعد أن كانت اُرْتَعَتْ وَرَتَعَتْ، وشرِبَتْ فَرَوِيَتْ. وإنما يدلّ سكونُها على أمريْن اثنين:
أولهما: إن كثرة الكلأ جعلتْها تَشْبَعُ من الارتعاء من أوّل مَرْتَعٍ. فقد أغنتْها الأكلاءُ والأعلاف والأعشاب عن أن تركُضَ وراء العُشَيْبَاتِ الشاحبة الذابلة المتباعدة المواقِعِ: تقْضِمُها وَتخْضِمُها.
وآخرهما: إنّ سكون هذه العِينِ قد يعود إلى أنها كانت آمنةً على نفسها من الصيادين الذين هم أيضاَ، لِمَا كان أصابهم من خِصْبٍ، صابَهُمْ من جَدىً، أمْسَوْا في غنىً، ولو على هونٍ ما، عن اصطياد هذه الأبقار والتماسِها تحت كلّ صقع. أو لتكاثر هذه الأبقار، في ذلك الموسم الخصيب، أَمِنَتْ على نفسها، في هذا الوادي الذي يبدو أنه كان منقطعاً عن العمران، بعيداً عن السكّان. إنّ الحيز، هنا، بديع، لأنه مُمرع خصيب، وجميل، لأنه مُخْضَوْضِرٌ قشيب؛ ونضير، لأنه يقوم أساساً على غزارة الماء، الهاطل من السماء....
ويغيب الصيّادون، هنا، عن هذا المشهد العجيب، كما يغيب عنه الرِعاءُ: فأيْنَ سهام الصيّادين المترصّدة؟ وأين المرتادون ليجلُبوا على هذا الوادي بشائِهِمْ ونَعامهم فيغضّ بهم وبها، ويصطخب بأصواتهم وصيحاتهم؛ فيمسي هذا الحيز مضطرباً بالحركة، مصطِخباً بالأصوات...؟
*****
ثالثاً: طقوس الماء في معلقة عنترة
لم يَكُ عنترة بِدْعاً من المعلَّقاتييّن الآخرين في معلقته التي ورد فيها ذكر العيون، والسَّحّ، والتسكاب، والقرارة، وماء الدحرضين، والروضة الأنف، والغيث، والنبت، وحياض الديلم، كما ورد فيها ذكر الشراب-الذي هو سائل- مراراً...
غير أنّ الماء في معلّقة عنترة لا ينهض على وجوديّة عارمة، كما لاحظنا ذلك في معلّقة لبيد العجيبة، وخصوصاً حين يربط وجود غديرٍ صُعائد بحياة البقرة التي هي إن ظلّت بعيدةًعن الغدير أوشكت أن تهلك ظَمَأً، وتمعن يأساً من العثور على طَلْئِها، وإن هي هبطت إلى الغدير فإنها توشك أن تتعرَضَ لِخَطَر الموت، ولسِهام الصّ‍يادين المترصّدة، ولمطاردة الكلاب المتحرّشة، ولكلّ الطوائل والمحن... فما عسى كانت أن تصنع وقد بُليَتْ بأمريّن اثنين كلاهما مُرٌّ وضُرٌّ: الثكل، والوقوع تحت طلب الصيادين الجشعِين...
صورةُ الماء، وطقوسُ السوائل في معلّقة عنترة أبسط من ذلك كثيراً... إنها لا تحمل فلسفة الصراع من أجل البقاء، ولا المناضلة من أجل الحياة، إلاّ في صورة تنشأ، أصلاً، عن هَطْلِ المطر، وتَغازُرِ الماء، واندلاع الربيع، وفيض الخصب. وهي صورة الذباب التي كان أبو عثمان الجاحظ أُعْجِبَ بها إعجاباً شديداً، والتي يجسدها قوله في وصف الروضة الأُنفِ التي يجتابها الذباب، وتكثر من حولها الحشرات:
أو روضةً أُنفاً تَضَمَّنَ نبْتُها

غيثٌ قليلُ الدِمْنِ ليْس بمُعْلِمِ


جادَتْ عليها كُلُّ عين ثَرَّةٍ (31)

فتركْنَ كُلَّ حديقةٍ كالدِرْهَمِ

فترى الذُّبابَ بها يُغنّي وحّدَه

هَزَجاً كفعل الشّارِب المترنِّمِ

غرِداً يَحُكُّ ذراعَه بذراعه

فِعْلَ المُكِبّ على الزِّنَادِ الأَجْذَمِ (32).


إنها ملحمة الماء والخصب في هذه اللوحة الحيزيّة البديعةِ الجمالِ، والتي تتغافص فيها السمات اللفظيّة المائيّة، والسمات التي لها صلة بجمال الماء؛ فَيَقُصُّ بعضها بعْضِاًً، وذلك مثل: الروضة الأُنفُ، والنبْت، والغيث، والدمن، والربيع، والجود، والبكر الحرّة(السحابة الممطرة)، وقرارة الماء، والسَّحّ، والتسَّكاب، وجَرَيان الماء الذي لا يتصرّم سيلانُه...
وإذا كانت أمواهُ النهر وضفَّتيْه الخصيبتَيْن ذُكِرَتْ لدى لبيد في معرض الأمْن الذي استتبّ في ذلك الوادي حتى أمِنَتْ فيه الأبقارُ الوحشيّة على نفسها وعلى أطلائها من غائلة الصيادين؛ كما كانت أمنتْ معها الظباء وبهامُها؛ فإنّ الخصب هنا -الروضة الأنف وما كان له صلة بها- ذُكِرَ عَرَضاً من أجل تشبيه ثَغْرِ الحبيبة عبلة وُوضوح غروبها، وطِيبُ مُقَبَّلِها أوّلاً، ثم من أجل وصف ربوعها الدراسة، وديارها البالية: فذكر مع ذلك، أثناء ذلك، هذا الذباب السعيد الذي خلا بهذه الروضة الأنف، إذا حقّ للحيوان أن يسعد: وذلك بفضل ما وقع له من هذا الخصب الخصيب، وهذا الجو الرطيب، وهذا الكَلأ المتكاثر، وهذا النبت المتغافص، فصار من فرْط سعادته ورِضاه، غِرداً هِزجَاً، ومتغنيّاً مترنّماً، يحك الذراع بالذراع، كفعل المكبّ الأجذم حين يقدح بعودين اثنين.
أخيراً: وقد كان الجاحظ أعجب، بهذه الصورة الغجريّة العذريّة، إعجاباً شديداً فلاحظ أن عنترة لم يُسْبَقْ إليها في الشعر العربيّ، ولم يلاحقه فيها أحد من الشعراء مخافَة أن يقصروا عما بلغه هو فيها من الجودة وحسن التصوير؛ فزعم أنْ لوْ "أنَّ امرأَ القيس عَرَضَ في هذا المعنى لعنترة لافتضح" (33)، وأنّ الشعراء كانوا يقلّدون كلّ "تشبيه مصيب تامّ"(34) سبق إليه شاعر منهم" إلا ما كان من عنترة في صفة الذباب، فإنه وصفه فأجاد صفته، فتحامى معناه جميع الشعراء فلم يعرض له أحد منهم"(35).
ونحن قد كنّا رددنا على أبي عثمان، في غير هذا المقام، حيث إننا لا نشاطره الرأي، وأنّ الشعراء لم يتحاموا هذه الصورة بمقدار ما تجانَفوا عنها لقذارتها وَبَشَاعَتِها. فلو كانت هذه الصورة تتعلّق بثغِر امرأة جميلٍ، أو بشذى وردةٍ عبق، أو بقدِّ حسناءَ ممشوقٍ- كاتفاقهم في وصف المرأة بالكشح اللطيف (امرؤ القيس)، أو الأهضم (عنترة)، أو كشح جنوبيّ (عمرو بن كلثوم)... أو بعيني الحبيبة السوداويْن المشبّهتين غالباً بعيون ظباء وجرة (امرؤ القيس- لبيد)، وببقر وَحْشِ تُوضِحَ.... لكانت الشعراء تَسَابَقَتْ إليها، وتهافتَتْ عليها، وَكَلِفَتْ بها كلفاً شديداً؛ ولكانت، إذن، جَرْت في أشعارها، ولتكاثرت حتماً في آثارها... أمّا والأمر منصرف إلى الذباب الساقط، وهيئته المستبشعة، وقذارته المستسمجة، وإلى طنينه المزعج، وغنائه المضجر، ولسعاته المؤذية، وتكالبه على الناس لَيَعَضَّ جلودهم، ولِيَسَّاقَطَ على شرابهم فيتحاموه، وليحطّ على طعامهم فيعافوه... حتى إنه ورد في الأثر الشريف بأنّ "الذباب في النار" (36). وقد كانت العرب تكنوا الرجلَ الأبخر: "أبا ذباب" (37).
أفيعقل مع كلّ ما ذكرنا، أن تتهافت الشعراء على صورة الذباب القذرة المتوحّشة لتلهج بها بدل المناظر الجميلة، والمشاهد العجيبة، والأصوات الرنينة، والحركات الرشيقة التي تأتيها الحَشَراتُ الأخراة الجميلة والنافعة كالنحل والفراش...؟
وأياً كان الشأن، فإنّ الذي يعنينا، هنا والآن، أنّ المطر هو الذي كان علّة في إخصاب حيز الروضة الأنف التي تكاثرت حشراتها، وتكالب ذبابها؛ فكانت تنتقّل من نبتة إلى نبتة، ومن عشبة إلى عشبة أخراة: التماساً للغذاء، وطلباً للحركة، ورغبة في التسافد...
والذي نلاحظ أنّ الماء كأنه أشدّ ارتباطاً بالحيوان منه بالإنسان، إلاّ ما كان من غدير دارة جلجل (الحيز المائي الذي صوّره امرؤ القيس الفتى المتأنِق الذي لم يبرح يطوّف في بلاد العرب، إلى أن انتهى به التطواف إلى الشام، ثم إلى بلاد الروم، ثم إلى قصر القيصر...) وإلاّ فإننا كنّا ألفينا لبيدا يتحدث عن البقر العِيَنِ وهنّ ساكناتٌ على أطلائِها، على جَلْهَتَي الوادي، دون ذكر للإنسان الذي كان هو الأَوْلَى بالإحساس بالخصب، والأجدر بالحرص على تَسجام الغَيث.
كما نلفي الشَّأْنَ نفسَه لدى عنترة في وصف الحديقة الغنّاء التي ربط كلّ ما فيها من نبات وزهور وأعشاب وأكلاء بهذا الذباب التي تحوم خِلالَها بدون توقّف ولا مَلَلٍ ولا كَلَلٍ.
فالماء، إذن، في التمثّل البدائي أنه كان للحيوان والنبات، ثم الإنسان الذي يتسقّط مساقطه، ويرتدي مراعَيه حين يجودها فتربو وتنمو. وكأنّ الإنسان مجرّد شريك للحيوان الذي هو هنا ذو حقوق متساوية معه، فيه.
*****
رابعاً: طقوس الماء في المعلقات الأخراة
لم تَخْلُ أيُّ معلقّةٍ من ذِكْرِ الماء، والتعامل مع المطر، وربطه بالحياة البدويّة الصحراوية بكلّ ما فيها من شَظِف العيش، وشقاوة السعْي، وشحّ الطبيعة وقساوتها. ولعلّ زهير بن أبي سلمى أن يأتي، بعد لبيد، وامرئ القيس، وعنترة، في المرتبة الرابعة من حيث الإيلاعُ بذكر الماء، ومن حيث القدرةُ على توظيفه في معلّقته، ومن حيث، خصوصاً، ربُطُه بالحياة والأحياء، وذلك حين يقول:
بها الْعِينُ والأرآمُ يمشِينَ خِلْفَةً

وأطلاؤُها ينهَضْ من كُلِّ مَجْثَمِ (....)

وفيهنّ ملهَّىً لِلَّطِيفِ ومنظَرٌ

أنيقٌ لِعَيْنِ الناظِر المتَوسِّمِ


وقوله أيضاً:
* فهنّ ووادِي الرَّسِّ كاليَدِ لِلْفَمِ*
*فلمّا وَرَدْنَ الماءَ زُرقْاً جِمَامُهُ*
ولكننا نلاحظ أن زهيراً يتناصّ في هذه اللقطة الشعرية مع عنترة في الأبيات التي قدمناها منذ قليل، ومع لبيد قوله:
فعلا فروع الأيهقان وأطفلَتْ

بالجَلْهَتَيْنِ ظِباؤُها ونَعامُها( ...)

*والعِينُ ساكِنَةٌ على أَطْلائِها*


وربما مع قول امرئ القيس أيضاً:
تَرَى بَعَرَ الأرآم في عَرصاتِها

وقيعانِها: كأنه حبُّ فُلْفُلِ


فكلُّ هذه الصوِر يَتَقَارَبث ويتشابه، وَيَنْسُجُ بعْضُها على بعضها الآخر. فهناك: العِينُ، والأطلاء، والأرآم المتلاعبة، لدى زهير، حتّى كأنّ الصورتيْن في المعلّقتين هما صورة واحدة. وهناك منظر أنيق لعَيْن الناظر المتوسّم، لدى زهير أيضاً. بينما هناك لَعِبَ الربيعُ بربْعِها المتوسمّ، لدى عنترة. على حين أنّ امرأ القيس لم يذكر إلاّ بعر الأرآم في العرصات، فذكر السمة الحاضرة (البعر) الدالّة على السمة الغائبة (الأرآم)؛ فكلامه يجري مجرىً سيماءَوِياً قائِماً على اصطناع القرينة من باب: لا دُخانَ بلا نار. وعلى أنه يمكن أن يُقْرَأَ على أنّه سمة مُماثِليَّةٌ(إقونيّة)، إذا راعينا أنّ مثل هذا البَعَر الأسود المتساقط في العَرَصات لا يدل لدى العارفين، على إبل، ولا على شاة، ولا على بقر، ولا على ظباء. وإذ اختصَّتْ هذه السمةُ الحاضرة بالسمة الغائبة التي لا يمكن أن تخرج عن جنس الظباء البيض، فقد اغتدى هذا الكلامُ وارِداً مَوْرِدَ ما نطلق عليه نحن في مصطلحاتنا "المماثل" (أي"الإقونة"، بالمصطلح الأجنبيّ).
وصورة الحيوانات في معلّقة زهير، صورة تقوم على الماء والخصب:
*رَعَوْا ظِمْأَهُمْ

* بها العِينُ والأرآمُ يمشين خِلْفَةً

وأطلاؤُها ينهضْ من كلّ مَجْثَمِ


إذ لولا الغيث النازل، والمطر الهاطل؛ لما وقع هذا الرعْيُ لهذا الكلأ المُخْضَوْضِرِ، ولما تواجدت هذه الأبقار الوحشية، وهذه الظباء الجميلة: المُطْفِلَة. فولا الإمراعُ لَما حدث تلاقح هذه الحيوانات وتسافُدُها، ولما أطفلت، إذن، ما أَطْفَلَتْ. لكننا نلاحظ، أثناء ذلك، أنّ زهيراً يتفرّد، عن بعض المعلقّاتّيين الآخرين، بربطه الماء بالإنسان، وخصوصاً بمواقف الجمال، ومآقط الحُسْنِ والدّلال، أي بالنساء الجميلات السَّاحرات، فكأنّ الماء لم يكن، من منظوره، إلاّ من أجل الحسناوات؛ وإلاّ من أجل أن يسْعَدْنَ في رِياضه، وَيرْفُلْن في أزهاره، ويستمتعن بَسَيلانِهِ وهو يسيل، ويتشنّفن بخريره وهو يَخِرُّ:
*فهنّ ووادي الرسّ كاليد لِلْفَمِ

*وفيهنّ ملهىً للطيف ومنظرٌ

أنيق لعَيْن الناظر المتوسِّم

*فلمّا وردن الماء زُرْقاً جِمامُه


فلأوّل مرة نصادف في معلّقة تخصيصَ الماء للإنسان، صراحةً ، ووقْفَه عليه، وجعْلَه يستمتع به، ثم جَعْلَه، خصوصاً، يُحِسّ به:
*فلمّا وردن الماء زرقا جِمامُه

وضعْنَ عِصِيَّ الحاضِرِ المُتَخَيِّمِ


فما هنّ إلاّ أن يَردْنَ هذا الماء الصافِيَ الرقراق الذي تكتظّ به هذه البئر الثَّرَّةُ؛ وإذا هنّ يُبْهَرْنَ بما في هذا الماء الزّلال من جمال، وعذوبة، وصفاء، وشفافة: فيقرّرِن الإضراب عن المسير، ويُزمعن على الثواء من حوله: فيُطَنِبْنَ الخيام، ويُزَمِعْنَ المُقام.
فلم يكن تخييمُ أولاءٍ النساء، ومعهنّ بعولُهُنَّ وأطفالُهنّ وأقاربهنّ، هنا، إلاّ من أجل جمال هذا الماء؛ إذ كان هو عنصر الحياة الأوّل، وسرّها الأكبر. فنساء دارة جلجل لم يكدن يستمتعن بالماء إلاّ ساعةً من نهار، لَمَّا تعرّضن للمضايقة والفضيحة حين استحوذ امرؤ القيس، فيما تزعم الحكاية، على ملابسهن، ثمّ زايلْنَه، وربما إلى غير إياب. بينما الماء لدى لبيد وعنترة لا يكاد يتصّل شأنه إلاّ بالحيوانات. فكأن سعادة تلك الحيوانات من سعادة الإنسان، أو كأنّ تلك الصور الخصيبة، والمشاهد المُمْرِعَة، سمة حاضرة تجسّد سمة غائبة: هي حياة أولئك البدو الذين كانوا يرتادون الكلأ، ويتسقّطون مواقع الماء، ويتوخّون المآقط التي يكون فيها خصب وريٌّ، وعُشْب وَكَلأٌ. فتسمنُ أنعامُهم متى ارتعوها، وتَرْوَى إبِلُهم متى أوردوها؛ إذْْ كانت حياتُهم من حياتها، بل وجودهم من وجودها.
وأمّا عمرو بن كلثوم فإنه يرقى بالماء إلى أنه أساس الوجود، وسرّ العزّة، وقوام السلطة؛ وأنه وقومَه كانوا لا يبالون، حين يطلبون الماء ويلتمسون الخصب، أن يقتلوا من يُلفونه في سبيلهم من أجله:
ونشرَبُ إِن ورَدْنا الماءً صفْواً

ويشرَبُ غيرُنا كدَراً وطِيناً


إنّ هذا البيت يواري وراءه عالَماً معقّداً من الصراع الضاري من أجل الماء، في الحياة الجاهليّة، حيث كثيراً ما كانوا يتقاتلون على الماء، أو حول الماء، أو من أجل الماء. ويعني ذلك أنّ القبائل الخاملة، كانت ربما التمست من الماء أملحه، ورضَيتْ من العيون بأكدرها: فكان الماء العذب الزلال وَقْفَاً على القبائل العزيزة، والبطون الماجدة التي تقوى على البطش والصراع.
*****
إنّ الماء حين يذكر في المعلقات، إنَّما يذكر:
1. إمّا غيثاً هاتِناً تُخْصِبُ عليه الأرضُ، وينمو به النبت:
2. وإمّا شآبيبَ غزيرةً تقع منها السيول، وتسيل بها الأودية:
*من السيل والأغثاء فلكهُ مغزَلِ(امرؤ القيس)،
*وألقى بصحراء الغبيط بَعَاعَهُ(نفسه)،
*كأنّ السباع فيه غرْقَى عِشيَّةً(نفسه)،
*وجلا السيولُ عن الطُّلولِ (لبيد)؛
3. وإمّا غُدْراناً يسبح فيها العذارى، وتَرْوَى منها الحيوانات:
*ولاسيما يوم بدارة جلجل(امرؤ القيس)،
*شرِبَتْ بماء الدُّحْرُضَيْنِ فأصبحَتْ

زوراءَ تنفُرُ عن حِيَاضِ الدَّيْلَمِ(عنترة)،

عَلِهَتْ تَرَدَّدُ في نِهاءِ صُعَائِدٍ

سَبْعاً تُؤَاماً كاملاً أَيَّامُها(لبيد)؛


4. وإمّا عيوناً ثرثارة يغتسل فيها الناس، ويستقون منها ما يشربون:
*فمدافِعُ الرَّيَّانِ(لبيد)،
*فتركن كلّ حديقة كالدرهم (عنترة)،
*فلمّا وردن الماء زرقا جِمَامُهُ

وضَعْنَ عِصِيَّ الحاضِر المتوَسِّمِ(زهير)؛


5. وإمّا أنهاراً صغيرة، يكثر الخصب على ضفافها:
*فتوسّط عرض السرى(لبيد)،
*وأطفلَتْ بالجَلْهَتَيْنِ ظِباؤُها وَنَعَامُها(لبيد أيضاً)؛
6. وإمّا عُيوناً أو آباراً يشتدّ من حولها الصراع، فلا ينالها إلا الأعزّ، ولا يُبْعَدُ عنها إلاَّّ الأذلالّ:
*ونشرَبُ إِن ورَدْنا الماء صفوا

ويشرب غيرُنا كَدراً وطينا(عمرو بن كلثوم)؛


7. وإمّا بحراً طامِياً، تمخر فيه الفُلْكُ:
*يَشُقُّ حَبابَ الماءِ حيزومُها بِها (طرفة)،
*وماءُ البحر نَمْلَؤُه سَفِينَا (عمرو بن كلثوم).
إحالات وتعليقات:

يراجع الدكتور أنور أبو سليم، المطر في الشعر الجاهليّ، بيروت، 1987 . <LI value=1>الجاحظ، الحيوان، (مجازات متفرقة من هذا المصدر). <LI value=1>الثعالبي، فقه اللغة، وابن سيده، المخصصّ... الخ... <LI value=1>أنور أبو سليم، م. م. س.، ص 45 وما بعدها. <LI value=1>يراجع مثلاً: ياقوت الحموي، معجم البلدان، (عين). <LI value=1>ابن منظور، لسان العرب، حيا. <LI value=1>م. س. <LI value=1>الدكتور مصطفى ناصف، قراءة ثانية لشعرنا القديم، منشورات الجامعة الليبيّة، كليّة الآداب، ليبيا(بدون تاريخ)، ص126 وما بعدها. وانظر أيضاً، أنور أبا سليم، م. م. س.، ص48- 49. <LI value=1>ابن قتيبة، كتاب العرب، ص372، في رسائل البلغاء، وابن منظور، م. م. س.، (حنف) 9م- ابن الكلبي، كتاب الأصنام، تحقيق أحمد زكي، مجازات متفرقة من هذا الكتاب.
<LI value=1>ابن كثيرة، السيرة النبويّة، 1 . 62 . ابن الكلبي، م. م. س.، ص 6- 8. <LI value=1>م. س. <LI value=1>م. س. <LI value=1>ابن منظور، م. م. س، لمع. <LI value=1>م. س. <LI value=1>ديوان الأعشى، ص153. ويروى أيضاً: "أوشالها"، وهي اختيار ابن منظور، م. م. س. <LI value=1>"لمع الرجل بيديه: أشار بهما، وألمعت المرأة بسوارها وثوبها كذلك" (ابن منظور، م. م. س.، لمع). وانظر أيضاً شرح ديوان حماسة أبي تمّام، للمرزوقي، ص2. 631- 632، 743، والجاحظ، م. م. س.، 5. 521 . <LI value=1>السلع والعشر: ضرب من الشجر كان يوقد في مثل هذه المناسبة المعتقداتيّة. <LI value=1>الجاحظ، م. م. س، 4. 466. هذا، ويورد الجاحظ ثمانية أبيات لأميّة بن أبي الصّلت يتحدث فيها عن هذه الطقوس الاستمطارية: م. س.، 4. 466- 468. <LI value=1>ابن قتيبة، م. م. س.، ص. 361، وابن منظور، م. م. س.، حنف. <LI value=1>راجع أبا زيد القرشي، جمهرة أشعار العرب، 38- 39(بولاق)، وابن قتيبة، الشعر والشعراء، 1. 64 -66، مثلاً. <LI value=1>ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 4. 140. ونصّ الحديث: "وذكر أبو جعفر أحمد بن محمّد النحاس أن حماداً هو الذي جمع السبع الطوال". <LI value=1>كتبنا مقالة عن جماليّة الحيّز، ومنها قسم ينصرف إلى الحيز المائيّ، ضمن هذا الكتاب، فلترجع. <LI value=1>ابن قتيبة، م. م. س. <LI value=1>القرشيّ م. م. س. <LI value=1>م. م. س. <LI value=1>ابن عبد ربه، العقد الفريد، 3. 71، والجاحظ، م. م. س، 1. 120- 123. <LI value=1>م. س، 5. 133- 134 . <LI value=1>ابن قتيبة، م. م. س.، 1. 63 . <LI value=1>الجاحظ، م. م. س.، 3- 127 و311 -312 .
لقد وقع اضطراب شديد في رواية أبيات عنترة وترتيبها، والحذف منها: بين الزوزنيّ، والقرشيّ، والجاحظ الذي روى الصدر من البيت الثاني في هذا الشاهد كما أثبتناه؛ وكأنّ الضمير في"طيها" يعود على"الروضة الأنف" لديه. بينما رواية الزوزني:
جادت عليه كُلُّ بِكْرٍ حُرّة

فتركن كلّ حديقة كالدرهم


ولا ينبغي للضمير لديه أن يعود على شيء مذكَّر في البيت السابق، كما أن الشرح الذي كتبه حول هذا البيت ليس جيّداً حيث الاضطرابُ فيه بَادٍ. بينما رواية القرشيّ أعلى وأدنى إلى منطق الترتيب لهذه الأبيات: لولا ما ورد فيها من هذا البيت الذي لا يخفَى التكلُّفُ في دَسِّهِ، وخصوصاً ما جاء في صدره:
وبحاجب كالنون زُيِّنَ وجْهُها

وبِنَاهِدٍ حَسَنٍ وكَشْحٍ أهْضَم


فعلينا أن نكون سُذَّجاً غَفَلَةً لكي نصدّق أنّ الشاعر الجاهليّ كان يُشَبِه شكْلَ الحاجِبِ الأَزَجِّ بشكل حرف النون(وهو على كل حال تشبيه سيئ، لأنّ شكل النون مقوّس أكثر بكثير من شكل الحاجب الذي يشبه شكله شكل الهلال مثلاً... فالحاجب الذي يشبه شكل النون يجب أن يشبه شكل حاجب الشيطان، كما يجب أن يتمثّله الخيال...)، فهنا يستحيل عنترة من حامل للرمح والسيف، إلى حامل للقلم والقرطاس، وهو أمر غيرممكن. وإذن فالبيت منحول مدسوس، والذي نحله ليس ذكيّاً ولا مثقفا بالثقافة التاريخية...
والذي يعنينا، هنا، أكثر هو أنّ معاد الضمير لدى القرشي، مطابق لما ورد في رواية الزوزنيّ، ولكنّ معاده واضح حيث يلتفت إلى رَبْعِ عبلة:
ولقد مررتُ بدار عَبْلَةَ بعدما

لَعِبَ الربيعُ بِرَبْعِها المتوسِّم


ويضاف إلى كلّ ذلك أن رواية الجاحظ "كلّ عين ثرّة"، ورواية الزوزني والقرشي: "كلّ بكر حرّة".
ونحن كنّا نؤثر أن تكون رواية صدر بيت عنترة على هذا النحو:
*جادَتْ عليها كُلُّ بِكْرٍ حُرَّةٍ*
فلعلّ تلك الصياغة أدنى إلى أن تتلاءم مع ما سبقها من معان...
31. الزوزني، شرح المعلّقات السبع، 140- 141؛ والجاحظ، م. م. س.، 3. 312؛ والقرشيّ، م. م. س.، ص 95.
32.الجاحظ، م. س.، 3. 127 .
33.م. س.، 3. 311 .
34.م. س.، 3. 331- 312.
35. ابن منظور، م. م. س.، ذبب.
36.م. س.

**د لا ل**
2012-02-11, 17:19
نظام النسج اللغوي في المعلقات
حين نتحدّث عن نظام النسج اللغويّ، قد لا نستطيع المروق من جلودنا، ولا الإفلات من قبضة طبيعة الأشياء. وإذن، سنقع، حتماً، تحت سلطان الأسلوبيّة. وحين نتحدّث عن الأسلوبيّة، فإننا لن نستطيع إخراجها، هي أيضاً، من إهابِها، ولا تغريبها عن وضعها الذي وُضِعَت فيه، وَقَدَرِها الذي قدّرت له، ومَنزِلَها الذي بُوِئَّتْ إيّاه. فإنما الأسلوبيّة تعني، أو قد تعني، في أشهر التعريفات: الإجراءَ الذي يضبط سطح النظام النسجيّ للكلام؛ إمّا في نص من النصوص، وإما في مجموعة من النصوص تشكّل أدباً بِرُمَّتِه، في عصر من العصور، وعبر لغة من اللغات.
وسينشأ عن هذا التمثّل الذي نتمثله نحن للأسلوبيّة على الأقلّ، بشيء من التجاوز والتسطيح، والتسامح والتعميم: أنّ الحديث عنها، أي عن نظام النسج اللغويّ في نصوص المعلّقات؛ أننا لا نخرج عن ملاحظة الاسْمِ والفعل، وعلاقة أحدهما بالآخر، وتوظيف بعضهما بإزاء بعض- نسجيّاً(أسلوبياً) لا نحوياً- ثم عن ملاحقة النداء والاستفهام والقَسَمْ والتشبيه، ثم نُحاول التوقف لدى ما نتوخّى أنه يمثّل نسج النصّ-أو نسج النصوص- ويجسّد روحه جميعاً.
فكأننا، إذن، نقع من كثير من الوجوه، أو من بعضها حتماً، في فخّ المفاهيم البلاغّية. ونحن لا نأنف من أن نكون بلاغييّن على الطريقة الحداثيّة، إذ كانت الحداثة لدينا لا تنهض على إلغاء التراث بَجذاميرِه، ولا الزُّهْد فيه بحَذافيره؛ ولكنها تلقيحُ التراث بالحداثة، وتوظيفُ الحداثة للتراث؛ والنظر إلى التراث برؤية متحررة متطوّرة، وبأدوات إجرائيّة جديدة تكون لها القدرة على فكّ اللغز، وتعربة المغشَّى، ونبْش المغَطَّى... فليست البلاغة عِلْماً مُفْلِساً؛ ولكن الذي أفلس البلاغة هم الذين لم يبرحوا يضيّقون من حولها الخِناق، ويُوغِلون في التطبيقات الباردة، ويُصِرّون على تجزئة الظاهرة الأسلوبيّة وقصْرِها على تشبيه واحد مقطوع عن أصله....
بتمثّلّنا الخاص نتعامل مع بعض هذه الأدوات البلاغية القديمة للإفادة منها في فهم الظاهرة الأسلوبيّة لنصوص المعلقّات، وليس بتمثّل بعض الأقدمين الذين كان قصاراهم التوقّفَ لدى أحسن تشبيه؛ وأجمل استعارة، وألطف كناية، خارج إطار النصّ العامّ، وبدون ربط هذا بذاك، ولا ذاك بهذا، ولا استنتاج شيء من هذا بالقياس إلى ذاك: إلاّ ما كان من الانطباع البارد الذي ينشأ عن الإعجاب غير المبرّر: أي باقتلاع جملة من أصلها، واجتثاثها من أَوَاِخِّيها؛ فإذا هي ناشزة شاحبة، وحائرة وخائبة، وسادرة باردة...
إننّا إذْ نحلّل أطرافاً من النصّ المعلّقاتيّ، في منظور مستوى النسج اللغويّ، لِنكررْ ذلك؛ فإنما لكي نراعِي هذه الأدوات البلاغية في إطار النصّ العامّ؛ لا في جزئيّاته التي تمزّق النصّ، وتؤذي نظامه، وتشوّه سطحه، فتجعلهُ رُقَعَاً خَلْقَاءَ، وأحلاساً بالية.
وسنرى أنّ ارتفاقنا، ببعض الأدوات البلاغيّة، في طَرفٍ من هذه المقالة، يندرج، بوعي منهجّي، ضمن الرؤية الحداثيّة لهذا العلم التراثيّ.
وقد اضطُرِرْنا، ضمن إطار منهجنا المستوياتيّ، إلى عقد هذه المقالة التي تتحدّث، هنا، عن نظام النسج اللغوي لسطح النص الشعريّ المعلقّاتيّ؛ لأننا لا نرى كيف يمكن، من منظورنا نحن على الأقل، فهم الظاهرة الأسلوبيّة المُتبنَّاة في نسج شعر المعلَّقات بدون المَعاجِ على بعض أدوات البلاغة نستأنس بها، ونتعامل معها؟..
وسنحاول، أثناء كلّ ذلك، تعويم بعض هذه الأدوات في طرائق القراءة الجديدة التي تَتَجالَفُ ، بتلك البلاغيات، نحو تأويليّة القراءة، وسيماءَوِيّ‍ةِ التحليل.
وسنجتزئ بالتوقف، فيما يرتدّ إلى التشبيه خصوصاً، لدى معلقتي امرئِ القيس وطرفة؛ وذلك على أساس أنّ معلقّتيهما أوفر المعلّقات حظّاً من التشبيه(أحصيْنا واحِداً وثلاثين تشبيهاً في معلّقّة امرئ القيس، وتسعة وثلاثين في معلّقة طرفة: كما وردتا لدى الزوزني). كما سنركّز على تحليل تشبيهات امرئ القيس خصوصاً لِمَا سنعلّل به هذا الصنيع بعد قليل. من حيث سيكون توقُّفُنا لدى تشبيهات طرفة أقصر نفَساً، وأعجل مَرّاً. أمّا توقّفنا لدى معلّقات الآخرين فسيكون مجرّد عرْضٍ لموضوعات التشبيهات المستعمَلة، وعددها، لقلّة أهميّتها لدى أولئك المعلّقّاتيين الذين يبدو أنهم لم يركّزوا عليها في نسج اللغة الشعرية عبر معلقّاتهم، على نقيض امرئ القيس وطرفة...
بينما سنجتزئ، مضطرين، بالتوقف لدى معلقاتيين اثنين فحسب، وهما لبيد وعمرو بن كلثوم، وذلك فيما ينصرف إلى ما أطلقنا عليه"عذرية اللغة، ووحشيّة النسْج".
أولاً: المعلقات: عذرية اللغة، ووحشية النسج
وعلى أننا لا نريد بمصطلح الوحشيّة إلى دلالة تهجينيّة، كما يتبادر إِلى الأذهان؛ ولكننا أردنا به إلى دلالة تحسينيّة. وإن لم يُعْجِبْ مُعْجِباً هذا الإطلاق فذلك لا ينبغي أن يصرِفَه عن المعنى الذي أردنا إليه من وراء اصطناع مصطلح الوحشيّة التي رمَيْنا بها إلى معنى الطبيعة الأولى، إلى السليقة العذراء، إلى معنى أيّ شيء في حالِ كينونَتِه، ومخاضِ صيرورتِه، وهو يلامس التوهّج والعنفوان فهذا التوحّش اللغوي، في شعر المعلّقات، هو كالماء حين ينبع من النَّبْع، وكالصوت حين يصدر من الطبع، وكالصدى حين ينبعث من أصل الصوت فيصاديه، ولا يعاديه...
والحقّ أننا حين نريد أن نعالج هذه المسألة نودّ أن ننبّه إلى أهمّيتها وخطورتها؛ إذ بدون مُدارَسَةِ المادّة الشعريّة، أو المادة الخام-بتعبير اللغة العصريّة- للشعر الجاهليّ لا يمكن اهتداءُ السبيلِ إلى خصائص النسج فيه؛ وأنظمة الأسلوب عَبْرَهُ. ذلك بأنّ النقاد القدامى، ولقرب عهدهم من زمن الجاهليّة، ثمّ لانعدام الأدوات الإجرائيّة للقراءة لديهم التي نمتلكها نحن اليوم، كانت هِمَمُهم تقف بهم لدى شرح الغرائب من الألفاظ، والغوامض من المعاني، ممزَّعَةً موزّعة... ولم يدُرْ بخَلَدِهم، قطّ، أن يتناولوا لغة المعلقات في تجلياتها الإفرادية والتركيبيّة معاً، وفي مظاهرها النسجية والجمالية جميعاً.
بيد أنّنا لا نودّ أن ندَّعِيَ ما ليس من الحقَّ لنا أن ندَّعِيَه؛ فَنْزُعمَ للناس أنّنا سنتناول هذه المسألة بالتحليل الدقيق، والدرس العميق، وبالمتابعة الشاملة الكاملة: فذلك ما لا يطمع في إدراكه العقلاء؛ ذلك بأنّ هذا الوجه من التحليل يُفضْي إلى آفاق شاسعة، وأَفْضِيَةٍ واسعة، ليس يستطيع اجتيابَها إلاّ الأديبُ المُخِفُّ، الذي نحن لَسْنَاهُ.
وما تَكَأَّدَنَا شيءٌ في هذه الكتابات، عن المعلّقات، ما تَكَأَّدَنَا من هذا الأمر الذي نُثيره، هنا في هذه المقالة، لأنه استهوانا، حتى أغوانا؛ فأَضْنانا... ذلك بأنّنا، لدى الإِقبال على إنجازه، بذات خُطُوَاتُ العِلْم تتعثّر، وأخذ الفكرُ يَكِلٌ، وأنشأ الخيال يحسر، وسُقِطَ في يَدِنَا، مع الإصرار على الإِقدام على التناول والمعالجة...
ونقول للباحثين البارعين، والدارسين اللامعين، والذين قد تستهويهم هذه المسألة فيشرئّبن إلى أن يُبدعوا فيها ويُجَوِّدُوا في كتابتها-وَكَأَنَّا بِهْمْ قَدِ!-: سنكتب ما نكتب هنا لمجرّد إثارة الانتباه إلى هذه المسألة اللطيفة دون الاِلتزام بالذَّهاب فيها إلى غاية المذهب الذي كنا نودّ الذهاب فيه، أو إليه؛ ونُضْطَرِبُ في مُعالجتها المُضطرَبَ الذي كنّا نتطلّع إلى اجتيابه...
فذلك، ذلك.
1. اللغة الإفرادية:
إنّ أيَّ بناء من النسج اللغويّ ينهض على اصطناع العناصر الأولى في هذا البناء، وهي اللغة.
فاللغة في أيّ نسج أدبيّ، كما نتمثّلها، إنما هي بمثابة الألوان الزيتيّة المصطنَعة في النسج الرسميّ. فكما أنّ الرسّام لا يستطيع أن يُنجز لوحة زيتيَّةَ إلاَّ بواسطة الألوان، والمواد الزيتيّة، فكذلك الشاعر لا يستطيع إنجازَ قصيدةٍ إلا بواسطة الألفاظ اللغوية التي تمثّل، في نسج الشعر، عناصِرَ البناء.
وإنّ أيَّ بناءٍ باللغة، عَبْرَ النسج الأسلوبيّ، ينشأ عنه، بالضرورة؛ معرِفَةُ طبيعةِ السِّماتِ التي تتسّم بها عناصر اللغة في ذلك النسج. فاللغة بناءٌ، والبناء لغة. والسمة لفظ لغويّ، واللفظ اللغوي سمة.
وتلك العناصر الصوتيّة التي تتبادل المواقع التركيبيّة، داخل لغة ما، هي التي تمثّل النظام اللغويّ للكلام؛ لتلك اللغة التي يغتدى اللعب بها شكلاً أدبيّاً يبهر ويسحر.
وعلى الرغم من أنّ اللغة الجاهلية، كما وصلتنا عن طريق ما صحّت روايته(وما صحّت روايته لا يعني، توكيداً ويقيناً، أنه صحيح، وأنه هو حقّاً كما قاله أًصحابُه حرفيّا، وَنَسَجَه شعراؤُه لفظِيّاً، لأسباب كثيرة منها أنّ الرواية الشفويّة معرّضة لأَنْ يقَعَ فيها التغييرُ والتبديل؛ لا سيما إذا علمنا أن الشعر الجاهليّ استقرّت نصوصه بعد أكثر من قرنين من ميلاده المفترَضِ على الأقلّ: عَرَفَ العربُ أثناءهما أحداثاً مَهُولَةً، وانقلاباتٍ عقليَّةً وروحيّةً وسياسّية جذريّة، وأنّ كثيراً من الرواة عَبثوا بنصوص الشعر الجاهليّ، ومنهم حمّاد الراوية، وعاثُوا: لأسباب ذَكَرها النقاد القدماء، وقد عَرَضْنا لها نحن بالتفصيل والتحليل في غير هذه المقالة...): هي الأساس الذي قام عليه التركيب اللغويّ في العصور اللاحقة بدون تغيير يذكر، بفضل نصّ القرآن العظيم دينيّاً، ثم بفضل النصوص الشعريّة والنثريّة، العربيّة القديمة الجميلة التي ربطت الأحفادَ بالأجدادِ رَبْطاً عاطفيّاً وجماليّاً فظلّوا يحِنُّون إلى تلك العهود الغابرة، والحقب الدارسة: حنيناً عارماً؛ فظلّوا يتمثّلونها في أنفسهم، ويتصوّرونها في ضمائرهم، فَيَنْعَمونَ بما يتمثّلون، ويتمتّعون بما يتصوّرون: فإنّ اللغة الجاهليّة، كما وصلتنا من خلال النصوص الشعريّة الجاهلية بعامّة، ومن خلال نصوص المعلّقات بخاصة؛ يجب أن تظلّ ذات خصوصيّة دلاليّة وتركيبيّة جميعاً. كما يجب أن تظلّ، بعد لغة القرآن ونظمه، مرجعيّة عالِيَة لنماذج الكتابة، وطرائق النسج الأسلوبي في اللغة العربيّة.
ونحن لا نقبل بأن نذهب إلى عَدِّ هذه اللغة غريبةً لمجرد أنها غريبة علينا نحن؛ فالغريب حقاً هو ما كان غريباً في زمانه، وبين أهله وقُطَّانِه، والحال أنّ تلك الألفاظ، أو تلك العربيّة العُذْرية، كانت مفهومة فهمْاً عامّاً لدى أهل الجاهليّة وصدرٍ طويلٍ من الإِسلام، وخصوصاً لدى الرواة والنقاد.
ثمّ ذهب العهد بأهلها، فبدأت تغترب قليلاً قليلاً إلى أن اغتدى في العربيّة لغتان اثنتان: لغةٌ قديمة، وهي على جمالها وجزالتها، يكاد المعاصرون من أوساط الثقافة لايفهمون منها شيئاً ذا بال؛ ولغةٌ حديثة رَوَّجَتْ لها الصحافَةُ السيّارة، والصحافة الطيّارة، والصحافة الثَّيَّارة، فاغتدَتْ هي اللغةَ الشائعةَ الذائعة بين عامة هؤلاء الناس.
وإذا كانت اللغة القديمة رَوَّجَ لاستقرارها وانتشارها، في الجزيرة، المواسِمُ والأسواق ثم القرآنُ الكريم، والحديث النبويّ الشريف، ثمّ نصوص الخُطَب، والأشعار، والرسائل، والأحاديث، والأقوال المأثورة، والحكم السائرة... فإنّ اللغة الحديثة رَوَّجَ لها ما يعرف اليوم في اللغة المعاصرة تحت مصطلح"وسائِلُ الإعلام"، أو"وسائلُ الاتصال". ويضاف إليها الكتابات الأدبيّة على اختلافها من شعر ورواية وقصة ومسرحيّة ومحاورات سينمائيّة...
والذي يتأمّل لغة المعلّقات يصادف عدداً ضخماً من ألفاظها لم يَعُدْ مستعَملاً بيننا لأنّ المعاني التي قيل فيها لم نعد محتاجين إِليها على عَهْدِنا هذا. وقد لاحظنا أنّ كثيراً من هذه الألفاظِ التي يمكن أن نصِفَها الآنَ بأنها ميتة، أو مُمَاتَة، أو على الأقلّ مجمّدة الاستعمال، كانت نُطْلَقُ على الناقة، وعلى الأماكن، وعلى جملة من المرتفقات الحضاريّة، والمعاني الوثيّة، أو المعاني الأثنولوجيّة، والأثنوغرافيّة، المرتبطة بطقوس فولكلوريّة بادَتْ، أو بادَ كثيرُ منها على الأقلّ. بإِشراق الإِسلام بنوره الوهّاج على ربوع الأرض.
وكثيراً ما نصطنع اليوم تلك الألفاظ، أو بعض تلك الألفاظ، ولكن بمعان لاعهد لأهل الجاهليّة، ولا لِمَنْ بعْدَهم في الزمن قليلاً، بها: مثل"البليّة" التي كانت تطلق على الناقة التي تُشَدُّ على قبر صاحبها حتى تَهْلَكَ من حوله جوعاً وظَمَأ. فقد رأينا، إذن، أن معنى البليّة الأوّل، والذي ورد في معلّقة لبيد:
تَأْوي إلى اْلأَطْنابِ كلُّ رَذِيَّةٍ

مِثْلِ البَلِيَّةِ قَالِصٍ أَهْدامُها


مات بموت تلك العادة المعتقداتيّة التي لا يمكن فَهْمُها إلاّ بتعويمها في الرؤية الأنتروبولوجية، ولكنّ لفظها ظلّ مستعمَلاً في معنىً آخرَ؛ وهو المعنى الشائع الاستعمال في اللغة المعاصرة، حين ينطق، أو حين يكتب.
ولا يقال إلاّ بعضُ ذلك في لفظ "الحقيقة" التي كانت تستعمل، في اللغة الجاهليّة، استعمالاً واسعاً بمعنى ما يَحِقُّ عليك حِفْظُه، فكانت"حقيقة الرجل: ما يَلْزَمُهُ حِفْظَهُ وَمَنعُه، ويحق، عليه الدفاعُ عنه من أهل بيته" (1). وكانت العرب كثيراً ما تردّد، حول هذا المعنى، وحين يريدون إلى مدح بمكارم الأخلاق، ومآثر الأفعال: "فلانٌ يَسوق الوسيقَة، وينسل الوديقَة، وَيَحمِيْ الحقيقة"(2).
وقد ورد لفظ الحقيقة في معلّقة عنترة بهذا المعنى:
ومِشَكِّ سابغةٍ هتكْتُ فُرُجَها

بالسيف عن حامي الحقيقة مُعْلَمِ


فالحقيقة إذن لدى قدماء العرب كانت تعني ما يجب، أو ما يحق، عليك حمايتُه؛ أو ما هو حقّ لك من الأشياء والممتلكات، ثمّ تنوسي هذا المعنى القديم، لهذا اللفظ الجميل، بضعف الحميّة الجاهليّة التي لم يبرح الإسلام يحاربها، واغتدى موقوفاً على معنى الشيء اليقينيّ في التصورّ لدى الفلاسفة، ولدى أهل التصوّف أيضاً.
ومثل لفظ"الضريبة" الذي اغتدى اليوم يطلق في لغة أصحاب الضرائب والجبايات، والذين يتابعون الناس في أرزاقهم يقتطعون منها، على مقدار معلوم يقتطع من مرتّب الموظف، أو يفرض على التاجر ورجل الأعمال، وكلّ ذي دَخْل(وبالمناسبة فإنّ لفظ"الدّخل" كان يطلق، في العربيّة القديمة، على ما يناقض المظهر الخارجيّ للمرء، وقد خلّدت هذا المعنى تلك الفتاة العربيّة التي أجابت أباها لمّا سألها عن أمر فتيان إخْوَةٍ جاؤوا جميعاً يختطبونها، فلمّا حارت في أمر اختيار أحَدِهِمْ قالت:
"ترى الرجالَ كالنَّحْل، وما يُدْرِكَ ما الدَّخْل؟": بينما أصبح لفظ"الدخل" يطلق في لغة التّجار ورجال الأعمال، وعلماء الاقتصاد، على الرزق الذي يقع للموظف، أو المواطن، أو الربح الذي يقع للتاجر...)؛ في حين أنه كان يطلق على الشيء الذي يُضْرَبُ بالسيف، والشخص الذليل الذي كان يُضْرَبُ بالسيف، فلا يَضْرِبُ هو: "المُضَّرب". وقد جاء هذا اللفظ بهذا المعنى، في معلّقة الحارث بن حلزّة:
ليس منّا المُضَرَّبونَ ولا قيـ

ـسٌ، ولا جَنْدَلٌ، ولا الحَذَّاء


ولعلّ الذي أبعد العربيَّة القديمةَ على ما يجري به الاستعمال المعاصر، الشائع، ثلاثةُ أمورٍ: أولهما: موت المعاني التي استُعْمِلَتْ فيها العربيّة القديمة، مثل العتيرة، والحقيقة، والمُضَرَّب، وكثير من تلك المعاني كان مندرجاً في طقوس وثنيّة بادَتْ.
وثانيها: شيوع الأميّة اللغويّة، وغلَبَة الكسل، وانعدام حبّ المعرفة، لدى كثير من الناس.
ولم تبق هذه الأميّة اللغويّة مقصورةً على عامة الناس فحسب، ولكنها جاوزتهم إلى الكتاب والشعراء أنفسهم؛ فإذا هم لا يكادون يستعملون إلاّ ألفاظاً بسيطة قليلة في كتابات كثيرة: فغاب الدور الجماليّ للّغة، في أعمال أدبيّة يفترض أنّ الوجود اللغويّ فيها هو الذي يمنحها الشرعيّة، ويشرئّب بها نحو الخلود.
ولقد نشاهد كلّ يوم في الفضائيات الأجنبيّة الساقطة علينا من أَجْوَاءِ أوربا أنّ هناك برامَج ثقافيَّةً وترفيهيّة كثيرة تقدّم إلى الناس باللغة، وعن اللغة... بينما الذين يشرفون على البرامج المبثوثة عبر الأثير، في معظم بلدان الوطن العربيّ، لا يملكون أن يقدّموا مثل تلك البرامج الثقافيّة اللغويّة الجميلة؛ لأنّ الصحفيّ العربيّ في أوّل درس يتلقّاه في مدرسة الصحافة، يقال له: اللغة للمختصّين، وللذين يدرّسون اللغة العربيّة في المدارس والجامعات... أمّا أنت فعليك بالكتابة، وبكتابة لا تكلّف نفسَها معرفة أكثر من ثلاثة آلاف لفظة!... والله المستعان!...
وآخرها: طفوحُ معانٍ جديدة، بحكم التطوّر الحضاريّ المذهل، ثم بحكم التطور الطبيعيّ للمجتمعات والأشخاص بحيث أنّ إنشاء ألفاظ جديدة كثيراً يكون شؤماً مشؤوما على حياة ألفاظ قديمة فتموت، أو تُمَاتُ، وتُنْسَى، أو تُتَنَاسَى... وهذا قانون ينطبق، في الحقيقة(بالمعنى الحديث)، على جميع اللغات الإنسانية التي تَطَوُّرُها واتّسِاعُها وتَبَحُّرُها لا يحَدْثُ في كلّ الأطوار، دون أن يَضِيرَ ما قَدُمَ من الألفاظ، وما غَبَرَ من المعاني. من أجل ذلك، ارتأينا أن نطلق على لغة المعلّقات، في بعض استعمالاتها على الأقلّ. صفة التوحّش، لا صفة الغرابة؛ وصفة العذريّة، لا صفة البَداوة.
ولمَّا كان الأصلُ في كلّ تركيب لغويّ، هو اللغةَ نفْسَها في لَعِبِها بنفسها؛ ولمَّا كانت هذه اللغة هي المادّةَ الأولى التي يتشكّل منها التركيب، ويتركَّب منها النسج، ولمّا كانت هذه اللغة التي قيل عبرها الشعر الجاهلي وحشيَّةً، غجريّة: كأنّها نبْعُ الماء حين يتبجّس، أو شذَى الوردِ حين يعبق، أو خضرةُ النبْتَة حين تَدْهَامُّ، أو زَرْقَةُ السماء حين تصفو، أو إِشراقة الشمس حين تتوهَّج، أو نور القمر حين يتلألأ: سمحةً كعطاء الطبيعة، وكريمةً كقَطْرِ الغيث، وعبِقَةً كنفَس الفجر، ودافئةً كَلَبَنِ الثدي، كان التركيب اللغويّ الذي هو أثر من آثار عطائها، وشكل من ثمرات تشكّلها: غجريّاً مثلها.
خذ لذلك مثلاً قول لبيد:
*في لَيْلَةٍ كَفَرَ النجومَ غَمَامُها*
فإننا نلاحظ فيه:
1. فعلى المستوى النحويّ تقديمُ المفعول على الفاعل، على غير المألوف من التركيب، بحيث يمكن للقارئ، أو المتلقيّ، أن يقع في غَلَط إذا تسرّع في قراءته فيرفع المفعول، وينصب الفاعل، قبل أن يَنْبَه إلى وجه الكلام، ويهتدي السبيلَ إلى صواب الإعراب.
2. وعلى المستوى النحويّ أيضاً-لأنّ النحو ليس إِقامة الإعراب فحسب، ولكنه إقامة المعنى أيضاً- نلاحظ أنّ لفظ "غمامها"، هنا، مُشْكِلٌ بحيث يمكن أن تعود الهاء منه إِمّا على"ليلة"، وإِما على"النجوم": دون أن يمتنع إمكانُ توجيهِ إعرابِ على إعرابِ، وتخريج على تخريج.
3. وعلى المستوى الدلاليّ فإنّ اصطناع لفظ "كَفَرَ" الشائع في اللغة العربيّة، منذ ظهور الإسلام، بمعنى الشرك بالله، أو الشكّ في وجوده، أو القطْع بعدم وجوده: يوهم القارئَ العاديّ فيتسرّع وَهْمُهُ إلى المعنى الإسلاميّ، لا إلى المعنى الوصفِيّ لهذا اللفظ الذي كان معناه في أصل الوضع للسَّتْرِ والإِخفاء والمُواراة.
4. نلاحظ أنّ إضافة الهاء المُشْبَعَة بالسكون المفتوح الممدود، إلى الميم من لفظ (أو "ضَرْب"، كما يصطلح العَروضيّون): "غَمَامُها" ينهض بوظيفة إِيقاعيّة وجماليّة عجيبة؛ فلو أُورِدَ هذا المصراعُ على التركيب البسيط، فقيل:
*في ليلةٍ كَفَرَ فيها الغَمَامُ النجومَ
لخرج عن كلّ انزياح؛ ولَمَزَق من دائرة الخرْق النسجي، والتوتُّر اللغويّ؛ وإذن، لَمَا كان له مثل هذا الوقع الجميل، وهذا التنغيم البديع.
كما أنه لو أُوِرَد على طريقةِ النسج في هذه القصيدة، ولكنْ بتقديم وتأخير المفعول، وقيل:
*في ليلةٍ كفَرَ الغَمَامُ نُجومَها
لفسد الإيقاع، ولخرج من صوت الضمّ إلى صوت الفتح؛ وإذن لانْكَسَرَ الصوت؛ وإذن لحدث اضطراب مُريع في مسار الإيقاع الشعريّ الأخير لهذه القصيدة الوحشيّةِ الخارقةِ الجمال.
ويبدو أنّ نسج هذه القصيدة يُعَدُّ أُمَّ النسوج الشعريَّة التي قيلت على شاكلتها، على نحو أو على آخر، ابتداءً من الفرزدق إلى أبي الطيب المتنبي:
وفاؤُكما كالربْع أَشجاه طاسِمُهْ

بِأَنْ تُسْعِدَا والدَّمْعُ أشقاه ساجِمُه(3)


إلى أبي الحسن الحُصْرِيّ في داليته البديعة (وهي الداليّة التي تناصّ معها كثيراً من الشعراء منهم نجم الدين القمراوي، وناصح الدين الأزّجانيّ، وأحمد شوقي...)(4) فنسج على غرار قصيدة لبيد، مع وجود الفارق، ولكن مع استلهام روح الإيقاع، متناصّاً معه:
يا ليلُ الصَّبُّ مَتى غَدُهُ

أقيامُ الساعة مَوْعِدُهُ؟


ولعلّ من الواضح أنّ إعادة الضمير على سابق في هذا الإيقاع، واجْتِعَاَلَ هذه الهاءِ عنصراً إيقاعيّاً، إضافيّاً، بجانب ما قبله: يفجّر اللغة بما فيها من الطاقات النغميّة، والعطاءات الصوتيّة؛ فيغتدى النسج كأنّه منظومة من الأنغام المتتالية المتصاقبة التي تخرج ألفاظ اللغة من مجرّد سمات صوتيّة فيزيائية دالة على مدلول، إلى سمات جماليّة تستحيل بالوظيفة اللغويّة من الذهن إلى السمع، ومن المدلول إلى الدالّ...
وممّا يمكن أن يندرج ضمن ما نطلق عليه التركيب الوحشيّ للغة العربيّة، قول لبيد أيضاً:
*قَسَمَ الخلائِقَ بيننا عَلاَّمُها*
فهذا التركيب بعيدٌ عن النسْج المألوف للغة العربية وأسلوبِها"الأَرْطودُوْكْسِي" بين الناس؛ وَفَهْمُ معناه لا يتأتَّى إلا باستعمال الذكاء، والاندماج في روح النّصّ حيث تصادفنا جملة من الانزياحات النسجّية منها:
1- تقديم المفعول على الفاعل، هنا أيضاً، كما كنّا لاحظْنا ذلك لدى تحليل المصراع الشعريّ السابق، وهو قوله:
*في ليلة كَفَرَ النجومَ غَمامُها*
وإن كان المفعول هنا، على موقعه المتقدّم، يبدو أكثر اطمئناناً في النسج، وأشدّ استقراراً في التركيب، وذلك على أساس أنّ القارئ العربيّ الذكِيَّ يُدرك، لأوّل وهلة، أن الذي يَقْسِمُ الأرزاقَ بين الناس لا يكون إلاّ علاَّمَ الغيوب؛ فهو الفاعل الأعظم، والمقِّدَّر الأكرم.
2- إن الضمير الوارد، هنا، في هذا المصراع الشعري اللَّبِيديّ، جَاءَ لِمُجَرَّدِ إِشباعِ الإيقاعْ بصوت إضافيّ، بعد الميم التي كأنَّها، لو أُبْقِيَ على ضَمِّها غير الممدود لكان في ذلك قمْعٌ للنفَس، وقهر لاندفاع الصوت، وغَفْص لمخْرَجِه، وَكَبْت لمنتهاه: أعِيدَ على الخلائق، ولكن بتغليب الكائنات غير العاقلة على العاقلة، وكأنّ الحياة كانت لا تبرح في تلك اللحظة الشعريّة العذريّة، تمثّل النشأة الأولى للإنسانيّة. وكأنه لم يكن هناك أي فرْقٍ بين ما لا يعقل، وبين من يعقل، ولذلك وقع التغليب. وعلى أننا نعلم، من الوجهة النحويّة الخالصة، أنه يجوز إعادة الضمير على جمع التكسير على هذا النحو دون حرج. ولكننا أردنا إلى تأويل هذا الضمير سيماءَوِياً، لا نحويّاً.
3- إنّ التركيب في هذا المصراع لا يستقيم، كما يجب أن يلاحظ ذلك كل مُتَلقٍ من الناس، وأنه مكثّف إلى درجة أن المتلقّي هو الذي عليه تأويلُ الصياغة، وتخريجُ المعنى، وتركيب النسج على الوجه المألوف، إن شاء أن يَفْهَم. وهو ببعض ذلك كأّنّه شعر حديث جداً، لأنّ الباثّّ، هنا، يرسم نصف صورة، ويترك للمتلقّي تكملةَ رسْمِ النصف الآخر من هذه الصورة.
ويغتدي المفعول، حين يُعْمِلُ المتلقي ذهنه، منصوباً على المُغَالَطَةِ (ونحن نتجرَّأُ على النحاة باقتراح هذا المصطلح الذي فرضتْه إجراءات هذه القراءة)، وهو هنا نائب لمفعول غائب اقتضاه التكثيف الشعري: يتمثل في لفظ"الرزق". وعلى بعض ذلك يغتدي تقدير نسج هذا المصراع العجيب:
* قَسَم العلاَّمُ الرِزقَ بين الخلائق.
فكأنّ التكثيف اقتضى تغييُبُ لفظ "الرزق"، المفهوم لدى المتلقّي الذكيّ، وتعويضه بمَنْ ينتفعون به وهم الخلائق: من الوِجْهة الدلاليّة، كما اقتضى حذف لفظ "الرزق" واتخاذ "الخلائق" نائباً له، للدّلالة عليه من الوجهة النحويّة. أمّا الهاء التي أُشْبِعَ بها صوتُ الميم من اللفظ الأخير في المصراع (الضرب)؛ فقد جاء، كما أَسْلفْنا الْقَالَ، لينهض بوظيفة جماليّة أساساً؛ ولكن لا يمتنع من أن ينهض بوظيفة إضافيّ‍ة تتجسّد في تعميق الدلالة، وتوكيد المعنى.
ولو جئنا نقرأ مثلاً هذا البيت لعمرو بن كلثوم:
ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بِكْرٍ

هِجَانِ اللَّونِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا


لتأكّد لنا ما كنّا زعمناه في شيء ممّا كنّا قرأناه من بعض شعرِ لبيدٍ، ولاٌ ستبانَ لنا أنّ هذا النسِج حوشيّ غجَريّ في معناه، وفي تركيبه:
1. فأَيْمْا في معناه فإنه يُشّبِهُ ذراعَيِ المرأةِ بذراعَي الناقة؛ وهي صورة في منتهى السوء، وانحطاط الذوق البدويّ، وقصوره عن إدراك جمال الحياة، وجمال الأشياء. ولعلّ الذي حمله على ذلك هو حرصه على إقناع المتلقّي بضخامة هذه المرأة: طولِ قامةٍ، وضخامَةِ جسدٍ. وإذِ اغتدتْ ذراعاً هذه المرأة العجيبة ذراعَيْ عيْطلٍ من النُّوق؛ فقد وُصِفَتْ بأنَّها كومُةُ من اللُّحْمانِ، وكثيبٌ من الأعصاب: فهي فارعة طويلة، وضخْمة بدينةٌ؛ فكأنّها مجموعة من النساء مجسّدة في امرأة، وطائفة من الأجساد مطويّة في واحد، وعلى الرجل الذي يريدها كلّها، أو يريد شيئاً منها: أن يكون، على الأقلّ، في مستوى طولها وعَرْضها، وبَدانتها وضَخامتها... وهذه أوصاف كلّها عيوب، ونعوت كلّها منفِرّات من المرأة، لا مرِغبات فيها.
وبياض هذه المرأة مثْلُ أَمْرِ ذراعيْها. فكما أنّ ذراعيها تشبهان ذراعي الناقة في الضخامة والبضاضة، فإنّ لونها، أيضاً، يشبه بياضُه بياضَ الناقةِ الأَدْمَاءِ. وتذوب هذه المرأة في هذا الحيوان، في هذه الناقة، أو البقرة الوحشيّة، لتتّخذ لها وصْفاً آخَرَ منهما؛ فكأنّ خيال الناصّ كان من القصور والحرمان بحيث لم يستطع قطّ مجاوزة صورة تلك الناقة التي كان يشاهدها ويركَبُها، فصوَّرَ فيها صاحَبَتَه، وجعلها امتداداً منها، أو امتداداً لها.
ولمّا جاء الناصّ يصف هذه المرأة، أو قل جاء ليؤكّد الوصف، بياض اللون، اصطنع لفظ "الِهجان"، وهو لفظ لا يكاد يطلق إلاّّ على البيضِ من النُّوق، وإِلاَّ على البِيضِ من العقيلات. وأنهى الصورة التي أراد من ذكرها تجميلَ صاحبتِه وتقديمها للمتلقّين في صورة من الحُسْن والجمال، بِجَعْلِ هذه المرأة ناقةً لمَّا تَقْرَأَ: أي لمَّا تَحْمِلْ. فهاتان الذَّراعان السمينتان، الغضّتان البضّتان، كأنهما ذراعا ناقة فتيّة ضخمة الجسم، طويلة العنق؛ لَمَّا تتجشّم الحمل...
وقد رأينا أنّ جمال هذه المرأة المسكينة انقلب من سحر الأنوثة، وفتنتها، ولطافتها، ورشاقتها؛ إلى مجرد كثيبٍ من اللّحمان المترهّلة، وقامة غليظة عملاقة تشبه هيئة النخلة المتهاوِيَة.
2. وَأيَمْا في تركيبه فإِنه تغْلُبُ عليه هذه الأوصاف التي هي، أصلا، للناقة، ثمّ استعيرت لهذه المرأة: فإذا العيطل، والأدماء، والبكر، وهجان اللون، وَعَدَم القَرْءِ.
ولو جاء معاصر يقرؤها لأَلْفاها ألفاظاً مسلوكةً في اللغة الغجريّة المنصرفة إلى هذا الحيوان الذي كان يلازم العرب ويلازمونه، وهو الناقة. فعلى ما يبدو في هذا النسج من أُلْفَةِ التركيب العربيّ، فإنّ المادة اللغويّة المنسوجَ منها تَجْعَلُهِ في مُجْتَعَلِ التوحُّش، وتعود به إليها. إذ الكلام واردٌ في معارِضَ حَوَالَ المرأةِ في معناه، وحوْل الناقِة في لفظه؛ فإذا صورة المعنى تطفو على صورة النسج، وإذ الدالُّ حيوان، وإذا المدلول إنسان.
أو قل إنه لا يمكن فَهْمُ هذا البيتِ فهْماً صحيحاً إلاّ بتعويمه في الأنتروبولوجيا والسيمائيّة معاً. فهو من الوِجهة الأولى يضطرب في مجتمع بدائيّ ينهض فيه الحيوان بوظيفة مركزيّة في الحياة اليوميّة، وَيُنْظَرُ فيه إلى الأشياء نظرة بدائيّة، ويُتَمَثَّلُ فيه الجمال بناء على ما بلغته الحياة الخياليّة في ذلك المجتمع... وهو من الوِجهة الأَخراةِ نُلفي الناقةَ تنهض، في هذا البيت، بوظيفة السمة الحاضرة، الدالّة على السِّمَة الغائبة. وليست السِّمَةُ الحاضرة هي المقصودة في الكلام، ولكن السمة الغائبة... وتذوب الصورة الغائبة في الصورة الحاضرة، أو قل إنّ الصورة الحاضرة هي التي تُذيبُ الصورة الغائبة فيها حتى ترقى بها إلى مستوى المُماثِل(الإقونة): إذْ لم تكن هاتان الذِّراعان المشاهَدَتانِ إلاّ صورةً للذراعيْن الغائبتين؛ كما أنّ هذه العَيْطل الأدْمَاءَ الحاضرةَ ليست إلاّ صورة كاملة مُمَاثِلَةً للمرأة الغائبة... ويمكن قلْبُ الصورة المُماثِليَّة بتعويم صورة المرأةِ في صورة الناقة؛ حيث إنّ هذه ذابت في تلك، وتلك ذابت في هذه؛ فلا ندري أيٌّ منهما يُرادُ؟ ولا ندرِي في أيّ منهما كان الناصّ يفكّر، وأيّاً منهما كان يَصِفُ، وأيَّاً منهما كان يَحِبُّ؟ إِنَّ منزلة الناقة تستوي هنا بمنزلة المرأة فليس بينهما فرق.
ولو جئنا نتابع أبياتاً لهذا، وأبياتاً لذلك، من المعلّقاتييّن، لَما أمِنَّا أن يستحيل هذا المجاز، في هذه المقالة، إلى فصل طويل، وربما إلى مجلدّ كامل. من أجل ذلك نجتزئ ببعض ما قدّمنا. ولكن قبل أن ننفض اليد من ذلك نودّ أن ننبّه إلى أنّ الشّاهديْن السابقَيْن لهذا: على الرغم من عذريّتهما النسجيّة، إلاّ أنّ التصوير فيهما كان بديعاً، وأنّ البَداوة لم تَحْرِمْهُما من فيض فيّاض من الجمال العبقريّ؛ فكأنّ مثل ذلك الشعر يظلّ، أبد الدهر، مصدَرَاً من مصادر الإلهام وينبوعاً من ينابيع الجمال.
****
ثانياً: النسج اللغويّ بالتشبيه
ليس هناك أيّ أدبٍ في العالم، وبأيّ لغة كُتِبَ، وفي أي نسْج نُسِجَ، وتحت أيّ خيال أنْشِئَ: تراه يخلو من التشبيه. وليس التشبيهُ مقصوراً على المبدِعين، شعراء وكتّاباً، وَحْدَهُمْ، ولكنه زينةٌ يصطنعها كلّ المتعاملين باللغة في حياتهم اليوميّة، وفي تعاملاتهم التبليغيّة الابتذاليّة، وفي تعابيرهم الشعبيّة، حيث تلفي المرأة البدويّة تستعمل التشبيه، بلغتها العاميّة، وَحَسَبْ مستواها الذهني والثقافي؛ فتصيب المحَزَّ، وتقطع المفصَلَ. وحيث تلفي الشاعر الشعبيّ يصطنع هذه الزينة الكلامية، في شعره، فتراه يشبّه صغير الحجم بكبيره، وناضر الوجه بأنضر منه، وطويل القامة بأطول منه، وهلمّ جرا...
وقد لاحظنا أنّ كثيراً من الأوصاف التي كنّا نلفيها لدى الشعراء الجاهلييّن لا تبرح متداوَلَةً بين الشعراء الشعبييّن، في العالم العربيّ بعامة، مع اختلاف في النسج، وتفاوت في درجة التعبير. فإذا كان العربيّ القديم كان يصطنع عبارة "بعيدة مَهْوَى القُرْطِ" ليصف بها عنق المرأة في طوله، وإذا كان امرؤ القيس يشبّه جِيدَ صاحبتِه بجيد الرئم في طوله-غير الفاحش- وفي لطفه واستوائه؛ فإننا نلفي شاعراً شعبيّاً جزائريّاً يستعمل الرَّقَبَةَ عَوِضَ العُنُق، ويستعمل الطْول صراحةً عَوِضَ التكنية عنه ببُعْدِ مَهْوَى القُرْطِ، أو تشبيهه بجيد الرئم...
وقد توقف البلاغيّون العرب لدى التشبيه، طويلاً، فقتلوه تعريفاً وتصنيفاً، وتقسيماً وترتيباً؛ ولكنّ الذي فاتهم، فيما يبدو، أنهم لم يميلوا إلى تناول جماليّته، وما يضفيه على النسج الأدبيّ من حسن فنّيّ بديع. فكأنهم تعاملوا معالتشبيه، كما تعاملوا في أطوار كثيرة مع الاستعارة أيضاً، تعاملاً إجرائيّاً؛ فغلب التصنيف والتقسيم على التحليل، وطغَا التعريف والترتيب على إبراز ما يجب أن يكمُنَ فيه من جمال يرقى بالنسج الأٍسلوبيّ من مجرد كلام عاديّ مبتذل، إلى كلام فنّيّ بديع.
وقد اجتهد في أن يُدَارِسَ التشبيه من الوِجْهة النفسيّة، ولكن ضمن التقسيم البلاغيّ المدرسيّ(5). ولعلّ أوّل من حاول أن يراعي الجانب الجمالي، في البلاغيّات بوجه عامّ، كان الأستاذ عليّ الجارم في كتابه المدرسيّ "البلاغة الواضحة". ولكن مساعيه، هي أيضاً، لن تجاوز المنطلقات التقليدية لمفهوم الإجراءات البلاغيّة، وتقسيماتها الركبكة...
وإنّ ما نودّ التوقّف لديه نحن، هنا، هو أنّ التشبيه حتى في حال اشْتِيَاقِهِ إلى التقبيح، وتعلّقه بأداء وظيفة التشويه: يظل، في منظورنا، راكِضاً في رياض الجمال، وسابحاً في مروج الخيال. فالشاعر حين يقول:
وإذا أشارَ مُحَدِّثاً فكَأَنَّه

قِرْدٌ يُقَهْقِهُ، أو عجوزٌ تَلْطِمُ!


فلا يعني حُبُّ التقبيح والتشنيع في رسم هذه الصورة، أنَّ التشبيه، من حيث هو إجراءٌ فنَيَ جماليَ، يلتحق بغاية أبي الطيب من إِرادة تشويه هيئة هذا المتحدّث الذي يشبّه هنا بصورة القِرْد حين يُقَهْقِه، وصورة العجوز الشمطاء حين تلطم. فالجمال الفنّيّ يكمن، بالذات، وهنا، في هذا القبح الجميل. أي أنّ عبقرية النسج تكمن في أنّ الناصّ استطاع أن يُصوِّرَ لنا القبيح الدميم، في صورة تشبيّه جميلة، فصوّر لنا الدميم البشع في صورة أدبيّة طافحة الجمال. فكأنّ المفارقة تقوم في أن الدميم من الأحياء، والرديء من الأشياء: قد يذوّبها الأديب الكبير في نسج عبقريّ فتغتدي الدمامة في نفسها، كأنها دمامة جميلة في نسج الكلام.
فلا شيء أسوأ من مَرآةِ قِرْدٍ وهو يضحك، ولا شيءَ أبشعُ من منظر عجوز وهي تلطم على وجهها؛ بيد أن نقل هذه الصورة المركّبة من منظريّن بشعِيْن إلى صورة شخص بشع يتحدّث بيْن أصحابه، ثم ربط المناسبة بينهما بجَعْل الصورة الأولى كأنها الصورة الأخراةُ لهذا الشخص: هو الذي جسّد عبقريّة النسج، وجمال التصوير، وحُسْن التشبيه: فتوارَتِ البشاعةُ، أو كأَنْ قَدِ! والسرّ في كلّ ذلك، ذلك الجمالُ الطافح الذي أنشأ هذا النسيج الكريم من الألفاظ، من مجرد الألفاظ؛ فتكوّنت علاقة بين بَشِعٍ واحدٍ، وبشعيْن اثنيْنِ؛ ولكن عَبْرَ عرائِسَ من الألفاظ، وعجيباتٍ من الصور.
ومما لاحظناه في تشبيهات امرئ القيس أنه كان يعمد، أطواراً، إلى تشبيه قويّ بضعيف، ومتوهّج باهر، بشاحب ذابل: أي أنه كان يصطنع ما يمكن أن نطلق عليه"التشبيه المقلوب".
ولعلّ بعض ذلك يَمْثُلُ في قوله، مثلاً:
أصاحِ تَرى برْقاً أُريكَ وَميِضَهُ

كَلَمْعِ اليَدَيْنِ في حَبِيٍّ مُكَلَّلِ


فهذا الوَمَضَانُ الخاطِفُ للأبصار، حين يَمِضُ في السَّحاب المركوم: لا يعدو أن يُشْبِهَ حركةَ اليديْن الصغيرتين. وماذا في حركة اليدين من وَمَضَانٍ، وماذا فيهما من سُرعة الحركة حتى يُشَبَّه بهما وميضُ البرق الخاطف؛ إلاّ أن يكون تشبيهاً مقلوباً؟
وذلك، مع أنّ الذي يقرّره البلاغيّون هو أنّ التشبيه يقوم على ضرورة بروز الحالة التي يراد تشبيهُها: في المشبَّه به، أكثر من المشبّه: فيشبّه الضعيف بالأضعف منه، والقويّ بالأقوى منه، والجميل بالأجمل منه، وهلمّ جرا... كما يقرّرون أنّ التشبيه، من وجهة أخراة، يقوم على تشبيه المجرّد بالمحسوس... ولكنّ هذه المقرّرات لا يمكن الالتزام بها لدى الكتابة الإبداعيّة التي تنهض على الإبداع في اللغة، وفي النسج، وفي الصور... وليس على تقليد الصور البالية، والتشبيهات العتيقة...، كما كان يقرر ذلك القدماء، ومنهم ابْنُ طَبَاطِبَا(6).
وقد لاحظنا أنّ التشبيهات لدى امرئ القيس تتنازعها ثلاثَةُ محاوِرَ كُبرى: وهي البياض، واللمعان، والنضارة، والصفاء، وما في حكمها. ثمّ الحركة والتبختر والاهتزاز وما في حكمها. ثمّ الطول والاعتدال والنحافة والرِّقّةُُ والاستواء. ونسعى الآن إلى متابعة ذلك خلال شعره.


أولاً: البياض والصفاء والإشراق والبريق
1. البياض والطراوة:
*وشَحْمٍ كَهُدَّاب الدِمَقْسِ المُفَتَّلِ*
2. البياض والصَّقْل والصفاء:
*ترائِبُها مصقولَةٌ كالسَّجَنْجَلِ*
3. البياض القائم على التمازج مع الأصفر(الصفاء):
*كبِكْرِ المُقاناةِ البَيَاضِ بِصُفْرَةٍ*
4. البياض والصفاء والإشراق:
تُضيءُ الظلامَ بالعِشاءِ كَأَنَّها

منارةُ مُمْسَى راهبٍ مُتَبَتِّلِ


5. بياض اللون، وطول الذيول، وسُبوغ الشعور، وتبختر الحركة: معاً:
فَعَنَّ لنا سِرْبٌ كأنَّ نِعَاجَه

عَذَارَى دَوَارٍ في مُلاءٍ مُذَيَّلِ


6. بياض: أطرافُه سُودٌ:
فأَدْبَرْنَ كالجِزْعِ المُفَصَّلِ بَيْنَهُ

بِجيدِ مُعَمٍّ -في العشيرة- مُخْوَلِ


7. البياض واللّمعان(له علاقة بالبياض)، وسرعة الحركة:
أصاحِ تَرى برْقاً أُريِكَ وميضَه

كلمْع اليديْن في حِبَيٍّ مُكَلَّلِ


8. البياض المخطّط:
كأنَّ ثبيراً في عَرانينِ وَبْلِهِ

كبيرُ أناسٍ في بِجَادٍ مُزَمَّلِ


9. البياضُ واللّمعان:
كلمْع اليديْن في حَبيٍّ مُكَلَّلِ
يُضيء سناه، أو مصابيحُ راهبٍ

أمالَ السليطَ بالذُّبال المُفَتَّلِ



****
ثانياً: الحركة السريعة، والاهتزاز، والتبختر:
1. فعَنَّ لنا سِرْبٌ كأنّ نِعاجه

عَذارى دَوارٍ في مُلاءٍ مُذَيَّلِ

2. على الذَبْل جَيَّاش كأنَّ اهتزامَه

إذا جاشَ فيه حِمْيُهُ- غَلْيُ مِرْجَلِ

3. كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِبْدُ عن حَالِ مَتْنِهِ

كما زلَّتِ الصفواءُ بالمُتَنَزِّلِ

4. دريرٍ كخُذْروفِ الوليدِ أَمَرَّهُ

تتابُعُ كفَّيْه بخَيْطٍ مُوَصَّلِ

5. له أيْطَلاَ ظَبْيٍ وساقا نَعامةٍ

وإرخاءُ سِرْحانٍ وتقريبُ تَتْفُلِ

6. مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً

كجُلمودِ صَخْرٍ حَطَّه السيلُ مِن عَلِ

7. كأنّ ذرى رأس المُجَيْمِرِ غُدْوَةً

من السيل والأغثاءِ فلْكَهُ مِغْزَلِ


****
ثالثاً: الطول والاعتدال والنحافة والدّقة والاستواء:
1. وكَشْحٍ لطيفٍ كالجَديلِ مُحَضَّرٍ
2. وفرعٍ يَزِينُ المَتْنَ أسْوَدَ فاحِمٍ

أَثيثٍ كقِنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ

3. وجيدٍ كجيد الرئْم ليس بفاحش

إذا هي نَصَّتْه، ولا بِمُعَطَّلِ

4. وتعطو برَخْصٍ غيِر شَشْنٍ كأنه

أساريعُ ظَبْيٍ، أَوْمَساويكُ إِسْحِلِ


ثم تأتي معانٍ أُخَرُ مِثْلُ القوّة والفراهة والفتاء:
كأنّ على المتنين منه إذا انتحى

مَدَاكَ عَروسٍ، أو صَلاَيَةَ حَنْظَلِ


ثم تأتي معانٍ أُخَرُ متفرّقةٌ مثلُ الاستدارة والدقّة، والتلاؤم في الطبع، والعَبَق وانتشار الشذى، والظهور، وتداخل الأصوات وتكاثرها، والرسوب، والثبات والسكون...
لكننا إن قرأنا هذه التشبيهاتِ قراءةً تَشاكُلِيَّةً، وهو إِجراء سيماوِيٌّ، أمكَننا أن نُلْحِقَ بعُضَها بما سبق من التشبيهات المتواتِرَةِ المعانِي مثل الشذى أو العبق الذي هو هنا متلائم مع سيرة النساء اللواتي تكررت صُوَرُهُنَّ الجميلات فتبوَأّنَ المنزلة الأولى من الاهتمام عبر نصّ معلقة امرئ القيس. فبَضاضة جسد المرأة وغضاضَتُه: لا شيءَ أولى بالتلاؤم معه كالعطر والشذى. ويمكن أن يضاف إلى ذلك، التلاؤم في الطبع بين أمّ الحُويرِثِ وجارَتِها أمِّ الرَّباب. وأمّا تَداخُلُ الأصوات، أَصواتِ المَكَاكِيِّ، مَكاكِيّ الوادِي في الغُدِيَّةِ الربيعيَّةِ فلا ينبغي أن يستأثِرَ به شيء كجمال المرأة ودلالها وحركتها وحديثها، ورقّة صوتها، وحسن تَرَهْيُئها، وإشراقة ابتسامتها...
إنّ معظم الصور التشبيهيّة واردة في معلّقة امرئ القيس في إطار الإحساس اللطيف، بل الشعور الحادّ، بالجمال في صوره المختلفة، ومظاهره المتباينة: في أصوات الطير، في حركة العذارى، في عطر النسا، في ركض الحِصان، في شآبيب الصَّفْواءِ، في السحاب السابح في الفضاء، في حركة خُذروف الوليد، في غَلْيِ المِرْجل، في جُلمود الصخر المندفع من الأعلى نحو الأدنى، في جِيدِ الرئْمِ الجميل- أوفي جِيدِ الجميلة التي يشبه جيدُها جِيدَ الرئم- في الشَّعَرِ الأسود الأَثِيثِ، في البَنان الناعمة الرقيقة، في صفاء الترائب وَصقْلِ النَّحْرِ، في مصباح الراهب المضيء عِشَاءً...
ونلاحظ أنّ هذه الصور منتزعةٌ من صميم بيئة الناصِّ وحياته اليوميّة، وتقاليد مجتمعه البدويّ: الطبيعةُ مادَّتُها، والتعايُشُ معها أداتُها.
وحين نعمد إلى محاولة تحليل الأسس التي نهضت عليها التشبيهات لدى طرفة، نلاحظ أنه يختلف اختلافاً بعيداً عن امرئ القيس الذي صرف معظم عنايته إلى تشبيه الحِصان أوّلاً، ثم المرأة ثانياً، ثم من بعد ذلك تأتي الطبيعة والأشياء.
على حين أن التشبيهات، لدى طرفة، تنصرف، أساساً، إلى الناقة بتواتر بلغ أربعاً وعشرين مرة من تسع وثلاثين، ثم يأتي الرجل بعشر مراتٍ، ثمّ الطبيعة والمرأة بثلاث مرّات لكلّ منهما.
فالتشبيهات الواردة في معلّقة امرئ القيس متوازِنَةٌ بحيث توزّعت على المرأة، والحسان، والطبيعة، والأشياء، لكنّ الحصان هو الذي استأثر بالمنزلة الأولى بأربع عشرة مرّة، ثمّ المرأة بعشر، ثم الطبيعة والأشياء، مجتمعةً، بسبع. فاهتمام امرئ القيس يتوزّع، أساساً، على هذه الحقول الثلاثة. وإذا كان الحصان، لديه، نال المرتبة الأولى من العناية فلأنّه كان أميراً فارساً؛ ولأنه كان صيّاداً مقامراً، ولأنه كان متنزِّهاً سائحاً. وإذا كانت المرأة، لديه، وردت في المنزلة الثانية من الاهتمام فلأنه كان شاعراً عاشقاً، ومغامراً فاسِقاً(7) ومنادِماً فائقاً(7)؛ فكانت المرأة بالقياس إليه أساساً من أسُسِ الحياة، ومُتْعةً من مُتَعِها، وَملَّذَّة من ملذَّاتها. فكأنّه كان يعّدها مجرّد أنثى يتمتّع بها، ويلهو معها غير مُعْجَل؛ ثمّ لا شيء وراء ذلك. وهو ببعض ذلك يختلف عن عنترة الذي كان يحبّ امرأة واحدة، بوفاء، ويَمِقُها بِكَرمٍ، كما يختلف عن عمرو بن كلثوم الذي نلفيه يمجّد نساء قبيلته اللواتي كنّ يَقُتْنَ الخيْلَ للمحاربين أثناء المعركة، وكنّ يحْضُضْن الرجال على القتال، في حروب البسوس، حتى يتجنّبن سُبَّةَ السَّبْيِ، وعار الذُّلِ.
فالمرأة لدى عمرو بن كلثوم خُصوصاً، اثنتان: إحداهما للمتعة واللهو والنعيم، وتتمثّل في القِيان والجواري الميسَّرات لِمَا خُلِقْنَ له لديه، وإحداهما الأخراة هي السيدة الكريمة، والدُّرَّةُ العقيلة: التي كانت تشارك الرجل عَذابه ونعيمَه، وأملَه وألَمَه، وَضَنْكَ عيشهِ ورغده...
بينما المرأة لدى امرئ القيس لا. فهي ذلك الكائن اللطيف الذي وقف عليه، بعد الحصان، معظم تشبيهاته. إنها كانت لديه مجرّد جسَدٍ غضّ: للتمتّع العارض، والتلذّذ العابر، ثمّ لا شيء من بعد ذلك، يترتّب على ذلك. كانت مجرّد أنثى إذن. من أجل ذلك نجد ذِكْرَاً لنساء كثيرات في معلّقته؛ وكأنّ كلّ واحدة منهنّ كانت تمثّل جزءاً من حياته، أو لحظات سعيدات في حياته، ووجهاً من وجوه مغامراته معها. ثم، لعلّ من أجل ذلك، ألفيناه يصيب في تشبيه النساء، ويجوّد في إجراء الحِوار بينه وبينهنّ، ويبدع في تصوير علاقته بهنّ: وكيف كان يجاوز إليهنّ الأحراسَ، وكيف كان يلهو بالبِيض منهنّ في غيرِ عجلة من أمره، وكيف كان يَتَأَوّبُهُنَّ إذا جَنَّهُنَّ، وجَنَّهُ، الليلُ؛ وإذا نَضَضْنَ للنوم ملابِسَهُنَّ...
وربما تعود عبقريّة التشبيه التصويريّ للمرأة لديه، إلى كَلَفِهِ بها، وعِشْقِه إيّاها، وملازمتِهِ لها طويلاً؛ ثم إلى ممارساته العمليّة معها معاً. ثمّ إلى جُرأته على الجَهْرِ بفِسْقِه، والصَّدْعِ بفَضائح علاقاته الجنسية: إذا مارس العِشْقَ والاضطجاع... وهي سيرةَ عَفَّ عنها سَواؤُهُ من نُظرائِهِ المعلقّاتييّن .
وعلى الرغم من أنّ طرفة بن العبد يأتي في المنزلة الأولى، من حيث عدد التشبيهات التي اشتملت عليها معلّقتُه، على سبيل الإطلاق؛ فإنّ تشبيهاته، مع ذلك، لم يتوقف النقاد والبلاغيّون القدماء لديها إلاّ قليلاً، من حيث أُعْجِبُوا إعجاباً مَهُووساً بمعظم تشبيهات امرئ القيس؛ وخصوصاً ما ورد منها حوال المرأة والحِصَان. ولا نحسب أنّ الأقدمين جانبوا الصواب، إذا حقّ لنا إصدارُ حُكِم قيمةٍ، فيما كانوا يذهبون إليه. من أجل ذلك، قد نقضي بأن امرأ القيس وإن كان يأتي في المرتبة الثانية من حيث الترتيب العددي، بعد طرفة، بزهاء واحد وثلاثين تشبيهاً، مقابل زهاء تسعة وثلاثين تشبيهاً لدى طرفة: إلاّ أنّ ذلك ما كان ليكون مانعاً من عدّ امرئ القيس أحسن المعلقاتيين تشبيهاً، وأجملهم تصويراً، وأقربهم إلى الذوق العربي العام؛ فظل ذلك قائماً على امتداد ستة عشر قرناً.
ولعل الذي أضرّ بطرفة أنّ كلّ عبقريته الشعرية أهدرها في وصف الناقة في لغة بدويّة، وألفاظ حوشيّة، وتعابير وحشيّة، وصور غجريّة لم تلبث أن فقدت رُواءَها مع مرور الزمن، وأضاعت طلاوتها مع كُرِّ الأيام. على حين أنّ موضوع المرأة الذي عالجه امرؤ القيس، بإثارة وإباحيّة، هو موضوع، يظل إنسانيّاً، ماثِلاً لدى الناس إلى يوم القيامة، على الرغم من اختلافهم في النظرة إليه...
لقد استغنى كثير من الناس عن الناقة فلم يعودوا يعنون بها، ولا يلتفتون إليها ولا يتّخذونها همّاً في حياتهم، بينما من النِّفاق أن يَزْعُم الرجال أنهم قادرون على الاستغناء عن المرأة التي هي الحياة وسِرُّها وهِبَتُها وإِكْسيرها، ونضارَتُها وعَبَقُها.
فقد عرفْنا إذن علّة خُلودِ تشبيهاتِ امرئِ القيسِ، ودُرُوسِ تشبيهاتِ طَرَفَة، وَسَوَائِهِ من المعلّقاتيّين الآخرين.
وإنّا وقد ذكرنا المعلّقاتيّين الآخرين الخمسة، فما بالُها لديهم؟ وما شأنُها في معلقاتهم؟ وهل قصَّرَتْ، لديهم عن تشبيهات امرئ القيس وطرفة، أو فاقَتْها؟ لِنَرَ ذلك.
إنّ التشبيهات لدى الخمسة الآخرين تتفاوَتْ في الكثرةِ والقِلَّةِ، والرداءةِ والجَوْدَةِ: ولكنها مجتمعة لدى هؤلاء الخمسة(لبيد- زهير- عنترة- عمرو بن كلثوم- الحارث بن حلّزة) لا تمثّل إلاّ أقلّ من نصفها لدى الأوّلين: امرئ القيس، وطرفة. بيد أنّنا لاحظنا، أثناء ذلك، أن عنترة يأتي في المرتبة الثالثة بتسعة عشر تشبيهاً موزّعة، بحسب تكاثر التواتر، على الناقة، ثم الرجل، ثم المرأة، ثم الظَّليم، ثم الذُباب، ثم المطر؛ ولبيداً في المرتبة الرابعة بستّة عشر تشبيهاً موّزعة، بحسب تكاثر التواتر، على البقرة الوحشية، ثم على المرأة، ثم الطبيعة والأشياء، ثم الناقة، ثم الرجل، ثمّ الحصان بتشبيه واحد فحسب، وعمرو بن كلثوم في المرتبة الخامسة بأربعة عشر تشبيهاً موزَّعَةً، بحسب تكاثُرُ التواتر، على الرجل؛ ثم على المرأة، ثم الطبيعة والأشياء، ثم الحصان بتشبيه واحد فقط-مثله في ذلك مَثَلُ لبيد-؛ والحارث بن حلّزة في المرتبة السادسة بأحد عشرَ تشبيهاً موزّعةً، بحسب تكاثر التواتر، على الرجل، ثم الناقة، ثم الطبيعة والأشياء؛ وزهير بن أبي سلمى في المرتبة الأخيرة بأربعةِ تشبيهاتٍ فقط، موزعّةً على المرأة بتشبيهيْن اثنين، وعلى الطبيعة والأشياء بتشبيهيْن اثنيْن آخرين.
وربما قلّت التشبيهات لدى زهير لأنه كان في معلّقته، خصوصاً في القسم الحكميّ، مجرَّدَ حكم متأمِّلِ يَبُثُ تجاربَه، ويَسوق تعاليمَه، ليتعلّم بها الناس ويُفيدوا منها في حياتهم ممّا به يبتلون.
****
ثالثاً: النسج اللغوي، في المعلقات،
بين نظام الفعل ونظام الاسم
لاحظنا في المقالة التي عرضنا فيها لتحليل الإيقاع المعلقاتيّ أنّ هناك نصوصاً منها تميل إلى نحو ما أطلقنا عليه، في شيء من التجاوز والتساهل: "الحميمّية"، أو "الانضواءِ على الذات"؛ وذلك بناء على تأويل دلالة الخَفْضِ في اللغة العربيّة، مثلاً. وإذا كنّا لا نطمع في أن يتفق الناس معنا على ما ذهبنا إليه؛ فإنّنا قد نكون أفلَحْنا في تحفيزهم، على الأقلّ، إلى البحث عن تأويلٍ آخر، عن قراءة جديدة أخراة، من آلاف القراءات التي اقتُرِئَتْ بِها هذه النصوصُ ماضِياً، والتي ستقرأ بها مستقبلاً.
وإذا كنّا جئْنا نثير مسألَة نظامِ النسج اللغويّ فبِما رغْبَةٍ عارِمةٍ مِنَّا في الكشف عن الظاهرة النسجيّة التي تستأثر بنظام اللغة، وبنية التعبير لسطح هذه النصوص الشعريّة العذريّة.
وقد انتهينا من خلال الإِحصاء الذي اضْطُرِرْنا إليه (والذي لا نحمل أي عُقْدَةٍ له أو عليه، فهو لدينا مجرّد من الإجراءات التي قد نعمد إليها، في بعض المستويات من قراءتنا، وذلك ابتغاء استكشاف ظاهرةٍ ما، حين نعتقد أنه لا يمكن استكشافَها إلاّ به، أو إلاّ عَبْرَه): إلى أنّ النسج الشعريَّ يهيمن عليه النظام الاسْمِيُّ لدى عامّة المعلقّاتيّين إِلاّّ لدى زهير الذي يغلب، في نسجه الشعريّ، النظامُ الفعليّ، لِمَا سنعلّله من بعد حين.
وقد رأينا، والحال أنّ الشأنَ منصرِفٌ إلى نسج شعريّ، أن نراعي مَطْلَعَ صَدْرِ البيت، وآخر عجزه على أساس أنهما مفتاحَا البيتِ الشعريّ. ولم نُرِدْ أن ننزلِقَ إلى ملاحظة النظامين الفعليّ والاسميّ في أكثّر من هذين المستويْين الاثنين خشْيَة أن يُفضي ذلك إلى تطويل قد لا يكون فيه، لهذا البحث، غَناء كبير.
والحُكْم العامُّ الذي نستخلصه من هذه المتابعات المنصرفة إلى مطالع الأبَايِيتِ، وأواخر أعْجَازِها: أنّ الشعراء كانوا يجنحون للتعامُل مع النظام الاسميّ أكثر من جنوحهم للتعامل مع النظام الفعليّ، لأسباب مختلفة، منها:
1. إنّ نسجْ الأسلوب العربيّ ينهض أساساً على النظام الاسميّ أكثر من نهوضه على النظام الفعليّ. وهو قادر، على نقيض اللغات الأوربية وحتى بعض اللغات الشرقيّة، على الاستغناءِ عنِ الفعل من حيث لايستطيع الاستغناءَ عن الاسم. أَضْرِبُ لذلك مثلاً نَصَّ البسملةِ الذي يُردّده كلَّ يومٍ قريبَاً من مليارِ مُسْلم في العالَم، فإنه لا يشتمل على أيّ فعل. ودَعْكَ من تخريجاتِ النُّحاةِ وفي طليعتهم الشيخ عبد القادر الجرجاني؛ والتي فيها يزعمون أنّ الباء في"بِسم اللَّهِ" متعّلقة بفعل تقديرُه: "أَقْرَأُ، أَوْ أَتْلُو" (8). وعلى أنّ تقدير عامّة النحاة هو: "ابْتَدِئُ". فنحن لسنا نجنح إلى هذه التقديرات والمتعَلَّقات، ونحن نبحث في أمر المعلقّات، التي لا تتعلّق إلاّ بأوهام اغتدت فيما بعد قواعد للإعراب؛ وإلاّ فإن الله تبارك وتعالى، لو كان شاء إلى ما شاؤوا، وقصد إلى ما إليه قصدوا، لكان قال كما قالوا. والآية على ضعف هذا المذهب أنّ الله تبارك وتعالى حين أراد إلى أن يتبرَّكَ بأسمه، وَصَلَهُ بالاسْمِ لا بالفعل، فقال: "باسِمْ اللَّهِ مُجْرَاهَا ومُرسَاهَا(9)، ولم يَقُلْ: "أُجْرِيَها ببِسْمِ اللّهِ، وأُرسِيَها".
وقد لاحظنا، أيضاً، أنّ سورة النحل لا يوجد فيها إلاّ ثلاثة أفعال فحسب من بين سبعة عشر اسماً على الأقل؛ مَثَلُهُا مَثَلُ سورة الفاتحة التي تشتمل على أربعةِ أفعالٍ فحسب من حيث نُحصِيْ فيها من الأسماء ما لا يقلّ عن واحد وعشرين.
وقد يمكن النسجُ بالاسم وحده، في اللغة العربيّة، دون أن يَعْتَاَصَ ذلك على الفُصحاء الأبْبِنَاء، والَّلِسِنين البُلغُاء؛ كما نلاحظ ذلك في بعض خطبة قسّ بن ساعدة الإيادي الذي كان يُضْرَبُ به المثل في فصاحة اللسان، والقدرة على نسج البيان(10): "(...) في هذه آياتٌ محكمات، مَطَرٌ، ونبات، وآباءٌ وأمهات، وذاهبٌ وأت، ونجوم تَمور، وبحور لا تَغُور، وسقف مرفوع، ومِهَادٌ موضوع، وليلٌ داج، وسماءُ ذاتُ أبراج"(11). ففي هذه الكلمة لم يرد الفعل إلاّ مرتيْن اثنتيْن من بين عشرين اسماً؛ وكما يمكن أن يُلاحَظَ ذلك في بعض نصّ إحدى خطب الحجّاج، إذ يقول: "يا أهل العراق، يا أهل الشِّقاق والنِّفاق، ومساوئَ الأخلاق، وَبني اللَّكيعة، وعبيد العصا، وأولاد الإماء، والَفْقْع بالقَرْقِرَ..."(12): فهنا نجد خمسةَ عشرَ اسْمَاً بدون ورودِ أيّ فعلٍ، وبدون أن يمكن أن يذهب أحد من الناس إلى أنّ مثل هذا الكلام كان محتاجاً إلى أن يَتَعلَّق بغيره الغائب، على نحو أو على آخر...
ومثل هذا في العربية كثير مشهور، ومتواتر معلوم؛ بحيث لايحتاج معه إلى برهنة ولا إلى تدليل.
2. إن النظام الإسْميَّ يفيد الثبات والسكون؛ ولعلّ السكون هو الدَّيْدَنُ الغالب على حياة الجاهلية الذين كان الرُّتُوبُ يحكم حياتَهم، والسكون يقيّدها. وكانتْ تلك السيرةُ تُحَتِّمُها نوعيَّةُ الطبيعة المحيطة بهم، والبدائيّة التي كانت تحكم حياتَهم، بحيث كانت أسفارهم الطويلة، قليلةً، وإقاماتهم، أو تنقلاتهم القصيرة، كثيرة. لا تغير في نظام العيش، ولكن الرتوب... يعيش الأبناء كعيشة الآباء، ويعيش الأحفاد، كعيشة الأجداد. من خرج عن نظام القبيلة، وعاداتها، عُدَّ مارِقاً، ومَنْ تنكّر لتقاليدها اعْتُبَر عاقّاً مُفَارِقاً.
وإذن، فإنّ النظام الاسميَّ في نسج اللغة في المعلّقات السبع لا يعدو كونَه امتداداً للحياة الجاهليّة بمظاهرها الاجتماعيّة والعقليّة والاقتصادية والثقافيّة التي كانت تتجسّد، خصوصاً، في رواية الشعر، وفي إنشاده في المحافل والمناسبات الكبرى وفي التغنّي به في التظّعان. كما أنّ الأشعار التي كانت تتردّد في المآقِطِ المختلفة كانت تتشابه وتتقارب أشكالُها، ومضامينها: البكاءُ على الأطلال، ووصْفُ جمال النساء، ثم وصْفُ النُّوقِ والسَّفَر، أو الخيلُ، أو المطر، أو البلاء في الحرب... أو سَوْقٌ لبعض الحِكَمِ، وضَرْبٌ لبعض الأمثال، وذِكْرٌ لبعض الوقائع...
فلم يكن الثبات الذي يقتضيه النظام الاسِميُّ في نسج اللغة، عَبْرَ المعلقات، متمثِلاً في الحياة بمعانيها المادّية فحسب؛ ولكننا نلفيه ثابتاً أيضاً، في المظاهر الأدبيّة والثقافيّة (بناء القصيدة- نظام القبيلة- تقاليد الرعي والتماس الكَلأ، وهلمّ جرا من سائر المظاهر الأنتروبولوجيّة).
3. الاسْمُ يحيل على الكائن الحيّ ويعيّنه، فهو يحيا: يحبّ ويكره، إن كان عاقلاً، ويضطرب ويتحرّك، إن لم يكُنْهُ. على حين أنّ الفعل حدَثٌ، والحدث لا ينشئ نفسه، ولا يقوم بذاته بمعزل عن الاسم؛ عن الكائن الحيّ الذي يُسَبّبُهُ، أو يكون نتيجة له، أو يكون مندمجاً فيه.. فالفعل- وإذن النظام الفعلي، بجَذامِيرِه- لا ينبغي له أن يكون إلاَّ مجرّدَ تابِعَ للنظام الاسِميّ، خاضعٍ له، ناشئٍ عنه.
4. قد يجتزئ الاسم وحده في الكلام؛ إذا ظاهرتْه قرينةٌ ما، مثل قوله تعالى: "الرّحْمن"(13). فاسم الجلالة: الرحمن، هنا آية بنفسه؛ ولم نجد ذلك حَدَثَ في فعل من الأفعال. فالاسْمُ هو صاحب الشأن والبال؛ أما الفعل فلا يأتي إلا خَدَماً له، وسائِراً في فلكه.
5. وإذا كانَتْ بعض المعلّقات(خصوصاً معلّقة زهير) تَغَلَّبَ فيها النظامُ الفعليّ على النظام الاسميّ؛ فلأَنَّحكيمُ المعلّقاتيين عَمَدَ إلى بثّ الحكمة، وإرسال الأمثال، وتذكيرٍ بمآسي الحرب، وتصوير لبشاعتها، وتزهيد الناس في سفك الدماء، وترغيبهم في أن يجعلوا المحبّة والسلام يسودان بينهم. ومثل هذا السلوك الذهنيّ ينشأ عنه قلةٌ في استعمال الأسماء، وكثرةٌ في استعمال الأفعال. ولعلّ الذي ظاهر على ذلك أنّ نظام النسْج في معلَّقة زهير اقتضى أن ينتهي كثير من أبياتها بأفعال مضارعة، إذْ نلفي اثنيْن وعشرين بيتاً من بين اثنين وستين ينتهين بأفعال أغْلَبُهَا مُضارِعٌ. وهي سيرة من النسج الشعريّ ليست عاديّة.
ونحن حين اصطنعنا عبارة"نظام النسج"، في هذه المعلّقة، فلأننا، فعلاً، لاحظنا أنّ أسلوب الكَمِّ يكاد يختلف، هنا، عنه في سائر المعلّقات. فكأنّ نظام النّسْج في معلّقة زهير ينهض على تسخير هذه الفُيوض الفائضة من الأفعال المضارعة المجزومة التي كان وراء جزمها، في عامّتها، ذلك العامل الجازم لفعلين اثنين، وهو: "مَنْ"، وأخواته مثل "متى"، و"مَهْما"... التي تكرّرت، في جملتها، زُهاءَ أربعٍ وعشرينَ مرَّةً.
وعلى أنّنا لو انزلقنا إلى عدِّ الأفعال المضارِعة المجزومة المعطوفة على الجُمل الأصليّة الناشئة عن إعمال الجزم لوجدنا النص الزُّهَيْرِيَّ يَعْجُّ بها عجيجاً، مثل: يوخّرْ، فيوضعْ، فيدّخرْ، يعجَلْ، فينقم. ومثل: وَتَضْرَ، فتضْرَم، وتلقحْ، تنتج، فتُتْئَم، فتُنْتج، فتغلل....
وإذا كان اسم "مَنْ" جاء في العربيّة للدلالة على العقلاء، إلاّ لدى الانزياح(فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ...) (14)؛ فِلأَنَّ الناصّ كان يريد من وراء هذا الاستعمال إلى مخاطبة العقلاء حقاً، وتخصيصهم بالخطاب فعلاً. كان الشاعر الحكيم يريد أن يخاطبهم، فيؤثّر فيهم، ويبلغ غايته منهم؛ فيعدل بهم عمّا كانوا فيه من جَهالةٍ جهلاء، وما كانوا يَخْبِطون فيه من حروب هوجاء، وما كانوا يشنّونه من غارات شعواء، وما كانوا عليه من التساهل في سفك الدماء: باسْمِ الشجاعة، واستحلال أموال سَوائِهِمْ تحت عادياتٍ تَعَوَّدوها...
وإذا كانت لغة عنترة تجري في بعض ما نحن بصدده من افتخار بسفك الدماء، وتمجيد القتل وخوض الحروب، وتصوير لمكارم الأخلاق كلّها في طعن الفرسان بالرماح، وَشَكِّ الرجال بالسلاح، وجندلتهم في سَاحِ الوغَى، وتغنٍّ بمناظر الموت البشعة، وتبجّج بمشاهد الدماء وهي تنزف من أجساد البشر، وهم يَتَهَاوَوْنَ على الأرض صَرْعىً لَقىً كأجْذاع النخْل: بفعل العَضْبِ بالسيوف، والطَّعْنِ بالعوالي: فإنَّ الصورة لدى زهير هي غيرها لدى عنترة. فكأنّ عنترة قاتل محترف:
*قيلُ الفوارسِ: ويْكَ عَنْتَرَ أَقْدِمِ*
ومحاربٌ متخصّص في جندلةِ الأبطال، على حين أنّ زهيراً رجلُ سلامٍ، ومحبّة، وعقل... وأيّاً كان الشأن؛ فإنّ الفكرة التي نهضت عليها معلقة زهير كانت تقتضي فيْضاً من هذه الأفعال، كأنه لِيَصِفَ بها، بطريقٍ غير مباشر، معارِكَ الحرب، وأهوالُ الموت، ومناظر العذاب والخرابِ. فكأنّ زهيراً لا يصف الحرب وأهوالَها وآلامها وأتراحَها ومِحَنَها وشقاءَها في اللغة، ولكنه كان يصفها باللغة. وكأنَّ هذه اللغة، اللغة الزهيريّة، حركات الفرسان وهم يتقاتلون ويتصاولون ويتطاعنون: في خِفّةِ حركةٍ، وفي كرٍ وفر، وفي إقبال وإدبار، وفي وَثَبَانٍ وَرَوَغَانٍ...
بينما نلفي نظام النسج اللغويّ لدى عنترة، وقد اقتضى المقام أن نقرن بينهما، هنا، ينهض على تصوير الحركة الفعليّة، الماديّة: للتقاتُلِ والتَّطَاعُنِ والتَّنَاحُرِ والتصاولُ بين الفرسان؛ وقل إن شئت بين عنترة وَحْدَهُ والفرسان الآخرين الذين كانوا يَعْرِضون له، أو يجرؤون على التَّطالُلِ على فروسيّته ورجوليته، وشجاعته التي سارت بذكرها الركبان... فاللغة لدى عنترة تنهض بوصف ما يحدث، فكأنّها سخّرت لِسَوَائِها، على حين أنّ اللغة لدى زهير تنهض بوصف الخارج فيها؛ فكأنها مسّخرةٌ لذاتِها، من أجل ذاتها. فكأنّ العمل باللغة في معلقة زهير يتّخذ من النسج باللغة غايةً له. فلغة زهير تصوّر الخارج عَبْرَ فَيْضٍ من وجدان الذات، فكأنّها تحويل للخارج نحو الداخل: لِتَركِّبَهُ، ثم تَبُثَّه نحو الخارج في صورة أخراةٍ جديدة. بينما اللغة لدى عنترة كأنها تصوير للخارج في واقع الداخل، وإٍسقاط للواقع الخارجيّ على حميميّة الذات.


وإذا كانت التقريريّة هي التي تحكم نظام النسج لدى زهير في معلّقته، مَثَلُه مَثَلُ عمرو بن كلثوم، وربما طرفة أيضاً؛ فإنّ السرديّة هي التي تحكم نظام النسج لدى المعلّقّاتيّين الآخرين على الرغم من أنّ صفة السردية تجمع معظم المعلّقاتيّين، إن لا نقل كلّهم، إذا انصرف الوهم إلى المطالع الطللّية. لكنّ امرأ القيس يظلّ أشدهم تعلّقاً بالسرديّة، وأكثر استعمالاً لها، وقد كان ذلك أثار عنايتنا منذ أكثر من ربع قرن(15).
وأياً كان الشأن؛ فإنه يمكن أن نقرر أنّ المعلّقاتيّين السبعة، في نظام النسج اللغويّ المستعمل في معلّقاتهم، هم إمّا سُرَّادٌ، وذلك عَامٌّ في مطالِعِهم؛ وإمَّا مُقَرِّرُونَ؛ وذلك خاصّ بأصحاب الحكمةِ والتأمّل، ولا سيما طرفة وزهير. ثم يقع التفاوت فيما بينهم على درجات من حيث الإغراقُ في السْردِ فحسب؛ أو الإغراق في التقرير فحسب؛ أو الجنوح للسرد أكثر من التقرير، أو الميل إلى التقرير أكثر من السرد...
ومن الواضح أنّ هذا الوضع يؤثّر في طبيعة الأسلوب، وشكل اللغة، ونظام النسج.
وهناك مسألة أخراةٌ عالجْناها، في غير هذا المقام، وهي أننا لاحظنا أن نظّام النسج كان يخضع، لدى هؤلاء المعلّقّاتيّين، لطبيعة المضمون المتناوَل، ولحال الوضع العاطفيّ الماثل، للمعلّقاتي حين يُنشئ شعرَه. فمَنْ النسْج ما يغْلُب عليه ما أطلقْنا عليه الضجيجيَّةُ كما في معلقتي عمرو بن كلثوم والحارث بن حلّزة، ومنه ما يطْغُو عليه الحميميَّةُ والذاتيَّةُ مثلما يصادفنا بعض ذلك لدى امرئِ القيس، وربما لدى عنترة أيضاً، ولدى طرفة في وجه من معلّقته. وقد كنّا لاحظنا أنّ الضجيجيّة تعني ذَوَبّان الذاتِ في الآخَرِ، وليس الآخَرُ هنا إلاّ القبيلةَ التي ينتمي إليها المعلّقاتي، فَيَنْضَحُ عنها، وَيُرَوِّجُ لِمَكَارِمِهَا، ويتغنّى بمآثرها، حتى يجعلها في ذروة من المجد، وقُلَّةٍ من السُّؤْدد. بينما الحميميّة إنما تُعْنى بتوهّج الذات، وطفوح قوة النفْس، وبروز شدة الحضور الداخلي، أو الحميميّ الذاتيّ، للمعلّقاتيّ: فإذا هو لا يلتفت إلا قليلاً إلى العالم الخارجي، ولا يكترث بما حوله، ولكنّ التعبير عن عالَمَه هو الذي يعنيه في المنزلة الأولى.

****
رابعاً: زخرفيّات نسجيّة أخرى
وممّا يمكن أن يكون له صلة بنظام النسج اللغويّ في المعلّقات ما لاحظناه من طفور بعض الأدوات الإنشائيّة، بتعبير البلاغيّين، وأدوات الزخرفة اللفظيّة باصطلاحنا: وذلك مثل الاستفهام، والقَسَمَ، والنداء، والتعجّب ونحوها.
وقد لاحظنا أنّ الاستفهام، بنوعيه البسيط والإِنكاري، يأتي في المرتبة الأولى بثلاثة وثلاثين استفهاماً، والنداء يتبوأ المنزلة الثانية بتسع عَشْرَةَ حالَةَ نداءٍ، والقسمَ يَردُ في المرتبة الثالثة بإِحدى عشرة حالة قَسَمِ، من حيثُ يتبوَّأُ التعجُّبُ المرتبةَ الأخيرة بسبع حالاتٍ تعجّبٍ فحسب.
والذي لاحظناه أيضاً حول هذه الظاهرة أنّنا ألفينا كلّ المعلّقاتيّين مستفهمين، مع تفاوت بينهم في كثرة الاستعمال: كثرة تتراوح بين تسعة استفهامات لدى الحارث بن حلّزة، واستفهاميْن فحسب لدى امرئ القيس.
ولعلّ أداة الاستفهام أن تكون زخرفة كلاميّة تجلو الرتابة عن النسج، وتنفض غبار السكون الأسلوبيّ عن الكلام، وتحمل المتلقيّ على التيقّظ والتّحفّز، وتدفعه إلى استعمال مَلَكَته الذوقيّة، وطاقته الذهنيّة من أجل أن يجيب عمّا أثير من تساؤلات، وطُرِحَ من استفهامات. إنّ الاستفهام، وخصوصاً الإنكاريَّ منه-وهو كثير- مُساءَلَةٌ، وَحَيْرةٌ، وقلق. ولعلّ المُساءلة أن تكون دعوة إلى المعرفة، والمعرفة أرقى مستويات الإدراك.
والاستفهام إبداءٌ لما في النَفْس من فضول معرفيّ، وَبَوْح بما في القلب من وجدان الذات، وكشْف عمَّا في الضمير من حَيرة حَيْرَى: فإِذا ما كان مخبوءاً يغتدي مكشوفاً، وإذا ما كان مستكيناً يُمْسِي مُعرّىً.
وبينما كنّا ألفينا امْرَأ القيس يتبوَأ المنزلة الثانية بالقياس إلى زَخْرَ‌فَةِ التشبيه (واعتبرناه الأوّل من حيث تنويع تشبيهاته، وجمالها، وإِصابتها-كما يعبّر الجاحظ- وابتكارها وابتداعها): نلفيه الأخير في زخرفة الاستفهام. فكأنّه وقع تبادلٌ في المواقع النسجيّة بين المعلّقات فإذا هذه تُغْرِقُ في التشبيهات، وتلك تغرق في الاسْتِفَهامات، والأخراة تجنح لِلْقَسَم، وهلمّ جرّا...
وإنما ألفينا الحارث بن حلزة يغرق في استعمال الاستفهامات فيبلغ بها تِسْعَ حالاتٍ متبَّوئاً المنزلةَ الأولى بين المعلقّاتيين لأنه كان يدافع عن قضيّة، وَيَنْضَحُ عن مَوْقِفٍ. لقد كان قصاراه إِقْنَاعَ المتلقّين بظلم قبيلة تغلِب مجسَّدَةً، أو مُجَسَّداً، في موقف عمرو بن كلثوم، وتجاوزه كل طَوَرْ، وعَدَوه كل حدٍ: في الادِعِاءِ على بَكْر، وذهابه في كلّ ذلك المذاهب المستحيلة من سَوْقِ التُّهَمِ بالباطل...
وقد لاحظْنا أن الحارث لم يندفع في نسج الاستفهامات من ذاته إلاّ مرة واحدة:
لا أرى مَنْ عَهِدْتُ فيها فأَبْكِي الـ

ـيوم، وما يُحيِرُ الْبُكَاءُ؟


وعلى أنّ هذا الاستفهام وارِدٌ ضمنياً، إذ يمكن أن تُقَرَأَ عبارة: "وما يُحَيُر الْبُكَاءُ" على معنى النفْي، لا على معنى الاستفهامِ؛ على الرغم من أنّ قراءتها على معنى الاستفهام يمنحها قوةًً دلالية أجمل وأقلق وأغنى؛ وكأن الحارث كان يريد أن يقول بالتسطيح النثري: وهل رأيتم، قط، بكاءً حارَ جَواباً، وردَّ خِطاباً؟ وهو كما يقرر الزوزنيّ: "استفهام يفيد الجحود"(16) فهذا الاستفهام: الشعريّ، الانزياحيُّ، الجميل(وهو جميل حقّاً لأنه خَرَقَ قواعد الصياغة المألوفة فاستفهم في غير مكان الاستفهام؛ وهي سيرة نعهدها لدى كبار الشعراء، وفصحاء الأبيناء) أفضى إلى الاستنكار والقَلَقِ، والحَيْرة والسُّمود.
وأمّا بقيّة الاستفهامات فتنطلق، في عامّتها من الضمير الجمعيّ: من صرخة القبيلة، ومن صوت العشيرة، مثل:
أم علينا جَرَّى قُضاعَةَ أم ليـ

ـس علينا، فيما جَنَوْا، أَنْدَاءُ؟


إنّ معظم التشبيهات لدى الحارث بن حلّزة واردة في معنى الإنكار والحجود، والرفض والنفي. وهو مازاد هذه التشبيهات فَيْضَاً جماليّاً بديعَاً، لأنّه يحمل جماليّة في نفسه من حيث هو مُساءلة، أي إيقاظٌ لانتباهِ المتلقّي ودَفْعَه إلى المشاركة في تشكيل الرسالة المطروحة، كما يحمل جماليّة أخراة تتمثّل في أنّه يحمل مُخادَعةً للمتلقّي، ومُغَالطَةً للمستقبل الذي يعتقد، لأول وهلة، أن الرسالة أُلقِيَتْ عليه ليجيب عنها، بينما هي تحمل جوابَها في نفسها، وإقناعَها في ذاتها، وإنكارَها في نسجها.
على حين أنَّنا ألفيْنا كُلَّ الاستفهامات الواردة لدى طرفة بن العبد، وهي ستّة، وهي تمثّل المرتبة الثانية بعد الحارث بن حلّزة، تنطلق من ذات الناصّ، وتنبع من نفسه، وتنبثق عن جَوَّانيته، لأنه كان بصدد نَعْيِ نَفْسِه، فيما يزعم مؤرخّو الأدب (17): فكان مُضطَرَّاً إلى التساؤل عن كثير ممّا يَحْدُثُ مِنْ حَوْلِهِ، أو قُلْ: ما يحدث له، أو قل: ما يحدث له عبر هذا العالم الغريب، وما يتعرّض له من ظلم ومَضاضَةٍ:
* وأنْ أَشْهَدَ اللّذّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخِلْدِي؟
* ستَعْلَمُ، إن متْنا غَداً، أَيُّنا، الصَّدِي؟
وأمّا منطلق مُساءلات عمرو بن كلثوم، وقد تواترتْ خمسَ مرّاتٍ، وهو الشاعر الذي كان يبشّر بقضيّة القبيلة، ويدافع عن مجدها، وينضَحُ عن شَرَفها: فإنّها وردت، هي أيضاً، وعلى سبيل الإطلاق، في معرض التحدّث عن الجماعة، والتكلّم باسمِها، ورفع العقيرة بصوتها:
بأيِّ مشيئةٍ، عمرو بْنَ هِنْدٍ

تُطيع بنا الوُشاةَ وتَزْدَرِينا؟

أَلَمَّا تَعْلَمُوا، مِنَّا ومنكم،

كتائِبَ يَطَّعِنَّ ويَرْتَمينَا؟


بينما انطلقت استفهامات عنترة، وهي خمسة أيضاً، من أعماق نفسه؛ إذْ كان بصدد النَّضْحِ عن حَقِهِ في الحريّ‍ة، وَجدارته بالوجودِ؛ وإذْ كان على شجاعته وَحُسْنِ بَلائه في الحروب كان أبوه يتردّد في إلحاقِه بنَسَبِه، كما أنّ حُبَّهَ عَبْلَةَ أَجَّجَ في قلبه رسيس الهوى فأنطقه بما أنطق، وألهمه بما ألهم: فجعله يخاطبها، وهي بعيدةٌ عنه، معاتباً إيّاها عن عدم مُساءَلَتِها عن بَلائه في الحروب، ومتابعتها لمقاماتِه في الوغى؛ وكيف أنّ الخيل كانت تعرفه لفُروسيّته، وكيف أن الفرسان كانت تتَهَيَّبُه لشجاعته: إلاّ هي التي ظلّت جاهِلَةً، أو متجاهلةً، بما كان يجب عليها أن تعلم من أمره، وتعرفَ من شأنه:
هَلاَّ سأَلْتِ الخيلَ يا ابنةَ مالكٍ

إن كنتِ جاهلةً بما لم تَعْلَمِي؟


وقد أثار انتباهَنا، هنا، شيءٌ آخرُ في نظام النسيج اللغويّ للمعلّقات؛ وهو هذه النداءات المتكررة، والأصوات المتعالية: الدالّة على الدَّلَهِ وَالْوَلَهِ، والقَلق والفَزَع، والتخوّف والترقّب. وكانت هذه النداءاتُ ربما خرجت عن إطارها الاستعمالِيّ المألوفِ، لتخرق القاعدة، ولتغتدي مُنزاحةً مُنساحةً، مثل ما نلفيه لدى امرئِ القيسِ الذي خاطب الليل فجعله يَعْقِلُ نداءه، ويعي خطابه (وإن كنّا شكَكْنا في أنّ الأبيات الأربعة التي يصف فيها الملك الضليل الليل، قد تكون له... وقد عللّنا ذلك في موقعه من هذه الدراسة...)، ومثل ما نجده لدى زهير الذي يخاطب الرَّ‍بْعَ ويدعو له بالسَّلامة، وكأنّه عاقِلٌ واعٍ، وسامِعٌ سَاعٍ.
ذلك، وقد ألفينا هذه النداءات الصريحة، أو النداءات المنزاحةَ الواردة في صور التعجب، تبلغ زهاء تِسْعَةَ عَشَرَ. وقد توزّعت على عامّة نصوص المعلقات إلاّ معلقة الحارث بن حلّزة إنها خَلَتْ من أيّ نداء أو تعجّب. أمّا التواتر فكان يتراوح بين ستّةِ نداءاتٍ (عمرو بن كلثوم)، ونداءٍ واحدٍ (زهير بن أبي سُلمى).
وإذا كنّا زعمنا أنّ الاستفهام يعبّر عن مدى القلق الناشئ عن فضول المُساءلة النائشة عن الحَيرة والتعجّب، فإنّ النداء لا يَقِلُّ جماليّة من حيث هو مظهرٌ تعبيريّ أنيق رشيق، وخصوصاً حين ينزاح النداء فينصرف إلى ما لا يعقل، أو حين يَحَارُ فينصرف إلى التعجّب كقول امرئ القيس:
ألا أَيُّها الليلُ الطويلُ ألا انجلِِ

بِصُبْحٍ، وما الإصباحُ منك بأَمْثَلِ


فهذا الليل لطول زمنهِ، وكثافة ظلمته، وكثرة هُمومه، وشِدّة أهواله، ولمُلازِمة النَّاصِّ له، ولملازِمة الليل للنَّاصّ: مسافِراً يتسقَّطُ المجْد، وظاعِناً يحاول السُّؤُدْدُ، وأرِقاً يتجرّع العِشّق، وساهِراً يَحْتَسِي كؤوس الرَّاح، وشاعراً يلتمس بناتِ الشعر: اندمج في هذا الليل، واندمج الليل فيه، فذاب، ما كانَ بينهما من فروق: أحدهما إنسان حيّ عاقلٌ واعٍ، وأحدهما الآخر زمن مظلم غير عاقل ولا واع: فإذا هذا ذاك؛ وإذا ذاك هذا؛ وإذا النَّاصُّ يُلفي سبيلَه على ليله؛ فتنزاح له الحُجُب، وتتكشّف له الأسرار، وَيُؤْتَى من هذه الأسرار ما يُتيح له الفهمَ عن الليل؛ بل يُتيح له ما يجعله: يجعل هذا الليلَ يفهم عنه، وَيَعِيَ خطابه، ويستجيب لندائه... وإنه لِسِحْرُ الشعر! وإنه لَجمال النسْج الأدبي العبقريّ. وإنّها لَعُذْرِيَّةُ الخيال، ووحشيّة اللغة الشعريّة...
وإذا كنا توقّفنا لدى نداء امرئ القيس، هذا، فلِمَا رأَيْنا من اشتماله على انزياح لغويّ عجيب، وانسياج نسْجيّ مبكِرٍّ في الشعر العربيّ. أمّا النداءات الأخراة وعلى كثرتها في معلّقة عمرو بن كلثوم مثلاً؛ فإنها لا تجاوز حدود الاستعمال المألوف الذي إن كان يعني قلقَاً وعجَبَاً، وَحيرةً وتطلّعاً؛ فإنه، مع ذلك، وعلى الرغم من ذلك، لا يستطيع أن يرقى إلى مستوى الاستعمال المنزاح، مثل قوله:
أَبَا هِنْدٍ فلا تعْجَلْ عليْنا

وأَنظِرْنا نُخَبِّرْكَ اليقينا؟


وربما كان أجمل نداءات عمرو بن كلثوم حين قَرَنَ بين الاستفهام والنداء، في مثل قوله:
بأيِّ مشيئةٍ، عمرو بْنَ هندٍ،

تُطيع بنا الوُشاةَ، وتَزْدَرينا؟


أمّا المظهر النسجيّ الآخر الجديرُ لِلَّتَوَقُفِ، والقمينُ للْمُلاحظة؛ فهو القَسَمُ الذي هو زينةٌ من زيناتِ النسج الأدبيّ في الأدب العربيّ: شعره ونثره. فقد كان الفصحاء يتفنّنون في هذه الأقسام، ويتأبَّهُونَ بها، ويتبجّحون باستعمالها لِمَا كانوا يُحسِّون، إحساساً فطريّاً، فيها من الجمال الدافق، والوهَج الطافح: فكانوا يسحرون المتلقّين سحراً، ويأْسرونهم أسْراً.
فلا عجب أن نلفي هذه المعلّقاتِ تُنَمِّقُ نُسِوجَها ببعض هذه الأقسام فنلفيها تتكرّ‍ر لدى ثلاثة معلقّاتيّين هم طرفة، وزهير، وامرؤ القيس. بيد أنّها لم تكد تتكرّر لدى هؤلاء إلاّ عشرَ مرات: أربعاً لدى الأوّلين، واثنتَيْنِ لدى الآخر.
وقد وردت تلك الأقسام في صورة العبارات التالية:
*لعَمْرُكَ، ولَعَمْرِي(أربع مرات)،
*آليت، وأقسمت، وحلفت (ثلاث مرات)،
*يميناً، ويمين الله(مرتين اثنتين)،
*وجَدِّكَ(مرة واحدة).
وقد وردت هذه الأقسام الثمانية، لدى طرفة وزهير، على لساني هذين المعلقّاتيّين أنفسهما، بينما القَسَمان الاثنان الآخران الواردان في معلّقة امرئ القيس ورداً على لسان إحدى النساء اللواتي شبَّب بهنّ:
*ويَوْماً على ظَهر الكثيب تعذَّرَتْ

عَلَيّ، وآلَتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّلِ

*فقالت: يَمِينَ اللّهِ مالكَ حيلَةٌ

وما إِنْ أَرَى عَنكَ الغِوايَةَ تَنْجَلِي


ولكن يبدو أنّ القسم، هنا، ومن الوجهة الدلالية الخالصة، لا يعني الرفض، ولا يعني التقديس؛ بمقدار ما هو كلام تقوله المرأة حين تريد باطناً ولا تريد ظاهراً. فالتَّأَبِّي، والتَّأَلِيَّ لدى هذه المرأة لم يكن يُقْصَدُ منه التمنُّعُ الحقيقيّ، ولا التأييسُ منها، ولا التزهيدُ فيها؛ بمقدار ما كان ضَرْبَاً من الغَنَجِ والإِغراء بها، حتّى قيل: إنّ البيت الثاني هو أغنج بيت قيل في الشعر العربيّ على سبيل الإطلاق(18).
فكأنّ النسيج الشعريّ لدى امرئ القيس أبداً يَسْتَمِيزُ عن النسوج الشعريّة لدى زملائه المعلّقاتيّين، ويتفرّد عنها، إن لاّ نقل يتسامى عليها. فالقَسَم لديه، هنا، مُنْزاحٌ لأنّه لا يحتمل ظاهِرَ الدلالة، بينما نلفي الأَلاَيَا، لدى طرفة وزهير، لا تخرج عن وَضْعِها اللغويّ، المألوف لدى الناس مثل قول زهير:
فأقسمتُ بالبيتِ الذي طاف حوله

رِجالٌ بَنَوْهُ مِنْ قُريشٍ وجُرْهُمِ

يَميناً لَنِعْمَ السيّدان وجَدْتُما


فالتَّالِيَّ، هنا في بيت زهير، مسلوكٌ في مَسْلَكِهِ المألوف؛ بحيث إنّ النَّاصُّ يُقْسِمُ يميناً بالبيت العتيق الذي كان تعاقب على بنائه أقوامٌ وأمم منها جُرْهُمٌ وقريش (ولأمر ما كانت قريش تؤثر شعرَ زهير على صِحَابِه، زاعمةً أنّه"لا يعاظِلُ بين الكلاميْن، ولا يتتبّع وحشيّ الكلام، ولايمدح أحداً بغير ما فيه" (19)، بينما قد يكون ذلك عائداً إلى أنّه لأنه ربما ذكر قريشاً في معلقته؛ وإلاّ فأين المُعَاظَلَة التي نجدها، مثلاً، في شعر امرئ القيس... فهناك شعراء لم يمدحو قطّ منهم عمرو بن كلثوم، وربما عنترة أيضاً(بينما مدائح امرئ القيس-وهي قليلة- لا يمكن أن ترقى إلى مستوى شعره في المعلّقة أو المطولّة-، فالمَدْح في مسألة تفضيل زهير غير وارد إذن، فلماذا ذكر؟ إلا أن تكون المفاضلة كانت بينه وبين سَوَاءِ المعلقّاتِيّينَ، والحال أنها كانت بينه وبينهم؛ فهم أَكْفَاؤُه وأَنْدَادُه. وهناك شعراء ظلت لغة شعرهم جاريةً على كلّ لسان، ومعانيهم مسرعةً إلى كلّ جَنان؛ منهم امرؤ القيس، فأين الوحشيّة اللغويّة المزعومة التي تتحدّث عنها تلك الرواية...؟ وَلِمَ قَدَّمَ الرسولُ الكريم، صلى الله عليه وسلم، امرَأَ القيس(20)، ضمناً، بينما لم تقدّمه قريْشٌ...؟) إنّ هذين السيّدين اللذين هما هرم بن سنان، والحارث ابن عوف: لَكَرِيمان ماجدان، بسعيهما إلى وقف سَفْكِ الدماء"بين عبس وذبيان، وتحمّلهما أعباءَ دِيَاتِ القَتْلَى"(21).
فالقَسَمْ، على شرف مستعملِه، لا يخرج هنا عن الإطار المألوف للنسْج الأدبيّ؛ فليس فيه خرّق ولا انْزِيَاحٌ. ومثل ذلك يقال في بقية الأَ‌لاَيَا الأخراةِ التي لا تكاد تخرج عن الاستعمال المألوف إلا ما رأينا من قَسَمَي امرئِ القيس على لسان فاطِمته.
وعلى أنّ هناك مُزَخْرَفِاتٍ أخراةً صادفتنا ونحن نقرأ نصوص المعلّقات وهي التعجّب، والدُّعاء، والتحيّة والتمنّي... وقد صادَفنا بعض ذلك، خصوصاً، لدى زهير، وعنترة، ولبيد، وامرئِ القيس، وطرفة. ولكنّ ذلك كلّه لم يجاوز تسع مزخرفات مثل قول امرئ القيس حكايةً عن حبيبته وهي تدعو إليه: دعاء المتدلِلَّةِ المتغِنّجَة، الوامقة العاشقة، لا الحاقدة الحانقة؛ فكأنّها كانت، إذن،
تدعو له:
*فقالَتْ: لَكَ الوَيْلاتُ، إنَّكَ مُرْجِلي
وهنا، أيضاً، نُلفي هذا الدعاءَ مارِقاً عن نظام الاسْتعمال المألوف، ونازحاً عن أصل الاستخدام المعروف: فإذا هو معدول به عن وضْعه الأصليّ. ذلك بأنّ الدعاء إمّا أن يكون عليك، وإمّا أن يكون لك؛ فإذا كان عليك فهو بالويل والثبور، وهو بالشقاء والتِّبارِ؛ وهو بكلّ ما هو سيّء ضار... وأمّا إذا كان لك فهو بالسَّقْيا والخَيْر، والرحمة والسعادة، والتوفيق والفَلَجْ. والويل، في ظاهره، مصروف إلى مصارف الشرّ، ومدفوع إلى وجوه الضَّيْر، لكنّ ذلك كله مجرّد مغالطة أسلوبيّة يحملها سطْح النسج: إذا كان السياق يقتضي أنّ الوبل، هنا، لا يزال يفقد من غُلُوَاءِ شِرّهِ وضيْره إلى أن يغتدِيَ مجرّدَ كلامٍ أبيضَ، أي إلى أن يغتدِيَ عبارةً تَحَبُّبٍ وَتَوَدُّدٍ، وقولَةِ إِغْراءٍ وتقرُّبٍ، وإعلانَ دُعاءٍ وتَوَمُّقٍ؛ فكأنَّ معنى هذا الدعاء الجميل: ارْفُقُ بِي أيها الحبيبُ الغالِ؛ والتزِمْ شيْئاً من الحِذَارِ حينُ تُقَبِلُّني؛ وأنا في غبيطيَ الصغير؛ فإنّك توشك أن تُوقعني أَرْضَاً، وإنّي أخشى أن تَقَعَ، قبل أن أَقَعَ أنا أيْضاً، أرْضاً! ومع ذلك، فامْضِ فيما أنتَ فيه ماضٍ؛ فإني مُلْفِيَةٌ فيه اللذاذَةَ، ومُحِسَّةٌ فيه بالنعيم!... فامْضِ، إذن، فيما أنت فيه، وَلأُرْجَلْ، أثناء ذلك، أَلْفَ إِرْجَالَةٍ!...ويَحْكَ امْضِ... ويحك ادْنُ..
ونُلْفِي زُهيراً يُحِيّي طَلَلَه الْبَالِ، وربْعَه الدارِسَ، فيخاطبه:
فلَمَّا عرْفتُ الدارَ قلت لربْعِها، تَكَلَّمي

أَلا عِمْ صباحاً، أيُّها الربْعُ، واسْلَمٍِ


كما نلفي عنترة يخاطب حبيبته، يحيّيها، ويدعو لها:
يا دارَ عَبْلَةَ، بالجَواءِ، تَكَلَّمِي

وعِمِي صَباحاً، دارَ عَبْلَةَ، واسْلَمِي


وقد يكون هذا البيت من أجمل الشعر العربيّ زخرفةً، فقد جمع فيه الناصّ بين عدّة مُزَخْرَفاتٍ:
المزخرِفُ الأوّلُ يَمْثُلُ في النداء الذي تكرر مرتيْن اثنتين:
يا دارَ...+ دار عَبْلَةَ (نداء بالياء، ونداء آخر بحذف حرف النداء).
ولقدْ يمكن أن نُؤَوِّلَ استعمالَ أدَاةِ النداء أوّلاً، ثم العدول عنها آخِراً، في موقف واحد، وفي بيت واحد؛ لم يكن إلاّّ تجسيداً لِمَا كان يلتعج في نفسْ الشّخصية الشعريّة التي كانت ترى مُبْتَدأَ الأمِر، أنّ دار الحبيبة، فِعْلاً، بعيدةٌ من حيث الحيزُ، من أجل ذلك كان الأليقُ بالنسج استعمالَ أداة النداء الدالّة على بعيد. ولكن لَمَّا دَعا لدار الحبيبة، عاد في موقفه، وكأنه اسْتَحَى أنْ يُخاطِبَها بأداة النداء الدالّة على البعيد، فناداها، تارةً أخراةً، بوجهٍ آَخَرَ من الكلام، واصطنع زَخْرَفَةً دالة على الاقتراب والالتصاق؛ فكأنّ عَبْلَةَ كانت مستقِرَّة في نفسه، وكأنها كانت كَظِّلهِ لا تُزايلهِ، وتقارفه ولا تفارقه، فقال: دارَ عبلة...
وأمّا المزخرِفُ الثاني فَيْمثُلُ في تَحيَّةِ الحبيبة والتسليم عليها، وقد اصطنع الناصّ عبارة أهل الجاهليّة في التحيّة، وهي:
عِمِي صباحاً.
والمزخرف الثالث يَمْثُلُ في الدعاء، وهو قوله:
اسلَمِي!
على حين أنّ المزخرِف الرابع يَمْثُل في استعمال الطَلب الوارد، ظاهريّاً، في صورة الأمر، وهو قوله:
تَكَلَّمي.
وعلى أنّ ذكر الحيز الذي كانت تقطنه عبلة أمرٌ واردٌ ضمن الإغراق في هذا التحبّب وهذا التومّق؛ إذْ ذِكْرُ المكان تخصيصٌ لِلاسْمْ؛ فكأنّه ذِكْرٌ لَعَبْلَةَ مرتين اثنتين... فما يدري المتلِقّي وقد تكون العَبَلاَتُ كثيراتٍ... فلمّا خصّ عَبْلَتَه بمكان الجَواءِ، بمقامها زادَ دلالةَ التسميةِ تَخْصيصاً. وأمّا المزخرِف الذي يُحَسَّ ولا يَلْمَسُ، وَيُفْهَمَ ولا يُنْطَقُ؛ فهو مخاطبةُ الشخصيّة الشعريّة ما لا يعقل إذا خاطب دارَ عبلة وكأنها كائِنٌ حَيٌّ عاقل يَفْهَم عنه، ويَسْمع منه، وذلك غاية الدَّلَهِ والسُّمود.... ونكاد نلاحظ في بيت زهير ما لاحظناه في بيت عنترة حيث إنّ النّاصّين يَدْعُوانِ من خلال الدعوة لداريَ الحبيبتيْن، في الحقيقة، للحبيبتيْن

**د لا ل**
2012-02-11, 17:23
معلقة زهير بن أبي سلمى




دراســـــــة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998



المستوى الثاني: التناصّ المضموني
بعد أن تحدّثنا، في الفقرة السابقة من هذه المقالة، عن التناصّ اللفظيّ في المعلّقات السبع، وخصوصاً في مطالعها، نتناول الآن، بشيء من التحليل ما أطلقنا عليه "التناصّ المضمونيّ وعلى أنّ هذا الضرب من التناصّ قد يتوسّع إلى التناصّ النسجيّ أيضاً.
ونعرض، فيما يلي، أنموذجات لذلك.
1- العين والآرام ومافي حكمهما:
1- ترى بَعْرَ الارآمِ في عرصاتها (مق).
2-بها العِينُ والأرامُ يَمْشِيَن خِلْفَةً وأطلاؤُها يَنْهَضْنَ من كُلِّ مَجْثَمِ(ز)
3- والعينُ ساكنةٌ على أطلائها (ل).
2- الديار والرسوم والبكاء والحيرة والسمواد:
1-إنَّ شفائي عَبْرَةٌ مُهرَاقَةٌ فهل عند رسْم دارسٍ من مُعَوَّلِ؟ (مق).
2- فوقفْتُ أسأَلُها وكيف سؤالُنا صُمَّا خَوالِدَ ما يَبينُ كَلاَمُها؟(ل).
3- لا أَرَى مَنْ عَهدْتُ فيها فأبْكي الـ ــيوم دَلْهاً: ومايُحيرُ البُكَاءُ (ح.ح)
3- الشاعر في وجه من الأرض، وحبيبته في وجه آخر منها:
جاءت فكرة هذه التناصَّةُ التي لَهِجَ بها كثير من الشعراء الجاهليّين، ومنهم شعراء المعلّقّات من أصل بيتِ امرئ القيس الشهير من مطوّلته المعروفة:
تنوَّرْتُها من أذْرِعاتٍ وأهلُها بيَثْرِبَ: أدنى دارِها نَظَرٌ عَالِ
فنسج على ذلك من بعده آخرون أمثال:
1- مُرِّيَّةٌ خَلَّتْ بِفَيْدَ وجاوَرَتْ أهْلَ الحِجَازِ: فأَيْنَ مِنْكَ مَرامُها؟ (ل).
2- وتحلّ عبْلَةُ بالجَواءِِ وأهلُنا بالحَزْنِ فالصَّمانِ فالْمُتَثَلَّمِ
كيف المزار وقد تربّع أهلها بعُنيزَتَيْن وأهْلُنا بالغَيْلَمِ؟(ع).
3- بَعْدَ عَهْدٍ بِبُرقَةِ شَمَّا ءَ: فأدْنَى دِيَارِها الخَلْصَاءُ
فتنوّرت دارَها من بعيد بِخَزازى ، هيهات مِنْكَ الصِّلاءُ(ح.ح).
4- ملاحقة الموت للإنسان:
1- لَعَمْرُكِ إنّ الموتَ ما أخْطَأَ الفَتَى لكالطِّولِ المُرْخَى وثِنْياهُ بِالْيَدِ (ط).
2- رأيْتُ المَنْايا خَبْطَ عَشْواءَ مَنْ تُصِبْ تُمِتْهُ، ومَنْ تُخْطِئْ يُعَمَّرْ فَيَهرَمِ(ز).
3- إنّ المَنَايا لا تَطِيشُ سِهامُها(ل).
5- التحمّل والارتِحال:
1- كَأنَّي غداةَ البَيْنِ يومَ تَحَمَّلُوا لَدَى سَمُراتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنْظَلِ(مق)
2- تَبَّصَرْ خَلِيليَّ هل ترى من ظَعائِنٍ تَحَمَّلْنَ بالعَلْياءِ مَنْ فَوْقِ جُرْثُمِ(ز).
3- شاقَتْكَ ظُعْنُ الحَيِّ حين تحَمَّلوا فتكنَّسُوا قُطُناً تَصِرُّ خِيامُها (ل).
6- الوقوف على الديار:
1- قِفا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ (مق).
2- فوَقفْتُ أسألها وكيف سؤالُنا؟ (ل).
3- قِفي قبل التفرُّقِ يا ظَعِينا (ع.ك).
7- الوشم ولمع اليدين:
1- كلَمْعِ اليديْنِ في حَبِّي مُكلَّلِ (مق).
2- تلوح كباقِي الوَشْمِ في ظاهرِ اليد(ط).
3- مراجِيعُ وَشْمٍ: في نواشِرِ مِعْصَمِ(ز).
4- أو رْجع واشمةٍ أُسِفَّ نَؤُورُها كِفَفاً تَعَرَّض فَوْقَهُنَّ وَشامُها(ل).
8- الاستعانة على الهمّ، وقضاء اللّبانة، بركوب الناقة:
1-
وإنّي لأَمضي الهَمَّ عند احضاره بِعَوجاءَ مِرْقَالٍ تروح وتَغْتَدِي(ط)
2- فبتلك إذْ رَقَص اللوامِعُ بالضُّحَى (......).
أقضي اللُّبانَة لا أُفَرِطُ ريبَةً (ل).
3- غيرَ أنِّي قد أستعينُ على الْهَمِّ (....)
بِزَفوفٍ كأنّها هَقْلَةٌ... (ح.ح).
وهناك تناصّات نسجيّة طوراً، ومضمونيّة طوراً، ونسجيّة مضمونيّة طوراً آخر: تنهض على التناصّ الثنائيّ بحيث نلفي معلّقاتيّاً ناصّاً، ومعلّقاتِيَّاً آخرَ مُتناصاً معه، مثل:
1- التناصّ حول الكَشْح:
1- هصْرتُ بفوْدَي رأسِها فتمايَلَتْ عَليَّ هضيمَ الكشح ريّا المُخلخَلِ(مق).
ومَأْكَمةٍ يضَيقُ البابُ عنها وكَشْحَا قد جُنِنْتُ به جُنونا (ع.ك).
2-التناصّ حول القدّ الممشوق:
1- إذا ما اسبكرَّتْ بين دِرْعٍ ومِجْوَلِ (مق).
2- ومَتْنَيْ لَدْنَةِ سَمَقَتْ وطالَتْ (ع.ك).
3- التناصّ من حول الساقَيْن:
1- عليّ هضيمَ الكشح ريّا المُخلْخَلِ (مق).
2- وسارَيتَيْ بَلَنطٍ أو رُخَامٍ (ع.ك).
4- التناصّ حول الصرْم والفراق:
1- وإن كنتِ قد أزمعتِ صَرْمِي فأجْمِلي (مق).
2- إن كنتِ أزْمعتِ الفِراقَ فإنّما (ع).
5- التناصّ حول الوشم (وقد ذُكِرَ من قبلُ مقروناً بِلَمْعِ اليدين):
1- ودار لها بالرقمتيْنِ كَأَنَّها مراجيعُ وشْمٍ في نواشِرِ مِعْصَمِ (ز).
أو رَجْعُ واشِمَةٍ أُسفَّ نَؤُورها كِفَفاً تَعرَّضَ فوقهنُ وِشَامُها (ل).
6- التناصّ حول ظِباء وَجْرة:
1- بناظرِةٍ مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مُطْفِلِ (مق).
2- زُجَلاً كأنّ نِعَاجَ تُوضِحَ فوقَها وظِباءَ وَجْرَةَ عُطّفاً أرْآمُها(ل).
7- النتاصّ حول الشجاعة والإقدام في ساحة الوغى:
ألا أيُّهذا اللاّئِمِي أحْضُر الوَغَى وأنْ أَشْهَد اللّذاتِ هل أنت مُخْلِدي؟(....).
وكَرِّي إذا نادَى المُضافُ مُحَنِّباً كَسِيدِ الغَضا -نَبَهْتَه- المُتَورِّدِ(ط).
2- هلا سأَلْتِ الخيلَ يا ابنةَ مالِكٍ إن كنتِ جاهلةً بما لَمْ تعلمي (....‎)
ولقد شَفَى نفْسي وأذْهَبُ سُقْمَها قيلُ الفوارسِ: وَيْكَ عَنْتَرَ، أقْدِمِ(ع).
8- التناصّ حول الملامة والكفران بالنعمة:
1- فما لي أراني وابنَ عَمِّي مالِكاً مَتَى أَدْنُ منه: يَنْأَ عنّي، ويَبْعُدِ؟
يَلومُ وما أدري علامَ يَلومُني؟ كما لامني في الحيّ قُرْطُ بْنُ مَعْبَدِ(ط).
2-نُبِئْتُ عَمْراً غيرَ شاكرِ نِعْمَتِي والكَفْرُ مَخبَثةٌ لنفس المُنْعِمِ(ع).
9- التناصّ حول الشراب واللّهو:
1- فإنّ تبغِني في حَلْقةِ القوم تلفَنِي وإنْ تلتمسْني في الحوانيتِ تصْطَدِ
ومازال تَشرابي الخمورَ ولَذَتِي وبيعي وإنفاقي طريفي ومُتْلَدِي(ط).
2- فإذا شرِبْتُ فإنَّني مسْتهِلُكُ مالي، وعْرضِي وافِرٌ لم يُكْلِمِ
وإذا صحوْتُ فما أقصِرُ عن نَدىً وكما عَلِمْتِ شَمائلي وتكرُّمي(ع).
10- التناصّ حول نقاوة الثغر وبريق الأسنان:
1- وتبسِمُ عن ألْمَى كَأنَّ مُنَوَّراً تخلَّلَ حُرَّالرملِ دِعْصٍ لَهُ نَدِ(ط)
2- إذ تستبيك بذِى غُروبٍ واضِحٍ عَذْبٍ مُقَبَّلُه، لذِيذِ المَطْعَمِ(ع).
11- التناصّ حول تَهتان الغيث على الدمن والرياض بالعشايا:
1- دِمَن (...)
رُزِقَتْ مرابيعَ النجوم وصابَها ودْقُ الرواعِدِ جَودُها فرِهامُها
من كلّ ساريةٍ وغادٍ مُدجن وعَشِيَّةٍ مُتجاوبٍ إِرزامُها (ل).
2- أو روضةً أنُفاً تَضَمَّنَ نبْتُها غَيْثٌ قليلٌ الدِّمْنِ ليسَ بمُعَلمِ
جادت عليها كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ فتركْنَ كُلَّ حديقةٍ كالدِّرهم
وسَحّاً وتَسْكابا فكُلُّ عَشّيةٍ يجري عليها الماءُ لم يَتَصرَّمِ (ع).
12- التناصّ حول الوقوف على الطلول بعد مضّي عدد من الحِجَجِ:
وقفْتُ بها من بعد عشرين حِجَّةً فَلأْياًعرفْتُ الدَارَ بعد توهُّمِ(ز).
دِمَنٌ تَجَرَّمَ بَعدَ عَهْدِ أنيسِها حِجَجٌ خَلَوْنَ: حَلالُها وحَرامُها(ل).
13- التناصّ حول النُّؤْي:
1- أثافِيَّ سُفْعاً في مُعَرَّسِ مِرْجَلٍ ونُؤْياً كجِذْمِ الحَوْضِ لم يَتَثَّلمِ(ز).
2- عَريَتْ وكان بها الجميعُ فأبْكروا منها، وغودر نُؤْيُها وثَمامُها(ل).
******
المستوى الثالث: التناصّ النسجيّ
إنّا نلاحظ أنّ هذا المستوى من التناصّ يتعدّى فيه حدود الاستلهام والاستيحاء، إلى مايمكن أن نطلق عليه التناسج: بحيث نحسّ أنّ الآخر ينسج على منوال الأوّل، ولم يجتزئ باستلهام فكرته، ولكنْ جاوزها إلى محاكاة النسْج، ومقابسة الكلامَ، ومُنَاصَّةِ الخِطاب. والحق أنّ بعض ذلك قد يَمْثل فيما كنا أطلقْنا عليه التناصّ المضمونيّ حيث نُحِسّ، أطواراً، بتقارب المسافة بين المضمونين الاثنين إلى حدّ غياب الفروق، واختفاء الاختلاف، واحتضار التماثل. ونذكر طائفة من هذه التناصّات الثنائية، النسجيّة، فيما يلي:
1-وقوفاً بها صَحْبِي عَليَّ مَطِيُّهُم يقولون: لا تَهْلِكْ أسىً، وتَجمَّلِ (مق).
2- وقوفاً بها صَحْبِي عَليَّ مَطِيَّهُم يقولون: لا تهلك أسىً، وتَجَلَّدِ(ط).
1- فظلّ العَذَارَى يرْتمين بِلَحْمِها(مق).
2- فظلّ الإماءُ يمتلِلْنَ حُوارَها(ط).
1- فلّما عرفت الدارَ قلتَ لرِبْعِها ألا انْعِمْ صباحاً، أيُّها الربْع، واسْلَمِ(ز).
2- يادارَ عبلة، بالجَواءِ، تكلَّمي وعمِي صباحاً، دار عبلة، واسْلَمِي(ع).
1- فلأيا عرفت الدارَ بعد توهّم(ز).
2- أم هل عرفت الدار بعد توهّم؟(ع).
تحليل وتركيب
إنّ هذا الضرب من التناصّ الذي أطلقنا عليه التناًص المضمونيّ، وعقّبنا عليه بـ التناصّ النسجيّ يركض مثل صِنْوهِ الذي كنّا أطلقنا عليه التناص اللّفظيّ حول المحاور التي كنّا عرضنا لها بشيء من التحليل في الفقرة السابقة. وما يمكن ملاحظتُهُ أنّ هذا الضرب من التناصّ كان يقوم بين أربعة معلّقاتيّين على أقصى غاية، وقد تمثّل ذلك في الوشم، ولمع اليدين: حيث اشترك في هذا التناص: امرؤ القيس، وطرفة، وزهير، ولبيد (ونحن نقضي بأنّ كلّ تناصّةٍ اشترك فيها امرؤ القيس، فمنطلق التسلسل الزمنّي أنّ الملك الضليل هو الناصّ، وأنّ الآخرين هم المتناصّون). ولا تكاد التناصّات الأخراة تجاوز ثلاثةَ معلّقاتيّين كما هو الشأن بالقياس إلى مُساءلة الرُّبوع والبكاء عليها، امرَؤ القيس، ولبيداً، والحارثَ بن حلّزة اليشكري، وفي التحمّل والتظعان: امرأ القيس، وزهيراً، ولبيداً، وفي الوقوف على الديار: امرأ القيس، ولبيداً، وعمرو بن كلثوم... أو اثنين من المعلّقاتيّين، كما يمثل ذلك في ظِباء وجرة: امرأ القيس، ولبيداً؛ والملامة والكفران بالنعمة: طرفة، وعنترة، والكشح: امرؤ القيس، وعمرو بن كلثوم؛ وطول قامة المرأة: امرؤ القيس، وعمرو بن كلثوم أيضاً، والصَّرْم والفِراق: امرؤ القيس وعنترة؛ ونقاوة الثغر وبريق الأسنان: طرفة، وعنترة وهلمّ جرّا...
وعلى الرغم من أنّنا لم نَأْتِ على كلّ حالات التناصّ المضموني والنسجّي معاً، ولم نستثمر كلّ ماكنّا رَصْدنا لدى قراءاتنا المتكرّرة لنصوص المعلّقات: فإنّ ما أثبتناه، هنا، على سبيل التمثيل، قبل كلّ شيء، يجعل من لبيد: المعلّقاتيّ الأوّل في شبكة التناصّ المضمونيّ والنسجيّ جميعاً؛ إذْ هو أكثرُ زملائه قابليَّةً للاتِصّالِ والتفاعل حيث نلفيه يشترك مع امرئِ القيس في سبعِ تناصّاتٍ، ومع زهير في سِتٍّ، ومع الحارث بن حلّزة في أربعٍ، ومع طرفة في ثلاثٍ، ومع عنترة في اثنتين، ومع عمرو بن كلثوم في تناصّة واحدة فَقَط.
ونحن نعتقد أنّ لبيداً كان متناصّاً مع امرئ القيس، محاكياً له، محتذِياً حَذْوَه، وأنّ التناصّات التي تواترت لديه تمثّل موضوعاتُها الاهتمام الأوّل في نشاط أولئك المعلّقاتيّين الذين كانوا يضطربون في مُضْطَرَبٍ واحد؛ فكأنّهم وجوهٌ سبعةٌ لشخصيّةٍ واحدةٍ، أو كأنّهم صوت واحد لسبعة على الرغم من أنّنا كنّا قررنا، في غير هذا الموطن، أنّ أولئك السبعةَ تقوم بِنْيَاتُ قصائِدهم، لدى نهاية الأمر، على بنية واحدة ثلاثيّة تتشكّل من : 1+ب+ج: بحيث نلفيهم يتفقون في بنية (1) (مطلع المعلّقات)، ثمّ يختلفون في بنيتي (ب) و(ج).
ولا يعني مثل هذا السلوك الشعريّ، في رأينا، إلاّ أنّ المعلّقاتيّين كانوا يمثّلون مايمكن أن نطلق عليه ثُرَيَّا شِعْرِيَّةً لم يَلْحَنْ لها ناقِدٌ، فيما قرأناه، من قبل. ولم تَكُ تلك المدرسة الشعريّة العربيّة الأولى، في تاريخ الأدب العربيّ، مجرّدَ اتفاق عابرٍ كان يقع بينهم عفو الخاطر، فلا ينبغي أن يقول بالعفويّة الفنيّة إلا ساذَج؛ ولكنها كانت نشاطاً شعريّاً ينهض على أُسُسٍ فنيّة يَنْسُجُ على مِنْوالها: الّلاَّحِقُ السابِقَ. وإلاّ فَمِن السذاجة الساذّجة، والغفلة الغافلة: أنّ يذهب ذاهب إلى أنّ التناصّ الذي حدث، مثلاً، في مطالع المعلّقات كان مجرّد اتفاق، أو كان مجرّد تقليد ساذَج ينسج على منواله اللاّحق السابق، دون شيء من الوعي الفنّيّ.
والتناصّ الذي توقّفنا لديه، بأَضْرُبِهِ الثلاثةِ، إِنْ أمكنه أن يَكْشِفَ عن شيءٍ فإنما قد يكشف عن مدرسيَّة قصائِد المعلّقات، ومذهبيّتها الفنّيّة لأوّل مرّة في تاريخ الشعر العربيّ إطلاقاً.
******
المستوى الرابع: التناصّ الذاتيّ
إنّا لا نريد أن نَحْمِلَ الناس على أن يتّفقوا معنا في تقبل صياغة هذا المصطلح الذي يمكن أن يتناول مضمونه تحت عنوان آخر، أو حتّى تحت عُنوَاناتٍ أخراة، ونقصد به إلى هذا التكرار الذي يحدث لدى ناصٍ واحدٍ، عبر قصيدته أو قصائده، من حيث يشعر أو من حيث لا يشعر.
ويدلّ مثل هذا الصنيع على الاحترافيّة النسجيّة، أو على مايمكن أن نطلق عليه ذلك، أي يدلّ على أنّ الشاعر لكثرة مانسج من نسوج كلاميّة تكوَّنَ لديه مايشبه الأسلوب الذي يلازمه ولا يزايله، ويفارقه ولا يفارقه.
وقد ألفينا شيئاً من هذا التناصّ الذاتيّ لدى امرئ القيس، ولعله أن يكون أكثرهم اصطناعاً لهذا الذي نطلق عليه التناًص الذاتيّ؛ وذلك بخمس تناصّات، ثمّ لدى لبيد، وعنترة والحارث بن حِلّزَة اليَشْكُريّ، أمَّا عمرو بن كلثوم فيمكن عدّ "أنَّوَاتِه" (اجتهاداً منّا في جمع "أنَّا"): تناصّاً ذاتِيّاً، مثلُّها "نَحْنُ" الذي تكرّر لديه، هو أيضاً، مُرُوراً.
ويمكن أن نُسَوَقِ نماذِجَ من هذه التناصّاتِ الذاتيّة لدى بعض هؤلاء المعلّقاتيّين:
مق:
1- كأنّ دماءَ الهادياتِ بنحرهِ
فألحقنا بالهادِيَاتِ ودونه
2- ألا رُبَّ يومٍ لك منهن صالح
ألا ربّ خصْم فيك ألْوَى رددْتُه
3- ويوم عقرْتُ للعذارَى مَطَّيتي
ويوم دخلتُ الخِدْرَ: خِدْرَ عنيزة
4- تُضيءُ الظلام بالعِشَاءِ كَأنّها مَنارةُ مُمْسَى راهِبٍ متَبتِّل
يُضيءُ سناهُ أو مصابيحَ راهِبٍ أمالَ السليط بالذُّبالِ المُفَتَّل
وإذا جاوزنا إطار المعلّقات ألفينا امرأ القيس يتناصّ مع نفسه مُرُوراً مختلفاتٍ، مثل تناصِّه التالي:
5- قِفَا نَبْكِ من ذِكْرَى حبيبٍ ومنزلِ
قِفَا نَبْكِ من ذِكرَى حبيبٍ وعِرْفَانِ(24).
ونلاحظ أنّ هذه التناصّات الذاتيّة لم تحدث على مستوى المضمون فَقَط، ولكنها وقعت على مستوى النسْج اللفظيّ نفسِه، إذ التناصَّةُ الأوْلى تقع من حول الفرَس، والثانية والثالثة من حول المرأة، والرابعة تشترك فيها المرأة والبرْق، والخامسة تَجُرُّ ورَاءها شبكةً معقَّدةً ومتداخلة من التناصّات الواقعة من حول الوقوف، والبُكْى والذكرى، والحبيب. وهي أغنى التناصّات وأكثرها تشابكاً مع سَوائِها، وتأثيراً في غيرها، في العصور اللاّحقة.
وأمّا لبيد بن أبي ربيعة فقد تناصّ مع نفسه، عبر معلّقته، خمس مرّات أيضاً، ولكن بعبارة واحدة مسكوكة بدون تغيير ولا تبديل، وهي: "حتّى إذا..." التي تواترت على هذا النحو:
1- حتى إذا انحَسَرَ الظلامُ وأَسْفَرتْ
2- حتّى إذا يَئِسْتْ وأَسْحَقَ حالِقٌ
3- حتّى إذا يَئِسَ الرُّماةُ، وأرسَلُوا غضفا...
4- حتّى إذا ألقَتْ يَداً في كَافِرٍ (ليل).
5- حتّى إذا سَخِنتْ وخَفَّ عِظَامُها
ولمعترِضْ أن يَعُدَّ مثل عباراتِ لبيد في بابِ التكرار، لا في باب التناصّ، والذي يجيء ذلك، أو يذهب إليه، أو يتعلّق به، يكون كمن وقع فيما فرّ منه. أرأيت أنّ التناصّ، في حقيقة شكله وجوهره، ليس إلاّ تكراراً، أو ضرْباً من التكرار: إمّا بلفظه، وإمّا بنسجه، وإمّا بمعناه، وإما بهما جميعاً، وإمّا بالتضّادِ والاعتراض... وفي كلّ الأطوار لا يستطيع أن يمرُقَ من جِلدهِ، ولا أن يتنكّر لوضعه، فيخرج عن دائرة التكرار، بالمفهوم التقليديّ لتجلّيات الكلام. ولو حقّ لنا أن نُعِيدها جَذعَةً، كما تقول العرب، فنُطْلِقَ مَعْنَى "السَّرِقَة" على هذا الضرْب من النسج لقلنا: إنّ لبيداً، هنا، سَرَقَ من نفسه، وَسَطَا على حُرّ نسج شعره. ولكنّ الحداثيّين تحاشوا اصطناع اصطلاح السرقة لما في معناها من إدانة أخلاقيّة للأديب، أوّلاً، ثمّ لما فيها من يقينيّة الحكم باطّلاع الآخِرِ على ماقال الأوّل -وهو أمر غير ثابت بالدليل القطعيّ في كلّ الأطوار، وتلك نقطة الضعف المهينة في وضع مايسمّى الأدب المقارن -ثانياً، ثم لِمَا فِيها من تهجينيّة المتناصّ إذا صَرفوه إلى التكرار (كما هو الشأن بالقياس إلى مانحن فيه، والذي تجّنبنا، متعمّدين، اصطناع التكرار لما فيه من إساءة إلى الناصين والمتناصّين معاً) آخِراً.
ويمكن أن نُنصف لبيداً فنقرّر أنه صرّف هذه التناصّات الذاتيّة مصارِف مختلفة من النسوج المعنويّة حيث يبتدئ متناصّاً، وينتهي غير متناصّ.
وأمّا عنترة فقد تناصّ، هو أيضاً، مع نفسهِ، في معلقّته، مرتين اثنتين على الأقلّ، وذلك حين يقول:
1- سَبَقَتْ يَدايَ له بعاجلٍ طعْنَةٍ
جادَتْ له كَفِيّ بِعَاجِلِ طعْنةٍ
وحين يقول أيضاً:
2-(.....) فلقد تركت أبَاهُما جَزَرَ السِّباع وكل نَسْرٍ قَشْعَمِ
فتركْتُهُ جَزَرَ السِّباعِ يَنُشْنَهُ
وإذا كانت تناصّات امرئ القيس اضطربت، في معظمها، حَوَالَ جماليّة الحيز، وجماليّة الزمن (مثول الذكرى السعيدة في الأيّام الخَوالي)، وجماليّة المرأة، وجماليّة الفَرَس، ثمّ إذا كانت تناصّاتُ لبيدٍ سَلَكَتْ مسالِكَ مختلفاتٍ، ولكن في غير الفَيْض الجماليّ: فإن تناصَّتَيْ عنترة لم تَمْرقا عمّا كان يُفْعِمُ نَفْسَه، ويملأُ روحَه، وهو لَهَجُهُ بتصوير سُلوكه حين كان يطعن الأبطال، ويجندل شجعان الرجال، وهما تناصّتان في غاية من البشاعة، بالقياس إلى ذوقنا العصري، حيث الطعنُ والقتل، وحيث سَفْكُ الدماء البشريّة، وحيث جُثَثُ الناس تَنُوشُها السِّباعُ، على حدّ تعبيره، وتلتهمها الجوارح. لكنّ هذا الشيء الذي نراه نحن، على عهدنا هذا، بشاعةً فتقزّز منه نفوسُنا، وتشمئز منه أذواقُنا، كان لدى القدماء مفخرةً من المفاخر، ومأثرة من المآثر. وأيَّاً كان الشأنُ، فلا شيء أعجب، ولا أَبْشَعُ، ولا أَشْنَعُ، ولا أسمج، من عَدِّ قتلِ الناس شرفاً يرتفع به الذكر، ومجْداً يَقْعَنْسِ به السِّمْعُ.
على حين أنّ الحارث بن حلّزة تناول معنيين اثنين مختلفيّن في التناصّتيْن اللتين اسْتَبَانَتَا لنا أثناء قراءتنا لمعلّقته، وذلك حين يقول:
1- (...) ببُرقَة شَمَّا ءَ: فأدنى دِيارِها الخَلْصَاء
(...) قبّة مَيْسُو نَ: فأَدْنَى دِيَارِها العَوْصَاءُ
وحين يقول:
2- أيّها الناطقُ المرقّشُ عنّا عند عمَروٍِ، وهل لذاك بَقاء؟
أيّها الناطق المبلّغ عنّا عند عمرو، وهل لذاك انتهاءُ؟
ولعلّ القارئ أن يلاحظ معنا أنّ الحارث بن حلّزة تناصّ مع امرئ القيس تناصّاً معنويّاً في التناصة الأولى التي تناول فيها المرأة، بينما يختلف عنه في الأخراة حيث يتناول شأناً آخر من المعنى.
وعلى أنّه لا ينبغي لأحد أن يعتقد أننا أرْدنا من هذا الإحصاء والشمول، وإلى الاستقراء والاستيعاب؛ ولكننا أردنا من بعض هذا إلى رسم صورة نسجية لهذه النصوص المعلّقاتيّة دون أن تكون غايُتُنا، في أيّ طور من أطوار سعينا، الانتهاء إلى استيعاب المُطْلق، ولا إلى بلوغ الغاية مما كنّا نريد...
******
إحالات وتعليقات
1- نشرت لنا مقالة، أخيراً، في مجلة "قوافل"، بالرياض تحت عنوان:"بين التناصّ والتكاتب: الماهية والتطور: ع.7، السنة الرابعة ، 1417، حاولنا أن نعيد النظر في المفهوم الشائع وهو التناصّ الذي أصبح عامّاً جداً، بينما التكاتب يتمخّض لتبادل التفاعل بين الكتابة، والكتابة الأخراة، أو بين كاتب وكاتب آخر.
2- عبد الملك مرتاض، مقامات السيوطي: المستوى التناصّيّ، ص.33-36، اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 1996.
3- عبد الملك مرتاض، فكرة السرقات الأدبيّة ونظريّة التناص، علامات، جدة، ج1، م1، 1991 ،
4 - الجاحظ، الحيوان، 3. 311.
5- تراجع المقالة التي وقفناها على الحديث عن "بنية الطليّات في المعلّقات".
6- إشارة إلى قوله:
عوجا على الطَللّ المُحيل لعَلَّنا نبكي الديار، كما بكى ابنُ حُمامِ
وقد روى اسم ابن حمام، تحت أسماء مختلفة متقاربة المرفولوجيا مثل ابن حزام، وابن خزام.
7- ابن حزم الأندلسي، جمهرة أنساب العرب، ص. 456، وانظر محمد عبيد، مجلّة كلّيّة الدراسات الإسلامية والعربيّة، ع.10، ص. 279-288.
8- ابن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، 1. 39، والبيت الذي يومئ إليه ابن سلاّم، هو الذي أثبتناه في الإحالة السادسة. وعلى أنّ الذي يفهم من كلام ابن سلاّم، أنّ البيت المومأ إليه هو لابن حمام، بينما البيت لامرئ القيس الذي يُحيل هو على مضمون فكرة ابن حمام، لا على لفظه، وإلاّ لما قال: (...) كما بكى ابن حمام. -
9.م.س.، 1. 25.
10- الجاحظ، م.م.س 1. 74.
11- ابن سلام، م.م.س،1. 228 -229.
12- أبو عليّ الفارسي، كتاب الشعر، 2. 469 .
13- المرزباني، الموشّح، ص 35، و"بمّ" : أرض بكرمان.
14- م.س.، ص . 38.
15- ياقوت الحموي، معجم البلدان، 1. 376-4. 260
16- ابن سلاّم، م.م.س، 1. 228.
17- ابن منظور، لسان العرب، كفاْ.
18- ديوان الأعشى، ص. 63.
19- م.س.
20- نرمز لأسماء المعلّقاتييّن اختصاراً بمايلي:
امرؤ القيس : مق.
طرفة: (ط).
زهير: (ز).
لبيد : (ل).
عمرو بن كلثوم: (ع.ك).
عنترة: (ع).
الحارث بن حلزّة: (ح.ح).
21- ابن سلاّم، م.م.س.، وابن قتيبة، الشعر والشعراء، 1. 215.
22- وذلك في البيت الذي أثبتناه في الإحالة السادسة.
23- ابن حزم، م.م.س.
24- ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، 1. 43.

**د لا ل**
2012-02-11, 17:29
يتبع باذن الله ...........................

ميرة31
2012-02-15, 20:40
انا خصني بحث على الشعر العذري..........

**د لا ل**
2012-02-16, 22:11
6. الناصية والتناصية في المعلقات

لقد كثر الحديث عن التناص في العِقدين الأخيرين بين النقاد الحداثيين، والجامعيّين المشتغلين بالدرس الأدبيّ؛ حتى اغتدى جارياً على كلّ لسان، وعالقاً بكل جَنان، ودائراً في المجالس، ومتداوَلاً في المآقط.
ولقد سبق لنا، في كتاباتنا الأخيرة أن تناولنا الحديث عن التناصّ، أو التناصيّة على أصحّ ما ينبغي أن يقابل المفهوم الغربيَ : إما تنظيراً، وإما تطبيقاً(1)؛ كما سبق لنا أن أحلنا على كثير ممن تناولوا هذا المفهوم السيماءويّ الجميل من الأجانب والعرب(2) جميعاً.
وحين جئنا اليوم نتناول نصوص المعلقات السبع أثار انتباهنا ما في هذه النصوص الشعرية من مواقف متشاكلة على المستوى المضمونيّ، وألفاظ متشاكلة، أو مكررة، على المستوى الشكلي: لدى أولئك وهؤلاء؛ بحيث لاحظنا نسوجاً تعبيرية متشاكلة ومتماثلة. وواصح أن الأول من المعلقاتيين يُفترَض أن يكون هو المؤثّر، واللاحق له هو المتأثر. ذلك هو قانون الزمن، وناموس الإبداع؛ ولا ينبغي أن يدفعه إلاّ معارض مكابر، ومناوئ مغالط. ومن العسير الذهابُ إلى أن مثل هذه الأمور تندرج ضمن إطار ما كان يطلق عليه في النقد العربي القديم"وقوع الحافر على الحافر"؛ ذلك بأن المعلقاتيين السبعة، كما كنا حققنا ذلك في مقالة ضمن هذه الدراسة، كانوا متعاصرين جميعاً؛ فكانوا يشكّلون مدرسة شعرية واحدة...
وقبل أن ننزلق إلى تناول هذا الموضوع الذي اختصصنا به هذه المقالة، نودّ أن نومئ إلى نصّ لأبي عثمان الجاحظ عثرنا عليه في قراءاتنا إياه؛ ونحسب الناس لم يحيلوا عليه، ولا نبهو إليه، ولا احتفلوا به، وهو -من بين النصوص النظرية، التي كنا أومأنا إليها في مقالة لنا بعنوان"فكرة السرقات الأدبية ونظرية التناص" [ونشرناها في مجلة"علامات"، بجدة، 1991]؛ وهي: لعبد العزيز الجرجاني، ولجملة من النقاد العرب الأقدمين الآخرين(3)- تنبّهُه إلى أن الشعراء عالات على بعضهم بعض، وأن الإبداع الذي به يتبجحون قد يكون نسبياً جداً؛ إذ"لا يُعلم في الأرض شاعر تقدم في تشبيه مصيب تام، وفي معنى غريب عجيب، أو في معنى شريف كريم، أو في معنى بديع مخترع؛ إلاّّ وكلّ من جاء مَن الشعراء، من بعده أو معه، أن هو لم يَعْدُ على لفظه فيسرق بعضه أو يدّعيه بأمره: فإنه لا يَدَعْ أن يستعين بالمعنى، ويجعل نفسه شريكاً فيه، كالمعنى الذي تتنازعه الشعراء فتختلف ألفاظهم، وأعاريض أشعارهم، ولا يكون أحدهم أحقَّ بذلك المعنى من صاحبه..."(4).
ومثلُ هذا النصّ النقديّ العجيب هو الذي كان يحملنا، دَوْمَاً، على الانطلاق من التراث نحو الحداثة، أو من الحداثة ولكن بالاستناد إلى التراث؛ وذلك على أساس أنّ التراث النقديّ العربيّ، غنيّ بالنظريّات والآراء النقديّة... والذين يكابرون فيتحاملون على هذا التراث لا يَعْدُوَن أن يكونوا واحِداً من اثنيْن: إمّا لأنَّهم يجهلون هذا التراث، وإمّا لأنهم، لبعض ما في قلوبهم من مَرَضٍ، يمقتونه فيقعون في المكابرة. ولاحجّة لهم في الحاليّن، ولا سَدَادَ لرأيهم في الطوريْن.
فأبو عثمان، هنا يُؤَكِّدُ أنّ هناك معانِيَ مشتركةً، أو اغتدت مشتركة، بفعل تكالب الشعراء عليها، ولهجهم بها، واحتفالهم عليها؛ فإذا لا دَيَّارَ منهم أحقّ بذلك المعنى من صاحبه. ولنلاحظْ أَنَّ الجاحظ لم يقع فيما كان يسمّيه النقاد الأقدمون، وخُصوصَاً عَلِيَّا الجرجانيّ،"السرقات". إنّ هذا المصطلح الأخلاقيّ، القضائيّ مزعجٌ ومُؤْذٍ، ولايستقيم به الطريق للنقد في أيّ عهد ، إذْ كانت السرقة أمراً محرَّماً، وسُلوكاً مشنّعاً، في كلّ الأديان والشرائع والقوانين الوضعّية، والحال أنّ الأديب كثيراً ما لايتعمّد، بالتجربة والممارسة، هذه السرقة، ولا يقصد إليها؛ وربّما لا يريدها أصلاً؛ ولكنّ سلوكه يكون، في الغالب، من باب وقوع الحافر على الحافر؛ أو من باب تشابه المواقف فتتشابه معها الألفاظُ: كالبكاء على الأطلال، وكالنوح على الديار، وكالحنين إلى الربوع الدارسة، وكالوقوف على الدِّمَنْ البالية. وتماثل العواطف كحبّ الشعراء لحبيبات كنّ يعشن في تلك الديار التي لم يبق لهم منها إلاّ آثارُها، بعد أن تَحَمَّل عنها أهلها، وزايلَها أصحابُها... فقد كان واقعاً اجتماعياً محتوماً، وكان على الشعراء أن يخوضوا فيه، ويصوّروا تجاربهم من حوله. ولم يكن من المنصف أن يسكت اللاّحقون عنه، لمجرّد أن السابقين تناولوه...
إنّ الجاحظ، إذن، رفض، ضمنيّاً، مصطلح السرقات وأثبت أنّ هذا المصطلح غيرُ سليم، وهو إذن غيرُ مقبول. ولا نعرف شاعراً مُغلِقاً، ولا خطيباً مِصْقَعاً، ولا مترسِّلاً مُفَوَّهَاً: سَطَا، متعمِّداً، على آثار مَن سَبقه من الأدباء فسرقها علانية؛ وقلّدها من باب العيّ والعجز، والبَكاءة والفَهَاهة.. فإنّما كان الفصحاء الأبْيِنَاءُ ربما جال بِخَلَدِهم بعضُ نسوجِ سَوَائِهِمْ فرَكَضَتْ على أَلسنتهم وهم يخطبون، أو جرت علىأقلامهم وهم يكتبون ولا ينبغي لِسُرَّاق الأدب والأفكار أن ينضووا تحت لواء المتناصّين. فكلُّ سارق ساطٍ؛ ومَن كان ساطياً سارقاً كيف يمكنه أن يكون كاتباً أدبياً؟ فالمسألة محسومة من أصلها إذن. والأمر يجب أن ينصرف إلى التناصّ، أو التّكاتُب الذي هو سلك تأثيريٌّ تأثُّرِيٌّ معاً، وفاعِليٌّ تَفَاعِليٌّ جميعاً: بين كبار الأدباء... أمَّا السرقة الأدبيّة فلا يَعْمِدُ إليها إلاّ صغارُ النفوس، والمحرومين مِمَّن لم يخلقهم الله ليكونوا أدباء فتحدَّوْا إرادته، وحاولوا أن يَكُونُوهُمْ فأمْسَوْا من الخاسرين.
وقد لاحظنا حين جئنا نقرأ الشعر الجاهليّ بِعَامَّة، والمعلّقات بخاصّة، أنّ تأثير امرئ القيس فيمن عَداهُ من الشعراء العرب الأقدمين واضح ظاهر. ويبدو أنّ الشعراء الأقدمين لم يكونوا يتحرجون في تناول بعض الأَبَايِيتِ، أو مصاريع منها، أو أجزاء من مصاريعها، على سبيل التضمين، أو قل بلغة العصر على سبيل التناصّ؛ فإذا الواحِدُ منهم لا يرعوى عن أن يكرّر ما كان قاله سَوَاؤُهُ، دون أن يُلْفِيَ في ذلك حرجاً أو حُوباً.
ويمكن أن نمثّل لبعض ذلك في مقدّمة هذه المقالة من آثار امرئ القيس في الشعر العربي: جاهلِّيه، وإسلاميِّه، وأُمَوِيّه، دون إعنات النفسْ في متابعة ذلك إلى أزمنة أخرى متأخرة، أو إلى شعراء آخرين، على العهود الأولى للشعر العربيّ.
فهل يمكن، نتيجة لذلك، عَدُّ امرئِ القيس ناصّاً، ومعظم الشعراء الباقين في الجاهلية، وصدرٍ من عهد الإسلام، متناصّين معه، مُعْجَبِين به؛ محاكين له؟ فعلى الرغم مِنْ أنّ امرأ القيس نفسَه يعترف بأنه، هو أيضاً، تناصَّ مع امرئ قيسٍ آخَرَ، يُدْعَى ابْنُ حُمَام(5) حين زعم أنه هو الذي كان بكى الديار من قبله(6)، بل زعمت كَلْبٌ أنّ الخمسةً الأبياتَ الأولى كلّها من معلّقة امرئ القيس هي لابن حُمام(7): فإنّ معظم الشعراء على عهد الجاهلية خصوصاً، بل شعراء العهود المتأخرة، ظلّوا يتناصّون معه في وصف الديار، وفي وصف النساء، وفي وصف الخيل، وفي وصف الليل، وفي وصف المطر... فمنهم من كان يتعلّق به جودةً، ومنهم من كان ينأى عنه ولا يزدلف منه.
ولو لم يكن امرؤ القيس أميناً حين أومأ إلى هذا الشاعر المنقرِض السيرةِ، والذي لا يعرف عنه النقادُ الأقدمون شيئاً، ولا سَمِعُوا "شعره الذي بكى فيه، ولا شِعْراً غير هذا البيت الذي ذكرَ امْرؤُ القيس" (8)، لَمَا عُرِفَ ابْنُ حمام هذا بين نقّاد الشعر الأقدمين باسمه على الأقلّ.
والحق أنّ عبارة ابن سلاّم الجمحي تفتقر إلى نقاش، لأنّ قوله: "غير هذا البيت الذي ذكر امرؤ القيس" : يفهم منه أنّ امرأ القيس ذكر فعلاً بيتاً من الشعر لامْرِئِ القيس بن حُمام، يقول امرؤ القيس في مطولته الشهيرة:

أَلا عِمْ صَباحاً أيُّها الطَّلَلُ البَالِي



وهل يَعمِمَنْ مَن كان في العُصُرِ الْخَالي؟



ويقول عنترة:

يا دَارَ عَبْلَةَ بالجَوَاءِ تَكَلِّمِي



وعِميِ صَباحاً، دَارَ عَبْلَةَ، واسْلَمِي



ويقول زهير
*أَلا أنْعم صباحاً أيُّها الربْعُ واسْلَمِ*
وعلى أنّنا سنعالج، بعد حين، ما يتمحّض للتناصّ في المعلقات.
ويقول امرؤ القيس:

وجِيدٍ كجيدِ الرئم ليس بفاحشٍ



إذا هي نصًّتْه، ولا بمُعَطَّلِ



ويقول قيس بن الخطيم:

وجيدٍ كجيدِ الرئم حالٍ يَزِينُهُ



على النَّحْرِ منظومٌ وفصل زبرجَدِ (11)



ويقول امرؤ القيس:

فبات عليه سرْجُه ولِجامُه



وبات بعيني قائِماً غيْرَ مُرْسَلِ



ويقول الراعي:

فبات يُريِه عِرْسَهُ وبَنَاتِهِ


وبَتُّ أُراعي النجمَ أيْنَ مَخَافِقُه؟ (12)


ويقول امرؤ القيس:

أَلا أيُّها الليلُ الطويلُ ألا انْجَلِي



بصُبْحٍ، وما الإِصباحُ منك بِأَمْثَلِ



ويقول الطرمّاح بن حكيم الطائي:

أَلا أَيُّها اللَّيْلُ الطويلُ ألا أصْبِحِ



بِبَمَّ، وما الإْصْباحُ مِنْكَ بِأَروحِ (13)



ويقول امرؤ القيس:

أغرّكِ منّي أنّ حُبَّكِ قاتِلي



وأَنَّكَ مَهْما تَأْمُرِي القَلبَ، يَفْعَلِ



ويقول جرير:

أغرّك مِنّي أَنَّما قاَدَني الْهَوَى



إليك، وما عَهْدٌ، لَكُنَّ، بِدَائِم(14)؟



ويقول امرؤ القيس:

قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ



بسِقْطِ اللِوّى بين الدَّخولِ فَحَوْمَلِ



ويقول عمرو بن الأهتم التميمي:

قِفا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ وأطْلالِ



بذي الرَّضْمِ، فَالرُّمَّانَتَيْنِ فأَوْعَالِ(15)



ويقول امرؤ القيس:
*فَمِثْلِكِ حُبْلَى قدْ طَرقْتُ ومُرْضِعٍ*
ويقول قيس بن الخطيم:
*ومِثْلكِ قَدْ أَصَبْتُ لَيْسَتْ بِكَنَّةٍ* (16)
ويقول امرؤ القيس:
*كأنّي غداةَ البَيْنِ يومَ تَحَمَّلُوا*
ويقول بشر بن أبي خازم:
*وكَأَنَّ ظَعْنَهُمُ غَداةَ تَحَمَّلُوا* (17)
ويقول امرؤ القيس:

فيالَكَ من لَيْلٍ كَأَنَّ نُجومَه



بأَمراسِ كتّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ (رواية الزوزني).



ويقول الأعشى:

كأن نُجومَها رُبِطَتْ بِصَخْرٍ



وأَمْراسٍ تَدُورُ وتَسْتَزِيدُ(18)



ويقول امرؤ القيس:
*فَمِثْلِكِ حُبلْى قد طَرقْت ومُرْضِعٍ
ويقول الأعشى:
*فَمِثْلِكِ قَدْ لَهَوْتُ بَها، وَأَرْضٍ*(19).
ذلك، وأنه استرعى انبتاهَنا جملةٌ من الظواهر في هذا التناصِّ الذي قصَصْنا أثرَه في نصوص المعلّقات السبعِ قصاً لطيفاً حتَّى وقع لنا منه طائفةٌ صالحة، ومقادِيرُ وافِرَةٌ: فَوَفَر لنا منه ما نطلق عليه اللّغة المشتركة، أو التناصّ اللفظيّ؛ وما نطلق عليها التناصّ النسجي؛ وما قد نطلق عليه التناصّ الذاتي؛ وما قد نطلق عليه التناصّ المضمونيّ. ونعالج في هذه المقالّة كلّ هذه المستويات من التناصّ الذي يَحْكُمُ علاقاتِ التفاعُلِ بين المعلّقات السبع.
المستوى الأول: التناصّ اللفظيّ
ونحن نقرأُ نصوص المعلّقات، ونعيد قراءَتَها مُرُوراً كِثَاراً -لم نتمكّن من تَعدادها- :اسْتُبَان لنا أنّ هنَّاك ألفاظاً كثيرةً وردَتْ لدى ناصِيّنَ فتداوَلَها آخرون متناصِيّنَ معها، معجبين بها، مُحاكِين لها، وقد لا يعود ذلك، في رأينا، إلى قصور في المخزون اللغويّ لدى هؤلاء، أو لدى أولئك؛ ولا إلى ضيقٍ في الأفق الخياليّ، ولكن إلى انضواء المعلقّاتيّين من حول مسائَل متقاربَةٍ، حتّى إنهم كانوا يتعمّدون التقارب فيها، أو التناصّ من حولها.
وعلينا، أثناء ذلك، أن نعترف بأنّ الشعراء السبعة كانوا يعيشون في بيئة واحدة، متشابهة ومتناظرة، وفي عصر واحد لم يكد يجاوز قرناً واحداً: قيلت فيه هذه الروائع السبع التي ظلّت نموذجاً رفيعاً تحتذيه الشعراء طوال عمر الأدب العربي البالغ، الآن، ستّة عشر قرناً...
ولكن لماذا التناصّ اللفظي؟
لقد عقدنا له هذه الفقرة من البحث لأنّنا نعتقد أنّه يمثل المادّة الأولى التي كان المعلقّاتيّون يغترفون منها، ويبنون قصائدهم عليها. وإنّ مثل هذا السعي الذي ينهض على الملاحظة، ثم الإحصاء، سيسمح بتمثّل الاهتمامات المشتركة التي كانت تجمعهم، كما تجسّد ما يمكن تسميتُه بوحدة التصورّ للأشياء والعالَم. فتشابُه اللغة وتماثُلُها يَدُلاَّنِ على تشابه الخيال وتماثله.
وبمقدار ما تتشاكل اللغة وتتماثل لديهم، بمقدار ما سيسمح ذلك بإعطائنا فكرة عن منشغلاتهم، وصورة عن منطلقاتهم الشعريّة.
إننا نتمثّل اللغة التي يبني منها، أو بها، الشعراء قصائدهم، في كلّ عصر وفي كلّ مصر، بمثابة الألوان الزيتيّة التي يبني منها الفنّان المُلْهَمُ لوحَته بريشته السَّخِيَّة.
ولكن علينا، وهو ما سنفعله، محاولة تأويل طغيان مادّة لغويّة بعينها على مادّة أخراةٍ، وذلك بعد استعراض أهم الموادّ اللغويّة بين معلّقاتيَّيْنِ اثنَتيْن أو أكثر(20). وإنَّا نتحلّـل، سلفاً، من عدم متابعتنا، بدقّة دقيقة، واستقراء شامل، لكلّ ما هو مشترك من اللغة بين المعلّقاتيين. ولعلّ ما سنقدّمه، في هذه المقالة، أن يكون مجرّد انتقاء، لا إحصاء شامل. فذلك، إذن، ذلك.
الحقل الأوّل للتناصّ اللّفظيّ:
الطَللُ والرسم والدار والمنزل وما في حكمها

مق:

قِفا نَبْكِ من ذِكْرى حبيبٍ ومَنْزِلِ <LI value=1>فتوضِحَ فالْمِقْراةِ لم يَعْفُ رسْمُها <LI value=1>تَرَى بَعَرَ الأرِآم في عَرَصَاتها
فهَلْ عَنْدَ رَسْمٍ دارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ؟
ط:

لَخَوْلَةَ أَطْلاَلٌ بِبُرْقَةَ ثَهْمَدِ
ل:

عَفَتِ الدِيَارُ مَحَلُّها فَمُقامُها <LI value=1>فَمَدافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُها <LI value=1>دِمَنٌ تَجَرَّمَ بَعْدَ عَهْدٍ أَنِيسها حِجَجٌ <LI value=1>وجَلاَ السُّيولُ عنِ الطُّلولِ كَأَنّها زُبُرٌ <LI value=1>فوقَفْتُ أسأَلُها وَكَيْفَ سُؤَالُنا؟ ...
عَريَتْ وكان بها الجميعُ فأَبْكَرُوا
ز:

أَمِنْ أُمِّ أوفى دِمْنَةٌ لَمْ تَكَلَّمِ؟ <LI value=1>ودارٌ لها بالرَّقْمَتَيْنِ كَأَنَّها مَراجِعُ وَشْمٍ <LI value=1>فَلأَيّاً عَرْفتُ الدارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ
أَلاَ أنْعِمْ صَبَاحاً أَيُّها الرَّبْعُ واسْلَمِ
ع:

أَمْ هل عرفْتَ الدارَ بعد تَوَهُّمِ؟ <LI value=1>يا دارَ عبْلَةَ، بالجَواءِ، تَكَلَّمِي <LI value=1>وعِمي صباحاً، دَارَ عَبْلَةَ، واسْلَمِي <LI value=1>فوقفْتُ فيها ناقَتِي وكَأَنَّها فَدَنٌ <LI value=1>حُيِّيت مِن طَلَلٍ تقادَمَ عهْدُهُ
أقوى وأقْفرَ بَعْدَ أمِّ الهيْثَمِ
ح.ح :

فأدْنى دِيارَها الْخَلْصَاءُ
لا أَرّى مَنْ عهِدْتُ فيها، فَأبْكِي...
إنّنا، من خلال عرْض لبعض هذه التناصّات الماثلةِ في مستوى اللغة-وقل إن شئت في مستوى اللفظ- أن أكثر المعلّقاتيّين تمسُّكاً بالديار، وبكاءً على الآثارِ، هما: لبيد وعنترة بستّة تَواتُرَاتٍ، لكلّ منهما. بينما نلفي زُهيراً يستبدّ بالمنزلة الثالثة بخمسٍ مراتٍ، من حيث يتبوَّأُ امرؤُ القيس المنزلة الرابعة بأربعة تَواتُراتٍ. ويأتي الحارث بن حلّزة في المرتبة الخامسة بتناصَّتيْنِ اثنتين فحسب. واجتزأ طرفة بتناصَّةٍ واحدة في المرتبة الأخيرة.
وقد جاء التَّناصُّ المنصِرفُ إلى ذِكْرِ الديار، والبكاء على الآثار، انعكاساً طبيعياً للخيال الجاهليّ الذي كان مقصوراً على التفكير، لدى الشعراء بعامّة، والمعلقاتيّين بخاصّة، في تلك الديار المقفرة، والرسوم البالية، والربوع الخالية؛ بعد أن تحمّلت عنها الحبيبة وَيَمَّمَتْ إلى حيث لا يكاد يَدْرِي إِلاَّ أَهْلُ حَيِّها. وكانت العلاقات الاجتماعيّة من الانغلاق، ووسائل النقل من البدائيّة، ما كان يجعل من العسير متابعة الحبيبة، والتمكّن من رؤيتها تارة أخراةً، بلْة الاستمتاعَ بجمالها، والتَّمِلّيَ بِبَهَائها.
لقد كان مثل ذلك الوضع الراكض في نَفَقٍ ضيّق، وفي حيز محدود الآفاق، على السِّعَةِ الجغرافيّة، عاملاً قويّاً على شيوع البُكائيات، وظهور ما يعرف بالطَليّات، تقليداً شعرياً في بناء القصيدة العربية الأولى، كما بلغَتْنا على الأقل. وإلاّ فماذا كان على الشاعر أن يأتي من الأمر وَقَدْ فَقَدَ الحبيبة، وأَضاعُ مُتَّجَهَ حَيِّها: غَيْرَ هذا البكاءِ، وغيرَ الوقوفِ على ديَارها، وغيرَ تأمُّلِ رسْم طُلولِ حيّها، وتشبيهه بوشم اليد البالي طوراً، وبالكتابة الشاحبة طوراً آخر: وقد عَرَّتَّهْا السيول الجارفة، أو عرّتّها الرياح العاصفة من رمالها التي كانت تغمرها...؟
إنّ طغيان هذه التناصّات يَسْتَبِينُ لنا كيف كان المعلّقاتيّون متمسّكين بهذه البِنْيَةِ الفنيَّة التي أسّسها، غالباً، شعراء قبل امرئ القيس، من بينهم امرؤ القيس بن حُمام؛ ولكنّ أشعارهم ضاعت وبادت؛ فإذا القصيدةُ الجاهليّة تتأسَّسُ على عهد الْمُهَلْهِلِ وامرئ القيس(21)، كما سلفت الإشارة إلى بعض ذلك، في مطلع هذه المقالة. وإذا معلقةُ امرِئِ القيس تصادف رواجاً عجيباً بحيث اغتدت القصيدة العربيّة الأولى، وأساس الأدب العربيّ لدى الناشئة والجامعيّين معاً؛ بحيث يكون أكثرَ الشعراءِ العرب محفوظيّةٍ على وجه الإطلاق؛ وإذا كلُّ عربيّ، في المشرق والمغرب، يردّد مع صدى الدهر، وصوت الزمن:
[I]*قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكرْى حَبيبٍ ومَنْزِلِ*
وإذا المتنبيّ، وعلى الرغم من أنّه تنبَّأ بأنّ الدهر لن يكون شيئاً غيرَ رُواةِ قصائِدِه، قد يكون آتِياً في المرتبة الثانية بعد أبي الشعراء العرب امرئ القيس.
والذي يعنينا، هو أنّ امرأ القيس لم يكن في بُكائه الأطلالَ ناصَّاً، ولكنه، هو أيضاً كان مُتناصاً مع ابن حُمام الذي، فيما يَبْدُو، كان متناصَّاً هو أيضاً، مع شعراء بَادُوا؛ ولم يكن لهم من الحِظَةِ ما جعل الدهر يحتفظ لنا بأسمائهم وأشعارهم؛ فضاع وجه كبير من التاريخ في ظلام الأميّة والتخلّف والبَّداوة والفِتَنِ والإِحْنِ والحرُوب والكوارث الطبيعيّة المُدْلَهِمَة...
أمّا وقد ضاع تاريخُ الشعر الجاهليّ، مما كان قبل عهد امرئ القيس، فليس لنا إلاّ الإذْعانُ للأمر الواقع، واعتبار هذا الشاعر العظيم أبَّاً للشعر العربيّ؛ وإذن فكل التناصّات التي عرضْناها لديه، ثمّ لدى المعلّقاتيّين ممّن عاصروه أو تعقبّوه زَمَناً: جاءت من تأثيره فيهم، وكانت من وقوعهم تحت سلطان إعجابهم به، واعترافهم له.
وإذا كنّا ألفينا معلّقة عمرو بن كلثوم تخلو من هذه التناصّات التي اشترك فيها زملاؤه، والمنصرف إلى الديار المقفرة، والأطلال الخالية؛ فلأنّه، في رأينا، ليس شاعراً بالمعنى الاحترافيّ؛ ولكن المناسبة اقتضت أن يقول شعراً يدافع فيه عن شرفه، ويصّور فيه غضبته الْقَبَلِّيّة لَمَّا أحسّ أنّ كرامته قد أُهينتْ، في شخص أمّه، فقال ما قال. ولم يقل، من بعد ذلك، غير ما قال.
فشعر ابن كلثوم تنقصه الاحترافيّة، والتصويرُ البديع الذي نجده لدى معظم المعلّقاتيّين الآخرين، فكأنّ قصيدتَه خُطْبَةٌ من الشعر، أو كأنّها مجرد قصيدة خطابيّة (ولا يعجبني مصطلح غنائيّة الذي لا معنى لغنائيّته الغائبة بالفعل، وربما بالقّوة، أيضاً) صبّ فيها جام غَضَبِه على عَمْرِو بْنِ هند، وأنحى عليه باللَّوائِم إذْ تعصّب لبَكْرٍ على تغلب، بل أَصْلَت السيف عليه فقتله به... ولمَّا كانت المعلَّقاتُ السِّتُّ البواقِي مشتملاتٍ على هذه التناصّات اللفظيّة فقد اقتضى ذلك أن يكون بمثابة قاعدة كانت تتّبع، وبنية كانت تُبْنَى، وتقليدٍ كان يُقْتَفَى؛ فكان اللاَّحق يتناصُّ مع السابق ويستلهمه في بناء مطلع معلّقته؛ مع اعتراف اثنين من المعلّقاتيّين بذلك: امرئ القيس(الذي اعترف ببعض ذلك في شعره خارج المعلّقة)(22)، وعنترة الذي افتتح معلّقته بالمُساءلة عن جَدْوَى نَسْجِ الشِّعْرِ وقد كان الشعراء من قبله جاءوا على كلّ معنىً، وتناولوا كلّ فكرة، وصوّروا ما عرضوا له ما استقام لهم التصوير:
*هلْ غادر الشعراءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ؟*
وإِنَّمَا عُنِيَ المعلقّاتيون بُبكاء الديار، والوقوف لدى الآثار؛ لأنّ علاقة الحبيبة كانت بتلك الديار حميمة؛ ولأن الشاعر كان كلّما مرّ بديار هذه الحبيبة وهو يشاهدها وقد بَلِيَتْ ودَرَسَتْ، وَأَقْفَرَتْ من أهلها وَخَلَتْ: كان يقف ليذكر في نفسه ذكرياتٍ جميلاتٍ حَييَتْ ثُمَّ بادَت، وعهود من اللَّذاذة والسعادة كانت. ثمّ ذهبت واضْمَحَلَّتْ ، فلَمْ تَعُدْ إلاّ تُوهُّماً في الذاكرة كأنّه لم يكن، على الرغم من أنّه كان، وإلا تصوّرا في المُخَيِّلَةِ كأنه لم يُوجَد في سالِفِ الأزْمان. فأيّ موقف كان أدعى إلى البكاء من موقفه ذاك، في مقامه ذاك؟
فكأن تلك الديارَ المُقْفرة، على إِقفارها وَخُلُوِّهِا من أهلها، هي التي كانت مَصَدراً لإلهام أولئك المعلّقاتييّن. وكأنّ الْقَفْر كان وراءَ وجودِ الشعر. وكأنّ الجمال الفنّيّ البديع الذي تطفح به هذه المعلقات، في معظمها، كان مصدرُه تلك الديارَ المقفرة، والربوع البالية، والرسوم الدارسة. وكأنّ الحياة التي ينبض بها ذلك الشعر نشأت عن الموت الذي كان أصاب تلك الديار. بل كأنّ ذلك الضجيج الطافح الذي كانت تجلجل به أصواتُ المعلقّاتيّين إنما كان مصدَرُه ذلك الصمتُ المطبقُ على تلك الديار.
لكن ماذا نقول؟ وهل يُعْقَلُ أن يكون الموتُ مصدراً للحياة، لولا أنّ الحياة التي كانت من قبل في تلك الديار هي التي ظلّت تمدّ المعلقاتيّين بينابيع الإلهام، وَتُزَيِّنُ في أنفسهم ملذّات الذكرى: فتتفجّر أشعاراً لم يعرف تاريخ الشعر العربيّ لها مثيلاً في جمالها...؟
لقد كانت الدار، إذن، وما في حكمها، مصدراً من مصادر الإلهام للشاعر الجاهليّ لأنها هي التي كانت تُؤْوِي الحبيبةَ الظاعنة عنها، ثمّ لأنّ الشاعر نَفْسَه، رُبَّما، كان ثَوَى بها زَمَناً ما، أو أَوَى إليها عَهْداً ما؛ ثم، لأنها كانتْ مجتمعَ العشيرةِ، ومُلْتَقى الأحبَّة، وَمَوْطِنَ الأفراح، وَمَسْقِطَ السَّعادة واللَّذَّات، فاستأثرَتْ بالاهتمام، واستبدَّتْ بالحبّ والحنين العارم.
الحقل الثاني للتناص اللفظي:
الماء والمطر وما حكمها
وقد لاحظنا أنّ هناك حقلاً آخرَ مشتركاً بين المعلّقاتيّين في المعجم الفنّي لديهم تناصُّوا فيه، وتداولوا عليه، وهو الماء والمطر والرَّعد وما في حكم هذه المعاني حيث نلفيهم إمَّا أَنْ يَتَمَاثلُوا، وإمَّا أن يتقاربوا، وإمَّا أن يتشابَهُوا في استعمال ألفاظ هذه المعاني مثل استعمال امرئِ القيس للوَبْل، والسيل، والغَرَق (من آثار الأمطار)، والصَّوْبِ (المطر)، والسَّحِّ، والمَاءِ والنَّفْيَانِ(تطاير قطرات المطر):
1. كأَنَّ ثَبِيراً في عَرانِينِ وَبْلِهِ
2. من السَّيْلِ والأَغثْاء فَلْكَةُ مِغْزَلٍ
3. وألْقَى(المطر) بصحراءِ الغَبيطِ بَعَاعَهُ
4. كأنَّ السِّباعَ فيه غَرْقى عَشِيَةً

5. فأضحى يَسُحُّ الماءَ حَوْلَ كُتَيْفَةٍ


6. على قَطَنِ بالشَّيْمِ أَيْمَنُ صَوْبِهِ



من حيث نلفي لبيداً يصطنع ألفاظاً تركض هذا المَرْكَضِ، وتتناول هذا الحقل؛ وذلك مثل الوَدَق، والجَوْد، والرِّهَام، والغَادِ، والمَدافِع، و(القَطْر) المُتَواتِر:

1. وَصَابها


ودْقُ الرَّواعدِ جَوْدُها فَرِهامُها



2. مِنْ كُلِّ ساريَةٍ وغَادٍ مُدْجِنٍ
3. وَعَشيَّةٍ متجاوِبٍ إرّزامُها
4. فَمَدافِعُ الرَّيّانِ عُرّيَ رَسْمُها
5. يَعْلُو طريقَةَ مَتْنِها مُتَواتِرٌ
بينما ألفينا عنترة يستعمل ألفاظاً قريبة من هذه، وذلك مثل العين(أو البِكْر: السحابة الممطرة)، والسَّحّ (ويلتقي في استعمال هذا اللفظ مع امرئ القيس)، والتَّسْكاب، والماء الذي لم يتصرّم (والذي يلتقي في استعماله مع امرئ القيس، وطرفة، وزهير)، والغيث:

1. تضمّن نَبْتَها



غَيْثٌ قِليلُ الدِمْنِ ليس بمُعْلَمَِ



2. جادَتْ عليْها كُلُّ بِكْرٍ حُرَّةٍ
3. سَحّاً وتَسْكاباً...

4. فكُلُّ عَشِيَّةٍ


يَجْري عليها الماءُ لم يتصرَّمِ



على حين أننا نجد زهيراً وطرفَةَ يجتزئانِ باستعمال لفظ الماء:
* فلمّا ورَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمامُه
*يَشُقُّ حَبابَ الماءِ حَيْزومُها بِها.
تقوم التناصّات، هنا، بين المعلقّاتيّين السبعة على مادّة لغوية تركض في سياق المادّة اللغويّة الأولى التي كنّا جئنا على تحليلها؛ والتي كانت تضطرب حَوالَ الديار الخالية، والطلول البالية، والرسوم الدارسة التي لم يكن القصدُ من ذكرها وتردادها، على نقيض ما قد يتصور بعض الناس، التقبيحَ أو التهجينَ؛ ولكن كان من باب الحنين إلى ذكريات مَضَتْ فيها، وإلى سعادة ارْتُشِفَ رحيقُها-بين أحيائها- في مَأَمَنٍ من غوائل الدهر، وفي غفلة من الحُسّاد والعُذّال.
فذكر الطلول يندرج ضمن جماليّة الشعر الجاهلي بعامّة، ومطالع المعلّقات السبع بخاصة. ولم يكن ذِكْرُ الدّيار إلاّ مدرجةً لساكنات الديار. ولم يكن تَأَوُّبُ الطلولِ إلا استئناساً بِمَنْ كُنَّ فيها من حبيباتٍ أَيْمَا شعورُهن فسودٌ طويلاتٌ، وأيْمَا شِفاهُهُنَّ فحُمْرٌ رقيقات، وأيْما قدودهُنَّ فرشيقاتٌ ممشوقاتٌ...
تقوم التناصات، هنا، إذن على الماء الذي هو أحد مقوّمات جماليّة الحيز الذي كان يَمْثُلُ في تلك الرسوم والطلول، وفي تلك الديار والآثار. فإنما تكتَمِلُ جمالِيَّةُ الحيز بوفور الماء، وتَهتان الغيث، وَجَرَيانِ السيول.
لقد كانت الأحياء من العرب لا تفتأ تبحث عن مدافع الماء، وتتوخّى منابعه، وترتاد الكلأ الذي هو ثمرة من ثمراته: فتُقيمُ هنالك ولا تَرِيمُ. كانت الحياة الصحراويّة الجافّة تفرض على قَطِيْنها تَسَقُّط هذه المادِّة الحيويّة واعتبارها أَحَدَ مصادر الإِلهام للشعراء، وإحدى دعائم الحياة للرِّعِاءِ والأَبَّالِينَ. من أجل كل ذلك كانت العرب تدعو لمن تُحبُّه بالسَّقيا: لِمَا في ذلك من مظاهر الحياة الرخيّة، السخيّة، والسعيدة الرغيدة.
وإنما يقيم الناس الدَّورَ والخِيام، والمُدَن والعُمْران، من حول الماء، ولايمكن أن يقيموا ذلك بعيداً عنه، إذا البُعْد عن الماء لا يعني إلاّ الموت. فكلّ جمال، إذن، لا يمكن تصوّره خارج عطاءات الماء.
ولعلّ الدّيارَ المَبْكِيَّ عليها لم تُقْفِرْ من أهلها إلاّ حين نُضِبَ ماؤُها، وَجفَّتْ ينابيعُها، وغارت عيونها، فاضْطُرَّ من كانوا يَثْوُونَها، أو يَثْوون حَوَالَها، إلى التَّظعان عنها التماساً لغدران وعيون أخراة، فزعمنا أنّها مرتبطة بجماليّة الحنين، إنما ينهض على اعتبار ماكانت عليه، لا على اعتبار ماهي عليه كائنة.... ولعلّ ذلك أنْ يُفْضِيَ بنا إلى ربط الماء بالطّلَلِ، على أساس أنّ الطلل حين كان بناءً معموراً، وَسَقْفَاً مرفوعاً، لم يكن ممكِناً نهوضُه إلاَّ على وفور الماء، فكأنّ الطلل إحالَهُ على ماضِ من الماء.
وكأنّ جماليّة الحيز في المعلّقات لا تَمْثُلُ إلاّ في ماضِيَّةِ الماء.
فليس الماءُ مصدراً للحياة فحسب، ولكنه مصدر للجمال أيضاً.
فلا عجب أن ألفينا ألفاظ الماء تتكاثر في المعلّقات وتتغافص في نسْجها؛ فإذا كُلُّ معلّقاتِيّ لا يَعْدَمُ استعمالاً لها ، وإذا شبكةٌ من التناصَّاتِ اللفظيّة تنشأ عن ذلك السلوك اللغويّ بحيث نصادف، كما رأينا، ألفاظاً مائيَّة في هذه المعلّقة، وأُخْرَاةً في تلك....
الحقل الثالث للتناصّ اللفظيّ
الإيلاع باستعمال "كأنّ"
لقد كنا عَرَضْنا لتحليل جمالِيَّةِ التشبيهِ في مقالة أخراة، من هذه الدراسة، غير هذه. وهنا إنما نُعْرِضُ لأداة التشبيه المركَّبة "كأنّ" ليس من باب وظيفتها التشبيهيّة، ولكن من حيث وظيفتُها التناصِيَّةُ. ولكن لما كَلِفَ المعلقّاتِيُّون بهذه الأداة التشبيهيّة من دون سَوَائِها؟ لَعَلَّ ذلك أنْ يَرْجِع إلى جمالها المتمثّل في رصانة إيقاعها، بالإضافة إلى ذلك، مركّبة من عنصرين اثنين: أداة التشبيه (الكاف)، وأداة التوكيد (أنّ): فكأنّ، كَأَنَّ: ليست أداةً للتشبيه فحسب، ولا أداة للتوكيد فحسب، ولكنها إيّاهُما جميعاً.
ولمّا جئنا نتابع التناصّات التي وقعت في المعلّقات بهذه الأداة (كأنّ - كأنّها- كأنّما- كأنّي- كأنّه- كأنّهما- كأنّا - كأنّهم) لاحظنا:
1- أنّ "كأنّ" هي التي تستبدّ بالتواتُر أكثر من صنواتها اللواتي يلحقن بالضمائر أو بـ "ما" الكافّة، وذلكَ بتردادٍ بلغ تِسْعَ عَشْرَةَ مرَّةً من بين زهاء اثنتيْن وأربعينَ حالَ تشبيهٍ.
2- إنّ امرّأَ القيس يصطنع "كأنّ" تسع مرات -من بين ثلاثَ عَشْرَةَ "كأنّةً". بطريقِ الحياد النسجيّ:
1- كَأنّهُ حَبُّ فُلْفُلِ (بعر الآرام).
2- كأَنِّي غَداةَ البَيْنِ (الشاعرُ نفسه).
3- كأنّه أسارِيعُ ظَبْي (بنان صاحبته).
4- كأنّها مَنارَةُ مُمْسَى راهبِ (صاحبته).
5- كأنّ نُجومُه بأمراس كَتَّانِ (الليل).
6- على الذبل جيّاش كأنّ اهتزامَه (تَكَسُّرَه) (الفرس).
7- كأنّ على المتنيْن منه إذا انتحى) مَدَاكَ عَرُوسٍ... (الفرس).
8- كأنَّ دِماءَ الهادياتِ بنَحْرِهِ (الفرس).
9- كأنَّ نِعَاجَه عَذَارَى دَوَارٍ (سِرْبَ بَقَرِ الوَحْشِ).
10- كأنّ ثبيراً في عَرانينِ وَبْلِهِ (المطر).
11- كأنّ ذُرَى رَأْسِ المُجَيْمِر غُدْوةً (الأكمَة).
12- كأنّ مَكَاكِيَّ الجِوَاءِ غُدَيَّةً (الطير).
13- كأنَّ السِباعَ فيه غَرْقَى عَشِيَّةَ (السباع).
3- لعلّ الناقة هي التي تستأثر بـ "كأنّ" التشبيهيّة التوكيديّة، وذلك بتواتر بلغ زهاء ثَلاثَ عَشْرَة مَرَّةً. وقد أُوْلِعَ طرفَةُ بذلك فاستعملَها في تشبيهِ ناقتِهِ، تسْع مرّاتٍ وحْدَها:
1- كأنّه ظَهْرُ بُرْجُدِ (أصل التشبيه للناقة).
2- كأنّها سَفَنْجَةٌ (الناقة).
3- كأنّ جَناحيْ مَضْرَحيٍ (نسر أبيض) (وأصل التشبيه للناقة).
4- كأنّهما بَابَا مُنيفٍ ( أصل التشبيه للناقة).
5- كأنَّ كِنَاسَيْ ضَالَةٍ (الناقة).
6- كأنَّها تَمُرَّ بِسَلْمَيْ دالِجٍ (الناقة).
7- كأنَّ عُلوبَ (آثار) النِّسْعِ (الناقة).
8- كأنَّها بَنائِقُ (الناقة).
9- كأنَّمَا وعَى المُلْتَقَى (الناقة).
10- كأنّ حُدوجَ المَالِكيَّةِ (المرأة).
11- كأنَّ الشمس (وجه المرأة).
12- كأنّ البُرِينَ (المرأة حالَ كونها حالِيَةً).
13-كأنّا وضعْناه (يتحدّث عن ابن عمّه).
بينما شبّه بها لبيد ناقته مرتين اثنتين، واصطنعها في معلّقته سِتّ مراتٍ:
1- كأنّها صَهْبَاءُ (الناقة).
2- كأنّها جِنُّ البَدِيّ (الناقة).
3- كأنّها زُبرٌ (الطلول).
4- كأنّها أجزاعُ بيشَةَ (المرأة).
5- كأنّ نعاجِ تُوضِحَ (المرأة).
6- كأنّما هَبَطا تبالَةَ (حيوان).
على حين أنّ الحارث بن حلّزة اصطنع كأنّ أربع مرات في معلّقته، ومنها مرة واحدة للناقة:
1- كأنّها هَقْلَةٌ (الناقة).
2- وكأنّ المنون تَرْدِي بِنَا (البشر).
3- كأنّهم أَلْقَاهُ (اللصوص).
4- كأنّها دَفْوَاءُ (كتيبة).
من حيث اصطنعها عمرو بن كلثوم ثلاثَ مراتٍ، في غير الناقة في المّرات الثلاثِ:
1- كأنّ ثيابَنَا مِنَّا ومنهم (القبيلة).
2- كأنّ غضونَهُنَّ متونُ غَدْرٍ (الدروع).
3- كأنّا والسيوفَ مُسَلَّلات (القبيلة والسيوف).
واصطنعها عنترة مرتين، أحداهما للناقة:
1- وكأنّها فَدَنٌ (الناقة).
2- وكأنَّ فارةَ تاجرِ بقَسيمَةٍ (المرأة).
بينما لم يصطنعها زهير، هو أيضاً، الاّمرتين اثنتين، وفي غير الناقة:
1- كأنّها مراجيعُ وشْمٍ (الطلول).
2- كأنّ فُتاتَ العِهْنِ في كلّ منزل (النساء).
بينما لم تنل المرأة إلاّ تسع مرّات من هذه التناصات الكَأَنِيَّةِ كلّها: توزّعت على ثلاثِ مراتٍ لطرفة، ومرّتين اثنتيْن لامِرْئِ القيس، ومثلهما للبيد، ومرّة واحدة لكل من عنترة وزهير. ونجد هذه الأداة الكَأَنَّية، من بعد ذلك، تتوزّع على طائفة من الموضوعات كالفَرَس بثلاث مرات لدى امرئ القيس، ثم الكتيبة، والسيوف، والدروع، والقبيلة، والإنسان، لدى معلّقاتيّين آخرين.
4- إنَّ امْرَأَ القيس وطرفة هما اللذان يستأثران بالمنزلة الأولى باستعمال كلّ منهما ثلاث عشرة "كَأنَّه". وقد توزّعْت كأنَّاتٌ امِرئِ القيسِ على تسعةِ مواضيعَ هي: الفرس، والمرأة، والأرآم، والشاعر نفسه، وَبنان المرأة، والليل، والمطر، وسِرْب بقر الوحش، والأَكَمَة، والطير، والسباع، ومثل هذا الأمر يجعلنا نقرّر أنّه هو أكثر المعلقّاتيّين توظيفاً لكأنَّ بحيث وزّعها

توزيعاً أُسلوبيّاً، متوازِناً، قائماً على تجديد الموضوع في كلّ تشبيه، وإِغناء نسْجِه بالتصوير الفنّي البديع: كلّما اقتضى ذلك مقتضيات الكلام. بيننما ألفينا الباقين إيمَا أنَّهُمْ كانوا يقفِونها على موضوعين اثنيْن أو ثلاثةٍ غالِباً: طرفة: الناقة والمرأة فقط، وعنترة: الناقة والمرأة أيضاً، فقط، ولبيد الناقة والمرأة، والطلول والحيوان (خارج إطار الناقة)؛ وزهير: الطلول والمرأة فقط؛ والحارث بن حلّزة: الناقة، والإنسان، والكتيبة، واللصوص، وعمرو بن كلثوم: القبيلة، والسيوف، والدروع، وإيمَا أنَّهُم كانوا يصطنعونها في موضوعاتٍ غير مظنونةٍ بالجمال الشعريّ مثل اللصوص والكتيبة، والدروع والحيوان..
وتنهض جماليُّة التناصِّ الكَأنِّي، هنا خصوصاً على موضوعين اثنيْن كانا ذَوَيْ علاقةٍ حميميةٍ بحياة المعلّقاتيّين وعواطِفِهِم وبيئتهم، وهما: الناقة التي كانوا يسافرون عليها، وَيَطعَمُونَ لَحْمَها، ويتاجرون فيها، ويَتَّدُون بها لدى سَفْكِ الدماء... والمرأة التي كانوا يستمدّون سعادتهم من حبّها، والاستمتاع بجَمال جَسدها، فكأَنَّ هذيْن الموضوعين يشكّلان محور هذه النشاط التناصّيّ القائم على توظيف أداة /كَأَنَّ/ في التشبيهات، التي كانوا يُحَلُّون بها نسج الكلام في معلّقاتهم السبعِ.
أمَّا لماذا وظّف المعلّقاتيّون هذه الأداة، وكيف تناصّ بعضهم مع بعض بها، أو قل: كيف تناصّ اللاّحقون بها مع السابقين، بل قل: كيف تناصّ الستة المعلّقاتيّون مع الواحد الذي هو امرؤ القيس: فلعلّ ذلك أن يكوّن لحميميّة علاقة هذه الأداة برسم جماليّة الحيز، ورسم جمالية الحبيبة وما يَحْدَوْدِقُ بها، أو يضطرب من حولها. فما كان تكرارُها لديهم إلاّ تعزيزاً لمظهر جماليّة الحيز الشعريّ، وحرص المعلّقاتيين على الإصرار على وصْفِهِ بهذه الجماليّة، وادّعائها فيه، وإثباتّها له، ووقفها عليه.
وربّما كانت البنية الصوتيّة لأداة كَأَنَّ هي التي حَمَّلتِ المعلّقاتيين على الإكثار من استعمالها دُونَ سَوائِها من أدوات التشبيه مثل الكاف، ومِثْل؛ فقول القائل منهم:
كأنّها، أو: كأنّما، أو كأنَّني، أو:كأنّهُ.. يظاهر على إقامة الشعر بشكلٍ جميل؛ بينما الكاف وحدها، ومِثْل، أيضاً، لا يستطيعان النهوض بما تنهض به كأنّ: حيث إنّ، "كأنّها"، مثلاً تأتي على ميزان: "فَعَلْنَها"، بينما الكاف ومثل لا تتعلّقان بشيء من رصانة ذلك الإيقاع، وغَنائِهِ..
الحقل الرابع للتناصّ اللفظّي:
لفظ الحيّ
لقد ورد ذكر لفظ الحيّ لدى المعلّقاتيين زهاء إحدى عشرة مرة، واستأثر بهذا التناصّ اللفظّيّ خمسة منهم، هم: امرؤ القيس، وطرفة، وزهير، ولبيد، وعمرو بن كلثوم. بينما غاب من معلّقتي عنترة والحارث بن حلّزة:
مق:
1. لَدَى سَمُراتِ الحَيّ ناقِفُ حَنْظَلِ
2. فلّما أجَزْنَا ساحَةَ الحَيِّ وانْتَحَى...
ط:
1. وإِنْ يَلْتَقِ الحَيُّ الجميعُ تُلاقِني
2. كما لامَني الحَيِّ قرطُ بْنُ مَعْبَدِ
ز:
1. لَعَمْري لَنِعْمَ الحَيُّ جَرَّ عليهم
2. لِحَيٍّ حِلاَلٍ يَعْصُم الناسَ أمْرُهُم
ل:
1. ولقد حميت الحَيَّ تَحْمِلُ شَكَّتِي
2. شاقَتْكَ ظُعْنُ الحَيِّ حينَ تَحَمَّلوا
ع.ك:
1. ونحن إذا عمادُ الحَيِّ خَرَّتْ
2. ترانا بارزين وكُلُّ حَيٍّ
3. وقد هَرَّتْ كِلابُ الحَيِّ منّا.
ولقد نلاحظ أنّ لفظ الحيّ ذُكِرَ غالباً في معرض تصوير جماليّة الحيز الشعريّ المرتبط إمّا بالحبيبة، وإما بِطَلَلِهِا، وإمّا بديار القبيلة التي تنتمي إليها. وعلى الرغم من اختلاف توظيف هذا اللفظ حين نُذِيبُه في سياقهِ، ونصبّه في مرجعيّته الاجتماعيّة؛ فإنّه، مع ذلك ظلّ محافظاً على الدلالة العامة المرتبطة إمّا بالقبيلة وشرفها، وإمّا بالحبيبة وهواها.
وقد وظّف كلّ معلّقاتِيٍّ، هذا اللفظَ الجميلَ، الدّال على الحياة والحركة والعمران والتلاقي والتعاون و التضافر، فيما يلائم روحه ويُوائِم نفْسَه، ويتفق مع نظرته إلى الحياة، وتجربته فيها: فامرؤ القيس يوظّفه في حَيْرَته السامدة الناشئة عن تحمّل الحبيبة وأهلها عن الحيّ الذي كان يشهد ساعات النعيم لديه تارة، وفي تخلّصّه وحبيبته من الرقباء والمترّبصين به إلى حيث يصادف اللذة والمتاع تارة أخراة، فلفظ الأوّل، لديه يشهد على مأساة حبّه، وعذاب بَيْنِه، وَنَكَدِ سَعْدِهِ. على حين أنّ لفظ الحيّ الآخرَ يدلّ على تخلّصه من حيزه، ليُلْفِيَ، خارجه، نعيماً وسعادة مع تلك المرأة الحسناء التي يصفها بأبدع الأوصاف وأرّقها وألطفها وألذّها غزليّةً في الشعر الجاهليّ. فالحَيُّ الأوّل لديه مواطن للحَيرة والبكاء والعذاب، بينما الحيّ الآخرُ كان مَدْرَجَةً إلى حيز آخر يظفَرُ فيه النّاصُّ بأجمل اللحظات، وألذِّ السعادات.
بينما لا يكاد يخرج لفظ الحيّ لدى المعلّقاتيّين الآخرين عن معنى العَشِيرة، أو قَطِيِنِ الحيّ ورجالاتِه، كما يَمْثُلُ ذلك لدى طرفة وزُهيرُ ولبيد وابن كلثوم، فالحيّ لدى الناصّ الأوّل يجسد جماليّةً طافحة، ولدى المتناصّين معه يمثل مجرد بَشَرٍ يَحْرَنْجِمُوَن في صعيد واحدٍ من أجل الحياة. فالحي لدى النَّاصّ الأوّل -امرئِ القيس- حيز شعريّ طافح بالحركة والجمال، بَيْنَمَا هُوَ لدى الآخرين لا يكاد يجسد ألاّ أحْياءً لا خصوصيّة لهم، ولا جمال في حياتهم.. فكأنّ الحيز مُجسّداً في لفظ الحيّ يَمْثُل لدى امرئِ القيس الشعريّة، ويمثّل لدى أضرابه الاجتماعيَّةَ. وإذا تأمَّلْنا، في الحاليْن الاثنتيْن، المَواطن التي وُظِفَ فيها لفظ الحيَّ استبان لنا أنّ هذا المعنى ينضوي تحت جماليّة الحيز، حيز الحبيبة لدى امرئ القيس ولبيد، وأحياز القبيلة لدى المعلّقّاتيّين الآخرين.
الحقل الخامس للتناصّ اللّفظيّ.
البكاء والدمع ومافي حكمهما
لقد لاحظَنا أنّ أيّاً من المعلّقاتيّين لم يَكْلَفْ بتَرداد لفظ البكاء، ومايدلّ عليه، مثل ماجاء ذلك امرُؤُ القيس الذي تواتَرَ لديهِ زهاءَ سَبْعِ مرّاتٍ، بينما لم يتناصَّ معه في هذا البُكى إلاّ الحارِثُ بِذْكْرِ البكاءِ مرتيّن اثنتيْن فَقَطْ. وكأنّ امرأَ القيس كان يجسّد القصيدة العربيّة الأولى بامتياز، وكأنّ سلوك البكاء الذي كان يجيئه قبلَهُ امرؤ القيس بن حُمام، كان عالقاً بذاكرتهِ مترسّباً في نفسه، جارياً على لسانهِ، فلمّا جاء يُنشئ هذه المعلّقة العجيبة لم يستطع التخلّص من تلك الترسّبات التناصّية التي كانت تُفْعِمُ نفْسَه، وتملأُ قلبَه؛ فكان من أمره ماكان.
إنّ الأمّر المحيّر في هذه المسألة أنَّ امرأ القيس هو الذي يُولِي العناية الفائقة للبكاءِ فيردّده صراحة في مطلع معلّقتهِ، بينما الآخرون، ماعدا لبيد، يقفون على الطلول والديار، ولكنهم لا يبكونَّها. أجاؤوا ذلك لأنّهم لم يكونوا يُحِبّون؟ أم جاءوه لأنّهم رفضوا تَذرف الدموع وهم الرجالُ الأشداءُ الأَقْويَاءُ، وإنما كان البكاء للنساء والأطفال؟ لكن، البكاء لا يدلّ في كلّ الأطوار على ضعف النفْس، بل قد يدلّ على قوتها وصفائها وقدرتها على إفراز الأحزان الراسبة، وتذويبها بماء الدمع... ثمّ لِمَ تناصَّ مع امرئ القيس الحارِثُ وَحْدَهُ من بين جميع المعلّقاتيّين الآخرين؟ أم يعني ذلك أنّ كلباً مُحِقّةٌ فيما زعمتْ من أنّ الأبيات الخمسة الأولى ليست لامرئ القيس، ولكنها لاِبْنَ حُمام (23)؟ وإلاّ فما بال امرئِ القيس يبكي وحده، ولا يتابعه المعلّقاتيّون الآخرون إلاّ واحداً منهم بكى مرتيْن، من حيثُ نُلفي المَلِكِ الضليّل يبكي سبْعاً، أو قل: أنّه يبكي خمْسَاً، ويُبْكِي صَبيّاً مرّة، وحبيبتهِ مرّة أخراة...
مق:
1. قفا نَبْكِ من ذِكْرَى حبيبٍ ومنزل.
2. إذا مابكى من خلْفِها انصرَفتْ له.
3. لدى سَمُراتِ الحيّ ناقِفُ حَنْظَلِ (كناية هنا عن تَذْرافِ الدموع).
4. وإنّ شفائي عَبْرَةٌ مُهرّاقَةٌ.
5. ففاضت دموعُ العَيْنِ منّي صَبابَةً
6. وما ذَرَفتْ عيناكِ إلا لِتَضْرِبي...
ح.ح:
1. فأَبْكِي دَلَهاً.
2. وما يُحيرُ البُكَاءُ.
إنّ أوّل مانلاحظ أَنّ هذا البكاء استبدّ به امرؤ القيس بِسَبْعِ مرّات، ولم يتناص، معه، كما أسلَفْنَا الْقَّالَ، إلاّ الحارث بن حلّزة في حاليْن اثنتين فحسب، أو قل: في حالٍ واحدة عبّر عنها بتعبيريْن أحدهما يتّصّل بالآخر. فكأنّ البكاء، إذن، معجم وَقْفٌ على لغة امرئ القيس الذي اصطنع البكاء في مواطن مختلفة ليس للدلالة على حبّة هو وحده، ولكن للدلالة على حب، صاحبته إيّاه أيضاً فكأنّ دَيْدَنُهُ البكاء، الشاعر وصاحبته في ذلك سَواءٌ، ولم يَبْكِ امرؤ القيس الطُّلولَ وحْدَها، كما كان بكاها من قبله ابن حمام، ولكنه بكى من جَرَّاءِ مُزايلة الحبيبة: فهو إِذن بكاء وفاء، وذلك على الرغم من أنّ النقاد الأقدمين يزعمون أنّ امرأ القيس كان زِيرَ نساءٍ (24)، وعلى الرغم من أنه يناقض نفْسَه، عَبْرَ هذا البكاء، وذلك بذكر نساء كثيرات في معلّقته، فهل كان قادراً على حبّهنّ جميعاً في وقت واحد؟ أم كان يحبّ هذه؛ فلمَّا يُقْضِّي معها من الزمن مايقضّي، يَتَّرِكُها ويلتمس غيرها...؟ أم هي احترافية الشعر ومتطلبّاته الرفيعة؟...
ذلك، وقد صادفتنا تناصّات لفظية أخراة أقل تواتُراً مما ذكرنا، وأقل أَهمّيَّة ممَّا عالجنا، مثل الغزال الذي ورد ذكره في المعلّقات السبع- امرؤ القيس سبق إلى ذكره أكثر من مرة في معلّقته -إحدى عشرة مرّة- والوقوف الذي وقع التناصُّ به ثماني مَراتٍ، والثياب التي تواترتْ خمسَ مراتٍ، والبياض، والمتْن، والتحمُّل، والوشم التي تواتر كلّ منها أربع مرّات، والرسم والغبيط والحَب (بفتح الحاء) التي ورد كلّ منها ثلاث مرّات في المعلّقات. ونستخلص من بعض ما سبق أنّ الشعراء كثيراً ماكانوا يشتركون في اصطناع ألفاظ بعينها، وخصوصاً حين كانوا يتناولون موضوعات متشابهة، أو متماثلة، وقد ألفينا عامّة تلك الألفاظ المشتركة تصّب في مصب واحد: هو جماليّة الحبيبة، وجماليّة حيزها.
فكأنّ المادّة اللغوية المشتركة الأولى التي بَنَى منها المعلقّاتيّون معلّقاتهم تَمْثُل في الديار والرسوم، والربوع والطلول، والوقوف عليها، والبكاءِ من أجلها حَوْلِهَا، ثمّ في الغيوث والسيول التي كانت تُعَرِّي أثافِيَّها، وتجري في نُؤَيِّها، ثم في الآرام التي كانت تَجْثُمُ في قِيعَانها، وترتع في عَرَصَاَتها، بعد أن أقْوَتِ الديار، وأقفرت الأطلال...
وتجسّد هذه المادّة اللغويّة المشتركة بين المعلقّاتيّين، خصوصاً، مطالع هذه المعلّقات أو مقدّماتها الطليّة.

**د لا ل**
2012-02-16, 22:15
جماليّة الإيقاع في المعلّقات


لماذا نقف هذه المقالة على الإيقاع في المعلّقات؟ وهلاّ انصرفْنا إلى سَوَائِهِ ممّا قد يكون أهمّ منه شأْناً، وأَخْطَرَ أمْراً؟ لكن أي شيءٍ يمكن أن يكون أهمّ من الإيقاع في مُدارسَةِ النص الشعريّ وتحليله؟ وإذا سلّمنا بأهمّيّة هذا الإيقاع، ومالنا إلاّ أن نسلّم بذلك؛ فماذا يمكن أن يُلاصَ، لدينا، منه: وقد قرّرْنا اختصاصَه، في هذه الدراسة، بهذه المقالة، على حِدَةٍ؟ أيُلاَصُ منه الحديثُ عن التركيبِ العَروضيّ الخالِص، أمْ أنَّه ذَهابٌ إلى مايمكن من المذاهب في تأويليّة الصوت، ودلالة النغَم، وتناسق اللّفظ، وائْتِلاف التركيب؟ ثمّ هل يمكن ربْطُ الإيقاع بالنسج، والنسج بالإيقاع، وتعليل لماذيّة هذا، بلماذيّة ذاك؟
وعلى أنّا لا نريد بمفهوم الإيقاع إلى الميزان العروضي بالمعنى التقني للاصطلاح الخليليّ. فإنّما العَرَوض تنهض على التماس الميزان الدقيق، وإنما كان الميزان دقيقاً، في الأعارِيض، لأنه ينهض على تَقدير زَمنّي شديدِ الصرامة. فكأنّ العَروضَ تعني، قبل كلّ شيء، حساب الزمن، ودقّته وصرامته، مَثَلُها مثلُ الموسيقى في تحديدِ أنغامِها، وضبط ألحانِها، بالميزان الصوتيّ الدقيق.
وإذاً، فليس الإيقاعُ الذي نريد إليه: ذلك؛ ولكنه مجموعة أصوات متجانسة متناغمة، ومتشاكلة متماثلة، ومتضافرة متفاعلة: تتشكّل داخل منظومة كلاميّة لتجسّد، عبر نظام صوتيّ ذاتيّ ينشأ عن تلقائيّات النسج بالسِّمِاتِ اللفظية، نِظاماً إيقاعِيّاً يقع وَسَطاً بين دقّة العروض في ميزانها، وتساهل النثر في فوَضْاهُ.
ويختلف الوزن عن الإيقاع لدى منظّري الشعر اختلافاً محسوساً بحيث إنّ الوزن ينصرف معناه إلى انقسام إبداع موسيقيّ إلى أقسام: يكون لها، كلّها، المدّة الزمنيّة نفسها: تتوزّع بينها على سَواءٍ، على حين أنّ الإيقاع يتشكّل من انقسام، من جنس آخر، مختلفٍ عنه كلّ الاختلاف، ومِقدّرٍ لأقسام التركيب الماثل: مُدَداً زمنيّة ليست بالضرورة متساوية"(1).
وأياً كان الشأنُ، فإنه لا يمكن تحليلُ أيّ نصٍّ شعريّ دون المَعاج على إيقاعه لمُدارسَةِ جماله، وتحديد عناصر هذا الجمال، وبلْوَرَةِ علاقة التعاطِي والتضافر فيما بينها، عبر ذلك النّصّ، ويمكن الخوض، أثناء ذلك، في تأويل علّة اختيار ذلك الإيقاع بذاته، أو اختيار تلك الطائفة من الإيقاعات الجزئيّة التي تشّكّل، في مُثولها العامّ عبر النص الشعريّ المطروح للتحليل، نظام الإيقاع المركزيّ الذي غالِباً ماتكون وظيفتُه جماليّةً أولاً، ثم دلاليّة آخِراً.
وينشأ عن تمثّلنا لهذا الإيقاع وربطه بفنيّة الجمال، ثمّ ربط جماليّته بالدلالة: أنّا نتناوله تحت إجراء التأويليّة، وذلك كيما نتّخذّ في قراءتنا، وقد نكون، في بعض ذلك، على قدر كبير من الحق، حرّيَّةَ التمثُيلِ في قراءة الإيقاع عبْرَ نصّه الماثل فيه. أي أنّنا لا نزعم أنّنا نخضعه لسلطان نظريّة علميّة صارمة، ولكننا نزعم أنّنا نُخضعه لإجراءِ التأويليّة القائم، أساساً، على التعامل مع النّصّ الأدبيّ بحرّيّة تنهض على التماس المخارج والمَوالج للنّصّ، والسلوك بقراءته في مُضْطَرباتٍ جماليّة وسيمائَيِاتيّةٍ: تكون في الغالب مفتوحةَ الحدود، غير منغلقة الآفاق.
ولعلّ التأويليّة -أو الهرمينوطيقا بلفظها الأصليّ- جاءت إجراءً فعّالاً لتخليص النقد الأدبيّ الذي القراءة الأدبيّة فرع منه: من بعض وَرْطتهِ حيث إنّه ما أكثر ما كان يدّعي لنفسه الموضوعيّة، تحت عقدة الموضوعيّة العلميّة، بينما لا يكاد يمتلك من تلك الموضوعيّة إلاّ قليلاً، وذلك بحكم انتمائه إلى حقل العلوم الإنسانيّة التي لايُبَرْهَنُ فيها، ولدى تحليل ظاهرة معيّنة منها - على صحّتها أو زَيْفَها- بَرْهَنةَ علميّة صارمة، كما يبرهن على صحّة نظريّة فيزيائيّة، أو رياضياتيّة...
فلعلّ، إذن، التأويليّة بإجراءاتها المتفتّحة، أن تكون من بين الأدوات الحداثيّة التي اجتهدت في أن النقدَ، ممّا كان متورِّطاً فيه من أَبَوِيَّةٍ وأستاذيّةٍ واستعلائيّة، كما تنقذ، نتيجة لذلك، النصّ الأدبيّ من ذلك البَلاء الذي كان يَمْثُل في إصدار أحكامِ القيمةِ القائمة على التماس الجودة أو الرداءة في العمل الأدبي، لدى قراءته، بالضرورة...
أوّلاً: أثر الحميميّة في تشكيل الإيقاع الداخليّ
إنّا حين نَقْتَرِئُ نُصوص هذه المعلّقات لنحاول تسجيل شيء من الملاحظات حوال إيقاعِها، استبان لنا، ولا نقول استكشفْنا، أنّ البنية الإيقاعيّة الداخليّة لهذه النصوص ربما أمكن حصرُها في مجموعتينْ اثنتيْن من المعلّقات: معلّقاتِ امرئِ القيس، وطرفة، وعنترة من وجهة، ومعلّقات لبيد، وزهير، وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلّزة، من وجهة أخراة.
وقد يكون من القصور، في إنجاز التحليلات الإيقاعيّة على الطريقة الحداثيّة، أن نتحدث عن مجرّد الإيقاع الخارجيّ الذي كثيراً ماينصرف لدى الناس إلى مجرد مايطلق عليه العروض: إما الرويّ في حال، وإمّا القافية في حال أخراة: ثم نَتَّرِك الروافد الخلفيّة الثرثارة التي تمدّ هذا الإيقاعَ بالأنغام، وتمكّن له في الحَصْحَصَةِ والقِيام. إنَّا لو جئنا ذلك لكان سعْيُنا مُجَرّدَ ملاحظات ساذَجة، وتقريرات فجّة، إن لا نقل فاسدة، وهل يجوز جَنْيُ الثمرة، وقطع الشجرة؟ إِنّ أيَّ إيقاع، حين ندارسه ونداخله، لا مناص لنا من العودة إلى الخلفيّات اللّفظيّة (نحن هنا ندارس نصَّاً أدبيَّاً لا منغومة موسيقيّة، ولذلك فإنّ المادّة الإيقاعيّة تتمثّل في مادّة الألفاظ وما تأتلف منه من حروف تجسّد أصواتاً هي بمثابة الأنغام في علم الموسيقى...)، والتي تشكّل هيكله الصوتيّ العامّ...
فلماذا اصطنع امرؤ القيس الإيقاع الخارجيّ الوطيءَ الصوت (الرويّ المكسور)؟ وهل كان ذلك مجرّد مصادفة واتفاق؟ ولكن مَنْ مِنَ الحُذّاق يذهب إلى عفويّة مثول الفنّ؟ وحتى إذا كان ماحدث من نسوج نغميّة، كان في الأصل، افتراضاً، مصادَفَةًً وعفواً: فكان بمثابة الصوت الذي يصدر عن الحنجرة، والنظرة التي تصدر عن الطرْف، والشذى الذي يعبق من الورد... فإنّ من حقّنا، ومن واجبنا أيضاً، ونحن نقرأ: أن نقرأ النصّ الأدبيّ على غير ماكان لاصَ النّاصُّ، وعلى ما لم يكن فكّرَ فيه قط، إذّ من حقّنا البحث عن اللاَّمحدودِ في الدلالات التي ضمّنها المؤلّف نَصَّهََ، كما أنّ من حقِّنا البحثَ أيضاً عن اللاّمحدودِ في المعاني التي جَهِلَها المؤلِّف (2)، أو تلك التي لم تَدُرْ له بِخلَدٍ.
ذلك بأنّ الغاية من القراءة لم تعد، كما يقرّر ذلك امبرتو ايكو، مقصورةً على جانبها التجريبيّ فحسب (ارتضاؤها بالاقتصار على تحقيق هدف يتمثّل فيما يمكن أن يطلق عليه سوسيولوجيّة التلقّي): ولكن إبراز وظيفة التطنيب (البناء) والتقويض (أي مايطلق عليه النقاد الحداثيّون في شيء من القصور: التفكيك) للنّصّ الذي تتولّى القراءةُ النهوضَ بِلَعِبِهِ: بما هو وظيفة فاعلة وضرورية لإنجازِهِ كما هو (3).
أرأيت أنّنا يمكن أن نقرأ النص الأدبيّ، إذا ركضنا به في مضطَربِ التأويليّة الرمزيّة، على نحوين اثنين:
1- بالبحث عن اللاّمحدود في الدلالات التي كان المؤلّف ضمّنها نصّه.
2- بالبحث عن اللاّ محدود في المعاني، أو الدلالات، (وذلك هو الذي يعنينا في تحليل مسألة الإيقاع في المعلّقات، وفي كلّ الجماليات السيماءَوِيَّةِ التي نطرحها من هذه القراءة من حولها التي جَهِلَها المُؤَلِّفُ (والتي أْنَتَتجَتْ- كذلك نريد أن نُعَبِّرَ- احتمِالاً، من المتلقّي، ولكن دون أن نعلم ما إذا كان ذلك نتيجة، أو قصوراً، عن مقصديّة النّاص)(4).
والمشكلة المنهجيّة التي قد تظلّ قائمةً لزمن بعيد، تَمْثُلُ في هاتين المُساءلتينْ الاثنتين:
1- هل يجب أن نبحث في النّص عمّا كان المؤلّف يريد قوله؟
2- أو يجب البحث في النّص عمّا يقوله هو، لا عمّا يقوله صاحبُه؟
أي أننا في الحال الأخيرة نعالج النص الأدبيّ بمعزل عن مقصديّات مؤلّفه.
وفي حال التسليم بالاحتمال الثاني للقراءة، فإنّ التعارُضَ، حينئذٍ، سيحدث بين:
أ- هل يجب أن نبحث في النّص عمّا يقوله النصّ بالإحالة على نَسَقِهِ السياقيّ، وبالإحالة على وضع أَنْسِقَةِ الدلالة التي يُحيل عليها؟
ب- أم هل يجب أن نبحث في النّصّ عمّا يجده فيه المتلّقي بالإحالة على أَنْسَاقِ دلالته و/أو بالإحالة على رغباته، أو قابليّة ميوله، أو مشيئاته الممكنة...؟ (5).
ويبدو أنه من الأمثل للقارئ، وللنصّ المقروءِ، وللمؤلف الذي كان أبدع النص: من الأمثل للجميع أن تكون القراءة على المذهب الثاني.
وإذن، فلِمَ الإيقاعُ الخارجيّ في معلّقة امرئ القيس وطيء الصوت، بتعبيرنا؟
إنّا ونحن نجتهد، ولا نملك إلاّ قولَ ذلك، في الإجابة عن هذا السؤال المعرّفي الإجرائيّ معاً: ربما نكون قد أجبنا عمّا لم نطرحه من سؤال، من قبل، وهو: ومابال الإيقاع الخارجيّ، وإنما غايتُنا، في هذه الفقرة من البحث، تحليلُ الإيقاع الداخلي أساساً؟
والحقّ أنّ الفصل بين الداخليّ والخارجيّ من الإيقاع لم يكن إلاّ إجراء تيسيرِيَّاً للمتلقيّ، وإلاّ فَهُما، في الأصل، مندمجٍان، منسجمان، متزاوجان متكاملان، بحيث لا يكون الأوّل إلاّ بالآخر، وإن أمكن كَوْنُ أحدِهما فما كان ليكون إلاّ ضعيفاً هَشاً وهزيلاً فَجَّاً.

لقد لاحظنا أنّ امرأ القيس ابتدأ أوّل حرف في معلّقته بالصوت المخفوض: قِـ +فا... فكان، أو كأنّ ذلك كان، بمثابة إعلان عن هويّة المنظومة الإيقاعيّة عَبْرَ هذا النص الشعريّ العجيب... ولقد ازداد ذلك رُسوخاً بورود خفض واحد على الأقل في كلّ السمات اللفظيّة التي يتألّف منها البيت الأول من المعلّقة المرقسيّة- إلاّ ظرفاً واحداً كان يجب أن يظلّ مبنياً على الفتح هنا:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبيبٍ ومَنْزِلِ

بِسِقْطِ اللِوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فحَوْمَلِ


إنّ الصوت الأوّل في النّص كأنّه يأتي بمثابة إعلان عن الهويّة الإيقاعية للصوت الأخير فيه. والصوت الأوّل في البيت، يؤذن بالهويّة الإيقاعية للصوت الأخير منه...
إنّا نُحِسُّ، منذ الوهلة الأولى، أنّنا أمام نظام إيقاعيّ مُتماسِكٍ تتركّب أنغامُه، خصوصاً، من أصوات وطيئة (من مخفوضات متلاحقة). ولكن هذه الأصواتَ المنخفضة المتلاحقة، المتضافرة المتغافصة، والآخِذَ أوّلُها بتلابيب آخرها: هي، في نهاية الأمر وأوّله أيضاً، جزء من نظام صوتيّ تقوم جماليَّتُه على حميميّة المضمون، وعلى سياق الحال، فأفضى إلى نظام للتركيب الإيقاعيّ الداخليّ الذي هو بمثابة الخزّان الجماليّ للإيقاع الخارجيّ الذي ماكان ليأتي، في الحقيقة، إلاّ تتويجاً لهذه الخلفية المتناغمة التي ازدانت بها منطوقات هذه القصيدة.
ولقد نؤول أنّ الصوت المخفوض، أو المنكسر، أو الوطيء، هو أليق بالذات، وأولى بحميميّتها من سَوَائِهَ في هذا المَقام، وذلك على أساس أنّه يتلاءم، في اللغة العربيّة، مع ياء الاحتياز ( ياء المتكلّم) الدّالّة على الامتلاك والأحقّيّة. وَلِمَّا اقتنعْنا بهذا التمثّل ربطناه بنصّ معلّقة امرئ القيس الذي بصرف الطرف عن الأحشاء، والأعاريض والأَضْرُبِ، والأضْرُبِ، بلغة العَروضيّين، أو الفونيمات بلغة الصَّوْتانِيّينّ، والتي تمثّل أواخِرَ المصاريع خصوصاً - وهي تمتدّ على مدى نصّ المعلّقة -فإنه اشتمل على سِمَاتٍ لفظيّة كثيرة: إمّا لأنّها تنتهي بصوت وطيء، أو منخفض، وهو الصوت الذي زعمنا أنه يرتبط بالذات، ويتمحض لباطن النّفس، وذلك لأنه كثيراً مايرتبط بياء الاحتياز؛ وإمّا لأنّها تدلّ على حميميّة المدلول.
إنّ الإيقاعَ الداخليّ، كما يجب أن يتبادَرَ إلى الأذهان، نقصد به إلى العناصر الصوتيّة، أو السمات اللّفظية، التي تأتَلِفُ منها الوحدة الشعريّة (البيت) بِجَذاميرها، والتي تشكّل هي في ذاتها، مع صِنْوَتِها، هيئة النص الشعريّ المطروح للقراءة، بحذافيره.
وقد كُنّا لاحظّنا منذ قليل أنّ هذا الإيقاع، في تشكيلاته الكبرى، يتحكّم فيه الصوت المنخفض الدالّ، في رأينا، على الانهيار، والبّثّ، والحزن، والحرقة، وإذا غَضَضْنا الطْرف عن الصوت الساكن الذي لا يأتي في الكلام إلاَّ لِلْحَدِّ من الحركة الصوتيَّة وقمعها، أو التلطيف من غلوائها وعنفوانها؛ فإنّ العناصر الصوتيّة المنخفضة، هنا، هي السائدة المهيمنة، والماثلة المتحكِّمة. ولعلّ هذا الأمر أن يندرج ضمن هذا الوضع المتدّنّي لمعنويّات
يندرج ضمن هذا الوضع المتدّنّي لمعنويّات نفس النّاصّ.
ونحن حين جئنا نتابع العناصر اللفظية المُفرزة للأنغام، ونتقصّى طبيعة أصواتِها، ألفينا مالا يقل عن عشرين عُنْصَراً اتّخذ له الصوت المفتوح (منها اثنا عشر صوتاً مفتوحاً ممدوداً):
قِفَا- ذِكْرَى- اللِّوَى- بَيْن- فَتُوضِح- رسْمُها- لِمَا- نَسَجَتْها- تَرَى- بَعَرَ- عرصاتِهَا- قِيْعَانِهَا- غَدّاةَ- يَوْمَ- لَدَى- بِهَا- عليَّ- لا- وإنَّ- عِنْدَ (وقد رصَدْنا ذلك من الستة الأبيات الأولى من المعلّقة).
ودلّت الهيمنة النسبية للصوت المفتوح على أنّ حال الشاعر كانت تستدعي البثّ والشكوى، والحنين والبُكى، لأنّ الذين يَشْكِي أو يبكي مضطرّ، في مألوف العادة، إلى أن يرفع عقيرته كَيْما يَسْمَعُهُ الناسُ ويلتفتوا إليه. ولأمر ما كانت حروف النداء، في اللغة العربيّة، مفتوحةً كلّها (أ- أيْ- يَا- أيّا- هيّا....): ولعلّ ذلك من أجل أن يُسمَع المُنادِي حاجته، ويبلّغَ لهم رسالتَه، وَيَسْتَبين عمّا في نفسه من كوامِنِ الأسرار، ومكنون الأخبار، الدعاءُ مدٌّ للصّوت، والشكوى مدٌّ، أيضاً، لهذا الصوت، والحنينُ، من بعض الوجوه، مَدٌّ للصوت. ويكون الصوت في مثل هذه الأطوار مفتوحاً لينفتح به الفم، ولتنطق به الحنجرة حال كونها مفتوحةًً، ولتنادي به العقيرة في الهواء، ولترتفع به في الفضاء.
أمّا العناصر الصوتيّة المنخفضة الأخرى، والمشكّلة للإيقاع الداخليّ، أو لكثير منه، في الطليّة المرقسيّة؛ فإنها بلغت، هي أيضاً، زهاء ثمانيةَ عَشَرَ عنصراً صوتيّاً، وهي (وراعينا في ذلك النطق الفعليّ، لا الحالة النحويّة في مثل "في"، وفي مثل "كأنّي"): نَبْكِ- ومنزل- بسِقْط- الدُّخولِ- فَحَوْمَلِ- فالمقراةِ- وشمأَل- الاْرآمِ- في -فُلْفِل، كأنّي- البينِ -سَمُراتِ- الحيِّ- الحيّ- حَنْظّلِ- صَحْبِي- وتجَمَّلِ- شِفَائِي- مُعَوَّلِ.

وإذا توسّعنا في استقراء القراءة وجاوزّنا بها الستةَ الأبيات الأولى إلى مابعدها نصادف سِماتٍ كثيرةً تنتهي منخفضةَ الصوت. ودالّة على الحميميّة والامِتلاك.. مثل قوله: (شِفائِي- دَمْعي- مِحْمَلي- مَطِيَّتي- يا امرأ القيس- بعيري- ولا تُبعِديني- وتحْتي- صَرمْي- أغرّكِ- مِنّي- حُبَّكِ- ساءَتْكِ- فسُلّي- ثيابِي- أمْشي- فُؤادي- هواكِ- فيكِ- مِنّي- حَرْثي- أغتدي- بعيني- أصاح- وصَحْبَتِي...
وإذا حقّ لنا أن نؤوِّلَ هذا السعيَ الماثل في النّص، فسيكون، مثلاً، أنّ الناصّ إنما اصطنع الأصوات المنخفضة على دأبه في التعامل مع المنخفضات من الأصوات، من أجل أن يدلّ بها، في رأينا على الأقلّ، على انقطاع الماضِي، وموْت الزمن الفائت، وذهاب الحال، واستحالة الأمر. وقد لاحظنا أنّ الأصوات المكسورة [والمكسور، من الوجهة اللغويّة، مقهور- ومن الوجهة الإحصائية] متقارِبَةُ العدد مع الأصوات المفتوحَةِ الآخِرِ: ولعلّ ذلك لتناسب حالة الحنين والشكوى والبثّ المعبَّر عنها بالأصوات المفتوحة الممدودة، وغير الممدودة، بحالة الزمن المنقطع، والماضي المندحر، والأمس المندثر.
فهناك إذن تلاؤُمَ تامّ، وانسجامٌ عجيب، بين الأصوات المنفتحة، أو الأصوات الممتدّة إلى نحو الأعلى، والأصوات الممتدة إلى نحو الأسفل: في التعبير عن الراهن من الحال، والدّلالة على الوضع القائم في ذات الناصّ ونفسه.
وهناك سمات صوتيّة أخراةٌ تَرِدُ في النسج الداخلي للإيقاع، بعضها حميميّ خالص، وبعضها له صِلَةٌ بالحميميّة حين يُذابُ في النسيج العامّ للنّصّ، وذلك مثل: عَقَرْتُ- دَخلْتُ- فقُلْتُ- فألهَيْتُ+ها- تمتَّعْتُ- تجاوزْتُ+ فجئت-خرجت+ هصرت-فقلت- جعلت- قطعت+ه- فقلت. -طرقت.- عقرت...
ومثل:
بنا- وراءنا- أثرَيْنا- يا (امرأ القيس)- وما (أن أرى)- انتحى- بنا- أرخى- عصامها- لمّا- عَوَى... إنّ الصوت الخارجيّ (الرّويّ) الطاغِي على النّصّ ليس إلا صورة للأصوات الداخليّة المُتتالية المتناغمة، والتي تتّخّذ لها سَلالم صوتيّة مختلفة بين الامتداد المفتوح، والانكسار المخفوض، وكُلُّها ذو صِلَةٍ بحميميّة النفْس، وجوانيّة الذات للناصّ: التي كانت بمثابة المُرْتَكَزِ الحصين الذي يرتكز عليه الصوت الخارجيّ، وإذا وَفُرَ للإيقاع، بنوعيهْ، أصواتٌ داخليّة تدعمّه وتُثريه، وصوت خارجي، يُزِيْنُه ويُؤْوِيه، كان غنيّاً سَخِيّاً، وطافحاً عبقريّاً.

والحميميّة التي ردّدناها، والتي نردّدها كًثيراً في هذه المقالة، كما رأينا بعد، ترتبط ارتباطاً داخليّاً بنفس الناصّ، وحُبّه، وسيرته، وهمومه، فالذات، في هذا النّص، هي الطاغية؛ إذ لم يكد يخاطب إلاّ بعض أصحابه، وبعض حبيباته، وبعضَ ليلهِ، وبعضَ ذئابه (على الرغم من أنني أذهب مع من يذهبون من القدماء، إلى أنّ الأبيات الأربعة التي يتناول فيها الذئبَ ومحاورته ليست له). وماعدا ذلك فصوت الناصّ هو الطاغِي، وذاتيّته هي الطافحة، وحميميّته، هي البادية الماثلة.
إنّ الإيقاع في معلّقة امرئ القيس لم يكن، من منظورنا على الأقلّ، اعتباطِيّاً تركيبُه، ولكنه ينهض على نظام صوتيّ موظّف عبر النسج الشعريّ بحيث نلفي الدالّ -وهو السمة التي تمثّل الصوت- يُحيلُ على المدلول؛ والمدلول يحيل على الدّالِّ، في انتظام وانسجام، وتناسق والتحام.
ولا يُصادفنا إلا شَيءٌ من ذلك حين ننزلِق إلى الحديث عن معلّقة طرفَة التي تطالعنا فيها حميميّة طاغية. وإنما قلنا: طاغية؛ لأنّ دوالَّها أوفرُ كثرةً، وأوسَعُ انتشاراً في هذا النصّ، من معلّقّة امرئ القيس نفسها، كما نصادف فيها فيْضاً من "الفونيمات" المنخفضةِ الأصواتِ التي كانت هي أيضاً بمثابة خزّانِ سخيّ للمنظومة الصوتيّة العامّة التي يتركّب منها نسج المعلّقة. ومن العجيب أنّ أوَّلَ حرف، في أوّلِ لفظٍ، في أوّل بيْتٍ، في هذه المعلقة يبتدئ بالخفض: مثل أوّل حرف، في أوّل لفظ، في أوّل بيت -أيضاً في معلّقة امرئ القيس، حَذْوِ النعلِ بالنعلِ. ونلاحظ في نصّ طرفة أيضاً فئتين اثنتيْن من الأصواتِ: فئة الأصوات المنخفضة، وهي التي تركض، فيما نزعمه، في مركض الحميميّة التي تَسْتَمِيزُ بها قصيدة طرفة، وفئة الألفاظ التي وإن لم تكن منخفضة من حيث هي سِماتٌ صوتية، إلا أنها دالة على ذلك من حيث هي مدلولات.
ويمكن أن نمثّل للفئة الأولى ببعض مايلي:
صَحْبي-وإنّي- صاحِبي- تَبْغِني- تلْقَني- تلتَمسْني- تُلاقِني- تَشْرابي -ولذَّتي- وبِيْعي- وإنفاقي- طريفي- ومُتْلَدِي- تحامَتْني- سْبقي- وكَرّي- فَما لي- أرانِي- وابنُ عَمِّي- عَنّي- يلومني- لامَنَي- وأيأسَنِي.... وهلمّ جرّا ما تَكَلُّفُ إدراجِه، كلّه، قد يثقل كاهِل هذه المقالة، ويمدُّ في طولها، فعسى أن يكون هذا التمثيل كافياً لمن أراد أن يتابع ذلك في معلّقة طرفة حيث وصلّنا به، نحن، إلى زهاء إحدى وستّين حالة منطلقة من ذات الناصّ، أو صابّة في فيضه الذاتيّ الثرثار.
أمّا الشقّ الثاني لحميميّة هذا النّصّ، تلك الحميميّة التي نربطها بالإيقاع الخارجيّ المنخفض الصوت: فيتمثّل، هو أيضاً، في فيض من السِّمات الصوتية الضاربة في هذه الحميميّة، الحائلة عليها، أو المنطلقة منها، وذلك مثل:
وإنّي -لأمْضي- وإن شئتُ- وإن شئتُ- وإن شئْتُ- أمْضِي- خِلْتُ- أنّني- عنيت- لم أكْسَلْ- لم أتبلَّدْ- أحَلْتُ- ولسْتُ- أَفِرْدْتُ- رأيت- أبادر- أحفل- أرى- أرى- أرى- أدرى- نشدت- أغفل- قرّبت- وأنْ أدع- أكُنْ- أشهدَ- أجهدَ- أسقهم- أحدثته... وهلمّ جرّا ممّا عَفَفْنا عنه من ألفاظ أخراةٍ باقية كثيرة تدلّ على حميمية المعنى، وذاتيّة المدلول، ويكون لها أثناء ذلك دور في إغناء الإيقاع بالأنغام الصوتية المتماثلة، أو القريبة التماثل...
ويأتي عنترة في المرتبة ذاتها، أو في مرتبة من الحميميّة قريبة من مَرْتَبَتَيْ ضَرْبَيْهِ امرئِ القيس، وطرفة. وواضحّ أنّ ذلك يعود إلى طغيان الذاتيّة لدى هؤلاء الثلاثة المعلّقّاتيّين لأنّ غايتهم، من قول الشعر، لم تكن للحكمة أساساً، ولا لالتماس صلح بين قبائل متحاربة (زهير)، ولا لالتماس الفخر بالقبيلة والتغنّي بأمجادها (عمرو بن كلثوم)، ولا لتجسيد اللوم والتثريب، والتوبيخ والتقريع، لخصوم القبيلة (الحارث بن حلّزة)؛ لكنّها كانت للتعبير عن النفسْ، والترويح عن القلب، والتغنّي بالذّات، ووصف ماله صلة بها كالرّكوبة، والحبيبة، والفَرَس، ومجالس اللهو، والشراب...

علاقة الإيقاع بالنسج الشعرّي لدى عنترة
ولمّا كانت الميم شَفَويّةً، فكأنها حرف الذات، وصَوْتٌ للنفس، إذ الشفتان تنضمّان عليه كما تنضّم الرّحِمُ على الجنين، وكما ينطوي الكِمُّ على الوَرْدَةِ قبل أن تنشق عنه، وكما يَشُّدُّ كُلُّ امْرئٍ على ذي قيمة. ونلاحظ أنّ الميم حين تكسر، تظلّ محتفظة بالصوت، وحين تخرجه، لدى نهاية الأمر، تُلْقِيَ به نحو الأسفل، نحو القلب، نحو الجوانح... كذلك نتمثّل أمر وظيفة هذا الصوت... على حين أنّه حين يُفْتَح، يطيرُ به الصوت في الهواء، وينتشر في الفضاء. أمّا حينَ يُضَمُّ، فإنّه يتلاشى في الهواء، ولكن نحو الأمام من وجهة، ولمَدَّى من الانتشار، يقلَّ عن الانتشار الذي يتمخّض للصوت المفتوح -وخصوصاً حين يمتدّ- من وجهة أخراة.
من أجل كلّ ذلك وافَقَ صوْتُ الميم المنخفض دلالة النسج على المدلول، وهو هذه الحميميّة التي تصادفنا في معلّقة عنترة حيث إنّ هناك مالا يقلّ عن ستٍّ وسبعين حالةً يقترن فيها السِّمَةُ الصوتيّة بياء الاحتياز، أو همز الأَنَا، أو تاء المتكلّم، أو مافي حكم ذلك.. ممّا يجعل من معلّقة عنترة، من الوجهة النسجيّة: نصّاً يدور في دائرة معلّقتي امرئِ القيس وطرفة حيث كنّا رأيناهما، هما أيضاً تحملان كثيراً من هذه السمات الصوتيّة: الرويّ المكسور غير الممدود، وهو الصوت المقترب من النفس والذات، واستعمال اللاّم التي يمكن أن نطلق عليها لام الامتلاك، واصطناع الدال، وهي حَرْفٌ صوته يقترب من النطق الشفويّ (تُصَنَّفُ الدالُ حَرْفَاً لَثَوِيّاً، لأن مبدأ نطقها من اللّثّة) الذي يعني شَيْئَاً من الحميميّة والانغلاق على النفس، والانْزِواء داخل حيز الذات...
فلو كان حرف الرويّ الذي هو الميم، هنا، مضموماً لكان رمى بكلّ شيء إلى الخارج، ولألْقَى بكلّ القيم الدلاليّة نحو العَدَم؛ لكنّ هذه الميم خُفِضَتْ؛ فكان خفضها من أجل إرسالِ هذه القيم الدلاليّة إلى نحو الأسفل، إلى نحو القلب والذات، والإحالة بها على الماضي الغابر على أساس أنّ النُّصَّاصَ، هنا، يسردون ذكرياتٍ وأحداثاً ممّا كان وقع لهم في بعض ذلك الماضي.
ولقد ظاهرت هذه السِتَّةُ والسَّبْعُونَ عُنْصَرَاً المكسورة الآخِرِ، وفي نصّ معلّقة عنترة، على التمكين لِمّا نُطْلِقْ عليه حميميّة الإِيقاع الناشئة عن اغتفاص هذه الاحْتِيازات الكثيرة، والتي منها ناقِتي- وحشيّتي_ مخالقتي- مالي- وعِرضي- شمائلي- وتكرّمي- يدايّ- كِفّي- عهدي- لبّي- جاريتي- نعمتي - عمّي- مقدمي- دمي...- لي- إليّ...
وهناك سِمات أخراة تحيل على الذَّات، والداخل، والحميميّ، ولكن لا يعبّر عنها بياء الاحتياز، ولكن بأدوات أُخراةٍ مثل تاء المتكلّمْ، وهمزة المضارع الدالّ على المفرد المتكلّم، مثل: فوقفت- أقتل- أبيت- ظُلِمْتُ- أظلم- تركت- شَرِبْتُ- صَحْوتُ- أغشى- فشكَكْتُ- فتركتُه- نزلت- قطعتُ+ـهُ- فبعثْتُ- نُبِّئْتُ- حفظت- رأيت- مازلت- شئت...
كما أنّ هناك سماتٍ دالّةً على الذات؛ ولكن بصورة غير مباشرة مثل:
مِنّي- راعَنِي- دُونِي- إنني - عَلَيَّ - بي - ولكنّني- مشايعي...
وكلّ ذلك كان من أجل التمكين للنسج من أن ينسجم مع المنسوج، وجعل الدّالِ يتماشى مع المدلول؛ إذْ لمّا كان الإيقاع الخارجيُّ مكسوراً فإنه كان- والحال إنّ الشعر جمالٌ وسحر وقول يبهر ويدهش، وكلام يمتع ويؤنس- مُنْتظَراً أنْ تتلاءَمَ مُعظمُ النسوج (الألفاظ، أو السمات الصوتية، المنتسجة منها الجُمَلُ داخل النّص) بأن تنتهي، هي أيضاً، بالكسر، أو بياء الاحتيازِ (ياء المتكلّم) الناشئة عن الكسر، أو المُنْشِئَة لهذا الكسر المُحيل على الذات الدّالَّة على الحميميّة المتقبّلة كلّ ما يأتيها من الخارج لتختزنَه في الداخل المضطرِبِ فَتَزْدَخِرَ بِهَ ازْدخاراً...
فهؤلاء المعلّقاتيّون الثلاثةُ، كما رأينا، (وإن لم نعمّق تحليل الإيقاع في نصوص معلّقّاتهم، لأسباب منهجيّة...) تشيع في قصائدهم الحميميَّةُ بمعنَيَيْهَا لدينا: ياءِ الاحتيازِ، وضمير المتكلّم المفرد.
ويمكن أن نصنّف لبيداً ضمن الخاصيّة النسجيّة الأولى حيث وردت في معلّقته سِماتٌ صوتيّة كثيرة تَرْتَكِضُ مُرْتَكَضَ الثلاثة أتيْنا عليهم ذِكْراً في هذه المقالة. وقد أحصيْنا من ألفاظ الحميميّة في معلّقته ما أناف على الثلاثين.
فكأنّ لبيداً يمثّل حلقةَ وصْلٍ بين السبعة، وكأنّه يقترب، في هذه الخاصيّة الإيقاعيّة، من الثلاثة الأوائل دون أن ينضِويَ، مع ذلك في لِوائهم، ويدرج في فَلَكهم، فكأنَّه، إذن، في الوقت ذاته، يَزْدَلِفُ من الثلاثة الأواخِر (ولفظ "الأواخر" هنا لا يعني إصدار حكم قيمة، وأنّ هؤلاء الثلاثة أدنى شاعريّةً من الثلاثة الذين توقفنا، في هذه المقالة، لدى بعض عناصر الإيقاع في شعرهم، ولكنه يعني مجرّد نظام الحساب...) على نحو ما...
إنّ حميميّة لبيد لا ترقى إلى تشكيل ظاهرة نسجيّة، تمثّل جهازاً صوتيّاً يمدّ الصوت الخارجيّ بالأنغام على نحو ما كنّا ألفيناها لدى طرفة، وبدرجة أقلّ لدى امرئ القيس، فإنما كان لبيد يصف حالاً، ويتحدّث عن وضع كأنه كان يعيشه قبل، أو قُبَيلَ، إنشاءَ هذه المعلّقة التي يبدو أنها تعرضت لتنقيح شديد... فنسْج شعره يقوم إيقاعُه على مايمكن أن نطلق عليه الروح السرديّة أكثر ممّا يقوم على الحميميّة. وينهض إيقاعه على الإحالة على ماضٍ قريب حتّى كأنّه حاضر ملفوف فيه: مُهَا.
فالضمّ الوارد قبل الفتح، في الإيقاع الخارجيّ، يُبعدُ الحميميَّة، وهَا الممدودة تُدْنِي النًّسْجَ من الحاضر، بمقدار ما تَزْدَجِيهِ نحو الماضي. فكأنّ الماضِيَ، هنا في تمثّلنا نحن على الأقلّ، يمتزج بالحاضر، والذاتَ تذوب في الآخرَ، كما أنّ الآخَرَ يذوب في الأنّا. من أجل ذلك تمازجت النسوج بالإيقاعات، فكانت تحيل على الخارج، ولكن انطلاقاً من الداخل المتمثّل خصوصاً في صوت الميم الدال على الحميميّة، حتى وإن كان مضموماً فإنه باعتبار ميميّته- أي باعتبار مخرجه الشفويّ الذي يستدعي أن تَضْطَمَّ عليه الشفتان معاً- يظلّ محتفظاً بمسحة من هذه الحميميّة.
بينما نُلفي هذه الحميمية تضعُف لدى زهير، وعمرو بن كلثوم، والحارث بن حلّزة، وتحلّ مَحَلّها؛ وخصوصاً لدى الحارث وعمرو، نَا الدّالةُ على الجماعة، المنبثقةُ عن ضمير القبيلة وصوتها الجمّاعيّ.
وإذا كان زهير لم يكد يورد من ألفاظ الحميميّة إلاّ زهاء اثني عشر لفظاً، فَبِمَا إغراقهِ في التأمّلّية؛ وَبِمَا نَهْيِهِ عن الانغِماس في رِجْسِ الحرب؛ وبما دعوته الناسَ إلى السلم وترغيبهم في الجنوح لها حيث كانوا، إذ لا يَجْنُون من الحرب إلاّ المآسيَ والشقاء، والإحن والعذاب.
ونلفي عمرو بن كلثوم والحارث بن حلّزة يتفرّدان بالإضراب- والشأن منصرف إلى الإيقاع الداخليّ في معلقتيهما-

**د لا ل**
2012-02-16, 22:24
الصورة الأنثويّة للمرأة في المعلّقات

ما أكثر ماتحدّث الناس عن المرأة في الشعر الجاهليّ، وما أكثر ماتوقّفوا لديها فتحدّثوا عن رمزيّتها، وواقعيّتها، ووضعها الاجتماعِّي... لكنّ أحداً، في حدود مابلغْناه من العلم، لم يتناول المرأة الجاهليّة على هذا النحو الذي عليه نحن تناولناه:
فالأَوْلَى: إنّ الكتابات التي كُتِبَتْ عن العصر الجاهليّ، والتي أتيح لنا الإِلمام عَلَيْهَا، لم تحاولْ تناوُلَ المرأة، من خلال النصوص الشعريّة، على نحوٍ أُحاديٍّ: متمخِّض لها، ووقف عليها، ولكنها تناولها إمّا عَرَضَاً، وإمَّا مُعَوِّمَة إيَّاهَا في القضايا الأخراة التي عرض الشعر الجاهليّ لها. وفي ذلك شيء من الإجحاف بحقّ المرأة العربيّة، وتقصير في ذاتها.
والثانية: إننا عالجنا وضع المرأة الجاهليّة، أو المرأة العربيّة قبل الإسلام، وعلاقتها بالرجل من خلال نصوص المعلّقات السبع وَحْدَها، وقد تعمدّنا وَقْفَ هذه الدراسة على هذه المعلّقات تخصيصاً، توخّياً للتحكّم في البحث، إذا لو وسَّعْنا دائرة سعْيِنا إلى الشعر الجاهليّ كلّه لَخَشِينا أن لا ننتهي إلى رأيٍ رصين، وأن لا نتمكّن من إصدار حكم مبين.
والثانية: إننا حاولنا معالجة هذا الموضوع بمنهج ركّبناه، في مجازاتٍ متعدّدة منه: من السيمائيّة والأنتروبولوجيا معاً، وذلك ابتغاء الكشف عن وضع المرأة في المجتمع الجاهليّ، ونظرة الرجل إليها، وهي النظرة التي كانت تقوم، في الغالِب، على اعتبار أُنْثَوِيَّتها وأُنُوثتها جميعاً، وليس على اعتبار أنها كائن إنسانيّ عاقلّ، حسّاس، وأنّها شقيقة الرجل، وأنّها ، إذن، عضو فعّال ومؤثّر في المجتمع..
وربّما فزعنا، أثناء تحليل الأبيات المستشهَدِ بها حَوالِ المرأةِ في المعلّقات، إلى الإِجراء الجماليّ، أيضاً.
والأخراة: إننا لم نُرَكِزْ على الآَراء المعروفة التي قُرِرت من حول المرأة الجاهليّة - إلاّ ماكان من مناقشة الدكتور البهبيتي الذي ذهب إلى رمزيّة المرأة في المعلّقات - قبلنا، هنا وهناك. وتوّخينا التقاط الأَبَاِييتِ التي تحمل دلالةً ما: إمّا سيماءَوِيَّةً، وإمّا أنتروبولوجيّة: اعتقاداً منّا بأنّ مالم نتناولْه، نحن في هذه الكتابة، قد يكون سَوَاؤُنَا تناولَه قبْلَنَا: منذ الأعصار الموغلة في القدم، وإلى هذا العهد.
*****
أوّلاً الحضور الاجتماعي ّ للمرأة في الجاهليّة
إنّ وَأْدَ كِنْدَة - وقبائل أخراةٍ كانت تحذو حذْوَها -بناتِهَا في الأَسْنَانِ المُبَكِّرةِ لَبُرْهَانٌ خِرّيتٌ على قوّة حضور المرأة في الجاهليّة، وعلى قوّة شخصيّتها، وعلى رِفْعَة مكانتها، في المجتمع العربيّ قبل الإسلام: لا على ضعف قوّتها، وقلّة حيلتها، وانحطاط منزلتها. وإنّ الآية على ذلك أنّ الوَأْدَ كان يقع للصبايا وهُنَّ في سنّ الرضاعة أو نحوها. وكان الحامل على ارتكاب تلك الجريمة البشعة هو خوف العار، فيما كان الوائدون يزعمون، ولكنّ القرآن العظيم فضح أولئك اللئام بأنّ وَأدَهُمْ بناتِهمْ، لم يكُ خشْيَةََ العار، ولكنه كان خشية الوقوع تحت ضائقة الفقر والإملاق(1).
وقد صوّر القرآن الكريم الحال الحزينة التي تقارف بعضَ لِئَامِهِمْ حين كان تولد له جاريَةٌ؛ فقد كان وجُهه يسودّ، ومُحَيَّاهُ يَربَدُّ؛ فكان يُلِمُ عليه، من أجل ذلك، الحزنُ والعبوسِ، والكلوح والقطوب (2). ويبدو أنّ قرار الوأد، كما يفهم ذلك من نصّ القرآن الكريم، كان يتمّ، غالباً، في الأيّام الأولى من ميلاد الصبيّة.
وكان الأعرابيّ ربّما غضب على امرأته وزايلها إذا لم تنجب له صبياً. وقد كان الناس يعتقدون أنّ الحليلة هي المسؤولة عن صفة جنس المولوَد، وذلك على الرغم من أنّ أعرابيّة أجابت بعلها حين غضب عليها وهجرها حولاً كاملاً: أَن وَضَعَتْ له صِبْيَّةً، بأنها لا تلد، في حقيقة الأمر، إلاّ ماكان يُزْرًعُ فيها(3). ولعلّ رجز تلك المرأة العربية يوحي بأنّ النساء كن يَرَيْنَ في أمر تحديد صفة جنس الجنين غير ماكان الرجال يرون.
لم يكن أهل الجاهليّة، إذن، يئدون صباياهم لأنهم كانوا يخشَوْنَ أن يلحَقَهُم من جرّائِهَنَّ العارُ والشنار، ولكن الحق ماقاله القرآن. أي أنه كانوا يخشون الفقر والإملاق. وإنما كانوا يخشون ذلك لعلل كثيرة منها، في تمثّلنا:
1- إنّ الصبيّة في السنّ الأوّلى ربما أسهمت في النهوض ببعض الأعمال الاقتصاديّة اليوميّة البسيطة مثل رعي الأغنام، على مقربة من الحيّ، وذلك لانتفاء الظنّ عن تعرّضها للاغتصاب، ولِمَا لا يجوز من التخوّفات عليها

2- لكنّ الجارية مجرّد أن تقترب من سنّ المراهقة تُحْبَسُ في البيت حَبْسَاً، خَوْفَاً عليها مِمَّا لا يجوز.... وكان ينشأ عن ذلك السلوك أَنّ أباها، أو أخاها، هُوَ الذي يتولّى الإنفاق عليها، إذ تغتدي محرومةً من الإسهام في الحياة الاقتصادية الخارجيّة للأسرة: فإذا هي لا تذهب إلى الأسواق، ولا تزاول الأعمال التجارّية بنفسها، ولا تحتطب إلاّ من الأماكن القريبة جداً من الحيّ بحيث لا تغيب عنها عيْنُ الحيّ. وحينئذ ينحصر دَوْرَها في البيت الذي لم يكن مركز النشاط الاقتصاديّ للأسّرة... وتظلّ تنتظر الرجل الذي سيختطبها. ولعلّ من أجل هذا العامل الاقتصاديّ الخالص كان يتّمّ تزويج العربيّات في سنّ مبكّرّة جداً، ولا يبرح هذا الوضع قائماً إلى يومنا هذا في بعض البلدان العربيّة مثل اليمن؛ على الرغم مِنْ أنَّ تلك الأسبابَ زال بعضُها... والفتاة الشقية هي تلك التي كان يطول مُقامها في بيتِ أهلها فتَعْنس ولا تتزوّج...
بينما شأن الفتى شأنٌ آخر. لا يخاف أبوه عليه، صغيراً وكبيراً. وهو إلى ذلك يستطيع أن يكلّفه ببعض المهمّات منذ بلوغه الأوّل. وهو في أسوأ الأحوال قادر على الإغارة مع القبيلة، كما يُعَدُّ للدفاع عن نفسه أوّلاً بِحَدِّ السيف؛ ثم الدفاع عن القبيلة آخِراً إذا دُهِيَتْ بداهية، وتعرّضُ أمْنُها للأخطار... الفتاة لا؛ لم تكن في منطق الظروف الحضاريّة البدائيّة السائدة قادرةًً على الدفاع لا عن نفسها، ولا عن قبيلتها، إلاّ من الإسهامات الخلفيّة للمعركة كَقَوْتِ الخيْلِ، وتضميد كِلامَ الجرْحَى؛ كما سنستنتنج بعض ذلك من بعض معلّقة عمرو بن كلثوم.
فكانت المرأة من ذلك المنظور الجاهليّ اللّئيم عالةً على أسرتها؛ فكان يسارع بعض الطّغامِ إلى وأدها مجرّد ميلادِها.
من الغريب في هذا الأمر أنّ الوائدينَ كانوا يَفْزَعونَ إلى المرأة زَوْجَاً، ويحرصون على مودّتها وإكرامها، كما كانوا يُحبّون، ويُحْبُونَ، معاً أخواتِهِمْ، ويحمونَهُنَّ مثل البنات والحليلات حين كانوا يُصَبَّحُوَنَ بالغارات. وكانت المرأة العربية إذا زُوِّجَتْ في الغُرباء ربما جَزِعَتْ وَحَزِنَتْ لمُزايَلَتِها مغانِيَ قبيلتها، ومفارقتها ديارَ عشيرتِها، كما يؤكد ذلك بيتان من الشعر ينسبان إلى امرأة من بني عامر بن صعصعة وقد زوّجت في طيئ : فاستوحشت المقام بين أهل بعلها، فقالت:

لا تَحْمَدنَّ الدهرَ أُخْتٌ أخاً لَها



ولا تَرْثِيَنَّ، الدَّهْرَ، بِنْتٌ لِوَالِدِ



هُمُ جعلوها حيْثُ ليْسَتْ بِحُرَّةٍ



وهُمْ طرحَوها في الأقاصي الأباعِدِ(4).



ولعلّ تخوفّ المرأة العربيّة، على عهد الجاهلية، وجزَعها من التزوّج في غير بني قومِها: يعودان إلى انغلاق ذلك المجتمع، وبدائيّة وسائل المواصلات فيه: إذْ كان التنقل من صُقْعٍ إلى صُقْعٍ يتطلّب أيّاماً طِوالاً من السفر الشاقِّ، مع انعدام أمْنِ الطُرقاتِ، وقلّة موافاة القبائل؛ القبائل الأخراة.
وإذا كانت المرأة، لدى امرئ القيس، وطرفة وعنترة: كأنّها لم تَكُ إلاّ للَّذاتِ والمُضاجعاتِ؛ فإنها، لدى عمرو بن كلثوم، كانت لذلك أيضاً، وذاك أمرٌ طبيعيّ؛ ولكنها كانت تُسهِمُ في الحروب مع الرجل، وكأنّ النساء كانت بمثابة القاعدة الخلفيّة التي يستمدّ منها الرجال القوّة، ويستلهمون من جمالها ولطفها الشجاعة وحسن البلاء في ساح الوغى: حمايةً لها، وحُبَّاً فيها، وتعلٌّقاً بأطفالها، وَنْضَحَاً عن شَرَفِها:

على آثارِنا بيضٌ حِسانٌ



نُحاذِرُ أن تُقَسَّمَ أو تَهُونا



فقد كان الرجال -ولا يبرحون- من أن يقع نساؤهم تحت السبي فتُقَسَّمَ تقسيماً بين المُغيرين، أو تقع تحت وطأة المَهانة والعار. فكانت مشاركة النساء في الحروب مزدوجةً الفائدة: أنهن كنّ يَقُتْنَ خَيْلَ البُعولةِ، ويُشْرِفنَ على تمريض الكَلْمَى. كما كُنَّ، في الوقت ذاته، يَحْضُضن أولئك البعولَ على الثَّبات في ساحة الهيجاء، وإِلاّ تعرَّضْن للسَّبْي والغصب:

يَقُتْنَ جِيَادَنا ويَقُلْنَ لَسْتُمْ



بعولَتَنَا إذا لم تَمْنَعُونَا



لقد تفرّد عمرو بن كلثوم، إذن، من بين كلّ المعلقّاتييّن؛ بتسجيل هذه الصورة الراقية لدور المرأة في العربية في ذلك المجتمع المتطاحِن المتحارِب المتصارع من أجل البقاء، بل من أجل الاستعلاء، إذ ليست المرأة لدى معظم المعلّقاتييّن، إلاّ لعبة جميلةً يتلذّذ بها الرجل، لأنّها تصلح لأن يُشْبِعَ منها رَغْبَتَه الجنسيّة: ثمّ لاشيءَ من وراء ذلك يوجد فيها من غَناء! على حين أنّها لدى عمرو بن كلثوم عضو مؤثّر في المجتمع: لها كامل الحقوق، وعليها كلّ الواجباتِ - ضَمْناً على الأقل- إذْ مَنْ يشارك في الحرب يكون له السهم المُعَلَّى في بقيّة مظاهر الحياة الأخراةِ: وهي دون الحرب خَطَراً، وأهون منها شأناً.
ومن الآيات على شرف مكانة المرأة، وسمّو منزلتها على عهد الجاهليّة، وحرص الرجل الشديد على حمايتها في ذلك المجتمع المضطرب الذي لم يكن الاستقرارُ يعرفُ إليه سبيلاً : أنّ عمرو بن كلثوم قَتَلَ عمرو بن هند، وقد كان مَلِكَاً للحيرة؛ لأنّ الملك أزمَعَ على إِهَانَة عمرو بن كلثوم في شخصِ أمِّه ليلى ابنة مهلهل بن ربيعة: بأن دسّ لها أُمَّهُ هِنْداً لتطلب من ليلى مناولتَها الطبَّق وهي لديها ضَيْفٌ، فاعتذرت ليلى لهند أوّلاً؛ فلمّا أعادت عليها الطلب وألحّت، صاحت ليلى: "واذلاَّهُ! يالتَغلِب!"(5) فلَمَّا سمِعَها ابْنُهَا عمرو بن كلثوم عَمَد إلى سيف كان معلّقاً قريباً من عمرو بن هند فقتله به...
وقد كانت المرأة العربيّة على عهد الجاهلية شاعرةً تفْهَم الشعر، وناقدة تستطيع التعليق عليه، وتمييزَجيّدهِ من رديئهِ، ولا يعني ذلك إلاّ أنّها كانت بلغت مقداراً صالحاً من الثقافة الشعريّة حيث تزعم أمّهات التراث العربيّ أنّ امرأ القيس وعلقمة بن عبدة -الفحل- تنازعا في أيّهما أشعر؛ ولم يُسَلِّمْ أحدُهما للآخر فاتفقا على أن يحتكما لحليلة امرئ القيس، يومئذ، أمّ جُنْدُب التي حَكَمَتْ لعلقمة على امرئ القيس مما أحفظ الملكَ الضَّلّيِلَ فطلّقها(6).
فإنّ صحّت هذه الحكاية فإنّ ذلك يعني أنّ المرأة لم تَكُ شاعرةً فحسب، ولكنها كانت أيضاً ناقدة تُصْدِرُ الأحكام، وتُجرى التعليقات، في كفاءةً مدهشة.
ولعلّ، ممّا قد يؤيّد هذه الحكاية، في مضمونها على الأقلّ، خبر آخر يزعم أنّ الخنساء (تماضر بنت عمرو بن الشريد السُّلميَّة) بارَتْ في سوق عكاظ، أمام النابغة الذبياني، حسّانَ بْنَ ثابتٍ فَحَكَمَ النابغةُ لها عليه(7).
وجاء في الأخبار أيضاً أنّ ابنةَ حسانَ بْنِ ثابتٍ كانت شاعرة، وأنّ حَسّاناً أرِقَ ذاتَ ليلةٍ فارتجل بيتيْن اثنيْن من الشعر فسمعتْه ابنتُه فأجازَتْهُ مرّتين متتاليتيّن، فقال لها أبوها: "لا أقول بيتَ شعرٍ وأنت حَيَّةٌ."(8). لكنّ الفتاة أمّنَتْ أباها قائِلَةً: "لا أقول بيتَ شعرٍ مادمتَ (أنت) حيّاً!".(8).
كما أنّ الأشعار الكثيرة، المتفرّقة، التي وردتْ شواهد على قواعدِ النحوِ، أو على صحّة اللغة في كتب النحو والمعاجم والأمهات مثل "الكتاب" لسيبويه، و"لسان العرب" لابن منظور: تدلّ على أهمّيّة مكانة المرأة العربيّة في المجتمع الجاهلي؛ إذ هناك العدد الجمّ من أبيات الاستشهاد التي قيلت إمّا في وصف أعضاء معيّنة من جسد المرأة مثل العينين، والثغر، والشعر، والأسنان، والجيد، والكشح، والثديين، والسّاقيين، والأنامل، والقدّ.... وأمّا في وصف علاقة الرجل بالمرأة، أو قالها، في الأصل، نساء...
ويفتقر هذا الموضوع إلى بحثٍ على حدة
بينما لانكاد نجد مادّة واحدة، من موادّ المعجم العربيّ، لا تُذْكَرُ فيها المرأة على نحو أو على آخر، فكأنّ اللغة العربيّة لغة نسويّة أساساً! وكأنّ هذه التسويّة تستأثر بأمرها إلى حدّ أن العرب تعتبر كثيراً من المسمّيات مؤنّثة على الرغم من خُلِوِّها مِنْ هاءِ التأنيث في آخرِها مثل الحرب، والعَصا، والعين، والأذن، والساق، والرِجلْ، واليد، والنار، والبئر...، بالإضافة إلى الألفاظ الكثيرة التي يجوز تأنيثها وتذكيرها مثل السوق، والحال، والسبيل والرُّوح...وكأنّ العرب كانت تراعي في أصل إطلاق الأسماء على المسمّيات اتّصالَها بالمرأة، أو اعتبارها مؤنّثة لتوهم النَّسوية فيها... على حين أنّنا نلفي الأعضاء الجنسيّة للمرأة، خصوصاً، وما يتّصل بها أيضاً من حركة أو فعل تشكّل مادّة ضخمة في اللغة العربية.
ولا يقال إلاّ نحو ذلك في جمع مالا يعقل، وجمع التكسير حيث يعاملان، لدى إعادة الضمير عليهما، معاملةَ المؤنّثِ.
حقاً، لم يكن هناك نظام اجتماعيٌّ قائم، وإن كانَهُ على نحو ما، ولا قانون وضعيٌّ صارم، ولا تعاليمُ دينية تحمي المرأةَ في الجاهليّة من عُدّوان نفسِها أوّلاً، ثمّ من تسلّط الرّجل المفرِطْ عليها آخراً: إلى أن جاء الله بالإسلام فقنّن علاقتها بالرجل، وجعلها سيّدة في مالها، ورفع من شأنها في المجتمع حين جعلها شقيقة الرجل، وحين جعل الجنّة تحت أقدامها - حين تغتدي أماً - وحين اشترط في صفة العشرة بينهما أن تكون بالمودّة والمعروف....
ولكن على الرغم من الحقوق المادّية والمعنويّة التي قرّرها الإسلام للمرأة، فإنّه كان في الجاهليّة أعرافٌ وقيم تحفط للمرأة العربيّة شيئاً من حقوقها، وتحفظ لها شيئاً من كرامتها ( ونقصد بذلك المرأة الحُرَّة؛ أمّا الأمَّةُ فظلّت حالُها على هَوْنٍ، ومكانتها على سوء، إلى أن تخلّصت الإنسانيّة من نظام الرِقِّ المَقِيت) فكان الرجل يعاشرها بشيء من المعروف، والمودّة، وربما الوفاء أيضاً... وقد يدلّ على بعض ذلك هذه الوفرة الوافرة من الأشعار التي تتحدّث عن علاقات البعول بحليلاتهم، أمثال أقوالهم:
* ذريني للغنى أسْعى فإنّي

رأيْتُ الناسَ شرّهم الفقيرُ(9)

*ِتلْك عِرْسي غَضْبَى تُرُيد زِيَالِي

اَلِبَيْنٍ تريد أم لِدَلال؟(10)

* فإن تسألوني بالنساء فإنّني

بصيرٌ بأدواء النساء طبيبُ (11)

* تِلك عِرْسَايَ تنطِقانِ عَلى عمْـ

ــد، لي اليوم قَوْلَ زُورٍ وهتْرِ(12)...


إنّ طفوح الأشعار العربيّة القديمة - الجاهليّة خصوصاً- بذكر هذه المرأة، وإنّ التباري بين عامة الشعراء في وصف جمالها، وفي ذكر دلالها، وربما التغنّي بصفاتها الروحيّة الأخراة كما يمثل بعض ذلك في شعر عمرو بن كلثوم:
ظعائن من بني جشم بن بكر

خَلَطْنَ بميسَمٍ حَسَباً ودِينا


لَدليلٌ خِرّيتٌ، وبُرْهان ساطعٌ، على سُمُو مكانة المرأة العربية في المجتمع الجاهلي بعامّة، وفي أَنْفُسُ الشعراء بخاصة.
وعلى الرغم من أنّنا نرتاب، ارتياباً شديداً، في صحة نسبة هذا البيت إلى عمرو بن كلثوم، لأنّ هذا الشاعر لم يكن من الوَرَع والتقوى والإيمان -وهو الجاهليّ الوَثَنِّيّ- مايجعله يمتدح في النساء العنصرَ الديني لديهنّ. وكيف لا يرتاب في نسبة هذا البيت إليه وهو الذي يقول في المعلّقة نفسها:
ألاَ لاَ يَجْهَلنْ أحدٌ عليْنا

فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجاهلينا


فهل نصدّق بصحّة هذا البيت أم بصحّة البيت السابق؟ أمّا أَنْ نُصَدِّقَ بصحّتهما معاً، فعلينا أن نكون سُذَّجَاً، وإذن، فإن صحّ لابن كلثوم هذا البيت: الجاهِليُّ، الجاهِلُ، فليكن؛ ولكن على أن لا يصِحَّ له البيت الآخرَ الذي يتغنّى فيه بمكارم الأخلاق، وورع نساءِ تَغْلِب.
وإنّ صحّ الآخرُ له، فليكن، ولكن على أن لا يصحّ له هذا. وهبْ سلَّمْنا بمسألة الحسب والنسب في البَيْتِ السابق، لكن مابالُ ذِكْرِ الدِّيْن لدى شاعر مثل عمرو بن كلثوم الذي لم يتورّع في قتل عمرو بن هند لمجرّد حادثة كان يمكن أن يتخلّص منها بمغادرة الحيرة مع أمّه، وكتابة قصيدة هجائية فيه، ويستريح.... ولكنّه آثَرَ سفك الدّم، فقتل....
ثمّ ، إن المرأة المتدّينة - لو كان ماورد في هذا البيت يصدق على نساء بني تغلب- تسمو بنفسها، وتتواضع، وتتلطّف، وتتسامح، وتساعد الآخرين... فكان يمكن، إذن، لليلى أمّ عمرو بن كلثوم، أن تناول هنداً الطبَق -ولو من باب تجاهل العارف- أو لا تناولها إيّاه، ولكنها تتسامى بنفسها، وتتعالى بخلاقِها، وتتسامح بحُكْم، أو بفضل، دينها المزعوم مع تلك الجاهلة الفجَّةِ، الْفَظَّةِ الجِلْفَة، الغليظةِ القلب المتغطرسَةِ في جاهليّتها الجهلاء، والسامدة في ضلالتها العمياء... لكنّ ليلى كانت أجهل من هند، كما كان عمرو بن كلثوم أجهل من عمرو بن هند، في هذه الحادثة. فأين مظاهر الدين في هذا الأمر؟ ومابال التّقى والوَرِع لدى بني تغلب؟ وهل نلوم عمراً أنْ لم يَكُ متديّناً في زمن ومكان لم يَكُ فيهما نبيّ مُرسَل، ولا كتابٌ مسطّرٌ، ولا رسالة إلهيّة...
إننا، إذن، لا نعتقِدُ أن يكونَ مِثْلُ هذا الوصف الوارد لدى نهاية البيت الأخير، للمرأة الجاهليّة -من خلال وصف نساء بني تغلب- صحيحَ المتْن، ولا سليمَ الرواية، ولا صادق النسبة إلى صاحبه، لتناقضه مع الوضع الذي كان يعيشه الشاعر، ولتعارضه مع السيرة التي كان يسيرها في حياته العامّة. ولا نَخَالُ ذلك إلاّ من دَسَّ حمّاد الراوية الذي جمع نصوص المعلّقات، ثم رَوّاها الناس (13) (وهي رواية يأتيها الضعف والشكّ من كونها جاءت بعد أكثر من قرنين من الزمن، وأنّه تفرّد بها وحده، وأنّها إذن لَمْ تَكُ رواية متواتِرةً) وهي الرواية الذي كان اشتهر بالكذب، فكان لا يتحرّج في التزّيد في أشعار الناس(14).
إنّ كائناً مثل المرأة التي تمثّل الأمّ، والأخت، والبنت، والزَوْج، بالقياس إلى الرجل من وٍجهة، وتمثّل الرٍقًّة المتناهية، والحنان الغامر، وتزدخر بالحبّ العارم، والإحساس الفائض، من وجهة أخراة... وإنّ كائناً كان هو الذي ينهض في ذلك المجتمع الذي كان يحكمه الشَّظَفُ والغِلْظُ، وتَسِمُه الخُشونة والشدّة -بقسط كبير من أعباء الحياة اليوميّة فينسج الملابس ويغسلها إذا اتّسخت، ويصنع الأخبية والخيامَ ويتعهّد نظافَتها، ويطْهُو، إلى ذلك، الطعام، ويُنْجِب الأطفال، ويُرضِعُهُم ويُنْشِئُهُمْ تَنْشِئَةً.....- لَمَجْدُرَةٌ لأنْ يَلْقَى من الاحترام والتقدير، والحبّ والتكريم، والعناية والتعظيم: مانلفيه قائماً في أشعار الجاهليّين التي المعلّقاتُ السبعُ يجب أن تكون أجملّها وأروعَها.
وكأنّنا نفترض أن هناك حلقةً مفقودةً من هذا الشعر، وطَرفاً ضائعاً من هذا الأدب، وأنّ الرواة لم يكادوا يحفظون لنا منه إلاّ ماكان وَصْفَاً لجسد المرأة وعلاقتها بالرجل، أو علاقة الرجل بها: وزهدوا ، أو كادوا يزهدون، في كل، أو بعض، ماكان وصْفاً لروحها، وتسجيلاً، ولو على هون ما، لمكانتها الاجتماعيّة، وحياتها اليوميّة: على الوجه الأعمّ، والنحو الأشمل.
******
ثانياً: هل نساء المعلّقات رمزّيات؟
لقد ذهب كثير ممّن يحلو لهم أن يؤوّلوا الأشياء على غير ظاهرها، ويفسّروا الأمور على غير منطوقها، كما يقول علماء الأصول، إلى رمزّية المرأة في كثير من مواطن ذِكْرِها في أشعار الجاهليّين، وأنّها واردة بالمعنى الذي ذكرت عليه بظاهر اللّفظ، وفي صريح النسجْ. ومن ذلك ماذهب إليه أُستاذُنا الدكتور نجيب البهبيتي حول هذا الأمر الذي لا يمكن تقبُّلُه، بدون مناقشة ولا مُقادَحَة. فقد كان الشيخ ذهب إلى أنّ كلَّ امرأةٍ كان ذِكْرُها رمزاً حيث إنّ هذه المرأة، في كلّ مواردها من الشعر الجاهليّ، كانت رمزاً لقيمة؛ وأنّ الأسماء المُطْلَقة على النساء هي أسماء تقليديّة، تجري عند الشعراء دون وقوع على صاحباتها"(15).
فيما ذهب إليه الشيخُ قد يصدق على هذه المرأة، أو على هؤلاء النساء إن شئت، في الطلليّات، أو في مطالع القصائد العيون، لكنّه لا يجوز، في تمثّلنا نحن على الأقل، أن يصدق عليها في أصلابِ الطِّوالِ، والمعلّقات السبع، وخصوصاً لدى عنترة وامرئ القيس. بل ربما لدى عامة المعلّقاتيّين الآخرين أمثال الحارث بن حلّزة (أسماء- ميسون- هند)، وزهير (أمّ أوفى)، ولبيد (نوَار).
ولعلّ المرأة لم تُرْمَّز إلاّ فيما بعد لدى الشعراء الغزِليين، وخصوصاً لدى أهل التصوّف الذين بلوروا رمزّية المرأة، ووظّفوا قيمتها الجماليّة فاغتدَوْا يُطلْقِون اسمَ ليلى على كلَّ موضوع، وعلى كلّ أمل، وعلى كلّ قيمة معنويّة خِيّرة أو نبيلة، وعلى كلّ غاية كانوا يتعلّقون بها من ابن الحرّاق إلى محمّد العيد(16).
وأمّا ماقبل ذلك، فقد كان كلّ شاعر، على الأغلب، يذكر صاحبته التي كان يُحِبُّها باسمها الشخصيّ. وحتّى إذا سلَّمنْا، جَدَلاً، بأنّ هذه الأسماء التي تمتلئ بها الأشعار الجاهليّة بعامّة، والمعلّقات السبع بخاصّة -كما سنرى بعد حين- لم تكُ حقيقيّةً، فهي لم تَرْقَ قَطُّ إلى مستوى الرمز؛ وإنما قد تكون رَقِيَتْ إلى مانطلق عليه نحن "مستوى التَّعْمِيَة" وعلى أنّ القدماء من مؤرّخي الأدب العربيّ - وعلى عنايتهم الشديدة بالشعر الجاهليّ، وعلى إيلاعهم باستيعاب أخبار شعرائه، وخصوصاً في علاقاتهم بالنساء -لم يؤمنوا ، فيما بلغّنا من العلم، قط، إلى أنّ أولئك الشعراء كانوا يتحرّجون في التصريح بأسماء حبيباتهم وعشيقاتهم. بل إنّا ألفينا حكاية "دارة جلجل"، المشكوك في صحّتها لدينا، تُلحُّ على أنّ امرأ القيس كان يتابع العذارى وكان يتعشّق ابنة عمّه عنيزة جهاراً، بل كان يُراكبها على بعيرها، ويقبّلها في خدرها، ويتفرّج على جسدها وهي عارية حين كانت تسبح، وحين أرغمها على أن تخرج من ماء الغدير ليشاهدها عُريانةً: مُقْبِلَةً ومدبرة، فيما يزعم الرواة الأقدمون(17).
فما هذا التناقض المريع بين رواية تذهب إلى الإباحيَّةِ المطلقة في العلاقة مع المرأة الجاهليّة، بتواتر الروايات، واتفاق الحكايات، وبيْن رأي يذهب إلى اتّخّاذ هذه المرأة مجرّدَ رمز وقيمة؟ إنّنا إذن نستبعدُ ورودَ أسماءِ النساءِ الجاهليّات في الشعر، في الشعر على ذلك العهد، مَوْرِداً رمزيّاً في ذلك المجتمع الذي لم يكن يكاد يعرف شيئاً كثيراً أو قليلاً من الروحيات، والمعنويّات، ومن باب أولى: الرمزّيات: فكلّ العالم يعرف أنّ عبلة هي ابنة عمّ عنترة.
وكلّ العَالَم يعرف أيضاً أنّ عنيزة هي ابنة عمّ امرئِ القيس بالرواية المتواترة، والأخبار المتطابقة ولا يقال إلاّ نحو ذلك في نساء المعلّقاتيّين الآخرين.
ففيم تَمْثُلُ، إذن، هذه الرمزيّة؟ وهلا وقفناها على البكاء على الديار؟ وهلا قصرناها على الوصف العامّ لامرأة حبيبة بدونِ ذِكْرِ لاسمها، ولا وَصْفٍ لجَسَدِها، واسترحْنا فأرَحْنَا؟ أمَّا أن نعمّم الترميز، فنجعلَ من الأسماء المختلفة الكثيرة لأُوْلاءِ النساء مجرّد رموز لقيم ومبادئ وآمال؛ فإنما لا نحسب ذلك يجسّد حقيقة، ولا نراه يمثّل تقريراً لوجه من التاريخ الصحيح، والخبر الصريح.
فامرؤ القيس بن حجر حين يقول:
* قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ*
فذلك، غالباً، لم يكن يعني حبيبةً بعينها، ولا امرأةً بذاتها، بمقدار ما كان يكرّس، مطلعَ قصيدته، تقليداً شعريّاً كان كرّسه، قبله، آخرون منهم امرؤ القيس بن حارثة بن الحمام بن معاوية(18).
وأمّا حين يقول، مثلاً:
ويوم دخلت الخِدْرَ: خِدْرَ عُنَيْزَةٍ

فقالت: لك الويلاتُ، إنكّ مُرْجِلِي


فذلك لا يعني، غالِباً ، إلاّ امرأة بعينها، امرأةً عاش معها الشاعر وأحبَّها، فأراد أن يتمتّع بها، كما كان يتمتّع بسَوائِها غَيْرَ مُعْجَلٍ ولا خائِفٍ، فيما يزعم:
* تمتّعت من لهوٍ بها غَيْرِ مُعْجِلِ*
ولم تكُ هذه المرأة، فيما أجمع عليه مؤرّخو الأدب العربيّ القديم، إلاّ عنيزَةَ نَفْسَها.(19).
أم هل كان هذا التمتّعُ تسابِيحَ روحيَّةً، وابتهالاتٍ ملائكيَّةً، نَسَجَهَا الشاعر نَسْجَاً؟ أم هل كان مجرّد عيش وهميٍّ يأتيه مع طَيْفها المُتأَوِبِ، وحُضورها المُحوِّمِ، من نفسه؟ أم كان ذلك اللهوُ مجرّد صورة رمزّية لعلاقة رجل مع امرأة لم تتمّ قطّ.؟ إنّا لا نلفي أيّ أَثَرٍ لهذه الرمزيّة في مثل هذه الأبيات التي استشهدْنا ببعضها، بمقدار ما نلفي فيها حضوراً واقعيّاً لهؤلاء النساء، مثل الوجود الواقعيّ لأولئك الشعراء أنفسهم. وإلآّ فإنّ بالغنا في الذهاب إلى أقصى الحدود في استعمال التأويل؛ فإننا سنْخُرج من حدود التأويل الممكنة، والمشروعة أدبيّاً، ونتولّج في حدود التأويل غير الممكنة، أي أنّنا سنمُرقُ من مستوى تأويل النّصّ، إلى مستوى استعمال النص فنقوِّلُه مالا يقول، ونُحَمِّلُه، مالا يحتمل؛ ونسلكه في مسالك الشَّطَطِ، وندرجه في مدارج التعسُّف، بحيث سنؤَوِّلُ، في هذه الحال، كلّ شيءٍ على غير ماهو عليه، أو على غير ما يجب أن يكون عليه؛ فيُمسي، أو يوشك أن يُمْسِي، كلُّ شيءٍ رمزيّاً، أو قل إن شئت إلاّ شيئاً من الدّقة في التعبير: يُمسي كلُّ شيء وهميَّاً في حياة الجاهليّة التي ماكان أبعَدَها عن الروحيّات والرمزّيات، بمقدار ماكان أقْرَبَها، بل ألصقها بالمادِّيَّاتِ والواقعيّات.
إننّا نعتقد، إذن، أنّ الأسماء: أسماء النساء التي وردت في المعلّقات لم ترد بمعاني الرمز ولكنها وردت بمعاني الحقيقة والواقع.
ثالثاً: ماذا عن حقيقيّة المرأة الجاهليّة
في المعلّقات؟
إذا قلنا، معجميّاً ودلاليّاً معاً: حقيقيّة المرأة، فكأنّما قلنا: عدم رمزيّتها: إمّا على وجه الإطلاق، وإمّا على سبيل النسبيّة، وكان سبق لنا في المحور الثاني، من هذه المقالة، أن زعمنا أنّنا لا ننكر، جملة وتفصيلاً، رمزيّة المرأة في الشعر الجاهلي، ولكننا لا نجاوز بها مواطنَ منه معيّنةً لا تعدْوها، ومنها -وربما أهمّها- مايذكر في الطلليّات والمطلعيّات، وما قد تدلّ عليه ظواهرُ الأحوال. وكانت حجَّتُنا، في ذلك، أنّ المؤرخيّن أجمعوا على مادّيّة العصر الجاهليّ، وواقعيّة كثير من المظاهر العامّة فيه، بناء على النصوص الشعريّة التي بلغتْنا منه، ورُوِيَتْ لنا عنه: أكثر ممّا ذهبوا إلى روحيّته ومثاليّته. يضاف إلى ذلك أنّ عامّة المؤرّخين يزعمون أنّ المرأة لم تكن لها مكانة شريفة، في كلّ الأطوار، على عهد الجاهلية، وأن الإسلام وحده هو الذي أنصفها فحقّق لها مالم يكن لديها...
ونحن مع إقرارنا واقتناعنا بما أعطى الإسلامُ المرأةَ، وبما حقّق لها من كرامة، وبما حفظ لها من ماء الوجه فاغتدتْ شقيقة الرجل (20)، بل لم يزل يكرّم المرأة الأمّ إلى أن جعل الجنة تحت أقدامها: فإنّا كنّا زعمنا، في الوقت ذاته، أنّ مكانة المرأة، على عهد الجاهليّة، لم تكن من السوء والبؤس، والمهانة والذّلّ، بحيث كانت كلّها شقاء مطلقاً.
وقد قنن الاسلام العلاقةَ بين الرجل والمرأة، واجْتَعَلَ لها حدوداً صارمةً -من خلال آيات قرآنيّة كثيرة- لا تعدوها، ومن خلال أحاديث نبويّة جمّة، وخصوصاً ماجاء في خطبة حجّة الوداع... ذلك بأنّ المرأة كانت تتدلّل على الرجل أكثر ممّا نتصوّر من سطحيّة المواقف واستعجاليّة الرأي، فمن ذلكم أنّ الرجل هو الذي كان يُرْكِبُ حليلَتَه لدى الإزماع على التَّظعان، حتى قالت إحدى النساء العربيّات إدْلالاً بنفسها، ووثوقاً من منزلتها لدى بعلها: "احْمِلْ حِرَكَ أَوْ دَعْ"!.(21).
وقد علق ابن منظور على هذه القولة التي صارت مَثَلاً، بأنّ ذلك لم يكُ منها إلاّ إدلالاً، وحثّ بعلها "على حَمْلِهَا" ولو شاءت لرَكِبَتْْ"(25).
ومن الواضح أنّ لهذا المثل العربيّ القديم دلالةً حضاريّة واجتماعيّة وعاطفيّة ذاتَ بال، وأنّه يدلّ على المنزلة المكينة التي كانت للمرأة في المجتمع الجاهليّ، فعدم ركوب المرأة، بدون مساعدة الرجل لم يكن عن عجز منها عن الركوب، بمقدار ما كان إدلالاً منها، وتغنُّجاً على بعلها، ولقد يُشْبِهُ هذا السلوكُ المتحضِّرُ مانراهُ، على عهدنا هذا، في الأشرطة السينمائيّة لدى الغربيّين، وذلك حين يفتح الرجل باب السيّارة للسيّدة -لدى الصعود والنزول- مع أنها قادرة على فتحه بنفسها، وبدون عناء، ولكنّ الرجل يأتي ذلك لباقةً وتلطّفاً، وترى المرأة تتثاقل لدى الاقتراب من السيّارة حتى يسارع هو إلى فتح الباب لها.
وعلى الرغم من اختلاف الأحوال، وتبدّل الأطوار؛ فإنّ النيّة في الحالين الاثنتين واحدة: رجل يعيش على عهد الجاهليّة يُركِبُ حليلته على البعير وهي على ذلك قادرة، ولكنها لا تفعل تدلُّلاً، ورجلٌ يعيش في نهاية القرن العشرين يستبق حليلته، أو خدينَتَه، بابَ السيّارة فيفتحه لها لكي تمتطِيَها، وهي على فتحه قادرة، لكنها تتثاقل وتتباطأ غَنَجَاً. فالنيّة هِيَ، في الحالينْ والعهدينْ، ولكنّ المظهر الحضاري هو الذي تغيّر فاستحال من البعير إلى السيّارة.
ويعني ذلك، كما نرى من خلال تحليل مضمون هذا المثل الجاهلي، أنّ الرجل العربيّ سبق الرجل الغربيّ، بقرون طِوالٍ، إلى هذا السلوك المتحضّر.
كما أنّ قول امرئ القيس:
وما ذرفتْ عيناكِ إلاّ لتضرِبي

بسهَميْكِ في أعشارِ قلبٍ مُقتَّلِ


برهانٌ ساطع على رقة قلب الرجل العربيّ، وَرَهَافَةِ كِبدِه، ولطافة إحساسه، إزاء المرأة: هذا الكائِن اللطيفِ المُدَمِّرِ معاً. كما يدلّ على بعض ذلك، أيضاً، هذا الفيض الفائض، والوَفْرُ الطافِحُ، من جميل الأشعار التي قيلت وَصْفَاً للمرأة، وتشريحاً لأعضاء جسدها، وتمجيداً لعينيها وثدييها وساقيها وجِيدِها وشعَرِها وثَغْرها وابتسامتها وصوتها ومِشْيَتَهِا التي تترَهْيَأُ فيها...
إنّ التغني بجمالِ نساءٍ معيّنات، في جملة من المعلّقات، لدليل قاطع على أنّ هؤلاء الشعراء كانوا يحبّون، حقاً، نساء بأعيانهنّ، ولم يكن ذلك مجرّد رمز من الرموز، ولا مجرّد قيمة من القيم الفنّيّة، أو الجماليّة. فقد كَلِفَ امرؤ القيس بذِكْرِ جملة من أسماء النساء كما ذكر نساءً أخرياتٍ في صور عامّة مثل:
* وبيضةِ خِدْرٍ لا يُرامُ خِباؤُها

تمتّعْتُ، من لهوٍ، بها : غيرَ مُعْجِلِ


* عَذارَى دَوَارٍ في مُلاءٍ مُذَيَّلِ
* فظلّ العذارَى يرْتمِينَ بِلَحْمِها
* ويوم عقرتُ للِعَذارَى مَطيَّتِي
ونلاحظ أن امرأ القيس قد يكون سَيِّدَ المُعَلَّقَاتِيّينَ: لا في وصف المرأة، وصفاً جسدياً، فحسب، فذلك أمر لا ينازع فيه أحدٌ، ولكنْ في تقديره المرأةَ، واحترامه إيّاها في مواقف معيّنة- وذلك على الرغم من أنّه كان أميراً سَرِيَّاً، وفارساً كِمِيَّاً؛ ومن ذلك قولُه، وقد كانت الإيماءة سبقت إليه:
وماذرفت عيناكِ إلا لتَضْرِبي

بِسَهمَيْكِ في أعشارِ قلبٍ مُقتّل


فامرؤ القيس في هذا البيت وفيّ، ومقدّرِ لجمال هذه المرأة وسِحْرها إيّاه، وتعذيبها لقلبه الوامق، ولو كان امرؤ القيس زانياً، كما تصوّره بعض الأخبار المدسوسة(23): لمَا وصفَ حبّه هذه المرأةَ وأبدى تأجّج عاطفتِهِ نحوَها بهذا التقدير الذي جعله يتهالك على حبّها، ويتدلَّه بجَمالها، ويتعذّب بسْحِرْها، فإذا بكاؤُها يُدْلّهُهُ؛ وإذا دموعُها تفطِّرُ كَبدَه، وتكلمُ قلبَه.
ومن ذلك أيضاً قولُه في بعض وصف يوم دارة جُلْجُل العجيبِ، لو كانت حكايته ممّا يَصِحُّ لدينا:
* فظلّ العذارَى يرْتمِينَ بِلَحْمِها
بينما نلفي طرفة بن العبد يعبّر عمّا يشبه هذا المشهد، وهذا المعنى، بقوله:
* فَظلَّ الإماءُ يَمْتَلِلْنَ حُوارَها.
ولا سِواءٌ شاعِرٌ يذكر عذارَى، وشاعرٌ آخر يذكر إماءٌ. فالإماء مظِّنَةٌ للخدمة والامتهان، والعذارى مظنّة للعزّة والدّلال. فحِسُّ امرئِ القيس، هنا، الشعريُّ أرَقُّ، وذوقُهُ أرقى، وموقفه من المرأة أكرم. فكأنّه أراد باصطناعه لفظ "العذارى" أن يُلغي الفوارق الطبّقية بين امرأة وامرأة، فكلُّ عذراء، لدى نهاية الأمر، تمتلك خصائص العذراء، بصرف النظر عن طبقتها الاجتماعية التي كُتِبَ عليها أن تُجْتَعَل فيها. فَمَعَ مانعلم من رواية الفرزدق عن جدّة، وهي الرواية التي تذهب إلى أنّ الإماء هنّ اللواتي جمعن الحطب "فأجّجن ناراً عظيمة"(24).
إلاّ أنّ هذا الشاعر المرهَفَ الإحساسِ، الشاعرَ الإنسانَ؛ كأنَّه تَأَبَّى أن يصف أولئك الفتياتِ الجميلاتِ بالإماء، فِعْلَ طرفةَ بخَدينَاتِهِ؛ فينال من كرامتهن وجمالهنّ: ووَصْفَهُنَّ، تكريماً لهنّ، بالعذارى، كما وَصَفَ نساءَ صَنَمِ دوارٍ بالعذارى أيضاً:
* عذارى دوارٍ في مُلاءٍ مُذيّل.
إننا لنحسب ذلك التّطوافَ من حول صنم دوار كان عامّاً في النساء والرجال؛ وكان عامّاً في العذارى والمتزوّجات -أو الثيبّات-، ولكن لمّا كان لقب العذراء أكرم للمرأة (بدليل قوله تعالى لدى وصْف نساء الجنّة: (لم يَطْمَثُهنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ ولا جَانٌ)(25)؛ فإنّه وصف أولئك النساءَ بهذ العُذريّة إِغراقاً في التصوير الجمالِيّ لهنّ. فقد كان يمكنه أن يقول مثلاً:
* نساء دَوارٍ...
لكنه لو قال ذلك لكان أَذْهَبَ عن هذه الصورة الشعريّة البديعة (التي هي صورة تنهض على حركة كأنها دائريّة حيّة، مصطحبة بأجسام جميلة لطيفة، تجرّر أذيالّها حول بناية تجسّد معتقداً وثنياً... فهي صورة تمثّل شيئاً من جمال الحركة؛ وذلك على الرغم من أنّنا الآن ننظر إليها على أنها تجسّد مجرّد معتقدٍ باطل....). أطرافاً من جماليّتها. بل لاغتدتْ مجرّد صورةٍ لكائنات حيّة تتحرّك، ليس إلاّ. ولقد يسْتَميزُ لفظُ عذارى عن لفظ نساء، كما يستميز وصف مذيّل عن لفظ مُلاء، إذ لو قال: "في مُلاء" وسكت عن صفة هذه المُلاء، لما كان لذلك شيء من الوقْع الشعريّ، ولا مِنْ بَدَاعَتِه، ولا من مائه، ولا من نضارَتَهِ، ولا مِنْ توهُّجه وعُنفُوانه، لكنه لمّا وَصَفِ المُلاء بطول الذْيْل دَلَّ على كرمِ هؤلاءِ العذارى، وعزّتهن لدى قومهنْ، وَسعَةِ أيديهنّ في أُسَرِهِنّ؛ بحيث لا ترتدي المُلاءَة المُذيَّلة -أي الطويلة المتجرْجرة- إلاّ من كانت موسَرِةً مُقْتَدّرَةً على الإنفاق والمُغالاة في التماس أَجْوَدِ الأثواب وأرقِّها نَسْجَاً، وأَدَقّها صُنْعاً، وأبدعها نقشاً.
إنّ أسماءً كثيرةً تصادفنا في المعلّقات ممّا يطلق على النساء مثل: فاطمة، وعنيزة، وعبلة، ونوار، وهند، وأسماء ، وميسون، وخولة، بالإضافة إلى الأمّهات: أمّ الحويرث، وأمّ الرباب، وأمّ الهيثم، وأمّ أوفى.
ولا نحسب أنّ اختلافَ هؤلاء النساءِ يدلّ على رمزيّتهنّ؛ بمقدار مايدلّ على حقيقتهنّ. وأنّ مايذهب إليه أستاذنا البهبيتي، لدى حديثه عن الحارث بن حلّزة من أن ظاهر الشعر يقتضي "أنّ الحارث يَنْسِبُ بأسماءَ وبهندٍ، وحقيقة الأمر ليست كذلك. وإنّما أسماءُ هذه شخصيّة خياليّة تذكر أيضاً في قصة حبّ المرّقش الأكبر البكريّ الذي خرج على ملوك المناذرة"(26) لا يعدو كونه تحمّساً لفكرة كان الشيخ رَسَمَها في نفسه للعصر الجاهليّ؛ ثم راح يَنْضَحُ عنها بكلّ ما أُوْتِيَ من قوّة عقليّة، وكفاءة فكريّة، وإلاّ فإنّ مايُعَدُّ لديه "حقيقة أمر" لا ينبغي أن يجاوز كونَه وجهةَ نظرٍ، ومن ذا الذي يستطيع أن يكتب عن الشعر الجاهليّ (ويتناول المرأة من خلال هذا الشعر)؛ وذلك بعد أن مضى عليه قريبٌ من ستّةَ عشرَ قرناً: ثمّ يتحدّث، بثقة عجيبة، عن هذه الحقيقة؟ بل لا يزال كذلك حتّى يتعصَّبَ لها، ويدافِعَ عنها، على أساس أنّها عين التاريخ!....
ولِمَ تكونُ أسماءُ الحارثِ بن حلّزة مجرّدَ امرأةٍ خياليّة من حيث لم يكن هذا الحارث إلاّ شاعراً كجَميع شعراء البشر، عبر خمسة وعشرين قرناً من التاريخ الإنسانيّ المسجّل بشيء من الانتظام، يحبّ ويعشق، ويصوّر في شعره مَنْ يحبّ، ويصف مَنْ يَعْشَقُ؟ ولِمَ نَسْعَى إلى حرمان شاعر من أوّل مادّة يقوم عليها شعرُه، وهو الحبّ؟ فليس هناك شاعر حقّ على الأرض لا يحبّ. وإذن فكلّ مَن لا يحبّ لا يكون شاعراً، وماينبغي له. وإذن، ليس هناك شعر حقّ على الأرض لا يتحدّث عن الحبُ، ولا يصف المرأة، ولا يتغزّل بالحبيبة، ولا يتغنّى بجمالها.... فما لِهذا الحارث إذن يكون بِدْعاً من الشعراء قاطبة: من قدم منهم ومن حدث؟
ثمّ إنّا لا ندري كيف يذهب شيْخُنا المذَاِهَبَ الصارِمَةَ في مناقضة طه حسين، ومعارضته في موقفه المتعسّف من العصر الجاهليّ: شعرائِهِ وشعرِه، ثم يأتي إلى أسماءَ بنت عوف بن مالك بن ضبيعة بنت قيس بن ثعلبة (27) فهي إذن شخصيّة تاريخيّة، وهي التي كان يتغزّل بها المرقّش الأكبر (وهو ربيعة بن سعد بن مالك، ومن الناس من يقول: أنه عمرو، وليس ربيعة)(28). فيحرمها من وُجودها التاريخيّ الذي اتّفق عليه جميع القدماء، باسْمِ وُثوقِه بمعرفةِ الحقيقة؟ أنه ينشأُ عن هذا الموقف المنكِر لوجود الأَسْمَاءَيْنِ الاثْنَتَيْنِ: أسماءِ الحارثِ بْنِ حلزةَ، وأسماء المُرقَّش الأكبرِ رَفْضُ الفاطمتَيْنِ الاثنتَيْنِ أيضاً: فاطمةِ امرئِ القيسِ، وفاطمةِ المرّقشِ الأصغرِ (29).
ولا يزال الشيخ، رحمه الله، يتعسّف في إنكار هذه الأسماء النسويّة، الجاهليّة، التي لا نرى لإنكار تاريخيّتها أيّ مبرّرٍ مقبولٍ إلى أن يذهب إلى إنكار هندِ الحارثِ بْنِ حلزةَ أيضاً، وأنّ اسم هند "يكاد يقع في شعر كلّ شاعر اتّجه إلى ملوك المناذرة بمدح أو ذم"(30).
ونحن نعجب من شيخنا كيف يتناقض مع نفسه في موقف واحد: فبعد أن كان قررّ في الأسطار السابقة، من الصفحة نفسها، من الكتاب نفسه: أنّ أسماءَ شخصيةٌ أسطوريّة، أو خياليّة بتعبيره، نلفيه يعمّم ذلك على هندٍ أيضاً فيزعم أنّها كانت مجرّد اسم تتحلّى بذكره الشعراء على بسيل الاِزدلاف إلى المناذرة كلّما يمّمتْهم مادِحَةً، أو كلّما زايلتْهم قادِحَةً.... وماقول شيخنا في ميسون التي تغنّى بذكرها الحارثِ بْنِ حلّزةَ؟ أهي أيضاً مجرّد شخصيّة خياليّة، وامرأة رمزيّة لا صلة لها بالواقع، ولا صلة للواقع بها؟
ولِمَ ألفينا هندَ ابنةَ عُتبة يبرُزُ دورُها، ويعظُمُ شأنُها، في المجتمع المكِّيِّ حتى يمكن أن نلقبّها سيدة نساء قريش على عهد الجاهليّة؟ ومابال هند أمّ عمرو -ملك الحيرة- حتى بلغت منزلة من السؤدد، وتبوّأتْ مكانةً من العِزّ: قوّة شخصيّة، وعلوّ قدر، ورفعة نفْس: حتّى أمكن نسج حكاية أَنَفَة خدمة ليلى، أمّ عمرو بن كلثوم -وبنت مهلهل بن ربيعة- ومن حولها، وأنّ ليلى هذه هي الوحيدة، من بين نساء العرب، التي كان يمكن أن تأْنَفَ من خدمتها؟ (ونلاحظ ذلك أنّ عمرو بن هند تَسَمَّىَ، على غيرِ ديدَنِ العرب في الانِتساب، باسم أمِّه، وألحق لقبه بها: تكريماً لها، وتشريفاً لمنزلتها). ثم مابالُ هندٍ بنتِ الخُسّ التي كانت من أعقل النساء العربيَّاتِ في الجاهليّة، وأَعزِّهنَّ...؟ ثمّ مابال الهُنُودِ الأخرياتِ اللواتي لا يأتي عليهنّ العّدُّ... ؟ فهل كنّ جميعاً ذوات صلةٍ، أو كان الرجال الذينَ كان لهم بهنّ صلةٌ ما، بالمَناذرة؟... ثمّ، لم ألفيْنا الزبَّاءَ تحكمُ، وبلقيساً تَمْلِكُ، وتُماضرُ تُبْدِعُ، وَسَلّمَّنا بذلك تسلِيماً، وأقررنا به إقراراً؟ ثمّ لِمَ ألفينا هؤلاء النساء جميعاً مذكوراتٍ في التاريخ المضطرَبِ في الشعرُ الجاهليّ فلَمْ ننُكر أسماءَهن، ولا فكّرنا في رفض تاريخيّتِهِنّ، ولا شكَّكْنَا في وجودهنّ: حتّى إذا صادفنا شاعراً من شعراء المعلّقات، أو من شعراء الجاهليّة بعامّة، يتغزّل بامرأة تُسَمَّى هِنْدَاً، أو أسماءَ أو فاطمةَ، أقمْنا القيامة، وأقعدنا الدنيا، وأقلقْنا الكون؛ من أجل أن نزعم للناس أنّ هنداً هذه لا تعدو كونَها أسطورةً في أساطير الأوّلين ‍!؟...
إنّ الرأي لدينا يقوم على الاِعتدال، فمَنْ ذَكَرَ الشعراءُ من النساء في المطالع، أو الطلليّات، قد ربّما يكون مجرّدَ رمزٍ، أو مجرّد تقليدٍ شعريّ. وقد يكون هذا المذهب، لدينا، أدنى إلى الوَجاهة والسَّداد، أمَّا النساء اللائي ذُكِرِتْ بأسْمائِهَا، والتي ذكرْنا طائفةً منها، في صلب المعلّقات، وتحت أَسْيَقَةٍ تاريخيَّةٍ لا يُنكِرها أحدٌ من العقلاء، فأَوْلئكَ نِساءٌ حقيقيَّاتُ الوجودِ، تاريخيَّاتُ الشخصيَّاتُ، في أغلب الظنّ. وليس لنا في ذلك من حُجّة سِوَى أنّ الأدب الإنسانيّ منذ كان، وعبر قريب من خمسة وعشرين قرناً من تاريخه؛ أي منذ عهد هوميروس إلى أحمد شوقي: كان الغزل من موضوعاته الكبرى، والتغنّي بجمال المرأة من تقاليده المُثلى.
وإلاّ فكيف نَقْبَلُ بأن يكون لعُمَرَ بْنِ أبي ربيعة -وكان يعيش في أول عهد الإسلام- أي لم يكن بعيداً عن عهد الجاهليّة من الوجهة الزمنيّة الخالصة -فاطمةُ، ونُعْمٌ ، وغيرهما، نِساءٌ في حياته، ومغامراته غراميّة في تاريخه، على نحو أو على آخر.... نسلّم بكلّ ذلك حتى إذا أُبْنا الْقَهْقَرَى إلى أقّلَّ من قرنٍ في عهد الجاهليّة خُضنا الباطِل خَوْضَاً: فأثبتنا مالا يُثْبَتْ، وأنكرنا مالا يُنكر؟ إنّا لا نكاد نقول عن عصر عمر بن أبي ربيعة إلاّ ما ألفيناه مدّونَّاً في كتب تاريخ الأدب؛ لكننا إن عُدنا إلى عصر امرئ القيس، وعنترة، والحارث بن حلّزة.... أوّلنا الأشياء على سَواءِ ظاهِرها، وذهبْنا في ذلك المذاهِبَ الغريَبَةَ، واضطربنا المضطرَبَاتِ العجَيبة، وزعمنا للناس أنّ أولئك الشعراءَ كانوا يصطنعون الرمز، قبل أن يغتدِيَ هذا الرمز تقليداً أدبيّاً يعترف به النقد، ويرتاح إليه العِلمْ. وإذن، فقد كانوا يعرفون الرمزيّة قبل أوّانها، ويتعاملون معها قبل زمانها؛ فكانوا يقرضون الشعر ضمن تياراتها. وإذن، فلا حرج ولا إثم أن نجعل من مثل الحارث بن حلّزة، على مذهب أستاذنا البهبيتي، مالارْمِي العرب، بل مالاَرْمِي العرَبِ على عهدِ الجاهليّة؛ وأنه كانّ يرمز بالأسماءِ، أسماءِ النساء؛ دون أسماء الرجال، مثلُه مَثُل أصاحِيبهِ من المعلّقّاتيّين.
ذلك هو التعسُّفُ في المذهَب، والتكلُّفُ في الرأْي، والمغالاةُ في التأويل.
وإذا كانت نَوار، وأسماءُ، وهِنْدُ، ومَيْسُون، وفاطِمةُ، وعنيزةُ، وعَبْلَةُ، وَخولةُ، وأمُّ الحويرث، وأمُّ الرباب، وأمّ الهيثم، وأمّ أوفى، ومُرِّيَّةُ لبيدٍ، وابنةُ مالكِ عنترةَ!، وجارَيتُه أيضاً، وبيضَةُ خدرٍ امرئِ القيس، وعذارَى دَوارِهِ، وعذارَى دارةِ جُلْجُلِةِ، وحِسَانُ عمرو بنِ كلثوم، وظَعائِنُ بُنِيَ جُشَمٍ: لَمْ يَكُنَّ إلاّ مجرّد رموز في الرموز، وأساطير في الأساطير: فما القول في أثدائِهِنَّ التي كانت تشبه الأحْقاقَ، وكشوحِهِنَّ التي كانت تشبه الجُدُلُ، وسُوْقِهِنَّ الرَّيَّا التي كانت تشبه البَلْنَطَ أو الرُّخام، وشعورِهِنَ المُسْتَشْزَراتِ إلى العلا، وعطورِهِنَ الشذّية التي كانت تعبق من فُرُشِهِنّ إذا نِمْنَ، وتنتشر من حولهنّ إذا تَرَهْبَأْنَ متكسِّرات في المَشِي...؟
أم كان كُلُّ أولئك مجرّد رموزٍ؟ أم يعني ذلك أنّ بعض الناس يريد أن ينكر وجود المرأة، أصلاً، في الحياة من حيث هي، فيحتال على إنكار دورها في المجتمع، وحضورها في أخْيِلَة الشعراء بتلفيق هذا الشيءِ الذي لم يفكّر فيه شعراء الجاهليّة قطّ، والذي يقال له الرمزيّة؟ أم ماذا يُلاصُ من إنكارِ أسماءِ النساءِ؟ فهل هو إنكار لوجودهنّ، ورَفْضٌ لحضورهن، في المعلّقات؟
******
رابعاً : جماليّةُ المرأة في المعلّقات
ربما سنتولّج إلى معالجة هذه الفقرة من آخر ماكنّا أثرّناه من مُساءلاتٍ في أواخر الفقرة السابقة. وإذا كنّا دَأبنا، في كثير من كتاباتنا الأخيرة، على إيثار عدَم الإجابة عن الأسئلة التي نثيرها، فلأننا نعتقد أنّ طريقَتَنا في إِلْقَائِها تجعل الإجابة عنها كامنةً فيها، أو أنها توحي على الأقلّ، بوجه من الوجوه، بِضَرْبٍ من الإجابة عنها.
وإنما ذهبنا إلى مادِّيَّةِ الوصف النسِويِّ في المعلّقات بخاصّة، وإلى مادّيّة الوصف من حيث هو بعامّة: لأنّنا لا نرى أيّ مُبرّرٍ: لا أخلاقيّ، ولا دينيّ، ولا قانونيّ، ولا نفسيّ، ولا اجتماعيّ، كان يحمل أولئك المعلّقاتيّين على التلميح دون التصريح، وعلى الترميز دون التقرير والتوضيح، ولعلّ الأوصاف الدقيقة التي حاول المعلّقاتيّون توصيفَ المرأةِ بها أن تكون من بين الآيات التي نتخّذ منها ظَهِيراً لنا على إِبعاد رمزيّة المرأة، في المعلّقات،

**د لا ل**
2012-02-16, 22:33
مظاهر اعتقاديّة في المعلّقات
أوّلاً: معتقدات العرب في الجاهليّة

إنّنا نعتقد أنّ المعتقدات، بأنواعها وأشكالها وطقوسها الكثيرة المختلفة، قديمةٌ قِدَمَ الإنسان. ويبدو أنّ مفهوم المعتقداتِ مظهرٌ ذهنيّ عاطفيّ معاً ينشأ لدى الإنسان حين يضعف ويُحِسُّ بالصِّغَر والضَّآلة أمامَ قوى الطبيعة العاتية، وحين يقصُرُ عن تأويل ظواهر القوى الغيبيّة الهائلة التي تَذَرُهُ حيرانَ أمامَ كثيرٍ من المواقف والأحداث التي لا يُلفي لها تَفسيراً مُقْنِعاً، فيذعن لمعتقدات يعتقد أنها تنقذه مِمّا هو فيه، أو تُقَرِّبُه إلى تلك القُوى الغيبية التي يُؤْمِن بها. من أجل ذلك كانت غريزةُ العاطفةِ الدينيّة جبلّةً في سلوك الإنسان ومعتقداته منذ الأزل، ولكنّ طقوسها ومظاهرها هي التي تختلف.
ولعلّ حتّى أولئك الذين لا يؤمنون بالله تعالى، أو لا يوحّدونه، تراهم يَعْمَدونَ إلى الإيمان بمظاهر غيبيّة أخراةٍ فيقدّسونها تقديساً، ويعبدونها من دون الله زُلْفَى، طمَعاً في خيرها، ورغبة في أن ينالَهم شيءٌ من بركاتها، فيما يعتقدون. ولعل، من أجل ذلك كثرت الديانات غيرُ السماويّة، فشاعت عبادةُ الأصنام، وتعدّدت مظاهر الوثنية في شبه الجزيرة العربيّة فإذا كُلّ قبيلةٍ كانت تَتَّخِذُُ لها صَنَمَاً بعينه تَزْدَلفُ منه "وتَعْبُده على سبيل الشرك بالله: إمّا جَهْلاً، وإمّا مُكابرةً وعِناداً(1).
وقد "كان دينُ الحنيفيةِ غالباً على العرب يَدينون به حتى أنشأ عمرو بن قمعة(2) صنم اللاّت، فهم أوّل من غيّر دين إبراهيم وإسماعيل وكفَرَ بتعاليمهما، فهو، إذن، أوّل مَنْ عَبَدَ اللاّت من العرب. وكانت اللاّتُ صخرةً عظيمة فكان ابن لحي يَلُتُّ عليها الطعام (أي يَبُلُّهُ بالماء، ويَخْلِطُهُ بشيء من السمن)، ثمّ يُطعمه قومَه، فسُمِيَتْ تلك الصخرةُ اللاّتَ(3).
ولكن قبل سعْيِ عمرو بن لحي كانت هناك معتقدات عربيّة قديمة تَمْثُلُ في تقديس الشمس والقمر خصوصاً، وقد أومأ القرآن الكريم إلى عبادة أهل اليمن القدماء الشمسَ، وذلك على عهد الملكة بلقيس(4). من أجل ذلك كانوا يسمّون أطفالهم باسم عبد شمس، على سبيل التبّرك والإقرار، ومن ذلك أنّ قَيْلاً من أقيال بني قحطان كان "يسمّى عبد شمس بن يشجب"(5) ويزعم صاحب التيجان أنّ سبأ بن عبد شمس هو الذي بنى سدّ مأرب(6).
وكانت العرب، لتقديسها الشمسَ والقمر، لا تفتأ تقول عن مالها مثل عبارة: "استرعيْتُ مالِيَ القَمَرَ (إذا تركَتْهُ هَمْلاً، لَيْلاً، بلا راعٍ)، واسترعْيتُه الشمسَ"(7) إذا أهملتْه نهاراً).
وقد عبّر عن هذا المعتقد العربيّ القديم طرفة بن العبد، فقال:

وكان لها جارانِ قابوسُ مِنْهُما



وبشرٌ، ولَمْ اسْتَرْعِها الشَمسَ والقَمَر(8).



فكأنّ الشمس والقمر كانا مُوَكّلَيْنِ، في معتقداتِ قدماءِ العرب، بحفظ أموالهم، ورعاية أبنائهم، وكَلْئِهمْ من شَرِّ الشياطين، وحِفْظِهمْ من نَكَباتِ الدهر، وكأنّ اسم القمر مشتقّ، من بعض الوجوه، من التَقَمُّرِّ الدالِّ على قوّة الخِداع والمِحَال، والقدرة على المُباغتة والمُفاجأة. وكأنّ القمر، إِذن، مأخوذٌ من بعض ذلك، وهو تأويل اشتقاقيٌّ استنبطناه من المعاجم العربيّة القديمة(
وقد سرد القرآن شيئاً من تلك الوثنيات التي كانت قائمة في الجاهليّة على تقديس الشمس والقمر، ونهى عن استمرارها، وممارسة طقوسها، كما سبقت الإيماءة إلى ذلك في آَيَتَيِ النمل وفصّلت(10).
كما أنّ هذه المعتقدات كثيراً ما كانت تنشأ عن المبالغة في الأخبار، والتزيُّدِ في الروايات، والتهويل في مشاهد الأسفار، وقد ذكروا أنّ العجم كانت "تكذب فتقول: كان رجل ثُلُثُهُ من نحاس، وثلثه من رصاص، وثلثه من ثَلْج، فتعارضها العرب بهذا وما أشبهه"(11).
ومن ذلكم اعتقادُ العرب في النار، وزعْمها المزاعمَ حَوالَها، فكانت تزعم في أساطيرها قبل ظهور الإسلام: "إنّ الغيلان توقد بالليل النيران، للعَبَثِ والتَحَيُّل، واختلال السابلة"(12).
وقد تحدّثتْ كتب السيرة النبويّة عن نار التحكيم اليمنية التي كانت تحرق الظالم، ولا تضير المظلوم(13). ويبدو أنّ هذه النار العجيبة كانت من نسج أخيلة بني إسرائيل الذين ربطوها بِحَبْريْنِ يهوديَّيْن: فهما اللذان لم تكن النار تُحْرقهما، وهما اللذان كانا يَحْكُمان بتلك النار بين المختصِمين: فهي نار تُحرْق العرب، ولكنها لا تُحْرِقُ اليهود(14).
ومن معتقدات العرب القديمة توهُّمُهُمْ أنّ كُلَّ شيءٍ كان يَعْرِفُ وينطقُ، في الأزمنة الموغلة في القدم، وأنّ الصخور كانت رطبة، فكانت تؤثِّرُ فيها الأقدامُ إذا وَطِئَتْها، وأنّ الطّلْحَ كان خَضِيداً: لا شوك عليه(15).
وعلى أننا لا نريد أن نذهب، في بحث هذه المسألة اللطيفة، إلى أبعد حُدودها التي، في حقيقة الأمر، خاض الناس فيها خيَاضاً، قَبْلنَا، وإنما آثْرْنا الكلامَ حَوَالَها من باب التمهيد والاستهلال لهذه المقالة. وهي إِشارات تدلّ على أنّ الجوّ الروحيّ، أو النفسيّ، كان مهيّاً، في المجتمع الجاهليّ، لِتُعشّشَ فيه المعتقداتُ، ولتتبوّأ لها مكانة مكينة في نفوس النساء والرجال. من أجل ذلك تعدّدت الديانات، وشاعَت عبادة الأصنام، وكثر التصديق بالأوهام أمثال السَّعالِي، والغيلان، والشِّقّ، والنَّسْنَاس، والرَّئِيّ..(16)، ومثل التصديق بأنّ الجنّ كانت تقرض الشعر وتُبْدِع الأدب الجميل(17).
وقد أردنا، أن نقف هذه المقالة على طائفة من المعتقدات العربيّة القديمة المرتبطة بالطقوس الوثنيّة، والتي أومأت إليها المعلّقات السبعُ: كلُّها أو بعضُها، ونحلّلها تحليلاً انتروبولوجيّا مثل الذّبائح، والعَتَائِر، والتَّمائم، ومسألة تقديس الثَّوْر في المعتقدات الجاهليّة، وطواف العذارَى حول بعض الأصنام مثل طوافهنّ حوال صنم دَوارٍ، وغيرها ممّا له صلة بها كلعبة المسير التي كانت طقوسها العجيبة لا تخلو، هي أيضاً، من مظاهر اعتقاديّة.
ثانياً: الحيوان في المعلّقات
لقد كَلِفَ الشعراء، على عهد الجاهليّة، كلّفاً شديداً بتناوُل البقر والثور ووصفها، ومعالجة الحمار والأتان ونِعْتِهِما.. ولم يَنْبِه النقّادُ القدماءُ، وشارِحُو النصوص، إلى لطف هذه المسألة، وإلى إمكان ربطها بالمعتقدات العربيّة القديمة، وكان علينا أن ننتظر حتّى تتطوّر الدراسات، ويدور الزمن دورة سحيقة، وتتقدّم الأطوار بالمعرفة والعلم، من أجل أن تخصّص دراسات تحاول تأويل مُثِولِ الثور والحمار، في الشعر الجاهليّ، تأويلاً انتربولوجيّا قائماً على ادِّعاء وجود ترسّبات معتقداتية موغلة في القِدَمِ كانت سائدةً، في شبه الجزيرة العربيّة، ثمّ بادت، أو خمدت جَذْوتُها أو كادت.. وهي التي حملت شعراء الجاهليّة بعامة، وشعراء المعلّقات بخاصة، على أن يَعْرِضُوا لها، أو يومئوا إليها في أشعارهم.
وإذا كان النقاد الأقدمون لم يُعْنَوا بهذه المسألة ولم يجاوزوا، أو لم يكادوا يجاوزن، شرحَها على ظاهر النصّ، فإنّ المحدثين -وخصوصاً المعاصرين الحداثيّين -من النقّاد لم يفتأوا يتأوّلون التأويلات، ولم يبرحوا يذهبون في ذلك المذاهب حتّى تعسَّفوا، فعَدَوْا طَوْرْ المعقول.
ولعلّ ما يذهب إليه الدكتور عليّ البطل من أنّ صورة الحيوان في الشعر الجاهليّ “تُنْبِئُ بأصول أسطوريّة قديمة كالثور الوحشيّ، وحمار الوحش، والظليم، والناقة، والحِصان، وهي من المعبودات الأساسيّة القديمة"(18) يندرج ضمن هذا المنظور.
وقد رأينا من خلال ما ذهب إليه الدكتور البطل أنّ كلّ حيوانٍ كان مقدّساً لدى أهل الجاهليّة: ابتداءً من الثور الوحشيّ، إلى الظليم، والناقة، والحصان. وهو مذهب من الصعوبة الموافقةُ عليه، لأنّنا لا نحسبه يستند إلى نصوص موثوقة، ولا إلى منطق مقبول، إذ لو أنّ العرب كانوا يعبدون هذه الحيوانات كلّها، حقّا، لما اصطادوها، ولما أكلوها، ولامتنعوا عن امتطائها في تَظْعانِهم، ولكانوا عَفُّوا عن تسخيرها في حياتهم الاقتصاديّة والحربيّة:
فالأولى: أنّ الذي يقدِّسُ حيواناً، ويعبده، لا يسمح لنفسه بايذائِه، بَلْهَ قَتْلَهُ واصطيادَه، بله أكْلَهُ والتهامَه. ولم نَعْثُرْ على نصّ من النصوص التاريخيّة، ولا الأدبيّة القديمة، ما يفيد أنّ العرب كانت تمتنع عن أكل لحمان الناقة،

**د لا ل**
2012-02-16, 22:36
القديمة، ما يفيد أنّ العرب كانت تمتنع عن أكل لحمان الناقة، والفرس، والثور الوحشيّ، والنعامة، والعير..
والثانية: أننا لم نعثر على نصّ شعريّ جاهليّ يثبت أنّ العرب كانت تعبد كلّ هذه الحيوانات التي ذَكَرَ طائفةً منها الدكتور البطل. ولا نعتقد أن ما اسْتُكْشِفَ من رسوم، هنا وهناك، يَرْقَى، تاريخيّاً، إلى أن يدُلّ على تقديس العرب إياها، على سبيل القطع واليقين. فقد يرسم المرء ما يحبّ، كما قد يرسم ما لا يحبّ. وتظلّ المسألة، هنا، قائمة على التخمين والظنّ، لا على اليقين والقَطْع.
والثالثة: أنّ ما ذهبَ إليه الدكتور ابراهيم عَبد الرحمن من "أنه لم يحدث ولو مرة واحدة، أن قتل الصائد ثوراً في شعر الجاهليّين القَصَصِيّ، إلاّ في شعر صَدْر الإسلام"(19): لا نتّفق معه عليه، هو أيضاً، لجُنوحِنا إلى الاعْتقادِ بنقْصِ الاستقراءِ قبل إصدار هذا الحكم.
وعلى أنّا لا ندري ماذا كان يعني الدكتور ابراهيم عبد الرحمن بقوله "في شعر الجاهلييّن القصصيّ"، على وجه الدّقّة؟ فهل كان يريد به إلى الشعر الذي يحكي فيه صاحبُه مغامرةَ صَيدٍ، أو نزهة طَرَدٍ، أم كان يريدُ إلى غير ذلك؟ ونحن ألفينا كثيرا من الأشعار الجاهليّة تتحدّث عن قتل الثور، أو العَيْر، وعن أكله -وهي مندرجة بشكل أو بآخر في مجال القصّ -ومن ذلكم قولُ امرئِ القيس:
فعادَى عِدَاءً بين ثورٍ ونَعْجةٍ

دراكاً، ولم يَنْضَحْ بماءٍ فَيُغْسَلِِ

فظّلُّ طُهاةُُ اللَّحِمْ مِنْ بين مُنْضِجٍ

صَفِيفَ شِوَاءٍ، أو قَديرٍ مُعَجَّلِ


ولعلّ ما يذكره الدكتور إبراهيم عبد الرحمن لم يرد إلاّ في أشعار قليلة منها معلّقة لبيد التي نلفي في بعضها البقرة تنتصر على الصّياد وكلابهِ معاً:
لِتَذُودهُنَّ وأيْقَنَتْ إنْ لَمْ تَذُدْ

أنْ قدْ أحمّ مِنَ الحُتوفِ حِمَامُها

فتقَصَّدَتْ منها كَسَابِ فضُرِجَتْ

بِدَم، وغُودرَ في المَكِرّ سُخامُها


لكنّ هذه البقرة لم تأتِ ذلكَ إلا بعد أن كانت، في الحقيقة، ابْتُلِيَتْ بعدوان الصيّاد وكلابِه على جُؤْذُرها، وبعد أن كانت أيقنت، بعد سبعِ ليالٍ مَضَّتْها تنتظره لعلّه أن يَؤُوبَ إليها، أنَّ ابنَها قد اُصْطِيدَ:
صادَفْنَ مِنْها غِرَّةٌ فأصَبْنَها

إنّ المنايَا لا تَطِشُ سِهامُها


فكأنّ سلوكَ البقرة وغضَبَها كان ضَرْباً من التعبير عن الحُزْن الذي أصابَها بعد أن فَقَدَتْ جُؤذَرَها.
وعلى أنّ المعركَةَ الضارَيَة التي تَحْدُثُ بين الصّيّادِ وبقرةِ الوَحْشِ، في معلّقة لبيد، لا تدلّ على أنّ هذه البقرة كانت مقدّسةً معبودةً لديهم على نحو صريح، بمقدار ما نلفي تصويراً دقيقاً وأميناً لها، قائماً على المُعايشة والمُخالطة والمُعاينة والمُمارسة، نابِعاً من التجربة والمُشاهدة: لِمَا كانَ الصَّيّادُ يكابده لدى اصطياده بَقَرَةً أو ثَوْراً. ولعلَّ مثل ذلك هو الذي حمل امرَأَ القيس على أن يفتخر بفرسه فيجعلَها سابقة إلى درجة خروجها عن مألوف العادة ممّا يعرف الناس من سرعة الخيل، فإذا جوادُه قَيْد الأوابِدِ، ولذلك استطاع أن يعادِيَ بين ثور وبقرة في طلْقٍ واحد دون أن يُلِمَّ عليه العَرَقُ، أو يصيبَه شيء من البُهْر والنَّصَب: فقد استطاع الصيّادُ بفضل هذا الحِصَان السابق أن يجارِيَ ثَوْرَاً ونعْجَةً في وقت واحد، فيتيح لصاحبه أن يقتلهما معاً، ليقدّمهما من بعد ذلك طعاماً شهيّاً لأهلْ الحيّ، فيشوِيَ منهم مَن شاءَ ما يشاء، ويطبخَ منهم مَنْ شاء ما يشاء، مِنْ لحومهما.
ثالثاً: أصناف الحيوانات والطير والحشرات
في المعلّقات
لقد رصدنا من خلال قراءاتنا المعلّقاتِ السبعَ ما لا يقلّ عن ثلاثة وعشرين صِنْفاً من الحيوانات والطير والحشرات مثل الناقة وما في حكمها (البعير -المطيّة الخ)، والأرآم وما في حكمها (الرشأ- الغزال- الظبْي -الخ) والحصان، والنَّعام، والذئب، والثعلب، والبقر، والثور، والأَتان، والعَيْر، والأسارِيع، والمَكاكِيّ، والسباع، والأوْعَال، والحَمام، والحَيّة، والعُقَاب، والذُّباب.. وألفينا امرأ القيس أكثرَهم ذِكْراً لأصنافِها حيث ذكر في معلّقته ما لا يدنو عن أربعةََ عشَرَ صِنْفاً، ثمّ يأتي بعده لبيد وطرفة بذكر تسعةِ أصنافٍ من الحيوانات، ثم عنترة بذكر ثمانية أصْنَافٍ، ثم الحارث بن حلّزة بذكر سبعة، ثمّ زهير بذكر ثلاثةٍ فقط: وهي الناقة، والآرام، والأسَد، ومثله عمرو بن كُلثوم بذكر ثلاثة هي الناقة، والكِلاب، والخيل.
وعلى أنّ كثيراً من هذه الحيوانات وَردَ مكرَّراً، وقد بلغ التكرارُ لدى طرفة إحدى عشرة مرّة على الأقلّ للناقة وما في حكمها، وبلغت درجة التكرار لدى عنترة سبع مرات، ولدى لبيد خمساً، ولدى امرئ القيس وعمرو بن كلثوم أرْبعاً، ولدى زهير ثلاثاً، ولَمْ يقع التكرار لدى الحارث بن حلزّة.
وربما يأتي ذِكْرُ الخيلِ في المرتبة الثانية، ولكنْ بعيداً عن الناقة التي استأثر ذِكْرها بخمس وثلاثين مرة في المعلّقات السبع، حيث لم نُلْفِ ذِكْرَها يعلو إلاّ لدى عنترة وعمرو بن كلثوم بستّ مرّات، ثمّ لدى امرئِ القيس وزهير بزهاء ثلاثِ مرات. ولم يرد ذكر الخيل في معلّقات لبيد، وطرفة، وزهير، إطلاقاً.
ثم يأتي ذِكْرُ الظبي وما في حكمه بتواتُرٍ بلغ سِتَّ عَشْرَةَ مرّةً: أربع مرّات لدى كلٍّ من امرئ القيس، ولبيد، والحارث بن حلزّة وثلاثاً لدى عنترة، ومرّةً واحدةً فقطْ لَدى طرفة.
ثم يأتي ذِكْرُ النّعام بتسع مرّاتٍ: ثلاثِ مرّاتٍ لدى كُلٍ من زُهير، والحارث بن حلّزة، ومرّة واحدة لدى كلّ من امرئِ القيس، وطرفة، ولبيد...
ولعل قائلاً أنْ يقولَ، ولا نحسبه إلاّ مكابراً مُناوئاً: وما بَالُ هذه الإحصاءات(20)؟ وما قيمتها ما دامت تنهض على جَهْدٍ عَضَليٍّ بَحْتٍ، وما دامت، بحكم يدويّتها، لا تستطيع أن تَبْرأَ من بعض الأخطاء لدى القيام بالإحصاء: إمّا زيادةً، وإمّا نقصاً؟ ولَوْلاَ عَدَلنَا عَنْها إلى إجراءٍ آخرَ أجدى نَفْعاً للقارئ والباحث معاً؟
ونحن مع اقتناعنا بأنّ الإحصاء لم يَكُ قطُّ لدينا غايةً في ذاته، ومع تسليمنا بأنّ نتائج الإحصاء لا تكون مسلّمة على سبيل القطع واليقين، فإننا، مع ذلك، نريد أن نُبْهِتَ هذا المعارضَ المُكابر، ونبْكّتَ هذا المُشاكِسَ المُناوِئَ، بأن نلقي عليه أسئلة أخراةً، وهي: بل ماذا كان يمكن أن نأتي، ونحن نتحدّث عن هذه الحيوانات في نصوص المعلّقات لَوْ لَمْ نَعْمدْ إلى هذا الإحصاء؟ وما الوسيلة الإجرائيّة التي كان يمكن بواسطتها أن نهتدِيّ السبيلَ إلى أنّ الناقة، مثلاً، هي التي استأثَرَتْ بالتواتُرِ لدى المعلّقاتيّين، وأنّها الحيوان الوحيد الذي ألفينا ذِكْرَهُ يَرِدُ في جميع المعلّقات؟ وما ضُرّ هذا الإحصاءِ، في هذه الاِستنتاجات، وقد أتاح لنا، كما أسلْفنا الْقَال، أن نعرف الحيوانَ الذي كان مستْبِدّاً، لدى المعلّقاتيّين، بالاهتمام، مستأثراً بالعناية، حاضراً في الأذهان، عالِقاً بالقلوب: وهو البعير الذي كان يُتّخَذَ رَكوبَةً، وطَعَاماً، كما كان يُتخّذُ لِمَنَافِعَ أخراةٍ كثيرةٍ كالاتّئِادِ والإمْهْار؟
وإذا كُنّا لَمْ نُلْفِ حيواناً، كان أكثرَ استبداداً بالحضورِ في نصوص هذه المعلّقات من البعير، فَبِمَا اتّصاله اتّصالاً وثيقاً بحياة أهل الجاهليّة.
والحقُّ أنّ للإبل مكانةً مكينةً في المجتمع العربيّ البدويّ بعامة، والمجتمع الجاهليّ بخاصّة. ولعل من حقّنا، ونحن نحاول التركيز على موضوع الإبل، أن ننصرف بوهمنا إلى دَوْرِها الاقتصادّي في ذلك المجتمع بحيث كانت تُمَثّلُ أساسَ الحياة، بعد الماء، حتّى قالت إحدى بناتِ ذي الإصبع العُدْوانيّ: "الإِبل (...) نأكل لُحمانَها مُزَعاً، ونشْرَبُ ألبْانها جُرَعاً، وتَحْمِلُنا وضَعَفَتَنا مَعاً"(21) فكانت الإبل بالقياس إلى العرب طعاماً يقتاتونَه، وشراباً يتجرَّعونه، ومْركَباً يمتطونه:
1-كانت الإبلُ تُتَّخَذُ غِذَاءً إذْ لَحْمُها مِمّا يُؤكَلُ، في المجتمعات البدوية والصحراوية، إلى يومنا هذا. ويبدو أنّ أهل البادية كانوا يجدون في طَعمه نَكهة خاصّةً كانت تجعلهم يتلذّذون بطعمه تلذُّذاً، وربما كانوا يشوونه كما نفهم ذلك من حكاية امرئ القيس مع النساء يوم دارة جُلْجُل، حيث اقترح الشاعر على العذارى أن يعقر لهنّ ناقتَه، فرحبّن بالفكرة، وتقبّلن الدعوة، فجمع الإماءُ الحطب، وضرَّموا النار فيه، ثمّ أخذوا في شَيِّ لَحِمْ ناقة امرئ القيس:
ويوم عَقْرتُ للِعَذارَى مَطيّتي

فيَا عَجَباً مِنْ كُورِها المُتَحَمُّلِ

فظلَّ العَذارى يَرْتَمينَ بلَحْمِها

وشَحْم كَهُدَّاب الدَمقْس المُفَتَّل(22).


2-كانت الإبل تُتّخَذُ للنقل، وتُصْطَنَعُ في الأسفار، فكان يُرْتَفَقُ بها في مُرْتَفَقاتٍ اجتماعيّة كثيرة، لعلّ أعْرَفَها لدينا:
أ-إنهم كانوا ينقلون عليها بضائعهم في الأسفار التجاريّة (رحْلَتَا الشتاءِ والصيف لدى قريش)، ويحتملون عليها أمتعتهم في الارتحالات العاديّة التي كانت تقع لهم حين كانوا يتحمّلُونَ من حَيٍّ إلى حَيٍّ، ومن مَرْعى إلى مَرْعى، ومن ماء إلى ماء، ومن صُقع إلى صقع آخر.
ب-إنهم كانوا يحتملون على مُتونها نساءَهم في الأسفار التي كانوا يتّخذون هوادج يُركِبون فيها نساءَهم على ظهورهم. ويبدو أنّ هذه الهوادج كانت تتّخذ للحرائر والعقيلات، ولم تَكُ تُتّخَذُ لعامّة النساء، ولطبقة الإماء. وكانت العرب تطلق على الرجل المديدِ القامةِ، الفارِعِها "مُقبّل الظُّعُن"(23).
وشاهُد استعمال الهوادج للنساء واحتمالها فوق المطايا، قولُ امرئ القيس مثلاً:
ويوْم دخَلْتُ الخِدْرَ: خِدْر عُنَيْزَةٍ

فقالَتْ: لكَ الويلاتُ إنّك مُرْجلي

تقول وقد مال الغَبِيطُ بنا مَعاً

عَقَرْتَ بعيري يا اُمْرأ الْقَيْسِ، فأنْزِلِ


3-كان يُنْتَفَعُ بوبرها انتفاعاً لطيفاً بحيث كانوا يرتفقون به في جملة من المرافق لعلّ أهمّها:
أ-كانوا يصطنعونها في نَسْج المَلابس بحيث كان نساؤُهم ينْسُجْنَ وَبَرَها لاتّخاذِها أثواباً يرتدونها. ولا يبرح الناس، إلى يومنا هذا، في جَنوب الجزائر مثلاً، ينسُجون، من هذا الوَبَر، بَرانِسَ. وهِيَ من أغلى الأثوابِ التقليديّة ثمَناً، وأجْملها لباساً عربيّاً، وأبهاها مَرْآةً للرجال، وأجلّها في المجالس والمَآقط.
ونحن وإن كنّا لا نمتلك من المعلومات التاريخيّة ما يتيح لنا أن نحكم بِغَلاءِ سِعْرِ الملابس الوَبريّة قديماً، في المُجتمعِ الجاهليّ، إلاّ أننّا وقياساً على ما نعيشه إلى يومنا هذا في المجتمعات البدَويّة، نعرف أنَّ الوبر هو الأغلى، ثمّ يأتي من بعده الصوف، ثم الشَّعَر.
وإنما كان الوبر أغلى ثمَناً لأنّه أندرُ وجوداً في الأسواق، وأعزّ مادّةً في الإنتاج، على حين أنّ الصوف أكثرُ كثرةً في هذه الأسواق، وأيسر إنتاجاً لدى مُرَبيّ المواشي. أمَّا الشعر فلِرداءة مادّته، وخُشونتها، وعُسْرَ غَزَلِها ونسْجِها، وتساقُطِ أَسْقاطِ الشعَر منها أثناء الغزْل- وقد يتطاير الشعرَ على الطعام إذا كان منه قريباً، وربما صادف الطاعِمُ شيئاً من ذلك في أصل الطعام الذي يطْهوه النساءُ اللواتي لا يتشدّدن في التزام النظافة- فإنَّ زُهْدَ الناسِ فيه كثيرٌ، ورغبتهم عنْه شديدةٌ على الرغم من أنّ هناك مُرتَفَقاتٍ لا تليق إلاّ به، ولا يليق إلاّ لها، ومن ذلكم نسْجُ الخيام التي تُنْسَجُ أيضاً من الصوف والوبر(24)- بيد أنّ نوعيّة الخِيام الشّعَريّة هي الأردأ والأسوأ بالقياس إلى مادّتِيَ الوبر والصوف.
ب-كما كان العرب ينتفعون بالوَبَر في نسْج الأخبية، والبُجُد(25)، خصوصاً. وإنما سُمِّيَ سكّانُ الباديَة أهْلَ الوبر "لأنّ بيوتهم (كانوا) يتّخذونها منه"(26).
فوظيفة الوبر حين تربط بهذه الارتفاقات تبيّن لنا أنّ أهميّتّها الاقتصاديّة والعُمْرانيّة والغذائيّة عظيمةُ الشأن، شريفة المكانة، ذلك بأنّه كان يَقِي الناس حَرّ الشمس وَصَبَارَّة الشتاء، كما كان هذا الوبر زينةً في المجالس، وَجلالاً في المَحافل بحيث يُضْفي شيْئاً من البَهاء والسكينة على مُرتديه. بل كان أيْضاً ضرْباً من الطعام يُضْطَرُّ الناس إلى الاقتيات به أيّام المجاعات. ذلك بأنّ الأعراب البادين المحرومين، كانوا في أيّام المحَن والضُّرِّ، يُضطرّون إلى شَيّ هذا الوبر بعد أن يصبّوا عليه شيئاً من الدَّم ابتغاءَ الاقتياتِ به، وذلك هو العِلْهزُ(27).
4-وْديُ القَتْلى:
كان من دأب العرب إذا وقعتْ حادثةُ قَتْلٍ بين شخص وشخص آخر، من قبيلتين مختلفتين، خارج إطار حرب معلنة، أو عَداوة مبيّتة: أن يحتكموا إلى حكمائهم لِوَدْي القَتيل، والاّ أُخِذَ بثأره دَمَاً. وكانت دِيَةُ القتيل، في حال الاتّدَاءِ، غالباً ما تتوقّف لدى مائةٍ بعيرٍ للقتيل الواحد، أو لافتكاك الأسير الواحد، فإن أسَرَ أسيراً رجلان اثنان، كان لكلّ منهما مائةٌ مِن البُعْران. فإن كان الأسيرُ سيّداً من سَراةِ القوم وأشْرافهم كانت الدِّية أكثرَ من ذلك كما وقع في افتداء معبد بن زُرارة الذي أسَرَه عامِرٌ والطُّفَيْل، ابنا مالك بن جعفر بن كلاب، فلمّا جاءهما لَقِيط ابْنُ زُرارة، أخو معْبَد، ليفتدِيَه منهما بمائَتَيْ بعير استَقَلاّ الدّيَة، وَقَالا: "أنت سيّد الناس" وأخوك معبد سيّد مضر، فلا نقبل فيه إلاّ دِيَةَ مَلكٍ(28)!
وقد نَهَى النبي عليه الصلاة والسلام عن أن يزيد وَدْيُ القتيل عن أكثر من مائة بعيرٍ، وعَدّ ذلك من فعل أهل الجاهليّة(29).
5-مهْرُ النِساء:
وكان الرجل الكريمُ رُبَّما مَهَرَ العقيلةَ العربيّة مائةَ بعيرٍ، بل كان ذلك هو الأغلب، وقد ظَلّ قائماً إلى أن جاء الله بالإسلام(30).
ويبدو أنّ العرب بدأت تستعيض عن الإبل بالدراهم حين شاع التداول بين الناس بالعملة المسكوكة بعد ظهور الإسلام، وبعد تدفّق الثروات، وتكاثر الأرزاق(31).
كما كانت الإبل تمثّل أساسَ الاقتصاد في المجتمع الجاهليّ فكانت هي مصدرَ أموالِهم، ومآل أرزاقهم، فكانوا إمّا أنْ يُرَبّوها فَتُنْتَجَ لهم فَيَبِيعُوا ما يفيض منها عن لُباناتِهم في الأسواق، وإِمَّا أن يُتاجِروا فيها فيتموَّلوا من ذلك أموالاً، ويُحرزوا أرْباحاً، فكان ذلك يحصل لهم، إذن، إمّا بالابتياع، وإمّا بالإنتاج، وإمّا بالاتّداء، وإمّا بالامتهار، وإمّا بالاتِّهاب..
لم يكن البعير سفينةَ الصحراءِ فحسْب، ولكنه كان مصدرَ الحياة والبقاء، ولم يكن أحدٌ يستغني عنه من العرب على ذلك العهد، فالذي كان يُبْدَعُ به في تَظعانِه، من فقراءِ الأعراب ومَحْروميهم، كان ربّما اسْتحْمَلَ السّراة والأكارِمَ من الناس، كما حَدَثَ للأعرابي الذي استحمل الرسولَ عليه السلام قائلاً: "إنّي أُبْدعَ بي فأُحْمِلْنِي"(32) ولعلّ هذا الاهتمام الفائق بالبعير هو الذي أفضى إلى نشوء طائفةٍ من الطقوس والمعتقدات والوثنيّات حَوَالَهُما، فإذا نحن نصادف في هذه الطقوس الفولكلوريّة لُعبةَ الميْسرِ القائمة على نَحْر الإبل، ثم توزيع لُحمانِها على الفقراء والغرباء والضِّيفانِ، كما نصادف معتقدات ووثنيّاتٍ أخراةً تنهض من حولها مثل معتَقَدِيِ البليَّة والعَتيرة وسَوائِهِما. ولنبدأْ في تحليلها بما انتهَيْنا منه.
1-العتيرة:
وردت هذه المُعْتَقَدةُ المرتبطةُ بعادات أهل الجاهليّة، الوثنيّة، في معلّقة الحارث بن حلّزة، لدى قوله:
عَنَتا باطلاً وظُلْماً كما تُعْـ

تُر، عن حَجْرَةِ الربيض(33)، الظّبَاءُ


فقوله:/ كما تُعْتَرُ/ إيماءةٌ إلى طقوس وثنيّة قديمة كانت تُمارَسُ في معتقدات الجاهليّين، وظلّت قائمةً إلى أن جاء الله بالإسلام فأبطلَها. وينصرف معنى "العَتْر"، و"العَتيَرِة" إلى جملة من الطقوس المعتقداتيّة، لعلّ أهمّها:
أ- أنّ العَتْرَ كان عبارة عن "شاةٍ كانوا يذبحونها في رَجَبٍ لآلهتهم"(34) وكانوا يدَمُّونَ رأس صَنَمِهم الذي كانوا يقَرِّبون له عَتْراً، في هذا الشهر المحرّم: بِدَم العتيرة. وكانوا يطلقون على تلك الطقوس الوثنيّة العجيبة "أيّام ترْجيبٍ وتعْتَارٍ"(35).
ب- كانوا يذْبَحون أوّل ما يُنْتَجُ لهم لآلهتهم على سبيل التبرُّك، والتماس الأزدِلاف منها.
ج- وهناك المُعْتقدةُ (التي أومأ إليها الحارث بن حلّزة والتي كانت متمِثّلة في أنّ الرجل منهم "كان يقول في الجاهلية: إن بلغت إبلي مائةً، عَتْرتُ عنها عَتِيرةً، فإذا بلغت مائةً ضَنَّ بالغنم فصادَ ظَبْياً فذبَحه"(36).
وكانوا في كلّ الأطوار، إذا ذبحوا عتائرهم، يَصُبُّونَ دمها على رؤوس الأصنام المقرّب إليها. وكانت طقوس الذّبْحِ تَتِمُّ، فيما يبدو، في كلّ الأطوار، في شهر رجب. ولعلّ من أجل ذلك كانوا يطلقون على هذه المُعْتقَدةِ الوثنيّةِ: الرجبيّة(37).
د- وكان العَتْر بمثابة النَّذْر، في الشؤون العامّة، بحيث كان الرجل، على عهد الجاهليّة، إذا طلب "أمراً: نذَرَ لئِنْ ظَفرَ به ليذْبَحَنّ من غنمه في رجب: كذا وكذا. وهي العتائر أيضاً. فإذا ظفَرَ، فربما ضاقت نفسُه عن ذلك وَضَنَّ بغَنَمِه، وهي الربيض، فيأخذَ عدَدَها ظِباءً فيذبحها في رجب مكان تلك الغنم"(38).
وقد شرح ابن منظور بيت الحارث بن حلّزة الذي نحن بصدد تحليل بعض الطقوس الفولكلوريّة فيه، فذهب إلى أنّ "معناه: أنّ الرجل كان يقول في الجاهليّة: إن بلغت إبلي مائةً عتْرتُ عنها عتيرةً، فإذا بلغت مائةً ضَنَّ بالغنم فصاد ظَبْياً فذبحه. يقول: فهذا الذي تَسَلُونَنا اعتراضٌ وباطلٌ وظُلْمٌ، كما يُعْتَرُ الظَّبْيُ عن ربيض الغنم"(39).
فالعتيرة، إذن ذبيحةٌ كان أهل الجاهليّة يتقرّبون بها لآلهتهم كلّما ألمّ عليهم رجَبٌ في طقوس وثنيّة عجيبة إلى أن جاء الإسلام "فكان على ذلك حتّى نسخ بعد"(40)، وذلك بنهْي النبيّ عليه السلام عن ذلك في الحديث المعروف: "لا فرْعَ ولا عَتِيْرَةَ"(41).
ولقائِل أن يعترض علينا فيقرّر أنّ أمر هذه العتيرة خالصٌ للغنم، ومتحوّل عنها إلى الظِباء، فما بالُ الإبلِ وهي هنا منشودَةٍ للْعَتْر، ولا مطلوبةٍ للنّحر، ونحن نُجيبه مبكّتين إيّاه: إنّ كلّ هذه الطقوس لم تكن إلاّ من أجل أن يبلُغَ تعدادُ إبل الرجل مائة، فلمّا كانت هذه الإبل هي موضوع هذه الطقوس، وهي الغاية التي كانت من أجلها تتّخذ هذه الوسيلة، فقد اقتضى الأمر أن تكون هي مركزَ الاهتمام، ومِحْوَرَ العنايةِ في هذه المقالة التي انزلقنا فيها من العناية بالإبل، والارتفاق بها، والانتفاع من بَيْعِها إلى حُبّها، والحرص على امتلاكها، إلى درجة إيرادِ شأنها ضمن طقوس كَهْنوِتيَّةٍ كانت تُقامُ كُلّ شهرِ رجب من العام.

البنت الجلفاوية
2012-02-16, 23:17
السلام عليكم مشكورة على المجهود ممكن طلب دروس في أي مقياس

midou 01
2012-02-24, 14:54
ما شاء الله

**د لا ل**
2012-02-25, 00:53
يتبع بحول الله ..............

bouagal3001
2012-03-07, 17:58
ساعدوني في البحث عن مفهوم مصطلح الشعرية.......

rima83
2012-03-11, 17:01
jai des information mais je ne sais pas comments vous les passer sur le forum

youcef8804
2012-03-13, 23:39
طلب مساعدة
السلام عليكم لي رجاء من الاخوة الأفاضل أعمل على اعداد مذكرة تخرج بعنوان "فن المقامة عند الهمذاني دراسة أسلوبية المقامة الحلوانية نموذجا" لمن يريد مساعدتي وشكراا

الإبراهيمية
2012-04-07, 16:25
السلام عليكم,,,,
هل لكم أن تخبروني بالمقاييس المدرسة في الأدب العربي,,, ماهي؟,,, عددها؟؟,,, و ماذا يدرس في كل مقياس بشكل عام؟؟,,,,,,,,,
أرجو منكم الرد في أسرع وقت و لا تبخلوا علينا بنصائحكم و توجيهاتكم بارك الله فيكم و في معلوماتكم,,,,,,,,,,

midou 01
2012-04-13, 16:21
المقاييس : النحو والصرف ، الأدب المعاصر ، الأدب الجزائري ، الأدب المغربي والأندلسي ، اللسانيات التطبيقية ، علوم القرآن ، علم الدلالة ، البلاغة ، مدارس نقدية ، الأدب الحديث ، النقد القديم

kais der
2012-04-18, 22:22
الرمز والرمزية في الشعر المعاصر

kais der
2012-04-18, 22:28
السلام عليكم لي رجاء من الاخوة الأفاضل .ابحث عن كتاب الرمز والرمزية في الشعر المعاصر لمحمد فتوح احمد
من فضلكم والله غير راني حاصل

**د لا ل**
2012-04-20, 00:50
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

انا اسفة انقطعت عن النت مدة وساحاول ان اكمل ما بدات به وساحاول ان ابحث لك اخي عن كتاب محمد فتوح احمد

البنت الجلفاوية
2012-04-21, 12:28
المقاييس هي : النحو و الصرف -اللسانيات-البلاغة - المصادر -علوم القرآن - أدب قديم - العروض - النقد القديم - الفرنسية - الانجليزية -الحضارة ع إ
منها محاضرات ومنها أعمال موجهة.................سلام...............

brahimcollo
2012-04-21, 14:33
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته من فضلكم اريد بحث حول ..الدراسات المقارنة عند علماء لالمان .. في مادة علوم اللسان باقصى سرعة من فضلكم وشكرا

kais der
2012-04-22, 22:00
ابحث عن كتاب الرمز والرمزية في الشعرالعصري لمحمد فتوح احمد يوم الخميس اخر اجل لي من فضلكم اخواني الاعزاء

**د لا ل**
2012-04-23, 23:31
ابحث عن كتاب الرمز والرمزية في الشعرالعصري لمحمد فتوح احمد يوم الخميس اخر اجل لي من فضلكم اخواني الاعزاء

السلام عليكم

اخي الكتاب غير موجود كنسخة الكترونية عليك بشراءه او طلبه من دار نشره *دار المعارف *

ابحث في المكتبات الجامعية

راية ترفرف
2012-05-04, 11:48
ادا امكن ساعدوني في اجاد قصيدة لعجرود بشير تحت عنوان البرقية والوطن والكبرياء وبارك الله فيكم

adil40
2012-05-04, 19:11
ساعدوني في البحث بعنوان شعر المولديات
يتكون من مفهوم شعر المولديات ، نشأتها ، خصائصها .
وأيضا قصيدة في المولديات في 10 أبيات مع قائلها
وأيضا الدراسة الأدبية والفنية لهذه القصيدة .
وبارك الله فيكم .

youcef7410
2012-05-14, 07:51
مأجورين على هذا العمل القيم و الذي يعد منبرا و دربا ميسرا لطريق الطلاب الجامعيين في تحصصيلهم العلمي مشكورين

yasane
2012-06-07, 19:03
اريد توقعاتكم في امتحانات السداسي الثاني للسنة الاولى أدب ال ام دي

بلييييييييييييييييييييييييييز لكل من له خبره

مشكورييييييييييييين أخوتي

skype130987
2012-06-12, 11:48
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته <br>أتمنى من اخواني ان لايكتبوا هكذا في المنتدى بل يجعلوها في ملف وورد او بي دي اف <br>او غير ذلك <br>هو التماس وفقط وليس الزام<br>فقط لتكون الامور اكثر وضوحا وتنظيما<br><br>

**د لا ل**
2012-06-13, 00:00
نكمل على بركة الله ما بدأناه

رجلٌ منهك
2012-06-13, 00:06
نتاعش هذ الموضوع ؟ وش نقدر نشارك انا

ramzi1982
2012-06-20, 18:21
شكرا جزيلا

وردة المنتدى
2012-06-22, 20:13
ارجوكم اريد الدروس السنة الثانية ادب عربي (ل م د)

fleur d'espoir
2012-07-18, 14:41
السلام عليكم
هل يوجد أساتذة متخصصين يمكنهم مساعدتي في مذكرة التخرج و تزويدي بمحاضرات السنة الرابعة أدب عربي؟

omarzant
2012-08-05, 00:42
مبارك بحول الله
انا ادرس سنة ثانية وانتقلت للثالثة ادب عربي كلاسيكي
وشئ مفيد ان نجتمع هنا ونتبادل وجهات النظر
رغم ان في جامعة الجزائر الكل يعتمد على الكتمان والكتابة في الطاولات والجدران هههههه
الا من اتقى الله
سلام

**د لا ل**
2012-08-05, 01:17
مبارك بحول الله
انا ادرس سنة ثانية وانتقلت للثالثة ادب عربي كلاسيكي
وشئ مفيد ان نجتمع هنا ونتبادل وجهات النظر
رغم ان في جامعة الجزائر الكل يعتمد على الكتمان والكتابة في الطاولات والجدران هههههه
الا من اتقى الله
سلام

اهلا اخي
مرحبا بك

الباجيرو
2012-08-11, 23:06
الف مليون شكر قليل عليك ايتها الغالية

وردة المنتدى
2012-08-14, 05:12
مدخل اصطلاحي
1. مفهوم علم اللسان (اللسانيات)
عبّرديسوسير (de Saussure) منذمايزيدعننصفقرنعنالمشاكلالتيتعترضالمقاربةالعلمية لظواهراللغة (ولكلالظواهرالإنسانية). فبينماتعملالعلومالأخرىعلىموضوعاتمحدّدةسلفايمكنتناو لهابعدذلكمنزوايانظرمختلفة،ففيميداناللسان،بعيداعنال قولأنالموضوعيسبقوجهةالنظر،يبدولناأنوجهةالنظرهيالتي تشكلالموضوع،وعلىأيةحالفإنلاشيءيخبرنامسبقاماإذاكانت إحدىزواياتناولالظاهرةنفسهاسابقةأملاحقةعنزواياالنظر الأخرى. ولهذاقالأيضاأنهيمكننادراسةاللسانمنعدةنواحفيآنواحد، لكنموضوعاللسانياتسيبدولناإذامجموعةمختلطةمنالأشياءغ يرالمتجانسة،دونرابطفيمابينها. فإذاتصرفناكذلك،فُتحالبابلعدةعلوم (علمالنفس،الانتروبولوجيا،النحوالمعياري،الفيلولوجيا ،إلخ...)،ويضافإليهاحالياالأكوستيك،الفيزيولوجيا،علم الأعصاب،الارطوفونيا،طبالأطفال،علمالاجتماع،الاثنولو جيا،الفلسفة.
اللسان،كموضوعمعقد،يمكنالتطرقإليهإذامنعدةوجهاتنظر؛ك خاصيةبشريةأوكظاهرةاجتماعيةأوكنمطلتسجيلالنصوص (الأدبيةمنهاعلىالخصوص) أوكمادةللتطبيقاتالتقنية. منهذاالمنطلقيتضحلناأنهيشكلموضوعدراسةللعديدمنالعلوم التيلاتنتميللعلومالإنسانيةأوالاجتماعيةفحسببلوتلكال منتميةلعلومالحياةوللعلومالدقيقةأيضا.
تعريفعلماللسان:
ماهوعلماللسان؟يتعلقهذاالحقلأساسابطبيعةاللغةوالتواص لاللغوي؛ تلك الأداة التي نستعملها يوميا لتبليغ الآخرين أفكارنا وما يدور بخلدنا. يبدوأنالبشرقدافتتنواباللغةوالتواصلمنذآلافالسنين،وح تىيومناهذاأينبدأفهمالطبيعةالمعقدةلهذاالوجهمنالحياة البشرية.
علماللسانأواللسانيات (علىقياسالرياضيات،والطبيعيات،والبصريات...) يقابلالمصطلحالأجنبي (linguistique) بالفرنسية،و(linguistics) بالانجليزية. يعودالفضلفيظهورهذاالعلمبمفهومهالمتدوالفيعصرناإلىال عالمالسويسريالمشهورفردينانديسوسير (Ferdinand de Saussure)،مؤسساللسانياتالحديثة.
يعتبرديسوسير أن الدراسةاللسانية ”هيدراسةمناللسانوإليه“دراسةعلميةموضوعية،مقصيابذلكك لالاعتباراتالتيلاتعدمنصميمموضوعاللسانيات. صحيحأنالعالمالنفسانيقدينظرفيأحداثالكلاملأنلهاجانبا سيكولوجيامهما. وينظرعالمالاجتماعفيهاأيضالارتباطهابالمجتمع؛كماينظر فيهاعالمالانثروبولوجياأيضا. ولكنفيكلهذهالأحوال،وفيغيرها،كليتناولاللسانوأحداثهم نجانبواحدوليسهوفيالحقيقةالموضوعالرئيسيالذيتطرقهالل سانياتالبحتة؛ولهذافإناللسانيات ”هيدراسةمناللسانوإليه“.
تهتم اللسانيات بموضوع اللغة من كل الجوانب:الدلالي، والنحوي، والصرفي، وكذا الصوتي. وتقوم الدراسة في اللسانيات على الموضوعية أي وصف اللغة كما هي عليه وتحليل جوانبها من أجل بيان حقيقتها دراسة بعيدة عن الذاتية والأهواء، وتتوخى الدقة في وصف نظام اللغة إعتمادا على الإستقراء والملاحظة التي تكشف عن خصائص اللغة كما هي في الواقع الاستعمالي لمستعمليها. لذلك فاللسانيات علم إستقرائي موضوعي تجريبي ومنهجي يقوم على الملاحظات والفرضيات والتجارب والمسلمات ويعني بالحقائق اللغوية القابلة للإختيار بالمبادئ الثابتة ويقنن نتائجه في صيغ مجردة ورموز رياضية.
والغايةمنهذاالعلمهيالتطلعإلىأسراراللسانكظاهرةبشرية عامةالوجود،ومنثمإلىالقانونالذىيضبطبنيتهومجاريهوتطو رهعلىمرالزمانوكيفيةاستعمالالناطقينله.
أما موضوع اللسانيات فقد وضعأندريمارتيني (André Martinet) تحديدادقيقايُرجعإليه؛قال:"إناللسانهوأداةتبليغ،يحصلعلىمقياسهاتحليللمايخبرهالإ نسانعلىخلافبينجماعةوأخرى. وينتهيهذاالتحليلإلىوحداتذاتمضمونمعنويوصوتملفوظوهيا لعناصرالدالةعلىمعنى (monèmes) ويتقطعهذاالصوتالملفوظبدورهإلىوحداتمميزةومتعاقبة: وهيالعناصرالصوتية (phonèmes) ويكونعددهامحصورافيكللسانوتختلفهيأيضامنحيثماهيتهاوا لنسبالقائمةبينهماباختلافالألسنة."
وللتصديلدراسةاللسانتوجهانأحدهماذونزعةحسيةنقليةيعتم دفيهاعلىالمشاهدةوالاستقراءانطلاقامنالمدونةاللغويةل معاينةالأحداثاللغويةوتصنيفهالاستنباطالقوانين،وذلكك مافعلالرواةالعربأوالهنودفيدراستهمللغاتهمقديما،والم دارسالبنويةالتيانبثقتعنتوجهاتديسوسير،مثلالمدرسةالو ظيفية،والمدرسةالبنويةالأمريكية. وأماالنزعةالثانيةفتعرفبالنزعةالعقليةالمبنيةعلىالاف تراضاتالاستنتاجيةالمنطلقةمنمسلماتثميستنتجمنهاقواعد بفعلعملياتمعينة ويمثل هذه النزعة المدرسة البصرية قديما، والمدرسة التوليدية التحويلية وعلى رأسها نوام تشومسكي حاليا.
مدخل تاريخي إلى الدراسات اللغوية قبل ظهور علم اللسان الحديث:
علماللسانالمعروفحديثالمينشأمنالعدمبلكاننتيجةسلسلةم نتطورالفكرالبشريحولموضوعهالرئيس ’اللغة‘،فلاعجبإذالفهمالنظرياتالحديثةالمبنيةعلىمفاه يمكانتنتيجةتطورطويلاستمرعدةقرونمنالرجوع إلىالدراساتالقديمة،وهوماسنشيرإليهباختصارشديد. والسؤالالمطروحهناهومتىنشأتاللسانيات؟
نشوءاللسانياتمسألةلايمكنالجزمفيها. يقولجورجمونان (Georges Mounin) ”يحددتاريخنشوءاللسانياتبحسبنظرةالباحثإليها،فمنالمم كنأنيقالأنهانشأتفيالقرنالخامسقبلالميلاد،أوفيسنة 1816 معفرانزبوب،أوفيسنة 1916 معديسوسير،أوفيسنة 1962 معتروبتزكوي،أوفيسنة 1956 معتشومسكي.“. يبينهذاالقولمدىاختلافالباحثينلافيتحديدعلماللسانالت حديدالعامموضوعاومنهجا،بلوفيتقييمالنظرياتالمذهبيةوم ايتبعهامنمناهجالتحليل.
بدايات التحليل العلمي للسان البشري:
الدراساتاللغويةقبلظهورعلماللسانالحديث
اختراع الكتابة
إن ”الذين اخترعوا الكتابة وطوروها هم في الحقيقة من أكبر اللسانيين، بل هم الذين ابتدعوا اللسانيات.“ هذا ما كتبه أنطوان ميي للتعبير عن أن أول تفكير علمي حول اللسان بدأه أولئك الذين فكروا في كيفية الحفاظ على الكلام الزائل الذي يتلاشى بتلاشي أصواته المنتشرة في الهواء. وهكذا تمكن بني البشر، بواسطة هذا الاختراع العظيم، من التواصل عبر مسافات بعيدة، بل وبين الأجيال المتعاقبة.
مرت الكتابة بأطوار؛ فبدأ الإنسان يستعمل للتعبير عن المعاني الصور كالنقوش على الحجر، وتسمى الكتابة التصويرية الرمزية للمعاني، وبعد مدة، وللتخفيف من مشاق الكتابة التصويرية وتعقيدها، وضع كتابة تصور رمزيا حروف الهجاء، وقد تم ذلك على يد الفينيقيين الذين جعلوا لكل حرف صوتي صورة واحدة بسيطة سهلة التصوير منذ ما يزيد عن الثلاثة آلاف سنة؛ ويعدهذا الاختراع امتداد للتطورات التي مست الأنظمة الكتابية على مدى قرون تعاقبت فيها الحضارات في بلاد الرافدين. وهكذا خرجت إلى الوجود الكتابة الأبجدية التي انتشرت في أكثر أنحاء العالم وكيفتها الأمم التي استعارتها منهم مثل اليونانيين الذين أضافوا صورا للصوائت غير الممثلة في أبجدية اليونانيين، وقد سميت حينها بالألفبائية المعروفة حاليا. كل هذا دليل واضح على قدم البحث وإعمال للتأمل في تحليل مدارج الكلام والتوصل إلى مستويي التحليل: مستوى العناصر الدالة، ومستوى العناصر غير الدالة، وتشخيصها بصفاتها الذاتية، والتمييز بينها بمقابلة بعضها ببعض.






الدراسات اللغوية عند الهنود:
الحضارة الهندية من الحضارات التي يشهد لها بعظمة إنجازاتها في مجالات عديدة كالطب، والفلسفة، والرياضيات، والهندسة. أما إنجازاتها في مجال الدراسات اللغوية فلا تخفى عن العيان لما تركوه من آثار مكتوبة غزيرة ذات قيمة علمية جمة. لقد وصل إلينا من جملة هذه الآثار كتاب خطير لأهم نحوي هندي يدعى بانيني. وهو لا يمثل في الواقع إلا حلقة متقدمة من أجيال النحاة الهنود الذين اهتموا بدراسة اللغة السنسكريتية (لغة الكتاب المقدس الفيدا) للحفاظ عليها من الضياع بسبب انتشار لغات أخرى مكانها في الهند.
جاء إذا كتاب بانيني المسمى ’الأست – أدهياي‘ ومعناه الكتب الثمانية متضمنا أربعة آلاف سوترة؛ وهي عبارات في غاية الإيجاز احتيجت إلى شروح كثيرة أهمها وأشهرها ال’مها بها سهيا‘ معناه: الشرح الكبير للنحوي الهندي المشهور ’باتنجالي‘ (150 ق.م.).
بنى الهنود دراساتهم اللغوية على المشاهدة والاستقراء (وهو منهج علمي أصيل)؛ فقد انطلقوا من خلال تصفح جزئيات اللغة السنسكريتية ومجاري كلامهم من مشافهة بعضهم لبعض، وبالنظر في النصوص القديمة. تميزت دراستهم بالمنهج الوصفي حيث ينظر إلى حالة اللغة في زمان معين ولا ينظر إلى التحولات التي تطرأ عليها على مر الأيام، وهذا يجعل من تحليلهم تحليلا بنويا كما نلفيه الآن في الدراسات اللغوية الحديثة أو ما كان سائدا عند العلماء العرب قديما.
الدراسات اللغوية عند الإغريق:
فيالقرنالسادسقبلالميلادبدأالفكرالإغريقييتبلورفيجمي عالميادين وعلى الأخص في مجال الفلسفة. ولذا فليس من المستغرب أن نجد ملاحظات عديدة حول اللغة فزيادة على تعليم النحو عندالنحاةالإغريقوهدفهم تلقينالمتعلمالكلاموالكتابة، مع ماعرفعنهؤلاءالنحاةأنهمأولعوابالنظرالعقليوالمنطقيفي اللغةوالنحو الذيعدوهجزءامنالفلسفة،وبالتاليمنالبحثالعامفيطبيعةا لعالمالذييحيطبهموالنواميسالاجتماعيةالتيتحيطبهموتتح كمفيهم.
ومنالمسائلالمثيرةللانتباهذلكالجدالالذيدامعدةقرونبي نعلماءالإغريقحولنشأةاللغةوأدىبهم إلىالانقسامإلىفريقين :الطبيعيونوالاصطلاحيون.يرىالفريقالأولوعلىرأسهأفلاط ونأناللغةمنصنعالطبيعةأيأنهاانحدرتمنأصلتحكمهقوانينخ الدةغيرقابلةللتغييروأخذتبهذاالرأيمدرسةالشذوذيينوعل ىرأسهاقراطيسومدرسةالرواقيينمؤسسهازينونحواليق300مأم االفريقالثانيالذييتزعمهأرسطوفيؤكدعلىأناللغةوليدةال عرفوالتقليدوالتزمبهذاالرأيالقياسيونوعلىرأسهمأرسترا خوسوالأبيقوريونوعلىرأسهمأبيقور.
وقامعددمنعلماءالإغريقبدراسةمظاهرالنحووالصرففياللغة الإغريقيةالقديمةومنهم بروتاغوراس الذي قامبتمييزالأجناسالثلاثةفياللغةالإغريقية :المذكروالمؤنثوالوسطوقسمالجملإلىأنواعحسبالوظائفالد لاليةالعامةللتركيبالنحويةالخاصةمثل: السؤالوالإثباتوالأمروالتمني. وأما أفلاطون فأولمنتحدثبإسهابعنالنحوالإغريقيفدرسظاهرةالافتراضوا لتداخلاللغويوبينوجودأصلأجنبيلعددكبيرمنالمفرداتالإغ ريقيةوقسمالجملةإلىإسميةوفعليةواكتفىبالتمييزبينالأس ماءوالأفعالورأىبأنالأسماءهيالعباراتالتيتدلعمنيقومب الحدثفيالجملةوأنالأفعالهيالعباراتالتيتدلعلىحدثأوصف ةفيالجملة.غير أن تلميذه أرسطو خالفه في أمورعدةمنهاالنظرةالفلسفيةللكون.وأصلاللغةوطبيعتهاوع لىعكسأستاذهفإنهلميقمبصياغةأصولالكلماتومعانيهالأنقض يةالمعنىالأصليبدتلهغيرمهمةعلىالإطلاقوذلكلاعتقادهبأ ناللغةوليدةالاصطلاحوالعرفوالتقليدويرىأرسطوأنكلشيءف يهذاالعالميتكونمنشكلومادة.واكتشفأرسطوأيضاصيغالفعلا لمختلفةفياللغةالإغريقيةوأكدعلىأنالتغيراتالمنتظمةفي أشكالالفعلترتبطارتباطاوثيقابمفهومزمنحدوثه.
لقدنظرنحاةالإغريقإلىالعالمبمنظارفلسفيميتافيريقي،فا صطبغتقواعدهمبصيغةفلسفيةعقلانيةأثرت أيما تأثير على الدراسات اللغوية الأوروبية.

الدراسات اللغوية عند الرومان:
تأثر الرومانيونباليونانيين أشد التأثرومثال على هذا التأثر استمرار الصراع بين أصحاب القياس والشذوذ والطبيعة والاصطلاح ولذا حاولوا دائما إخضاع دراسة لغتهم إلى القوانين المسننة من طرف الإغريق واكتفوا بتبني ونشر أفكارهم.
كانت بدايات الدراسات اللغوية عند الرومان على يد الرواقي الشهير "قراطيس" لتشهد روما بعدها تدفق عدد كبير من العلماء الإغريق وعنهم أخذ الرومان الاهتمام بلغتهم اللغة اللاتينية.
الدراسات اللغوية عند العرب:
ترجع نشأة النحو العربي حسب الروايات المتوارثة إلى خشية المسلمين على القرآن الكريم من مخاطر اللحن والتحريف؛فقد كان مصحف عثمان ابن عفان رضي الله تعالى عنه يعوزه الشكل والتنقيط مما أدى إلى انتشار اللحن بين أقوام من غير العرب قد دخلت في الإسلام فقام أبو الأسود الدؤلي بوضع الشكل نقاطا أملاها على كاتبه إذ يقول له: "إذ رأيتني فتحت فمي بالحرف فأنقط نقطة فوقه على أعلاه وإن ضممت فمي فأنقط بين يدي الحرف وإن كسرت فأنقط النقطة نقطتين ومن هذه الحادثة يتضح لنا أن النحو العربي قد وضع لخدمة أغراض تطبيقية بحتة.
والنحو عندهم كما يرى ابن جني: "والنحو هو انتحاء سمت كلام العرب...ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها بالفصاحة فينطق بها" هذا هو الهدف من النحو وكان العرب يعظمون النحو والنحاة حتى ذهب بهم الأمر إلى تسمية كتاب سبويه الكتاب بأنه قرآن النحو ومن النحاة العرب الأوائل الخليل بن احمد الفراهيدي100هـ-175هـ وكان قد عالج عدة نظريات تتعلق بالنحو والصرف والعروض والقياس والمعاجم والصوتيات؛وهذا ما جعل حسان تمام يقول عنه:إن دوره في بناء النظرية النحوية يضعه في منزلة النحاة لم يبلغها أحد قبله ولا بعده وقد بلغ النحو ذروته على يد سبويه، تلميذ الخليل، في أواخر القرن الثاني للهجرة. ومع انتشار الإسلام في العراق أصبحت الكوفة والبصرة مركزين من مراكز المسلمين فأنشأت مدرستان نحويتان هما مدرسة البصرة والكوفة وكان بينهما خلاف حاد في القضايا النحوية وتنافس شديد.
إن الدراسات النحوية العربية قد بلغت مستوى علمي رفيع ونضج فكري مستنير جمعت بين النقل والعقل والوصف والتحليل تناولت مظاهر عديدة لم يتطرق إليها علماء الغرب إلا في القرن العشرين ومنها المورفولوجيا والتركيب والدلالة والصوتيات وصناعة المعاجم.يقول برجشتراسر الألماني إنه لم يسبق الأوربيين في هذا العلم، أي الصوتيات، إلا قومان من أقوام الشرق هما أهل العرب والهنود و يقول فيرث الانجليزي: إن علم الأصوات قد نما وشب في خدمة لغتين مقدستين هما: السنسكريتية والعربية. ويقول فيشر« إذا استثنينا الصين لا يوجد شعب آخر يحق له الفخر بوفرة كتب علوم لغته غير العرب».
النحوالمقارن والدراسات التاريخية:
أولا: علم اللغة المقارن
كان لاكتشاف اللغة السنسكريتية في عام 1786م في الهند على يد وليام جونز أهمية كبرى في تاريخ الدراسات اللغوية؛ فقد ظهر جليا للدارسين إمكانية مقارنة اللغات وردها إلى لغة أم واحدة تفرعت عنها. وعلى إثر هذا الاكتشاف العظيم برز للوجود أسلوب مقارن هدفه الكشف عن أوجه القرابة بين اللغات ولا سيما بين اللغات الهندية الأوروبية. وقد برع في المجال المقارن كل من فريديرك فون شليجل، وفرانز بوب، وراسموس راسك، وشلايشر، وجاكوب غريم، إلى أن أصبح النحو المقارن في تحول بارز لنظرة الباحثين إليه دراسة تاريخية تعنى بالبحث التطوري والتعاقبي للغات.
ثانيا: اللسانياتالتاريخية:
هيدراسةتطور اللغةالواحدة عبرالأزمنةوكيفية المختلفةمنذالنشأةإلىالوقتالحاضرلمعرفتتاريخهامنذالع صورالأولى وأسبابالتغيرات الصوتيةوالنحويةوالدلالية التيتحدثإماداخللغةمعينةبواسطةالأفراد؛وإماخارجهاعنط ريقالاحتكاكباللغاتالأخرى.
وفيمايخصالمنهجالمتبعفياللسانياتالتاريخيةفإنالباحثي قومبجمععيناتلغويةمنالاسرةالواحدةويسجلالتطوراتالمتت اليةللكلمةالواحدةعبرمختلفالعصورثميحاولجاهدابناءالش كلالافتراضيالأولعلىأسسمنهجية تتمثل في: المنهجالمقارن،ومنهجإعادةالتركيبالداخلي، والمنهجالفيلولوجي.ومعنهايةالقرنالتاسععشرميلاديظهرت نتائجاللسانياتالتاريخيةمخيبة للآمال مماأدىإلىالاقتناعبضرورة التغيير. وكانأولمنأحدثالقطيعةالسويسريفيردينانديسويسرالذيطفق يحاضرفيفرعجديدمناللسانياتيعنىبدراسةاللغةدراسةوصفية .
علماللسانالحديث (فرديناندديسوسير):
يعود الفضل في ظهور اللسانيات الحديثة إلى نشر كتاب دي سوسير "محاضرات في اللسانيات العامة" (Cours de linguistique générale)سنة 1916 أي بعد ثلاث سنوات من وفاة صاحبه وهذا بعد أن جمع ألبير سيشهاي و شارل بالي محاضرات أستاذهما وقاما بتصفيفها ونشرها.
1. التعريفبموضوعالدراسةاللسانيةومنهجها
يقوم دي سوسير، في تأسيسه للسانيات الحديثة، بتوجيه مجموعة من الانتقادات للدراسات السابقة التي يقسمها إلى ثلاث مراحل هي:
مرحلة القواعد أو النحو المعياري: مؤاخذات دي سوسير لهذا المنهج الذي اعتمده الإغريق قبل أن يمتد إلى النحاة الفرنسيين من أتباع مدرسة بول رويال (Port Royal) تتمثل في:
- أن هذه الدراسة قائمة على المنطق بشكل جوهري، وهي خلو من أية نظرة علمية، سامقة على اللغة ذاتها، وتهدف إلى تقديم قواعد لتمييز الصيغ السليمة من الفاسدة؛
- إنها منحى معياري بعيد جدا عن الملاحظة الصرف وله رؤية ضيقة محدودة؛
مرحلة الفيلولوجيا التاريخية : تهدف هذه الدراسة إلى شرح النصوص القديمة وتفسيرها والبحث في خصائص أسلوب المؤلف بالاعتماد على المنهج التاريخي. عيوب هذه الدراسة، حسب دي سوسير، تتمثل في ما يلي:
- إنها تعتبر اللغة وسيلة وليست غاية؛
- تهتم بالنصوص المكتوبة وتقصي من اهتمامها الخطاب المنطوق، مع العلم أن اللغة ظاهرة منطوقة، وهذا ما جعلها تبتعد عن الدراسة العلمية الدقيقة؛
- إنها تعتمد على المنهج التاريخي العاجز عن الرؤية الشاملة للغة وعن الوصف العلمي الدقيق لنظامها ولمستويات التحليل الخاصة بها.
مرحلة الفيليولجيا المقارنة: تهدف هذه الدراسة إلى المقارنة بين لغتين فأكثر لكشف صلات القرابة بين اللغات؛ ظهرت مع اكتشاف اللغة السنسكريتية من قبل الأوروبيين على يد فرانز بوب (Frantz Bopp) واضع منهج النحو المقارن. ينتقد دي سوسير هذا النوع من الدراسات على النحو الآتي:
- إنها لم تكن لتقوى على تشكيل اللسانيات الحقيقية لكونها لم تتوخ استخلاص طبيعة غرض دراستها، أي أنها لم تحدد غرضا لمنهجها، بحيث إنها لم تكن تتساءل عن معنى التقارب الذي كانت تبحث عنه، ولم تهتم بأبعاد العلاقات التي كانت تكتشفها؛
- إن القواعد المقارنة لم تكن قادرة على الوصول إلى نتائج مهمة نظرا لكونها تحصر نفسها في المقارنة ولم تكن تاريخية؛
- إنها تعتمد على مبدأ خاطئ، وذلك حينما تكتفي بالبحث في الظاهرة الصوتية معزولة عن نظامها النحوي الآني الواردة فيه.
مهمة اللسانيات عند دي سوسير:
ما إن يفرغ دي سوسير في محاضراته من توجيه مجموعة الانتقادات للمناهج السابقة حتى يستقبلنا بالنظر في مهمة اللسانيات عنده وهي:
- السعي إلى الدراسة العلمية والموضوعية للسان البشري من خلال متابعة رصد شكله الآني الذي يبرز اللغة بوصفها بنى مترابطة ووحدات متعالقة بشكل منتظم ومتناسق يجعل منها نظاما من العناصر والقيم؛
- دراسة اللغة لذاتها ولأجل ذاتها؛
- تقديم الوصف والتأريخ لمجموع اللغات وهذا يعني سرد تاريخ الأسر اللغوية، وإعادة بناء اللغات الأم في كل منها ما أمكنها ذلك؛
- البحث عن القوى الموجودة في اللغات كافة، وبطريقة شمولية متواصلة، ثم استخلاص القوانين العامة التي يمكن أن ترد إليها كل ظواهر التاريخ الخاصة؛
- تحديد نفسها والاعتراف بنفسها وذلك باستقلالها عن باقي العلوم الأخرى.
منهج اللسانيات عند دي سوسير:
تعتمد النظرية التي وضعها وجردها دي سوسير على مجموعة من المبادئ التي لخصها لنا العلامة عبد الرحمن الحاج صالح في ما يلي، على أن يتم الحديث بالتفصيل عنها لاحقا:
- بناء دي سوسير لنظرية الدليل اللغوي من خلال تحديده للعلاقة القائمة بين الدال والمدلول، تفسر ماهية الدلالة اللغوية إلى حد ما. وإشارته بعد هذا إلى وجود علم أشمل من علم اللسان يتضمنه ويتضمن الأنظمة الدلالية التبليغية الأخرى، يسميه السيميولوجيا أو علم الأدلة أو علم السيمياء؛
- تمييزه بين اللغة والكلام؛ فاللغة وضع (code) (أو مجموعة منتظمة من الرموز) تصطلح عليها الجماعة ويشترك في استعمالها جميع أفرادها، وأما الكلام فتأدية فردية للغة. وخروجه بعد ذلك إلى الحكم بأن اللغة بهذا المعنى أي بما هو قدر مشترك، هي صورة وليس بمادة؛
- تحديده، بناء على هذا، لموضوع اللسانيات: هو اللغة لا الكلام في ذاته وإن كانت اللغة لا تظهر ولا يمكن مشاهدتها إلا من خلال الكلام أي من تأدية كل فرد لها ومن كيفية استعمال مجموع الأفراد لها. أما الظواهر الخاصة بالكلام فدراستها وإن كانت ضرورية لدراسة اللسان إلا أنها لاحقة بها وليست هي غاية علم اللسان في حد ذاته؛
- توضيحه لمعنى الارتباط في قول العلماء “إن اللسان نظام (Système) ترتبط فيه جميع أجزائه بعضها ببعض” على أساس اتحاد الهويات واختلافها أي على أن العناصر اللغوية في ذاتها أمثلة تبقى هي هي في أذهان المتخاطبين وإن اختلفت تأدياتها وعلى أن كل واحد منها يكسب هويته عند المتخاطبين بمخالفته ومقابلته لغيره (مبدأ التقابل). إلا أن الاختلاف – بمعنى التباين والتقابل- هو جوهر النظام نفسه. فاللغة كصورة هي مجموع المباينات (التقابلات) الحاصلة بين عناصره وعلى هذا فكل عنصر فيها كيان تبايني أو تفاضلي ونسبي وسالب غير موجب لأنه ينتج عن مقابلته لكل واحد من العناصر الأخرى ويتحصل وجوده بالنسبة إلى غيره ولا شيء يعتبر في نفسه إلا بالإضافة إلى غيره؛
- تمييزه بين نوعين من الدراسة: الزمانية والآنية. وأن النظام الللغوي في عمله الآني لا يمكن تفسيره بالعوامل التاريخية الطارئة بل يرد إلى النظام في حد ذاته وهذا ما لا يمكن ضمان نتائجه إلا عن طريق دراسة اللغة في زمن معين يكون حينها النظام اللغوي في حالة استقرار.
2. مفهومالبنية (النظام) عندديسوسير:
← شجرة
← حصان
يؤاخذديسوسيرسابقيهعلىرؤيتهمالمشظيةللغة لاعتبارهماللغةمدونةأيقائمةمنالعناصرالتيتحيلفردياوب طريقةمستقلةإلىأشياءالعالم.
مثال: كلمةشجرةتطابقمباشرةالشيءالممثلفيالرسموكذاالأمربالن سبةلكلمةحصانالمطابقةللحيوانالمرسومههنا. ومن ثم فلكلشيءفيالعالماسميعينهويطابقه. معرفةلغةماهوإذامعرفةالأسماءالتيتعينأشياءالعالم؛ وهذا ما ينتج عنه وجود لغة واحدة مشتركة بين جميع أبناء البشر غير أن الواقع يكذب هذه الفكرة.
وبالمقابل فإن دي سوسير عرف اللغة على أنها كلمنظم،وهينظام(système) يتحددبداخلهكلعنصرانطلاقامنالعلاقاتالتييقيمهامعالعن اصرالأخرى. وأن اللغةلاتقتصرعلىقائمةمنالأسماء (مدونة) لكنعلىنظاممنالعلامات (signes). وبذلك أصبحت فكرةأناللغةتشكلنظاماأساسيةوهيالتيتشكلالأطروحةالرئي سةالتيتحددتانطلاقامنديسوسيروهيالتيتعطيلمفهومالنظام دورامركزيا.
تعريفالنظام
نظامماهومجموعةمنالعناصرالمتجانسة: ومنهناوجبتحديدعناصرنظاماللغة،وسوفنرىأنديسوسيرلايست عملمصطلح ”كلمة“(mot) بل ”العلامة“ (signe). لاتتحددقيمةالعناصرإلاسلبيامنخلالالتقابلاتالتيتقيمه افيمابينها على أساس اتحاد الهويات واختلافها.
فينظامماالعلاقاتبينالعناصر(العلامات) هيالتيتعلوعلىالعناصرولذاوجبتحديدالطبيعةالدقيقةللعل اقاتبينعناصرالنظاماللغو، فبعد أن يتم تصنيف العناصر، والنظر في العلاقات القائمة في ما بينها، يستطيع الباحث الكشف عن القانون المنظم لهذه العلاقات بين العناصر، اللغوية هنا، وهذا هو هدف اللسانيات المعلن.
3. أهمثنائياتديسوسير
- اللغةوالكلام:
خلص دي سوسير، بعد النظر في الوقائع اللغوية إلى تحديد ثلاثة مفاهيم تعد أساس النظرية اللسانية الحديثة؛ وهي:
أ‌. اللسان:
اللسان ملكة يشترك فيها جميع بني البشر وتتجلى في تلك القدرة البشرية، أو في ذلك الاستعداد الذي يولد به الطفل ويؤهله لاكتساب اللغة من المجتمع واستعمالها. وهذا الاستعداد يجعل من الإنسان مختلفا جدا عن باقي الكائنات الحية الأخرى ولا سيما الحيوانات التي تولد وهي مزودة أصلا، غريزيا، بنظام تواصلي.
ب‌. اللغة:
هي تلك القواعد، الصوتية، والصرفية، والتركيبية، ...، التي يتواضع عليه الناس وتتموضع بشكل لا شعوري على مستوى أدمغة المتكلمين من المجموعة اللسانية الواحدة.
ج. الكلام:
هو الإنجاز الفعلي للغة؛ وهو عبارة عن سلسلة صوتية يتصل بعضها بعضها الآخر إتصالا وثيقا، فنحن لا نتكلم أصواتا منفردة و إنما كلمات وجمل وملفوظات. وتتشكل آلية الكلام من جانبين: جانب عضوي، وجانب نفسي. وحركة الكلام تبدأ من الرباط النفسي أو العقلي الذي سبق الاتفاق عليه في عقول المتكلمين بين دلالة معينة ومجموعة من الأصوات ترمز إليها وسرعان ما تنتقل إلى عملية عضوية عن طريق إشارات عصبية يرسلها العقل إلى الجهاز النطقي لإنتاج الصوت المطلوب وفي الحال تبدأ مهمة الجهاز النطقي الذي يصدر أصوات متتابعة مسموعة تنتقل عن طريق الموجات الصوتية أذن السامع وأذن السامع بدورها توصل الرمز الصوتي الذي استقبله إلى العقل الذي يعطي هذه الرموز ومدلوله أسواء اتفق الفهم تماما مع ما في ذهن المتكلم أم لا.
إن سر العملية الكلامية كلها يكمن في تلك الصلة القائمة في عقول إثنين بين الرمز والمدلول وما عدا ذلك من العملية الكلامية فهو عضوي طبيعي ميكانيكي.
إن التقابل بين اللغة والكلام أنتج مجموعة من الظواهر المتفاوتة يمكن وصفها:
اللغة ضرورية عند دي سوسير لكي يكون اللفظ واضحا ومفهوما ولكي يحدث تأثيراتها إلا أن اللفظ ضروري لكي يقوم اللغة.فالعلاقة بينهم علاقة الجوهر بالعرض.
اللغة: - ثابتة ومستقرة إلى حد ما؛
- تفرض علينا من الخارج ويكتسبها الفرد بطريقة سلبية ويكون ذلك عادة في الطفولة؛
- لا يمكن أن تتغير أو تستبدل تبعا لمزاج الفرد وأن أي ابتكار خارج لابد له من موافقة الجماعة اللغوية قبل أن تجد طريقة إلى نظام اللغة؛
- نتاج الجماعة و ملك لهم.
الكلام: - شيء عابر سريع الزوال؛
- نشاط متعمد مقصود؛
- يتسم بالفردية.
وبما أن دي سوسير انطلق في تحديده لعلم اللسان من مفهوم اللغة باعتبارها نظاما فقد قدم اللغة في الدراسة على الكلام؛ وهذا متوقع من دي سوسير الذي بنى نظريته على مفهوم النظام أو البنية فحتى تكون الدراسة بنوية، من الضروري أن تجعل من اللغة منطلقا لها أي إيلاء الأسبقية للسانيات اللغة على لسانيات الكلام.
غير أن المشكلة القائمة هنا هو عدم تمكن الباحث من ملاحظة اللغة بحكم أنها ضمنية متوضعة في دماغ الناطقين وأنه لحد الساعة لا يمكن لعلم تشريح الدماغ من الوصول إلى المناطق المخصصة للغة لمعرفة ما هي عليه في الواقع، فهنا يتدخل الكلام باعتباره نتاجا للغة ليكون الدليل على القواعد اللغوية، فيلجأ الباحث مضطرا للعمل على مدونة كلامية ليصنف أولا الوحدات اللغوية على مختلف مستوياتها، وليلاحظ العلاقات القائمة بينها وحتى كشف أو يستقرأ القوانين التي سمحت بإيجاد تلك الصيغ الشكلية والتعابير المادية أي الكلام.
الدالوالمدلول
1. تمهيد:
نقل المعنى من شخص إلى آخر يرتكز على وجود الدليل اللغوي. كان دي سوسير سباقا إلى تحديد هذا المفهوم الهام بطريقة دقيقة بواسطة المفاهيم الآتية:
يتكون الدليل من قسمين:
ا) القسم المادي: الدال (الصورة السمعية، الصورة العقلية للدليل، التمثل العقلي الصوتي)
ب) القسم غير المادي: المدلول (القسم المفهومي للدليل، المفهوم).

الدليل االلغوي هو إذا اجتماع دليل ومدلول (المعنى). ومن الصعب تصور أحدهما دون الآخر.
المدلول يتشكل من عناصر دلالية تسمى بالسمات الدلالية وهو مفهوم نابع من علم الدلالة. السمات الدلالية تعرض عادة من قبل اللسانيين على شكل خصائص ثنائية (فاعلة أو غير فاعلة تكتب بواسطة ”+“ أو ”-“.
مثال:
المدلول (رجل) يمكنه أن يضم السمات الدلالية الآتية:
[+ حيوان] [+ عاقل]. وبتحديد أن الرجل حيوان عاقل نقابله بالحيوان غير العاقل، ونقابله بالجماد، وبالنبات وهي ليست حيوانات.
2. دي سوسير والدليل اللغوي
"إن العلامة اللغوية لا تربط شيئا باسم بل تصورا بصورة سمعية، وهذه الأخيرة ليست الصوت المادي، الذي هو شيء فيزيائي صرف، بل هي الدفع النفسي لهذا الصوت...
إن العلامة الألسنية إذن هي كيان نفسي ذو وجهين يمكن تمثيله بالشكل التالي..."

يمكننا إعادة بناء تصور دي سوسير للعلامة اللسانية حسب الشكل الآتي:

3. خصائص الدليل اللغوي
إعتباطي: العلاقة التي تربط الدال بالمدلول علاقة وضعية غير طبعية غير حتمية. يقولعبدالقاهرالجرجاني "إنالكلمةالمفردةفيدلالتهاعلىمعناهاليستمنإملاءالعقلب لهيمحضاتفاقفلوأنواضعاللغةقدقال " رضبمكانضرب" لماكانفيذلكمايؤديإلىفساد".
غير أن هناك استثناء يتمثل في الدال المحاكي للصوت الطبيعي مثل: مواء القطة، صياح الديك...إلخ. نتنبه إلى أن هذا التطابق نسبي على كل حال إذ كل لغة تستعمله بشكل خاص بها وفق تمثل الواقع الخارجي من قبل المتكلمين مثل: صوت البط: عند الفرنسيين: (couin - couin، وعند الانجليز: (quack - quack)
وضعي: لكي يتفاهم أعضاء مجموعة واحدة يجب أن يتفقوا على نفس الوضع أو على نفس العلامات.
خطي: الدال يتسلل بطريقة خطية وفق المحور الزمني. يلزمنا مدة معينة للتلفظ بكلمة فالأصوات في كلمة ”رجل“ تتعاقب الواحد تلو الآخر بطريقة مضبوطة حتى يحصل التفاهم
كيان تفاضلي سلبي: تجرى مجاريه بوجوده أو بعدم وجوده فهو يدل على مدلوله عند مقابلته مع دليل آخر وهو ينتمي إلى نظام، نظام اللغة المعينة ولا يكتسب قيمته إلا عند تقابله مع أدلة أخرى تنتمي إلى نفس النظام.
ثبوت العلامة وتغيرها: تمتاز اللغة بالجمود ونتاج قوى تاريخية تقاوم كل تغير اعتباطي ولذا يستبعد حدوث تغير لغوي مفاجئ وسريع. وبالمقابل تتغير اللغة بالتدريج عبر الزمن من ناحية المفردات ومعانيها ومهما تكن قوى التغير فإنها تؤدي إلى تبدل العلاقة بين الدال والمدلول.
4. نقد 1
يقصي دي سوسير ”المرجع“، أي الشيء الخارجي الذي تحيل عليه العلامة اللسانية، من مكونات العلامة اللغوية، واعترض عليه أوقدن و ريتشارد معتبرين أن المرجع مكون هام من مكونات العلامة وعبرا عن فكرتهما في الشكل الآتي:

5. نقد 2
اعترض إميل بنفنيست على دي سوسير في مفهوم العلاقة الاعتباطية بين الدال والمدلول على أنه حكم خاطئ فالعلاقة الاعتباطية هي بين الدال والشيء الموجود في الواقع الخارجي. ويرى بنفنيست أن الربط الجوهري بين الدال والمدلول ليس اعتباطيا بل العلاقة تلازمية أي أن أحدهما سبب في وجود الآخر.

وردة المنتدى
2012-08-14, 05:16
هذه محاضرات السدلسي الاول لمقياس السانيات العامة لمساعدة الطلبة المقبلين على تخصص ادب

نائلة
2012-08-22, 00:43
بارك الله فيك على هدا المجهود

نائلة
2012-08-22, 00:44
ياريت عناوين جديد لمذكرات تخرج نظام ل م د تساعدنا في الأختيار

تسنيم الحياة
2012-08-24, 21:44
مشكوووووووووووووووووووووورة يا دلاااااااااااال

وردة المنتدى
2012-08-27, 21:42
في اي سنة تدرسين و اي جامعة اختي نائلة

شوية عبد القادر
2012-08-30, 02:38
أرجو من الأخوة الكرام تزويدي بمذكرات تخرج أو مراجع حول الشعر و النثر الصوفي

غـاني
2012-09-19, 11:35
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
أنا تلميذ سنة أ ولى ادب عربي بالمدرسة العليا للاساتذة
ممكن مساعدة في الدروس او الاختبارات وبارك الله فيكم

مصطفى الجزايري
2012-09-23, 21:20
ممكن سؤال :
من الأسبق الشعر أم النثر؟؟؟

sam02000
2012-09-24, 11:37
الشعر اسبق

الشعر : هو كلام موزون مقفى يعتمد على الخيال و العاطفة
النثر : هو كلام غير موزون و غير مقفى يعتمد على العقل و الفكر و البرهان
من حيث الاسبقية فى الوجود :
الشعر اسبق فى الوجود من النثر حيث يعتمد الشعر على الخيال و العاطفة فى حين إعتماد النثر على التفكير و البرهان و العاطفة و الخيال لا شك اسبق فى الوجود من التفكير و البرهان

khaoula belka
2012-10-04, 17:44
hhhhhhhhhhhhhhhhhhhh

ايلول20
2012-10-09, 13:18
من فضلكم اريد مساعدة في علم اللسان وتحليل الخطاب باسرع وقت ممكن ارجوكم ساعدوني

جولاياتي
2012-10-14, 15:47
Merciiiiiiiiiiiii

جولاياتي
2012-10-14, 18:04
merciibkkkkkkkkkkkkkkkk

اسامة مسلم
2012-10-19, 16:05
السلام عليكم و رحمة الله و برطاته
اريد بطاقة فنية حول الشعر مميزات الشعر في عصر الانحطاط اسباب و نتاآآآآئج

وجزاكم الله كل خيــــــر

abdo32000
2012-10-25, 18:42
ممكن بحث عن خصائص اللغة و الكتابة و مميزات كل منها و تطورهما

khaoula belka
2012-10-26, 12:46
ساعدوني من فضلكم اريد بحث عن المنهج الاستدلالي

ماسيلا
2012-10-27, 08:01
من يستطيع ان يقدم لي تحليل مثل القرد و النجار في كليلة و دمنة و تحليل المقامة المكفوفية و ذكاء الخليفة المعتضد (كتاب الأذكياء لابن الجوزي)

حبة سكر
2012-10-28, 18:18
لازمني بحوث و محاضرات السنة الثانية ادب عربي

omarzant
2012-10-31, 22:36
بحث قمت به
سنة ثانية نقد قديم
البحتري وابي تمام -دراسة نص نقدي عنهما-

مقـــــــــــــــــــــــــــــــــــدمـــــــــــ ـــــــــــــــــة
سئل أبو العلاء المعري ذات يوم عن أي من الثلاثة أشعر من غيره في الشعر فكان رده " أن المتنبي وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر هو البحتري".
تأثر البحتري كثيراً بشعر الكثير من الشعراء الكبار وعلى رأسهم أبو تمام الذي أخذ الكثير من أقواله، ولكنه لم يأخذ الحكمة في أغراض شعره ولا قام بصبغه فلسفية، وقد اعتنى البحتري بانتقاء ألفاظه فتجنب المعقد منها والغريب، وقد كان من أفضل شعراء عصره في المدح لذلك حصد الكثير من الجوائز والعطايا من الخلفاء والملوك.
التعريف بالبحتري
ولد البحتري بمدينة (منبج) شرقي حلب سنة 206هـ ، ونشأ في باديتها , في قبائل بني طيء , ورحل إلى العراق ليتكسب بشعره , فلم يلق حظوة فعاد إلى الشام خائبا حزينا ناقما. ولما مات الواثق وبويع المتوكل سنة 223هـ عاد البحتري إلى العراق واتصل بالفتح بن خاقان وزير المتوكل وبالمتوكل نفسه ونال منهما عطاء جزيلا لم ينله مثله عند من جاء بعدهما من الخلفاء. ولما قتلا رثاهما بقصيدة عصماء, وعاد بعد ذلك إلى منبج ولم يلبث إلا قليلا حتى عاد إلى العراق ومدح من الخلفاء المنتصر والمستعين والمعتز والمقتدر, ولكن لم ينل منهم ما كان يأمله من النعم فهجاهم هجاء قبيحا بعد أن خلعوا, كما هجا بعض الولاة والأمراء بعد أن مدحهم, ولذلك كان يرمى بقلة الوفاء.
عاد إلى الشام واعتزل في بلدة منبج حتى مات عن 78 عاما
وكان على فضله وفصاحته من أبخل خلق الله ، وأكثرهم فخرًا بشعره ، حتى كان يقول إذا أعجبه شعرهُ أحسنْتُ والله، ويقول للمستمعين : ما لكم لا تقولون أحسنت ؟
وكان شعره كله بديع المعنى، حسن الدّيباجة، صقيل اللفظ، سلس الأسلوب، كأنهُ سيل ينحدر إلى الأسماع مجودًا في كل غرض سوى الهجاء ، ولذلك اعتبره كثير من أهل الأدب هو الشاعر الحقيقي، واعتبروا أمثال أبي تمام والمتنبي والمعري حكماء كما سبق عن المعري .من شعره في وصف الربيع
أتاك الربيع الطـلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبه النوروز في غسق الضحى أوائل ورد كن بالأمس نوما
يفتقها بـــرد الندى فكأنما يبث حديثـــــا كان قبل مكتما
فمن شجــر رد الربيع لباسه عليه كما نشرت وشيا منمنما
أحل فأبدى للعيون بشاشة وكان قذى للعين إذ كان محرما
التعريف بأبي تمام
ولد أبو تمام حبيب بن أوس الطائي في قرية (جاسم) بالقرب من دمشق سنة 188هـ ، التحق بكُتَّاب القرية ليتعلم القراءة والكتابة، ولكنه كان يعمل بمهنة الخياطة، ليساعد أباه وفي غمرة انشغاله بالعمل لم ينس أبدًا حبه للعلم والتعلم، فكان يتردد عقب انتهائه من العمل على حلقات الدرس في مساجد مدينة دمشق بعد فقد كان أبو تمام يهوى الشعر والأدب..
رحل إلى مصر، فأقام في مسجد عمرو بن العاص، وقضى بها خمس سنوات، كان يعمل خلالها في سقاية الماء، كما كان يتعلم من خلال استماعه للدروس التي تعقد في المسجد، فألمَّ بالفقه والتاريخ والشعر والحديث والفلسفة، ولكنه كان يميل إلى الأدب والشعر.
وتفتحت موهبة أبي تمام في نظم الشعر، فأخذ يتكسب به، لكنه مع ذلك لم يحقق ما كان يرجوه من تحسين أحوال معيشته، فانصرف أبو تمام إلى الرحلات، وأخذ ينشد الشعر في شتى البلاد، فذاع شعره وانتشر، حتى سمع به الخليفة المعتصم، فاستدعاه وقربه منه، فكان ذلك فاتحة خير عليه وتحسنت حالته، وأخيرا استقر به المقام في الموصل؛ فظل بها حتى توفي بها في عام 231هـ


من أهم الافكار النقدية الواردة في النص
نجد اهمها في الطبع والتكلف الذي قام في العصر العباسي لنتيجه ثنائيه مدرستان, اولهما: مدرسة المطبوعين. وعلى رأسهم البحتري. والاخرى: مدرسة المتكلفين,وفى مقدمتهم ابو تمام, وطال النقاش حول الشاعرين واتجاههما, وعناصر الطبع والعفويه عند البحتري, وأسباب التكلف وأدخال المنطق والاقيسه العقليه في الشعر عند ابي تمام . وقامت الدراسات وألف الامدي كتاب الموازنه بين الطائيين. ومما قاله فيه: ( أنا أذكر بأذن الله الان في هذا الجزء المعاني التي يتق فيها الطائيان فأوزان بين معنى ومعنى وأقول أيهما أشعر في ذلك المعنى بعينه, فلا تطلبني أن اتعدى هذا الى أن أفصح لك أيهما أشعر عندي على الاطلاق فأني غير فاعل ذلك........ وأن أبتدىء بما سمعته من أحتجاج كل فرقه من أصحاب هذين الشاعرين على الفرقه الاخرى عند تخاصمهم في تفضيل أحدهما عن الاخر))
فمهما اوغلنا في النقاش حول التكلف والطبع في الشعر تبقى لابي تمام والبحتري قصائد جيده وأخرى لا تماثلها مستوى وثالثه بين بين, ويقرأ الناس لهذا وذاك ويعجبون ويرفضون, ولم يتغير الذوق الادبي والمفاهيم الشعريه السائده أيام المعتصم عنها أيام المتوكل2 فالقضيه نوع من التقسيم والتصنيف والتحديد وهيمنة النقاد على الذوق الادبي.
هناك شعر جيد صادر عن تجربه وفهم وصدق وموهبه عالميه, لا تملكالا ان تعجب به تطرب, وهناك شعر آخر مصطنع بارد لاتخفى على القارىء عوامل الضعف فيه ولا يخلو شعر شاعر من قوة وضعف وصدق وأفتعال.

وهذا ينسب على ابي تمام والبحترى والشعراء الذين وصفوا بالمطبوعينوالمتكلفين
المسأله اذن هي مصطنعه لاثارة المعارك الادبيه وهي متكلفه أصلا ولا تستدعي عناءا كبيرا وأن استمر الحديث عنها أحقابا طويلة
عمود الشعرلدى البحتري
لعل أبرز ما يميز البحتري من سابقيه المحدثين أنه في عرف النقاد القدماء "ما فارق عمود الشعر، وطريقته المعروفة"(إذ هو في نظرهم النقدي شاعر مطبوع، تهش النفس لنسيبه، والقلب يعلق به، والهوى يسرع إليه لأن في شعره يعرف الفرق بين السمع المنقاد والأبي المستكره، لصدوره عن عفو خاطره وأول فكرته). فهو نموذج للسهل على الشاعر المطبوع ، الممتنع على غير المطبوعين، من مثل قوله

أُلام على هواك وليس عدلاً إذا أحببت مثلك أن أُلاما
أعيدي في نظرة مستثيب توخى الأجر أو كره الاثاما
تري كبداً محرقةً وعيناً مؤرقةً وقلباً مستهاما
تناءت دار علوة بعد قربٍ فهل ركبٌ يبلغها السلاما
وجدد طيفها عتباً علينا فما يعتادنا إلا لماما
وربت ليلةٌ قد بت أسقى بعينيها وكفيها المد اما
قطعنا الليل لثماً واعتناقاً وأفنيناه ضماً والتزاما
إذ لا يرى القدماء في مثل هذا الأسلوب الشعري المطبوع ما يتعارض ومقومات الشعرية الشفاهية، التي تتطلب المعنى المألوف المتواضع عرفياً على حمده وتنأى عن المعنى المبتذل وتألف الألفاظ التي ألف الشعراء تداولها وكان للشعر ألفاظاً مخصوصة فلا تجد في المطبوع على الشعر لفظاً مشهراً (عامياً) مستعملاً، إنما يصدرها الطبع عن أول فكرته وعفو خاطره، فلا تحس صنعة وإبداعاً ولا تدقيقاً أو أغراباً "ثم تأمل كيف تجد نفسك عند إنشاده، وتفقد ما يتداخلك من الارتياح، ويستخفك من الطرب إذا سمعته، وتذكر صبوة إن كانت لك، تراها ممثلة لضميرك، ومصورة تلقاء ناظرك فابي تمام هنا يعنى بالجانب العاطفي الذي يبثه الشاعر في خلال خطابه الشعري، إذ يعمل ابي تمام على استقصاء الكثافة الشاعرية المشحون بها النص الشعري، كونه استعمالاً نوعياً خاصاً للغة، تعمل الظواهر المتشكلة في خلال هذا الاستعمال النوعي على التأثير في المتلقي جمالياً، ولكن المهم هنا، أن المنحى الجمالي الذي يتأثر به المتلقي عند ابا تمام هو الشكل الفني الذي هيمن عليه الحس وتلقاه على عفو طبع وأول خاطر في خلال مباشرة ووضوح تكشفان عن تجربة في إنتاج اللغة الشعرية في حدود المتواضع عليه من الآخر أكثر من الكشف عن تجربة الذات الشاعرة، التجربة هنا مكشوفة في كلام شعري معناه في ظاهر لفظه، تخييله يجعله قريب المآخذ في معناه، بعيداً عن المجاز الذي يعمل على التأويل أو التدبر العقلي.
ولما كانت مقومات الأسلوب الشعري عند البحتري صادرة عن هذا الاتجاه الذي نصح به من معلمه ابا تمام، من توخ للمعنى المقبول عقلاً والمدل على فهم لما ارتضاه الجمع فهو يندر أن يخرج على الإجماع، ومن قصد للفظ الجزل الخاضع لمقومات اللغة القياسية، ليكشف في خلاله عن طبع اعتاد على تداول التراث الشعري السابق حتى صار التطبع على التراث طبعاً فيه، ولما قال شعره بوحي من ذلك الطبع فإن خروجه على العرف السابق صار نادراً ومن هنا فهو ملتزم به، في سائر المقومات الجمالية لأسلوبه الشعري، إذ هو في لغة الوصف يكشف عن ذكاء في إصابة الموصوف وحسن تمييز بين ما يمكن أن يرتضيه العرف وما ينأى عنه الذوق السائد، وكأن رواية التراث الشعري السابق هي باعث الذكاء في وعيه، وإدمانه على استعمال المروى قد خلق في روحه أو وعيه ذكاءً وحسن تمييز وفطنة وحسن تقدير، تتشكل في ضوئهما فطنته في الخلق الشعري، ومقدرته الشعرية في الشكل الفني، على نحو تخلق فيه إدامة الدربة وطول الممارسة، طبعاً كأنه طبع الأوائل الذين قالوا عن فطرة لغوية لم يكن كلامهم الشعري ليصدر عن غيرها، فكأنه هنا يمتلك حيازة لسانية تؤهله لأن يكشف في خلال شعره عن قربه من الأصل.
لكن هذا القرب من الأصل عند البحتري الذي جعله غير مفارق لعمود الشعر وطريقته المألوفة، إذا لم يحقق لنفسه عبره تفرداً في الأسلوب الشعري، فسيكون إلى التقليد الجامد أقرب منه إلى التجديد المتغير.
ولما كان الذين رأوه ملتزماً بطريقة القدماء إما من اللغويين الذين يرون في القدماء أصلاً يستشهد بهم في اللفظ، والمحدثين فرعاً يستشهد بهم في المعاني على أحسن الحالات وإما من النقاد الذين يحتكمون في نقدهم إلى الشعر الجاهلي بوصفه كلام شعراء الجاهلية على أنه اللسان العربي، ويطلبون إلى المحدثين أن يصدروا عن مقومات الشكل الفني للشعر الجاهلي، على أنها مقومات الشكل الشعري الذي يمثل اللسان العربي وهذا إغفال لسمة التغيير التي يتصف بها الخطاب الشعري، فقد عدوا جيل الشعراء المحدثين السابقين، أقل التزاماً بعمود الشعر القديم، لأنهم نظروا في أساليب شعرهم إلى سمة التغير التي تميز الخطاب الشعري من جهة وتكشف عن تفرد كل شاعر بأسلوبه الخاص، من جهة أخرى لكن اللافت للنظر أن هذا التفرد في الأسلوب كلما كان كبيراً كان صاحبه مفسداً للشعر، لأنهم ينظرون إليه بالقياس إلى الشكل الشعري السابق فإذا "كان هذا شعراً فما قالته العرب باطل أي إذا كان هذا التغيير مأخوذ به مقبول، فما قالته العرب لا يقتضي الاتباع وعدم الاتباع يشير إلى البعد عن الأصل غير المتبع والأخذ بأسلوب جديد. وكما الأمر متصل بطريقة استخدام اللغة، فقد كان أبرز محاولة تحديث عن المحدثين استهدفت الخروج بالشعر من إطار وصف حياة جاهزة إلى حياة ومعان جديدة(كأن حداثة الشعر العربي بعد أبي نواس وأبي تمام اكتملت من جهة المضمون أو المحتوى ومن جهة الشكل الفني بكل مقوماته ولا سيما المجاز ومنه الاستعارة، وحين كان الشكل الفني معبراً عن أسلوبية النص الشعري وكاشفاً عن مقوماته الجمالية، وموحياً بالدلالة على ذائقة جديدة تغاير النص القديم ولا أقول تضاده، فقد قامت قائمته على النقد التطبيقي المحتكم إلى مقومات العمود الشعري القديم ناظراً إلى جانب التقليد فيها لا إلى جانب التجديد، لإبراز الشعراء الذين التزموا عمود القدماء شعرياً، وإخراجاً لغير الملتزمين بدائرة العمود فكانت المقارنة على أشدها بين أبي تمام الذي "انفرد بمذهب اخترعه وصار فيه أولاً وإماماً متبوعاً، وشهر به، حتى قيل: هذا مذهب أبي تمام، وطريقة أ بي تمام. وسلك الناس نهجه واقتفوا أثره) وبين البحتري الذي وصف عندهم بأنه "أعرابي الشعر مطبوع، وعلى مذهب الأوائل، وما فارق عمود الشعر المعروف، وكان يتجنب، التعقيد، ومستكره الألفاظ، ووحشي الكلام
والواقع أن عمود الشعر، بوصفه طريقة القدماء في الخلق الشعري، يكشف عن وجهين نقديين، الأول مباشر يشير إلى اتباع مقولاته أو مقوماته تقليداً، على نحو شبه جامد، والثاني إيحائي يكشف عن أن النظر المتأمل في النصوص التي ظهر العمود أثر تلقيها يدلل على أن روحية الفن غير الخاضعة للتقيد المطلق والتي صدر في ظلها النص الشعري الأول هي ما يجب أن ننظر إليه ونستوحيه، مستلهمين بواعثه على الخلق الشعري تلك التي لا تلغي شخصية الشاعر في خلال أسلوبه إنما تكشف عنها.
ولما صدر اللغويون والنقاد في قراءة النص الأول عن العناية القصوى ببنيته اللغوية من جهة الالتزام بالقواعد والأعراف القياسية للفظ الشعري، لفظاً وتركيباً، فقد كان رأيهم في عمود الشعر القديم معتمداً على الأخذ بالوجه التقليدي الأول وبوحي منه كانوا يقرؤون شعر البحتري الشاعر الأعرابي المطبوع كما يصفونه وهذا ما تكشف عنه قراءة شعره في خلال مقومات عمود الشعر.

شرح الــــــــــــــــــــــــنص

لما اراد البحتري صقل موهبته الشعرية وتهذيبها رحل الى حمص حيث كان ابو تمام فعرض عليه شعره واتصل به يتعلم منه واخذا بنصائحه المستنبطة من مسيرته الادبية وخبرته الشعرية في كتابة الشعر بما يلائم الزمان والمكان ويعجب الناس والنقاد بهدف تيسير الحال وراحة البال
وكان أول ما قال له ابو تمام : يا أبا عبادة تخير الأوقات أنسبها اليك وانت قليل الهموم صفر من الغموم أي لا تحمل هم الدنيا ولا متاعبها فلا تتغلب عليك ولا تؤثر فيك وأنت تكتب .وخير هذه الاوقات وقت السحر لما فيه من راحة الجسم والنفس.
وزاده يقول :
فاذا اردت النسب فاجعل اللفظ رقيقا والمعنى رشيقا أي الاخذ ببساطة الافكار من السهل الممتنع الجميل والممتع. واكثر فيه من بيان الصبابة وتوجع الكآبة وقلق الاشواق ولوعة الفراق لغرض التاثير في السامعين .واذا اخذت في مدح سيد ذي اياد فاشهر مناقبه واظهر مناسبه واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة الى حسن نظمة. فان الشهوة نعم المعين وجملة الحال ان تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين فما استحسنه العلماء فاقصده وما تركوه فاجتنبه
فكان بذلك شعره كله بديع المعنى، حسن الدّيباجة، صقيل اللفظ، سلس الأسلوب، كأنهُ سيل ينحدر إلى الأسماع مجودًا في كل غرض سوى الهجاء ، ولذلك اعتبره كثير من أهل الأدب هو الشاعر الحقيقي.

الخاتمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــة
مهما اوغلنا في النقاش حول هذا النص النقدي لاسلوب الشعرالمتبع والموصى به من ابي تمام للبحتري فقد تبقى للشاعرين قصائد جيده وأخرى لا تماثلها مستوى وثالثه بينهما, ويقرأ الناس لهذا وذاك والنقاد يعجبون ويرفضون, فلم يتغير الذوق الادبي والمفاهيم الشعريه السائده أيام المعتصم عنها أيام المتوكلة. فالقضيه نوع من التقسيم والتصنيف والتحديد وهيمنة النقاد على الذوق الادبي.
هناك شعر جيد صادر عن تجربه وفهم وصدق وموهبه عالميه, لا تملك الا ان تعجب به و تطرب, وهناك شعر آخر مصطنع بارد لاتخفى على القارىء عوامل الضعف فيه ولا يخلو شعر شاعر من قوة وضعف وصدق وأفتعال.
وهذا ينسب على ابي تمام والبحترى والشعراء الذين وصفوا بالمطبوعين والمتكلفين






المراجع والمصادر

أعلام الشعراء العباسيين الطبعة : 259.
للمؤلف:سلمان هادي الطعمة
منشورات دار المعارف الافاق الجديده. بيروت
.
موسوعة عباقرة الأسلام (في العلم والفكر والأدب والقيادة) .
للمؤلف: الدكتور محمد أمين فرشوخ
دار الفكر العربي. بيروت
.
الجامع في تاريخ الأدب العربي.. الأدب القديم.
للمؤلف: حنا الفاخوري
.
كتاب تاريخ الأدب العربي.
للمؤلف: أحمد حسن الزيان

omarzant
2012-10-31, 22:38
قضية
الطبـع والتكـلف
فى التراث النقدى والبلاغى
قراءة جديدة


الدكتور
عيد بلبع

أستاذ البلاغة والنقد
كلية الآداب ـ جامعة المنوفية


الطبعة الأولى
1995






بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن دراسة قضية الطبع والتكلف التى نطرحها فى هذه الصفحات إنما هى محاولة تحديث ، وليسـت محـاولة رصد تاريخى أو تفسير أو حتى نقد، فهى أقرب إلى النقض ؛ لأننا لانبدأ فيها من حيث انتهى التراث ، بل نبدأ فيها من حيث بدأ ، فطول التأمل وتتبع القضية فى وجودها التراثى التاريخى يضع بين أيدينا حقيقة مؤداها : صلاحية المنطلقات وفساد الإجراءت ، والقراءة الناقضة التى نحن بصددها هادمة بانية فى آن واحد ، تؤكد امتلاكنا لهذا التراث بوعى وموضوعية ، وتدفع عنا مظنة الحذر والإشفاق على هذا التراث من الضياع أو الانصهار ، التى قد تؤدى فى نهاية الأمر إلى أسيجة كثيفة مــن العقــم الفكـرى والجمــود والتقوقــع فى اختناقــات الاتباعية ، التى تستهلك الزمان والإنسان بمحاولاتها التبريرية للإقناع بأحقية ما كان - فى ظل ظروف وملابسات بعينها ـ فى الكينونة الآن ، وفى ظل ظروف وملابسات مغايرة تماماً .
وفى مستهل هذه المحاولة أود أن أنفى أمرين عنها :
الأول : أنها ليست محاولة تعسفية لربط مقولات تراثية بمقولات حداثية ، فليس الهدف هنا هو إلصاق صفة الحداثة بالمقولات النقدية التراثية ، لأن محاولتنا هذه تأصيل لرؤية جديدة تنطلق من قضية الطبع والتكلف التراثية ، ولكنها تتجـاوز هـذه المنطلقات ، ولا تتنكر للمناهج النقدية الحديثة بل تستخدم العديد من مقولاتها فى محاولة التأصيل لثنائية الطبع والتكلف بوصفها رؤية نقدية ، ظلت حكماً نقدياً له حضوره الذى لاينكر فى التراث النقدى والبلاغى عند العرب حتى العصر الحديث .
والثانى : أننا لانهدف هنا إلى استقصاء المقولات النقدية الحديثة بمناهجها المختلفة ، كما أننا لانهدف إلى استقصاء مقولات منهج بعينه ، لأن هذه المناهج ليست ـ هنا ـ هدفـاً فى ذاتها ، لذلك نكتفى ـ وفق ما يقتضيه البحث ـ بالمقولات التى ترتبط بالقضية ارتباطاً وثيقاً ، وتعين ـ من ثم ـ على إعادة الوعى بهذه القضية .
لعل أولى نقاط التلاقى تتمثل فى الهدف العام : فكما أن المناهج النقدية الحديثة التى انطلقت من الألسنية تتجه بالنقد نحو الموضوعية فإن رؤية " الطبع والتكلف " النقدية ـ بوصفها حكما تقييمياً ظل يخضع للنظرة الانطباعية الذاتية ـ يمكن إفادته من انتهاج الموضوعية ، وهذا يمثل أحد الأهداف التى تسعى إليها هذه الدراسة بتجلية الأدوات النقدية بحيث يمكن الإفادة منها فى مَوضَعة الرؤية النقدية المنطلقة من فكرة الطبع والتكلف .
إن قضية الطبع والتكلف لمن القضايا النقدية التى استحوذت على اهتمام النقاد والبلاغيين العرب القدماء ، فلا يكاد كتاب من تراثنا النقدى والبلاغى يخلو من التعرض لهذه القضية بشكل أو بآخر ، وإن تباينت الرؤى للقضية وللشعر العربى فى ضوئها ، وقد أثرت هذه الرؤى على الشعر العربى سلباً وإيجاباً ، وحسبنا أننا لانختلف الآن على أن عصوراً كاملة للشعر العربى يمكن أن توصف بأنها عصور تكلف ، فقد نتـفق على هذا الحكم عند تعرضنا للشعر من القرن السادس الهجرى حتى عصر النهضة الحديثة ، وقد يتردد هذا الحكم ويُـقنع على الرغم من عدم جلاء الرؤية فى تحديد مدلول اصطلاحى لدال التكلف ، ربما لأنه قد وقر فى أذهاننا تصور عن مفهوم التكلف من خلال التناول التراثى المتكرر ، وإن كان غير محدد المعالم ؛ لخضوعه للنظرة الذاتية الانطباعية .
لقد كانت فكرة الطبع والتكلف معياراً جوهرياً فى تمييز بشر بن المعتمر بين منازل البلغاء التى حددها فى رسالته ، كما كانت معياراً بين يدى الجاحظ فى رده على الشعوبية فى كتابه " البيان والتبيين " ، ثم كانت محاولة ابن قتيبة التنظيرية لتحديد مفهوم للطبع والتكلفسابقةً ، على الرغم مما اعتراها من الاضطراب ، وظلت الفكرة تُـتَـناقل بين نقاد القرن الثالث حكما تقييمياً ، حتى جاء القرن الرابع فلم يلتفت ناقداه المنظران : ابن طباطبا وقدامة بن جعفر ، التفاتاً ذا قيمة للقضية ، بيد أن مفهوم الشعر عند كل منهما أبان عن موقف من القضية ، بالإضافة إلى التعليقات المتناثرة التى لاتخرج عن الأحكام التقييمية التى سادت فى القرن الثالث ، ولكن ما فات هذين الناقدين تـنبه له ناقدان آخران من الذين اهتموا بالمعالجات التطبيقية ، فقد أبان عبد العزيز الجرجانى فى مستهل كتابه " الوساطة " عن رؤية متعددة الأبعاد للقضية عرض فيها لنماذج من شعر جرير وأبى تمـام والبحترى ، كما اتخذ الآمدى القضية متكأ للعديد من أحكامه التى انتشرت فى كتابه " الموازنة " .
ثم أبانت معالجات أبى هلال العسكرى للمباحث البلاغية فى كتاب " الصناعتين " عن ارتباط القضية بهذه المباحث ، بدا ذلك واضحاً فى تعليقاته المتناثرة فى ثنايا كتابه هذا .
ولا شك أن العديد من الجوانب المتصلة بهذه القضية قد تبلور عند النقاد والبلاغيين فى القرن الخامس ، فجاءت نظرة المرزوقى - فى مقدمة شرح " ديوان الحماسة " - أكثر عمقاً ونفاذاً إلى جوهر القضية ، كما كانت معالجة ابن رشيق أكثر ثراء فى رؤيته للنماذج الشعرية من خلال مفهومه القضية والتمييز بين بعض الشعراء ، وقد تناثرت الإشارات إلى القضية فى ثنايا كتابى عبد القاهر الجرجانى " أسرار البلاغة " و " دلائل الإعجاز " .
وظلت الملاحظات فى الكتب النقدية والبلاغية تدور حول هذه المفاهيم حتى جاء حازم القرطاجنى ، فَنَفَذَ إلى العديد من الجوانب التى لم ينفذ إليها أحد من سابقية ، فى كتابه " منهاج البلغاء وسراج الأدباء " ، فقد تعرض للعوامل المهيئة للإبداع داخلية وخارجية ، كما جاء حديثه عن الفطرة والاكتساب ذا صلة حميمة بمقولات الدراسات النفسية الحديثة عن عملية الإبداع الفنى ، وما حديثه عن " الحيل الشعرية " سوى كشف لأسباب الصنعة والتجويد الفنى ليبلغ الإبداع مبلغه من التأثير فى المتلقى .
وفى أثناء هذه الفترات ظهرت أقوال وتعليقات عند بعض الفلاسفة الذين عرضوا لمسائل فى الأدب ومن أهمهم : الفارابى " فى رسالته فى قوانين صناعة الشعراء " ، وابن سينا فى " فن الشعر " من " كتاب الشفاء " ، وابن رشد فى " تلخيص الشعر " ، ولايكاد يخلو كتاب فى التراث العربى تناول قضية الشعر - بصورة أو بأخرى - من ذكرالطبع والتكلف أو الطبع والصنعة ، وإن اختلفت المفاهيم فى استعمالات هذه المصطلحات ووصلت إلى حد التباين أحياناً .
وقد ظل هذا التباين والتفاوت السمة الغالبة على أصداء هذه المعالجات التراثية فى الدراسات الأدبية الحديثة ، فوقف الباحثون والنقاد المحدثون من القضية مواقف شتى .
لقد سار المحدثون - فى مستهل هذا القرن - على نهج القدماء فاستعملوا مصطلحات القضية دون تحديد لمفاهيم هذه المصطلحات ، معتمدين فى معالجاتهم على الذوق والانطباعات الذاتية ، فتناثرت الأحكام فى مؤلفات د. طه حسين بالطبع أو التكلف وخصوصاً كتابيه فى " الأدب الجاهلى " ، و" مع المتنبى " ، كما اعتمد " عباس العقاد " على ثنائية الطبع والتكلف فى التمييز بين شعراء مصر فى كتابه " شعراء مصر وبيئاتهم فى الجيل الماضى" ، وعلى الرغم من منهجيه د. محمد مندور فى كتابه " النقد المنهجى عند العرب " فإن تعرضه للقضية لم يخل من أسر الاضطراب الذى انتشر فى كتب التراث ، وقد وقف د. شوقى ضيف موقفاً مغايراً من القضية ، حيث أعلن عن زهده فى جدواها فى كتابه " الفن ومذاهبه فى الشعر العربى " ثم عاد وقسم فصول كتابه هذا على هدى من معطيات القضية ذاتها ، إذ قسم المذاهب إلى : الصنعة والتصنيع والتصنع .
ولكن ذلك لم يحل دون ظهور بعض المعالجات التى اهتمت بتحليل موقف القدماء من هذه القضية ، منها تناول د. محمد مصطفى هدارة الصنعة عند شعراء القرن الثانى الهجرى بالدراسة فى فصل من كتابه " اتجاهات الشعر العربى فى القرن الثانى الهجرى " ، وقدكشفت هذه الدراسة عن ملاحظات هامة فى تناول القدماء قضية الطبعوالتكلف ، كما أفرد د. عثمان موافى فصلا فى كتابه " الخصومة بين القدماء والمحدثين " عرض فيه أراءهم فى القضية ، كما أشار إلى التضارب الذى ساد هذه المفاهيم ، وتعد هذه الدراسة- مع إيجازها - من أوفى المعالجات الحديثة للقضية .
كما تناول د. عبد الفتاح عثمان القضية فى فصل من كتابه " نظرية الشعر " ، ولكنه جاء امتداداً للعديد من المفاهيم المتضاربة المضطربة فى النقـد القديـم ، ولعل آخر هذه الدراسات ما نشـر فى مجلة عالـم الفكـر عــدد ( يناير - يونيو 1994 ) ، بعنوان " جودة الشعر عند نقاد القرن الرابع الهجرى بين الطبع والصنعة " للدكتور محمد الحافظ الروسى .
ولعل هذا العرض الموجز يلـقى بعض الضوء على تاريخ القضية فى التراث النقدى والبلاغى ، والدراسات الأدبية الحديثة ، وإذا كان الخلط والاضطراب الذى ساد معالجة القضية أو معالجة الشعر العربى فى ضوئها من أهم العوامل التى لفتتـنى إليها وحفزتنى لاستقرائها ، فإن الهدف من الدراسة قد تجاوز هذا الملمح إلى آفاق أخرى ، أرجو أن أكون قد وفقت فيها إلى إكساب القضية خصوبة وثراء بإعادة قراءتها وفق رؤية نقدية جديدة .
وفيما يلى أضع بين يدى الدراسة تمهيداً يضم مبرراتها وتحدياتها ومنهجها وأهم أهدافها .

omarzant
2012-10-31, 22:42
معجمية سنة 2 ادب عربي



اللغة خاصية إنسانية ينفرد بها الإنسان عن غيره من الكائنات وهي في أبسط وأوجز تعريفاتها:(أصوات يعبر بها كلّ قوم عن أغراضهم).
وتعدّ الكلمة هي المادة الأساسية في المعجم اللغويّ ومن هنا عُرِّف المعجم اللغويّ بأنّه (كتاب يضم بين دفتيه أكبرعدد من مفردات اللغة مقرونة بشرحها، وتفسير معانيها،على أن تكون المواد مرتبة ترتيباً خاصاً، إما على حروف الهجاء أو الموضوع، والمعجم الكامل هو الذي يضم كل كلمة في اللغة مصحوبة بشرح معناها واشتقاقها وطريقة نطقها وشواهد تبيّن مواضع استعمالها).
لذا كان تدوين المعجم ضرورة لغويّة لكل مجتمع متقدم، ليتمكن أفراده من معرفة الكثيرمن المعلومات التي توضح ما يحيط بالمادة الأساسية فيه ألا وهي الكلمة.
أما المادة في عُرْف اللغويين فكل ما يكون مدداً لغيره ومادة الشيء أصوله وعناصره التي منها يتكون حسيّة كانت أو معنوية ومواد اللغة ألفاظها.
وعلى الرّغم من وضوح الكلمة ومفهومها في الذهن إلا أن الخلاف بين علماء اللغة – قدماء ومحدثين – كبير جدّا في تحديد ماهيتها حيث إن للكلمة جوانب متعددة يمكن النظر إليها، كالجوانب الصوتيّة أو الصرفيّة أو النحويّة أو الدلاليّة ومن ثمّ تعددت التعريفات، وواجه كلّ تعريف منها نقداً من علماء اللغة على اختلاف مدارسهم..
فالكلمة عند النحاة من علماء العربية هي: (اللفظة الدّالة على معنى مفرد بالوضع) ، وهي (لفظ وضع لمعنى مفرد) وهي (قول مفرد مستقل أو منوي معه). وقد حدد ابن يعيش الشروط الواجب توافرها في مفهوم الكلمة العربيّة وهي:الصوت والمعنى أو الوضع ثمّ الاستقلال بدلالة محددة.
ولكن هذه الحدود والتعريفات غير دقيقة - في نظر بعض المحدثين - لأسباب أهمها:
1-أنها لاتفرق بين الصوت والحرف.
2-أنها تخلط بين الوظيفة اللغويّة والمعاني المنطقيّة.
3-أنها لاتفرق بين وجود الكلمة وعدمها في التعريف.
أما الكلمة عند المحدثين فهي: (أصغر صيغة حرّة) ، وهي:(ربط معنى ما بمجموعة من الأصوات صالحة لاستعمال جراماطيقي ما) ، وهي: (جزء من الحدث الكلاميّ له صلة بالواقع الخارج عن اللغة، ويمكن اعتبارها وحدة غير قابلة للتقسيم، ويتغيّر موضعها بالنسبة لبقية الحدث الكلاميّ).
وخلاصة القول أنّ ثمّة معايير ينطلق منها المحدثون في تصورهم لماهيّة الكلمة من أهمها:
1- معيار الدلالة وهوالذي قامت على أساسه المعاجم اللغويّة والكلمة بهذا المعيار هي التي تدل على معنى ما.
2- معيار الشكل والكلمة بهذا المعيارامتداد صوتي محدد يحافظ على شكله واستقراره حيثما وقع في الجملة ويشغل فيها وظيفة نحويّة.
3- معيار ثلاثي وفحواه أنّ الكلمة تشتمل على جوانب ثلاثة هي: الصوت، الدلالة، الوظيفة النحويّة.
غير أن كلّ معيار من هذه المعايير- قديمها وحديثها - لا يخلو من النقص والاضطراب عند التطبيق، ومن هنا آثر تمام حسّان تعريف الكلمة العربية بأنّها: (صيغة ذات وظيفة لغويّة معينة في تركيب الجملة، تقوم بدور وحدة من وحدات المعجم، وتصلح لأن تُفْرَدَ، أو تُحْذَفَ، أو تُحْشَى، أو يُغَيَّرَ موضعها، أويُسْتَبْدَل بها غيرها في السياق وترجع مادتها غالبا إلىأصول ثلاثة وقد تلحق بها زوائد).
ويرى أحد الباحثين أنّ علماء المعاجم ينطلقون من وجهة نظر تخالف غيرهم من العلماء، ولذلك لم يحاولوا البحث عن تعريف نظريّ للكلمة، وإنّما انصرفوا إلى تحديد ماهيتها من الناحية العملية؛ لأنّ مهمة المعجم اللغويّ هي بيان وشرح معاني الكلمات سواء من ناحية المبنى أم المعنى.


وهذا ما نلحظه في ضوء ترتيب المعاجم العربية القديمة؛ إذ يدل ذلك على إدراك المعجميين العرب لجانبين مهمين في طبيعة الكلمة، وهما جانب اللفظ، وجانب المعنى، وقد نتج عن ذلك ظهور نوعين من المعاجم اللغويّة هما:
أ- معاجم الألفاظ: وهي المعاجم التي تضم أكبر عدد من مفردات اللغة مقرونة بشرحها وتفسير معانيها ومرتبة ترتيبا خاصا، والمعجم الكامل هو الذي يضم كل كلمة في اللغة.
وأول هذه المعاجم معجم (العين) المنسوب إلى الخليل بن أحمد الفراهيديّ (ت170ه) رحمه الله، ثمّ توالت بعد ذلك معاجم الألفاظ كالجيم لأبى عمرو الشيباني (ت 206ه)، والجمهرة لابن در يد (ت321 ه)، والبارع للقالي (ت 356ه)، وتهذيب اللغة للأزهريّ(ت370ه)، والمحيط للصاحب ابن عباد (ت 385ه)، ومقاييس اللغة والمجمل لابن فارس (ت395 ه)، والصحاح للجوهريّ (ت 400 ه)، والمحكم لابن سيّده (ت458 ه)، وأساس البلاغة للزمخشريّ (ت 538 ه)، والعباب للصاغانيّ (ت 650ه)، ولسان العرب لابن منظور (ت 711 ه)، والقاموس المحيط للفيروزآ باديّ (ت817ه)، وتاج العروس للزَّبيديّ (ت1205ه)
ب- معاجم الموضوعات: وهي التي ترتب الألفاظ اللغويّة حسب الموضوع أو المجال اللغويّ، أي أنّ المعجميّ يجمع الألفاظ المتصلة بمجال معين كخلق الإنسان مثلا للأصمعيّ، والمطر لأبي زيد الأنصاريّ، والبئر لابن الأعرابيّ، والنخل لأبي حاتم السجستانيّ، ونحوها مما نظم تحت مجال واحد، وقد لقي هذا النوع من التأليف عناية كبيرة عند القدماء بدأ بما يسمى بالرسائل اللغويّة،وانتهى بالموسوعات الموضوعيّة كا لغريب المصنف لأبى عبيد (ت223ه)، والمنجد لكراع النمل (ت310ه) والمخصص لابن سيده (ت458ه). ويلاحظ مجال التنافس بين القدماء كان واضحا بالنسبة للنوع الأول (معاجم الألفاظ) حيث ظهرت عندهم عدّة طرق للترتيب المعجميّ - كما سنبينه في موضعه - بخلاف النوع الثاني (معاجم الموضوعات) حيث لم توجد عندهم إلا طريقة واحدة وهي الترتيب حسب الموضوع أو المجال.

طرق معالجة المادة المعجميّة
جمع المادة المعجميّة
لا يمكن الحديث عن جمع المادة المعجميّة بمعزل عن جمع المادة اللغويّة حيث كانت العناية الأولى بجمع المادة اللغويّة استجابة إلى ما توجبه المحافظة على القرآن الكريم وتفهم معانيه من حفظ مادته اللغويّة وما ترمي إليه من دقيق الدلالة والمغزى وصحيح المبنى والمعنى
وعلى ضوء ذلك شمّرالأوائل من أئمة اللغة فأخذوا يجمعون اللغة وكان هدفهم الأول جمع الكلمات الغريبة وتحديد معانيها، ويعدّ (المربد) بالبصرة أول محطة رأى فيها العلماء وطلاب العربية تحقيق ذلك الهدف حيث كان (المربد) من أسواق البصرة التي يقصدها الأعراب للمتاجرة ولتبادل المنفعة، وربما حضر بعضهم وليس عنده سلعة يبيعها ولا رغبة في شراء وإنّما جاء ليشبع رغبته في القول والإنشاد واستماع الشعر والأخبار كما هي عادة العرب في أسواقها. وكان أهل البصرة يخرجون إلى هذه السوق وبينهم فئة من رواة اللغة وطلابها جاءوا ليدونوا ما يسمعون عن هؤلاء الأعراب ، وكان من بين هؤلاء الفئة الأصمعيّ؛ إذ يقول:
(جئت إلى أبى عمرو بن العلاء فقال: من أين جئت يا أصمعي، قلت: من المربد. قال: هات ما معك، فقرأت عليه ما كتبت في ألواحي، ومرّت به ستة أحرف لم يعرفها فأخذ يعدو في الدّرجة قائلاً: شمّرت في الغريب ياأصمعيّ)
وعندما أحسّ الأعراب بالحاجة إليهم أخذوا يرحلون إلى الأمصار فرادى وجماعات يعرضون بضاعتهم من اللغة، ويتلقاهم العلماء للسماع عنهم ويتنافسون في الأخذ منهم حتى أصبحت اللغة سلعة غالية يبيعها الأعراب ويشتريها الرواة في (المربد) بالبصرة وفي (الكناسة) بالكوفة، بل إنّ منهم من اتّخذ التعليم مهنة له كأبي البيداء الرياحي الذي كان يعلم الصبيان بأجر. ومنهم من ألّف الكتب كأبي خيرة الأعرابيّ الذي ألف كتاباً في الحشرات وآخر في الصفات.
وكان أبو مهدي والمنتجع من أبرز الأعراب الذين يُتَحَاكَمُ إليهم، كلّ يمثل لهجة قومه؛ يقول الأصمعيّ:
(جاء عيسى بن عمر الثقفيّ ونحن عند أبي عمرو بن العلا ء فقال يا أباعمرو: ما شيء بلغني عنك تجيزه؟ قال: وما هو؟ قال بلغني أنك تجيز ليس الطيب إلا المسك (بالرفع) فقال أبوعمرو: نمت وأدلج الناس. ليس في الأرض حجازيّ إلا وهو ينصب، وليس في الأرض تميميّ إلا وهو يرفع. ثمّ قال أبو عمرو: قم يا يحي- يعني اليزيديّ - وأنت يا خلف- يعني خلف الأحمر- فاذهبا إلى أبي المهديّ فإنّه لا يرفع، واذهبا إلى المنتجع ولقناه النصب فإنه لا ينصب. قال: فذهبنا فأتينا أبا المهديّ…قال اليزيديّ: ليس ملاك الأمرإلا طاعةُ الله والعملُ الصالح فقال: ليس هذا لحني ولا لحن قومي؛ فكتبنا ما سمعنا منه، ثمّ أتينا المنتجع فأتينا رجلاً يعقل، فقال له خلف: ليس الطيب إلا المسكَ (بالنصب) فلقّنّاه النصب وجهدنا فيه فلم ينصب وأبى إلا الرفع).
ولما طال مكث الأعراب في الحضرلانت جلودهم وطاعت ألسنتهم بشوائب العجمة؛ يقول الجاحظ:(كان بين يزيد بن كثوة يوم قدم علينا البصرة وبينه يوم مات بون بعيد على أنّه كان قد وضع منزله آخر موضع الفصاحة وأول موضع العجمة).
فلما ضعفت ثقة العلماء بالأعراب رحل العلماء والرواة إلى البادية بمدادهم وصحفهم ليسمعوا من أولئك الذين لم تتأثر ألسنتهم بمخالطة الأعاجم، قال أبو العباس ثعلب: (دخل أبو عمرو الشيبانيّ (إسحاق بن مرار) البادية ومعه دستيجانحبراً فما خرج حتى أفناهما بِكَتْبِ سماعه عن العرب).
وممن خرج إلى البادية الكسائيّ، ورجع وقد أنفد خمس عشرة قنينة حبراً في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ.
وكان أبوعمرو بن العلاء من أوائل الرواة الذين رحلوا إلىالبادية وأعجب بأهل السروات وعدّهم من أفصح العرب لساناً وأعذبهم لغة.
وهكذا ظل التواصل مستمراً بين الرواة والبادية وحرص العلماء على مشافهة الأعراب حتى وجدنا في أواخر القرن الرابع من يروي عن الأعراب كالأزهريّ، (ت370ه)، وابن جنيّ (ت392ه)، والجوهريّ (ت393ه) وابن فارس (ت395ه). ثمّ توقّف هذا التواصل مع نهاية هذا القرن حتى أصبحت الرواية عن الأعراب أنفسهم يشوبها شيء من الحذر، يقول ابن جنيّ: (أنا لا نكاد نرى بدوياً فصيحاً وإن نحن آنسنا منه فصاحة في كلامه لم نكد نعدم ما يفسد ذلك ويقدح فيه وينال ويغض منه).
ويرى أحد الباحثين أنّ الطبقة التي تلت الخليل بن أحمد، ويونس بن حبيب كانت من أغزر العلماء إنتاجاً، ومنهم ثلاثة رواة يعتبرون عصب الرواية في البصرة وهم: أبو عبيدة معمر بن المثنى، وأبو زيد الأنصاري، وعبد الملك بن قريب الأصمعيّ.
وقد حدد اللغويون مادة جمعهم فيما صحّ عن العرب ضمن شروط ومعايير هي:
1- شرط المكان: وهو الفيصل الذي تم بمقتضاه تحديد مواطن الفصاحة في وسط الجزيرة العربية دون بقية أطرافها التي كانت على صلة بالأمم الأخرى، وفي بواديها دون الحواضرالتي كانت تعجّ بحركة الوافدين عليها من خارج الجزيرة أو من أطرافها بقصد التجارة ونحوها.
2- شرط الزمان: وهو الفيصل الذي تم بمقتضاه تحديد عصورالفصاحة عند منتصف القرن الثاني الهجري بالنسبة للاحتجاج باللغة الأدبية وخاصة لغة الشعر، ونهاية القرن الرابع الهجري بالنسبة للاحتجاج باللغة الشفوية المنقولة عن الأعراب.
3- شرط الفصاحة وهو الشرط الذي تم بمقتضاه الحكم على فصاحة اللفظ إذا ثبتت نسبته إلى عربيّ قحّ سواء بالمشافهة أو الرواية الصحيحة وذلك العربي القحّ هو من انطبق عليه شرط الزمان والمكان السابقين.
وعلى ضوء هذه المعاييرعُدّ كلّ ما خالف ذلك مولداً، فَقُسِّم الشعراء إلى طبقات، والقبائل إلى درجات، أعلاها قبيلة قريش؛ يقول ابن فارس: (أجمع علماؤنا بكلام العرب والرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالّهم: أنّ قريشاً أفصح العرب ألسنة وأصفاهم لغة…وكانت قريش – مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها-إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم فصاروا بذلك أفصح العرب…ألا ترى أنّك لا تجد في كلامهم عنعنة تميم ولا عجرفيّة قيس ولا كشكشة أسد ولا كسكسة ربيعة…)
ويقول الفارابي: (كانت قريش أجود العرب انتقاداً للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق وأحسنها مسموعاً وأبينها إبانة عمّا في النفس).
و يقول وهو يرتب درجة الفصاحة: (والذين عنهم نقلت اللغة العربية وبهم اُقْتُدِيَ وعنهم أُخِذَ اللسانُ العربي من بين قبائل العرب هم: قيس وتميم وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتّكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثمّ هذيل وبعض كنانة وبعض الطّائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم، وبالجملة فإنّه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم التي تجاور سائر الأمم الذين حولهم، فإنّه لم يؤخذ لا من لخم ولا من جذام فإنهم كانوا مجاورين أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة ولا من غسان ولا من إياد فإنهم كانوا مجاورين أهلَ الشام، وأكثرهم نصارى يقرؤون بالعبرانية، ولا من تغلب ولا النمر فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر لأنهم كانوا مجاورين للنبط والفرس، ولا من عبد القيس لأنهم كانوا سكان البحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أزد عمان لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من أهل اليمن أصلاً لمخالطتهم للهند والحبشة ولولادة الحبشة فيهم؛ ولامن بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وسكان الطائف؛ لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم …).
ولكنّ اللغة لم تجمع دفعة واحدة، بل اتّخذ جمعها أشكالاً مختلفة قسّمها بعضهم إلي ثلاث مراحل هي:
المرحلة الأولى: جمع الكلمات كيفما اتفق فالعالم يرحل إلي البادية فَيُدَون كلّ ما سمع من غير ترتيب ولا تنظيم فيجمع كلمة في المطر وكلمة في النبات وكلمة في الخيل ونحو ذلك.
المرحلة الثانية: جمع الكلمات المتعلقة بموضوع واحد في موضع واحد، وقد توجت هذه المرحلة بظهور الرسائل اللغويّة التي عرفت بأسماءٍ من نحو: المطر، البئر، الإبل ونحو ذلك.
ويعد موضوع الحشرات أقدم الموضوعات، وأول من نسب إليه كتاب في ذلك أبو خيرة الأعرابي ثم تلاه بعد ذلك بعض اللغويين فألفوا في الموضوع نفسه ككتاب النحلة للشيبانيّ والأصمعي والذباب لابن الأعرابي ونحو ذلك.
المرحلة الثالثة: وضع معجم يضم كلّ الكلمات على نمط خاص وترتيب معين، ويعد الخليل بن أحمد - رحمه الله - (ت170ه) أول من شمّر لهذه المهمة ففتح الله على يده أعظم عمل لغويّ حيث سنّ لمن جاء بعده منهج التأليف المعجميّ فظهرت المعاجم اللغوية،التي من أبرزها: الجمهرة لابن دريد(ت321ه)، والبارع للقالي (ت356ه)، وتهذيب اللغة للأزهريّ(ت370ه)، والمحيط للصاحب بن عباد (ت385ه)، ومقاييس اللغة والمجمل لابن فارس(ت395ه)، والصحاح للجوهريّ(ت400ه)، والمحكم لابن سيده(ت458ه)، وأساس البلاغة للزمخشريّ(ت538ه)، والعباب للصاغانيّ (ت650ه)، ولسان العرب لابن منظور(711ه)، والقاموس المحيط للفيروزاباديّ(ت817ه)، وتاج العروس للزَبيديّ (ت1205ه).
ونتطرق حاليا لمعجم للدكتور عبد المنعم سيد عبد العال بعنوان

معجم الألفاظ العامية ذات الحقيقة والأصول العربية
فيقع هذا المعجم في ثلاث وتسعين وستمائة صفحة من القطع المتوسط.
بعد مقدمة الطبعة الأولى ومقدمة الطبعة الثانية لهذا المعجم يجد القارئ حديثًا بعنوان : " أصول جديدة لحروفنا العربية " ويتكلم فيه المؤلف عن التطور الصوتي لبعض أصوات العربية ، وكيف يُمَثل هذا التطور من الناحية الكتابية .
يلي ذلك دراسة لبعض القضايا اللغوية تحت عنوان : " لغويات" من هذه القضايا : القلب، والإبدال ، والنحت ، والمخالفة ، والتصغير ، والتطور الدلالي ، وتخفيف الهمزة وغير ذلك .
ثم بعد ذلك تأتي أبواب المعجم الثمانية والعشرين والتي رتبت على أساس الترتيب المشرقي لرموز الكتابة العربية وبعد هذه الأبواب يضع المؤلف مسارد للشواهد القرآنية وشواهد الحديث الشريف وشواهد الشعر العربي الواردة في هذا المعجم .
يلي هذه المسارد دليل الألفاظ الواردة في المعجم وهو دليل مرتب ألفبائيًا غير مقرون بأرقام الصفحات التي وردت فيها هذه الألفاظ .
يلي ذلك مصادر المعجم ومراجعه وقد بلغت هذه المصادر والمراجع سبعة وخمسين مصدرًا ومرجعًا . وهو في شرحه للكلمات العامية يبدأ بذكر الكلمة في العامية ثم يؤصل هذه الكلمة من الفصحى . فمثلاً يقول :
"البهرجة " نقول في دارجتنا : إن المسلمين عامة لايحبون البهرجة : أي لا يحبون الخروج عن الحد المألوف الذي تعارف الناس عليه وارتضوه نظامًا في حياتهم … وفي القاموس : "البهرجة" أن يُعْدل بالشيء عن الجادة القاصدة إلى غيرها

omarzant
2012-10-31, 22:43
مادة ادب مغربي سنة 2 ادب عربي



هو الشاعر أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن عمر الحميري الحجري المعروف بابن خميس التلمساني، أصله من اليمن، ولد بتلمسان سنة 645هـ وقيل سنة 650هـ. نشأ بتلمسان ودرس على علمائها، وعرف عنه حبه للعزلة. التقى في تلمسان الرحالة المغاربي العبدري عام 688هـ فأخرجه من عزلته وولاه السلطان أبو سعيد يغمراسن ديوان الإنشاء وأمانة سره.
لم يبق طويلاً في هذا المنصب بسبب ما لقيه من سوء معاملة في البلاط، فذهب غاضباً إلى سبتة ومدح حاكمها وتفرغ للتدريس فيها. بعدها انتقل إلى غرناطة، وتصدر للإقراء، فقربه الوزير ابن الحكيم إلى مجلسه وكانت له فيه مدائح شعرية. يعتبر ابن خميس التلمساني شاعراً كبيراً، ملماً بالأدب واللغة وأصول الفقه والمذاهب والحكمة والمنطق والطب. اشتهر ابن خميس بشعره الذي يحتوي على دعابة ونزعة دينية تصوفية، قال عنه ابن الخطيب بأنه "كان نسيج وحده زهداً وانقباضاً وأدباً وهمة عارفاً بالمعارف القديمة مطلعاً بتفاريق النحل قائماً على العربية والأصليين...". قتل ابن خميس مع ابن الحكيم عندما هوجم قصر هذا الأخير عام 708هـ

ابن خميس التلمساني:هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد التلمساني.
من أهل تلمسان وإليها نسبته.
أديب, شاعر, عالم بعلوم الأوائل, له عناية بفنون العلم والأدب والتاريخ.
قتل ظلما يوم قتل ابن الحكيم الرندي وزير السلطان أبي عبد الله محمد (الثالث) ثالث ملوك غرناطة .
فقد خلع هذا السلطان وقتل وقتل معه وزيره ابن الحكم الرندي وكان ابن خميس حاضرا فقتل مع الاثنين.
كان كاتبا بليغا, وشاعرا مجيدا, حسن الخط, خطيبا فصيحا.
رحل إلى المشرق وقضى فريضة الحج وأخذ عمن لقي هناك من الشيوخ.
اشتهر بقصيدته الغزلية التي يقول فيها:
عجبا لها أيذوق طعم وصالها من ليس يأمل أن يمر ببالها وأنا الفقير إلى تعلة ساعة منها, وتمنعني زكاة جمالها يعتادني في النوم طيف خيالها فتصيبني ألحاظها بنبالها دعني أشم بالوهم أدنى لمعة من ثغرها وأشم مسكة خالها ما راد طرفي في حديقة خدها إلا لفتنته بحسن دلالها وانقل أحاديث الهوى واشرح غريب لغاتها واذكر ثقات رجالها وانصب لمغزلها حبالة قانص ودع الكرى شركا لصيد غزالها حلت مدامة وصلها وحلت لهم فإن انتشوا فبحلوها وحلالها أنا من بقية معشر عركتهم هذي النوى عرك الرحى بثقالها جاء في نفح الطيب أن هذه القصيدة انتشرت في البلاد وحصل عليها قاضي قضاة مصر تقي الدين بن دقيق العيد وجعلها في خزانة كانت تعلو موضع جلوسه للمطالعة, فكان يخرجها من تلك الخزانة ويكثر تأملها وحين يقرؤها يقوم إجلالا لها.



من أدباء الجزائر في المائة السابعة الهجرية:

هو أبو عبد الله محمد بن خميس التلمساني شاعر مجيد، من فحول الشعراء وأعلام البلغاء. ولد بتلمسان وتقلب في بلاد الأندلس إلى أن توفي عليه رحمة الله في حاضرة غرناطة.قال عنه لسان الدين بن الخطيب في "عائد الصلة": كان رحمه الله تعالى نسيج وحده زهدا وانقباضا وأدبا وهمة، حسن الشيبة، جميل الهيئة، سليم الصدر، قليل التصنع، بعيدا عن الرياء، قائما على العربية، طبقة الوقت في الشعر، وفحل الأوان في المطول، أقدر الناس على اجتلاب الغريب.


طريفة: يروى أن الشيخ أبا إسحاق التنسي التلمساني رحمه الله رحل إلى بلاد المشرق فاجتمع هناك بقاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد عليه رحمة الله، فقال له ابن دقيق: كيف حال الشيخ العالم أبي عبد الله بن خميس، وجعل يصفه بأحسن الأوصاف، ويطنب في ذكر فضله، فبقي الشيخ أبو إسحاق متعجبا، وقال: من يكون هذا الذي حليتموه بهذه الحلي؟ ولا أعرفه، فقال له ابن دقيق: هو القائل :
عجبًا لها أيذوقُ طعمَ وصالِها*** من ليس يأملُ أن يَمُرَّ ببالِها ؟
وأنا الفقيرُ إلى تَعِلَّةِ ساعـةٍ *** منها وتمنعني زكاةَ جمالِها
فقال الشيخ أبو إسحاق: إن هذا الرجل ليس عندنا بهذه الحالة التي وصفتم إنما هو عندنا شاعر فقط، فقال له ابن دقيق: إنكم لم تنصفوه، وإنه لحقيق بما وصفناه به. ثم قام ابن دقيق العيد إلى خزانة له وأخرج هذه القصيدة، وقد كان يكثر تأملها والنظر فيها.


من شعره:
أنبت ولكن بعد طـول عتاب *** وفرط لجـاج ضاع في شبابي
وما زلت والعلياء تعني غريمها*** أعلل نفسي دائما بمتـاب
وهيهات من بعد الشباب وشرخه** يلذ طعامي أو يسوغ شرابي
خدعت بهذا العيش قبل بلائه*** كما يخدع الصادي بلمع سراب
و له قصائد جياد، ولا أعلم إن كان له ديوان شعر مطبوع أم لا.
مصادر ترجمته وفيرة، وهذه الترجمة الموجزة من"تعريف الخلف برجال السلف للحفناوي"، ص 375، بتصرف.
يجمعون: ”ابن خميس التلمساني شاعر صادق وناقد واقعي”
تناول مختصون في الحقل الأدبي أول أمس خلال المداخلة الثانية للملتقى المتعلق ”بتاريخ تلمسان الأدبي”، شخصية أدبية تركت بصمتها جلية في سماء الأدب والشعر الجزائري، حيث عاد هؤلاء ضمن ستة محاور لإماطة اللثام عن الشاعر ابن خميس التلمساني مؤلف ”الحائية”.
المميزات الفكرية التي عرف بها العلامة طوال حياته، على غرار الميزة الأدبية لا سيما الشعرية والدينية على مستوى المعنى والمبنى، وصف الشوق والحنين عند عبد الله ابن خميس التلمساني، وهو ما تجلى في أبرز قصائده المكتوبة كقصيد الحائية، التي حملت الكثير من الدلالة والتعبير، كما قدم المتحدث رؤي ابن خميس الصوفية فيما يتعلق بالمولدات النبوية عند الدولة الزيانية، التي اعتبرها عادة انطلقت من تلمسان لتشمل ربوع الوطن كافة. وأضاف ظهر هذا عند أغلب علماء تلمسان أنذاك وفي مقدمتهم العالم أبي حمو موسى، ويحيى ابن خلدون ابن خميس لعب دورا هاما في الحفاظ على التركيبة الاجتماعية للشعب، وساهم في إنقاذ الدولة الموحدية من تفشي الإنحلال الخلقي بها المستورد من الغرب، وفي ذات السياق نوه إلى الشمولية التي يتميز بها تياره الشعري الذي يخدم جملة من المجالات وبالأخص السياسية والسوسيوثقافية، نتيجة تأثير عديد العوامل النفسية والدينية.
وصف ابن خميس بالرجل المخلص والمحب لوطنه، من خلال جملة من الإشارات والمعالم التي حملتها نصوصه الشعرية معبرا فيها عن حبه لموطنه تلمسان، وكذا كثير القصائد الشعرية الدالة عن هذا العشق الوطني، بالمقابل أثارت الأديبة التونسية نقطة حساسة تتعلق بلفظ ”الغريب” عند الشاعر ابن خميس التلمساني رغم تحضره وتمدنه، حيث قالت بأنه ”يوظف الغريب في مواقع معينة وليس خارج عن المالوف كما يعتقد الغير”، مبرزة الهدف من استعماله لمثل هذه المصطلحات التي تدعو إلى الدهشة والغرابة، أنها تدل على فاعليته وشاعريته في استعراض اللغة، أما الدافع النقدي فيرمز إلى الفصاحة والبلاغة، مشيرة في نفس الوقت إلى أنً ”الغريب” اختيار منه أراد به تقوية اللغة والتعبير.
من جانبه قدم الشاعر المغربي احمد الطايع قراءة تحليلية لنصوص الشاعر ابن خميس، عالجت أشكال التناص وكذا طريقة الكتابة بمنطق تاريخي واجتماعي وتاريخي، وعلى حد قوله فإن كتاباته لا تحمل على الظن والشك، بل تدفع إلى اليقين بالواقع انطلاقا من رثائه الصادق لنفسه، كما عادت هي الأخرى أستاذة الأدب عفيفة بحري إلى واقع الكتابة الأدبية في الجزائر التي قالت عنها أنها في تغير مستمر، حيث تمتد إلى زمن طويل عرف نبوغ جملة من المفكرين من رجال الأدب الشعر والصوفية.

omarzant
2012-10-31, 22:45
مادة معجمية سنة 2


معجم أسماء الأشياء المسمى اللطائف في اللغة
أحمد بن مصطفى الدمشقي


عدد الأجزاء / 1
موضوع الكتاب
الترادف - أسماء الأشياء
________________________________________
معجم أسماء الأشياء المسمى اللطائف في اللغة
موضوع الكتاب
الترادف - أسماء الأشياء
الترادف أصله اللغوي المادى ركوب أحد خلف الآخر فيقال ردف الرجل وأردفه أى ركب خلفه وارتدفه خلفه على الدابة
فالردف هو ما تبع الشى ء وكل شى ء تبع شيئا فهو ردفه وإذا تتابع شى ء خلف شى ء فهو الترادف
ومن هذا قولهم مرادفة الجراد أى ركوب الذكر على الأنثى
ويقال لليل والنهار ردفان لأن كل واحد منهما ردف صاحبة أى يتبعه
وقد فسر قوله تعالى ) بألف من الملائكة مردفين ( ( 1 ) بمعنى يأتون فرقة بعد فرقة على رأى الزجاج وقال الفراء مردفين متتابعين
الترادف في اللغة
الترادف ألفاظ متحددة المعنى وقابلة للتبادل فيما بينها في أى سياق أى تعدد الألفاظ لمعنى واحد أى عبارة عن وجود أكثر من كلمة لها دلالة واحدة أو هو الألفاظ المفردة الدالة على شى ء واحد باعتباره واحدا وقد تنشأ ظروف في اللغة تؤدى إلى تعدد الألفاظ لمعنى واحد أو تعدد المعانى للفظ واحد ومن الترادف ما هو لهجات لقبائل مختلفة أو تناسى الفروق الدقيقة بين الكلمات
يقول سيبويه وأعلم أن من كلامهم يقصد العرب اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين واختلاف اللفظين والمعنى واحد واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين
ويقول قطرب الكلام في ألفاظ بلغة العرب على ثلاثة أوجه فوجه منها وهو الأعم الأكثر اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين وذلك قولك الرجل والمرأة وقام وقعد وهذا لا سبيل إلى جمعه وحصره لأن أكثر الكلام عليه والوجه الثانى اختلاف اللفظين والمعنى واحد وذلك مثل عير وحمار وذئب وسيد وجلس وقعد إلخ والوجه الثالث أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى فيكون اللفظ الواحد على معنيين فصاعدا مثل الأمة الرجل وحده يوتم به والأمة القامة قامة الرجل والأمة من الأمم ومن هذا اللفظ الواحد الذى يجى ء على معنيين فصاعدا ما يكون متضادا في الشى ء وضده
________________________________________
كثرة مترادفات اللغة العربية مما تمتاز به لغتنا العربية كثرة مترادفاتها مما لا يوجد له نظير في أية لغة من اللغات السامية أو غيرها من الأمثلة على ذلك ما سنجده في هذا الكتاب مما جمع من الأسماء للأسد أو السيف وغيرهما بل نجد الفيروزآبادي صاحب القاموس يضع كتابا في أسماء العسل فذكر له أكثر من ثمانين اسما وقرر مع ذلك أنه لم يستوعبها كلها
وإن العربية الفصحى تختلف في ذلك اختلافا كبيرا عن اللهجات العامية الحديثة المتشعبة عنها فمتون هذه اللهجات ضيقة وتكاد تكون مجردة من المترادفات
موقف اللغويين القدماء من الترادف
جمع اللغة من مصادرها
منذ بدأ الرعيل الأول من اللغويين في جمع اللغة في القرن ا لثاني والثالث الهجريين من القرآن الكريم والحديث الشريف وكلام العرب من شعر وخطب ورسائل بل ومن أفواه فصحاء العرب بدءوا في تدوين مادتهم اللغوية التي جمعوها
وسلكوا سبلا شتى في تنظيمها فبعضهم آثر ان يجمع الكلمات التي تدل على معنى واحد في تأليف واحده سموه المترادف أو ما اختلفت ألفاظه واتفقت معانية وقد وصل الأمر في جمع المترادف إلى أن ظهر به التحدى بين العلماء من ذلك
تفاخر العلماء بكثرة حفظ المترادفات ما رواه ابن فارس أن هارون الرشيد سأل الأصمعي عن شعر لابن حزام العكلى ففسره فقال يا أصمعى إن الغريب عندك لغير غريب قال يا أمير المؤمنين ألا أكون كذلك وقد حفظت للحجر سعبين اسما
ووجدنا السيوطى ينظم لمنظومة أحصى فيها أسماء الكلب قدم لها قائلا دخل يوما أبو العلاء المعرى على الشريف المرتضى فعثر برجل فقال الرجل من هذا الكلب فقال أبو العلاء الكلب من لا يعرف للكلب سبعين أسما قلت وقد تتبعت كتب اللغة فحصلتها ونظمتها في أرجوزة وسميتها التبرى من معرة المعرى
وعاد السيوطى بعمله هذا ألا يكون كلبا عند أبى العلاء ولا يناله شى ء من تغييره
________________________________________
وقد بلغ السيوطى في عد أسماء الكلب سبعين فصاعدا إذ اعتبر في العد لغات القصر والمد وتغير البنية
وفي تلك الأسماء ما كان صفة فغلبت عليه الاسمية مثل الوازع وكسيب لأنه يزع الذئب عن الأغنام ويكسب لأهله وكالأعقد لانعقاد ذنبه وكالبصير لحدة بصره والمنذر لأنه ينذر باللصوص
ومنها ما هو ألقاب جعلت على الكلب لأن معانيها فيه كداعى الكرم لأنه يدل العابرين على أهل بنباحه فيتضيفونهم وفي معناه داعى الضمير أى مناديه والضمير هنا من أضمرته البلاد بموت أو سفر ويوجد فيها ما هو كنية كأبى خالد ومن بينها ما هو خاص بأسنان الكلاب كالدرص والجرو لصغارها
ويدخل فيها ما يتعلق بالفصائل مثل العسبور لولد الكلب من الذئبة وكالديسم لولد الكلبة من الثعلب أو من الذئب افتتح السيوطى التبرى بقوله
لله حمد دائم الولى
ثم صلاته على النبى
قد نقل الثقات عن أبى العلا
لما أتى للمرتضى ودخلا
قال له شخص به قد عثرا
من ذلك الكلب الذى ما أبصرا
فقال في جوابه قولا جلى
معيرا لذلك المجهل
الكلب من لم يدر من أسمائه
سبعين موميا إلى علائه
وقد تتبعت دواوين اللغة
لعلنى أجمع من ذا مبلغه
فجئت منها عددا كثيرا
وأرتجى فيما بقى تيسيره
وقد نظمت ذاك في هذا الرجز
ليستفدها الذى عنها عجز
فسمه هديت بالتبرى
يا صاح من معرة المعرى
ثم شرع يسميه فقال
من ذلك الباقع ثم الوزاع
والكلب والأبقع ثم الزارع والخيطل السخام ثم الأسد
والعربج العجوز ثم الأعقد والأعنق الدرباس والعملس
والقرطب الفرنى ثم الفلس
ومنها
وعد من أسمائه البصير وفيه لغز قاله خبير وهكذا سموه داعى الكرم مشيد الذكر متمم النعم والمستطير هائج الكلاب
كذا رواه صاحب العباب والدرص والجرو مثلث ألفا
لولد الكلب أسام تلفى والسمع فيما قاله الصولى
وهو أبو خالد الكنى وولد الكلبة من ذئب سمى
أو ثعلب فما رووا بالديسم كذلك كلب الماء يدعى القندسا
فيما له ابن دحية قد ائتسى وكلبة الماء هي القضاعة
جميع ذاك أثبتوا سماعه
________________________________________
ثم ختمها بقوله
هذا الذى من كتب جمعته وما بدا من بعد ذا الحقته والحمد لله هنا تمام
ثم على نبيه السلام
وهي تنظم في سبعة وثلاثين بيتا وهي ما بين وأوعده السوطى في كتابة ديوان الحيوان الذى لخص فيه حياة الحيوان للكمال الدميرى والذي توجد منه مخطوطة بدار الكتب المصرية والتبرى يوجد أيضا مفردا مستقلا في مخطوطتين محفوظتين بدار الكتب المصرية ضمن مجموعتين وقد صدر مطبوعا ضمن المجموع المسمى بتعريف
القدماء بأبى العلاء سنة 1944 م وطبع بتحقيق محمود نصار بدار الجيل ببيروت سنة 1992 م
ويروى ابن فارس أن ابن خالوية قال جمعت للأسد خمسمائة اسم وللحية مائتين
وغير ذلك من الروابا التي تؤكد الترادف في العربية
ومن القصص والآثار التي تؤكد وجود الترداف في اللغة العربية ما روى أن رجلا كأبى هريرة لا يعرف كلمة السكين لأنه من قبيلة أزد فقد سقطت من يد النبى {صلى الله عليه وسلم} فقال بعد أن كرر الرسول {صلى الله عليه وسلم} له القول ثانية وثالثة آلمدية تردي فقال الرسول {صلى الله عليه وسلم} نعم ( 2 )
ويقول النبى {صلى الله عليه وسلم} لأبى تميمة إياك والمخيلة فقال يا رسول الله نحن عرب فما المخيلة فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سبل الإزار فوضحها لهم
بل إن أبا الصديق رضى الله عنه ) وكان الله على كل شيء مقيتا ( وعمر بن الخطاب يسمع قوله تعالى ) وفاكهة وأبا ( ( 6 ) فيقول هذه الفاكهة فما الأب ونجده يسأل في كلمة التخوف من قوله تعالى ) أو يأخذهم على تخوف (
وقد انقسم علماء العربية تجاه الترادف إلى فريقين 1 - مثبت للترادف 2 - منكر للترادف
________________________________________
ويبدو أن مثبتى الترادف من علماء العربية كانوا فريقين فالفريق الأول وسع مفهومه ولم يقيد حدوثه بأى حدود ويذكر ابن فارس ( ت 295 ه ) هذا الخلاف بقوله ويسمى الشى ء الواحد بالأسماء المختلفة نحو السيف والمهند والحسام والذى نقوله في هذا ان الاسم واحد وهو السيف وما بعده من الألقاب صفات ومذهبنا أن كل صفة منها ومعنا غير معنى الأخرى وقد خالف في ذلك قوم فزعموا أنها ون اختلف الأفاظها فإنها ترج إلى معنى واحد وذلك قولنا سيف وعضب وحسام
وقال آخرون ليس منها اسم ولا صفة إلا ومعناه غير معنى الآخر وكذلك الأفعال نحو مضى وذهب وانطلق وقعد وجلس وركض ونام وهجع وهو مذهب شيخنا العباس أحمد بن يحيى ثعلب
والفريق الثانى قيد حدوث الترادف ووضع شروطا تحد من كثرة وقوعه ومن أثبت الترادف ووضع له قيودا ليحد من كثرة وقوعه
فخر الدين الرازى الذى كان يرى قصر الترادف على ما يتطابق فيه المعنيان بدون أدنى تفاوت فليس من الترادف عنده السيف والصارم لأن في ا لثانية زيادة في المعنى
ومنهم الأصفهانى الذى كان يرى أن الترادف الحقيقى هو ما يوجد في اللهجة الواحدة أما ما كان من لهجتين فليس من الترادف
ومن علماء العربية من نفى وجود الترادف في اللغة وعلى رأس هذه الطائفة ثعلب وأبو على الفارسى وابن فارس وأبو هلال العسكرى
________________________________________
قال أبو على الفارسى كنت بمجلس سيف الدولة بحلب وبالحضرة جماعة من أهل اللغة وفيهم ابن خالويه فقال أبن خالويه فقال ابن خالويه أحفظ للسيف خمسين أسما فتبسم أبو على وقال ما أحفظ إلا اسما واحدا وهو السيف قال ابن خالويه فأين المهند والصارم وكذا وكذا فقال أبو على هذه صفات وكأن الشيخ لا يفرق بين الاسم والصفة وقال التاج السبكى في شرح المنهاج وذهب بعض الناس إلى إنكار الترادف في اللغة العربية و وزعم أن كل ما يظن من المتردفات فهو من المتباينات التي تتباين بالصفات كما في الإنسان والبشر فإن الأول موضوع له باعتبار النسيان أو باعتبار أنه يؤنس
والثاني باعتباره أنه بادى البشرة وكذا الخندريس والعقار فإن الأول باعتبار العتق والثاني باعتبار عقر الدن لشدتها
وتكلف لأكثر المترادفات بمثل هذا المقال العجيب
ووجدنا أبا هلال العسكرى وهو كما يقول عند الدكتور إبراهيم أنيس أديب ناقد يستشف من الكلمات أمورا سحرية ويتخيل في معانيها أشياء ينقب وراء المدلولات سابح في عالم الخيال ويصور دقائق المعنى وظلاله وقد ألف أبو هلال كتاب الفروق اللغوية نادى فيه بأن كل اسمين يدريان على المعانى وعين الأعيان في لغة واحدة فإن كل واحد منهما يقتضى خلاف ما يقتضيه الآخر وإلا لكان الثاني فضلا لا يحتاج إليه
وإذا أردنا زيادة إيضاح رأية نرجع إلى كتاب الفروق اللغوية لنرى أمثلة منه
________________________________________
الفرق بين التقريظ والمدح يكون للحى والميت والتقريظ لا يكون إلا للحى وخلافه التأبين لا يكون إلا للميت وأصل التقريظ من القرظ وهو شى ء يدبغ به الأديم وإذا أدبغ به حسن وصلح وزادت قيمة فشبه مدحك للإنسان الحى بذلك كأنك تزيد من قيمته بمدحك إياه ولا يصح هذا المعنى في الميت ولهذا يقال مدح الله ولا يقال قرظه وم اجتهاد أبى هلال في هذا الكتاب لإظهار الفرق بين الكلمات إلا ان له كتابين آخرين يترف فيهما بالترادف وهما 1 - التلخيص في معرفة أسماء الأشياء 2 - المعجم في بقية الأشياء
فموقف أبى هلال أنه لا يوسع من دائرة الترادف التام أما الترادف الجزئى فلا يمنعه بحال
يقول الدكتور رمضان عبد التواب فرغم ما يوجد بين لفظة مترادفة وأخرى من فروق أحيانا فإننا لا يصح أن ننكر الترادف مع من أنكره جملة فإن إحساس الناطقين باللغة كان يعامل هذه الألفاظ معاملة المترادف فنراهم يفسرون اللفظة منها بالأخرى كما روى عن أبى زيد الأنصارى أه قال قلت لأعرابي ما المحبنطى ء قال المتكأكى ء قال قلت ما لمتكأكى ء قال المتأزف قال قلت ما المتأزف قال أنت أحمق ( 4 )
الترادف عند المحدثين
نجد بين المحدثين نفس الخلاف الذى وجدناه بين القدماء ولكن نجد أن النظرة تختلف فألمحدثون الدين أثبتوا الترادف قد عرفوه وقسموه ووضحوه وقد ربطوها بتحديد المعنى
يفرقون بين اتفاق الكلمتين اتفاقا تاما أو اتفاقا جزئيا فقسموا الترادف الى ترادف تام أو كامل
ترادف جزئى أو شبه ترادف
الترادف التام ويعنى الاتفاق في المعنى بين الكلمتين اتفاقا تاما على أن يكون في ذهن الكثرة الغالبة من أفراد البيئة الواحدة فمثلا إذا تبين بدليل قوى أن العربى حقا يفهم من كلمة جلس شيئا لا يستفيده من كلمة قعد قالوا إنه ليس ترادفا تاما فالترادف التام ما يكمن تبادل الكلمات بدل بعضها في أى جملة دون تغيير القيمة الحقيقة
________________________________________
( ب ) البيئة اللغوية الواحدة أ تنتمى الكلمات إلى لهجة واحدة أو مجموعة منسجمة من اللهجات العرب المتباينة حين عدوا الجزيرة العربية كلها بيئة واحدة
( ج ) العصر الواحد فإن مرور الزمن قد يخلق فروقا بين الألفاظ أو تتناسى هذه الفروق مثل المشرفى والمهود واليمانى فيستعمل الثلاثة بمعنى السيف ولكن صنع في دمشق والمهند صنع في الهند واليمانى صنع في اليمن ولكل منهم صفاته
( د ) ألا يكون أحد اللفظين نتيجة تطور صوتى للآخر فلفظه أز و هز تطور صوتى فلا يعتبران ترادفا عندهم وكذا أصر هصر وكذا الجثل والجفل بمعنى النمل
وعلى هذا نرى أن الترادف الكامل قليل جدا في اللغة العربية لهذه الشروط التيى وضعوها
فإذا نظرنا إلى أى لفظين داخل بل لهجة واحدة من هذه اللغة إذا تعددت لهجلاتها وفي مستوى لغوي واحد وخلال فترة زمنية واحدة وبين أبناء الجماعة اللغوية الواحدة فالترادف التام صعب الوجود بل غير موجود على الإطلاق
فعلى رأى المحدثين في الترادف التام تخرج كل هذه النماذج التيى أذكرها فلا ترادف تام بينها
( أ ) حامل وحبلى فالأولى راقية مؤدبة والثانية مبتذلة لآحظ القرآن الكريم استعمل الأولى فقط
( ب ) كنيف ومرحاض ودورة مياه والتواليت والحمام فلكل منها بيئة الخاصة إلى جانب تفاوتها في درجة التلطف واللامساس
( ج ) عقيلته وحرمه وزوجته ومراته فالأولى رسمية لا تستخدم إلا مع الشخصيات والثانية أقل رسمية والثالثة عربية فصيحة والرابعة عامية بالإضافة إلى ما يحمله كل لفظ من دلالات اجتماعية وثقافية بالنسبة للمتكلم وتوجد بعض الفروق بين الألفاظ التى يدعى ترادفها 1 - أن يكون احد اللفظين أكثر عمومية أو شمولا من الآخر مثل بكى - انتحب
________________________________________
2 - أن يكون أحد اللفظين أكثر حدة من الآخر مثل أنهك أتعب 3 - أن يكون أحد اللفظين مرتبطأ بالانفعال أو الإثارة من الآخر مثل أتون موقد 4 - أن يكون أحد اللفظين متميزا باستحسان أدبى أو استهجان في حين يكون الآخر محايدا مثل تواليت مرحاض دورة مياة 5 - أن يكون أحد اللفظين أكر تخصصية من الآخر مثل حكم ذاتى استقلال 6 - أن يكون أحد اللفظين مرتبطا باللغة المكتوبة أو أدبيا أكثر من الآخر مثل تلو - بعد 7 - أن يكون أحد اللفظين منتميا إلى لغة الأطفال أو من يتحدث إلى الأطفال بخلاف الآخر مثل مم كل وللحق فلقد وجدنا مثل هذا عند بعض اللغويين القدماء وإن كانوا قد أشاروا إليها إجمال حين فرقوا بين المترادف والمتكافى ء أو بالترادف التام وشبه الترادف
شبه ا لترادف أما شبه الترادف أو الترادف غير التام فبعض المحدثين لا يرونه ترادفا حقيقيا
وشبه الترادف أو الترادف غير التام هو الذى تؤلف فيه معجمات الترادف فقد يأتون بالترادف في المفردات أوبين الجمل والعبارات وقد يكون تواردا وتجانسا في المعانى وقد يكون تطورا صوتيا للألفاظ وقد يكون من الألفاظ المتقاربة في المعنى جدا بحيث يصعب على المرء تحديد الفروق بينها
وقد تكون باشتراك الألفاظ في مجموع الصفات التمييزية الأساسية لأن ما عدا مكونات المعنى الأساسى لا تعد من الصفات التمييزية الأساسية فالمكونات الاساسية لكلمة أب هي نفسها والد وداد إلخ
أسباب كثرة المترادفات في اللغة العربية شبه المترادفة
كثرة اللهجات فقد يكون للشى الواحد كل لهجة اسما وعند احتكال اللهجات بعضها ببعض ونشأة اللغة العربية المشتركة والمدية وقد فطن إلى هذا الأصفهانى بقول ينبغى أن يحمل كلام منع الترادف على منعه في لغة واحدة أما في لغتين فلا يمنعه عاقل
________________________________________
كما يقول الأصوليون إن من أسباب الترادف أن تضع إحدى القبيلتين أحد الاسمين والأخرى الأسم الآخر للمسمى الواحد من غير ان تشعر إحداهما بالأخرى ثم يشتهر الوضعان ويخفى الواضعان أو يلتبس وضع أحدهما بوضع الآخر أن يكون للشى ء الواحد اسم واحد ثم يوصف بصفات مختلفة باختلاف خصائص ذلك الشى ء
وقد ينسى الوصف أو يتناساه المتحدث باللغة ومن أمثلة ذلك السيف وأسماؤه وغير ذلك فمن صفات السيف المختلفة الهندوانى لأنه صنع في الهند والصارم والباتر والصقيل والقاضب لحدته في القطع وغير ذلك
الطور اللغوى للفظة الواحد فقد تتطور بعض الأصوات للكلمة الواحدة فتشأ للكلمة عدة مترادفات لاختلاف النطق بها أكثر من شكل كتابى فيعدها اللغويون ترادفا مثل هطلت السماء وهتلت وهنت وأصلهم واحد وتمتلى ء كتب الأبدال بمثل هذه الكلمات
الاستعارة من اللغات الأجنبية مثل الألفاظ المستعارة من الفارسية والرومية وغيرها مثل كلمة دستفشار من أسماء العسل قال ابن منظور كلمة فارسية معناها ما عصرته الأيدى وغيرى ذلك
وبهذه الأسباب الأربعة وجدنا كثرة مترادفات اللغة العربية ووجدنا هذا التراث الضخم من الأسماء للمسمى الواحد وليس ترادفا تاما بل شبه ترادف إذ قد توجد فروق دقيقة في المعنى ببين الكلمات بعضها وبعض ويكفى أن أضرب مثلا بكلمات أسماء الدهر وأسماء السنة وأسماء السماء وأسماء النور في هذا الكتاب فقد ذكرت في هامش الصفحات معانى كل كلمة من الكلمات لتظهر لنا الفروق الدقيقة التى وضعتها بعض المعاجم اللغوية لهذه الكلمات التي تعبر مجازا مترادفات أو قد تطلق مجازا بعضها مكان بعض ولكن في الحقيقة لكل لفظة معنى محدد له
________________________________________
ولذا نفى العلماء وجود الترادف التام في القرآن لأنه قمة الفصاحة والبيان فكل لفظة توضع مكانها فمثلا كلمة جلس تذكر في مكانها ولكمة قعد في مكانها مع أن بعض اللغويين قد يذكرها في باب الترادف وكذلك كلمتى أتى جاء وكذلك كلمتى السغب الجوع وغير ذلك مما يطول بنا الحديث عند ذكره وإن وجدنا كثرة من اللغويين والبلاغيين تنبهوا لمثل هذا وقد ذكرنا ملخصا لآرائهم في نفى الترادف
ولكننا نقصد بأسماء في هذا المعجم ما أظن أن المؤلف رحمه
الله قد قصده وهو شبه الترادف إذ تقترب الألفاظ بعضها من بعض إما في اللهجات أو صفات أو تطور لغوى أو استعارة من لغات أجنبية وبالله وحده التوفيق وهو المستعان في كل حال كتبه راجى عفو ربه أحمد عبد التواب عوض
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المصنف
الحمد لله الذى جعل اللغة العربية أوسع اللغات نطاقا وأبلغها مقالا وأفسحها مجالا وعلمنا البيان وألهمنا التبيان المقدس في ذاته عن سمات النقص في صفاته فقد أودع في كل من المخلوقات من بديع صفته ولطيف آياته ومن الحكم والعبر مالا يدركه البصر الذى شهدت الكائنات بوجوده وشمل الموجودات عميم كرمه وجوده ونطقت الجمادات بقدرته وأعربت العجماوات عن حكمته وتخاطبت الحيوانات بلطيف صنعته وتنازت الأطباء بتوحيده وتلاغت وحوش القفار بتغريده كل من نام وجاهد يشهد أنه إله واحد منزه عن الشريك والمعاند مقدس عن الزوجة والولد والوالد
وأشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له رب أودع أسرار ربوبيته في بريته وأظهر أنوار صمديته فبعض يعرب بلسان حاله وبعض يعرب بلسان مقاله وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله من صدقة تم سوله أفضل من بعث بالرسالة وسلمت عليه الغزالة وكلمة الحجر وآمن به المدر وانشق له القمر {صلى الله عليه وسلم} صلاة تنطق بالإخلاص وتسعى لقائلها بالخلاص وعلى آله أسود المعارك وأصحابه شموس المسالك وسلم تسليما وزاده شرفا وتعظيما
أما بعد
________________________________________
فيقول العبد الفقير أحمد بن مصطفى اللبابيدى الدمشقى إنه لما وجدت بضاعة العلوم رائجة في زمن سلطاننا الأعظم وخاقاننا الأفخم السلطان الغازى عبد الحميد خان بن السلطان الغازى عبد ا لمجيد خان سلطان الإسلام والمسلمين محيى سيرة الخلفاء الراشدين معدن الفضل والأمان المتمثل قوله تعالى ) إن الله يأمر بالعدل والإحسان ( ولا زال لواء عدله المنشور إلى يوم النشور ولا زالت سلطنته مسلسلة إلى انتهاء الزمان رافلا في حلل السعادة والرضا والرضوان ورايت كثيرا من أهل العلم والأدب يرغبون كتابا حاويا على غريب اللغات وتحققت أن صاحب الدولة والسماحة شيخ الإسلام جمال الدين افندى المعظم فريد الفخر في نحر هذا العصر وإكليل المعالى فوق رأس الأيام والليالى بدر المغرب الذى استضاء به الشرق وفرع دوحة السلالة الذين لهم في المعالى فضل سبق الرافل في مطارف المجد الأبدى والعز السرمدى رغبته لمثل هكذا تأليفات لاستجلاب الدعوات الخيرية لسيدنا وولى نعمتنا أمير المؤمنين أيده الله تعالى بالملائكة المقربين وكانت الكتب المؤلفة بها وإن كانت محتوية على فوائد إلا أن المتناسب منها غير مجموع في مكان واحد فكان تعليقه بالأذهان يحتاج إلى طول من الزمان ولا يتيسر ذلك لكل إنسان فجمعت ما تناسب منها تسهيلا للمرام وهو ما يشفى القلوب ويطفى الأوام لكونها ألفاظا منسوجة على منوال عجيب وآثاراء اسديت لحمتها في صنع بديع غريب فينبغى أن تتلقاها القلوب بالقبول والصدور بالانشراح والبصائر بالاستبصار
وذكرت مفردات لطيفة المعانى دقيقة المبانى يظهر فضلها وحلاوتها في التراكيب عند وضعها في المناسبات ولكل الأساليب إذ كل مؤلف منها كان لطيفا وعاليا منيفا على نسق ترتيب المقامة عند ذوى الفهم والإقامة وإن كنت كررت بعض الألفاظ في مواضع فقصدت ترتيبا على نسق غريب كما لا يخفى على ذى فهم أريب وقد احتوى على ثلاث جهات
________________________________________
الأولى جهة الأسماء المترادفة المقبولة عند ذوى العقول العارفة
الثانية محتوية على عدة فصول هي مقبولة عند ذوى العقول
الثالثة مشتملة على ما كان عجيبا وبديعا من اللغات والمقدمة المركبة من المفردات
وكان جل مأخذه من القاموس الذى هو لكل ذى أدب ناموس وما أخذت من غيره إلا ما ندر وقل ودق وجل كفقه اللغة وفصيح ثعلب ومزهر السيوطى والأشباه والنظائر التى هي معتبرة عند أولى البصائر
وسميته لطائف اللغة باعتبار ما اشتملت الجهة الأخيرة من المقامة فنسأل الله تعالى أن ينفع به عموم المسلمين بحق سورة عم وسورة يوم القيامة وكان ختامه في سنة ألف وثلاثمائة وإحدى عشر في أول أشهرها شهر محرم جعله الله خالصا لوجهه الكريم آمين
أسماء الدهر
السمر
السمير
السبات
الحرس
الحقب


الحقب
السبت
الزمن
المسند
العتك
العصر
العصر
العصر
العصر
الأشجع
الأبد
المنون
القرن
الهدملة
السنبة
السنب
أسماء السنة
الحقبة
الحقب
الخريف
الجهر
العجوز
العام
الحجة
الحول
ذكر بعض أنواع السنين
الشصاصاء
السنة الشديدة
الجلبة
السنة الشديدة
الحسوس

دروب المحبة
2012-11-01, 14:04
بارك الله فيكِ

ابتسام123
2012-11-02, 18:56
من فضلكم مقاييس السنة الثانية ادب عربي lmd
وان امكن محاضرات لبعض المقاييس

**د لا ل**
2012-11-20, 00:12
محاضرات اللسانيات العامة

مبادئ في اللسانيات العامة ، الجزء الأول . الأستاذ عبد الكريم خليل http://illiweb.com/fa/empty.gif


مبادئ في اللسانيات العامة
الجزء الأول
أ: ع. ك. خليل
المركز الجامعي، ميلة
تمهيد ـ في تعريف اللسانيات:
اللسانيات مصطلح يعنى العلم الخاص بالدراسة الموضوعية للغة البشرية من خلال الألسنة الخاصة بكل قوم ، وهو مشتق من لسن بمعنى فصح واللسان في اللغة يحمل عدة معاني منها: أداه بلع للطعام / عضو (آلة) للنطق/ أداة للتعبير/ للاتصال. ولقد ظهر المصطلح لأول مرة في سنة 1816م مع جهود النحاة المقارنين ، إلاّ أنه تبلور واتضحت حدوده مع اللساني الفرنسي فرديناند دي سوسير (f.de Saussure) من خلال محاضراته المشهورة سنة 1916م.
"اللسانيات هي العلم الذي يدرس اللغة الإنسانية دراسة علمية تقوم على الوصف ومعاينة الوقائع بعيدا عن النزعة التعليمية والأحكام المعيارية "1. والمقصود بالدراسة العلمية التوفر على قدر معين من المنهجية والشمولية التي تتيح الإحاطة الموضوعية بكل مفاصل المادة اللغوية . لكن ألم يكن النحو القديم دراسة لغوية ؟
الاختلاف بين الدراسة اللسانية وعلم اللغة:
يحدد جون ليونز عناصر الاختلاف بين الدراسة اللسانية وعلم اللغة كما كان متعارف عليه قبل القرن التاسع عشر في الخصائص التالية :
1ـ اللسانيات تتصف بالاستقلالية وهذا أهم مظاهر استقلاليتها . في حين أن النحو التقليدي كان يتصل بالفلسفة والمنطق بل كان خاضعا لهما في بعض الأحيان .
2ـ تهتم اللسانيات باللغة المنطوقة قبل المكتوبة ، أما النحو التقليدي فاهتمامه انصب على النص المكتوب
3ـ عدم تفضيل الفصحى على غيرها من اللهجات . فاللهجات على اختلافها وتعددها لا تقل أهمية عن سواها من مستويات الاستخدام اللغوية
4ـ اللسانيات دراسة عامة تقوم على بناء نظرية لسانية يمكن تطبيقها على جميع اللغات الإنسانية .
5ـ لا تهتم اللسانيات بين اللغات البدائية والمتحضرة لأنها كلها جديرة بالدرس والبحث العلميين
6ـ تدرس اللسانيات اللغة ككل وعلى صعيد واحد في تسلسل متدرج من الأصوات إلى الدلالة مرورا بالجوانب الصرفية والنحوية .
مهام اللسانيات:
ويحدد سوسير مهام اللسانيات في ثلاثة هي:
1 ـ البحث عن القوى الموجودة في اللغات كافة وبطريقة شمولية متواصلة ، ثم استخلاص القوانين العامة التي يمكن أن ترد إليها كل ظواهر التاريخ الخاصة .
2 ـ تقديم وصف وتاريخ مجموع اللغات وهذا يعني سرد تاريخ الأسر اللغوية وإعادة بناء اللغات الأم في كل منها .
3 ـ تحديد نفسها والاعتراف بنفسها .
يقول سوسير : "يتكون موضوع اللسان أولا من جميع مظاهر اللغة الإنسانية وتعبيراتها سواء منها لغة الشعوب البدائية أو الشعوب المتحضرة ، وسواء تعلق الأمر بالعصور المغرقة في القدم ، نقصد العصور الكلاسيكية أو عصور عهد الانحطاط آخذين بعين الاعتبار بالنسبة لكل مرحلة لا اللغة السليمة واللغة الممتازة فقط بل جميع أصناف التعبير وأشكاله . وهذا وحده لا يكفي إذ لما كانت اللغة كثيرا ما يذهل الناس عن ملاحظتها ، تعين على عالم اللسان أن يعتبر النصوص المكتوبة مادامت قادرة وحدها على أن تجعله يعرف أصناف التراكيب الخاصة القديمة منها والعتيقة " 4 . وقد حدد سوسير المراحل المؤرخة لعلم اللسان في ثلاثة هي التي تحكمت في رؤية مؤرخي النشأة:
الأولى ـ علم النحو عند القدماء الذي عرف استمرارا مع بورويال وأهم ما يميزها انبناؤها على المنطق والتفسير العقلي والمعيارية " وكانت غاية هذه الدراسة تنحصر على وجه التحديد في إيجاد قواعد من شأنها أن تميز الصيغ الإعرابية الصحيحة من الصيغ الخاطئة . فهي إذن دراسة معيارية بعيدة كل البعد عن الملاحظة الخالصة وهي بالضرورة وجهة نظر ضيقة من هذه الناحية "5.
الثانية ـ مرحلة فقه اللغة الذي اهتم بالنصوص وتأويلها وتحليلها ولم يتخصص في الدراسة اللغوية "فإن أراد أن يتناول المسائل اللسانية فإنما يفعل ذلك خاصة من أجل أن يقارن بين نصوص مختلفة وأن يحدد اللغة الخاصة لكل مؤلف كاتب كما يحاول أن يهتدي إلى ما كتب في لغة قديمة أو غامضة وأن يفسر تلك الكتابة"6 . ومشكلة فقه اللغة أنه ارتبط باللغة المكتوبة دون المنطوقة
الثالثة ـ مرحلة النحو المقارن أو الفقه المقارن . وتقييم سوسير لهذا النحو بقوله : " إن الخطأ الأول الذي تولدت عنه سائر الأخطاء الأخرى كون النحو المقارن لم يتساءل في أبحاثه قط وهي أبحاث محصورة مع ذلك باللغات الهندأوربية عما إذا كانت مقارناته ومقارباته التي يقوم بها لها ما يقابلها في الواقع وعلى أي شيء تدل هذه العلاقات التي يكتشفها "7.
1 ـ النحو العام :
مدرسة بورويال الفرنسية : نحو بورويال (1960) لأنطوان أرنولد (1612 ـ 1694) وكلود لانسلو (1915ـ 1695) هو أول محاولة معاصرة للنمذجة نظرية حول اللغة. لقد انطلقت من وجود رابط بين اللغة والمنطق واللغة هي تعبير عن الفكر. ومختلف مقولات الكلمات موافقة للمقولات المنطقية والاختلافات بين اللغات هي محللة على أنها اختلافات في السطح . وقد كان من بين كتاب بورويال كتاب للمنطق مما جعل تأثيره عليهم هو الأقوى . حيث كانوا يعرضون نظرية عامة للقواعد من خلال لغات مثل اللاتينية أو الفرنسية فجعلوا من ديكارت هو الأساس لمذهبهم متجاهلين اللغات الأخرى، ولكنهم حاولوا أن يكشفوا عن وحدة القواعد التي ترتكز عليها القواعد المستقلة للغات المختلفة في دورها في التفكير الاتصالي الذي يشتمل هو نفسه على الإدراك والحكم والتعليل.
وقد قسم علماء بورويال على ضوء هذه القواعد العامة الكلمات الكلاسيكية المعروفة في النحو القديم: الاسم والأداة والضمير وحرف الجر والظرف والفعل والرابطة والتعجب وأعادوا تقسيمها على أساس دلالي . فالأقسام الخمسة الأولى ترتبط بمقاصد التفكير والأخيرة بشكل أو طريقة التفكير . وقد اعتمد تراث القواعد اللاتينية ليكون أساس كل اللغات وبأساليب متنوعة . يقول روبنز : " لقد قام قواعديو بورت رويال بمحاولة أصيلة لكتابة قواعد عامة ومستشهدين بأمثلة من الىتينية واليونانية والعبرية واللغات الأوربية الحديثة أرادوا أن يرجعوا هذه القواعد العامة إلى الخصائص العمومية المزعومة للغة ، وهي الخصائص التي ترتكز عليها تلك الأمثلة "8.
وقد نشر مركز الدراسات النحوية في بورويال كتابه الشهير النحو العام والعقلاني "grammaire générale et raisonnée » الذي عبر عن القاعدة الأساسية لعلماء بورويال والقائل بأن النماذج النحوية ينبغي لها أن تتطابق مع متطلبات المنطق. ولما كان المنطق منطقا واحدا ومشتركا أمكن بناء نظرية واحدة لكل اللغات العالمية . ومن الآثار المبدئية لهذا النحو في ق 18 م لوضع نظريات نحوية فلسفية مثل كتاب اللغوي الإنجليزي جيمس هاريس في " بحث فلسفي في اللغة والنحو العام" .
يقول شومسكي عن هذه الأنحاء في كتابه: "القضايا الراهنة في النظرية اللسانية"1964. وذلك قوله:"ليس بعيدا عن الصواب أن ننظر إلى النموذج التحويلي على أنه صياغة شكلية منضبطة للخصائص الموجودة بشكل ضمني في الأنحاء التقليدية، وأن ننظر إلى تلك الأنحاء على أنها أنحاء توليدية تحويلية ضمنيا. ذلك أن هدف الأنحاء التقليدية أن توفر لمستعملها القدرة على فهم أي جملة من جمل اللغة، وأن يصوغها ويستعملها بشكل ملائم في المقام الملائم. ولهذا فإن هدفها(في الأقل) يماثل في اتساعه وبعده أهداف النحو التوليدي، الذي وصفته آنفا. يضاف إلى ذلك أن الآليات الوصفية للنحو التقليدي تفوق بكثير الحدود التي تقيد النموذج النحوي التصنيفي [السابق لتشومسكي]، لكن هذه الآليات يمكن صياغتها بشكل كبير، أو ربما بشكل كامل في إطار النموذج التحويلي. ومع ذلك فإن من المهم أن نعي أنه حتى أدق الأنحاء التقليدية وأكملها إنما تعتمد بشكل أساسي على حدس مستعملها وذكائه، وهو الذي ينتظر منه أن يستنتج المقتضيات الصحيحة من الأمثلة والإيحاءات الكثيرة (والقوائم الواضحة للشواذ) التي يقدمها النحو. فإذا صيغ النحو صياغة جيدة فإنه يمكن لمستعمله عندئذ أن ينجح في استعماله، لكن الاطرادات العميقة للغة التي يمكن له اكتشافها تستعصي على الصياغة المنضبطة، كما أن طبيعة القدرات التي مكنته من استخدام النحو واكتشاف تلك الاطرادات ستظل أمرا محيرا. ويمكن أن نقدر مدى اتساع هذه الفجوات إذا ما حاولنا أن نصوغ قواعد واضحة لكامل الحقائق البنيوية المتاحة للمستعمل الناضج للغة"9.
2 ـ السنسكريتية مدخل للمقارنة:
تتفق جل الدراسات المؤرخة لظهور اللسانيات كعلم مختص في الدراسة العلمية للغة بأن المقدمات الممهدة لبروزه توجد في ما عرف في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تحت مسمى النحو التاريخي والمقارن. فإلى حدود القرن الثامن عشر كانت الدراسات اللغوية في أوروبا قليلة ومحدودة يعوزها التنظيم وتفتقر إلى المنهج العلمي المؤسس على الموضوعية والشمولية، كما اقتصرت على اللغتين المنقرضتين الإغريقية واللاتينية وبعض اللغات الأوروبية الحديثة، ولم يتجاوز الدرس اللغوي ذلك إلا في بعض دراسات قليلة تناول بها المستشرقون بعض اللغات السامية وبعض اللغات القديمة في جنوبي الهند.
وفي نهاية القرن الثامن عشر حدث تحول مهم في الدراسة اللغوية في أوروبا، فقد اكتشف السير وليم جونز وهو قاض انكليزي في البنغال، في عام 1786 اللغة السنسكريتية بل عدت هذه السنة علامة مفصلية في تاريخ البحث اللغوي حيث قدم السير جونز الذي كان قاضيا في المحكمة البريطانية بالهند ورقته في الجمعية الملكية الآسيوية في كلكتا مثبتا القرابة التاريخية للسنسكريتية ، اللغة الكلاسيكية للهند ، مع اللاتينية واليونانية والجرمانية . ويقول في هذا التقرير المشهور والذائع الصيت : " اللغة السنسكريتية مهما يكن قدمها لغة ذات تركيب عجيب وهي أكثر كمالا من اليونانية وأغزر إنتاجا من اللاتيتنية وأكثر منهما تهذيبا بشكل رائع ، وهي فوق ذلك على قرابة بكل منهما في جذور الأفعال وصور القواعد معا ، قرابة اقوى من أن تكون نتاجا للمصادفة ، وهي قرابة قوية في الواقع لدرجة أن أي عالم في الفللجيا لا يمكنه أن يفحص اللغات الثلاث جميعا دون هناك أن يعتقد أنها نشأت عن اصل معين مشترك ربما لم يكن موجودا ، كما أن هناك مسوغا مشابها رغم أنه ليس قويا تماما لافتراض أن كلامن القوطية والسلتية تشتركان في نفس الأصل مع السنسكريتية"10.
وعند ظهور هذا الاكتشاف، تحولت أنظار علماء اللغة الأوربيين الى اللغة السنسكريتية والى وجوه الصلة بينها وبين لغاتهم، فبدأ الدرس اللغوي الحقيقي الحديث في القرن التاسع عشر، ولكن هذا الدرس اتخذ الطابع التاريخي المقارن، حتى صار هذا القرن يسمى قرن التاريخ اللغوي المقارن. ولو أن الحديث عن السنسكريتية ليس جديدا كل الجدة ، إذ أورد روبنز في كتابه أن أول إشارة معروفة للسنسكريتية قد كانت في نهاية ق 16 " عندما كتب الإيطالي فيليبو ساستي إلى وطنه من الهند واصفا اللغة السنسكريتية بإعجاب ومشيرا على ىعدد من التشابهات بين كلمات سنسكريتية وكلمات إيطالية . وبعد ذلك جرت ملاحظة تشابه بين السنسكريتية وبعض اللغات الأوربية من قبل الألماني ب.شولز والفرنسي بيير كوردو "11. لكن حسب روبنز أهمية هذه الوثيقة لا تكمن فيما قدمته من جديد بل لآنها صادفت الاهتمام الأوربي بدراسات الشرق الأدنى والهندية على الخصوص، خاصة بعد الحملات النابولونية .
ومما ساعد علماء اللغة الاوروبيين على بحوثهم واتاح لهم معرفة المزيد من الحقائق عن الظاهرة اللغوية، ان القرن التاسع عشر شهد كذلك ترجمة الاعمال اللغوية الهندية التي اتصلت باللغة السنسكريتية الى اللغة الانكليزية حتى قال بلومفيلد مبينا اثر الدراسات الهندية في علم اللغة الحديث: (لقد كانت الهند صاحبة الفضل في اثارة معلومات ادت الى الافكار الاوروبية الحديثة في اللغة) وقال ايضا: (وقد وضع النحو الهندي امام اوروبا اول مرة وصفا كاملا دقيقا شاملا للغة مؤسسا على الملاحظة العملية، لا على الافتراضات النظرية) وقال لورد بعد ان بيّن جهود النحاة السنسكريتيين في تحليل الاصوات اللغوية وتنظيمها، وفي وضع النظام النحوي: (وبغير تأثير هذه الدراسات في علماء اللغة الاوروبيين الذين عاشوا في اوائل القرن التاسع عشر، ما كان يمكن ان يظهر علم اللغة المقارن او يولد). وقال روبنز : "كان لدراسة الأوربيين اللغوية للسنسكريتية أثر مزدوج ، فقد شكلت مقارنة السنسكريتية باللغات الأوربية المرحلة الأولى في التطور المنهجي لعلم اللغة المقارن وعلم اللغة التاريخي، وإضافة لذلك أصبح الأوربيون على اتصال في الكتابات السنسكريتية بتراث العلم اللغوية في الهند الذي تطور بشكل مستقل والذي تم الاعتراف بمزاياه في الوقت نفسه وكان تأثيره في كثير من فروع علم اللغة الأوربي عميقا وباقيا "12 . فقد عرفت الهند تراثا لغويا غنيا في كل المستويات اللغويات دفعت العديد من الباحثين إلى القول بأن الدراسات الوصفية الغربية قد استفادت إلى حد كبير منه دلالة ومعجما وتركيبا وخاصة في الجانب الصوتي .وأهم الكتب المعروفة تاريخيا هو "القواعد السنسكريتية " لبانيني المعروفة باسم الكتب الثمانية الراجعة إلى مابين 600 و300 ق. م.الذي روي أنه تلقى هذا العلم عن طريق الوحي والإلهام تعبيرا عن دقة دراسته اللغوية . وكان خير مصادر الاستفادة عند الوصفيين الغربيين خاصة أنه كان يستبعد البحث المنطقي من بحوثه.
3 ـ النحو المقارن : مبادئ وأسس :أتاحت السنسكريتية مجالا واسعا للمقارنة . فقد ركز علماء اللغة مع بداية القرن التاسع عشر على التحليل المقارن للغة، بدراسة النصوص المكتوبة، واكتشاف عناصر التشابه بين لغة وأخرى، وملاحظة التغيرات التي تطرأ على اللغة عبر الزمن، ومقارنة التغيرات التاريخية بين اللغات المتشابهة. وهو لم يكن أسلوبا خاصا باللغويين بل كان سائدا في الدراسات العلمية السائدة آنئذ خاصة علم التشريح والحياة. ويبرز ذلك في كتابات العالم الألماني شيلخل الذي قرر في كتاب له نشر في عام 1808 أن الوسيلة الوحيدة في إثبات الصلة بين أفراد مجموعة لغوية هو الشبه في نحوها وتراكيبها وليس في الألفاظ المشتركة بينها اعتمادا على الوسيلة التي توسل بها علم التشريح في تعريفه لظهور الكائن البشري . ويبرز ذلك على الخصوص في استمداد العلم اللغوي جهازه الاصطلاحي من العلوم الحية من نحو / حياة اللغة والجذور والجهاز العضوي..الخ13.
لقد اثبت شليجل (ت1829) صلات التشابه الكثيرة التي تربط اللغات الأوربية والهندية والآرية بعضها ببعض في كتابه " خلاصة النحو المقارن للغات الهندية الجرمانية" كما قدم العالم الالماني جريم المتوفى 1863، دراسة للتقابلات الصوتية بين اللغات الجرمانية وغيرها من اللغات الهند اوروبية، مستنبطا بذلك قوانين صوتية تتحكم في هذا التقابل، سميت قوانين جريم. لكن ابرز مؤسس للقواعد المقارنة هو بوب (ت1867) صاحب "في نظام تصريف اللغة السنسكريتية ومقارنته بالأنظمة الصرفية المعروفة في اللغات اليونانية واللاتينية والفارسية والجرمانية" . يقول سوسير : " فلم يستحق إذن بوب كل تقدير لكونه قد اكتشف بأن اللغة السنسكريتية ذات قرابة ببعض اللغات الأوربية والآسيوية بل لكونه قد فهم بأن العلاقات بين اللغات ذات الأصل الواحد يمكن أن تصبح موضوعا ومادة لعلم مستقل "14. من هنا أتت أهمية دراسة بوب التي استفاد منها العديد من الدارسين مثل ماكس مولر وجورج كوتيوس وأوغست شليشر .
ويتحدد منهج النحو المقارن بالتطبيق على المجموعات اللغوية المنتسبة إلى اصل واحد بعيد التي خضعت في تاريخها لتطورات متعددة . يقول السعران : " إن النحو المقارن يهيئ السبيل لتصنيف اللغات حسب خصائصها ولتجميعها في عائلات . فبمقارنة الأصوات والأشكال المستعملة في مجموعة من اللغات تظهر الأصوات والأشكال التي استحدثتها هذه اللغة أو تلك ، كما تتحدد الأصوات أو الأشكال القديمة التي احتفظت بها هذه أو تلك "15.
4ـ النحاة الجدد وظهور اللسانيات التاريخية :
لقد عرف القرن التاسع عشر مرحلتين أساسيتين في الدراسة اللغوية : حقبة المقارنة وحقبة اللسانيات التاريخية . وإن كان من الصعب وضع تصنيف مضبوط وعلمي للمرحلتين فقد اتفق على أن الأولى تميزت بسيطرة الأبحاث المنشغلة بالبحث في القرابة بين اللغات ثم انتقلت على البحث الجزئي في التطور اللغوي الذي سيكتمل مع النحاة الجدد ما بين 1876 ـ 1886 . أي أن البداية كانت مقارنة ثم غدت تاريخية . "وتتأتى أهمية إسهامات النحاة الجدد أن وصف اللسان الأم الذي يتمثل في الهندي الأوربي يرتكز على الوقائع الصوتية أكثر مما يرتكز على الوقائع الصرفية والتركيبية ، فقد وضعوا قوانين صارمة لبحث الصلات المشتركة بين الكلمات التي تنتمي إلى ألسن مختلفة بحثا مقارنا"16. فمن هم النحاة الجدد ؟ ولماذا ظهورهم في هذا القرن بالذات ؟
يعتبر القرن التاسع عشر هو قرن النزعة التطورية الداروينية . فقد أثرت نظرية داروين حول أصل الأنواع والتطور في مناهج العلوم والفلسفة مما انعكس على الدرس اللغوي . "فقد نظر اللغويون إلى اللغات واللهجات على انها كائنات يمكن تصنيفها حسب أنواعها ويتأتى حصر أعدادها وتتطور تطور النباتات والحيوانات "17 . وقد عرف البحث اللغوي مجموعة من المحاولات الجادة في المقاربة التاريخية انتهت بشكل علمي وأكثر جدية مع النحاة الجدد néo-grammairiens . يطلق اصطلاح النحاة الجدد على بعض طلبة جورج كورتيوس الذي عرف بتطبيقه المنهج المقارنة التاريخي ، ومن أشهرهم اثنان : بريكمان وأستوف وقد عبرا عن رأيهما في مقالة برنامجية اعتبرت منطلقهما المنهجي : "كل تغيرات الأصوات تحدث بوصفها عملية ميكانيكية حسب قوانين لا تسمح بأي استثناء داخل نفس اللهجة وفي إطار فترة معينة من الزمن ، ونفس الصوت في المحيط الواحد سوف يتطور دائما بطريقة واحدة ، ولكن التشكيل والابتداع القياسي لكلمات محددة بوصفها كيانات معجمية وقواعدية عبارة عن مكون عام للتغير اللغوي في كل فترات التاريخ وما قبل التاريخ"18. وبهذا قام علم اللغة التاريخي مع النحاة الجدد على مفهوم الاطراد الصوتي الذي يعني العلمية المنهجية مقارنة مع جهود علماء آخرين فقد " كان جريم ومعاصروه واقعين تحت تأثير الحركة الرومانسية ، وقد نظر شليشر إلى عمله في إطار البيولوجيا وفي إطار النظرية الداروينية فيما بعد ، وقد أراد القواعديون الجدد أن يجعلوا علم اللغة التاريخي علما منضبطا متوافقا مع تلك العلوم الطبيعية التي حققت تقدما مدهشا في القرن التاسع عشر وكان منها علم الجيولوجيا على وجه ملحوظ"19 .
لقد شكل النحاة الجدد تمهيدا للدرس اللساني بحيث نقلوا البحث اللغوي إلى مرحلة العلمية حين ابعدوا كل الممارسات الميثولوجية والعاطفية التي تقارب اللغة وفق رؤية انتمائية . كما اهتموا إلى حد كبير بدراسة اللهجات باعتبارها ممارسات لغوية كاملة بدل من تصورها انحرافات عن الأصل اللغوي كما قال النحو التقليدي المعياري وفق مبدأ الصواب والخطأ. لكنهم رأوا فيها ميدانا حيويا لما تظهره من التغير اللغوي ما دامت تمثل المرحلة ألأخيرة في تنوع الأسرة الهندأوربية .
كما تمت مراجعة القول بأن السنسكريتية هي أقدم اللغات كما تصور نحاة القرن التاسع عشر محاولين تقديم معالجة للإشكالات الصوتية التي اعترضت سبيل الباحثين ، معترضين على مثل هذه الفرضيات التي لا تسدي للبحث العلمي أية فائدة . والتأكيد على صرامة القوانين الصوتية وانعدام الاستثناء الأصواتي .

الهوامش والإحالات

1 ـ مبادئ اللسانيات : محمد قدور.ص11
2 ـ نظرية شومسكي اللغوية ص39
3 ـ محاضرات في الألسنية العامة : سوسير ص17
4 ـ ن.م :ص 14
5 ـ ن.م : ص8
6 ـ ن.م : ص8
7ـ ن.م : ص11
8 ـ موجز تاريخ علم اللغة في الغرب : ر.ه. روبنز ترجمة : أحمد عوض ـ ص 210
9 ـ القضايا الراهنة في النظرية اللسانية : شومسكي ص 16ـ17.
10 ـروبنز ص224
11 ـ ن.م : ص 225 .
12 ـن.م : ص227.
13 ـ ج.مونان : تاريخ علم اللغة منذ نشأتها حتى القرن العشرين ص 162
14 ـ روبنز :ص09
15 ـ (علم اللغة : محمود السعران ـ ص 246
16 ـ (النحاة الجدد وميلاد اللسانيات التاريخية : أحمد يوسف عالم الفكر 245 ـ عدد :2 ـ المجلد 34 .
17 ـ السعران : ص 335
18 ـ روبنزص297
19 ـ نفسه : ص 298-299 .

_________________

omarzant
2012-11-20, 17:40
بارك الله فيكم على كل المجهودات
شكرا لك على الاظافة الاخت دلال
اختي ابتسام انا من طلاب الكلاسيكي وليس lmd
ممكن افادات قادمة من الزملاء في الموقع
شكرا

**د لا ل**
2012-11-20, 20:02
موضوع: محاضرة في اللسانيات العامة الدكتور أحمد بلحوت






المحاضرة الأولى : اللسانيات : المفهوم و الموضوعو المنهج
إن اهتمام الإنسان بظاهرة اللغة البشرية تمتمنذ القدم ويتبين هذا الاهتمام فى نتائج الدراساتالانتروبولوجية اللغوية، و الآثار المكتوبة و المنقوشة منذآلاف السنين.

1-الدراسات اللسانية قبل ظهور اللسانيات :
يعود سبب اهتمام الإنسان بالظاهرة اللغوية إلى الرغبةفي حفظ الكلام و تخزينه لأن أحداث الأصوات تندثر في الهواءو لا يمكن للإنسان استرجاعها. فأبدع الانسان النقوش والترميز لتبليغ و إرسال محتويات لغوية إلى مناطق مختلفة عنموقعه، و في أزمان غير محددة و متباعدة .وكانت هذهالمبادرة مستهلا التفكير في رسم الكلام. و هذه الفكرةتعتبر اختراعا عظيما للبشرية فمحتوياتها و تقنياتها عمليةتكنولوجية. لأنها وسيلة لالتقاط الأصوات في شكلها التتابعيو سميت هذه العملية برسم الكلام. أو الكتابة*فكانتالكتابة الوسيلة الوحيدة لتخزين الكلام و حفظه.
و هذاالإنتباه الذكي لفكرة رسم الكلام في أشكال خطية, يبقىمدوناتها لآلاف السنين تعبر عن تفطن الإنسان للخواصاللسانية التالية.
1. خطية الدوال اللغوية
2. مقطعية الأصوات
3. مفهوم التتابع الصوتي
4. قطعنهاية الوحدات المعجمية عن بعضها
5. ابتداء مفهومالوحدة و نهايته
6. مراتب الكلمات
هذه الممارسةالعملية وظيفتها استرجاع المحفوظ في أي وقت أو مكان.
وأول تراث إنساني وصل إلينا. يقوم بعملية وصف اللغة بطريقةعلمية هي الدراسات اللغوية الهندية التي وصفت اللغةالسنسكريتية. و منذ تلك الحقبة بدأت الأعمال التي تهتمبدراسة اللغة تظهر في مجتمعات متعددة منها اللاتنين والرومان والعرب و قد اختصت كل أمه بدراسة موضوع علم اللغةبمنهج معين. حتى بداية القرن الثامن عشر.ومنذ مطلع هذاالقرن تميزت دراسة الظواهر اللغوية مميزتين:
1-الاهتمامبمنهج دراسة الظواهر اللغوية.
2-توجيه موضوع الدراسةاللغوية نحو أغراض سياسية واجتماعية واقتصادية ودينية
و أهم المناهج التي ظهرت المنهج التاريخي وهو الدراسةالتطورية للوحدات المعجمية أوالفيلولوجيا المقارنة التيكانت الأساس الذي انطلقت منه الدراسات اللسانية في بدايةالقرن العشرين .وكانت الخلفية الأبستمولوجيا لهذه الدراساتهي المعيارية المنطقية التي لم تخرج على أساس العلاقاتالعامة في المنطق الصوري والملاحظ على مجال الدراساتاللغوية في هذه الفترة أنها لم تخرج عن التوجيه القرامطيقيللغة*.
و ليس ببعيد عن هذه الفترة بدأت تظهر بوادرالدراسات اللغوية بمفهومها الحديث في مناطق متعددة منالعالم كما ظهرت تطبيقات تجريبية على الظواهر اللغوية التيلها صلة بالفيزياء أوعلم التشريح أو المنطق.
2-البوادرالأولى لظهور المصطلح :إن مصطلح Luiguistique في الثقافةالغربية ظهر استعماله أول مرة عام 1833 و قد استعمل في 1816 من قبل فرنسوا رينيوار François Raynouard في كتابه des troubadour chois des poésie
واستخدمه سوسور بشكلملفت في محاضراته و المقصود باللسانيات هنا أو Linguistique هو العلم الذي موضوعه اللغة شرط إتباعالمناهج العلمية التجريبية أو المنطقية التجريبية في دراسةظواهره.أما مصطلح علم اللسان في الثقافة اللغوية الحديثةهوالدراسة العلمية للغة ويقصد بالعلمية هنا دراسة اللغةبواسطة وسائل الفحص و الملاحظة للظواهر اللغوية و إمكانيةمراقبتها لوسائل المنهج التجريبي في نظام وسائطي لنظريةعامة تحدد البنية اللغوية منطلقا لها.

**د لا ل**
2012-11-20, 20:09
كتاب دي سوسير: محاضرات في اللسانيات العامة.
http://img237.imageshack.us/img237/5779/ywgc27bdv8.gif
1/- دي سوسير : تعريف وتقديم.

2/- كتاب دي سوسير: محاضرات في اللسانيات العامة.

3/- مفاهيم (اللغةن البنية، النظام) عند دي سوسير.

4/- ثنائيات دي سوسير؛ دراسة تفصيلية.

5/- خاتمة.


1- دي سوسير: تعريف&ordf; وتقديم.

- تقديم: يتفق الدارسون المحدثون على أن دي سوسير هو الأب الحقيقي للسانيات الحديثة, لأنه أوضح اختصاصها ومناهجها وحدودها. وأثرى الدراسات اللسانيات بالكثير من الأفكار اللغوية الرائدة، حتى صارت اللسانيات باعثا لنهضة علمية, تولدت عنها علوم ومناهجُ جديدة.

ويُشار هنا إلى أن امتاز به دي سوسير من تنظير عميق سعى إلى وضع الأسسس المنهجية للتحليل اللغوي، مركزا على وصف اللغات الإنسانية للوصول إلى الكليات المشتركة بين اللغات, باحثا عن العوامل المؤثرة في النشاط اللغوي, نحو: العوامل النفسية والاجتماعية والجغرافية،… مقتصرا في ذلك على المناهج العلميّة في دراسة اللغة، ونبذ كل ما هو دخيل عليها.

2- محاضرات في اللسانيات العامة * : Cours de linguistique générale

يقع الكتاب في مقدمة وخمسة أجزاء فيما يقارب 300 صفحة من القطع المتوسط، تناول في المقدمة قضايا هامة تتعلق بتاريخ اللسانيات ومادّتها وعناصر اللغةن ومبادئ علم الأصوات, ومفهوم الفونيم.

وفي الجزء الأول يتناول طبيعة العلامة واللسانيات الآنية واللسانيات التطورية. وفي الجزء الثاني يبحث اللسانيات التزامنية. ويخصص الجزء الثالث لدراسة اللسانيات التزامنية, والتغيرات الصوتية والتأثيل. وفي الجزء الرابع اللسانيات الجغرافية والتنوع اللغوي وبواعثه. وفي الجزء الخامس والأخير يتناول مسائل في اللسانيات الاستعادية وقضايا اللغة الأكثر قدمان وشهادة اللغة على الأنتربولوجيا وما قبل التاريخ.

3- مفاهيم: (اللغة، النظام، البنية) عند دي سوسير:

* اللغة : تساءل دي سوسير عن اللغة قائلا: “ولكن ما اللغة ؟ ففي نظرنا لا بد من التمييز وعدم الخلط بينها وبين اللسان. وصحيح أن اللغة ليست سوى جزء جوهري محدَّد منه، وهي في وقت واحد نتاج اجتماعيّ لملكة اللسان، وتواضعات ملحّة ولازمة يتبناها الجسم الاجتماعيّ لتسهيل ممارسة هذه الملكة لدى الأفراد”. (ص21).

ويمكن أن نسجّل من النصّ الملاحظات التالية:

- ليست اللغة هي اللسان؛ إذِ اللسان ملكة بشرية، أما هي فتواضع.

- اللغة مؤسسة اجتماعية، وهي نظام قائم بذاته، وأداة للتواصل.

فهي من خلال النصّ ظاهرة اجتماعية أخصّ من اللسان§ (ظاهرة إنسانية)، ولها أشكال كثيرة تنتج من الملكة اللسانية. وسيأتي تفصيل ذلك لاحقا.

* البنية: يؤكد دي سوسير قبل أن يتساءل عن مفهوم اللغة, منهج دراسته، فيقول: “يجب أن يكون الانطلاق للوهلة الأولى من اللغة واتخاذُها معيارا للظواهر اللغوية الأخرى كافّـة”. ص20.

وبذلك يكون قد رفض كثيرا من تصورات سابقيه القائمة على اتخاذ معايير خارجة عن اللسانيات ذاتها (نحو المسوّغات النظرية، أو المبادئ التفسيرية). وبهذا الرفض أسّس ما يُعرف باللسانيات الداخلية أو بنية اللغة: وهي مجموع المظاهر الصوتية، الصرفية، النحوية والدلالية.

ويعرّفها بقوله: “داخلي هو كل ما يفكر المنظومة مهما تكن درجة هذا التغّير”.

* النظام: يذهب دي سوسير إلى أن اللغة منظومة لا تُعرَّف, ولا تعترف إلا بترتيبها الخاص, فيقول:”إن اللغة منظومة لا قيمة لمكوناتها؛ أي لعلاقاتها اللغوية، إلا بالعلاقات القائمة فيما بينها, وبالتالي لا يمكن للألسنيّ اعتبار مفردات لغة ما كيانات مستقلة, بل عليه وصف العلاقات التي تربط هذه المفردات.”، ويتحدّد مفهوم النظام من هذا النصّ في مجموع القوانين التي تقوم عليها هذه المنظومة، ومختلف العلاقات القائمة بين المفردات والتراكيب. وعلى الذي ينظر في اللغة
أن يعتدّ بهذه العلاقات، وتكامل الوحدات اللغوية فيما بينها.

4- ثنائيات دي سوسير؛ دراسة تفصيلية:

تتمثل الأفكار الجديدة لدي سوسير في مجموعة من المسائل الثنائية المتعارضة، وهي مبثوثة في ثنايا محاضراته، وفيما يلي أهمها:

أ- ثنائية (لسان ،كلام): فرق دي سوسير في هذا الشأن بين ثلاثة مصطلحات:

* اللغة/ Langage: ظاهرة إنسانية لها أشكال متعددة تنتج من الملكة اللغوية.

* اللسان/ Langue : هو جزء معين، متحقق من اللغة بمعناها الإنسانيّ الواسع، وهو اجتماعي, عرفي, مكتسب. ويشكل نظاما متعارفا عليه داخل جماعة إنسانية محددة مثال ذلك : اللسان العربي، الفرنسي،…

* الكلام/ Parole : مفهوم فردي ينتمي إلى اللسان، ويشمل ما يعتري أداءَ الفرد للسان من ملامحَ فردية. ولأن اللسانيات منظومة اجتماعية، فإنه دعا إلى دراسة اللسان لأنه اجتماعي، ولم يجعل اللغة ولا الكلام ضمن موضوع اللسانيات.

ب – ثنائية / دال مدلول/ : يستخدم دي سوسير مصطلح علامة Signe للدلالة على الكلمة لفظا ومعنى، والرمز اللغوي له وجهان, لا ينفصل أحدهما عن الآخر، هما: الدال Signifiant وهو الصورة الصوتية, والمدلول Signfié وهو الصورة المفهومية التي تعبر عن التصور الذهني لذلك الدال. وتتم الدلالة signification باقتران الصورتين الصوتية والذهنية، وبحصولها يتم الفهم، يقول دي سوسير: “إن العلامة اللسانية لا تربط شيئا باسم , بل تصورا بصورة سمعية، وهذه الأخيرة ليست الصوت المادي الذي هو شيء فيزيائي صرف، بل هي الدفع النفسي لهذا الصوت …”. ويقول:

“ويمكن تشبيه اللغة بورقة يكون الفكر وجهها الأول والصوت وجهها الآخر، ولا نستطيع فصل أحد الوجهين من دون الآخر في آن. والأمر نفسه بالمقياس إلى اللغة، إذ لا يمكن عزل الصوت عن الفكر ولا الفكر عن الصوت, كما أننا لا نصل إلى ذلك إلا بتجريد يؤدي بنا إلى علم النفس الصرف, أو إلى علم التصويتية الصرف.

جـ- ثنائية: (تزامن, تزمّن): (السكونية, التطورية), (الآنية، التاريخية), (تواقت، تعاقب)، (Synchronique-Diachronique ): وتتعلق هذه الثنائية بالمناهج اللسانية في دراسة اللغة؛ حيث يجعلها في منهجين:

* الدراسة في زمن آني: التزامني, السكوني, الوصفي, التعارضي, التواقتي, ونحو ذلك. وموضوعها: “حالة توازن النظام في نقطة معينة من الزمان.

* الدراسة في مراحل زمنية متتالية: تعاقبي, تطوري, تاريخي, زماني, وتهتم بـ “التغيرات اللسانية “؛ يقول دي سوسير بشأن ذلك: “ستهتم الألسنة التزامنية بالعلاقات المنطقية والنفسية الرابطة عبارات متزامنة، مشكلة في ذلك منظومة كما يدركها الشعور الاجتماعي الواحد”، “وعلى نقيض ذلك فستدرس الألسنية التزمّنية العلاقات التي تربط العبارات المتعاقبة التي يعز على شعور اجتماعي واحد إدراكها، والتي يحل بعضها محل البعض الآخر، وذلك دون أن تشكل منظومة فيما بينها.”.

د – ثنائية (استبدال, توزيع) : المحور الاستبدالي، العمودي/ المحور التوزيعي، التركيبي، الترابطي: هذه الثنائية هي ملخص تفريق دي سوسير بين المجموعات اللغوية المتوافرة في الذاكرة والتي تشكل محورا شاقوليا, استبداليا Paradigmatique, وبين المجموعات اللغوية الحاضرة في الجملة والتي تشكل محورا أفقيا نظميا Syntagmatique, ولكي يتم معنى الجملة لا بد من النظر إلى المحورين معا. يقول دي سوسير: “إن عبارة ما, في تركيب ما، لا تكتسب قيمتها إلا بتقابلها مع ما يسبقها أو ما يليها, أو الاثنين معا”.

وهناك ثنائيات أخرى استخلصها الدارسون نحو:

- (الرمز اللغوي، الرمز العام) – (Symbole .Signe )، راجع ص 90 .

- (التعارض بين المؤسسات الاجتماعية والسيمياء)، راجع ص 27 .

- (التعارض بين الشكل والجوهر) في وحدات اللغة، راجع ص 27 .

5- خاتمة : وثمة أفكار أخرى وردت في كتابه، وكانت سببا في بعث علوم جديدة، نحو :

- إشارته إلى الصلة بين اللغة وأنماط الإشارة الأخرى / الأزياء، الآداب، السلوك …)، وتصوره وجود علم جديد: Sémiologie (وسيأتي بيانه لاحقا).

- وصفُه اللغة بأنها منظومة، وكان ذلك سببا لمفهوم البنية.

- ركز على العوامل الجغرافية في اللغة، وكان ذلك سببا في رقيّ اللسانيات الجغرافية.

- تُعدّ مدرسة براغ من مواريث دي سوسير، بالمفاهيم التي عرضتها في أعمالها.

&ordf; هو أحد ثلاثة أثّروا في حركة الفكر الأوربي الحديث، إلى جانب فرويد ودوركايم؛ واعتقد كل منهم أن دراسة الأسباب التاريخية للأحداث الواقعة بعدّها أحداثا منفصلة ومستقلة، يمكن أن تُفقد الدراسة أهم مقوماتها، لذلك رأوا ضرورة دراسة الوظائف التي تقوم بها الأحداث الواقعة داخل الهيكل الاجتماعي العام.
ولد في جنيف عام 1857، بعد مولد فرويد بسنة وقبل مولد دوركايم بسنة كذلك. التحق عام 1876 بجامعة ليبنزج بألمانيا لدراسة اللغات الهندوأوربية، وكانت آنذاك مركزا للنحاة الشبان. ثم انتقل إلى باريس، أين حقق النجاح الكامل.

ودُعي إلى جنيف عام 1907 لتدريس علم اللغة، خلفا لأحد الأساتذة المتقاعدين، ليُتوفّى في 1913، وتُجمع محاضراته من بعده.

* هذا الكتاب لم يصغه سوسير بل جُمع بعد وفاته من المحاضرات التي ألقاها على الطلبة بين (1907 و1913) بحنيف.

§ اختلف الترجمة العربية لمصطلحي دي سوسير langage و langue؛ فترحمت الأولى إلى لغة ولسان، وترجمة الثانية إلى كليهما أيضا. ولإزالة أي غموض، أنصح للطلاب بأن يستخدموا langage / لغة للدلالة على الظاهرة الانسانية كما حددها دي سوسير، أما langue / لسان، فعلى الظاهرة الاجتماعية، وربما كان ذلك موافقا لدلالة كل منهما في المنظومة المعرفية العربية؛ حيث دلّ اللسان في معظم استخداماته على التنوع اللغوي، فهو الظاهرة الاجتماعية. والأفضل لنا أن نحتفظ بالتمييز بين مستويات اللغة الثلاثة مفهوميا، لئلا نتيه في تعدّد المصطلحات.

**د لا ل**
2012-11-20, 20:13
مدخل إلى القرآن الكريم . الأستاذ إبراهيم لقان http://illiweb.com/fa/empty.gifالمحاضرة الأولى: مدخل عام

في بيان أهمية القرآن في الأدب العربي والعلم الإسلامية عمومًا
لعل البعض يتساءل عن الحاجة إلى دراسة القرآن الكريم في الأدب العربي، والعلوم اللغوية العربية والحياة عموما ، وقد يحسب أن في ذلك خلطاً بين الآداب والإسلاميات.والجواب: أن لهذا الكتاب العظيم أهمية بالغة من جوانب مختلفة متعددة..
فإن له جانباً تشريعيا هاماً, لا ينفك عن الحاجة إلى دراسته كل متطلع إلى دراسة الفقه والتشريع. وإن له مع ذلك جانبا متعلقا بالعقيدة والفلسفة والأخلاقيات, لا ينفك عن الحاجة إلى دراسة كل مقبل إلى دراسة العقائد أو الفلسفة أو الأخلاق,كما أن له مع ذلك جانبا أدبيا أصيلا بعيد الجذور في تاريخ الأدب العربي, عظيم الأثر في توجيهه وتطويره وتقويمه, فمن أجل ذلك كان لابد لمن أراد دراسة العربية وآدابها من أن يبدأ بدراسة القرآن وعلومه, وكلما ابتغى مزيدًا من التوسع في العلوم العربية وثقافتها, احتاج إلى مزيد من التوسع في دراساته القرآنية المختلفة.

وإليك ملخصا من وجوه هذه الحاجة وأسبابها:

السبب الأول: أن هذا الكتاب العربي المبين, هو أول كتاب ظهر في تاريخ اللغة العربية( ) و إنما نشأت حركات التدوين والتأليف بعد ذلك, على ضوئه وسارت بإشرافه, وتأثرت بوحيه وأسلوبه. ومن أجل ذلك, كان مظهرًا هاما للحياة العقلية والفكرية والأدبية التي عاشها العرب فيما بعد. فكيف يتأتى أن يكون هذا الكتاب مع ذلك بمعزل عن العربية وعلومها وآدابها؟!

السبب الثاني:
أن اللغة العربية إنما استقام أمرها على منهج سليم موحد. بسرِّ هذا الكتاب وتأثيره, وهي إنما ضمن لها البقاء والحفظ بسبب ذلك وحده. فقد كانت اللغة العربية من قبل عصر القرآن أمشاجا من اللهجات المختلفة المتباعدة, وكان كلّما امتد الزمن, ازدادت هذه اللهجات نكارة وبعداً عن بعضها.
وحسبك أن تعلم أن: المعينية والسبئية والقتبانية، واللحيانية والثمودية والصفوية والحضرمية، كلها كانت أسماء للهجات عربية مختلفة, ولم يكن اختلاف الواحدة منها عن الأخرى محصوراً في طريقة النطق بالكلمة, من ترقيق أو تفخيم أو إمالة أو نحو ذلك, بل ازداد التخالف واشتد إلى أن انتهى إلى الاختلاف في تركيب الكلمة ذاتها وفي الحروف المركبة منها, وفي الإبدال والإعلال والبناء والإعراب.
فقضاعة مثلا كانت تقلب الياء جيما إذا كانت ياء مشددة أو جاءت بعد العين, وكانت العرب تسمى ذلك: عجعجة قضاعة.
و حمير كانت تنطق ﺑ " أم " بدلا من " أل" المعرفة في صدر الكلمة, وكانت العرب تسمي ذلك طمطمانية حمير, ومن ذلك قول أحدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله:
أمن أمبر أمصيامٌ في أمسفر؟ يريد أن يقول: هل من البر الصيام في السفر؟
و هذيل كانت تقلب الحاء في كثير من الكلمات عيناً, فكانوا يقولون أعلَّ الله العلال بدلاً من أحل الله الحلال..
فلما نزل القرآن, وتسامعت به العرب, وائتلفت عليه قلوبهم, أخذت هذه اللهجات بالتقارب, وبدأ مظاهر ما بينها من خلاف تضمحل وتذوب, حتى تلاقت تلك اللهجات كلها في لهجة عربية واحدة, هي اللهجة القرشية التي نزل بها القرآن وأخذت ألسنة العرب على اختلافهم وتباعد قبائلهم تنطبع بطابع هذه اللغة القرآنية الجديدة.

السبب الثالث:
أن البلاغة والبيان وجمال الكلمة والتعبير ـ كل ذلك كان قبل عصر القرآن ـ أسماء لا تكاد تنحط على معنى واضح متفق عليه.
و إنما بلاغة كل جماعة أو قبيلة ما تستسيغه وتتذوقه, ولذلك كانت المنافسات البلاغية تقوم فيما بينهم وتشتد ثم تهدأ وتتبدد, دون أن تنتهي بهم إلى نتيجة, إذ لم يكن أمامهم مثل أعلى يطمحون إليه ولا صراط واحد يجتمعون عليه, ولم يكن للبلاغة العربية معنى إلا هذا الذي يصدرون هم عنه من كلام في الشعر والنثر, وهم إنما يذهبون في ذلك طرائق قدداً , ويتفرقون منه في أودية متباعدة يهيمون فيها.
و هيهات, لو استمر الأمر على ذلك, أن توجد للبلاغة والبيان العربي حقيقة تدرك أو قواعد تدرس, أو قوالب أدبية تهذب العربية وتحافظ عليها.
فلما تنزل القرآن, والتفتوا إليه فدهشوا لبيانه, وسجدوا لبلاغته وسمو تعبيره, وأجمعوا على اختلاف أذواقهم ومسالكهم ولهجاتهم أن هذا هو البيان الذي لا يجارى ولا يرقى إليه النقد.

السبب الرابع:
أن متن هذه اللغة, كان مليئا قبل عصر القرآن بالكلمات الحوشية الثقيلة على السمع المتجافية عن الطبع. ولو ذهبت تتأمل فيما وصل إلينا من قطع النثر أو الشعر الجاهلي, لرأيت الكثير منها محشواً بهذه الكلمات التي وصفت, وإن كنت لا تجد ذلك إلا نادرا في لغة قريش.
فلما تنزل القرآن, وأقبلت إليه الآذان, أخذت هذه الكلمات الجافية تختفي عن ألسنة العرب رويدا رويدا, وأصبح متن اللغة العربية كله مطبوعا بالطابع القرآني ونما ذوق عربي في نفوس العرب أنبته لديهم طابع القرآن وأسلوبه.
و مردُّ ذلك إلى أن كلمات هذا الكتاب المبين, رغم أنها كلمات عربية لم تتجاوز حدود هذه اللغة وقاموسها, تمتاز في صياغتها وموقع كل منها مما قبلها وبعدها بجرس مطرب في الآذان لم يكن للعرب عهد به من قبل, هذا إلى أن كثيراً من الاشتقاقات والصيغ الواردة فيه, تكاد تكون جديدة في النطق العربي, وهي مع ذلك توحي بمعناها إلى الفطرة والطبع, قبل أن يهتدي السمع إليها بالمعرفة والدَّرس. وسنوضح ذلك إن شاء الله في الحديث عن إعجاز القرآن.
فكان من أثر ذلك أن انصرفت الأذواق إلى الاستفادة من كلماته والجديد من صياغته, وهجرت تدريجيا ما اسـتثقل وغلظ من الألفاظ والتراكيب.
فهذه خلاصة عن وجوه أهمية دراسة هذا الكتاب العظيم وأثرها في دراسة الأدب العربي.

و إذا كنت تؤمن اليوم بهذا الذي ذكرناه من الناحية النظرية والعقلية المجردة, فلسوف تؤمن بذلك على أساس من البرهان التجريبي والتطبيقي عندما تمارس هذا الكتاب الإلهي تلاوة مستمرة ودراسة دقيقة وتأملا هادئاً.

أهمية دراسة القرآن الكريم في حياة الأمة:
القرآن الكريم هو كتاب الله-عز وجل- المنزل على خاتم أنبيائه(صلى الله عليه وسلم)بلفظه ومعناه،المنقول بالتواتر،المفيد للقطع واليقين،المكتوب في المصاحف.
أحكمَه الله فأتقن إحكامه،وفصّله فأحسن تفصيله،وصدق الله العظيم إذ يقول:
"كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير".هود:01.
لا يتطرق إلى ساحته نقص ولا إبطال، وصدق الله العظيم حيث يقول:
" وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد"فصلت:41-42.
وهو المعجزة العظمى والحجة البالغة الباقية أبد الدهر لرسول البشرية محمد (ص) ،تحدى به الناس كافة،والإنس والجن أن يأتوا بمثله،أو ببعضه فعجزوا وانبهروا. و قد وقع التحدي بالقرآن مرات متعددة كي تقوم عليهم الحجة تلو الحجة وتنقطع المعذرة.
أ- تحداهم أولا أن يأتوا بمثله فعجزوا وما استطاعوا، قال عز من قائل:" قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا" الإسراء88.
ب- ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله، فما قدروا ،قال تعالى: "أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين، فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله،وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون" هود:13-14.
وهو استفهام غرضه البلاغي الأمر.أي: أسلموا ،وهو طلب فيه رفق ولين ،وهو من ألوان أدب الخطاب في القرآن الكريم.
ج- ثم تحداهم مرة ثالثة بأن يأتوا بسورة واحدة منه أي ّسورة مهما قصرت كسورة الكوثر مثلا،فما رفعوا بذلك رأسا ،قال تعالى: "أم يقولون افتراه،قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين، بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين".يونس:38-39.
ثم كرر هذا التحدي في سورة البقرة المدنية في الآيتين:23-24 حيث قال تعالى: "وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين".
فألقموا حجرة ولم ينبسوا في المعارضة بكلمة بعد هذا التحدي المطلق. وبذلك ثبت إعجاز القرآن على أبلغ وجه،وإذا ثبت عجز العرب فرسان البلاغة وأمراء البيان ،فغيرهم بالعجز أحرى وأولى.

القرآن كتاب الهداية الكبرى:
القرآن هو هداية الخالق لإصلاح الخلق، وشريعة السماء لأهل الأرض،وهو التشريع العام الخالد الذي تكفل بجميع ما يحتاج إليه البشر في أمور دينهم ودنياهم :في العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات المدنية والجزائية،وفي الاقتصاد والسياسة ،والسلم والحرب،والمعاهدات والعلاقات الدولية ،وهو في كل ذلك حكيم كل الحكمة لا يعتريه خلل ولا اختلاف،وصدق الله العظيم إذ يقول: "أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا".النساء83.
وهو أصيل غاية الأصالة عدل غاية العدل،رحيم غاية الرحمة،صادق غاية الصدق وصدق الله القائل: "وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم." الأنعام115.
فلا عجب أن كانت السعادة الحقة لاتنال إلا بالاهتداء بهديه ،والتزام ما جاء به،وأن كان الشفاءَ لأمراض النفوس وأدواء المجتمع ، فاهتدت به القلوب بعد ضلال ،وأبصرت به العيون بعد عمى،واستنارت به العقول بعد جهالة،وصدق الله: "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم،ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا،وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما."الإسراء9-10.
" وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا" الإسراء82.
" قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات على النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم"المائدة 15-16.
وهو الكتاب الذي حارب التقليد ودعا إلى النظر والتأمل في الكون ،وهو الذي فك العقول من عقالها ،والنفوس من أسارها." وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لايعقلون شيئا ولا يهتدون".البقرة170.
"وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا او لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون"المائدة104.
وهو الكتاب الذي وجه الأنظار إلى النظر في الأنفس وما فيها من عجائب و أسرار." وفي أنفسكم أفلا تبصرون"الذرايات21.
وإلى النظر في الآفاق والآيات الكونية علويها وسفليها وخفيها وما تنطوي عليه من حِكم وما أودع فيها من أسرار وخواص وأفاض في ذلك في غير ما سورة وآية وغن شئت اليقين في ذلك فاقرأ قوله تعالى:" إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيى به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة و تصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء و الأرض لآيات لقوم يعقلون".البقرة194.
والقرآن حين دعا إلى النظر في الآيات الكونية لم يقف بنا عند حد الاعتبار والاتعاظ بالظواهر الأشكال والصور فحسب ،وإنما أراد استكشاف المستور،واستكناه الأسرار عن طريق الملاحظة حينا،والتجارب أحيانا أخرى.وبذلك يكون قد فتح أبواب العلوم التجريبية منذ أربعة قرنا من الزمان .ولو أن المسلمين استفادوا بما فيه من توجيهات وإرشادات لكان شأنهم كما كان أسلافهم الأولون أسبق الأمم إلى الكشوف والاختراع،ولكنهم جمدوا،فهم كما نرى..
والقرآن هو الذي حارب الجاهلية،وقضى على التفرقة العنصرية،ووضع أساس المساواة بين كافة الناس:"كلكم لآدم وآدم من تراب،لافضل لعربي على عجمي،ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود،ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى". " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير".الحجرات13
والقرآن هو الذي صلحت به الدنيا، وغير مجرى التاريخ،وأقام أمـة كانت مضرب الأمثال في الإيمان والإخاء والعدل والوفاء والوفاق والوئام،وأظل العالم بظلال الأمن والسلام حقبا من الزمان ،وصير من رعاة الإبل والشاء علماء حكماء رحماء، وسادة قادة في الحكم والسيادة والحرب،وعقمت الدنيا عن أن تجود بمثلهم في هذا الزمان.
وهو الكتاب الذي لا تفنى ذخائره،ولا تنقضي عجائبه،ولا يخلق على كثرة الرد،ولا يزداد على التكرار إلا حلاوة،وطلاوة،وصدق القائل:

تزداد منه على ترداده مقة** وكل قول على الترداد مملول
وقال عنه صلى الله عليه وسلم:" كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم،وحكم ما بينكم،وهو الفصل ليس بالهزل،من تركه من جبار قصمه الله،ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله،وهو حبل الله المتين،وهو الذكر الحكيم،وهو الصراط المستقيم،هو الذي لا تزيغ به
الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ،ولا يشبع منه العلماء ،و لا يخلق على كثرة الرد،ولا تنقضي عجائبه،هو الذي لم ينتهي الجن إذ سمعه حتى قالوا:إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا ،من قال به صدق ،ومن عمل به أُجر،ومن حكم به عدل،ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم".*
إن كتابا هـذا شأنه لجدير أن يضعه الإنسان بين عينيه،ويجعله أنيسه في وخلوته،ورفيقه في سفره وصديقه الصدوق في يسره وعسره، ومستشاره الأمين في أمور دينه ودنياه،وحجته البالغة في حياته وأخراه.
فلا عجب أن عنيت به الأمة الإسلامية عناية فائقة من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا،فحفظوا لفظه وفهموا معناه، واستقاموا على العمل به،وأفنوا أعمارهم في البحث فيه،والكشف عن أسراره،ولم يدعوا ناحية من نواحيه إلا قتلوها بحثا،وألفوا في ذلك المؤلفات القيمة، فمنهم من ألف في تفسيره،ومنهم من ألف في رسمه وقراءته، ومنهم من ألف في استنباط أحكامه،ومنهم من ألف في ناسخه ومنسوخه،ومنهم من ألف في أسباب نزوله،ومنهم من ألف في إعجازه،ومنهم من ألف في أمثاله،ومنهم من ألف في أقسامه،ومنهم من ألف في غريبه،ومنهم من ألف في إعرابه،ومنهم من ألف في قصصه،ومنهم من ألف في تناسب آياته وسوره،إلى غير ذلك من العلوم.

تزيغ به الأهواء: أي تميل عن الحق بإتباعه.لا تلتبس به الألسنة: لاتنحسر ولو كانوا من غير العرب ،قال تعالى( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر). لايشبع: كلما اطّلعوا على شيء فيه تاقوا واشتاقوا إلى المزيد.
*هذا الحديث قال فيه الترمذي: حديث غريب ،وإسناده مجهول.ذكره السيوطي في (الإتقان).وقال أخرجه الترمذي،والداري وغيرهما،وسكت عنه.وذكره ابن كثير في(فضائل القرآن) .والمتأمل فيه يجده قبسا من نور النبوة وحكما من ينابيع الوحي مما يجعل القلب يطمئن إليه.



_________________

**د لا ل**
2012-11-20, 20:15
http://i14.servimg.com/u/f14/12/64/51/72/clip_i17.jpg


http://i14.servimg.com/u/f14/12/64/51/72/clip_i18.jpg
http://i14.servimg.com/u/f14/12/64/51/72/clip_i19.jpg

http://i14.servimg.com/u/f14/12/64/51/72/clip_i22.jpg

**د لا ل**
2012-11-20, 20:21
http://i14.servimg.com/u/f14/12/64/51/72/clip_i23.jpg
http://i14.servimg.com/u/f14/12/64/51/72/clip_i24.jpg
http://i14.servimg.com/u/f14/12/64/51/72/clip_i25.jpg
http://i14.servimg.com/u/f14/12/64/51/72/clip_i26.jpg
http://i14.servimg.com/u/f14/12/64/51/72/clip_i27.jpg
http://i14.servimg.com/u/f14/12/64/51/72/clip_i28.jpg

**د لا ل**
2012-11-20, 20:24
http://i14.servimg.com/u/f14/12/64/51/72/clip_i29.jpg
http://i14.servimg.com/u/f14/12/64/51/72/clip_i30.jpg
http://i14.servimg.com/u/f14/12/64/51/72/clip_i31.jpg
http://i14.servimg.com/u/f14/12/64/51/72/clip_i32.jpg
http://i14.servimg.com/u/f14/12/64/51/72/sans_t10.jpg
http://i14.servimg.com/u/f14/12/64/51/72/sans_t11.jpg
http://i14.servimg.com/u/f14/12/64/51/72/sans_t12.jpg

**د لا ل**
2012-11-20, 20:31
http://i14.servimg.com/u/f14/12/64/51/72/sans_t15.jpg
http://i14.servimg.com/u/f14/12/64/51/72/sans_t18.jpg
http://i14.servimg.com/u/f14/12/64/51/72/sans_t19.jpg
http://i14.servimg.com/u/f14/12/64/51/72/sans_t20.jpg
http://i14.servimg.com/u/f14/12/64/51/72/sans_t21.jpg

**د لا ل**
2012-11-20, 20:34
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/uu_uou10.jpg
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/uu_uou11.jpg
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/uu_uou12.jpg

http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/uu_uou13.jpg
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/uu_uou14.jpg

**د لا ل**
2012-11-20, 20:36
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/ouuouo10.jpg
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/ouuouo11.jpg

http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/ouuouo12.jpg
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/ouuouo13.jpg

http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/ouuouo14.jpg
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/ouuouo15.jpg

http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/ouuouo16.jpg
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/ouuouo17.jpg
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/ouuouo18.jpg
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/ouuouo19.jpg

**د لا ل**
2012-11-20, 20:39
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/ouoouu10.jpg
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/ouoouu11.jpg
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/ouoouu12.jpg
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/ouoouu12.jpg
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/ouoouu13.jpg
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/ouoouu14.jpg
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/ouoouu15.jpg
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/ouoouu16.jpg

**د لا ل**
2012-11-20, 23:36
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/uoouo_10.jpg
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/uoouo_11.jpg

http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/uoouo_12.jpg
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/uoouo_13.jpg

http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/uoouo_14.jpg
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/uoouo_15.jpg

http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/uoouo_16.jpg

http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/uoouo_17.jpg

http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/uoouo_18.jpg
http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/uoouo_19.jpg

http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/uoouo_21.jpg

http://i74.servimg.com/u/f74/12/64/51/72/uoouo_23.jpg

**د لا ل**
2012-11-20, 23:41
الأدب المغربي


التفاعل الحضاري بين المشرق و المغرب

لقد فتح العرب المغرب، و استغرق هذا الفتح حوالي سبعين سنة، بدأ ببحث استطلاعي قام به عقبة بن نافع الفهري في ذي القعدة سنة 642م، و انتهت بحملة موسى بن نصير التي أخضع فيها المغرب الأقصى سنة 708م، و كان من نتائج هذا الفتح العظيم أن عرب المغرب إلى حد كبير ، و تحول إلى الإسلام تحولا عميقا.
و لا ريب أن هذا الفتح العربي الذي تمّ خلال القرن الأوّل الهجري و السابع الميلادي، قد أحدث ثورة كبرى، تمثلت في انهيار الحاجز المغلق الذي كان يفضل الشرق عن الغرب ، و في امتداد رواق الإسلام على مسافات شاسعة أمام الأرض ، تمتد من حدود مصر غربا إلى المحيط الأطلسي ، ثم فتح الطريق أمام المسلمين.
و لقد حظيت العربية باحترام أهل المغرب على وجه العموم، و قد اعتبروها لسان الأدب و لغة العلم و عنوان الثقافة، فانبلج بالتالي في القرنين الخامس و السادس الهجريين " عصر جديد أصبحت فيه اللغة العربية ربة المنزل، و صاحبة الأمر و النهي على القرائح و العقول.
و عند منتصف القرن الخامس الهجري حدث ما هو معروف من زحف القبائل العربية على المغرب العربي ، و قد كان لهذا الزحف من الأثر الكبير على الناحية الثقافية، و كان من أكبر العوامل المؤثرة في تعريب الثقافة المغربية.
و من عناصر التكوين الثقافي التي لا يمكن تجاهل تأثيرها في هذا الطور، زحف مذهب مالك بن أنس من التأثير الذي أحدثته مدرسة القيروان التونسية و مرورا بالقسم الغربي في العالم الإسلامي كله، و هو القسم الذي انتظم فيه الأندلس و بلدان المغرب العربي ، و عبورا إلى القارة الإفريقية حيث لا يزال مذهب مذهب مالك هو المذهب الغالب في هذه البلاد.
و قد انتشرت في هذا العصر ظاهرة التنافس الثقافي، و كان لسباق قائما بين بلدان لمشرق و المغرب و الأندلس و عواصمها المختلفة: المهدية و بجاية و فاس و تلمسان، و سبتة و بغداد و القاهرة و المدينة المنورة و مكة و غيرها.
و قد برزت كل مدينة من هذه المدن بلون خاص من العلوم و الآداب غلب عليها ، و اشتهرت به.
و كانت حركة الانتقال المتاحة بين العواصم الإسلامية( دون جوازات سفر أو تأثيرات دخول و خروج) كانت هذه الحركة الانتقالية التي غلب عليها طابع البعثات و الرحلات العلمية من أبرز العوامل في إذكاء روح النشاط الثقافي.
و هي ظاهرة عامة في العالم الإسلامي كله خلال هذه العصور بدرجات متفاوتة بين شعوب و حكومات هذا العالم لقد كانت حدود الأقاليم غير ذات أهمية ، و هي لم تمثل حاجزا أو فاصلا بين العلماء و الأدباء و الكتاب و الشعراء، بل كانت الأفكار في العالم الإسلامي متصلة كما تعكس تقاربا ثقافيا يعتبر خصية كبرى من خصائص الحضارة الإسلامية في عصور الازدهار.
و في الموسوعات العلمية الكبرى لهذه القرن تأكيد واضح لبروز هذه الظاهرة و دورها الإيجابي في خلق وحدة فكرية في العالم الإسلامي كله، فابن بسام يفرد القسم الرابع من موسوعته " الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة " لمن هاجر إلى الجزيرة أي " الأندلس " من الأفاق و طرأ عليها من شعراء الشام و العراق و يشتمل هذا القسم على تراجم هؤلاء الرحالة الشعراء في القرن الخامس الهجري ، و حتى وفاة ابن بسام سنة 542هـ قريبا من منتصف القرن السادس الهجري.
و المقري صاحب موسوعة نفح الطيب يورد لنا نحوا من مائتين و خمسين ترجمة لمن رحلوا عن الأندلس إلى المشرق من العلماء و الأدباء و الفقهاء، و يورد لنا أيضا من قريبا من خمس و سبعين ترجمة لمن رحلوا من المشرق إلى الأندلس.
و في كتاب الصلة لأبي القاسم خلف بن عبد الملك الشهير ب " ابن بشكوال" المتوفى سنة 578هـ، نلحظ الظاهرة نفسها ، فأغلبية المترجم لهم رحلوا إلى المشرق ، و كثير من المشارقة زاروا الأندلس ، و قد ألحقهم ابن بشكوال بقائمته التي أطلق عليها اسم " الغرباء ".
و في التكملة لابن الأبار، و في وفيت الأعيان لابن خلكان فوات الوفيات للصفدي ، و في جذوة المقتبس للحميدي و في غيرها من المصادر ، نستطيع التأكد من هذه الظاهرة على نحو واضح.
و حين يورد لنا " المقري التلمساني " حياة الأزدي الحميدي صاحب " جذوة المقتبس " المذكور آنفا ، يخيل إلينا أننا أمام مواطن عالمي فقد عاش و طلب العلم في كل من الأندلس و مصر و دمشق و مكة المكرمة و واسط و بغداد و غيرها.
و مما ذكر آنفا يتأكد لدينا أن التفاعل الحضاري و الثقافي بين المشرق و المغرب كان على مستو عالي و إن وجد في الوقت نفسه تفكك سياسي.
و هكذا وجدت وحدة حضارية صهرت المغرب العربي في بوتقتها، فجعلت انتماءه للحضارة الإسلامية انتماء وجود و كيان و مصير.
الدولة الرستمية بتيهرت
لقد خدمت الدولة الرستمية الأمة في الكثير من الجوانب سواء في جانب التأليف و نشر العلم أو في الجانب الاقتصادي و الاجتماعي أو في الجانب المعماري و حتى في الجانب السياسي ، و هي دولة إسلامية عريقة نشأـ سنة 160هـ و استمرت إلى سنة 296هـ أي أنها بقيت مدة 136 سنة(1).
نشأت هذه الدولة في المغرب الأوسط – الجزائر – حاليا على يد الإمام عبد الرحمن بن رستم(2).
و لد عبد الرحمن في العراق في العقد الأول من القرن الثاني الهجري على أكبر تقدير، و يرجع في نسبه إلى الأكاسرة ملوك الفرس ، فهم أجداده ، إلاّ أ،ّ بعض المؤرخين يعيدون نسبه إلى اللاذارقة ملوك الأندلس قبل الإسلام، و المهم في هذا أنه سليل بيت الملوك قبل الإسلام، سواء كانوا من الفرس أم من اللاذارقة(3).
سافر أبوه به و أمه من العراق إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، إلاّ أنّ الأب وافاه أجله، و ترك يتيما و أرملة ، فتزوجت أمه برجل من أهل المغرب ، فأخذها و ابنها عبد الرحمن إلى القيروان، نشأ عبد الرحمن في القيروان ، و صادف هناك نشر الدعوة الإباضية في تلك الربوع فتعلق بها، و نصحه أحد الدعاة بالسفر إلىالمشرق لتلقي المزيد من العلم علي يد الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة إمام الإباضية في ذلك الوقت ، توجه إلى البصرة و ظل مع الإمام أبي عبيدة لمدة خمس سنوات يدرس في سرداب أبي عبيدة الذي أ‘ه هذا الأخير تحت الأرض خوفا من عيون الأمويين(4)
و عاد عبد الرحمن مع أصحابه حملة العلم إلى المغرب ، و كان من ضمنهم أول إمام بويع في المغرب و هو الإمام أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري اليمني.
ــــــــــــــــــــــ
1- الدولة الرستمية ، ابراهيم بحاز، جمعية التراث ، القرارة ، ص: 110
2- منهج الدعوة عند الإباضية ، د/ محمد صالح ناصر، مكتبة الاستقامة، مسقط، سلطنة عمان ص:155.
3- معجم أعلام الإباضية ، بحاز و آخرون ج:2، دار الغرب الإسلامي ، بيروت ، لبنان ،ط:2 1421هـ/ 2000م، ص. 246.
4- نشأة الحركة الإباضية ، عوض خليفات، مطابع دار الشعب، الأردن ، عمان 1978، ص: 108- 137 ، و منهج الدعوة عند الإباضية ، د/ محمد صالح ناصر ص: 119- 149.
و قد كان للرستميين اهتمام كبير بالصناعة و التجارة اهتمام كبير بالصناعة و التجارة كما أنشأوا بيوتا للأموال في مدن الدولة الرستمية ، كما كان لهم إلى جانب ذلك كله اهتمام بالجانب العلمي و الفكري، فاهتمت الدولة بإنشاء المؤسسات التعليمية كالكتاب- أماكن للتعليم – و كذلك إقامة حلقات علم في المساجد سواء في التفسير او الحديث أو الفقه أو اللغة و غيرها من العلوم حتى أن أئمة الدولة الرستمية كانوا يساهمون في التعليم بأنفسهم و لا يأنفون من ذلك أو يتكبرون كالإمام عبد الوهاب الذي قضى سبع سنوات يعلم الناس أمور الصلاة في جبل نفوسة أو الإمام أفلح الذي دارت عليه أربع حلقات للعلم قبل أن يبلغ الحلم(1)
و كذلك اهتمت الدولة الرستمية بإنشاء المكتبات العلمية الزاخرة بمختلف فنون العلم و الأثر ، و من مكتباتها المشهورة مكتبة " المعصومة " التي كانت تحوي آلاف من المجلدات و الكتب، فكانت تضم بين رفوفها كتبا في علوم الشريعة من تفسير و حديث و فقه و توحيد ، و كتبا في الطب و الرياضيات و الهندسة و الفلك و التاريخ و اللغة و غيرها من العلوم المختلفة ، و ن المكتبات المشهورة الأخرى " خزانة نفوسة " الجامعة لآلاف الكتب ، و كذلك لم تخل منازل العلماء في الدولة الرستمية من وجود المكتبات الخاصة.
و هذه النهضة العلمية لا بد و أن يواكبها نهضة في مجال التأليف فحازت الدولة الرستمية قصب السبق في ذلك، فقدم أئمتها و علماؤها للأمة الكثير من المؤلفات في مختلف فنون العلم سواء الدينية أو الدنيوية(2)
كذلك نجد أن الدولة الرستمية كان لها اهتمام بالأدب العربي من شعر و نثر ، فأما النثر فيظهر ذلك جليا من خطب أئمة الدولة الرستمية و مراسلاتهم و أما الشعر فكان لهم نصيب فيه و لكن ليس كالنثر، و من شعراء الدولة الرستمية الإمام أفلح بن عبد الوهاب ، و من قصائده العصماء تلكم القصيدة في فضل العلم التي يقول في مطلعها:

العلم أبقى لأهل العلم آثــــارا و ليلهم بشموس العلم قد نــارا
يحي به ذكرهم طول الزمان و قد يريك أشخاصهم روحا و أبكارا

و قد كانت للدولة الرستمية علاقات ثقافية مع بلدان المغرب و الأندلس ، و مع بلاد السودان و بلدان المشرق العربي فكانت بينهم مراسلات و لقاءات(3)

و من أشهر مدن الدولة الرستمية : مدينة تيهرت العاصمة ، و مدينة وهران و مدينة شلف و مدينة الغدير و المدينة الخضراء و غيرها من المدن (4)
ــــــــــــــــــــ
1- الدولة الرستمية، بحاز إبراهيم ص: 281، و معجم أعلام الإباضية ، بحاز و آخرون2/ 61.
2- الدولة الرستمية ، بحاز ابراهيم ص: 288- 290.
3- أنظر معجم أعلام الإباضية، بحاز و آخرون 2/61
4- الدولة الرستمية ، بحاز، ص: 282- 398
و قد امتدت حدود الدولة الرستمية في فترة من فتراتها الزاهرة من حدود مصر شرقا إلى مدينة تلمسان في أقاصي المغرب الأوسط غربا(1)








بكر بن حماد التيهرتي
أبرز أعلام الدولة الرستمية
لقد أنجبت الدولة الرستمية العديد من الأعلام الذين نبغوا في مختلف الجوانب و من هذه الجوانب الساحة الشعرية و الأدبية ، و من أشهر فحول شعراء الدولة الرستمية بكر بن حماد التيهرتي.
هو أبو عبد الرحمن بكر بن حماد بن سمك( قيل ابن سهر) بن اسماعيل الزناتي التيهرتي، ولد بتيهرت سنة 200هـ و بها توفي سنة 296هـ ، له رحلة إلى الشرق بدأها سنة 217هـ سمع فيها الفقهاء و العلماء.
كان عالما بالحديث و تميز الرجال ثقة مأثورا ثبتا صدوقا إماما حافظا، سمع بالقيروان قبل رحلته إلى المشرق سحنون بن سعد التنوخي قاضي افريقية سنة 234هـ و في البصرة لقي عمرو بن مرزوق ، و مسدد بن مسرهند الأسدي و غيرهما من العلماء و كتب عن مسدد مسنده و رواه عنه بتيهرت .
و ما يحكى عن بكر بن حماد في الحديث ما رواه القرطبي في تفسيره ( الجامع 1/ 287 دار إحياء التراث العربي 1372هـ/ 1952م) و اقتبسه منه المقري في نفحه ( نفح الطيب 2/48-49).
هذا و قد أخذ الحديث عنه عدد من العلماء منهم القاسم بن أصبع الذي كتب مسند مسدد بن مسرهند، و منهم أبو عبد الله محمد بن صالح القحطاني المعافري الأندلسي، و منهم ابنه عبد الرحمن بن بكر بن حماد، و قاسم بن عبد الرحمن التميمي التيهرتي.
و قد نبغ بكر بن حماد في الشعر أيما نبوغ ، و نظم قصائد جيدة في أغراض مختلفة كالوصف و المديح و الهجاء و الرثاء و الاعتذار و الزهد و الوعظ.
و شعر بن حماد مبعثر بين صفحات الكتب و ثنايا المخطوطات ،و قد بذل الأستاذ محمد شاوش جهد في جمع ما استطاع من شعره من مختلف المصادر التي تمكن من الحصول عليها ، فعثر بعد البحث الطويل المستمر حسبما يذكر على نحو المائة و عشر أبيات من شعره لا غير، هذا و لم يقطع الأمل في
ــــــــــــــــ
1- الأزهار الرياضية، الباروني 2/ 45-66
اكتشاف غيرها في المستقبل.
و جودة شعر بن حماد تعود إلى ترحاله المستمر حيث رحل إلى المشرق و هو شاب فالتقى بفطاحل شعراء القرن الثالث الهجري مثل دعبل الخزاعي، و علي بن الجهم ...فكان لهذه الرحلة التأثير الأكبر على فكره و استعرابه.
و يصف الأستاذ بونار بن حماد في الشعراء المطبوعين ، و هم قلة فيقول: " إن هذه الشخصية هي أنبغ شخصية في الشعر الغنائي بالمغرب العربي عامة و لا نجد نظيرها في عمق تفكيرها و أصالتها البيانية و امتلاكها لموهبة شعرية محترمة إلا في الأندلس ... و يحق لمؤرخ الأدب في هذا العصر أن يصرح بأن ظهور بكر بن حماد في القرن الثالث ... هو أكبر مفخرة للأدب المغربي "(1)
و هذه بعض الأبيات للشاعر في الاعتذار من الإمام أبي حاتم يوسف بن أبي اليقظان ( حكم الدولة الرستمية سنة 281- 249 هـ) عن خطئ ارتكبه:
و مؤنسة لي بالعراق تركتها و غصن شبابي في الغصون نضير
فقالت كما قال النواسي قبلها عزيز علين أن نراك تســـير
فأكرهني قوم خشيت عقابهم فداريتهم و الدائرات تــــدور
و أكرم عفو يؤثر الناس أمره إذا ما عفا الإنسان و هو قديــــــر
و قد اشتهر بن حماد بشعر الزهد و التصوف حتى شبه بأبي العتاهية اعتقادا منهم أنه تأثر به أثناء رحلته إلى المشرق فمن شعره في لزهد(2)
قف بالقبور فناد الهامدين بها من أعظم بليت فيها و أجساد
قوم تقطعت الأسباب بينهـــم من الوصال و صاروا تحت أطواد
و الله و الله لو ردّوا و لو نطقوا إذا لقالوا التّقى من أفضل الزاد

فهي أبيات كما نرى من أجمل و أروع ما قيل في مجال الزهد تحدث من التأثير الشيء العظيم على كلّ من يقرؤِها.
و قد اختلف في سنة وفاته، فذهب ابراهيم طلاي محقق الطبقات إلى أنه توفي سنة 292هـ و لم يذكر المصادر التي اعتمد عليها (3) و يذكر الدكتور بحاز أنه توفي في 296 هـ(4) و لعله الأصح.
ــــــــــــــــــ
1-الدولة الرستمية، بحاز ابراهيم ، جمعية التراث ، القرارة الجزائر 1993 ص: 308- 363
2- الأزهار ، للباروني 2/95، و الدولة الرستمية ل بحاز ص:364
3- الطبقات، الدرجيني 2/1 نقلا عن الأزهار للباروني 2/97
4- انظر الدولة الرستمية، بحاز ابراهيم
ابن رشيق القيرواني
كان رشيق مملوكا روميا من موالي الأزد و من أهل مدينة المسيلة ( المحمدية) في المغرب الأوسط ( الجزائر) و كانت صنعته الصياغة، و في المحمدية ولد ابنه الحسن سنة 390هـ ( 1000م) أو قبل ذلك بقليل ، فتعلم صنعة أبيه و تأدب قليلا.
و في سنة 406 هـ ( 1016م) انتقل الحسن بن يوسف بن رشيق إلى القيروان و درس على جماعة من أدبائها و علمائها ، و كان منهم أبو محمد عبد الكريم بن ابراهيم النهشلي ( و ابن رشيق كثير الاستشهاد بآرائه في كتاب العمدة) و منهم أيضا أبو عبد الله محمد بن جعفر القزاز القيرواني ( ت 412 هـ) اشتهر ابن رشيق في القيروان و اتصل بصاحبها الأمير معز بن باديس منذ سنة 410هـ فلقي عنده حظوة، و أصبح من بطانته و أهل دولته.
انتقل ابن رشيق إلى جزيرة صقلية و نزل في مازر ( على الساحل الجنوبي الغربي ) و بقي فيها إلى أن أدركته الوفاة في غرة ذي الحجة من سنة 456 هـ ( 14/ 11/1064م).
ابن رشيق عالم باللغة و النحو و بارع في الأدب و النقد و شاعر و مؤلف حسن التأليف ، و لقد غلب نقد الشعر عليه فعرف به دون سائر فنون العلم و الأدب ، و ابن رشيق شاعر مقتدر ، صحيح المعاني ، متين الأسلوب غير أن العقل يغلب في شعره على العاطفة ، و معظم معانيه مستعارة، و إن كان أحيانا يصيب الصورة الشعرية.
تقوم شهرة ابن رشيق و مكانته على كتاب " العمدة " و هو يتألف من قسمين في أولها نقد تاريخي للشعر ، و في الثاني منهما بلاغة و نقد ( و إن كنت تجد أبوابا في القسم الأول هي أخلق بالقسم الثاني ، كما نجد في القسم الثاني أبوابا أقل عددا يجب أن تكون في القسم الأول) فمن أبواب القسم الأول: فضل الشعر – الرد على من يكره الشعر – شعر الخلفاء و الصحابة- باب من رفعه الشعر ( كامرئ القيس) و من وضعه أي حطّ قدره الشعر ( كالنابغة) – باب التكسب بالشعر و الأنفة من التكسب به- القدماء و المحدثون المقلون من الشعر و المكثرون – مشاهير الشعراء- باب الشعراء و الشعر: حد الشعر اللفظ و المعنى – المطبوع و المصنوع – الأوزان- القوافي – القطع و الطوال- المبدأ و الخروج و النهاية- الإيجاز- الفرق بين الاختراع و الإبداع- المجاز- الاستعارة – التجنيس – الفرق بين الترديد و التكرار- الاستثناء- توكيد المدح بما يشبه الذم – السرقات – النسيب – المديح – الرثاء...الخ – سيرورة الشعر و الحظوة عند الممدوحين – باب في أصول النسب و بيوتات العرب – باب معرفة الأماكن و البلدان – باب الوصف...الخ
يقول ابن خلدون في تقريظ كتاب العمدة لابن الرشيق مايلي: " و هو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة ( صناعة الشعر ) و إعطاء حقها ، و لم يكتب فيها قبله و لا بعده مثله ".
و لابن رشيق من التصنيف أيضا :
- كتاب الأنموذج ( في شعراء القيروان المعاصرين له )
- قراضة الذهب في نقد أشعر العرب.
- كتاب الغرائب و الشواذ في اللغة.
و له عدد من الرسائل يرد فيها على معاصره و منافسه ابن شرف القيرواني منها :
- فوات الوفيات
- رسالة ساجور الكلب
- رسالة قطع الأنفاس
- رسالة نجح الطلب
- رسالة رفع الإشكال و دفع المحال
- فسخ اللمح و نسخ الملح
- ميزان العمل في أيام الدول.
مختارات من آثاره:
قال ابن رشيق في وصف حال المسلمين حينما بدأ الأسبان النصارى يستولون على المدن الأندلسية و يخرجون منها أهلها تقتيلا و تشريدا:
المسلمون مقسمون تنالهم أيدي العصاة بذلة و هوان
بادوا نفوسهم فلما أنفدوا ما جمعوا من صامت و صوان(1)
خرجوا حفاة عائذين بربهم من خوفهم و مصائب الألوان
هربوا بكل وليدة و فطيمة و بكل أرملة و كل حصان(2)
فتفرقوا أيدي سبا و تشتتوا بعد اجتماعهم على الأوطان(3)
ـــــــــــــــــــــــــ
1- بادوا نفوسهم فما انفدوا: أنفقوا ما كانوا خزنوه. الصامت: المال الجامد( كالعملة و الأبنية ..إلخ). الصوان: الصندوق توضع فيه الثياب الثمينة( لصونها).
2- الحصان: المرأة الشريفة النبيلة( التي لا يمسها أجنبي)
3- تفرق القوم أيدي سبا: تشتتوا( تفرقوا تفرقا لا اجتماع بعده)
للامانة العلمية الموضوع منقول لتعميم الفائدة. فريد قر ميش

http://hitskin.com/themes/15/89/78/i_up_arrow.gif (http://salimprof.hooxs.com/t2167-topic#top) http://hitskin.com/themes/15/89/78/i_down_arrow.gif (http://salimprof.hooxs.com/t2167-topic#bottom)

ميس لميس
2012-11-29, 08:17
شكرااااااااااااا ممكن بحث حول المشتقات في الأدب العربي

hala7
2012-11-29, 16:38
ممكن بحث عن اللغة و الفكر

**د لا ل**
2012-11-29, 20:20
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نحن لا نقدم البحوث هنا

لانها من المفروض ان تكون جهدا ذاتيا منكم كي تستفيدوا اكثر مما تدرسونه

فنحن نقدم لكم في هذا القسم الدروس والمحاضرات و الدراسات الادبية والنقدية

ومن الافضل ان تبحثوا وتجتهدوا في تقديم بحوثكم اكثر

شكراااا

**د لا ل**
2012-11-29, 20:42
نكمل على بركة الله

**د لا ل**
2012-11-29, 20:46
ـ وحدة فقه اللغة



قائمة بالمصادر والمراجع المقترحة


- لسان العرب لابن منظور


- فقه اللغة – الثعالبي


- الخصائص – ابن جني


- فقه اللغة – علي عبد الواحد وافي


-فقه اللغة العربية وخصائصها – اميل بديع يعقوب


-علم اللغة ـ علي عبد الواحد وافي


- فقه اللغة محمد المبارك


- دراسات في فقه اللغة ـ صبحي الصالح


- نشوء اللغة و نموها واكتمالهاـ أنستاس الكرملي


-مولد اللغة ـ أحمد رضا العاملي


-من أسرار اللغة ـ ابراهيم أنيس


- دلالة الألفاظ ـ ابراهيم أنيس


- الاشتقاق و التعريب ـ عبد القادر المغربي


- الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية ـ جورجي زيدان


- علم الدلالة ـ فايز الداية


- خصائص العربية والاعجاز القرآنيـ أحمد شامية


- في اللغة ـ دراسة تمهيدية منهجية ـ أحمد شامية


- نشأة اللغة عند الإنسان والطفلـ علي عبد الواحد وافي


- علم اللغة العام– عبد الصبورشاهين


- اللغة ـ فندريس


-اللسان والإنسان – حسن ظاظا


-اللغات السامية – إسرائيل ولفنسون


- ابن خلدون ـ المقدمة


- شفاء الغليلـ الخفاجي


- الصاجي في فقه اللغة – أحمد بن فارس


- المزهر في علوم اللغة – جلال الدين السيوطي


- مدخل إلى علم اللغة– محمود فهمي حجازي


-المعرب – للجواليقي


- دراسات في اللغة واللهجات والأساليب – يوهان فك



ـ الدراسات اللغوية العربيةـ محمد حسين آل ياسين
اللغة العربية عبرالقرون ـ محمود فهمي حجازي



ـ أسرار العربية ـ لابن الأنباري

ـالأضداد – لابن الأنباري

ـ دراسات في اللغة– ابراهيم السامرائي

ـ المولد ـ حلمي خليل

ـ دراسات في العربية وتاريخها– الخضر حسين

اللغة العربية معناها ومبناها – تمام حسان ـ

ـ بحوث ألسنية عربية ـ ميشال زكريا ـ المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع ، بيروت



ملاحظة : لم نعتمد في ترتيب هذه المصادر و المراجع معيارا معينا ، انما هو مجرد تسلسل ليعود الطالب الى ما يستطيع الوصول اليه من هذه المراجع ، الا أننا سنضع خطوطا تحت أهم المراجع المتعلقة بالبرنامج .





أهمية اللغة


فقه اللغة تعريف وتوضيحات


أ ـ أهمية اللغة


قدلا تبدو أهمية اللغة ودراسة علومها – وهي تسلك في مجموعة العلوم الإنسانية -لاتبدو هذه الأهمية في مستواها الحقيقي عند مقارنتها بالعلوم الأخرى لاسيما العلوم الدقيقة والتكنولوجية...وربما ينعكس ذلك على الاهتمام بدراسة اللغة مما يؤدي إلى عدم إعطائها القدرالكافي ، والمساحة الضرورية في وضع البرامج والتخطيط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي .


لكن لوحللناالمسألة بعمق وموضوعية لتبين لنا أن اللغة – أي لغة – هي عصب العلوم في جميع فروعها ، بل هي أداة الحياة والحضارة والتقدم .


حتى يمكن للمرء أن يقول أن الإنسان بتميزه عن غيره من المخلوقات قد كان له ذلك بفضل هذه النعمة ، حتى أنه قد يصدق القول ، الإنسان حيوان ذولغة بما للغة من الارتباط الوثيق بالتفكير وتأمين الاتصال، ويمكن الرجوع في هذا إلى الكثير مما سجله الباحثون ورجال الفكر .


فاللغة هي الإنسان ، قال تعالى ( خلق الإنسان علمه البيان ) صدق الله العظيم . ففي هذه الآية نلاحظ هذه العلاقة بين خلق الإنسان وتعليمه البيان أي الكلام بلسان مبين مختلف عن وسائل الاتصال ، أو ما يسمى بلغة الطيور والحيوانات وغيرها ، فالمخلوق الوحيد الذي يمتلك مثل هذا اللسان وهذه الأداة هو الإنسان ، والإنسان


وحده .


ولذا فكل مايتعلق بالإنسان وتفاعله مع هذا الكون يستند أصلا إلى اللغة ومن هنا كانت اللغة جديرة بالاهتمام والبحث والدراسة للاستفادة من مزاياها وإمكاناتها إلى أقصى حد .


والتفصيل في هذا الموضوع قد يطول ، ولكن يمكن أن أقول باختصار ، أن اللغة ، هي واحدة من الوسائل الحيوية الأربعة التي ما كان للإنسان أن يستمر في هذه الحياة بدونها ولكن على الترتيب في الأهمية ، بدءا بالهواء الذي لا يمكن العيش بدونه دقائق معدودة ولذلك وفرته العناية الإلهية بصورة غير محدودة ، بل هو الذي لا يسعى الإنسان إليه .


ويأتي بعد ذلك وفي المرتبة الثانية – الماء ـ إذ لا يستطيع الإنسان الصبرعلى فقدانه إلا لأيام معدودة ، ولذلك توفر في الحياة ولكن ببعض السعي والجهد من بحث أو سفر أو رحلة أو غيرذلك ، ثم يأتي في المرتبة الثالثة الغذاء وهو من الضرورات التي لابد منها لاستمرار الحياة ، ولكن يمكن الصبر على فقدانه لفترة أطول ، لذلك كانت الحكمة الإلهية توفره إنما بصورة أقل وتحتاج إلى فترة أطول من السعي والطلب .


وأخيرا تأتي اللغة و التي قد تعيش البشرية بدونها فترات طويلة نسبيا ولكن لولاها لما استطاعت أن تتقدم وتزهر وتبني وتعمر وبالتالي كانت عوامل الطبيعة قد عدت عليها فانقرض الإنسان ، وانقرضت الحياة ، إذ أننا لايمكن أن نتصور هذا التقدم العلمي الصاعد لوكان الإنسان دون لغة . ( انظر مقال : هل العربية ملكة اللغات ) مجلة المبرز ، العدد الأول – المدرسة العليا للأساتذة 1992 إن ما نسعى إليه في هذا الموضوع هو لفت الانتباه إلى أهمية اللغة والسعي إلى دراستها وتعلمها بطريقة منهجية لنتمكن أيضا من تعليمها إلى الأجيال ببذل أقل ما يمكن والوصول الىأفضل النتائج .




بين فقه اللغة وعلم اللغة


الفقه ـ في المعاجم العربية ـ هو الفهم وربما خص بعلم الشريعة والدين .


و قد ورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام قوله " من أراد الله به خيرا فقهه في الدين "


و من هنا يتبين لنا وجود مطابقة من الناحية اللغوية بين الفقه والعلم، و بهذا أخذ عدد من العلماء و الباحثين اللغويين فلم يفرقوا بين العلمين ، و انما جعلوا ( فقه اللغة وعلم اللغة) مصطلحين لمفهوم واحد أو علم واحد .


و من أبرز هؤلاء العلماء المعاصرين الأستاذ الدكتور صبحي الصالح ، الذي قال في كتابه( دراسات في علم اللغة ) : "من العسير تحديد الفروق الدقيقة بين علم اللغة فقه اللغة لأن جل مباحثهما متداخل لدى طائفة من العلماء في الشرق والغرب ، قديما وحديثا ، و قد سمح هذا التداخل أحيانا ، باطلاق كل من التسميتين على الأخرى ، حتى غدا العلماء يسردون البحوث اللغوية التي تسلك عادة في علم اللغة ، ثم يقولون : " و فقه اللغة يشمل البحوث السابقة ......."


و الحقيقة أن العرب ، لم يكونوا يعرفون هذه التسمية أو هذا المصطلح "فقه اللغة " ، الا في أواخر القرن الرابع الهجري ، و ربما كان أول من استعمل هذا المصطلح أحمد بن فارس ،المتوفى سنة395 ه ،عنوانا لمؤلفه(الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها).


و يلاحظ بعد ذلك استعمال هذا المصطلح عند عدد من العلماء مثل الثعالبي


ـ ت429ه ـ في كتابه ( فقه اللغة وسر العربية) . و ان كان هذا الكتاب ، حسب رأي الباحثين المعاصرين ، لا يمثل في موضوعاته ما يمكن أن يسلك في فقه اللغة . بينما نجد بعض المؤلفات الأخرى التي لا تحمل مثل هذا العنوان ، و لكنها تشمل موضوعات هي أولى بأن تكون من مباحث فقه اللغة مثال ذلك كتاب ابن جني


ـ ت 392هـ المعنون ب ( الخصائص ) .


ولعل أقرب المؤلفات الى مفهوم فقه اللغة كتاب المزهر للسيوطي ـ ت 211ه ـ . في العصر الحديث وبعد أن تقدمت البحوث اللغوية لا سيما في الدراسات اللسانية العربية ومنذ أن ظهر العالم اللغوي السويسري ، فرديناند دي سوسير الذي دعا الى الفصل بين الدراسات اللغوية وفق منهج علمي موضوعي يتمثل في دراسة اللغة بذاتها و لذاتها و بين المنهج التاريخي ـ الزماني التطوري ـ .


هنا بدأ الفصل بين علمين مستقلين هما(فقه اللغة) أو الفيلولوجيا حسب المصطلح الغربي و( علم اللغة).


و تجلى ذلك في الدراسات اللغوية المعاصرة في اختلاف الآراء وظهورمصطلحات مختلفة للدراسات اللغوية ، اذ يرى بعضهم ألا فرق بين فقه اللغة و علم اللغة كما هو عند صبحي صالح و كذلك محمد المبارك .


بينما نجد تسميات أخرى مثل ( الفلسفة اللغوية ) عند جرجي زيدان و (الألسنية ) عند مرمرجي الدومينيكي و ( اللسانيات ) عند الدكتور عبد الرحمان الحاج صالح و (علم اللغة )عند محمود السعران و كثيرون .


لكن أشهر التسميات : فقه اللغة و علم اللغة ، أما مصطلح ( فيلولوجي ) الغربي الذي نترجمه الآن بفقه اللغة فيحتاج الى بعض التفصيل .


و تبين الدراسة التاريخية بين القرن الثامن عشر و القرن العشرين ، أن هذا المصطلح لم يكن واضحا ، حيث استعملت مصطلحات أخرى من قبل وشملت بحوثا لغوية مختلفة مثل دراسة النحو والصرف و النصوص القديمة . و يعتقد بعضهم أنه يشمل بحوث علم اللغة بالاضافة الى جميع الفنون اللغوية و الأدبية و تاريخ العلوم بشكل عام .


ظل الأمر كذلك حتى ظهور ما يسمى( اللسانيات )الحديثة عند دو سوسير و البنويين الغربيين .وتركت البحوث التاريخية والتطورية التي سميت بعد ذلك الفيلولوجيا . و لم تعد موضوعات مثل نشأة اللغات وغيرها تتدخل في نطاق ما يسمى ب (علم اللغة ).


من هنا يمكن أن نوجز المراحل التي مرت بها الدراسات اللغوية الغربية بما يلي :


1ـ مرحلة ما يسمى بالقواعد ، و قد شيدها الاغريق ،و تابعها الفرنسيون و هي تعتمد المنطق والمعيارية ، وترمي الى تقديم قواعد لتمييز الصيغ الصحيحة .


2 ـ مرحلة فقه اللغة و نشأت في مدرسة الاسكندرية و تنصب الدراسة فيها على النصوص القديمة المكتوبة ، واللغة ليست موضوع الدراسة الوحيد و انما التاريخ والشرح والتفسيرو العادات ... وتهتم أساسا بالنقد ، و قد عبدت الطريق لما يسمى باللسانيات التاريخية .


3 ـ النحو المقارن ، و بدأت هذه الدراسات باكتشاف اللغة السنسكريتية (الهندية القديمة) و كانت في البداية ـ عند علماء الهندواوروبية ـ ذات منهج طبيعي ،عند ( بوب وماكس ميلر )


ثم تشكلت مدرسة جديدة تحمل اسم النحويين المولدين الألمان بحافز من كتاب الأمريكي ، ( ويتني ) الذي عنوانه ( حياة الانسان ).


4 ـ وفي الثلاثينيات من القرن العشرين ظهرت المدرسة البنوية ، التي لا تعتمد معايير خارجة عن اللغة ، فاللغة منظومة لا تعترف الا بنظامها الخاص و قد تم تطوير هذا الاتجاه في الولايات المتحدة الأمريكية.


و بعد ذلك تعددت الاتجاهات البنوية في أمريكا وأوروبا حتى صار ما يعرف بالمدارس اللسانية الحديثة .


و لو رجعنا الآن الى التمييز بين فقه اللغة وعلم اللغة يمكن أن نذكر أن الفرق الرئيسي يتجلى فيما يلي:


1 ـ يعتمد علم اللغة المنهج الوصفي الآني للنصوص اللغوية


بينما يعتمد فقه اللغة المنهج التاريخي التطوري المقارن


2 ـ تنصب الدراسة في علم اللغة على النصوص الحية وخاصة الشفوية منها .


في حين نجدها تهتم في فقه اللغة بالنصوص المكتوبة والقديمة بشكل خاص بالاضافة الى المخطوطات والنقوش.


3 ـ يهدف علم اللغة الى دراسة النظام اللغوي في البنية اللغوية .


بينما يهدف فقه اللغة بالاضافة الى دراسة اللغة بحد ذاتها الى الوصول الى معلومات تتعلق بالتاريخ والثقافة ، و العادات والتقاليد و غير ذلك مما يمكن استنباطه من النص اللغوي ، وهنا تتخذ اللغة باعتبارها وسيلة ، بينما هي حسب منهج علم اللغة غاية بحد ذاتها .














نشأة اللغة الانسانية الأولى :أهم النظريات أو الفرضيات


اختلف الباحثون قديما وحديثا في موضوع نشأة اللغة الانسانية الأولى ، ومدى نجاعة دراسة مثل هذا الموضوع بين معارضين للبحث فيه الى درجة التحريم ، باعتباره موضوعا غير ظني لا يمكن التحقق من صحة وقائعه ، و بين مؤيدين بل ومصرين على مثل هذه البحوث اللغوية التي تنبع من التراث المعرفي الذي يصب في صميم الدراسات اللغوية و ما يتعلق بها .


و لكن عندما ظهر ما يسمى بالدراسات اللسانية الحديثة ( المدارس اللسانية ) كان هناك انفصال بين علمين توأمين أحدهما يسمى (فقه اللغة ) والثاني (علم اللغة ).


كما مر معنا سابقا ،و صار من السهل اخراج مثل هذا الموضوع من الأبحاث والدراسات التي تدخل تحت عنوان (علم اللغة ) و ادراجه في الدراسات التي تسمى


( فقه اللغة ).


لذلك أدرجنا هذا الموضوع ضمن مادة ( فقه اللغة) ، بغض النظر عما تتضمنه هذه المادة من موضوعات يمكن أن تدرج في ( علم اللغة ) متابعة للبحوث و الدراسات والأعمال العربية التي جاءت تحت عنوان (فقه اللغة ) و لكنها كانت أقرب الى فقه اللغة حسب المفاهيم والآراء الحديثة لهذا العلم .


و قد تعددت الآراء والفرضيات التي تفسر نشأة اللغة الانسانية الأولى ، من اعتماد المعقول والمنقول .


ومن أهم هذه النظريات ( الفرضيات ) ، النظريات التالية :




1ـنظرية الالهام و الوحي والتوقيف :





تذهب هذه النظرية الى أن الله الخالق أوحى الى الانسان الأول وأوقفه على أسماء الأشياء بعد أن علمه النطق . وقدذهب الى هذا الرأي في العصور القديمة الفيلسوف اليوناني هيراقليط ( ت : 480 ق . م ) ، و في العصور الحديثة طائفة من العلماء على رأسها لامي و الفيلسوف دونالد . ومن علماء المسلمين في العصور الوسطى : أبو عثمان الجاحظ (ت 255 ه) و أبو الحسن الأشعري (ت 324 ه) ، و أحمد بن فارس (ت 395ه ) ، الذي يرى أن لغة العرب توقيفية .



و يبدومن قول ابن فارس أن اللغة العربية هي لغة آدم عليه السلام ، لأنه ذكر أن أول من كتب الكتاب العربي والسرياني و الكتب كلها آدم ـ عليه السلام ـ قبل موته ب300سنة . و قد ذكر السيوطي عن ابن عساكر في التاريخ عن ابن عباس ، أن آدم (عليه السلام ) كانت لغته في الجنة العربية .
قال عبد الملك بن حبيب : " كان اللسان الأول الذي نزل به آ دم من الجنة عربيا . الا أن بعد العهد و طال صار سريانيا ، وكان يشاكل اللسان العربي الا أنه محرف .... وبقي اللسان في ولد أرفشذ بن سام الى أن وصل الى يشجب بن قحطان من ذريته وكان باليمن ، فنزل بنو اسماعيل ، فتعلم منهم بنو قحطان اللسان العربي .


و يرى علماء العبرانية و تابعهم كثير من مشاهير علماء النصرانية وغيرهم : أن اللغة العبرانية هي اللغة التي فتق الله بها لسان آدم ـ عليه السلام ـ في ولده شيث حتى انتهت الى ابراهيم عن طريق عابر بن سام ويستدلون على ذلك بعدد من الأسماء الواردة في حديث الخلق وما بعده الى الطوفان مثل آدم وعدن و فيشون وجيجون وغيرها أسماء عبرانية .


أدلة أصحاب التوقيف


يعتمد علماء الغرب المؤيدون لهذه النظرية على ما ورد بهذا الصدد في العهد القديم من الانجيل" و الله خلق من طين جميع حيوانات الحقول ، و جميع طيور السماء ، ثم دعا آدم ليرى كيف يسميها . وليحمل كل منها الاسم الذي يضعه له الانسان . فوضع آدم أسماء لجميع الحيوانات المستأنسة ، ولطيور السماء و دواب الحقول "


وهذا النص لايدل على شيء مما يقوله أصحاب هذه النظرية بل يكاد يكون دليلا على عكس النظرية .


ويرى الدكتور توفيق شاهين أن أبا عثمان الجاحظ ارتضى هذه النظرية حيث قرر أن الله سبحانه و تعالى أنطق نبيه اسماعيل بالعربية دون سابق تمهيد أو تعليم وأنه ـتعالىـ فطره على الفصاحة على غير النشوء والتمرين .


و يضيف القائلون بالتوقيف الى ذلك ثلاثة وجوه :


1 ـ أنه سبحانه وتعالى ذم قوما في اطلاقهم أسماء غير توقيفية في قوله تعالى :" ان هي الا أسماء سميتموها أنتم ..." وذلك يقتضي كون البواقي توقيفية




2 ـ قوله تعالى :" ومن آياته خلق السماوات والأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم " و الألسنة اللحمانية غير مرادة لعدم اختلافها . و لأن بدائع الصنع في غيرها أكثر . فالمراد هي اللغات


3 ـ و هو عقلي : فلو كانت اللغات اصطلاحية لاحتيج في التخاطب بوضعها الى اصطلاح آخر من لغة أو كتابة ، يعود اليه الكلام ،و يلزم اما الدور أو التسلسل في الأوضاع و هو محال فلا بد من الانتهاء الى التوقيف .


وبناء على كلام أهل التوقيف ، لا يجوز قلب اللغة مطلقا : فلا يجوز تسمية الثوب فرسا مثلا.


وقدم ابن جني تفسيرا آخر هو أن الله تبارك وتعالى : علم آدم أسماء جميع المخلوقات بجميع اللغات :العربية والسريانية و الفارسية والعبرانية و الرومية وغير ذلك من سائر اللغات . فكان هو و ولده يتكلمون بها ،ثم ان ولده تفرقوا في الدنيا وعلق كل منهم بلغة من تلك اللغات ، فغلبت عليه و اضمحل عنه ما سواها عهدهم بها.


أما الخفاجي فيذهب الى أن التوقيف الالهي مستند الى لغة سابقة له يفهم بها المقصود بافتراض أن المواضعة تقدمت بين آدم والملائكة .























2ـ نظرية محاكاة أصوات الطبيعة :





و تذهب الى أن أصل اللغة محاكاة أصوات الطبيعة ،كأصوات الحيوانات وأصوات مظاهر الطبيعة ، والتي تحدثها الأفعال عند وقوعها ، ثم تطورت الألفاظ الدالة على المحاكاة ، وارتقت بفعل ارتقاء العقلية الانسانيةو تقدم الحضارة .


و ذهب الى هذه النظرية " ابن جني" قديما ، و "ويتني " حديثا في القرن التاسع عشر.


وليست هذه النظرية من اختراع "ماكس ميلر " ، كما أشار بعضهم بل عرفها العلامة ابن جني . وذكر أنه نقله عمن سبقه ، مما يدل أنه كان مذهبا شائعا و مقررا حيث يقول : وذهب بعضهم الى أن أصل اللغات كلها ، انما هو الأصوات المسموعات كدوي البحر وحنين الرعد ، وخرير الماء ، و شحيح الحمار ونعيق الغراب .....ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد"


وقد كان ابن جني معجبا بهذه النظرية ،حيث أفرد لها بابا في كتاب الخصائص سماه


( باب في امساس الألفاظ أشباه المعاني ) ، قال فيه " و لو لم يتنبه على ذلك الا بما جاء عنهم من تسميتهم الأشياء بأصواتها ،كالخازبار لصوته ، و البط لصوته و نحو ذلك قولهم حاحيت ،و عاعيت ، هاهيت ، اذا قلت حاء ، عاء ، هاء ، وقولهم : بسملت ،هللت ، حوقلت . كل ذلك أشباهه انما يرجع اشتقاقه الى الأصوات و الأمر أوسع "



والواقع أن لهذا النظرية ما يؤيدها . فالطائر المسمى في الانجليزية CUOKOO الى جانب الهرة المسماة "مو " في المصرية القديمة

ويذهب بعض الباحثين الى أن هذه النظرية هي أقرب النظريات الى الصحة و الى

المعقول ، وأكثرها اتفاقا مع طبيعة الأمور وسنن النشوء .

ومن أهم أدلتها :

1 ـ أن المراحل التي تقررها بصدد اللغة الانسانية ، تتفق في كثير من وجوهها ، مع مراحل الارتقاء اللغوي عند الطفل :فقد ثبت أن الطفل في المرحلة السابقة لمرحلة الكلام ، يلجأ في تعبيره الارادي الى محاكاة أصوات الطبيعة ، فيحاكي الصوت قاصدا التعبير عن مصدره ، أو عن أمر يتصل به .

وثبت كذلك أنه في هذه المرحلة ـ و في بدأ مرحلة الكلام ـ يعتمد اعتمادا جوهريا في توضيح تعبيره الصوتي ، على الاشارات اليدوية والجسمية

نقد النظرية :

وجه الى هذه النظرية انتقاد أساسي، فهي من جهة تعجز عن تفسير مبدأ كيفية(حكاية الأصوات ) ، في آلاف الكلمات التي لا نرى الآن أية علاقة بين معناها وصوتها . فما العلاقة بين لفظ الكتاب و معناه ،مثلا ؟















3 ـ نظرية الاتفاق والمواضعة والاصطلاح



تقرر هذه النظرية أن اللغة ابتدعت و استحدثت بالتواضع ، و الاتفاق و ارتجلت ألفاظها ارتجالا . ومال كثير من العلماء والمفكرين الى هذه النظرية ،منهم : الفيلسوف اليوناني ديموكريط و أرسطو والمعتزلة .

وقال بها من المحدثين أيضا : آدم سميث الانجليزي .

وليس لهذه النظرية أي سند عقلي او نقلي أو تاريخي بل أن ما تقرره يتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظم الاجتماعية ، وعهدنا بهذه النظم ، أنها لا تخلق خلقا ، بل تتكون بالتدريج من تلقاء نفسها . اضافة الى ذلك فالتواضع على التسمية يتوقف في كثير من مظاهره على لغة صوتية يتفاهم بها المتواضعون فبأي لغة تواصل هؤلاء ؟

هذه النظريات هي أشهر النظريات و هناك نظريات أخرى نكتفي بذكرها دون تفصيل ومنها :

1 ـ نظرية الأصوات التعجبية العاطفية (نظرية ( pooh _ pooh

2 ـ نظرية الاستجابة الصوتية للحركة العضلية ( نظرية yo _he –ho

3ـ نظرية جسبرسن الذي طالب بدراسة وافية للغة الطفل ، ولغات القبائل البدائية ، و دراسة تاريخية للتطور اللغوي . كل ذلك من أجل التوصل الى معرفة كيفية نشأة اللغة الانسانية الأولى وفق منهج علمي

4 ـ نظرية فندريس : الذي يرى أن اللغة كانت لدى الانسان الأولى انفعالية محضة

5ـ نظرية النشوء والتناسل : و ترى هذه النظرية أن اللغة نشأت بالطفرة و بشكل تلقائي ، فتفترض أن اللغة نشأت متكاملة في لحظة معينة ثم أعقبها التوالد والتكاثر.

و نرى كما يرى عدد من الباحثين ، أنه لاتوجد نظرية واحدة يمكن أن تفسر نشأة اللغة الانسانية و أن ثلاث نظريات متكاملة يمكن أن تفسرذلك . فالله سبحانه وتعالى أهل الانسان وأعطاه القدرات الخاصة ، فألهمه لكي ينطق وينشئ اللغة .

و بهذه القدرة استطاع الانسان الأول أن يضع كلماته وجمله الأولى ، بالاصغاء والملاحظة و التقليد ، لما يوجد حوله في الكون.ولما تقدم الانسان ، وارتقى في التفكير ، بدأ بوضع كلمات جديدة بالتواطؤ و الاصطلاح الذي ما زال مستمرا الى يومنا هذا ، بل الى قيام الساعة .

**د لا ل**
2012-11-29, 21:13
لكل طلاب السنة الرابعة جامعي :كيفية اعداد مذكرة تخرج (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=3954)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لعناصر تبدأ بصفحةجديدة.
1- الغلاف.
2 - صفحة العنوان.
3- ورقة بيضاء.
4- الاهداء.
5- كلمة الشكر.
6- الفهارس وترقم با الأحرف العربية أو الأرقام الهندية.
7- مقدمة المذكرة.
8- الفصول أو الجزء الأساسي للمذكرة.




الفصل الأول: البناء المنهجي: ويحتوي:



* الدراسة الاستطلاعية (تحديد المجال الزماني والمكانيوالبشري).
* الاشكالية.
* الفرضيات.
* أهداف البحث.
* أهمية البحث.
* أسباب اختيار الموضوع (ذاتية وموضوعية).
* صعوبات البحث.
* المنهجيةالمتبعة في الدراسة (المنهج المتبع والتقنية المستعملة).
* الدراساتالسابقة.





الفصل الثاني: الجانب النظري: ويحتوي:



* تحديد المفاهيم.
* التطرق الى الدراسة من الناحيةالنظرية من خلال ما تم جمعه من معلومات من الكتب او غيرها من المراجعوالمصادر.





الفصل الثالث: الجانب التطبيقي: ويحتوي:




* التعريف بميدان البحث.
* تحديد عينة البحث وكيفيةاختيارها.
* عملية تفريغ البيانات مصحوبة باستنتاجاتجزئية.





الفصل الرابع: الاستنتاج العام والتوصيات: ويحتوي:



* الاستنتاج العام.
* التوصيات.
* الاقتراحات.
* الخاتمة.
* المراجع.
* الملاحق




هذا هو بشكل عام الشكل النوذجي لمذكرة التخرج فقط بعض الملاحظات البسطة:



1- على الطالب أن ينتبه الى العامل الزمني فلا يترك عمل اليوم الى الغد، كي لا يجد نفسه في آخر السنة (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=3954) عوض ان يعملبارتياح كي يقدم عمل جيدا، نجده يصارع الزمن من اجل اتمام المذكرة في حينهاوبالتالي يخرج العمل مملوء بالنقائص.



2- الاصغاء والانتباه الجيد لملاحظات المشرف على العمل كي لا تتكرر ملاحظاته في كل مرة وبالتالي يضيع الوقت في اشياء كانمن الممكن تصحيحها منذ البداية.



3- بامكان الطالب ان يتطرق الى موضوع سبق التطرق اليه في نفس الجامعة او في جامعات اخرى لكن لا ننصح بنسخها كما هي ولكنالتطرق الى الموضوع من زاوية اخرى او من جانب آخر من أجل سد الثغرات التي لحظهةالمناقشون من قبل ومن اجل اثرائه وتطويره.







و نظرا لكون اغلب الباحثين المبتدئين خاصة الطلاب المقبلين علىشهادة ليسانس، يجدون صعوبة في ضبط الاشكالية والفرضية في مذكرة (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=3954) التخرج، اضع بينايديكم هذا الموضوع





الإشكالية.



1- اعتبارات اختيار المشكلة:
هناك عدة اعتبارات يجب مراعاتها عند اختيار مشكلةالبحث واهمها:
- حداثة المشكلة، أي أنه لم يتم تناولها من قبل حتى لا تتكررالجهود.
- أهمية المشكلة وقيمتها العلمية.
- اهتمام الباحث بالمشكلة وقدرتهعلى دراستها وحلها.
- توفر الخبرة والقدرة على دراسة المشكلة.
- توفرالبيانات والمعلومات الكافية من مصادرها المختلفة.
- توفر الوقت الكافي لدراسةالمشكلة.
- توفر الإمكانيات المادية والإدارية المطلوبة.
- عدم وجود جوانبأخلاقية تمنع إجراء المشكلة.
- ان تكون قابلة للبحث في ضوء الإمكانيات المتوفرةلدى الباحث، ولتحديد المشكلة يمكن الاسترشاد بالأسئلة التالية:
• ما هي حدةالمشكلة أو الظاهرة موضوع الدراسة؟
• ما هو تاريخ بروز هذه المشكلة أوالظاهرة؟
• هل هناك مؤشرات كافية حولها نستطيع تحديدها بوضوح؟
• هل ستكونإيرادات تنفيذ اقتراحات الدراسة أعلى بكثير من تكاليف إجرائها؟
• هل يمكن القيامبهذه الدراسة وهل تتوفر الخبرات العلمية لذلك؟
• هل هناك دراسات سابقة حولالمشكلة يمكن الحصول عليها بتكلفة معقولة وخلال فترة زمنيةمعقولة؟






1- معايير صياغة المشكلة:



• وضوح الصياغةودقتها.
• أن يتضح في الصياغة وجود متغيرات للدراسة.
• وضوح الصياغة بحيثيمكن التوصل إلى حل للمشكلة ( قابلة للاختبار).
وعند صياغة مشكلة يجب اخذ الأمورالتالية بعين الاعتبار:
• ما العلاقة بين المتغيرات الداخلة في الدراسة؟ وهل هذهالمتغيرات محددة وقابلة للقياس ؟
• يجب أن تصاغ المشكلة بشكل سؤال أو عدة أسئلةواضحة لا إيهام فيها.
• يجب أن يكون بالإمكان جمع البيانات عن المشكلةلاختبارها.
• يجب أن لا تتعرض المشكلة لموضوعات حساسة من الناحية الأخلاقية أوالدينية.
• يجب أن تكون المشكلة قابلة للحل من قبل الباحث ضمن الوقت والإمكاناتالمتاحة له.
ويمكن تقويم البحث من خلال الإجابة على التساؤلات التالية:
• هلتعالج المشكلة موضوعا جديدا أم موضوعا تقليديا مكررا؟
• هل سيسهم موضوع الدراسةفي إضافة عملية جديدة معينة؟
• هل تمت صياغة المشكلة إلى توجيه الاهتمام ببحوثودراسات أخرى هل يمكن تعميم النتائج التي يتم التوصل إليها؟
• هل ستقدم النتائجفائدة علمية إلى المجتمع.



في الأخير إتباع بعض النصائح والمعايير المعمولبها في ميدان البحث:
• تجنب التحمس الزائد لموضوع تصعب دراسته في الميدان. فالمواضيع التي قد يثيرها المحيط الاجتماعي و الاقتصادي جديرة بالدراسة والاهتمام. غير أن الوصول إلى أفراد المجتمع المراد دراسته كثيرا ما تكلف الباحث جهدا كبيراووقتا طويلا بكثير، مما قد يسبب له انقطاعات متكررة تؤثر سلبا على سياق البحث،وتؤخر الباحث عن الآجال التي حددت له لتقديم العمل.
• احترام مواعيد انجاز العملبوضع دفتر عما أو دفتر الشروط.
• تجنب المواضيع العامة ... أو الدقيقة جدا، فعلىالباحث أن يترك لنفسه مجالا للخطأ، فالمواضيع العامة تعني أن الباحث لم يحدد موضوعهعلى الإطلاق، أما المواضيع الخاصة جدا فهي محدودة في المجال وتكون نتائجهاكذلك.
• اختيار الموضوع على أساس قدرات الباحث ودوافعه وإمكانية دراسةالموضوع.
• اختيار موضوع البحث يكون من طرف الباحث نفسه متى أتيحت له الفرصة لذلك.
• عرض الإشكالية على مختصين في الميدان وحتى على غير المختصين.
• تجنب المبالغة واللغو والتقيد بما قلودل.








الفرضيات.



الفرضية توقع:
لهذا فهي تكتب دائما في صيغة تقريرية ...، ولا تكتب الفرضية بالصيغةالاستفهامية.
تمدد الفرضية الإطار النظري للبحث:
... يجب أن يكون هناك ربطمنطقي بين المفاهيم النظرية المقدمة في الإطار النظري وصياغة الفرضية، و استخدامنفس المفردات للإشارة إلى المفاهيم والمتغيرات.
التطابق بين المتغيرات المستخدمةفي صياغة الفرضية و تصميم البحث الميداني:
على الباحث أن يعرف ويحدد بوضوح طبيعةكل متغير، والعمل على قياس المتغيرات المعلن عنها في الفرضية.
لا تكون الفرضيةعامة جدا، ولا دقيقة جدا:
تدل الفرضية الواسعة عن جهل الباحث بجوانب كثيرة حول الموضوع، في حين أن الفرضية الدقيقة جدا تشكل خطرا على البحث الذي تترك فرضياته إذالم تحقق الدقة المطلوبة هذا من جهة، وتوحي أن الباحث على علم بكل خصائص المشكل منجهة ثانية؛ فتساءل لماذا البحث إذا؟

**د لا ل**
2012-11-29, 21:36
محاضرات النقد الادبي القديم


مفهوم النقد الأدبي ووظيفته
مدخل:


إن مفهوم النقد الأدبي العام يحمل معنى أخلاقيا يهدف إلى ذكر العيوب فيقال مثلا : " نقد فلان فلانا " أي أعابه ولامه على فعل أو عمل سيئ ما ، وأصل لفظة "نقد " يعود إلى العملة التي بتداولها القدم والتي تجمع على " نقود ولهذه الكلمة عدة مشتقات يقال : " نقد الدراهم ، وانتقده " وسميت العملة بالنقد لأنها تنقد ، والنقد بالنسبة للمصرفي هو تفحص الدراهم وتحديد قيمتها أو كشف صححيها من زائفها والناقد هنا هو البصير والخبير بشؤون النقود يتفحصها ويحللها ويقيمها ، وقد انتقل هذا المدلول إلى مجال الأدب فصار كذلك يعنى بنقد الإنتاج الأدبي وتقييمه وإصدار الحكم عليه نظرا لما بين المصرفي وناقد الأدب من أوجه التشابه في مهمة كل منهما ، فالنقد الأدبي هنا له مدلول اصطلاحي يعنى بتقدير العمل الفني ومعرفة قيمته ودرجته في الجودة في الأدب أو غيره من الأعمال الفنية الأخرى كالتصوير أو الموسيقى أو النقش ...الخ والنقد الأدبي لا يعني مجرد تشخيص العيوب أنما يعني تقدير العمل الفني والحكم عليه بالحسن أو القبيح أي من حيث الجودة والرداءة .

- بين المبدع والناقد:
إن المبدع أي الفنان حرفي عمله الفني ، أما الناقد فمقيد بشروط الموضوعية وبقوانين النقد ومعاييره عند الحكم على العمل . وقد يكون الناقد نفسه مبدعا وقد لا يكون أي هو مجرد ناقد كما يلاحظ لدى العديد من النقاد في تاريخ النقد العربي وقد يلاحظ أحيانا اختلاف الأحكام النقدية حول العمل الأدبي والأمر ذلك يعود إلى اختلاف درجات الأذواق والأحاسيس بين النقاد ولكن بالرغم من ذلك يبقى هناك حد مشترك بين النقاد لا يمكن الخروج عنه .
ومن مميزات النقد الأدبي أنه أقرب إلى العلم منه إلى الفن فالفرق مثلا بين البلاغة وبين النقد أن للبلاغة جانب فني تسعى إلى تعليم المنشئ الإتيان بتعابير فنية بليغة ، أما النقد فإنه يبين الأسس التي تقدر بها تلك العبارة البليغة الجميلة أي أن البلاغة تعني بالشكل أما النقد فيعني بالشكل والمضمون ولذلك يميل الناقد أحيانا إلى مهاجمة المبدع لأن الناقد مقيد بقواعد تمنعه من التحليق في الخيال المفرط الذي نلمسه في العديد من الأعمال الإبداعية .

************************************************** ************************************************** ************************

"المحاضرة الأولى"


النقد في العصر الجاهلي:

أوليات النقد الأدبي عند العرب : تعود بداية النقد العربي إلى العصر الجاهلي وكان وراء ظهوره عوامل أهمها : خروج العرب من جزيرتهم والاتصال بالبلدان الأخرى المجاورة كالشام والعراق وبلاد فارس بدافع التجارة أو الحروب يضاف إلى ذلك مظاهر التعصب القبلي الذي كان سائدا بين القبائل وقد كان لهذه العوامل أثرها في ظهور النقد الأدبي وازدهاره ورغم أن بدايته كانت ساذجة بسيطة فإنه قد ساعد على تطوير شعرهم بما يقدم من ملاحظات حيث كان الناس معجبين بالشعر يستمعون ويتأملون قصائد الشعراء ويشيرون إلى مواطن القوة ومواطن الضعف فيفضلون شاعرا على آخر لفحولته وحسن إصابته أو ما تفرد به في شعره عن غيره ...الخ

أوليات الشعر الجاهلي :
لم يظهر الشعر الجاهلي هكذا ناضجا كما هو بين أيدينا ، إنما مر بضروب ومراحل طويلة من التهذيب حتى بلغ ذلك الإتقان الذي أصبح عليه في أواخر العصر الجاهلي وكذلك الشأن بالنسبة للنقد ، فقد ظهر مع بداية الشعر وما وصل إلينا من شواهد نقدية لا يدل على البداية الأولى لهذا النشاط وما بين أيدينا من أحكام نقدية إنما تعود إلى أواخر العصر الجاهلي كذلك بعد أن خطـــــــــــــــــــا هو الآخر خطوات ومن مظاهره ما كان يجرى فيما يسمى «بالأسواق» تارة التي يجتمع فيها الناس من قبائل عدة فيتذاكر الناس فيها الشعر ويلتقي فيها الشعراء ومن صور النقد الجاهلي ما كان يجري في بلاط ملوك الحيرة وغسان حيث يلتقي الأمراء والأعيان بالشعراء فيستمع فيها الحضور إلى ما قال الشاعر في مدح الممدوح فيعقبه نقاش وأحكام حول المآخذ ،وما أورده الشاعر من معاني تليق بمقام الممدوح ....الخ ، فهذه النماذج هي أولى الصور النقدية التي وصلتنا من العصر الجاهلي أما قبلها فمغمور وغير معروف لم يصل إلينا منه شيء يذكر.
ومن أبرز مظاهر النقد الجاهلي ما كان يجري في سوق عكاظ المشهورة التي كانت سوقا تجارية وموعدا للخطباء والدعاة وكانت في آن واحد بيئة للنقد الأدبي يلتقي فيها الشعراء كل عام ليتنافسوا ويعرضوا ما جاءت به قرائحهم من أشعار، ومما ذيع في كتب الأدب أن الشاعر النابغة الذبياني كانت تضرب له قبة حمراء ، من جلد في ناحية من السوق فيأتيه الشعراء ، ليعرضوا عليه أشعارهم ومما يروى في ذلك أن الأعشى أنشد النابغة مرة شعرا ثم أنشده حسان بن ثابت ثم شعراء آخرون ثم أنشدته الخنساء قصيدتها في رثاء صخر أخيها التي قالت فيها :
وان صخرا لتأتم الهداة به * * * كأنه علم في رأسه نار
فقال النابغة: لولا أن أبا بصير" يعني الأعشى" انشدني من قبل لقلت أنك اشعر الأنس والجن .
وقد أعاب العرب كذلك على النابغة بعض الإقواء الذي لوحظ في شعره في قوله:
امن آل مية رائح أو مغتدي * * * عجلان زار زاد ، وغير مزودِ.
زعم البوارح أن رحلتنا غدا * * * وبذاك حدثنا الغداف الأسودُ.
حيث اختلفت حركة الروي مما يؤدي إلى خلل موسيقي وقد فطن النابغة إلى ما وقع فيه ولم يعد إلى ذلك في شعره .
وأورد حما د الراوية أن شعراء القبائل كانوا يعرضون شعرهم على قريش فما قبلته كان مقبولا وما ردته كان مردودا،وقد قدم عليهم مرة علقمة بن عبدة فأنشدهم قصيدة يقول فيها :
هل ما علمت وما استودعت مكتوم؟ فقالوا: هذا سمط الدهر أي رائع وسيبقى في ذاكرة التاريخ .
وقد سمع طرفة بن العبد المتلمس مرة ينشد بيته :
وقد أتناسى الهم عند احتضاره بناج عليه الصيعرية مكدم .
فقال طرفة :استنوق الجمل لان الصيعرية سمة في عنق الناقة لا في عنق البعير .
ونلاحظ من خلال هذه الشواهد أن النقد الجاهلي كان يعنى تارة بملاحظة الصياغة أي الشكل وتارة أخرى بملاحظة المعاني من حيث الصحة والخطأ ومن حيث الانسجام المطابق للسليقة العربية فقد ذمً الإقواء في شعر النابغة لأنه اخل بالانسجام وسلامة الوزن وحسن الصياغة لان الشعر عند الجاهليين هو حسن الصياغة وحسن الفكرة والمعنى وهو نظم محكم ومعنى مقبول وإلا ما كان شعرا فالمعنى الذي أورده المتلمس في بيته الشعري إنما هو معنى فاسد مرفوض لأنه اسند صفة لغير ما تسند إليه .
فهذه القيم والمبادئ هي أهم المجالات التي جال فيها النقد في العصر الجاهلي التي تجنح إلى الحكم على الشعر من حيث المعنى تارة والمبنى تارة أخرى والتنويه بمكانة الشعراء وقدراتهم أما الذهاب إلى البحث مثلا في طريقة نظم الشاعر أو فحص مذهبه أو البحث في صلة شعره بالحياة الاجتماعية فذلك كان مازال غائبا لم يلتفت إليه الناقد إذ كان يأخذ الكلام منقطعا عن كل مؤثر اجتماعي خارجي وحتى عن بقية شعر الشاعر فهو نقد جزئي انطباعي أساسه السليقة والانطباع الذاتي .
على أننا لا ننفي أن غرض الناقد كان يسعى أحيانا إلى وضع الأمور في مواضعها ووضع كل شاعر في المكانة التي هو جدير بها فحركة الروي في شعر النابغة كما أشرنا آنفا لابد أن تكون واحدة وذلك بطرح الإقواء والبعير ينبغي أن يوصف بما هو من صفاته أصلا لا بصفات غيره وان الشعراء ينبغي أن يصنفوا وفق قدراتهم فلا يقدح الضعفاء على الفحول ويعني هذا أن للناقد الجاهلي قيما فنية كان يحرص على تحقيقها حيث يقرر الأحكام تارة في مجال الصياغة وتارة في مجال المعاني غير أن النقد الجاهلي على العموم إنما هو قائم أساسا على الإحساس بأثر الشعر في نفس الناقد والحكم دائما مرتبط بهذا الإحساس قوة وضعفا عماده الذوق والسليقة وليست هناك مقاييس تقاس بها الأحكام فما الذي فضل به النابغة الخنساء على الأعشى؟ وما الذي كان رائعا في بيته؟ فهي أحكام لاتقوم على تفسير أو تعليل ، وعلى قواعد محددة ، فالنابغة اعتمد في حكمه على ذوقه الأدبي دون ذكر الأسباب والعرب حين نفرت أسماعهم من الإقواء في شعر النابغة ، إنما فعلوا ذلك استجابة لسليقتهم ، ورفض طرفة للمعنى الذي جاء في بيت المتلمس نابع من الفطرة العربية التي تأبى وصف الشيء بغير وصفه أو ما فيه .
روي أن حسان بن ثابت سئل عن بيت القصيد في قصيدته يفتخر فيها فأجاب بأنه الذي يقول فيه :
لنا الحفنات الغر يلمعن بالضحى * * * وأسيافنا يقطرن من نجدة دما .
فأعاب عليه النابغة بأنه افتخر ولم يحسن الافتخار لأنه أورد كلمات غيرها اقرب وأوسع مفهوما ، فقد ترك الجفان والبيض والإشراف والجريان واستعمل الحفنات والغر واللمعان وهي دون سابقتها فخرا .
فالبيت فيه امتحان لقدرات الشاعر على أدراك اللفظة الصحيحة في مكانها الصحيح وتؤدي المعنى بشكل أقوى حيث علق النابغة على محتوى البيت مخاطبا حسانا :
أقللت أسيافك وجعلت جفانك قلة ويعني بذلك أن على الشاعر أن يكون عليما باللغة ويحسن وضع المفردة لما تدل عليه والربط بين الدال والمدلول ، ومن الشواهد النقدية ما ورد في قصة «أم جندب» حين تنازعا علقمة الفحل وامرؤ القيس وادعى كلاهما انه اشعر فاحتكما إليها فقالت لهما: قولا شعرا على روي واحد وقافية واحدة تصفان فيه الخيل ففعلا فانشد بها زوجها امرؤ القيس قائلا:
فللسوط ألهوب وللساق درة * * * وللزجر منه وقع احوج منعب
وقال علقمة :
فأدركهن ثانيا من عنانــــــه * * * يمر كمر الرائح المتحلب
فقضت أم جندب لعلقمة على امرئ القيس لان فرس امرئ القيس يبدو كيلا بليدا لم يدرك الطريدة إلا بالضرب والزجر والصياح خلاف فرس علقمة الذي انطلق بسرعة الريح ولم يحتج إلى الإثارة فهو ابرع وسرعته طبيعية أصيلة ويلاحظ أن أم جندب ، اعتمدت في حكمها على بعض القواعد وهي :
وحدة الروي والقافية ووحدة الغرض حتى تبدو بحق براعة كل شاعر في إطار الشروط المحددة ، ونستنتج من هذا أن النقد الجاهلي لم يكن يعتمد دائما على مجرد السليقة والفطرة بل كانت له أحيانا شبه أصول وقواعد يعتمد عليها .


************************************************** ************************************************** *********************

المحاضرة الثانية "

نقد الموازنة:


هو ذلك النقد الذي يدور حول موضوع واحد او في قضايا متقاربة اوفكرة واحدة مشتركة قصد التعرف على أفكار كل أديب و اكتشاف خصائص كل نص في معناه او مبناه . و في صوره وأسلوبه ولغته المأخوذة من مادة واحدة.
و الموازنة ليست عملية فكرية و عقلية فحسب . بل هي بالإضافة إلى ذلك عملية ذوقية و جمالية . لأن الناقد أثناء ملاحظته للأعمال الإبداعية المشتركة و المتشابهة إنما يعتمد في ذلك كذلك على ذوقه الأدبي الذي يعطيه القدرة للقيام بعملية التقييم بين العملين .
فنقد الموازنة يقوم على الملاحظة و الفهم و الإدراك ثم الحكم . فهو نوع من الوصف أو نوع من النقد يقوم على الملاحظة للتمييز بين العناصر المتشابهة و المختلفة في الموضوع الواحد للوصول إلى الحكم النهائي .
و يعتبر نشاط الموازنة نشاطا عربيا أصيلا له إرهاصات و امتداد في المورث الأدبي وفي التراث النقدي بالخصوص. وقد ظهر في شكل بداية ساذجة يتميز بطابع العفوية عمادها الذوق الفني الفطري التأثري الذي لا يستند على قواعد موضوعية معينة . و الشواهد النقدية في التراب النقدي العربي تثبت أن عملية الموازنة و المفاضلة عملية قديمة قدم الشعر العربي حيث تعود بدايتها إلى العصر الجاهلي . إذ كثيرا ما كان العرب القدامى يقومون بهذا النشاط عند الحكم على الشاعر أو على الشعر أو عند التنويه بصاحبه لما في شعره من عناصر الجودة سواء في الصياغة أو في المضمون . ومما ذيع في كتب الأدب ما كان يجري في سوق عكاظ . الذي سبق الإشارة إليه . و ما كان يقوم به النابغة في هذا المجال . حيث كانت تضرب له فيه قبة حمراء من جلد فيأتيه الشعراء يعرضون عليه أشعارهم . و كثيرا ما وازن القدماء بين القصائد الشعرية و بين الشعراء واستخلصوا في الكثير من الأحيان بعض أوجه التشابه و الاختلاف . وقد نوهوا بالبعض بما كان لهم من براعة و إمكانيات خاصة . ومن خلال عملية المفاضلة هذه أعجبوا ببعض القصائد واعتبروها درة أو يتيمة . ولاحظوا بعض الخصائص التي تميز بها شاعر عن آخر . فقد لقبو النمر بن تولب بالكيس لحسن شعره وسموا طفيل الغنوي: طفيل الخيل لمهارته و براعته في وصفه لها . وسموا قصيدة سويد بن أبي كاهل بالقصيدة اليتيمة التي تقول فيها:
بسطت ربيعة الحبل لنا *** فوصلنا الحبل منها ما اتسع.
وكانت موازنتهم تقوم أساسا على ملاحظة حسن الصياغة و حسن الفكرة : فهل المعنى مقبول . أو غير مقبول . وهل النظم مقبول أو غير مقبول . والى أي مدى تحقق ذلك الانسجام و الصقل المطابق للسليقة الغربية.
ومن مظاهر الموازنة عندهم ما ذكر عن أم جندب حين تنازع علقمة الفحل وامرؤ القيس . وزعم كل من هما أنه الأشعر .
فتحاكما إلى أم جندب الطائية زوج امرىء القيس التي ذكرنا من قبل ومن صور الموازنة كذلك ما قام به ربيعة بن حذار الأسدي في حكمه على شعر شعراء تميم الذين كانوا في مجلس شراب . واختلفوا إذ زعم كل واحد منهم أنه اشعر . فاحتكموا إليه . فقرأ كل واحد منهم بعض شعره عليه . وبعد ان وازن بين ما سمع من شعر . أخذ يصف شعركل شاعر ومايتميز به . فقال :اما عمرو فشعره برود يمانية تطوي وتنشر . واما انت يا زبرقان فكانك جل حتى جزروا قد نحرت فاخذ من اطاييبها وخلطة بغير ذلك . ولا ما انت يا عبدة فشعرك كمزادة اخكم خرزها فليس يقطر منها شيء .
نلاحظ ان احكام الناقد فيها تشبيهات مستمدة من الواقع فكما ان لحم الشاة تتباين درجات جودته وحسن مذاقه فكذلك تفاوتت جودة شعر الزبرقان حيث فيه الجيد والرديىء . وقد شبه الناقد شعر عبدة بن الطيب بالمزادة التي احكم خرزها دلالة على قوة بناء شكل شعره وصياغته حيث لاتوجد فيه اللفظة الزائدة او العبارة المهلهلة أي أن أسلوب شعره محكم رصين.
ولهذا النشاط حضور مستمر واسع في الحركة النقدية العربية حيث ازدادت أهمية بعد العصر الجاهلي وتوسع خاصة عند شعراء النقائض بسبب اشتداد جزيرة النزعة العصبية القبلية . ورجوعها من جديد بعد أن خمدت في صدر الإسلام . بسبب اشتغال الناس بالفتوحات . وما يلاحظ في موروثنا النقدي أن أكثر النقاد العرب القدماء كانوا يقرون باستقلالية البيت الشعري الواحد. لذلك كانوا ينشدون المتعة الفنية في كل بيته في معزل عن غيره من أبيات القصيدة . وان البيت الجيد عندهم هو ما كان موجزا يسهل حفظه ويرسخ معناه في العقل و القلب. ولذلك نجد عندهم ما يسمى ببيت القصيد . أو واسطة العقد . وأغزل بيت. وأهجى بيت. وأمدح بيت. ووصفهم الشاعر فلان بأنه أشعر الشعراء ....الخ . غير
إن هدا المقياس لم يكن هو المقياس الثابت دائما لدى نقدة الشعر كلهم، إذ هناك الكثير منهم من قال بضرورة التلاؤم والتلاحم بين العمل الأدبي بحيث يؤدي فيه كل بيت وظيفته كما تؤدي أعضاء الجسم فيتحقق بذلك التكامل العضوي.
ونجد هذا اللون في عملية المفاضلة عند ابن سلام الجمحي في كتابه " طبقات الشعراء" حيث راح من خلال عملية الموازنة يقسم الشعراء إلى طبقات جاهليين وإسلاميين، وإلى شعراء مدن وبادية، ولاحظ من خلال العملية كثرة شعر بعض وقلة شعر البعض الآخر، وتعدد الأغراض لدى البعض ومحدوديتها عند البعض الآخر ...إلخ، وعلى أساس عملية الموازنة وضع الشاعر في المكانة التي ينبغي أن يكون فيها حتى لا يقدم الناس الشعراء الضعاف على الفحول.


تطبيق

فطن العرب الجاهليون إلى روعة النغم في الشعور إلى جودة المعاني وعرفوا بطبعهم ما هو حسن من عناصر الشعر وما هو رديء عرفوا أن من لصياغة ما هو سهل، وما هو جزل، وما هو عذب سائغ، وعرفوا أن من المعاني ما هو صحيح مستقيم، وما فيه زيغ وانحراف، عرفوا ذلك طبعا ل تعلما، فلم يكن عجيبا أن يتكلموا فيعربوا ، وأن ينظموا فيصححوا الوزن دون أن يكون لهم عهد بنحو أو صرف أو عروض.
السـؤال: اشرح الأحكام القديمة الواردة في النص مبينا مقياس الجاهليين في معرفة الشعر الجيد والرديء مدعما شرحك ببعض الشواهد من نقد العصر الجاهلي.




************************************************** ************************************************** ******************


المحاضــرة الثالثة

موقف الإسلام من الشعر : يبدو موقف الإسلام من خلال موقف الرسول إلى الشعر و الشعراء و له فيه موقفان موقف اعتبر الشعر أداة هجينة كشعر الخمريات و الغزل الماجن و شعر الهجاء الذي يمس كرامة الغير و يؤدي مسامهم و يخدش أحاسيسهم ، خاصة ذلك الهجاء الصادر من المشركين ضد الإسلام و المسلمين لما فيه من مس بأعراض المسلمين و ضرر بالعقيدة الإسلامية ، و قد عارض الرسول (ص) هذا اللون من الشعر و رفضه و عاقب الخصوم المشركين الذين تقولوا عليه و على المسلمين فيما نظموه من شعر في هجائه و هجاء العقيدة الإسلامية .
أما الموقف الثاني فيتمثل في إعجاب الرسول (ص) و حبه لسماع الشعر النظيف الذي يحمل القيم والأخلاق الحسنة الذي لا يتعارض مع التعاليم و المبادئ الإسلامية و خاصة ذلك الذي بنافع عن الإسلام و المسلمين فقد كان الرسول (ص) كثيرا ما يستمع إلى شعر حسان بن ثابت فيؤثره على غيره فيما قال من شعر في نصرة العقيدة الإسلامية الجديدة و قد اعتبر هذا اللون من الشعر سلاحا حادا لا يستغني عنه صاحب دعوة و قد كان الرسول (ص) يحث على سماع و نظم الشعر الجيد بل كان يكافئ عليه ، و لعل حثه لحسان على نظم الشعر و عفوه عن كعب بن زهير لدليل على تذوقه للشعر و على موقفه الإيجابي منه فقد كان عربيا فصيحا يحب الكلام الحسن و البليغ و إذا اعتبر الشعر سلاحا حادا يتصدى به للخصوم المشركين و بها جمعهم بنفس الوسيلة نظرا لما كان للكلمة من أثر على النفس و قد قالوا "جرح السيف يزول و جرع اللسان يطول" أي أن أثر الكلمة في النفس أقوى من جرح السيف و قد حث الرسول حسان بن ثابت الذي كان شاعر الرسول للرد على شعراء المشركين و جعل شعره سلاحا يتصدى به لهم ، و قد كان جزع قريش من هجاء حسان شديدا لما في معانيه من صفات الهجاء المقذع ، اللاذع ، و قد كان المسلمون أنفسهم يعتمدون عليه اعتمادا كليا للدفاع عنهم و التصدي لخصومهم المشركين و نصرة الدعوة الإسلامية خاصة في سنواتها العشرة الأولى لأنهم كانوا يرون فيه الملكة الشعرية أقوى و أنضج مما في غيره من شعراء المسلمين إذ وجدوا في معاني شعره ما يشبه الأسلحة الماضية التي تريح نفوسهم و تشفى غليلهم من حيف الخصوم.
و قد ورد في القرآن تصنيف الشعراء إلى صنفين ( )شعراء مؤمنون لم يخرجوا عن حدود التعاليم الإسلامية ، و شعراء ضالون بما قالوا من شعر هجين غير أنه و بالرغم من نبذ الإسلام لشعر هؤلاء فإنه بقي مسامحا معهم لأنهم يقولون ما لا يفعلون و ثمة فرق بين القول و الفعل و مجرد القول فالشاعر و إن ظل بشعره فإنه مجرد قول لم يربط بين القول و الفعل. و لذلك تسامح الإسلام مع الشاعر مقدرا طبيعته البشرية التي يتجاذبها الخير و الشر فقد أعطى الإسلام للشاعر حق القول و أعطاه حريته و لكن عليه أن يتحمل تبعه ما يقول من وجهه نظر الدين و الأخلاق و المجتمع.
ثم إن الإسلام نظر إلى النفس البشرية في طبيعتها في حالة ضعفها و قوتها واعترف لها بصفة الضعف و لكي حثها على الاجتهاد و التدبر لتصل إلى الفضيلة و التحلي بالقيم العالية ، و لذلك ففي الوقت الذي حرم فيه أفلاطون الشعر كون الشاعر قد يفسد الأخلاق أو يسئ إلى سمعة الآلهة نجد الرسول (ص) يتذوق الشعر و يعجب بأساليبه الجيدة و بمعانيه التي تتلاءم مع دعوته و قد قال (ص) لا تترك العرب الشعر حتى تترث الإبل الحنين".
و قد كان كثيرا ما يخوض في مسائل الشعر مع الوافدين إليه من المسلمين و يلتقي بالشعراء أنشد الرسول (ص) قول عنترة
و لقد أبيت على الطوى و أظله حتى أنال به كريم المأكل .
** فقال (ص) ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة.**
و للخلفاء الراشدين آراء و أحكام نقدية تبين نظرتهم الإسلامية إلى الشعر فقد ظلت وقود العرب المسلمين بعد وفاة الرسول تفد إلى المدينة فيخوضون في أخبار رجالات الجاهلية من شعراء و أبطال و أجواد و كثيرا ما كان الخليفة يشاركهم الحديث و يخوض معهم فيما يخوضون من نقاشات ، و من أبرز الخلفاء الذين عرفوا بذلك ، عمر بن الخطاب ، فقد كان عالما بالشعر و ذا بصيرة فيه يتذوق أساليبه الجميلة معجبا بالشعر الذي يلتزم الأخلاق الحسنة و بالمقابل كان ينهي عن شعر الخمرة و الهجاء و الغز الفاحش و يعاقب عليه و أن بدا في موقف عمر هذا بعض الصرامة مع الشعراء الذين قالوا في أعراض لا ينبغي القول فيها فإنه موقف طبيعي لأنه موقف خليفة شديد التدين حريص على سلامة الإسلام و المسلمين يسعى إلى بناء مجتمع إسلامي بنية سليمة.
و يتلخص موقف عمر فيما ورد عنه من آراء في الشعر و الشعراء ، فقد تحدث مرة مع و فد عطفان حين و فد إليه فسألهم قائلا : أي شعرائكم الذي يقول :
-أتيتك عاريا خلقا ثيابي * على خوف تظن به الظنون
-فألقين الأمانة لم تخنها * كذلك كان نوح لا يخون
قالوا : النابعة ، قال : فأي شعرائكم الذي يقول :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة * و ليس وراء الله للمرء مذهب
قالوا : النابغة . قال : هذا أشعر شعرائكم ، أي لأن النابغة أشعر شعراء قومه غطفان على كثرتهم .
و قال عمر مرة لبعض ولد هرم بن سناق : انشدني بعض مدح زهير أباك ، فأنشده فقال عمر: إذ كان ليحسن فيكم القول . قال : و نحن و الله إذ كنا لنحسن له العطاء فقال عمر : قد ذهب ما أعطيتموه و بقي ما أعطاكم.
و يروي أن ابن عباس قال : قال لي عمر ليلة مسيرة إلى الجابية في أول غزوة غزاها ، هل تروي لشاعر الشعراء ؟ قلت : و من هو ؟ قال الذي يقول :
و لو أن حمدا خلد الناس أخلدوا * و لكن حمد الناس ليس بمخلد .
قلت : ذلك زهير . قال : فذلك شاعر الشعراء قلت . و بم كان شاعر الشعراء ؟ قال : لأنه كان لا يعاضل في الكلام ، و كان يتجنب وحشي الشعر و لم يمدح أحدا إلا بما فيه .
إن قيم المال تزول و قيم الأفعال الحسنة تبقى عبر الزمان ،و قد خلد زهير ما قام به هدم بن سنان من جميل الأفعال بما قدم من ماله الخاص لإخماد حرب داحسن و الغبراء التي اشتعلت بين قبيلتي عبس و ذبيان و قد أسهم عمر بن الخطاب في إنضاج و تطوير الحركة النقدية بما أورد من تعليل و تفصيل لم نعهده في النقد الجاهلي الذي كان مجملا غير معلل .
فزهير في نظر عمر بن الخطاب سهل العبارة لا تعقيد في تراكيبه و لا وحش في ألفاظه ، و معانيه بعيدة عن الغلو و الإفراط في الثناء الكاذب فهو لا يمدح الرجل إلا بما فيه من فضائل وشعر زهير يكمن في أنه حسن العبارة و المعاني و جميل الصياغة و نلمس هنا أن ملاحظات عمر ليست جزئية كما كان الأمر في نقد العصر الجاهلي الذي اقتصر على نقد الشكل تارة و المضمون تارة أخرى و نادر ما يعني بالشكل و المضمون كما نلاحظ عند عمر بن الخطاب الذي تناول بالتقييم شعر زهير من حيث المبنى و المعنى.
أما نبذ عمر شعر الهجاء مثلا و معاقبه أصحابه عليه فلأن هذا اللون ينال من أخلاق المهجو ويشوه صورته و يحط من مروءته و عرضه ، فهو نوع من القذف يرفضه الإسلام و يعاقب عليه من يحرص على إقامة حدود الله و العمل بشريعته و قد أورد الرواة أن الحطيئة هجا الزبرقان بن بدر بقصيدة مما جاء فيها :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ** واقعد فإنك أتت الطاعم الكاسي
فشكاه الزبر قان إلى عمر ، فأمر بسجنه لما في البيت من قذف و مس بعرض الزبرقان ولم يطلق سراحه إلا بعد أن أخذ عليه أن لا يهجو أحدا من المسلمين و بعد أن قال الخطيئة يعتذر من سجنه :
ماذا تقول الأفراخ بذى مرخ ** زغب الحواصل لا ماء و لا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ** فاغفر عليك سلام الله يا عمر.
و لا يختلف موقف علي بن أبي طالب من الشعر و الشعراء عن موقف عمر ، فهو موقف متأثر بالإسلام و بكتابه الكريم و مستمد منه و لم يقل الإمام على فيما قال في الشعر و الشعراء إلا من وجهة نظر الإسلام فنظرته نظرة متسامحة مع الفنان الشاعر متطابقة مع نظرة الإسلام ، فهو لم يعتبر قول الشاعر مثلا في الخمرة يوجب الحد مثل شربها و ذلك عملا بما جاء في القرآن الكريم "و أنهم يقولون ما لا يفعلون ..."
إن الإسلام أعطى الفنان حرية واسعة و لم يجعله عبدا لا يفعل إلا ما بما عليه دون إرادة ، و إذ يدعوه إلى سلوك اجتماعي مقبول فإنه لم يسلبه حرية الموقف الشخصي و حرية التفكير و التعبير شرط أن لا يؤذي غيره و أن يتحمل عواقب أقواله و أفعاله ، و من أشهر النصوص الواردة عن الإمام علي و التي يبدو فيها العديد القيم و المعايير النقدية الجديدة المستمدة من نظرة الإسلام للشعر ما تحدث به في البصرة بين بعض المتخاصمين حول الشعر ، قال : "كل شعرائكم محسن و لوجمعهم زمان واحد و غاية واحدة و مذهب واحد في القول لعمنا أيهم أسبق إلى ذلك وكلهم قد أصاب الذي أراد و أحسن فيه ، و إن يكن أحد أفضلهم فالذي لم يقل رغبة و لا رهبة امرؤ القيس بن حجر فإنه كان أصبحهم بادرة و أجودهم نادرة".
إن الإمام علي لا يرفض و لا يستثنى أي لون أو غرض من أغراض الشعر حتى الوثنى منه مادام شعرا جميلا باعتباره تراث العرب جميعا و ذلك بغض النظر عن عقيدة أو جنس أو لون صاحبه ، و نلمس في أحكام على تحطيمها للعصبية القبلية و الفكرية و الجنسية التي ألغاها الإسلام ، و لأن المقياس النقدي المعتمد على عصبية الدم أو الجنس أو اللون ليست من مقاييس النقد الصحيح إطلاقا ، ثم هناك إشارة في النص إلى صعوبة المقايسة بين شاعرين أو أكثر في عصرين أو في غرضين مختلفين و ذلك لعدم توفر الشروط الموضوعية التي تسمح بذلك ، و فضلا عما في النص من قيم فنية و معايير نقدية جديدة فيه كذلك إشارة إلى ضرورة توفر الحرية للشاعر لأنه لا شيء يقتل الإبداع و يجفف القريحة كالخوف و النطق بلسان الغير لا بلسان الشاعر ، فالشاعر لا يكون شاعرا حقا و هو يقول غير ما يشعر به هو حق أو يخش القول فهو في ذلك عبد يقول ما لا يشعر و يضمر.


للتطبيـــــــــق

كان عصر البعثة حافلا بالشعر ، فياضا به ، و إن ضعف في بعض نواحيه، فالخصومة بين النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه من ناحية ، و بين قريش و العرب من ناحية أخرى كانت عنيفة حادة لم تقتصر على السيف و اللسنان ، بل امتدت إلى البيان و الشعر ، و إلى المناظرات و الجدل ، و إلى المناقضات بين شعراء المدينة و شعراء مكة ، و غير مكة من الذين خاصموا الإسلام و ألبوا العرب عليه.
كان شعراء قريش و من والاهم يهجون النبي و أصحابه ، و كان شعراء الأنصار يناقضون هذا الهجاء و لعل ذلك أول عهد حقيقي للنقائض في الشعر العربي ، و لعل تلك الروح هي التي أنهضت هذا الفن في الشعر ، فازدهر في العصر الأموي ازدهارا تاما هذه المناقضات بين مكة و المدينة كانت تدعو إلى النقد ، و إلى الحكم ، و إلى الإقرار و الادعان ، و كان العرب يقدرون هذا التهاجي ، و يؤمنون بما فيه من قوة ، و يفصحون عمّا فيه من لذغ و إيلام .
كانت قريش تجزع كل الجزع من هجاء حسان ، و لا تبالي بشعر ابن رواحة ، و كان ذلك قبل أن تسلّم فلما أسلمت رأت في الشعرين رأيا آخر ، فقد كان حسان يطعن في أحسابهم ، و يرميهم بالهنات التي تنال من العزة الجاهلية ، و كان عبد الله ابن رواحة يعيرهم بالكفر ، ثم أسلموا وكان شعر ابن رواحة هو الذي يحز قلوبهم حزا ، فهم كانوا يرون أن حسانا أعظم الشعراء الخصوم ، و يرون معانيه أحد و آلم من معاني أي أنصاري آخر ، و هم إذن يرون الهجاء المقذع المرّ ما تعرض للحرم و الأنساب ، لا ما تعرض للعقيدة والدين .
و من جهة أخرى كان المهاجرون و الأنصار يعدون حسانا الشاعر الذي يحمي أعراض المسلمين ، يبعثون في طلبه حين تفد الوفود ، و يفزعون إليه حين تأتيهم القوارض ، فيبلغ من حاجتهم ما لا يبلغه صاحباه ، و الكلام كثير في أن النبي صلى الله عليه و سلم قدم المدينة فتناولته قريش بالهجاء ، و هجوا الأنصار معه ، و أن عبد الله بن رواحة ردّ عليهم فلم يصنع شيئا ، و أن كعب بن مالك لم يشف النفس ، و إنما الذي صنع و شفى ، وصب على قريش من لسانه شآبيب شر هو حسان ، و الكلام كثير في استماع النبي لحسان ، و في إيثار النبي لحسان ، و في أن المسلمين كانوا يعتمدون اعتمادا حقيقيا على حسان في هذا الضرب من النضال لأنهم كانوا يرون معانيه من الأسلحة الماضية التي تجزع منها قريش ، و هنا روح النقد ظاهرة : واضحة في مكة و المدينة : فحســـان بـــن ثابت كان أعظم شعراء الحلبتين عند قريش و المسلمين في السنوات العشر التي أقامها النبي عليه السلام في دار الهجرة.
تاريخ النقد الأدبي عند العرب، لطه أحمد إبراهيم

المطلوب: استخرج الأحكام النقدية التي يتضمنها النص ثم أشرحها حسب ترتيبها مبينا موقف قريش من شعر حسان بن ثابت وابن رواحة معللا سبب اختلاف موقف قريش من شعر الشاعرين قبل و بعد إسلامها.


************************************************** ************************************************** *********************



المحاضرة الرابعة


النقد الأدبي القديم : النقد في العصر الأموي

نما النقد الأدبي في العصر الأموي وازدهر في بيئات ثلاث هي : الحجاز و العراق و الشام ، وقد تلوّن في كل بيئة بلون الحياة و الظروف الاجتماعية و السياسية التي أحاطت بكل بيئة، لأن الأدب انعكاس للواقع ، وباختلاف ظروف كل بيئة اختلف الشعر فأدى ذلك إلى اختلاف النقد بين هذه البيئات .

1 - النقد في بيئة الحجاز :

ازدادت أهمية منطقة الحجاز ومكانتها في صدر الإسلام وخلال الحكم الأموي مما كانت عليه أضعاف مضاعفة ، فقد أصبح الحجاز - وخاصة أثناء خلافة الأمويين - خزانة للأموال التي جمعها الأمراء وقادة الجيوش الإسلامية من خلال الفتوحات للعديد من الأمصار. وقد لجأ إليه بسبب ما كان عليه من ثراء واستقرار العديد من أعيان العرب وأثريائهم من مختلف الجهات.
وقد نجم عن هذا الاستقرار والترف ظهور الجواري غير العربيات جئن من مختلف النواحي، فظهر الغناء وفشا بعض الفساد. وقد كان الحجاز من ناحية أخرى مركزا دينيا يدرس فيه القرآن، ويشرح فيه الحديث من قبل أهل العلم بالدين و الفقه، فصار العديد من الرجال المسلمين يفدون إليه من مختلف الأقطار الإسلامية ليأخذوا عن رجاله علمهم بالكتاب و السنة، ومما استنبطوه من أحكام شرعية في مختلف القضايا ، وقد أصبح الحجاز نتيجة لهذه العوامل مركزا دينيا وبيئة للهو و الترف في آن واحد .
وقد ازداد بمرور السنين تدفق الأموال من الشام " مركز الخلافة " على أهل الحجاز لجلب ولائهم وتأييدهم وإسكات المعارضين للخلافة وصرف نظرهم عن المطالبة بالسلطة نتيجة للخلاف الذي كان حول من هو أحق بالخلافة بين الأمويين وبين علي بن أبي طالب، وبين من شايعوا عليا (
وقد استمال ذلك الجوُّ المترف الهادئ الناسَ نحو الأخذ بمتع الحياة وأسباب اللهو كالغناء و الموسيقى مما طبع الحياة هناك بطابع يندر وجوده في البيئات الأخرى .
وقد عكس هذا الجو وهذه الحياة الناعمة ذوقا أدبيا جديدا أدى إلى بروز جيل جديد متفائل مرح، وقد عبر أحد رجالات ذلك العصر قائلا : " إنما الدنيا زينة فأزين الزينة ما فرح النفس وقد فهم قدر الدنيا من فهم قدر الغناء " .
وقد عكس الشعراء في شعرهم هذا الجو المرح حيث مالوا هم كذلك إلى شعر الغزل الذي رسموا فيه صورا عن واقع الحياة في بيئتهم، وامتد ذلك إلى النقد كذلك حيث انكب النقاد حول هذا اللون من الشعر يحللون ويبحثون ما فيه من مظاهر الضعف أو القوة و الجمال . ومن أبرز الأسماء الناقدة شخصيتان هامتان هما : ابن أبي عتيق الذي ينتمي نسبه إلى أبي بكر الصديق، و السيدة سُكَيْنَة بنت الحسين بن أبي طالب حفيدة الرسول (.
وقد ترجمت أحكام السيدة سُكينة النقدية ذوقَ جيل ذلك العصر، وكان العديد من الشعراء يفدون إليها ويلتقون بها في مجالسها ، ولعلّ إن وجود رجل ناقد لا يثير التساؤل فإن وجود ناقدة أنثى بهذا الحجم قد أثار تساؤلات عدة دلالة على ما أصبحت تحظى به المرأة من مكانة اجتماعية وتقدير واحترام، وعلى حضور صوتها في تطوير الشعر وتوجيهه على المنوال الذي يليق بالمرأة العربية المتحضرة الجديدة ، وحتى لا يصور الشاعر المرأة من وجهة نظره فقط التي قد يعارض مع ما يليق بها ، وصار لا يجوز أن يقول الشاعر ما يزعج المرأة أو ما يتعارض مع ذوقها وإحساسها الرهيف الذي أصبحت تتقبل به النص الشعري .
و نجمت عن التباين الزماني والحضاري بين الحياة العربية القديمة و الحجازية المتحضرة الجديدة المطالبة بصور ومعان شعرية مغايرة لما كان عليه الحال في العصر الجاهلي فقد رفع الإسلام من شأن المرأة ومكانتها في المجتمع، ومن ثم راحت تخوض فيما يخوض فيه الرجل سواء بسواء، فكان دخولها حقل النقد واحدا من العوامل ، يضاف له عامل السلوك المتحرر عند الجواري المثقفات المجلوبات و القادمات من البلدان المتحضرة المفتوحة، فهذه العوامل شجعت المرأة الحجازية على الخوض في مناقشات أدبية ونقدية حول مضامين الشعر وقضايا الأدب بصفة عامة ، فراحت السيدة (سُكَيْنَة) تتأمل النصوص الشعرية وتفحص الصورة التي رسمها الشاعر للمرأة وتحاول أحيانا أن تجري عليها بعض التعديلات حتى تتلاءم مع ذوق المرأة من خلال ما كانت تبديه من ملاحظات ، وقد قال عنها صاحب الأغاني يصفها : " إنها كانت من أجمل نساء عصرها ، وكانت برزة تجالس الأجلاء من قريش ويجتمع إليها الشعراء ، وكانت ظريفة مزاحة " .
وقد كان لنسبها الكريم أثره في أحكامها النقدية التي كانت مرجعيتها ذلك الاحترام و التقدير الذي يكنه الرسول (h) للمرأة المستمد من روح القرآن ، إذ قال الرسول (h) : " مَا هَانَ النِّسَاءَ إِلاَّ لَئِيمٌ ، وَمَا أَكْرَمَهُنَّ إِلاَّ كَرِيمٌ " .
هذه هي القيم التي أرادت السيدة سكينة أن تغرسها للمرأة في النص الشعري ، بعد أن كان بعض شعراء الحجاز حين يصف المرأة يصفها من الأعلى إلى الأدنى ، وجعل بعضهم نفسه في أشعاره فلكا تدور حوله النساء، كما هو الأمر مع عمر بن أبي ربيعة الذي قلب مفهوم الغزل ، كما يبدو في بعض قصائده ، وأن بعضهم شهّر بالمرأة ، وبعضهم الآخر أبدى شيئا من الإهمال وعدم التقدير حين يصف المرأة ، وهي صور من التقاليد الباقية من العصر الجاهلي التي لم تعد في نظر سكينة مقبولة، لأن ذلك الامتهان أو الذل الذي كان في العصر الجاهلي قد ولى وعلى الشاعر أن يعتبر المرأة مادة غير مبذولة وغير رخيصة، وأن يسلك معها سلوك الرجال الفرسان الشجعان .
ومما ورد عنها من شواهد نقدية في هذا الموضع حكمها على بيت جرير:
طرقت صائدة القلوب وليس إذا حين الزيارة فارجعي بسلام .
فلاحظت أن في البيت خلالا قائله : أفلا أخذت بيدها ورحبت بها، وقلت : ادخلي بسلام ، أنت رجل عفيف .
فقد فرقت الناقدة بين الكلام عن الأحاسيس العاطفية وبين الأخلاق، فالشاعر هنا يتكلم عن العواطف لا عن الأخلاق ، وفرق كبير حين يستقبل الإنسان شخصا ما وحين يستقبل عزيزا عليه .
وقد روت عنها كتب الأدب نماذج كثيرة من نقدها الظريف ، فقد سمعت " نُصَيْبا" يقول:
أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حَيِيتُ فَإِنْ أَمًُتْ فَوَاحُزْنَا مَنْ ذَا يَهِيمُ بِهَا بَعْدِي
فعابت عليه صرف نظره إلى من يعيش مع " دَعْد " بعده ورأت الصواب أن يقول:
أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حَيِيتُ فَإِنْ أَمُتْ فَلاَ صَلُحَتْ دَعْدٌ لِذِي خُلَّةٍ بَعْدِي .
وقد امتد هذا اللون من النقد في موضوع الغزل إلى نساء أخريات، فقد عاتبت " عَزَّةُ " " كُثَيِّرًا" في وصفه لها بالمظاهر الشكلية غير الطبيعية ، وقالت له لما لا تقول مثل ما قال امرؤ القيس في وصفه المرأة :
أَلَمْ تَرَنِي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا وَجَدْتُ بِهَا طِيبًا وَإِنْ لَمْ تَتَطَيَّبِ.
وقد استرققت " عَزَّة " قول "الأحْوَص" وفضّلته على كثير في بعض معانيه في وصف المرأة مثل قوله :
وَمَا كُنْتُ زَوَّارًا وَلَكِن الْهَوَى إِذَا لَمْ يُزَرْ لاَبُدَّ أَنْ سَيَزُورَ.
وكان "ابن أبي عتيق" من رجال هذا التيار النقدي الذي يفحص ويدرس هذا اللون من شعر الغزل المعبر عن الحياة المترفة المتحضرة ؛ ومن شواهد نقده في هذا الموضوع أنه سمع مرة عمر بن أبي ربيعة ينشد شعرا في غرض الغزل :
بينما ينعتنني أبصــــــــرنني دون قيد الميل يعدو بي الأغرّ
قالت الكبرى أتــعرفن الفتى ؟ قالت الوسطى : نعم هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيمــــتها قد عرفناه وهل يخفى الــقمر ؟
فقال ابن أبي عتيق معلقا على مضمون ما قال : أنت لم تنسب بها إنما نسبت بنفسك ،أي كأنه لم يتغزل بالمرأة إنما تغزل بنفسه .
وقد برز إلى جانب هؤلاء النقاد نفر من الشعراء مارسوا النقد إلى جانب الشعر، فقد سمع عمر بن أبي ربيعة " كُثَيِّرًا " يقول :
ألا ليتنا يا عَزُّ ( ) كنا لدى غنى بعيرين نرمى في الخلاء ونعـــــزب ( )
كلانا به عر( ) فمن يرنا يـــقول على حسنهما جرباء تعـدي وأجرب
إذا مـــا وردنا الــماء صاح أهله علـــينا فما ننفك نُرمى ونُضــــرب .

فقال عمر : تمنيت لها ولنفسك الرّق و الجرب و الرمي و الطرد و المسخ ، فأي مكروه لم تتمن لها ولنفسك ، لقد أصابها منك قول القائل : " معاداة عاقل خير من مودة أحمق " .
وقد حدد النقاد الحجازيون مقياس الغلو و المبالغة في رسم العاطفة، ومن ثمة صار إذا ما عبر الشاعر عن عاطفته بغُلُوّ أو بصورة خارجة عن المألوف كانت غريبة مضحكة تشبه النوادر. قال عمر لبن أبي ربيعة شعرا فيه غلو :
ومَــــــن كانَ مَحْـزُونًا بإهْرَاقِ عَبْرَةٍ وهــيَ غَرْبُهَـــا فلْيَأتِنَا نَبْكِهِ غَدَا
نُعِنْهُ عَلى الأثْكَال ( ) إنَ كانَ ثَاكلاً وإنْ كان مَحزونًا وإن كَان مقصِدَا ( )
فمضى بن أبي عتيق إلى عمر وقال له : جئناك لموعدك ، قال : وأي موعد بيننا ، قال : قولك : " فليأتِنَا نَبْكِهِ غَدَا " . وقد جئناك و الله لا نبرح أو تبكي إن كنت صادقا أو ننصرف على أنك غير صادق ثم مضى وتركه.
إن مثل هذه الصور زائدة عن اللزوم في التعبير عن الأحاسيس العاطفية و المواقف و بالتالي فهي صور ساخرة غير مقبولة لأنها غير صادقة.

************************************************** ************************************************** *******************

المحاضرة الخامسة

2 - النقد في بيئة العراق :

اختلف الشعر في بيئة العراق عما كان عليه في الحجاز والشام، فالشعر في العراق يشبه إلى حد كبير الشعر الجاهلي في مضمونه وأسلوبه، ويعود ذلك إلى عامل العصبية القبلية التي عادت إلى الظهور من جديد بعد أن تلاشت في صدر الإسلام حيث نبذها الإسلام، وكانت أغلب موضوعات الشعر في العراق في الافتخار و الاعتزاز وهجاء الخصوم بالهجاء المر المقذع. أما غرض الغزل وغيره من الأغراض الأخرى، فكانت ليست ذات أهمية وقليلة الرواج، فانحصر الشعر غالبا في تلك النقائض التي حمل لواءها بالخصوص الشعر الثالوث الخطير : الفرزدق وجرير و الأخطل الذين جعلوا من العراق أشهر مكان للتنافس و التباري في هذا اللون من الشعر .
وقد ساعد على انتشار شعر النقائض وولوع الناس به في سوق الشعر الذي كان يشبه سوق عكاظ في الجاهلية، يفد إليه الناس من كل جهة، ويجتمع فيه الشعراء ينشدون الأشعار في صورة تشبه ما كان عليه في الجاهلية من مفاخرة بالأنساب وتعاظم بالكرم و الشجاعة وإبراز ما لقوم كل شاعر من فضائل وأيام .
وقد كان لكل شاعر حلقة ينشد فيها شعره ويحمس أنصاره في جو مملوء بالهرج و النقاش حتى قيل أن والى البصرة ضج بما أحدثه هؤلاء الشعراء من صخب واضطراب في أوساط الناس فأمر بهدم منازلهم.
وقد احتفظ العديد من الكتب النقدية القديمة بصور ونماذج من هذه الحركة الشعرية و النقدية، وما كان يجري بين جرير و الفرزدق والأخطل حيث يقوم الشاعر بنظم قصيدة في هجاء خصمه والافتخار بذاته وبقومه على وزن خاص وقافية خاصة ، فيقوم الآخر بنقضها بنظم قصيدة مماثلة ويحوّلها إلى هجاء مضاد على نفس الوزن و القافية . وقد تشكلت في هذا الإطار ثلاثة معسكرات ، كل واحد تعصب لشاعر وفضله على خصمه والتمس محاسن شعره فيشيعها، ويبحث عن معايب الآخر فيشهّر بها .
وقيل إن الأخطل تحالف مع الفرزدق ضد جرير لكن جريرا أفحمهما . وقيل أن كذا وأربعين شاعرا تحالفوا ضده فأسكتهم لقدراته ومهارته في هذا الفن، وقد كانت هذه الخصومات سببا في غلبة هذا الاتجاه على الشعر والنقد في العراق حتى اعتبر الشاعر غير السائر على طريقة هؤلاء في المدح و الهجاء شاعرا متخلفا ضعيفا .
قال ذو الرمة مرة للفرزدق : مالي لا ألحق بكم معشر الفحول ؟ فقال له : لتجافيك في المدح و الهجاء واقتصارك على الرسوم و الديار . أي أنه مازال ينظم على منوال القدماء ولم يساير الظروف . لذلك لا نجد أثرا لمثل ذلك النقد الذي كان في الحجاز أو الشام وإنما نجد نقدا آخر يتلاءم مع طبيعة البيئة العراقية، وما كان فيها من شعر حيث اتجه النقاد هناك إلى الموازنة بين الشعراء، وأي الثلاثة أشعر ؟ وسموا هذا قضاء وسموا الذي يحكم قاضيا ، وسموا الحكم و الحاكم أي الناقد " حكومة " .
و قال جرير في الأخطل لما فضل الفرزدق عليه :
فدعوا الحكومة لستموا من أهلها إن الحكومة في بني شيبان
غير أن هذا النوع من النقد لم يكن الوحيد في العراق لأن هناك بعض الشعراء من قال شعرا خارج شعر النقائض، ولذلك راح بعض النقاد يعنى بمميزات شعر الشاعر ، وما تفرد به عن غيره، و البحث عن مواطن ضعفه وقوته وموازنته بغيره وإصدار الحكم عليه ، كحكم الفرزدق على النابغة الجَعْدِيّ بأنه صاحب " خُلْقَان " و البيت يساوي عنده آلاف الدراهم و البيت لا يساوي إلا درهما. وحكمه على ذي الرمة بجوده شعره لولا وقوفه عند البكاء على الدِّمَن، وكذا حكم جرير على الأخطل بأنه يجيد مدح الملوك ، وموازنة الأخطل بين جرير و الفرزدق بأن جريرا يغرف من بحر، والفرزدق ينحت من صخر .
وإلى جانب نقد الموازنة في شعر النقائض، وكذا النقد الذي يعنى بإبراز ما تفرد به بعض الشعراء في شعرهم عن غيرهم ، فهناك نقد يعنى بالمعاني الجزئية في شعر الشاعر دون موازنته بغيره ، فقد نقد الحجاج الفرزدق حين مدحه في قوله :
من يأمن الحجاج و الطير تتقى عقوبته إلا ضعيف العزائم
فقال الحجاج : الطير تتّقى كل شيء حتى الثوب و الصبي. وفضّل عليه قول جرير فيه نفس المعنى :
من يأمن الحجاج أما عقابه فمُرٌّ وأما عهدُه فوثِيق .
* البحث في السرقات الأدبية :
وقد ظهر هذا الضرب من النقد الأدبي انطلاقا من نظرة الإسلام لمفهوم السرقة حيث اعتبرها انحرافا اجتماعيا، وقد حرم السرقة بجميع أشكالها. وذهب بعض الشعراء ينسبون لقبائلهم شعر شعراء قبائل أخرى ، وأحيانا ينسبون لأنفسهم البعض من جيد الشعر الجاهلي حتى يظهروا بمظهر الفحول فيعلو مقامهم ويذيع صيتهم ، وللفرزدق تهم عديدة ، فقد كثرت مصادرته لشعر غيره، كما تذكر بعض الروايات تُهَمَ الأصمعي له بأن تسعة أعشار شعره سرقةٌ. و تذكر روايات أخرى سرقة الأخطل لمعاني الأعشى في الخمرة . وكان كذلك يستعين بأشعار "تَغْلب" في خصومته مع الفرزدق، وتارة يستعين بشعرائها في نظم قصائده، واتهم " كُثَيّر عَزّة " بالسرقة من شعر "جَمِيل بُثَيْنَةَ" حين يتغزّل بعَزّة .. وقد كان لأخبار سرقة الشعر صدى واسع في أوساط الشعراء ولدى العامة أيضا .
وإلى جانب هذا كان في العراق حركة أخرى أدبية ونقدية مغايرة هي حركة متأثرة بالإسلام وبتعاليمه تسمى حركة الخوارج، التي كان لها شعر قوى رائع ابتعدت فيه عن المدح و الهجاء ، بل كان شعراؤها يهدفون إلى إرضاء عواطفهم بالاستهانة بالموت في سبيل الله و الحث على الشجاعة وإنكار شهوات النفس وتسخيرها لإرضاء الله ، مستخلصين ذلك من قوله تعالى :  إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يَُقْتَلُونَ  ( سورة التوبة ، الآية 111) .
ولهم في هذا شعر يفيض بقوة إيمانهم وشدة شجاعتهم . وقد امتدت نزعتهم هذه إلى نقدهم حيث راحوا يهوّنون من شعر الشعراء الذين يتكسبون ويتمسحون بالأمراء ليمدحوهم بما ليس فيهم حتى ينالوا المال و المكانة، ويرون أن الشاعر الحق هو من صدق في قوله واتقى الله في شعره. وواضح أن الخوارج يزنون الشعر بميزان ديني أخلاقي، أما غيرهم فيزنونه بميزان فني بحث ، غير أن دور الخوارج في الحقل الأدبي ضعُف بضعفهم سياسيا.

3 - النقد في بيئة الشام :

فإن كان أكبر مظهر الأدب في بيئة الحجاز هو الغزل وأكبر مظهر للأدب في العراق هو الفخر والهجاء فإن أكبر مظهر للأدب في الشام هو المديح ، ولذلك اختلفت الحركة النقدية في الشام على ما كانت عليه في الحجاز و العراق ، فقد عاشت الحركة النقدية هناك في بلاط الخلفاء الأمويين ، وفي قصور وُلاّتهم في مختلف الأقاليم و الأمصار ، وسبب ذلك هو أن دمشق كانت عاصمة الخلافة الأموية يفد الشعراء إلى خلفائها من كل الجهات، و كان بنو أمية عربا أقحاحا فصحاء يتذوقون الشعر ويعجبون به ويطربون لسماعه ويكافئون الشعراء عليه، و كنت قصورهم شبه منتديات للشعر ومراكز للفصاحة والادب في ذلك الوقت

**د لا ل**
2012-11-29, 21:50
محاضرات النقد العربي الحديث


المحاضرة الأولى والثانية

مختصر الأولى : ليس هناك مقرر محدد للمادة والمطلوب في الامتحان ما سأعطيه في المحاضرات النظرية فقط .

وستوزع مفردات المقرر على جزءين

1- سنتعرف فيه إلى أول مؤلف في النقد الأدبي العربي الحديث وهو قسطاكي الحمصي : صاحب كتاب "منهل الوراد في علم الانتقاد".

2- سنتعرف إلى بعض القضايا النقدية التي قاربها بعض النقاد العرب أو اختلفوا حولها .

المحاضرة الثانية

ما هو النقد الأدبي ؟ ....

هل الدراسة الأدبية نقد أبي ؟ بالتأكيد لا

ما هو تعريف نظرية الأدب .

ثمة مقولة لسقراط "كل إنسان فان , سقراط إنسان سقراط فان"

فكل شيء يبدأ بمقدمة لينتهي إلى نتيجة تنطلق من تلك المقدمة لتشكل نظرية .

ومفهوم النظرية متشعب : في الطب نظرية , في الجغرافية نظرية, في الفلك ...في كل العلوم يمكن أن يكون هناك نظرية .....

إلا أن من طبيعة النظرية أنها عرض للزوال أما نظرية أخرى تثبت بطلانها

أول نظرية في الأدب هي نظرية المحاكاة , ابتكرتها المغامرات الفكرية الأولى للإنسان , وهي التي قال بها أفلاطون ثم أكملها أرسطو , وهي التي تقول : إن الواقع صورة عن صورة ثانية في عالم المثل , هذه النظرية استمرت لنحو سبعة عشر قرنا لم يفكر الإنسان في نقضها .

متى يمكن أن تنقض النظرية ؟

عندما تقدم معطيات جديدة تكشف عن خطأ فيها ,

ثم ظهرت نظرية الخلق , ثم نظرية التعبير ثم نظرية الانعكاس , بقي ذلك إلى القرن العشرين الذي شهد وحده ظهور ما يزيد على مئة نظرية للأدب , فطوال سبعة عشر قرنا عرف الإنسان نظرية أدبية واحدة , في القرن العشرين وحده ابتكر الإنسان ما يزيد على مئة نظرية أدبية ,

ماذا نعني بهذه النظرية؟

نظرية الأدب هي مجموعة المبادئ والأفكار والآراء التي تعنى بالأدب , ولكن ليس كل الآراء والأفكار والمبادئ يمكن أن تشكل نظرية أدبية , بل هي الآراء المتسقة والمترابطة فيما بينها

عندما تتفق الأفكار وتترابط وتتجانس فيما بينها حول مفهوم الأدب يمكن أن نسمي هذه الأفكار نظرية للأدب .

وما دامنا نقول "مجموعة" فنستطيع أن نستنتج من هذا الكلام أن نظرية الأدب ليست فعالية فردية , بمعنى أنه لا يمكن للإنسان أن يبتكر نظرية للأدب

صحيح أن أفلاطون وأرسطو هم من أوائل الذين ابتكروا نظرية وهي نظرية المحاكاة , لكن آراء أفلاطون وأرسطو وأفكارهما كانت مستندة استنادا مطلقا إلى مجموعة من المقولات والآراء السابقة لهما .

الآراء والأفكار فعالية جماعية مشتركة تنضج كالطبخة , إذا لابد أن تكون الآراء منسجمة فيما بينها متسقة ومترابطة .

قلنا في تعريف نظرية الأدب هي مجموعة المبادئ والأفكار والآراء التي تعنى بالأدب ,

ماذا نقصد بعبار "تعنى بالأدب"

نقصد ها هنا ماهية الأدب والأنواع الأدبية ووظيفة الأدب.

ما هو الأدب؟

الأدب هو السلوك الراقي والأدب ليس علما بل فنا وما كان فنا لا يكون مستندا إلى العلم في أصله , لكنه يتطور بالعلم هو في جذره ليس علما .

هناك شيء يخلقه الله في الإنسان يسمى موهبة , وإذا تم استخدام هذه الموهبة وفق مقاييس علمية نسميها آنذاك موهبة قد تطورت .

والأدب هو فن لكن ليس أي فن , إنه فن القول , عندما تتعدد فنون القول ونتخلى عن الشيء اسمه الإبلاغ أو التواصيل لنصل إلى مرحلة أكثر رقيا وسموا في الفن عندما نسمي هذا القول أدبا .

اللغة هي وسيلة الأدب الأساسية , كما نقول إن وسيلة الموسيقا لأساسية هي الأصابع ووسيلة الرسم الأساسية هي الريشة , فالأدب فن القول يستخدم اللغة وسيلة على نحو يتجاوز قصد الإبلاغ ليصبح فنا , لكن هذا الفن القولي لا يهمه أن يبلغ رسالتك يهمه أن يرتقي لمحتوى الرسالة لقيمة الرسالة .

عندنا قصيدة "عيناك" لبدر شاكر السياب

عيناك غابتا نخيل ساعة السحر

أو شرفتا راح ينأى عنهما القمر

عيناك حين تبسمان تورق النجوم

عندما نقف عند قوله : "عيناك حين تبسمان تورق النجوم" نجد بدر شاكر السياب يقدم لنا معلومة عن عيني حبيبته , لكن هذه المعلومة مغايرة تماما لما يمكن أن نتوقعه , عندما تتخلى اللغة عن مهمتها الأساسية وهي الايصال تصبح فنا قوليا , وهذا الفن القولي نسميه عند ذلك أدبا .

...........

تاريخ الأدب

هل الذي يقدم مجوعة من المبادئ والأفكار التي تعنى بالأدب يمكن أن نسميه ناقدا أدبيا ؟

بالتأكيد لا .

من يتتبع تاريخ الأدب هل يمكن أن نسميه ناقدا أدبيا ؟

بالتأكيد لا .

النهج أو المنهج هو الطريق الذي نسلكه من أجل الوصول إلى نقطة محددة أما المنهج النقدي : فهو الطريقة التي نستخدمها في دراسة نص أدبي

النقد الأدبي

اتفقنا خطأ ولمدة طويلة من الزمن أن كلمة نقد تعني تقييم الجديد من الرديء . والنقد ليس كذلك .

النقد هو وضع الأشياء في مواضعها الصحيحة , وليس إظهار العيوب أو المحاسن

فمثلا إذا أمسكنا القلم ووضعناه في القارورة نكون حينها قد مارسنا فعلا مجافيا للمنطق ولكن عندما تمسك القلم وتضعه على الطاولة مثلا أو في موضعه الصحيح أو في حاملة أقلام عندها تكون قد قمت بعمل صائب .

فالنقد إذا وضع الأشياء في مواضعها الصحيحة فإذا تمكن الإنسان من وضع الأشياء في مواضعها الصحيحة عندئذ نستطيع أن نقول عنه إنه يمتلك حسا نقديا فهو يميز بين مكان ومكان .

ويقصد بالنقد الأدبي قراءة النص الأدبي وتفكيكه ثم إعادة ترتيبه من جديد

قد نعرف مكونات النص الأدبي عندما نعيد ترتيب المكونات على نحو لا يستطيع أن يفعله أحد إلا الناقد عندها أسمي ذلك الشخص تاقدا أدبيا .

هنالك تعريف آخر بسيط للنقد الأدبي

لنفترض أن لدينا قصة أو قصيدة عندما نريد أن نشتغل على نص شعري مثلا : ماذا نفعل ؟

ندرس الأخيلة , الأفكار , الإيقاع , الصور البيانية , هذا ليس نقدا أدبيا ولا علاقة له بالنقد الأدبي

النقد الأدبي هو أنعرف ما الذي جعل من هذا النص الذي بين أيدينا قصيدة ....

سنتعرف مستقبلا إلى شيء يقول إن الأدب استعمال خاص للغة , لا يستطيع أن يستخدم اللغة على هذا النحو إلا الأديب

فالعينان عند السياب قد يكون رآهما الكثير لكن السياب وحده اكتشف هذ السمات الساحرة في تلك العيون ,

الآن ما الذي يجعل الكلام أدبا ؟

عندما نستطيع أن نكتشف العناصر المكونة لأدبية هذا الكلام نستطيع آنذاك أن نسمي أنفسنا نقادا

ومع الأسف نحن ندعي أننا نقاد ولذلك نتشابه

الناقد الأدبي كالأديب تماما لا يشبه أحد , ويجب ألا يشبه أحدا

وعليه أن يكون لديه ما نسميه "البصيرة "

لذلك نستطيع أن نعرّف النقد الأدبي تعريفا بسيطا كما قلنا

فعندما ترغم صاحب القصيدة الشاعر على القول أو على الصراخ :يا ألله هل أنا فعلت ذلك حقا , عند ذلك نستطيع نسميك ناقدا

لكن عندما يقرأ نصك وأنت تشرح فيه ما قال فحينها لا نستطيع أن نسميك ناقدا .

"النقد الأدبي هو اكتشاف العناصر المكونة لأدبية النص وإعادة ترتيبها من جديد

والحمد لله رب العالمين



[size=12]المختصر المفيد

· أول نظرية في الأدب هي نظرية المحاكاة

· وهي التي قال بها أفلاطون ثم أكملها أرسطو , وهي التي تقول : إن الواقع صورة عن صورة ثانية في عالم المثل

· ويكن نقض النظرية عندما تقدم معطيات جديدة تكشف عن خطأ فيها

· نظرية الأدب هي مجموعة المبادئ والأفكار والآراء التي تعنى بالأدب , ولكن ليس كل الآراء والأفكار والمبادئ يمكن أن تشكل نظرية أدبية , بل هي الآراء المتسقة والمترابطة فيما بينها

· عندما تتفق الأفكار وتترابط وتتجانس فيما بينها حول مفهوم الأدب يمكن أن نسمي هذه الأفكار نظرية للأدب .

· نظرية الأدب ليست فعالية فردية , بمعنى أنه لا يمكن للإنسان أن يبتكر نظرية للأدب

· الآراء والأفكار فعالية جماعية مشتركة تنضج كالطبخة

· الأدب هو السلوك الراقي والأدب ليس علما بل فنا وما كان فنا لا يكون مستندا إلى العلم في أصله , لكنه يتطور بالعلم

· والأدب هو فن لكن ليس أي فن , إنه فن القول , عندما تتعدد فنون القول ونتخلى عن الشيء اسمه الإبلاغ أو التواصيل لنصل إلى مرحلة أكثر رقيا وسموا في الفن عندما نسمي هذا القول أدبا .

· اللغة هي وسيلة الأدب الأساسية

· فالأدب فن القول يستخدم اللغة وسيلة على نحو يتجاوز قصد الإبلاغ ليصبح فنا , لكن هذا الفن القولي لا يهمه أن يبلغ رسالتك يهمه أن يرتقي لمحتوى الرسالة لقيمة الرسالة .

· عندما تتخلى اللغة عن مهمتها الأساسية وهي الايصال تصبح فنا قوليا , وهذا الفن القولي نسميه عند ذلك أدبا .

· المنهج النقدي : فهو الطريقة التي نستخدمها في دراسة نص أدبي

· النقد هو وضع الأشياء في مواضعها الصحيحة , وليس إظهار العيوب أو المحاسن

· فالنقد إذا وضع الأشياء في مواضعها الصحيحة فإذا تمكن الإنسان من وضع الأشياء في مواضعها الصحيحة عندئذ نستطيع أن نقول عنه إنه يمتلك حسا نقديا فهو يميز بين مكان ومكان .

· ويقصد بالنقد الأدبي قراءة النص الأدبي وتفكيكه ثم إعادة ترتيبه من جديد

· قد نعرف مكونات النص الأدبي عندما نعيد ترتيب المكونات على نحو لا يستطيع أن يفعله أحد إلا الناقد عندها أسمي ذلك الشخص تاقدا أدبيا .

· النقد الأدبي هو أنعرف ما الذي جعل من هذا النص الذي بين أيدينا قصيدة

· الأدب استعمال خاص للغة , لا يستطيع أن يستخدم اللغة على هذا النحو إلا الأديب

· عندما نستطيع أن نكتشف العناصر المكونة لأدبية هذا الكلام نستطيع آنذاك أن نسمي أنفسنا نقادا

· الناقد الأدبي كالأديب تماما لا يشبه أحد , ويجب ألا يشبه أحدا

· وعليه أن يكون لديه ما نسميه "البصيرة "

· فعندما ترغم صاحب القصيدة الشاعر على القول أو على الصراخ :يا ألله هل أنا فعلت ذلك حقا , عند ذلك نستطيع نسميك ناقدا

· "النقد الأدبي هو اكتشاف العناصر المكونة لأدبية النص وإعادة ترتيبها من جديد

**د لا ل**
2012-11-29, 22:05
محاضرات وتطبيقات علم الدلالة



السلام عليكم ورحمة الله

هذه محاضرات في علم الدلالة حسب المقرر لهذا المقياس ،للسنة الثانية بالمدرسة العليا للأساتذة .حاولنا جاهدين الاقتصار على ما هو ضروري ومفيد وبأسلوب مبسط نظرا لطبيعة التكوين عن بعد.
وقد بذلنا أقصى جهد لتصحيح الأخطاء المطبعية أو التي كانت نتيجة السهو،ومع ذلك فربما فاتنا تصحيح بعض الأخطاء رغم التدقيق ، نعتذر لكم لذلك .
ولا بد من الإشارة هنا إلى أننا اعتمدنا عددا من المراجع والمصادر، وكان لبعضها النصيب الأوفر مثل كتاب علم الدلالة للدكتور أحمد مختار عمر ،نظرا لكون البرنامج قد وضع اعتمادا على فهرس هذا الكتاب أصلا ، وإذا كنا لا نشير دائما إلى المرجع حتى لا نثقل المحاضرة ( لأن طبيعة المحاضرة تختلف عن طبيعة تأليف الكتاب ) ، وكذلك كتاب (دلالة الألفاظ) للدكتور إبراهيم أنيس .وكان ذلك أيضا بالنسبة لكتابي الدكتور حلمي خليل حول المولد والمعاجم .
وننصحكم بالرجوع إلى هذه الكتب بالإضافة إلى المراجع الأخرى المذكورة في قائمة المصادر والمراجع.
نتمنى لكم التوفيق.
أوليات
المحاضرة الأولى: تقديم البرنامج و قائمة المصادر و المراجع
1- تمهيد عام للمادة و يشمل:
- تقديم حول اللغة و حياة الإنسان
- كيف بدأت اللغة - حاجة الإنسان إلى اللغة - و العلاقة بين اللغة و التفكير و الحضارة و العمران (العلم، الأدب، الازدهار و التقدم).
المحاضرة الثانية: إشارة سريعة إلى (فرضيات) نشأة اللغة الإنسانية.
2- علم الدلالة - تعريف عام - من المعاجم اللغوية و المختصة - وآراء الباحثين - الدلالة
و المعنى.
الدال و المدلول و العلاقة بينهما - أنواع الدلالة.
3- البنية اللغوية - مستويات هذه البنية و علاقة ذلك بالدلالة.
أنواع الدلالات: الصوتية، الصرفية، النحوية، البلاغية و الأسلوبية، الدلالة الاجتماعية.
تفصيل:
تعريف علم الدلالة ( لغة): اسم مصدر من دلّ، يدل، دلالة (بالفتح و الكسر) = الجمع دلائل
و دلالات يراجع في ذلك معجم متن اللغة للشيخ أحمد رضا – مج/2
و الدلالة في الاصطلاح : كيفية دلالة اللفظ على المعنى ( يراجع كتاب التعريفات للشريف الجرجاني).
مفردات مقياس علم الدلالة.
أولا : علم الدلالة
- مدخل إلى دراسة الدلالة: [ مفهومه، موضوعه، غاياته، أنواعه]
- علاقة علم الدلالة بعلوم اللغة : [ الدلالة و الأصوات، الدلالة و الصرف، الدلالة و النحو، الدلالة و المعجم].
- علاقة علم الدلالة بالعلوم الأخرى :[ الدلالة و التعبيرات الاصطلاحية، الدلالة و الفلسفة، الدلالة و علم النفس، الدلالة و علوم الاتصال، الدلالة و علم العلامات].
ثانيا : نشأة علم الدلالة وتطوره
- عند القدماء : [الدرس الدلالي عند اليونان، الهنود، العرب]
- عند المحدثين : [الدرس الدلالي عند الغربيين، الأمريكيين، العرب]
ثالثا : أنواع المعنى :
- [ المعنى الأساسي، المعنى الإضافي، المعنى الأسلوبي، المعنى النفسي، المعنى الإيحائي]
رابعا : مناهج دراسة المعنى
- نظرية السياق : [ السياق اللغوي، السياق العاطفي، سياق الموقف، السياق الثقافي]
- نظرية الحقول الدلالية
- النظرية التحليلية.
خامسا : التغييرات الدلالية :
[ أسبابها، أشكالها، مجالاتها، العلاقات الدلالية { الترادف، الاشتراك، التضاد}]
الوحدة الدلالية.
2. قائمة بعدد من المراجع
إبراهيم أنيس
- دلالة الألفاظ
- اللهجات
- الأصوات اللغوية

إبراهيم بن مراد : دراسات في المعجم العربي
ابن سيدة : المخصص
ابن جني : الخصائص
أبوهلال العسكري : الفروق في اللغة
ابن قتيبة : تأويل مشكل القران
أمين فاخر : دراسات في المعجم العربي
أحمد مختار عمر: علم الدلالة
توفيق شاهين: علم اللغة العام
تمام حسن: اللغة العربية معناها و مبناها
حسين نصار: المعجم العربي نشأته و تطوره
حلمي خليل: دراسات لغوية معجمية
الرازي أحمد بن حمدان: كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية
ستيفان أولمان : دور الكلمة في اللغة
شاكر سالم: مدخل إلى علم الدلالة
صلاح رواي: المدارس المعجمية العربية
عبد الله درويش: المعاجم العربية
فايز الداية: - علم الدلالة العربي
- الجوانب الدلالية في نقد الشعر
محمد حسن عبد العزيز: مدخل إلى علم اللغة
محمود فهمي حجازي: علم المصطلح
المعاجم
ابن منظور: لسان العرب
الجرجاني السيد الشريف: التعريفات
الجوهري: الصحاح
الشيباني أبو عمرو: كتاب الجيم
الفراهيدي الخليل بن أحمد: كتاب العين
الفيروز أبادي: القاموس المحيط
مجمع اللغة العربية بالقاهرة: - المعجم الكبير
- المعجم الوسيط
- المعجم الوجيز
هانس دير: معجم العربية المعاصرة : عربي / انجليزي
كتب مترجمة
تشو مسكي : البنى التركيبية
مظاهر النظرية التركيبية
دوسوسير: دروس في اللسانيات العامة
مارتينيه: مبادئ اللسانيات العامة

مقالات
عدنان الخطيب: المعجم العربي بين الماضي و الحاضر. مجلة مجمع دمشق ج/2، مج/4 ص 194

أحمد شامية: مستويات الدلالة و المعنى مجلة المبرز العدد8 المدرسة العليا للأساتذة.
من المراجع الأجنبية:
- Bloomfield – ********
- J.R Searle : meaning and speech acts
- S. Ullmonn: meaning and style
- R. Bartles: Elements of semiology
- Ogden and Richards: the meaning of meaning
مقدمة عامة
لابد قبل الحديث عن الدلالة من الحديث عن اللغة، لاسيما أن الدلالة اللغوية هي الأهم و الأوسع و الأكثر تعقيدا و أنها هي الموضوع الأساسي في علم الدلالة بالإضافة إلى الإشارة إلى أنواع الدلالات الأخرى.
و يمكن القول بإيجاز أن اللغة هي الإنسان أو أن اللغة أهم خصائص الإنسان التي تميزه عن غيره من المخلوقات الحية ،و تجعل له هذه المكانة و المهمة التي خلق لها (الخلافة في الأرض) حتى أننا يمكن أن نعرّف الإنسان بأنه حيوان ذو لغة، و إن كان الإنسان قد تميز بعقله و تفكيره و قابليته للتطور و الرقي
و التقدم في الحضارة و العمران، فان ذلك كان بفضل هذه المزية المعجزة ( مزية اللغة) فالله تعالىـ كما جاء في كتابه الكريم ـ " خلق الإنسان، علمه البيان "، " و علم آدم الأسماء كلها"
و بغض النظر الآن عن كيفية نشأة اللغة الإنسانية حسب الفرضيات المشهورة فإننا يمكن أن نؤكد أن هذه اللغة للإنسان هي من الضرورات الحيوية التي ما كان للإنسان أن يستطيع الاستمرار و التطور بدونها، و تأتي ترتيبا بعد الهواء و الماء و الغذاء و ذلك نظرا لإمكانيات الإنسان الجسدية الضعيفة التي ما كان قادرا بها لولا اللغة و التفكير و هما مرتبطان، ما كان قادرا على مواجهة قوى الطبيعة الطبيعية
و الحيوانية و بالتالي ما كان قادرا على الاستمرار و لكنها حكمة الله و إرادته بأن تستمر الحياة إلى حيث قدّر سبحانه و تعالى لها.
و ليست اللغة في الواقع ـ و أهم غاياتها تأمين التواصل و الاتصال ـ ليست الا علاقة بين صورة صوتية
( ألفاظ ) وصورة مفهومية ( معان ) يتم الربط بينهما ذهنيا، فسواء نشأت اللغة ابتداء في صورتها المكتملة أو كانت قفزة نوعية في طرائق الاستدلال و التواصل فهي تعتمد على ربط العلاقة بين الدال
و المدلول.
و من هنا كان الاهتمام بالدلالة، و علم الدلالة غاية عند الأصوليين و المناطقة و اللغويين (طبعا) و علماء النفس.........
و كان لهذا العلم علاقة بكل هذه العلوم (الإنسانية) بل إن للدلالة علاقة بكل أنواع المعرفة و في شتى مجالات الحياة.
حصة تطبيقية حول تعريف علم الدلالة la sémantique
يقول الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح : " اللسان في حد ذاته نظام من الأدلة المتواضع عليها ، فاللسان على هذا الاعتبار ليس مجموعة من الألفاظ يعثر عليها المتكلم في القواميس أو يلتقطها بسمعه من الخطابات ثم يسجلها في حافظته ، كما أنه ليس أيضا مجموعة من التحديدات الفلسفية للاسم والفعل والحرف أو القواعد المسهبة الكثيرة الشواذ ، بل هو نظام من الوحدات يتواصل بعضها ببعض على شكل عجيب وتتقابل فيها بناها في المستوى الواحد التقابل الذي لولاه لما كانت هناك دلالة ".
المطلوب : حلل النص محددا منه تعريف علم الدلالة ووحدته .
التحليل :
ـ نظام :أي مجموعة من العناصر اللغوية التي ترتبط بعضها مع بعض وفق علاقات معينة
ـ يتواصل : أي وجود تلك العلاقات المبنية على أساس الاتفاق والاختلاف ،
تهتم اللسانيات بنظام دلالي خاص ، هو النظام اللغوي ووحداته هي الأدلة اللغوية ، جمع الدليل اللغوي ، ويدرسها علم الدلالة (la sémantique ) الذي هو فرع من اللسانيات .لكن تتنوع الأدلة في المجتمع إذ نجد الأدلة اللغوية وغير اللغوية حيث تنتظم كلها في نظم دلالية خاصة . والعلم الذي يهتم بها جميعا هو علم الدلالات أو ما يعرف بالسميولوجيا ( la sémiologie ) واللسانيات فرع منه .
ان كلمة دليل تعني عموما أن العنصر ( أ ) يدل على العنصر ( ب ) لكن نميز هنا بين الدليل والمؤشر والرمز ونميز بينها بوجود النية في التبليغ وعدم وجودها .
فنمثل للمؤشر ب : ـ أعراض المرض كضعف الجسم الذي يمكن أن يدل على نقص في التغذية
ـ الدخان الذي يدل على اشتعال النار
فهي مؤشرات طبيعية تدل على معان معينة دون أن تكون هناك نية للتبليغ

الدليل :نمثل له ب : ـ الراية الحمراء التي تدل على منع السباحة
ـ أرقام الهاتف
ـ قوانين المرور
الرمز : نمثل له ب : ـ الميزان الذي يدل على مفهوم العدل. يشترك الدليل والرمز في كونهما يحملان نية للتبليغ ، لكنهما يختلفان في نوعية العلاقة التي تربط بين العنصرين (أ ) و ( ب ) فالرمز مرتبط كثيرا بشكله ، واختياره ليس عشوائيا ولا اعتباطيا بل وفق ما يحمله ذلك الشكل من معنى .
أما الأدلة فتمت بالاتفاق والتواضع والاصطلاح بين الناس لتحقيق غرض التبليغ ، والعلاقة التي تربط العنصرين ( أ) و( ب) ، كمكونات الدليل في هذه الحالة ، علاقة غير حتمية ، عشوائية ،اعتباطية ناتجة عن الاتفاق و التواضع والاصطلاح فلا توجد بين كلمة (جهاز) ومعناه أية علاقة طبيعية كما لا توجد أية علاقة طبيعية بين اللون الأحمر والأمر بالوقوف في إشارات المرور .
فنقول إذن إن علم الدلالة يدرس المعاني اللغوية وعلاقة الألفاظ بمعانيها .
ووحدته هي الدليل اللغوي وهو أصوات يستعملها الإنسان للإبانة عن المفاهيم والأشياء.
ملاحظة : لتوضيح أكثر ارجع إلى كتاب خولة طالب الابراهيمي ، مبادئ في اللسانيات ،دار القصبة للنشر
*****************
المحاضرة رقم 2
علم الدلالة
تعريف علم الدلالة: العلم هو دراسة ظاهرة معينة و الوقوف على ماهيتها و جزئياتها و ما يتعلق بها دراسة موضوعية، و الدلالة (بالتعريف) قد يختلف تعريفها بين الباحثين و لنأخذ مثالا لتعريفها من كتاب التعريفات للجرجاني السيد الشريف حيث قال: الدلالة هي كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر و الأول هو الدال و الثاني هو المدلول . و هي إما دلالة مطابقة أو دلالة تضمن أو دلالة التزام وكل ذلك يدخل في الدلالة الوضعية لأن اللفظ الدال بالوضع يدل على تمام ما وضع له بالمطابقة و على جزئه بالتضمن و على ما يلزمه في الذهن بالالتزام، كالإنسان فانه يدل على تمام الحيوان الناطق بالمطابقة،
و على جزئه بالتضمن و على قابل العلم بالالتزام (انظر كتاب التعريفات للجرجاني علي بن محمد- الدار التونسية للنشر 1971 ص 55-56)
و في القاموس المحيط دلّه عليه دلالة ( و يثلث) و دلولة فاندل: سدده إليه...........(الفيروز أبادي- القاموس المحيط- دار العلم للجميع- بيروت ج/3 ص 377)
إن الحديث عن الدلالة الوضعية هنا يدفعنا إلى الحديث عن نوعي الدلالة أو الدال و هما الدال اللغوي
و الدال غير اللغوي.
و في الدراسات اللسانية الحديثة تقسيم لأنواع (الدليل) الذي ينتج عن ارتباط الدال بالمدلول ارتباطا ذهنيا . دليل
دال مدلول
فالدال اللغوي (اللفظ/ الكلمة/ الوحدة الدالة) في رأي الباحثين بغض النظر عن بعض الاستثناءات هو دال وضعي اعتباطي أي أن علاقته بالمدلول علاقة عرفية تواضعية (و ستأتي على تفصيل ذلك على حينه)
أما التقسيم فيبينه الشكل البياني التالي:

الدليل

موضوع غير موضوع


لغوي غير لغوي طبيعي عقلي
(اعتباطي دائما) (الغيم يدل على المطر) (الأب اكبر من الابن)

اعتباطي غير اعتباطي
(أرقام الهاتف) (الميزان يدل على العدالة)

هذا و قد أشار الزمخشري في كتابه (المفصل) إلى هذه الاعتباطية (الوضع) عندما عرف الكلمة بقوله: (الكلمة هي اللفظ الدال على معنى مفرد بالوضع).
و بالعودة إلى (الدلالة) في اللسانيات الحديثة (البنوية) فعند سوسور هناك دال (لفظ) و هناك مدلول (معنى) أو مفهوم و الدال و المدلول وجهان لورقة واحدة و لا يمكن الفصل بينهما/ و إن تحليل الدال يؤدي إلى تحليل المدلول (ينظر: سوسور، دروس في الألسنية العامة- ترجمة صالح القرمادي و محمد الشاوش و محمد عجينة، ص 174).
و للتأكيد على أن الدلالة تتم من الارتباط الذهني بين الدال و المدلول فقد أوضح تلاميذ سوسور هذه العلاقة من خلال ما يعرف بمربع سوسور للدلالة حسب الشكل التالي :
مربع سوسور للدلالة
صورة حسية للدال صورة حسية للمدلول
(لفظ) (الشيء في الواقع)
صورة ذهنية صورة ذهنية للمدلول
للدال
الدلالة


لأن سوسور يبدو أنه حصر عناصر الدلالة في الدال و المدلول ،و أهمل الموضوع وهو الشيء
أو المرجع الذي تحيل اليه العلاقة الدلالية ،و هو في ذلك يلتقي – في هذه الثنائية – مع ابن سينا الذي حصرها بين اسم (مسموع) و معنى، في حين يرى (بيرس) أن العلاقة ثلاثية: الصورة (الدال) و المفسرة (المدلول) و الموضوع، و هو ما تحيل إليه العلامة، أي الشيء.
أما الغزالي فيرى أن الأشياء لها أربعة مراتب عندما قال " ان للشيء وجودا في الأعيان ثم في الأذهان ثم في اللفظ ثم في الكتابة، فالكتابة دالة على اللفظ ، و اللفظ دال على المعنى الذي هو في النفس ،و الذي في النفس هو مثال الموجود في الأعيان.
(عن مجلة تجليات الحداثة، معهد اللغة العربية العدد/2، 1993 ص 34).

صورة لهذا لفظ كلمة [ شجرة (كتابة)]
الشكل في الذهن (شجرة باللسان)

شجرة في الحقل
مفهوم علم الدلالة و موضوعه:
للحديث عن علم الدلالة (sémantique) و موضوعه أو لتوضيح ذلك ، لابد من تحديد علاقة علم الدلالة بعلم اللغة وذلك باعتبارين الأول: أن يكون علم الدلالة فرعا من فروع علم اللغة (اللسانيات) ، و الثاني أن يكون علم اللغة (الدلالة اللغوية على الخصوص) فرعا من علم الدلالة أو علم العلامات الذي يطلق عليه مصطلح (العلامية) أيضا. فموضوع العلامية (العلامات و الإشارات و الأدلة بمفهومها الواسع لغوية كانت أم غير لغوية و هذا ما ذهب اليه اللساني السويسري (سوسور).
و اذا بدأنا بالاعتبار الأول (كون علم الدلالة فرعا من اللسانيات( لابد من العودة إلى مستويات البنية اللغوية و هي على الشكل التالي: ( للملاحظة ) هناك من لا يدخل المستوى البلاغي والمستوى الدلالي في هذه المستويات ).
المستوى البلاغي / علام البلاغة و الأسلوب
المستوى الدلالي
المستوى النحوي / علم النحو و التراكيب
المستوى الصرفي / علم الصرف
المستوى الصوتي / علم الأصوات علم الدلالة

و هنا نلاحظ أن المستوى الدلالي في هذا البناء هو مستوى يتقاطع مع جميع المستويات الأخرى ،لأن الدلالة حاضرة و ناتجة عن تفاعل كل هذه المستويات، حتى المستوى الصوتي الذي يقال أنه مستوى الوحدات غير الدالة . وينبغي الإشارة هنا إلى أن هذا التقسيم هو تقسيم نظري افتراضي، فاللغة تعمل لأداء مهمتها وفق نظام اللغة الذي يندمج فيه كل هذه الأنظمة. فعلى مستوى العمل و الأداء ليس هناك مستويات منفصلة ،و إنما التقسيم إلى هذه المستويات لضرورة البحث و التحليل و الدراسة اللغوية. فالمتكلم الذي يتكلم وفق نظام اللغة (اللسان) لا علاقة له بهذه المستويات التي لها أنظمة خاصة بها.

- على أية حال يبدو لنا في هذا التحليل أن علم الدلالة الذي يبحث في أحد تلك المستويات هو فرع من علم اللغة أو اللسان.

- أما بالاعتبار الثاني فيظهر لنا في المستوى الأدائي أن علم اللغة (الدلالة اللغوية) هو أهم عناصر علم العلامات ، إلى جانب عناصر دلالية أخرى غير لغوية، و أن العناصر اللغوية هي المعوّل عليها في الاتصال الذي يقوم أساسا على فهم العلاقة بين الدال و المدلول . بل أن اللغة حاضرة دائما في كل فروع الدلالة لغوية كانت أم غير لغوية.
و إذا كنا سنولي اهتمامنا للدلالة اللغوية (الدليل اللغوي) دون التفصيل في الأدلة غير اللغوية (عدا إشارات فقط، و بما أننا نستعمل مصطلحات مثل ( لغة، لسان، كلام) فلابد من محاولة تحديد مفهوم هذه المصطلحات ، و إن كانت متداخلة أحيانا في أذهان الناس بل و في أذهان الطلبة و الباحثين في علوم اللغة.
و قد لا نحتاج هنا إلى التفاصيل التي تدرس في علم اللغة أو اللسانيات و لكن يمكن أن نوضح هذه المفاهيم بما يلي:
- من الشائع بين اللسانيين أن مادة علمهم ليست الكلام و لا اللسان و إنما هي اللغة (ينظر عبد السلام المسدي: مباحث تأسيسيه في اللسانيات ص 168) .
و يلاحظ هنا أن هناك ثلاثة مصطلحات لثلاثة مفاهيم ، و كلها تمثل ما يسمى بالظاهرة اللغوية التي ترتقي من (الكلام) و هو كلام الأفراد كما نسمعه أو نحادثهم فيه و هذه هي المرتبة الفردية و هذا الذي يمكن أن نسجله على آلة التسجيل، ثم تأتي مرتبة (اللسان) و تتطابق مع منزلة الوجود النوعي و هو الاشتراك في معرفة ما يتم التحاور به ضمن كل مجموعة لغوية (اللسان العربي أو الانجليزي أو الصيني)
أما مرتبة اللغة فهي تتطابق مع جملة من القوانين التي إن أطلقت صدقت على كل لسان من الألسنة البشرية (المرجع السابق ص170).
و هنا تبدو اللغة أعم من اللسان، و تدرس من خلال ما يسمى باللسانيات العامة مقابل اللسانيات الخاصة التي تدرس نظام كل لسان بشري على حدة.
و في سياق أخر يذكر أن اللسان أعم من اللغة مع إمكان استعمال كل مصطلح لمفهوم الآخر.
و الحقيقة أن الظاهرة اللغوية تستوعب المفاهيم الثلاثة السابقة (الكلام، اللسان، اللغة) فاللغة (لغة الناس/ البشر) و اللسان (لسان الجماعة اللغوية) و الكلام (كلام الأفراد).
اللغة مفهوم كلي و اللسان مفهوم نمطي و الكلام مفهوم انجازي (السابق ص 172)، اللغة جنس، اللسان نوع، الكلام شخص.
اللغة (صورة القانون) ، اللسان ( نموذج العرف)، الكلام (نموذج السلوك).

إن اللساني يدرس البنية اللغوية في جوانبها الصوتية و الصرفية و التركيبية و الدلالية ثم يعمل على كشف ارتباط هذه البنية بوظائفها الاجتماعية.
بعد هذا يظهر لنا أن موضوع علم الدلالة هو الأدلة بشكل عام و الدليل اللغوي بشكل خاص ، و علاقة الدوال بمدلولاتها و.يتفق عدد كبير من الباحثين على أن السيمياء كنوع من اللسانيات كان من أثر اللغوي الفرنسي بريال (1883)، باعتبار أن هذا العلم يدرس الدلالات و القوانين التي تتحكم في تغير المعاني
أو أن الموضوع هو المعنى. ( ينظر سالم شاكر : مدخل إلى علم الدلالة ، ترجمة محمد يحياتن ، ديوان المطبوعات الجامعية . الجزائر 1992ـ ص4 )
أما غاية هذا العلم فهي خاصة و عامة، فالغاية الخاصة هي أن علم الدلالة – مثل أي علم آخر- يسعى إلى الاستقلالية و امتلاك الأدوات و المناهج الرياضية ، و هنا ينبغي الإشارة إلى الاهتمام بهذا العلم حيث ظهر في عام 1923 كتاب عنوانه (the meaning of meaning) لمؤلفيه Richards و Ogden.
و أما الغاية العامة فهدف علم الدلالة كغيره من العلوم الإنسانية – و بالاستعانة بها و بالتعاون معها – هو الإسهام في ترقية الحياة الإنسانية في جميع المجالات، و تسهيل عملية الاتصال و التعاون و التفاهم المشترك و ضبط المصطلحات و المفاهيم في جميع العلوم لاسيما في العلوم الحديثة و وسائل الاتصال
و خاصة في محيط العولمة و التقارب ، إن لم نقل الاندماج الفكري على الأقل بين الأمم و الشعوب.
و كان أحد الباحثين قد حدد هدف علم الدلالة الإجرائي بأنه حصر صور الأوضاع الدلالية كأنظمة قابلة للتحليل ( ينظر بوجراند: النص و التطبيق و الإجراء).
حصة تطبيقية حول الدليل اللغوي le signe linguistique
يقول دو سوسير :" يظن بعض الناس أن اللسان إنما هو في أصله مجموع الألفاظ أي قائمة من الأسماء تطلق على عدد من المسميات . وفي تصوره هذا نظر، من عدة وجوه: انه يفترض وجود معان جاهزة قبل وجود ألفاظها ثم إننا لا نتبين به هل الاسم هو جوهر صوتي أم نفساني......ويشعرنا أيضا أن ارتباط الاسم بالمسمى هو عملية في غاية البساطة وهذا بعيد جدا عن الواقع...... إن الدليل اللغوي لا يربط مسمى ما باسمه الملفوظ بل مفهوم ذلك الشيء أو تصوره الذهني بصورة لفظه الذهنية فهذه الصورة الصوتية ليست هي الصوت المادي لأنه شيء فيزيائي محض بل انطباع هذا الصوت في النفس والصورة الصادرة عما تشاهده حواسنا . فالدليل اللغوي إذن كيان نفساني ذو وجهين ويسمى دليلا لغويا المركب المتكون من المفهوم والصورة الصوتية ( صورة اللفظ في الذهن )...ولكن نقترح لفظة الدليل للدلالة على الكل واستبدال لفظتي المفهوم والصورة الصوتية بلفظتي الدال والمدلول ".
دروس في اللسانيات العامة لدوسوسير ص97
ترجمة د عبد الرحمان الحاج صالح ص45 من مجلة اللسانيات

المطلوب : استخرج من النص المفاهيم الدلالية واشرحها.
الإجابة :أهم المفاهيم الدلالية الواردة في النص هي :
أ ـ الدليل اللغوي: وهو وحدة علم الدلالة، نعرفه بأنه اللفظ الدال على شيء أو معنى معين و ركيزته المادية هي الصوت .
ب ـ الصورة الصوتية (le signifiant) هي انطباع الصوت في الذهن .
ج ـ الصورة الذهنية : ( Le signifié)هي انطباع الشيء في الذهن .

دوسوسير في هذا النص ينفي فكرة سادت ،وهي أن الألفاظ ألقاب للمسميات ويبين لنا الدليل اللغوي لا يربط بين لفظ ومسماه ( الشيء والمعنى ) إنما يربط بين المفهوم والصورة الصوتية في قوله " إن الدليل اللغوي .........لفظه الذهنية ".
يعني هذا أننا لا ننظر إلى الدليل اللغوي كحقيقة مادية لأننا لا نتحدث عن المعنى كشيء جاهز ولا عن الألفاظ كمجموعة من الأصوات نسمعها في قوله " يفترض وجود معان جاهزة ................نفساني ".
لكن دوسوسير يتصور الدليل اللغوي كيانا ذهنيا مكونا من دال هو الصورة الصوتية ومدلول هو المفهوم الذي يتصوره الإنسان لذلك الشيء الخارجي، أي الموجود خارج ذهن الإنسان والذي ندرج فيه كل الأشياء المادية والمعنوية التي تحيط بنا و نسميه المرجع أو المدلول عليه.
فالدليل اللغوي إذن يتكون عندما يريد الإنسان الحديث عن المرجع ( الشيء ) فيبحث في نظامه التقديري
عن المفهوم الذي ينطبق على ذلك المرجع وقد تعلمه وورثه عن أفراد مجتمعه ، والمسمى المدلول أو ( الصورة الذهنية ) . ثم يعبر عنه بصورة صوتية وهي ( التصور الذهني للأصوات الذي يتم في ذهن الإنسان ) وهنا تتم عملية تكوين الدليل اللغوي ، ويمكننا التمثيل له بالشكل التالي :
دال ( صورة صوتية)
المرجع دليل لغوي
مدلول (صورة ذهنية )

أما عن ميزات الدليل اللغوي فهي :
أ ـ الاعتباطية :(arbitraire ) أي لا يوجد في اللفظ ما يدل حتما على معناه ، ونعطي لذلك مثلا توضيحيا كلمة شجرة.
فلو كانت الشين مثلا تدل على الأوراق والجيم على الساق والراء على الأغصان لقلنا بطبيعية العلاقة وحتميتها ، لكن ، بما أن الأمر عكسي فنقول بأنها علاقة اعتباطية وضعية ناتجة عن التواضع والاتفاق بين بني البشر .والدليل على ذلك اختلاف اللغات ففي اللغة العربية نستعمل ـ مثلا ـ كلمة ( كرسي ) للدلالة على شيء معين ،في حين يستعمل الناطق باللغة الفرنسة كلمة (chaise) للدلالة على الشيء ذاته ، فأي الأصوات من الكلمتين تدل على المعنى أكثر من الأخرى ؟

ب ـ الخطية :(liniaire) بما أن الركيزة المادية للدليل اللغوي هي الصوت فانه يتسلسل عند إحداثه تسلسل الزمن في خط واحد أفقي يسمى مدرج الكلام ، مثلا كلمة ( صدق ) التي تنطق حروفها متسلسلة ص+د+ق وإذا تغير التسلسل ق+ ص+ د تغير المعنى.
**********************
المحاضرة رقم3
علاقة علم الدلالة بعلوم اللغة
كنا في المحاضرة السابقة قد بينا العلاقة المتبادلة بين علم الدلالة (العلامية) و علم اللغة (اللسانيات) حيث أنها علاقة عموم و خصوص أو كلّ و جزء.
و قد ذكرنا أن علم الدلالة – كغيره من العلوم – ، يعتمد أساسا على اللغة كأداة في كل ما يتعلق بهذا العلم ، و نبين بعد ذلك بشيء من التفصيل علاقة (الدلالة) بعناصر (مستويات) البنية اللغوية بافتراض استقلالية هذه العناصر نظريا فقط.
و بشكل عام ينصرف مفهوم علم الدلالة إلى الدلالة اللغوية.

أولا: علاقة علم الدلالة بالأصوات (المستوى الصوتي).
مازلنا نذكر حين حديثنا عن المستوى الصوتي أن الأصوات [ الحروف / (حروف البناء)] وحدات غير دالة ، و هي القطع الصوتية الصغرى التي تتشكل منها بجمع بعضها إلى بعض الوحدات الدالة (الكلمات). هذه القطع الصوتية الصغيرة التي تظهر في التقطيع الثاني عند البنويين الوظيفيين (مارتينيه). و هنا يجب أن نشيرإلى أن هناك ما يسمى بالوحدات الدلالية التي هي أقل من الكلمة و تتمثل في (المورفيم المتصل) مثل السوابق و اللواحق و الضمائر المتصلة بل أن هناك وحدة دلالية أقل من المورفيم ، مثلا دلالة الحركات على تاء الفاعل ( كتبتم ، كتبت ،كتبتما ..) أنظر أحمد مختار عمر ص34.
هذه الأصوات في الواقع تدرس من جانبين. الجانب الأول : هو من حيث طبيعتها الفيزيائية
– الفيزيولوجية، و الجانب الثاني: من حيث وظيفتها (الدلالية) في بنية الكلمة أو الوحدة الدالة و لذلك صار للأصوات علمان أحدهما: علم التصويت و الثاني : علم وظائف الأصوات، حيث تدرس وظائف هذه الأصوات من خلال التقابلات الثنائية التي تظهر القيمة الدلالية أو المعنوية للصوت بالاشتراك مع أصوات أخرى.
فالفرق الدلالي بين قال و مال جاء من التقابل بين (ق) و (م).
و تبدو علاقة الدلالة بالأصوات جلية هنا. و هناك كلمات يتغير أحد أصواتها و لا تتغير دلالتها مثل: الصراط مقابل السراط. و السقر، و الزقر، و الصقر، و هذا ما يسمى كيفيات أو وجهات أداء. و لابد من الإشارة أيضا إلى أن هناك من يرى أن الصوت (الحرف) الواحد منفردا له قيمة تعبيرية (دلالية) خاصة به.
و قد ذهب عدد من الباحثين إلى هذا الرأي و من هؤلاء ابن جني ت 392ه. الذي أورد في كتابه الخصائص عددا من العناوين و الأمثلة التي تؤكد قناعته بهذا الرأي، من ذلك تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني. و باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني. فالصوت (الحرف) مفردا أو مركبا يحمل قيمة دلالية في ذاته ،و ليس ذلك بغريب على ابن جني الذي لم يخف ميله إلى النظرية التي ترى أن أصل اللغات إنما هو من الأصوات المسموعة، فهذا المذهب عنده وجه صالح و متقبل.
و هناك أمثلة كثيرة غايتها تأكيد القيمة التعبيرية (الدلالية) للحرف الواحد، مركبا في الكلمة من ذلك: نضح و نضخ، قال تعالى " فيها عينان نضاختان "و بما أن النضخ أقوى من النضح فقد جعلوا الحاء لرقتها للماء الضعيف، و الخاء لغلظها لما هو أقوى منه، و كذلك : قضم و خضم ، فالقضم للصلب اليابس و الخضم للرطب. و كان أحمد بن فارس (توفي 395ه) قد وضع معجما سماه: (مقاييس اللغة) وجه فيه كل جهده لاستنباط الصلات بين الألفاظ و دلالاتها، و لكنه غالى و تكلف، كما فعل ابن جني.

و لم يكن علماء العرب و حدهم الذين يعتقدون بهذه القيمة التعبيرية للأصوات (الحروف)، فمن المحدثين الغربيين (جسبرسن) الذي يلخص آراء المحدثين في الصلة بين الألفاظ و الدلالات فتعرض لمقال
(همبلت) الذي يزعم أن اللغات بشكل عام تؤثر التعبير عن الأشياء بواسطة ألفاظ أثرها في الأذن يشبه أثر تلك الأشياء في الأذهان، و هذا ما يسمى بالمناسبة الطبيعية بين الألفاظ و معانيها ،و إن كان يرى أن هذه الصلة كانت في البداية، و لكنها تطورت حتى أصبحت العلامة غامضة.
و كان جسبرسن يضرب بعض الأمثلة عن المناسبة الطبيعية، من ذلك أن طائرا في أوربا يسمى(كوكو) فهو يصيح فيصدر صوتا هو – كوكو -.
ويمكن أن نمثل لهذا كذلك بكلمة الصفق و هو الصفع على الوجه، و هو ما يشبه الصوت الصادر عن ذلك.

و من مظاهر الدلالة الصوتية (النبر) فالنبر و الاعتماد بقوة أو الضغط على مقطع ما أو كلمة ما يجعل لها معنى خاصا . وفي لغات أخرى يحدد موضع النبر نوع الكلمة ، اسما أو فعلا .
و من مظاهر الدلالة الصوتية كذلك، النغمة الكلامية ففي اللغة الصينية قد يكون للكلمة الواحدة عدة معان يفرق بينهما النغمة.
و مثال ذلك في العربية قولنا http://illiweb.com/fa/i/smiles/icon_sad.gifهكذا) فقد تكون بمعنى الاستفهام إذا كان المتكلم يريد الاستفسار عن كيفية عمل شيء ، و قد تكون للشجب و الاستنكار، و قد تكون للإقرار و الإخبار.
و مما يتعلق بهذه الدلالة الصوتية ما ذكر من أن بعض اللغات تعبر عن الأصول المختلفة للفعل ،أي لحدوث الفعل من الفاعل بكلمات إضافية تدل من حيث الإيقاع الصوتي على تلك الحالة أو الكيفية، من ذلك ما ذكره الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه (دلالة الألفاظ) من أن من لغات وسط إفريقيا أن الفعل الذي يدل على مطلق المشي هو (zo) :
و يمشي منتصبا : ZO KA KA
يمشي بنشاط و حماس : ZO DES DES
يمشي بسرعة: ZO TYA TYA
يمشي متثاقل : ZO BOHO BOHO

( ارجع إلى ص69/70 من هذا الكتاب / مكتبة الأنجلو مصرية ط/5 1984)

حصة تطبيقية حول علاقة علم الدلالة بمستويات التحليل اللساني

أ ـ علاقته بالمستوى الصوتي:


النص الأول :
يقول ابن جني في باب إمساس الألفاظ أشباه المعاني : " اعلم أن هذا موضع شريف لطيف وقد نبه عليه الخليل وتلقته الجماعة بالقبول له والاعتراف بصحته .قال الخليل كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومدا فقالوا صر ، وتوهموا في صوت البازي تقطيعا فقالوا صرصر،
وقال سيبويه في المصادرالتي جاءت على الفعلان أنها تأتي للاضطراب والحركة ، نحو الغليان والغثيان فقابلوا توالي حركات المثال بتوالي حركات الأفعال ".
الخصائص ج2 ص152

النص الثاني :
و يقول أيضا : " فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث ، فباب عظيم وواسع ونهج متلئب عند عارفيه ، ذلك لأنهم كثيرا ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبر بها عنها ، فيعدلونها بها ويحتذونها عليها بذلك أكثر مما نقدره وأضعاف ما نستشعره من ذلك كقولهم خضم وقضم ، فالخضم لأكل الرطب كالبطيخ والقثاء وما كان نحوهما من المأكول الرطب ، والقضم للصلب اليابس نحو قضمت الدابة شعيرها ونحو ذلك " .
الخصائص ج2 ص 157
النص الثالث :
أما في باب تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني فيقول :" من ذلك قول الله سبحانه :" ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا " أي تزعجهم وتقلقهم . فهذا في معنى تهزهم هزا ، والهمزة أخت الهاء ، فتقارب اللفظان لتقارب المعنيين . وكأنهم خصوا هذا المعنى بالهمزة لأنها أقوى من الهاء وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهز لأنك قد تهز ما لا بال له ، كالجذع وساق الشجرة ونحو ذلك ".

الخصائص ج2 ص146 ـ147


المطلوب : حلل هذه النصوص مبرزا أهم الظواهر الدلالية .

التحليل : نلاحظ في النص الأول أن ابن جني قد التفت إلى وجود صلة بين صوت الجندب والفعل الذي يدل عليه " صر " . وبسبب تشابه صوت البازي وصوت الجندب مع وجود اختلاف في الكيفية ، جاء الفعل الذي يصف صوت البازي مضعفا " صرصر " .
فنجد ابن جني يركز على تقارب المعاني نتيجة لتقارب جرس الأصوات ، ويفرق بين المعاني نتيجة لاختلاف الجرس .ويضيف ابن جني ما قاله سيبويه في هذا الباب " أن المصادر التي جاءت على الفعلان ، أنها تأتي للاضطراب........... حركات الأفعال ".فالمصادر التي على وزن " فعلان " ـ بفتح الفاء والعين ـ تدل على الحركة المصاحبة للحدث .
ثم يوضح في النص الثاني أثر الأصوات في المعاني ، فالصوت الرخو يدل على المعنى الرخو وبالمقابل يدل الصوت الغليظ على المعنى الغليظ ويعطينا مثالا لذلك كلمتي :الخضم التي تدل على أكل الرطب
و القضم لأكل الصلب اليابس.
أما في النص الثالث فيوضح لنا أن تقارب الحروف أو الأصوات ناتج عن تقارب المعاني ويقدم مثالا لذلك كلمتي الهز و الأز المتقاربتين في المعنى ومعناهما : تزعجهم وتقلقهم . أما إذا نظرنا إلى الكلمتين من الناحية اللفظية فنجد أنهما لا تختلفان إلا في حرف الهاء والهمزة وهما حرفان متقاربان أيضا من الناحية الصوتية فالهاء مخرجه الحلق وهو المخرج ذاته للهمزة .
فتتصور من مجموع هذه النصوص أن ابن جني يريد القول بوجود العلاقة الطبيعية بين الحرف ومعناه أو ما يسمى بالقيمة التعبيرية للحرف الواحد ، إذ تتقارب المعاني أحيانا نتيجة تقارب مخارج الحروف، وترتبط قوة المعاني بقوة الحروف .

ملاحظة : هذه فكرة توضيحية وعلى الطالب أن يتعمق في الشرح والتعليل كنموذج تدريبي .
تابع للمحاضرة رقم 3
علاقة الدلالة بعلم الصرف (الدلالة الصرفية).
بالرجوع إلى المستوى الصرفي من مستويات البنية اللغوية نذكر أن عناصر هذا المستوى هي (المفردات أو الكلمات أو الوحدات الدالة) التي تنشأ من جمع الأصوات (الوحدات غير الدالة) بصورة اعتباطية (مع التحفظ هنا على هذه الاعتباطية) ليكون لدينا وحدات لها دلالة مفردة (بالوضع) كما ذكر الزمخشري في كتابه (المفصل). هذه الوحدات ذات الدلالة المفردة تأخذ أشكالا صرفية مختلفة و هي التي تسمى الصيغ الصرفية ، و لكل صيغة دلالة معينة بالإضافة التي دلالة المادة الصوتية التي تتشكل منها. فللأأسماء
و الأفعال و الأوصاف (المشتقات المختلفة) دلالة إضافية تحددها الصيغة. فلكل فعل من الأفعال (الماضي، المضارع و الأمر) و بصورها المختلفة (المجردة و المزيدة ) هيئة صرفية تدل على المعنى أو على جزء من المعنى . مثل: فعل، يفعل، افعل، استفعل، تفاعل............و كذلك فاعل، مفعول، مفعل، مفعل، فعال، مفعال.

و قد تدل صيغة واحدة على عدة معان يحددها السياق، مثل صيغة اسم الفاعل و المفعول.
(مختار) ، بضم الميم ، المتحولة من البنيتين العميقتين: مختير و مختير، بفتح الياء في الأولى وكسرها في الثانية ،و من ذلك الصيغة التي تدل على اسم الزمان و المكان و اسم المفعول و المصدر الميمي (مسعى) على وزن مفعل ، ومن ذلك أيضا : الفعل ضاع يضوع ،التي تدل على الظهور
و الاختفاء و ندرك ذلك بالرجوع إلى المضارع: ضاع يضيع و ضاع يضوع ،و كذلك رام يروم و يريم (حلمي خليل مقدمة لدراسة فقه اللغة ص 182).
إن علم الصرف الذي يدرس هذه الصيغ (هذه الوحدات) التي تعد من المفردات على الرغم من أنها قد تتألف من أكثر من وحدة دالة حسب مبدأ تحديد الوحدات الدالة بناء على المعنى، أقول إن علم الصرف هنا يتقاطع مع علم الدلالة لأن الأصل في تصريف الصيغة الأولى إلى صيغ مختلفة الحاجة إلى الدلالات المختلفة التي نحتاج إليها ضمن النظام اللغوي لتؤدي اللغة وظيفتها بشكل كامل و دقيق.
حصة تطبيقية حول علاقة علم الدلالة بالمستوى الصرفي

النص
يقول ابن جني في " باب في الدلالة اللفظية والصناعية والمعنوية " : اعلم أن كل واحد من هذه الدلائل معتد مراعى مؤثر إلا أنها في القوة والضعف على ثلاث مراتب ، فأقواهن الدلالة اللفظية ثم تليها الصناعية ثم تليها المعنوية ولنذكر من ذلك ما يصح به الغرض فمنه جميع الأفعال ، ففي كل واحد منها الأدلة الثلاثة ، ألا ترى إلى قام ودلالة لفظه على مصدره ودلالة بنائه على زمانه ودلالة معناه على فاعله ، فهذه ثلاث دلائل من لفظه وصيغته ومعناه ، وإنما كانت الدلالة الصناعية أقوى من المعنوية من قبل أنها وان لم تكن لفظا فإنها صورة يحملها اللفظ ويخرج عليها و يستقر على المثال المعتزم بها ، فلما كانت كذلك لحقت بحكمه وجرت مجرى اللفظ المنطوق به ، فدخلا بذلك في باب المعلوم والمشاهدة و أما المعنى فإنما دلالته لاحقة بعلوم الاستدلال وليست في حيز الضروريات ".

الخصائص ج3 ص98

المطلوب : حلل النص ، واستخرج أهم المفاهيم الدلالية المتضمنة مع التمثيل .
التحليل :
أبرز ابن جني في هذا النص أنواع الدلالات في الكلمة الواحدة، بحيث فصل بينها وجعلها مستقلة عن بعضها البعض وصنفها حسب قوتها مبتدئا بالأقوى دلالة وهي الدلالة اللفظية ثم الدلالة الصناعية وأخيرا الدلالة المعنوية . ثم بين أن الأفعال تشتمل على هذه الأنواع من الدلالات مجتمعة.
أ ـ الدلالة اللفظية : عرفها ابن جني بقوله أنها " دلالة لفظه على مصدره " .، وهو يقصد دلالة الجذر .
ويوضح لنا الأمر بمثال هو الفعل قام ودلالة لفظه هي دلالة جذره أي الجذر (ق، و، م ) الذي يدل على حدث يختلف عن معنى الجذر ( س ، م ، ع ) مثلا ، فلكل جذر إذن دلالة خاصة به تميزه عن جذر آخر.
ب ـ الدلالة الصناعية : عرفها ابن جني بقوله أنها " دلالة بناء الفعل على الزمن " ، ويقصد بها دلالة الوزن أو الصيغة الصرفية . فالكلمة في اللغة العربية تتكون من الجذر + الوزن ،و لكل وزن دلالة خاصة به ،إذ نجد مثلا أن كلمتي (قام ومقام ) تشتركان في نفس الدلالة اللفظية وهي دلالة الجذر (ق ، و ، م) لكن معناهما مختلف نتيجة تباين وزنيهما مما ينتج عنه تباين في معنى كل وزن :
ـ فوزن قام هو ( فعل ) الذي يدل على حدث القيام في الزمن الماضي،
ـ و وزن مقام هو( مفعل) الذي يدل على معنى اسم المكان
يتبين لنا أن الصيغ الصرفية تلعب دورا كبيرا في الدلالة على معنى الكلمة .
فصيغ الأفعال بأنواعها : الماضي والمضارع و الأمر تدل على الحدث وزمانه ،وما يتصل بهذه الأفعال من حروف وما يدخلها من التضعيف ، فتضعيف العين مثلا يدل على قوة الحدث وكثرته مثل : اخضر واخضوضر .
وتحمل صيغ الأسماء العديد من المعاني التي تتنوع بتنوعها ، كأسماء الفاعلين وأسماء المفعولين وصيغ المبالغة والتصغير والنسب والجموع ، فلكل منها معنى تؤديه .
ويمكننا التعرف على معاني تلك الأوزان بالرجوع إلى كتب الصرف .
ج ـ الدلالة المعنوية :عرفها ابن جني بقوله "دلالة معناه على فاعله " أي دلالة فاعل الفعل.
فالدلالة المعنوية للفعل ( قام ) هي الفاعل الذي قام بالفعل ( هو ).
والدلالة المعنوية في الاسم (قافلة ) هي : قافلة ، سيارة ، كواكب ... أي مختلف المعاني الأصلية
و المجازية .
يمكن أن نمثل لمختلف تلك الدلالات بالشكل التالي :

دلالة الفعل قام

دلالة لفظية دلالة صناعية دلالة معنوية
( دلالة الجذر ق ،و ، م ) ( دلالة الوزن ( فعل) ( دلالة الفاعل هو )
الذي يدل على وقوع الحدث
في الزمن الماضي.
و يختلف بالتالي في دلالته
عن وزن المضارع
( يفعل) و باقي الأوزان
الأخرى ).






دلالة الاسم سيارة

دلالة لفظية دلالة صناعية دلالة معنوية
(دلالة الجذر س ، ي ، ر ) ( الوزن فعالة يدل ( آلة تنقل ميكانيكية
مثلا على السرعة قافلة، كواكب ......
والكثرة....) وهي معاني تتحدد
هنا حسب السياق الذي
وردت فيه )

ملاحظة : لانجد كل هذه الأنواع من الدلالات إلا في الأسماء المتمكنة والأفعال المتصرفة .
تمرين :
1 ـ بين أنواع الدلالة التي تتضمنها الكلمات التالية حسب تقسيم ابن جني لها :

1ـ هاتف ، 2 ـ صه ، 3 ـ من ، 4 ـ نعم ( بكسر النون وتسكين العين ) ، 5 ـ يسلم .

2 ـ ما المعنى المستفاد من الصيغ المتقابلة التالية ( استعن بالمعاجم العربية ) :
أ ـ القوام ( بكسر القاف ) والقوام (بفتحها)
ب ـ الذل ( بكسر الذال ) والذل ( بضمه )
ج ـ حاسوب ، حاسب
تابع للمحاضرة رقم 3
الدلالة و علم التراكيب (الدلالة النحوية).
يقول الجرجاني عبد القاهر في كتابه المشهور (دلائل الإعجاز في علم المعاني) : (إن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها و لكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها فوائد .....) (دلائل الإعجاز ص353).
إن ما يقال من أن الوحدات الدالة في المستوى الصرفي تتشكل من تجمع لعناصر من الوحدات غير الدالة (الأصوات) دون صدور ذلك عن نظام عقلي (إن نظم الحروف هو تواليها في النطق فقط....) (انظر دلائل الإعجاز ص353).( مع التحفظ على ذلك). فان ذلك لا ينطبق على تشكيل الجمل من الوحدات الدالة و إنما يتم ذلك بالتآلف بين هذه الوحدات فيأتلف بعضها و لا يأتلف بعضها الآخر، كما يذكر الجرجاني نفسه في كتابه الجمل (اعلم أن الواحد من الاسم و الفعل و الحرف يسمى كلمة، فإذا ائتلف منها اثنان فأفادا ( .....) يسمى كلاما ويسمى جملة ( الجمل ص107) .
و على هذا تكون الإفادة ليس معنى المفردات في حد ذاتها . و هو ما يوضحه في قوله السابق في الدلائل.
و إنما الإفادة هنا في هذا المستوى (مستوى التراكيب) أو المستوى النحوي هو تعريف المخاطب (بفتح الطاء ) و إبلاغه بالعلاقات النحوية أو ما يسمى بمعاني النحو، و هو المعنى الاسنادي الذي يربط بين الوحدات داخل التركيب فيفهم من الذي قام بالفعل أو اتصف بالوصف و على من وقع هذا الفعل، و مع ترابط عناصر التركيب بما في ذلك الملحقات مثل الحال و التمييز و غيرها، حيث يوضع كل عنصر في موضعه المناسب لصحة المعنى، وإلا لن يفهم المخاطب ، بفتح الطاء ، (السامع) أي معنى مع أنه من المفترض أنه يعرف المعاني المفردة للألفاظ و إنما المعنى المقصود هنا هو معنى النحو، أو الوظائف النحوية. و يرى الجرجاني أن ذلك النظام يقوم على ربط الكلمات ببعضها يقول " ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق بل أن تناسقت دلالاتها وتلاقت معانيها ، على الوجه الذي اقتضاه العقل (ص35) .
وكان الجرجاني قد ضرب مثلا ببيت امرئ القيس ـقفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ـ فقال
ما معناه أننا لو غيرنا ترتيب الكلمات فهل يعني قول امرئ القيس مبينا بعد ذلك .
وقد عدّ بعضهم الجملة (التركيب) هي الوحدة الدلالية الأساسية.
وهذا لا يعني –طبعا- أن المعاني المعجمية (الاجتماعية) بمعزل عن فهم المعنى لأن اللغة تعمل بنظام متفاعل تتداخل فيه المستويات ، و يظهر ذلك عند تشو مسكي فيما يسمى مبدأ السلامة النحوية ،
و يضرب لذلك الأمثلة ، فقد يكون التركيب سليما نحويا من حيث الإسناد، و لكنه لا يؤدي للمخاطب (بفتح الطاء ) معنى صحيحا مثال ذلك : (شرب الجدار النجمة المؤمنة) . و إنما قد يكون ذلك فيما يسمى باختراقات الشعراء مثل. ( شربتني قهوتي ) .
و إذا كنا قد ركزنا هنا على الجرجاني فلأنه ركز على العلاقة بين النحو و البلاغة أو الإبلاغ و ليس الإبلاغ إلا نقل المعاني و تبادلها بين المخاطب ( بفتح الطاء ) و المخاطب (بكسر الطاء ) .و من هنا كان لعلم الدلالة علاقة متينة بعلم النحو فليست اللغة إلا مجموعة من العلاقات بين الألفاظ و دلالاتها ،و هذا ما تؤكده كثير من المذاهب اللسانية الغربية الحديثة.
حصة تطبيقية حول علاقة علم الدلالة بالمستوى التركيبي :

النص الأول :
يقول عبد القاهر الجرجاني :" اعلم أن ههنا أصلا أنت ترى الناس فيه في صورة من يعرف من جانب وينكر من آخر ، وهو أن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها و لكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها فوائد ، وهذا علم شريف وأصل عظيم ، والدليل على ذلك أنا إن زعمنا أن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة ، إنما وضعت ليعرف بها معانيها في أنفسها ، لأدى ذلك إلى ما لا يشك عاقل في استحالته ....."
دلائل الإعجاز ص469
النص الثاني :
و يقول أيضا :" ليت شعري كيف يتصور وقوع قصد منك إلى معنى كلمة من دون أن تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى ، ومعنى اخر



http://illiweb.com/fa/empty.gif (http://terkiya.3arabiyate.net/t423-topic#top) http://illiweb.com/fa/empty.gif (http://terkiya.3arabiyate.net/t423-topic#bottom)

**د لا ل**
2012-11-29, 22:10
محاضرات في علم العروووووض

الـــــدرس الأول)) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مصطلحات عروضية:

لكل علم مصطلحاته وهذه المصطلحات هي المفتاح لهذه العلوم والدارس لعلم العروض ينبغي أن يحفظ المصطلحات العروضية قبل الدخول في هذا العلم وسأبدأ بعرض المصطلحات

البيت الشعري :تتألف كل قصيدة من عدد من السطور المتوازية يسمى كل سطر بيتا شعري.
الشطر:يتألف كل بيت من جزأين متوازيين كل جزء يسمى شطرا
صدرالبيت : يسمى الشطر الأول(ما هو الشطر؟) الصدر
العجز:ويسمى الشطر الثاني عجز البيت
التفعيلات: الملاحظ أن الكلام يتألف من حروف بعضها ساكن والآخر متحرك
والتفعيلة هي مجموعة من الحركات والسكنات مرتبة على نحو معين فمثلا إذا كانت الكلمة مؤلفة من خمس حروف حرف متحرك يليه ساكن ثم متحرك فمتحرك ثم ساكن فهي تشكل تفعيلة تسمى(فَاعِلُنْ) (لاحظ حركات التفعيلة)
وعدد التفعيلات في العروض ثماني وقبل البدء بعرض التفعيلات أنوه إلى أنه يرمز للحرف المتحرك بــ/ وللساكن بــ ه والتفعيلات هي :
فَاعِلُنْ /ه//ه ( أي متحرك -ساكن-متحرك-متحرك-ساكن )
فَعُوْلُنْ //ه/ه (لاحظ حركات التفعيلة وقارنها بالرموز)
مُسْتَفْعِلُنْ /ه/ه//ه
مُفَاعَلَتُنْ //ه///ه (الألف في اللغة العربية دائما ساكنة وما قبلها مفتوح)
مُتَفَاعِلُنْ ///ه//ه
فَاعِلاتُن /ه//ه/ه
مَفَاعِيْلُنْ //ه/ه/ه
مَفْعُوْلاتُ /ه/ه/ه/ (لاحظ أنها التفعيلة الوحيدة التي تنتهي بمتحرك)

ملاحظة:يجوز أن يلحق كل تفعيلة بعض التغيرات كحذف بعض الحروف أو تسكين
متحرك فيها
ويسمى هذا التغيير جوازا أو زحاف وسنعرض الجوازات
خلال دراستنا للبحور

العروض والضرب:تسمى التفعيلة الأخيرة من صدر البيت(ما هو صدر البيت؟)عروض والتفعيلة الأخيرة من العجز ضرب ويسمى ما سواهما الحشو
البحر : مجموعة من التفعيلات مرتبة علي نحو معين وفي العروض ستة عشر بحرا لكل بحر تفعيلاته وسندرسها جميعا بشكل مفصل إن شاء الله
السبب الخفيف: كل حركة يليها سكون مثل كلمة(لَمْ)/ه
السبب الثقيل: كل حركتين متتالتين مثال: لَكَ //
الوتد المجموع:متحركان فساكن مثال: على //ه
الوتد المفروق:متحركان بينهما ساكن مثل : قامَ/ه/
الفاصلة الصغرى:ثلاثة متحركات فساكن مثل:عَلِمَتْ ///ه

الفاصلة الكبرى:أربعة متحركات فساكن مثل:يَعِظَكُمْ ////ه

الآن لاحظ أن تفعيلة فعولن مثلا
تتألف من وتد مجموع //ه وسبب خفيف/ه (فَعُوْ://ه لُنْ:/ه)
قم بتحليل باقي التفعيلات


الدرس الثاني))...................

التقطيع والكتابة العروضية

مقدمة هامة :الحركات في اللغة العربية ثلاث ومعها السكون وهي الفتحة (ألف قصيرة) والضمة (واو قصيرة) والكسرة(ياء قصيرة) أما السكون فهو سلب الحركة
الآن حاول التدرب على نطق الحروف مع هذه الحركات كل على حدة
ثم حاول نطقها ساكنة ...(ماذا تلاحظ ؟؟) تلاحظ أنك لا تستطيع لفظ الحرف ساكنا إلا مع الحرف الذي قبله وكما هو معلوم فإن العربية لا يتتالى فيها ساكنان أي أنك في كلمة مثل (لن) لا تستطيع لفظ النون وحدها لأنها ساكنة بل تحتاج إلى الحرف الذي قبلها والذي هو بكل تأكيد متحرك (لماذا؟؟)

التقطيع العروضي:الاعتماد في التقطيع العروضي على اللفظ لا على الكتابة فإذا أردت تقطيع الشعر يجب ان تقرأ قراءة متأنية بالحركات ولا علاقة بالكتابة في التقطيع العروضي فكما قلنا أن الاعتماد على اللفظ فكل ما يلفظ يحتسب وإن لم يكن مكتوبا وكل ما لا يلفظ لا يحسب وإن كان مكتوبا وهذا مثال للتوضيح:
كلمة هذا (حين تقرأها تلفظ ألفا بعد الهاء وهذه الألف تحسب في العروض حتى وإن لم تكن مكتوبة )
وكلمة قالوا (لاحظ أنك لا تلفظ الألف الفارقة بعد واو الجماعة رغم أنها مكتوبة ولأنك لا تلفظها لا تحسب في العروض)
وهناللك ملاحظات عامة في التقطيع العروضي ينبغي على الدارس تعلمها لأنها تفيده كثيرا في التقطيع وهي:
1- التنوين تلفظ نونا ساكنة لذلك تحسب في العروض حرفا ساكنا (كتابٌ//ه/ه) لاحظ أنك تلفظ نونا ساكنة بعد الباء وكما أسلفنا لأنها تلفظ فهي تحسب في العروض
2- الشدة حرفان الأول ساكن والثاني متحرك
3-المدة حرفان الأول متحرك والثاني ساكن
4- همزة الوصل تسقط أثناء الكلام مثلا :شاهدت استقبال(لاحظ أنك أثناء اللفظ تنتقل مباشرة من التاء إلى السين دون المرور بالألف وكأنها كتبت هكذا (تس) لذلك تهمل هذه الهمزة أما إذا جاءت همزة الوصل في أول الكلام فتحسب
5-إذا كانت اللام شمسية تحذف وإذا كانت قمرية تثبت
مثلا : الطالب(لاحظ انك تحذف اللام في اللفظ) (ملاحظةالحرف بعد اللام الشمسية دائما مشدد)
6- إذا انتهت الكلمة بياء أو ألف أو واو ساكنة ثم جاء بعدها أل التعريف أو همزة وصل تحذف (بالإضافة إلى حذف همزة الوصل أو ألف أل التعريف واللام إذا كانت شمسية )
مثال: مشى الأستاذ (لاحظ في اللفظ تحذف ألف مشى +ألف أل التعريف )
أو مثلا :لاموا افتتاني (ننتقل مباشرة من الميم المضمومة إلى الفاء كم حرف حذفنا ولماذ؟؟)

7-أيضا لدينا ميم الجمع إذا كانت مضمومة وما قبلها متحرك أوجب إشباع الحركة بحرف من جنسها أي واو (منهُمُ) تحسب الضمة في التقطيع واوا (هذا فقط مع ميم الجمع تذكر ذلك )
8- إذا انتهى الشطر(ما هو الشطر؟) بحرف متحرك تشبع حركته بحرف من جنس الحركة يعني إذا كانت فتحة تشبع ألفا وإذا كانت ضمة واو وإذا كانت كسرة ياء ....(تذكر الإشباع في حالتين فقط ميم الجمع ونهاية الشطر المتحرك)

بشكل عام هذه هي قواعد التقطيع العروضي ويبقى لدينا

الكتابة العروضية :

الآن بعد أن تعلمت التقطيع اللفظي لكي يسهل عليك الامر أكتب ما قطعته لفظيا
ولا اعتبار لقواعد اللغة والإملاء هنا
أي اكتب كما تلفظ فمثلا (كتابٌ) في الكتابة العروضية تصبح = كتا بن
فقد قلنا أننا نكتب حس اللفظ ونحن لفظنا التنون نونا ساكنا

طريقة الكتابة العروضية :
في الكتابة العروضية ليسهل عليك الأمر اكتب الكلمة متصلة ببعضها وعندما تقف على ساكن اقطعها وابدأ من جديد مثلا (رَأَيْتُ الشَّمْسَ ساطِعَةً)
في الكتابة العروضية تصبح : رأي تش شم س سا طعتن
كيف : لاحظ في المقطع الأول (رَ أَ يْ)(لاحظ حركات الحروف:
متحرك فوصلناه بالحرف الذي يليه وهو أيضا متحرك لذلك نصله بالحرف الذي يليه وهو كما تلاحظ ساكن الآن نقطع الكلمة ونبدأ بمقطع جديد أليس ذلك سهلا ؟؟؟)

الترميز :الآن بعد الكتابة العروضية جاء دور الترميز وكما قلنا في الدرس الأول نرمز للحرف المتحرك بــ / وللساكن بــ ه
وبكل سهولة يمكنك وضع الرموز فقط لاحظ المقاطع في الكتابة العروضية
فالحرف الأخير في كل مقطع ساكن وما قبله متحرك لاحظ
كل مقطع من كم حرف يتألف فإذا كان المقطع من ثلاثة حروف فهذا يعني أنه يتألف من متحرك فمتحرك ثم ساكن فقط ضع تحته الرموز //ه
والآن انتهى الدرس ولكن يجب التدرب كثيرا على التقطيع والكتابة العروضية فتكون بذلك قطعت شوطا مهما في إتقان العروض



((الدرس الثالث))

مقدمة في البحور الشعرية :قلنا سابقا أن البحر الشعري يتألف من مجموعة تفعيلات مرتبة على نحو معين تشكل شطري البيت الشعري
وكما ذكرنا أيضا أن التفعيلات في العروض ثماني تفعيلات(ما هي؟؟)
وقد يتكون البحر من تفعيلة واحدة تتكرر لأربع أو ثلاث مرات في الشطر الواحد
أو يتألف من تفعيلتين تتكرران على نحو معين وتسمى الأبحر التي تشكلها تفعيلتان بالأبحر الممتزجة
عدد البحور في العروض ستة عشر بحرا شعريا
اكتشف الخليل خمسة عشر منها وأضاف تلميذه الأخفش الأوسط البحر السادس عشر وسماه المتدارك لأنه تداركه على الخليل
والبحور بحسب الدوائر العروضية هي:
1-البحر الطويل
2-البحر المديد
3-البحر البسيط
4-البحر الكامل
5- البحر الوافر
6-بحر الهزج
7-بحر الرجز
8-بحر الرمل http://illiweb.com/fa/i/smiles/icon_smile.gif
9-البحر السريع
10-البحر المنسرح
11-البحر الخفيف
12-البحر المضارع
13- البحر المقتضب
14-البحر المجتث
15-البحر المتقارب
16- البحر المتدارك
وسندرس كل بحر على حدا وبالتفصيل إن شاء الله
وقبل البدء هناك أمر هام يجب على دارس العروض معرفته وهو أن البحر الواحد قد يستوفي جميع تفعيلاته فيسمى تاما وقد يحذف من كل شطر التفعيلة الأخيرة فيسمى مجزوءا
وقد يحذف شطر كامل فيسمى البحر مشطورا وقد يحذف ثلثا البحر فيسمى منهوكا

ولكن هذا بشكل عام فليس كل البحور تستعمل تامة ومجزوءة ومنهوكة
فهنالك بحور (كالطويل مثلا )لا تستعمل إلا تامة أي بكامل تفعيلاتها في الشطرين
وهنالك بحور (كالمضارع مثلا) لا تستعمل إلا مجزوءة أي أنها لا تكون بكامل تفعيلاتها أبدا وهذه الأمور تتضح أكثر عند دراسة كل بحر وسنعرف عندها إمكانيات استعمال هذه البحور تامة أو مجزوءة أو مشطورة أو منهوكة ....ولكن نقول أن الأكثر والأشهر استعمال البحور تامة وإليك هذا المخطط لإيضاح المصطلحات المذكورة :فمثلا لوكان البحر يتألف من تفعيلة مستفعلن(وهذا وزن بحر الرجز) تتكرر ثلاث مرات في الشطر الواحد فلو قطعنا البيت الشعر ووجدنا أن الشاعر استنفذ أو استعمل جميع التفعيلات في الشطر أي أن الوزن جاء هكذا :


مستفعلن مستفعلن مستفعلن =مستفعلن مستفعلن مستفعلن
فهذا يعني أن الشاعر نظم على الرجز التام أو نقول أن قصيدته من تام الرجز
ولكن لوجاءت التفعيلات على الشكل التالي:

مستفعلن مستفعلن x =مستفعلن مستفعلن x
نلاحظ أن تفعيلة من كل شطر قد حذفت هذا يعني أن الشاعر استعمل مجزوء الرجز ولو جاءت التفعيلات على النحو الآتي

مستفعلن مستفعلن مستفعلن=x x x
من شطر واحد نجد أن الشطر الثاني قد حذف وهذا يعني أن الشاعر استعمل مشطور الرجز ولو جاء الوزن :

مستفعلن مستفعلن x x x= x

حذف ثلثا التفعيلات(هي بالأصل تسع في بحر الرجز حذف ست) يعني أن الشاعر استعمل منهوك الرجز

وهكذا بالنسبة لباقي البحور
وكما أسلفت ليس كل البحور تستعمل تامة وكجزوءة ومشطورة ومنهوكة والرجز وحده يستعمل على هذا النحو لذلك اتخذناه مثالا
وستتضح الصورة أكثر عند دراستنا للبحور كل بحر على حدا
ليس الدرس بالصعوبة التي تعتقدها أعد القراءة والتركيز ستجده سهلا .....

**د لا ل**
2012-11-29, 22:11
الدرس الرابع))

سنبدأ الآن بدراسة البحور بحر بحرا ....والبداية ستكون مع البحر الطويل ....

البحر الطويل :وسمي بذلك لأنه أطول البحور فعدد حروف تفعيلاته 48 حرفا وهو بحر لا يستعمل إلا تاما ....
وزنه في الأصل:
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن ......فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن

ولكنه لا يستعمل هكذا فعروضه مقبوضة دائما (القبض هو حذف الحرف الخامس )
أي أن وزنه المستعمل :

فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن ......فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن

وقد وضع الشاعر صفي الدين الحلي أبياتا من الشعر تعد ضوابطا لوزن البحور
وما قال في ضابط الطويل :
طويل له بين البحور فضائل......فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن

العروض والضرب :
بداية أذكر أن العروض هي التفعيلة الأخيرة في الشطر الأول أما الضرب فهو التفعيلة الأخيرة في الشطر الثاني
ولكل عروض أضرب خاصة بها ...

وكما ذكرنا فإن للبحر الطويل عروض واحدة فقط وهي (مفاعلن)
ولها ثلاثة أضرب (أي أن الشاعر يختار أحد هذه الأضرب ويستعمله في كل القصيدة ولا يجوز له التنويع بين الأضرب)

الضرب الأول : صحيح (مفاعيلن )
مثال :
كلانا بكي أو كاد يبكي صبابة .....إلى إلفه واستعجلت عبرة قبلي
كلا نا بكى أو كا ديب كي عب رتن....إلى إل فهي وس تع جلت عب رتن قب لي
//ه /ه //ه /ه /ه //ه /ه //ه //ه ....//ه /ه //ه /ه /ه //ه /ه //ه /ه /ه
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن ........فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن

الضرب الثاني : مقبوض مثل العروض http://illiweb.com/fa/i/smiles/icon_sad.gifمفاعلن)
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا .....ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ستب دي لكل أي يا مما كن تجا هلن....ويأ تي كبل أخ با رمن لم تزو ودي
//ه /ه //ه /ه /ه //ه /ه //ه //ه ....//ه/ه //ه /ه /ه //ه /ه //ه //ه
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن .........فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن

الضرب الثالث : (فعولن )

أقول وقد ناحت بقربي حمامة ....أيا جارتا هل تشعرين بحالي
أقو لوقد نا حت بقر بي حما متن ....أيا جا رتا هل تش عري نبحا لي
//ه/ //ه /ه /ه //ه /ه // //ه........//ه /ه //ه /ه /ه //ه / //ه /ه
فعول مفاعيلن فعولن مفاعلن ......فعولن مفاعيلن فعول فعولن

جوازات الحشو :

فعولن : يجوز ان يصيبها القبض (حذف الخامس الساكن ) فتصبح فعول وهو حسن
كما في المثال السابق

ويجوز أن تأتي عولن (فعلن) ويسمى ذلك بالخرم أي حذف أول متحرك
ويجوز ان يجتمع فيها القبض والخرم (ويسمى ذلك بالثلم) أي حذف الأول وحذف الخامس فتصبح : عول


مفاعيلن : يصيبها القبض (ما هو القبض؟؟) فتصبح مفاعلن

ويصيبها الكف(حذف السابع) فتصبح مفاعيل

هذا هو البحر الطويل بشكل عام ....

وإليكم هذه الأبيات كتدريبات على البحر الطويل :


قال المتنبي :
وما الدهر إلا من رواة قصائدي .....إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا

قال أبو فراس:
أراك عصيَّ الدمع شيمتك الصبر .....أما للهوى نهي عليك ولا أمر


...((الدرس الخامس ))...

البحر البسيط ...

نتابع مع بحور الدائرة الأولى ونحط اليوم مع البحر البسيط وهو من أكثر البحور الشعرية استعمالا ولا يوجد شاعر معروف لم ينظم عليه

وهذا البحر يستعمل تاما ومجزوءا وسنبدأ الحديث في هذا الدرس عن تام البسيط أما المجزوء فسيكون الحديث عنه في الدرس القادم إن شاء الله

...................((البسيط التام))..................
وزنه في الأصل :
مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن.......مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن

ولكنه لا يستعمل هكذا فالعروض مخبونة وجوبا(الخبن حذف الثاني الساكن) فتصبح فعلن ///ه بدلا من فاعلن /ه//ه

وضابطه قول الحلي:
إنَّ البسيط لديه يبسط الأمل .....مستفعلن فاعلن مستفعلن فَعِلُنْ

العروض والضرب:
كما أسلفت القول للبحر البسيط عروض واحدة مخبونة وجوبا (فَعِلُنْ) ولها ضربان: ( أذكر بأنه على الشاعر أن يختار ضرب واحده ويلتزمه حتى نهاية القصيدة ولا يجوز له التنويع بين الأضرب)

الضرب الأول : مخبون مثل العروض(ما هو الخبن؟) فَعِلُنْ...
مثاله قول المتنبي:

الخيل والليل والبيداء تعرفني .........والسيف والرمح والقرطاس والقلم

ال خي لول/لي لول/بي دا ءتع/رفني.وس سي فور/رم حول/قرطا سول/قلم
مستفعلن...فاعلن..مستفعلن..فعلن.()مستفعلن ...فاعلن..مستفعلن..فعلن

قد يسأل سائل لماذا لم تحذف ألف أل التعريف في الخيل والجواب أنها جاءت في بداية البيت

الضرب الثاني:
مقطوع http://illiweb.com/fa/i/smiles/icon_sad.gifالقطع :حذف أول الوتد المجموع ) فعْلن (العين ساكنة)/ه/ه

مثال:

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه....لا يذهب العرف بين الله والناس

من يف علل/خي رلا/يع دم جوا/زيهو..لا يذ هبل/عر فبي/نل لا هون/نا سي
مستفعلن...فاعلن ....مستفعلن...فعلن..مستفعلن ...فاعلن...مستفعلن..فعْلن


جوازات الحشو:
1.مستفعلن: يجوز فيها :

الخبن: حذف الثاني الساكن فتصبح متفعلن //ه//ه وهو حسن في أول تفعيلة من الصدر والعجز وقبيح في سواهما

الطي: حذف الرابع الساكن فتصبح مستعلن وتنقل إلى مفتعلن /ه///ه
وهو غير حسن وقليل

الخبل: اجتماع الطي والخبن أي حذف الثاني وحذف الرابع فتصير متعلن ////ه وهو قبيح ويجدر بالشاعر اجتنابه ...


2.فاعلن:

يجوز فيها الخبن : فتصبح فعلن ///ه وهو حسن وكثير

وسنتكلم عن مجزوء البسيط فبي الدرس القادم بإذن الله

الدرس السادس

((مــــــــــجزوء البسيط))

قلنا سابقا أن المجزوء هو البحر التام الذي حذف آخر تفعيلة من كل شطر
عندها تصبح التفعيلة الأخيرة من الشطر الأول عروض وكذلك الأخيرة في الشطر الثاني ضرب

ومجزوء البسيط وزنه الأساس:
مستفعلن فاعلن مستفعلن .....مستفعلن فاعلن مستفعلن
العروض والضرب:
لمجزوء البسيط عروضان هما http://illiweb.com/fa/i/smiles/icon_sad.gifتذكر انه لكل عروض أضرب خاصة بها يجب ان يختار الشاعر واحدة منها)

العروض الأولى : صحيحة ولها ثلاثة أضرب (أي أن الشاعر إذا اختار هذه العروض عليه أن يستخدم أحد الأضرب الخاصة بها )

الضرب الأول :مذيل (التذييل زيادة حرف ساكن) فتصبح مستفعلن مستفعلان /ه/ه//ه ه
قد يسأل سائل كيف يلتقي ساكنان لأقول هذا يجوز إذا كان الساكن الأول حرف مد (حرف علة) لأن حروف المد في الأساس حركات مشبعة
نستنتج من ذلك ان يجب أن يكون الحرف ما قبل الأخير في هذا الضرب حرف علة وهذا ما يسمى بالردف في علم القافية
مثال:
إنا ذممنا على ما خيّلت......سعد بن زيدٍ وعمرا من تميم
إن نا ذمم/نا على/ما خي يلت....سع دب نزي/دن وعم/رن من تمي م
مستفعلن فاعلن مستفعلن .....مستفعلن فاعلن مستفعلان

الضرب الثاني:
صحيح كالعروض مستفعلن:
ماذا وقوفي على ربع عفا .....مخلولقٍ دارسٍ مستعجم
ما ذا وقو/في على /رس من عفا....مخ لو لقن/دا رسن/مس تع جمي
مستفعلن فاعلن مستفعلن .....مستفعلن فاعلن مستفعلن

الضرب الثالث مقطوع (القطع حذف الخامس المتحرك) فتصبح مستفلن وتنقل إلى مفعولن /ه/ه/ه
مثاله:
سيروا معا إنما ميعادكم ...يوم الثلاثاء بطن الوادي
سي رو معن/إن نما /مي عا دكم...يو مث ثلا /ثا ءبط/نل وا دي
مستفعلن فاعلن مستفعلن .....مستفعلن فاعلن مفعولن

العروض الثانية : مقطوعة (مفعولن) ولها ضرب وحيد مقطوع مثلها
مثاله:
ما هيّج الشوق من أطلال....أضحت قفارا كوحي الواحي
ما هي يجش /شو قمن/أط لا لي....أض حت قفا/رن كوح/يل وا حي
مستفعلن فاعلن مفعولن.............مستفعلن فاعلن مفعولن

جوازات العروض والضربhttp://illiweb.com/fa/i/smiles/icon_sad.gifهذه الجوازات خاصة بالعروض والضرب ولا يجوز تطبيقها على الحشو)

العروض المقطوعة وضربها(مفعولن) يلحقهما الخبن (حذف الثاني الساكن)سويا
فتصيران معولن وتنقلان إلى فعولن//ه/ه
وهذا الوزن يسمى مخلّع البسيط وهو وزن مشهور وسائغ
مثاله قول الحلاج:
فمنّ بالعفو يا إلهي ....فليس أرجو سواك أنت
فمن نبل/عف ويا/إلا هي....فلي سأر/جو سوا/كأن تا
متفعلن /فاعلن../فعولن....متفعلن /فاعلن../فعولن
2. مستفعلان: يلحقها الخبن فتصير متفعلان //ه//ه ه

3.مستفعلن http://illiweb.com/fa/i/smiles/icon_sad.gifفي الضرب فقط أي أنها في العروض يجب أن تبقى صحيحة)
يجوز في هذا الضرب:
الخبن (ما هو الخبن؟) فتصير متفعلن
الطي (حذف الرابع الساكن) فتصير مفتعلن
الخبل(اجتماع الطي والخبن) متعلن وهو قبيح

جوازات الحشو :
فاعلن في حشو المجزوء يجب أن تبقى صحيحة ولا يلحقها زحاف
أما جوازات مستفعلن فهي ذات الجوازات في البحر التام


((الدرس السابع))
...............((البـــــــحر المــــــديد))..............

وهو البحر الأخير من بحور الدائرة الأولى
ووزنه في الأصل :
فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلن......فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلن

إلا أن هذا البحر لا يستعمل إلا مجزوءا
فيصبح وزنه:
فاعلاتن فاعلن فاعلاتن .....فاعلاتن فاعلن فاعلاتن


العروض والضرب:
للبحر المديد ثلاثة أعاريض وهي:

العروض الأولى: صحيحة(فاعلاتن) ولها ضرب وحيد صحيح مثلها (فاعلاتن)
ومثالها قول المهلهل بن ربيعة:
يا لبكرٍ أنشروا لي كليبا ......يا لبكر أين أين الفرارُ؟
يا لبك رن/أن شرو/لي كلي بن
فاعلاتن /فاعلن/فاعلاتن
يا لبك رن/ أي نأي/ نل فرا رو
فاعلاتن /فاعلن/فاعلاتن

العروض الثانية: محذوفة (فاعلن) ولها ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: (فاعلانْ)/ه//ه ه وقد شرحنا في درس سابق أنه يجب أن تأتي السكون الثانية بعد حرف مد وهذا ما سميناه بالردف أي أن الحرف ما قبل حرف الروي يجب أن يكون حرف مد(علة)

ومثال هذا الضرب:
لا يغرَّنَّ امرأً عيشه...كل عيش صائر للزوالْ

لا يغر رن/ نم رأن/عي شهو
فاعلاتن /فاعلن/فاعلن

كل لعي شن/ صا ئرن/ لل زوا لْ
فاعلاتن /فاعلن/فاعلانْ

الضرب الثاني: محذوف مثل العروض (فاعلن) ومثاله:
اعلموا أني لكم حافظ .....شاهدا ما كنت أو غائبا
اع لمو أن/ ني لكم / حا فظن
فاعلاتن /فاعلن/فاعلن

شا هدن ما/ كن تأو / غا ئبا
فاعلاتن /فاعلن/فاعلن

الضرب الثالث: أبتر (فعْلن) /ه/ه وهذا الضرب قليل في هذا البحر ومثاله:
إنما الذلفاء يا قوتة....أخرجت من كيس دهقان
إن نمذ ذل/فا ءيا/ قو تتن
فاعلاتن /فاعلن/فاعلن

أخ رجت من/كي سده/قا ني
فاعلاتن /فاعلن/فعْلن

وقد ذكر أبو الحسن الأخفش أن الضربين الأخيرين شاذان ولا يقاس عليهما

العروض الثالثة: محذوفة مخبونة (فعلن)///ه
ولها ضربان :

الضرب الأول: مثلها (فعلن)///ه ومثاله:
للفتى عقل يعيش به ....حيث تهدي ساقه قدمه
لل فتى عق/ لن يعي/شبهي
فاعلاتن /فاعلن/فعلن

حي ثته دي/سا قهو/قدمه
فاعلاتن /فاعلن/فعلن

وهذا الوزن هو الأكثر شيوعا
الضرب الثاني: أبتر (فعْلن) /ه/ه

ربَّ نار بتُّ أرمقها ....تقضم الهنديَّ والغارا

رب بنا رن/ بت تأر/مقها
فاعلاتن /فاعلن/فعلن

تق ضمل هن/دي يول/غا را
فاعلاتن /فاعلن/فعْلن

جوازات العروض والضرب:يجوز في فاعلاتن الخبن(ما هو الخبن؟) فتصبح فعلاتن///ه/ه

جوازات الحشو:
1. فاعلاتن يجوز فيها :
الخبن فتصبح : فعلاتن ///ه/ه وهو حسن في المديد
الكف : (حذف السابع) فتصبح فاعلاتُ /ه//ه/ وهو صالح ولكنه نادر
الشكلhttp://illiweb.com/fa/i/smiles/icon_sad.gifاجتماع الخبن والكف) فتصبح فعلاتُ ///ه/ وهو قبيح لا يستعذب
2.فاعلن يجوز فيها :
الخبن فتصبح فعلن///ه

**د لا ل**
2012-11-29, 22:12
((الدرس الثامن ))

ــــــــــــــــــــــــــــــــ((البحر الوافر))ـــــــــــــــــــــــــــــ

نبدأ الآن مع بحور الدائرة الثانية
وسنكون مع البحر الوافر يستعمل هذا البحر تاما ومجزوءا

الوافر التام
وزنه في الأساس :
مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن.........مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن

ولكنه لا يستعمل هكذا فالعروض والضرب مقطوفتان وجوبا (فعولن)
وضابطه قول الحلي:

بحور الشعر وافرها جميل .....مفاعلتن مفاعلتن فعولن


العروض والضرب:

للوافر التام عروض واحدة مقطوفة (فعولن)
ولها ضرب واحد مثلها

ومثالهما :

لنا غنم نسوقها غزاز.....كأن قرون جلتها عصي

لنا غنمن/ نسو قها/غزا زن
مفاعلتن / مفاعلتن / فعولن

كأن نقرو/نجل لتها/ عصي يو
مفاعلتن / مفاعلتن / فعولن

جوازات الحشو :مفاعلتن يجوز فيها :
1.العصب(تسكين الخامس) تصبح مفاعَلْتن//ه/ه/ه وتنقل إلى مفاعيلن وهذا الجواز كثير جدا وحسن

2. العضب: حذف الأول المتحرك فتصبح فاعلتن /ه///ه وتنقل إلى مفتعلن وهو قليل

3.النقص :وهو اجتماع العصب والكف(تسكين الخامس وحذف السابع) تصبح مفاعيلُ //ه/ه/ وهو قليل

4. العقل: حذف الخامس المتحرك فتصبح مفاعتن //ه//ه وتنقل إلى مفاعلن
وهو قبيح

((الدرس التاسع ))

...................((مــــــــجزوء الوافر))...........

وزنه: يتألف مجزوء الوافر من أربع تفعيلات مقسمة على شطرين :

مفاعلتن مفاعلتن .......مفاعلتن مفاعلتن

العروض والضرب :
لمجزوء الوافر عروض واحدة صحيحة (مفاعلتن) ولها ضربان :
الضرب الأول : صحيح مثلها (مفاعلتن) ومثاله :

غزالٌ زانه الحور .....وساعد طرفه القدر
غزا لن زا/نهل حورو....وسا عدطر/فهل قدرو
مفاعيلن مفاعلتن .....مفاعلتن مفاعلتن

الضرب الثاني : معصوب (مفاعلْتن )ساكن اللام وينقل إلى مفاعيلن

أعاتبها وآمرها ......فتغضبني وتعصيني
أعا تبها/واا مرها ....فتغ ضبني/ وتع صيني
مفاعلتن مفاعلتن ....مفاعلتن مفاعلتن


جوازات الحشو : جوازات مفاعيلن في المجزوء هي ذاتها في التام
((الدرس العاشر))

ــــــــــــــــــــــ((البحر الكامل))ــــــــــــــــــــــــــ

البحر الكامل:
يستعمل هذا البحر تاما ومجزوءا

الكامل التام
وزنه :
متفاعلن/ متفاعلن/ متفاعلن 0000متفاعلن/ متفاعلن/ متفاعلن

وضبطه الحلي بقوله:
كمل الجمال من البحور الكامل0000متفاعلن متفاعلن متفاعلن

العروض والضرب:للكامل التام عروضان تتوزعان خمسة أضرب

العروض الأولى: صحيحة (متفاعلن) ولها ثلاثة أضرب:
1_الأول:صحيح مثلها (متفاعلن) ومثاله:
وإذا صحوت فما أقصر عن ندى 0000وكما علمت شمائلي وتكرمي

وإذا صحو/تفما أقص/صرعن ندن
متفاعلن/ متفاعلن/ متفاعلن

وكما علم/تشما ئلي/وتكر رمي
متفاعلن/ متفاعلن/ متفاعلن

2_الثاني:مقطوع (متفاعل)///ه/ه وينقل إلى فعلاتن ومثاله:
وإذا دعونك عمهن فإنه000نسب يزيدك عندهن خبالا

وإذا دعو/نكعم مهن/نفإن نهو
متفاعلن/ متفاعلن/ متفاعلن

نسبن يزي/كعن دهن/نخبا لا
متفاعلن/ متفاعلن/ فعلاتن

3_الثالث:أحذ مضمر(الحذذ:حذف الوتد المجموع من أخر التفعيلة والإضمار تسكين الثاني المتحرك) متْفا /ه/ه وينقل إلى فعلن وهذا الضرب قليل الاستعمال وغير مستساغ ومثاله:
لمن الديار برامتين فعاقل000درست وغير آيها القطر

لمند ديا/ربرا متي/نفعا قلن
متفاعلن/ متفاعلن/ متفاعلن

العروض الثانية: حذاء (متفا)///ه وتنقل إلى فعلن ولها ضربان :
1_الأول:أحذ مثلها (فعلن) مثاله:
دمن عفت ومحا معالمها000هطل أجش وبارح ترب

دمنن عفت/ ومحا معا/لمها
متفاعلن/ متفاعلن/ فعلن

هطلن أجش /شوبا رحن/تربن
متفاعلن/ متفاعلن/ فعلن

2_الثاني:أحذ مضمر(فعلن) /ه/ه
لو قيس وجد العاشقين إلى......وجدي لزاد عليه ما عندي
لو قي سوج/دل عا شقي/نإلى
مستفعلن/ مستفعلن/ فعلن

وج دي لزا/دعلي هما/عن دي
مستفعلن/ متفاعلن/ فعلن


جوازات العروض والضرب:
العروض الصحيحة والضرب الصحيح متفاعلن
يجوز فيهما:
1_الإضمارhttp://illiweb.com/fa/i/smiles/icon_sad.gifتسكين الثاني المتحرك) فتصبح متفاعلن وتنقل إلى مستفعلن وهو حسن
2_الوقص(حذف الثاني المتحرك) فتصبح مفاعلن وهو صالح فيه ولكنه قليل
3_الخزل(تسكين الثاني وحذف الرابع) فتصير مفتعلن وهو قبيح

الضرب المقطوع (فعلاتن ) يجوز فيه الإضمار فيصير متفاعل وينقل إلى مفعولن

جوازات الحشو:
متفاعلن يصيبها:
1_الإضمارhttp://illiweb.com/fa/i/smiles/icon_sad.gifتسكين الثاني المتحرك) فتصبح متفاعلن وتنقل إلى مستفعلن وهو حسن

2_الوقص(حذف الثاني المتحرك) فتصبح مفاعلن وهو صالح ونادر وقال البعض ليس بالحسن

3_الخزل(تسكين الثاني وحذف الرابع) فتصير مفتعلن وهو قبيح


(("الدرس الحادي عشر"))

ــــــــــــ"مجـــ ــــــــــزوء الكـــ ـامل"ــــــــــــــــــــــ
يستعمل الكامل مجزوءا ووزنه :

مُتَفاعِلُن مُتَفاعِلُن.........مُتَفاعِلُن مُتَفاعِلُن

العروض والضرب:
لمجزوء الكامل عروض واحدة صحيحية "متفاعلن" ولها أربعة أضرب:

1. الأول : مُرَفَّل "متفاعلاتن" ///ه//ه/ه (الترفيل هو زيادة سبب خفيف على آخر التفعيلة) وكما ذكرنا سابقا علل الزيادة تختص بالأبحر المجزوءة
ومثال هذا الضرب:

وكأنَّ رجع حديثها ......قطع الرياض كُسِيْنَ زهرًا
وكأن نرج/عحدي ثها.......قطعر ريا/ضكسي نزه رن
متفاعلن /متفاعلن........متفاعلن /متفاعلاتن

2.الضرب الثاني: مُذَيَّل "متفاعلان " ///ه//ه ه والتذييل هو زيادة ساكن في الآخر بعد الوتد المجموع

جدثٌ يكون مقامه.....أبدًابمختلف الرياح
جدثن يكو/نمقا مهو....أبدن بمخ/تلفر ريا حْ
متفاعلن /متفاعلن.......متفاعلن /متفاعلانْ

3.الضرب الثالث: صحيح مثل العروض "متفاعلن" :
وإذا افتقرت فلا تكن ..........متجشعا وتجمّلِ
وإذف تقر/تفلا تكن...........متجش شعن/وتجم ملي
متفاعلن /متفاعلن.........متفاعلن /متفاعلن

4.الضرب الرابع: مقطوع "متفاعِلْ=فعلاتن" ///ه/ه وهذا الضرب هو الأقل استعمالا :
وإذا هم ذكروا الإسا ......ءة أكثروا الحسنات
وإذا همو/ذكرل إسا.......ءتأك ثرل/حسناتي
متفاعلن /متفاعلن......متفاعلن /فعلاتن

جوازات العروض والضرب:

العروض: يلحقها الإضمار "تسكين الثاني"فتصبح "مستفعلن"
أيضا يلحقها الوقص فتصبح "مفاعلن"
وكذلك يصيبها القطع فتصبح فعلاتن وهذا نادر وقال بعضهم شاذ

الضرب: يلحقه الإضمار


جوازات الحشو في المجزوء هي ذات الجوازات في التام

**د لا ل**
2012-11-29, 22:14
محاضرات في السيميولوجيا

السميولوجيا والصورة الصحفية


الفصل الأول: السميولوجيا والصورة الصحفية
المبحث 1: ماهية السيمولوجيا
 المطلب 1: مفهوم السيمولوجيا
السيميولوجيا لغويا مشتقة من الكلمة اليونانية(Semeon ) والتي تعني العلامة Logos الذي يعني الخطاب وتجدها مشتقة في كلمات مثل Sociologie علم الاجتماع وThéologie علم الأديان وبامتداد أكبر كلمة Logos تعني العلم هكذا يصبح تعريف السيمولوجيا على النحو الآتي: علم العلامـات .
إصطلاحا: السيمولوجيا منهج يهتم بدراسة حياة الدلائل داخل الحياة الاجتماعية. يحيلنا إلى معرفة كل هذه الدلائل وعلتها وكينونتها مجمل القوانين التي تحكمها، فالكون مركب دلائل وبذالك كانت السيمولوجيا بحسب " دي سوسيتر" علم يعرفنا على وظيفة هذه الدلائل والقوانين التي تتحـكم فيها .
ومن خلال هذه التعريفات فان السيمولوجيا تعني دراسة العلامة وهي على مستويين :
• المستوى الأنطولوجي ويعني ماهية العلامة.
• المستوى البراجماتي ويعني بفعالية العلامة وتوظيفها في الحياة العملية .
وإن تاريخ السيمولوجيا يعود إلى بداية الميلاد إلى ألفي سنة مضت، ويرى " ايكو" أن الرواقيين هو أول من قال بأن العلامة دال ومدلول وأن السيميائيات المعاصرة ارتكزت في فلسفتها وبعدها الفكري على اكتشافات الرواقيين وأن العلامة هي كل أنواع السيميائيات
وظلت السيميولوجيا لفترة طويلة تظهر كنظرية عامة للغة التي ظهرت منذ القدم تحتوي ضمنيا على نظرية السيميوطيقية وبذلك تمت الولادة الفعلية للسيميوطيقية على يد عالم المنطق الأمريكي " شارل ساندريرس" (1839-1914) لأنه كان أول من حاول
تكوين علم مستقل بها غير أنه كان لابد من انتظار " فردينانرد و دسيوسير" لكي نشهد الظهور الحقيقي للسيميولوجيا في شكل العلم الذي ندرسه اليوم .
وبالإضافة إلى هذين الأصلين الذين أشار إليهما مختلف الدارسين لتاريخ السيميولوجيا بما فيهم " جوليا كريستفا" ولقد أضاف " تود ورف" ، منابع أخرى تتمثل في مجهودات
" أرسن كسيراف" وخاصة في كتابه ( Les philosophies des formes symboliques) فقد أورد موارد أساسية تبرز اللغة في صور أوسع من مجرد أداة للتواصل.
 المطلب 2:اتجاهات السيميولوجيا
السيميولوجيا علم يدرس حياة العلامات في كنف الحياة الاجتماعية .
حسب تعريف " دي سوسير" إذ أن تحديد السيميولوجيا يوحي لما يمكن أن يكون موضوعا لهذا العلم، لكنه لا يقدم عناصر تساعد على قيامه. يجدر القول أن "دي سوسير" في هذه المرحلة من البحث كان حريصا بصفة خاصة على تحديد اللسانيات العامة وبالأخرى موضوع هذه اللسانيات العامة.
نظرا للخلافات بين "بيرس" و"دي سوسير" في مفاهيم السيميائية والتنظير لها ظهر اتجاه سيميولوجي يستفيد من الفلسفة الماركسية على يد الباحثة البرتغالية "جوليا كريستيفا" وفي هذا السياق نحاول أن نتعرف على هذه الاتجاهات السيميولوجية الحديثة التي ترتبت عن وظيفة العلامة وهي كالتالي : ( سيميولوجيا التواصل، سيميولوجيا الدلالة وسيميولوجيا الثقافة).
1- سيميولوجيا التواصل: " المدرسة الأوربية "
يذهب أصحاب هذا الاتجاه وهم " بريتو " و" مونان " إلى أن العلامة تتكون من وحدة ثلاثية المعنى ( الدال، المدلول والقصد ) وهم يركزون على الوظيفة الاتصالية وأن التواصل مشروط بالقصدية وإرادة المرسل في التأثير على الغير حيث يعرف هذا الاتجاه السيميولوجيا بأنها دراسة طرق التواصل أي دراسة الوسائل المستخدمة للتأثير على الغير .
وإذا كان " دي سوسير" قد ذكر أن اللغة هي نظام من أنظمة الاقتصاد فقد ذهب أنصار هذا الاتجاه إلى بلورة هذه الفكرة وإشباعها والتفصيل فيها فمثلا عند " يويسنس " و" بريتو " أساسا متينا لوصف آلية أنظمة الاقتصاد الغير اللغوية وطرائق توظيفها ومن بين هذه الأنظمة : الإعلان، الشفرة، طرف، أرقام، حافلات وغرف الفنادق.... وقد نمى هذا الاتجاه وتطور مع نشأة العلوم الخاصة بالاتصال وتقدمها وارتبط أيضا بتطور علوم الدلالة .
2- سيميولوجيا الدلالة: " المدرسة الأمريكية "
يعتبر أنصار هذا الاتجاه ويمثلهم " بارث " أن العلامة وحدة ثنائية المعنى ( الدال والمدلول ) فقد حدد في كتابه ( الأساطير ) أن السيميائية تقوم على العلاقة بين العلامة الدال والمدلول. فالعلامة مكونة من دال ومدلول، يشكل صعيد الدوال صعيد العبارة ويشكل صعيد المدلولات صعيد المحتوى.
3- سيميولوجيا الثقافة:
تنطلق سيميولوجيا الثقافة من اعتبار الظواهر الثقافية موضوعات التواصلية وأنساق دلالتها والثقافة عبارة عن إسناد وظيفة الأشياء الطبيعية وتسميتها وبذلك تكون مجالا لتنظيم الأخبار في المجتمع الإنساني. واعتبارا من أن حصيلة عمل الإنسان تكمن في سلوكات لها معاني والسلوكات ليست سوى إنجاز لبرامج معينة. فعليه تكون الثقافة برامج وتعليمات تتحكم في سلوك الإنسان ويكون السلوك الإنساني تواصلا لا يتحقق إلا بالاعتماد على بنية سلوكية إنسانية. فالموضوع الثقافي قد صار المحتوى الممكن لأية عملية تواصلية ويعني ذلك أن قوانين التواصل هي قوانين ثقافية.
والحصيلة هي أن كل ظاهرة ثقافية تبدو وحدة دلالية وأن المدلول يضحى وحدة ثقافية .

 المطلب 3:مجالات السيميولوجيا
يعني مفهوم السيميولوجيا في الطب الممارسة التي ينكشف بموجبها المرض بالاعتماد على الدلائل أو القرائن أو ما يسمى بالأعراض التي يحملها المريض .
وبفضل " شارل سندرس بيرس " ( 1839 – 1914 ) و" فريدناند دي سوسير "
( 1857 – 1913 ) أصبحت السيميولوجيا علما يشمل كل نظام من الدلائل كما حددها " دي سوسير " لفظية كانت أو غيرها ومن تم يكون علم اللسان جزءا من هذا العلم العام. يقول دي سوسير: " إن اللسان البشري وهو أكثر الأنظمة التعبيرية تعقيدا وانتشارا وهو أكثرها تمثيلا للعملية السيميولوجية، من هذا المنطلق يمكن أن يصبح النموذج العام للسيميولوجيات " .
وبهذا يكون " دي سوسير " قد أولى أهمية قصوى للغة والمجتمع أي الوظيفة الاجتماعية للدليل والاتصال.
بناءا على الأهمية التي توليها السيميولوجيا للدلائل ووظيفتها يمكن أن نستنبط مجالات وهي:
1- تحليل المدلولات : تهتم السيميولوجيا بالدرجة الأولى بالمدلولات أي الدال والمدلول أي أن هدف السيميولوجيا الأول هو اكتشاف واختراع المدلولات وترى انه لا يمكن إرسال دال بدون أن يكون بواسطة المدلول.
2- العلامات الغير لسانية : وتضم العلامة اللمسية، الشمية والذوقية.... أي المتعلقة بالحواس والأكثر استعمالا هي العلامات السمعية، البصرية والأيقونية وهي :
أ‌- العلامات السمعية البصرية: إن لظهور السينما وظهور التلفزيون وبدخول الصوت سنة 1927م ساعد على توسيع مجالات التواصل الإنساني وبالتالي مجال من مجالات السيميولوجيا والتطور التكنولوجي للوسائل السمعية البصرية جعل للاتصال دور فعال في شبكة السمعي البصري.
ب‌- العلامات الأيقونية: مصطلح " أيقوني " يطلق حسب " شارل سندرس بيرس " على أنظمة التمثيل القياسي المميز عن الأنظمة اللسانية.
المصطلح يتكون من كلمة يونانية قديمة تعني الصورة " Image "... والصورة في المجتمعات الغربية قبل كل شيء صورة لله. التمثيل يمر عبر التمثيل الغيبي ( من هنا المرجع الأول لكلمة "ايقونة" "Icône" ) بعد هذا أصبحت الصورة شيئا فشيئا تأخذ دور عماد الخيال.من هنا تم الربط الذي ظل دائما بين(صورة/خيالي، Image/ Imaginaire ).

اللغة الصامتة: إن الاتصال بين الشخصين لا يعني فقط مبادلات شفوية وحتى في إطار الاتصال الكلامي. التعبير يستطيع أن يكون بطريقة غير لسانية كالحركات، الإشارات الإيماءات.....الخ وهذا النوع من المبادلات متعدد ومتنوع وهذا ما يطلق عليهم وسائل
الاتصال الذاتية، فالأفراد لا يقتصر كلامهم بالكلمات بل أيضا بأجسامهم وحركاتهم وتنظيمهم في المكان والزمان وهنا يتشكل ما سماه " Hall " باللغة الصامتة

*المبـحث الثاني : الصــورة )مفاهيم ، نبذة تاريخية ) .
 المطـلب الأول : مفهوم الصـورة .
تعـرف الصورة عـلى" أنـها وسـيط حافـل بالرمـوز و الـدلالات و الأنسـاق و المعانـي و هـي فـي ثباتـها تحمـل جزئيـة مكانـية بمعـنى أنهـا مفـردة فـي سـياق التـتابع كأنهـا كلمـة فـي سيـاقات الجـمل التـي تفصـح عـن طبيعـة المكـان " .
وهـي أيـضا كـل تقـليد تمـثيلي مجسـد أو تعبـير بصـري معـاد ،فـهي معطى حسـي للعضـو البصـري حسـب "fulchigmoni" أي إدراك مبـاشر للعـالم الخـارجي فـي مظـهره المضيء . (2)
و يعرفها " هاوزر " على أنها " تباينات مستقلة منفصلة قابلة للتطبيق على مضامين مختلفة " . (3) ولعل في هذا عمقا تأويليا يرتبط بكون الصورة منطوية على المضمون فهي محملة بالمعاني و لكنها غائبة بهذا القدر أو ذاك .
أما " روبـيرت " يقـول بأنـها : " إعــادة إنتـاج طبـق الأصـل أو تمـثل مشـابه لكـائن أو لشـيء ".(4)
و مـن الوجـهة السيمـيولوجية الصـورة هـي علامـة دالـة تعتـمد على منظـومة ثلاثـية من العلاقـات بيـن الأطـراف التالـية : مادة التعـبير و هـي الألـوان و المسـافات ، و أشكـال التعبـير .(5)

(1) طاهر عبد مسـلم ، عبقرية الصورة و المكان : التعبير ، التأويل ، النـقد ، دار الشروق للنشـر و التوزيع المنارة ، ط1 ، 2002 ، ص98 .
(2) حميد سلاسي ، ما هي الصورة ، مجلة علامات ، العدد 5 ، 1996 .
(3) طاهر عبد مسلم عبقرية الصورة و المكان : التعبير، التأويل، النقد، مرجع سابق ص 99
(4)حميد سلاسي ، ما هي الصورة ، مرجع سابق .
(5)صلاح فضل ، قراءة الصورة و صور القراءة ، دار الشروق ، ط1 ، 1997 ، ص 6.

ولقد استـخدمت الصـورة مـنذ آلاف السنـين مـن طـرف الـيونان القدامـى وإنسـان العصـر لدوافـع عديدة ، فعـندما كـان الإنسـان الفرعـوني يخـلف المـوت ولـه رغـبة كبيـرة فـي الخلـود فـكر فـي التحنـيط .
ومـع اختراع آلـة التصـوير الفوتـوغرافي ظـهرت مـعه الصـورة الفوتوغرافية وعادت فكرة المطابـقة وقـضت على النـزعة الـفنية التشـكيلية ، فاكتشاف التصويـر الفوتـوغرافي مـر بعـدة مـراحل ساهـمت فـي تقـديم إضافـات عديـدة لتـطوير الصـور وهـذا مـا سـهل عـلى الإنـسان القـدرة عـلى التفـاهم والاتـصال .
فأصـبحت الصـورة الفوتـوغرافية تعـرف على أنـها تصـوير ضـوئي للـواقع وليس الواقـع ذاتـه ، فـهي تشبـه الواقـع فـي شكلـه الظاهـري ، وإذا ما حللـنا كلـمة فوتـوغرافـيا ، نـجدها ذات أصـل إغـريقي تعـني الكـتابة بالضـوء أو الرسـم بالضـوء .
ومن هنـا نسـتطيع الـقول أن الصـورة الفوتوغرافية مـا هي إلا تسـجيل ضوئي للواقـع على سطـح حسـاس (1)
وتعـود جـذور التصـوير الضـوئي للأبـحاث الـتي قـام بها العـرب ومـن بيـنهم الخازنـي" أبـو الفتح عبـد الرحمـان المنـصور " والـذي وضـع أسـس التصـوير الضوئي من خـلال اكتـشافه لظاهرة الأجسـام المقلـوبة داخـل الـغرفة المظـلمة_(2).

(1) محمود سامي عطا الله ، السينما و فنون التلفزيون ، العربية للطباعة و النشر، القاهرة ، ط1 ،1997 ،ص15.
(2) عبد الجبار محمود علي ، التصوير الصحفي ، دار المعرفة ، ط1 ، 1980 ، ص6 .
أطلـق علـيها اسم " الخيمة المتنقـلة " ولـم تتـسم صورها بالـدوام لعـدم وجـود مـواد كيميائـية تثبـت الصـورة ولقد مرت بعـدة تعـديلات منـها تصـغير الحـجم واستخدام مجموعة من العدسات ، وبعدها جاء العالم الفرنسي نيـبس 1822 وأحـدث نـقلة نوعية للصورة باكتـشافه للمادة الحسـاسة للضوء وسمـيت أول صـورة فوتـوغرافية ب:" motographie " وتعني وصـف الشمس .
أما في سنة 1939 م استنتج الفرنسي"داجير" عن طريق الصدفة عملية الطبق الفضي النحاسي ، حيث طلاه بمركبات كيميائية داخل الظلام و استطاع بذلك طبع الصورة عليه تدريجيا غير أن الطبق الواحد لا يصلح إلا لصناعة موجب صورة واحدة ، و في نفس السنة أعلن الإنجليزي " فوكس تابلوت " عن أسلوب طبع الصورة على الورق بدل الأطباق المعدنية و أصبح بالإمكان طبع عدد كبير من الصور على ورقة واحدة و من هنا كانت الانطلاقة الأولى لفن التصوير الحديث (1) .
أمـا بدايـة التصـوير المـلون فكـان "جيمس كلارك " هـو أول مـن وضـع الأسـس الأولـى للتصويـر الشمـسي الملـون سـنة 1861 ، هـذا ما أتـاح للمهتمين بفـن التصويـر فرصـة كبـيرة ، حيـث توصلت شـركة "كوداك" سنـة 1935 لصناعـة أول شـريط ملون فـي العـالم .
وكانـت للنظريـات الضـوئية الـتي وضعهـا العالـم الكبـير "أبو الحسن ابن الهيثم " في القـرن الحادي عشر ، و طورهـا "نيوتون" في القـرن السابـع عشـر و كـان له الفضـل الكبـير فـي إرسـاء علـم التصويـر الشمسـي ، لأن الضـوء يعتـبر أحـد العنصريـن الأساسيـين في صناعـة الصـورة .

(1)عبد العزيز سعيد الصويعي ، فن صناعة الصحافة ماضيه و حاضره و مستقبله ، المنشأة العامة للنشر و التوزيع و الإعلان ، طرابلس ، د.ط ، ص56.
و ظهـرت بعـد ذلك عـدة نظـريات تقـرّ هـذه النظـريات بظاهـرة انعكـاس الضـوء و انكسـاره و غيرهمـا ، و توصـل العلـم فـي القرن التاسـع عشـر إلى النظريـة الموجيـة التـي أثبـتت أن النقـطة المضيئـة ترسـل الضـوء عـلى هيـئة موجـات تنتشـر حولهـا فـي كـل الجـهات .
أمـّا فـي القـرن العشريـن فقـد عرف نظـريات أخرى منـها نظـرية الكـم التي قررت أن الضـوء ينطـلق من مصدره كالمـقذوفات المتـتالية ، يحتـوي كل مقـذوف عـلى طاقـة صغيـرة تحسـب بدقـة.(1)

. (1) عبد العزيز سعيد الصويعي ، فن صناعة الصحافة ماضيه و حاضره و مستقبله ، مرجع سابق ، ص56ـ57

**د لا ل**
2012-11-29, 22:22
محاضرات في الادب الشعبي

الادب الشعبي تحديد مفهومه وخصائصه"



الأدب الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)تحديد (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)مفهومه (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)وخصائصه عند الباحثين العرب

لاشك أن إسم (الأدب الشعبي) مصطلح عربي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)أي مؤلف من ألفاظ عربية خالصة في العصر الحديث، وإذا إبتكر العرب هذه الصيغة فقد استعار الباحثون العرب المفهوم من الكلمة الغربية (فولكلور Folklore) في فترة الخمسينيات منهم أحمد رشدي صالح وفاروق خورشيد وفوزي العنتيل ونبيلة إبراهيم وحسين النصار ، ويواجه الباحثون العرب في تحديد (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)مفهوم الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)مشكلة وضع مقايس معينة .ويرتبط الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)في الأبحاث العربية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)بتعريفات محددة ستكون محاورها الأساسية نقطة إنطلاقنا لمحاولة التوصل إلى تحديد (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)مفهوم الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي.
"إن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)لأية أمة هو أدب عاميتها التقليدي الشفاهي ،مجهول المؤلف ،المتوارث جيلا بعد جيل".
التقليد : إن مايمثل الأصل في تسمية (أدب العامة التقليدي) متضمن في مفهوم الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)بشكل ملخص إذ نتبنى تعبير الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)للدلالة على مجموعة من الأشكال التقليدية (الأساطير – الحكايات (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الخرافية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)– القصص – الأمثال – الأغاني – السير...) وسواء أكانت هذه الأنواع التقليدية شفوية أم أعيدت كتابتها وانتقلت فيما بعد من جيل إلى جيل. غير أن حصر الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)في العراقة يعني بالضرورة اعادة إنتاج إبداعات الأدباء السابقين. إن التقليد مناقض للتطور. والأدب الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)ظاهرة اجتماعية تعبر باستمرار عن حاجات جديدة.
تؤدي عراقة الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)دورا هاما في دراسة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الحياة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الذهنية والروحية لأسلافنا الأقدمين وضبط (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)التاريخ الإجتماعي لهذه المراحل الأولى من المجتمع البشري ، وقد ترتب على عراقة الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)قيام ظاهرة خاصة به ثار حولها جدل وهي اهتمامه بالأسطورة والخرافة والخارقة، فيوصف بذلك بأنه أدب محافظ من حيث الشكل والمحتوى، غير أن هذا الرأي خاطئ إذ يسقط أهم صفات الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)وهي واقعيته. إن الوهم والخرافة والغيب حقائق واقعية عند مؤسس ذلك الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)وجمهوره.
هناك تداخل بين الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)والمعتقدات الدينية القديمة، فالعمل الأدبي الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)لا يتم إلا بالغناء والرقص والتمثيل، فالشعر والأغاني هي من الفنون التي تطورت مع الرقص والموسيقى وارتبطت بالعقائد والطقوس والسحر. وقد ارتبط في اللغة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)العربية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)قول الشعر بالإلهام والشيطان، حيث قيل لكل شاعر شيطانه، وتظهر وظيفة الشعر المقفى أو المعنى في تأثيره السحري أكثر من تأثيره الجمالي.
ومن الصعب ربط ظهور الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)بتاريخ معين، وقد ظل الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)مقرونا بالإنسان الأول الذي برز فوق سطح الأرض وهو الذي أطلق عليه (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)علماء الأنتروبولوجيا والأنثولوجيا إسم الإنسان البدائي صاحب المستوى الحضاري البسيط، وقد مارس الإنسان البدائي صراعا مع الطبيعة وقواها فشكلت هذه الممارسات رصيده الثقافي والأدبي فتوارثها أبناؤه عبر العصور، ويتمثل هذا الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)البدائي في الملاحم والأساطير والحكايات الخرافية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)وحكايات الحيوانات، وقد احتوت هذه الأنواع العناصر السحرية والدينية كالصراع مع الآلهة وتضمنت التاريخ الإجتماعي، إن غياب الكتابة وانعدام التدوين قد أضاع جزءا كبيرا من هذا الأدب، يرى أحمد رشدي صالح أن أدب الملاحم الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)سابق على الدين. وأن قصص الجان القصيرة أو القصص الإخبارية وأغاني العمل قد سبقت الملاحم بدورها بفترة طويلة.
وينبغي أن نميز بين الواقعية في الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)المدرسي والواقعية في الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي، في الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الأول فإن الواقعية تعبير عن المذهب الفني يوظفه الأدباء من أجل التقرب إلى الشعب، ومن عناصر المذهب الواقعي في الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)المدرسي اللغة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)العامية، الأمثال، شخصيات مستعارة من التاريخ، إلخ.....
غير أن هذه النزعة اصطناعية بخلاف الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)فإن واقعيته طبيعية عفوية، تدل على فطرة الشعب كيف يكون الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)واقعيا وهو يزخر بالرموز الخيالية والغريبة والعجيبة كالطقوس والقوى الغيبية والسحرية والخروج عن المكان والزمان فأين تتمثل واقعيته ؟
إن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)مرتبط شكلا ومضمونا بقضايا الشعب إن الخروج عن المألوف ما هو إلا قراءة بطريقة خاصة للواقع. إن العجز عن تحقيق الرغبات والإنشغالات يؤدي بالمبدع إلى اللجوء إلى الخيال، إن الرموز والسحر والخيال والغرابة تعبير عن حرمان اجتماعي يهدف إلى إعادة النظام إلى أصله والتوازن في الإنسان.

جهل المؤلف : إن شرط جهل المؤلف غير وارد في تعريف الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)ذلك أن عددا كبيرا من المؤلفين يذكرون اسماءهم في آخر القصيدة وتاريخ نظمها أحيانا.
وقد دلت الأبحاث منذ نهاية القرن 19 وبداية القرن 20 عن خطأ افتراض مؤلفات انتجها الإبداع الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)اللاشخصي وكشفت الأبحاث المنظمة عن حياة الرواة وأعمالهم ممن يسمون "حملة التراث الشعبي" عن الدور الهام الذي تؤديه كل جوانب النشاط الفردي المختلفة كالمهارة والتدريب والموهبة والذاكرة والخيال، إن كل مؤد للأعمال الشفاهية إنما هو مبدعها في آن واحد، إن مجهولية العمل الأدبي وعدم انتسابه إلى مؤلف يرجع إلى أن أسماء المؤلفين لم يكشف عنها في أغلب الأحيان لأنها لم تدون وصارت وسيلة حفظها ذاكرة الشعب فقط. غير أن الحال لم يكن كذلك في كل مكان دائما، إذ أن عددا من الأغاني المؤلفة قديما والحديثة نسبيا تحتفظ بأسماء مؤلفيها وترد هذه الأسماء عادة في آخر الأغنية داخل صياغات صوتية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)(الوزن، القافية، التجانس). وقد أصبحت هذه الحيلة التي لجأ إليها الشعراء للإحتفاظ بأسمائهم في النصوص معروفة الآن على نطاق واسع، إن أسماء كثير من مؤلفي الأغاني ستظل مجهولة لأنهم لم يسجلوا أسماءهم حين ألقوا هذه الأغاني وإنما نشروها عن طريق الرواية، ومع ذلك نؤكد أن المجهولية لا تعني أن النتاج الشفوي غير شخصي أو ينقصه المؤلف، إن المجهولية ليست سمة خاصة بالأدب الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)عند مقارنته بالأدب المدون، لقد أصبح الإبداع الشخصي مع بداية العصر الرأسمالي ينسب إلى مجموع الشعب ضمانا لحياة مؤلفيه وحماية أسمائهم، وفي العصر الإقطاعي كان مؤلفو الآداب المدونة وأصحاب الأعمال الفنية في ميدان فنون الحفر arts graphiques (العمارة، النحت، التصوير) لا يميلون في الغالب إلى نسبة أعمالهم إلى شخوصهم.
إن مفهوم (المؤلف الجماعي) موجود في الفكر الحديث عند مفكرين مختلفين تماما هما : لوسيان غولدمان وميشيل فوكو. فالأول حاول بلورة المفهوم من خلال منظور ماركسي قائلا بأن الكاتب أو الأديب لا يعبر عن ذاته بقدر ما يعبر عن الوعي الجماعي أو قل أنه فيما يعبر عن ذاته ينضج بوعي جماعة ما أو طبقة ما أو فئة ما.
أما ميشيل فوكو فقد طرح فكرة (موت) المؤلف أو إمحاء المؤلف، فالمؤلف ليس فردا ولا صوتا واحدا وإنما حصيلة مجموعة الأصوات والأفكار التي يتلقاها من المحيط وتخترقه فيسجلها على الورق، بمعنى آخر فإنها له وليست له.
وقد يكون معرفة الشاعر سببا في انتشاره بين العامة ولا سيما إذا كان مبدعا بارعا، ولا تخلو مجالس العامة من المقارنة بين الشعراء والمفاضلة بينهم، وقد يحملون الشعراء على التباري في قرض الشعر ويحكمون في النهاية على الشعر الضعيف.
وترجع فكرة حصر الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)في الأثر المجهول المؤلف إلى الإعتقاد بأن هذا النوع يحظى باهتمام الجماعة الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)غير أن ممارسة الجماعة للنص الأدبي أمر مشترك بين المؤلف المجهول والمؤلف المعروف، إن ممارسةالجماعة للنص الأدبي معناه أن تجد فيه ما يعبر عن وجدانها بالطريقة التي تفهمها، إن الأثر المعروف المؤلف ليس عاجزا دائما عن تحقيق هذه الوظيفة، كما أن اشتراط (التجهيل) يؤدي إلى إلغاء الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الحديث، ويبدو الرأي القائل بأن اطلاق الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)على الأثر المجهول المؤلف والأثر المعروف المؤلف سيؤدي إلى تحديد (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الموضوع مبالغا إذ أن اطلاق الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)على الأثرين يؤدي بالعكس إلى توسيع الإطلاق من جهة وتوحيده من جهة ثانية وحتى لا يصبح الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الحديث والأدب المعروف المؤلف أنماطا خارجة عن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)والأدب الرسمي معا.
حيث يكون صاحب النص مجهولا (الحكايات – الأمثال – الألغاز) وقائل النص معروفا (نصوص الشعر).
"الأدب الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)هو أدب العامية سواء أكان مطبوعا أم مكتوبا، مجهول المؤلف أو معروفا متوارثا أم أنشأه معاصرون، معلمون"
أدب العامية : يذهب هذا التعريف إلى أن العامية شرط جوهري في تحديد (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)مفهوم الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)، وبقدر ما تشكل اللغة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)جزءا هاما من العمل الأدبي فإن المحتوى لا يقل عنها أهمية وهما عنصران متداخلان من الصعب الفصل بينهما.
ويمكن أن نوجز تقديم هذه الإشكالية في النقاط التالية :
أ/- ليس كل ما يكتب بالفصحى يكون بالضرورة أدبا رسميا فقد لاحظنا مثلا أن كثيرا من الآثار الأدبية الخالدة كتبت أو رويت بالفصحى البسيطة وهي مع ذلك تصنف في الآداب الشفوية أو الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)ومنها ألف ليلة وليلة والسير العربية، فالفصحى إذن ليست شفيعا لهذا الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)من أن يكون شعبيا. فشعبيته لا تكمن في عامية لغته على الرغم من أن بعض هذه الآثار السردية تلتجئ في بعض الأطوار إلى الإعتراف من العامية لغايات فنية طورا ولعجز الرواة والساردين، فيما يبدو عن العثور على ألفاظ فصيحة طورا آخر.
ب/- فما كل ما يكتب بالعامية كذلك يعد بالضرورة أدبا شعبيا، وتجري هذه السيرة على ما يكتبه المثقفون من مسرحيات (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)وروايات وكلمات أغان بالعامية التي لا ينبغي أن ترقى إلى درجة الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي.
جـ/- إن صفة الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)التي تلازم أجناسا من الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)وضروب من القول لا تكمن إذن في العامية ولا في الفصحى، وإذا كانت العامية أداة الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)بوصفها من مقوماته وأنها عامل مشترك بين الأثر المجهول المؤلف والمعروف فإنه لا ينبغي الخيار في استخدام اللغة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)التي يريدها المبدع الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)عامية أو فصحى فمن الخطأ أن نطلب من المبدع الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الذي ينتمي إلى الطبقة الدنيا التعبير بالفصحى والعامة الذين يخاطبهم عاجزون عن فهمها.
3- "الأدب الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)هو المعبر عن ذاتية الشعب المستهدف تقدمه الحضاري ، الراسم لمصالحه، يستوي فيه أدب الفصحى وأدب العامية، وأدب الرواية الشفاهية وأدب المطبعة".
ذاتية الشعب : لا يقدم هذا التعريف تحديدا واضحا للأدب الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)بقدر ما يميل إلى التعميم، من الصعب الإهتداء إلى تحديد (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)المقصود من ذاتية الشعب، إن كلمة الذاتية يمكن أن نفهم منها دلالات مختلفة ولكنها لا تحدد مفهوما خاصا بالأدب الشعبي.
التقدم الحضاري : هو قول عام ذلك أن المطلوب من المبدع – شعبيا أو رسميا – أن يهدف إلى تحقيق هذه الوظيفة الحضارية، إن هذه الخاصية متوفرة في الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)ولكنها أوضح في الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الرسمي ثم إن التصور الذي يملكه الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)في مجال الحضارة محدود ويختلف حتما عن الرؤية التي يتضمنها الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الرسمي، يعبر المبدع الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)عن حياة اجتماعية بسيطة ومحلية.
4- "الأدب الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)هو القول التلقائي العريق المتداول بالفعل، المتوارث، جيلا بعد جيل المرتبط بالعادات والتقاليد".
القول التلقائي : يحدد معجم العلوم الإجتماعية التلقائية على أنها "القدرة على الإستجابة بأسلوب مباشر والتكيف مع وضعية معينة" إن الفعل التلقائي هو الذي يحدث بنفسه بدون (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)تفكير سابق ودون إثارة، وهو التعبير في الحال عما نشعر به وكما نشعر به، قول يصدر تحت تأثير العواطف واندفاعها دون الإستناد إلى تحليل (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)أو حساب، ولقد استخدم الباحثون العرب جميع (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)هذه الأوصاف لتحديد معنى هذا المحور، غير أن المصطلحين التلقائية – القول – يعودان إلى دلالة واحدة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)ضمن هذا السياق المحدد بوصفهما يرتكزان على اقتران كلمتين مترافدتين، وتتمثل الكلمة الأولى في التلقائية التي تدل على مجموعة من الأفعال التي تتوقف على اندفاع السلوك الطبيعي القائم على الوضوح والحرية (تحرر الفاعل من كل عقدة أو نوع من التقويم أو التهذيب أو التكيف) وتتمثل الكلمة الثانية في القول وتدل على استعمال كل واحد منا للقول في نطاق حر من أجل التعبير (تبليغ الأفكار أو الآراء من خلال نظام الأصوات المنطوقة) وبذلك يكون القول عندما نخاطب به الغير انتاجا تلقائيا نخلص في أغلب الأحيان من قواعد (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)لغة النخبة ومن ثم يمكن القول أن تسمية (تلقائي القول) لا تدل على مفهوم بقدر ما تصبح كلمة زائدة لأن الإشكالية الحقيقية لا تتمثل في التلقائية من جهة والقول من جهة ثانية، ولكن تكمن فيما بين الشفوي والمكتوب (وسائل انتقال الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي) ، ويعتبر الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)مخزون المعرفة البسيطة ويقوم هذا المخزون أساسا على ذاكرة متكونة من الملاحظات والأحكام والنصائح الناتجة عن تجربة بشرية طويلة ولذلك يبدو لنا أن مصطلح تلقائية القول الذي اعتبره بعض الباحثين العرب محورا ما هو في الحقيقة إلا تسمية مرادفة للقول المرتبط باللهجة.
التداول والتوارث أو التناقل الجماعي : أسهمت الرواية في نقل التراث العربي الرسمي، كان القرآن الكريم والحديث الشريف يرويان شفاهيا، ويعتبر الفقهاء التواتر من المصادر الهامة، وتظل الرواية أداة هامة في نقل الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الموزع بين المقلدين والمبدعين من الرواة ولكن لا يمكن أن تكون الرواية مع ذلك شرطا أساسيا، إن اشتراط الرواية يتضمن عدم الإعتراف بالأدب الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)المطبوع مثل ألف ليلة وليلة والسير الشعبية، وقد زادت الطباعة هذا الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)المكتوب انتشارا بين الناس.
إن الرواية أعم من موضوع الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي، إن التراث العربي وصلنا عن طريق الرواية قبل أن توجد وسائل الطباعة والنشر، وقد اتخذ الجاهليون الرواية وسيلة لحفظ أشعارهم.
إن التواتر عند الفقهاء يعتبر من المصادر الهامة في السند كالإجماع، وإذا كانت الرواية لم تصبح قيدا للتراث العربي المدرسي فإنها بالنسبة للأدب الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)أداة للحفاظ عليه (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)ولكنها لا ينبغي أن تكون شرطا.
وقد ظل الشعر الجاهلي غير مكتوب نحو قرنين وظلت تتناقله الرواة شفاها وتعرض للخطأ والتغيير ومع ذلك فهو يندرج ضمن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)المدرسي، والجدير بالذكر في هذا الصدد أن عددا من الدارسين يقدمون المادة الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)كما لو أنها جاءت من مصادر معروفة أو كما لو كانت أدبا مقروءا ولا أدبا مرويا مسموعا ومن ثم يعالجون هذه المادة الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)بالمعايير نفسها التي يدرس بها الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)المدرسي، وقد وقع في هذا الخطأ دارسي الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)العربي القديم الذي كان معظمه شفويا من ناحية الأصل والمنشأ ومن ناحية التقديم والعرض.
إن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)جوهرة محصورة في ذاكرة شعب معين، فهو يؤلف الرأسمال الثقافي الذي يعكس الملامح المتميزة لجماعات بشرية مختلفة، إن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)صدى الماضي لا يصاب بالإتلاف أو الإبتدال، ينتقل من جيل إلى جيل باستمرار ليصل إلينا متأثرا ببصمات الزمان.
كيف ينتقل الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)من جيل إلى جيل آخر ؟ ماهي السبل التي سلكها الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)للوصول إلينا ؟
اعتمد الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)في تناقله على قناتين أساسيتين :
1- القناة الشفاهية
2- القناة الكتابية
ويقوم هذان الأسلوبان المتعلقان بالتناقل على التفاعل المتبادل بينهما من خلال مقابلة نظيرية Bijection وهي (مقابلة بين عنصر واحد من مجموعة وعنصر واحد معين من مجموعة أخرى) وذلك اعتمادا على بعض السمات التي تكون سببا في تعارضهما، إن الإستعانة بالبصر في النقل المكتوب وبالسمع في النقل الشفاهي فعل ضروري ومسلم به، وقد توارث الأجيال الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)من الممارسة العائلية، من فم الشيوخ في المقاهي العمومية أو من فم المداحين وهم المغنون العموميون الذين ينشرون الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)في الأسواق وينقل كل واحد منهم الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)بالطريقة الشفاهية أثناء حفل أو تجمع أو حديث مع القدامى، ويعود أصل النقل المكتوب عند الغير إلى الثقافة الصادرة عن الكتب حيث يتم ترسيخ الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)في الذاكرة البشرية.
ويمكن للإنسان أن ينتج بالكتابة نصا شفاهيا روي إليه ويستطيع أيضا أن يقرأ نصا مكتوبا وأن يرويه شفاهيا بعد ذلك لشخص معين. وهكذا يمكن أن يتحول الإنتاج الشفاهي إلى انتاج مكتوب والعكس صحيح بعد أن يطرأ عليه (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)تعديلات سلبية أو إيجابية في الذهن البشري المبدع، ومن هنا فإن العلاقة النظيرية بين النقل الشفاهي والنقل المكتوب مشروعة ، ويمكن أن نسوق للدلالة على هذه العلاقة الموضوعية بين القناتين عددا من الأعمال الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)كالحكاية والأغنية والسيرة التي انتقلت من مرحلة الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشفاهي إلى مرحلة الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)المدون كما هو الشأن بالنسبة لسيرة عنترة بن شداد وأبي زيد الهلالي والأميرة ذات الهمة، ويعتبر العكس صحيحا كذلك إذ كثير من النصوص التي ثبت أصلها أصبحت موضوعا للأدب الشفاهي مثل (الوقائع الدينية والتاريخية « Recueils de faits religieux et historiques ».
لا نعلم الكثير (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)عن العمليات التي يتم عن طريقها نقل الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)يجب أن نحاول معرفة ممن تعلم الراوي مادته والطرق التي اعتمد عليها في ذلك والزمن والظروف التي أحاطت بسماعه لها لأول مرة وما حدث بعد ذلك وعدد المرات التي استمع إلى هذه المادة في حالة الإعادة وقيامه هو بأدائه لغيره أو ترديدها لنفسه فقط والأسباب التي دعت إلى ذلك في كلتا الحالتين والدور الذي يقوم به الراوي في أداء ما يعرفه في حدود السماع فقط أم إنه يغير في النص ويحذف ويعدل ويضيف وأسباب ذلك وتحديد طبيعة المواقف التي تم ذلك فيها العلاقة القائمة بين هذا الأداء والجمهور.
ومن الطرق الصالحة لإنتقال الأشكال الأدبية التي تعتمد أساسا على الكلمة ومنها الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)هي الإنتقال عن طريق المصادر المطبوعة ولا سيما في المجتمعات الحديثة، إذ يمكن تسجيل النصوص الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)وإتاحتها للقادرين على القراءة الذين يمكنهم بعد ذلك أن يروون فيها، والمشكلة التي تبدو في نطاق الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)بأشكاله المختلفة أن الحكاية والمثل واللغز والأغنية تخضع بدون (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)شك في ذلك لقانون واحد ولكن يؤثر الشكل الخاص لكل منها وطبيعته على عملية الإنتقال، فالحكاية والأغنية على سبيل المثال مختلفتان في انتقالهما بين الأفراد والجماعات، وتظهر تغييرات محددة أثناء الإنتقال إذ تبقى بعض العناصر أو يحتفظ بها الراوي وتسقط عناصر أخرى أثناء ذلك، وترتبط هذه العمليات بفترات زمنية وأسباب محددة منها العوامل السيكولوجية كالتذكر والنسيان.
5- "الأدب الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)هو الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الذي يصدر عن الشعب فيعبر عن وجدانه ويمثل تفكيره ويعكس اتجاهاته ومستوياته الحضارية" .

الإرتباط بالعادات والتقاليد للتعبير عن وجدان الشعب :
يحتوي الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)مجموعة من العناصر التي تعود أساسا إلى الماضي إلا أنها متميزة بالتغيير الذي يطرأ عليها عبر الزمن، وتختفي هذه الرواسب في ثناياها الحكمة والتجارب وأساليب العيش القديمة، ويعبر كل شعب من خلال العادات والتقاليد عن أفراحه وأحزانه، ويذاع الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)في مناسبات تقليدية مثل الزواج والولادة والوفاة وأماكن العمل والتسلية والأسواق العمومية، ويعتمد في هذه الأماكن والظروف نفسها على الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)لإدانة فعل أو حكم على سلوك معين، ويكتسب الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)وزنا اجتماعيا وسياسيا وثوريا ضخما، كما يعد الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)اللغة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الوحيدة التي لم تتقلص إلى شعار فهو لغة ذات علاقة جدلية مع الواقع وتتمتع بقدرة كبيرة على تفسيره، إن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)وعي فردي وجماعي ويعبر عن حياة الأمة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)بجميع شرائحها في كافة مناطقها، ويغطى الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)باستمرار كل احتياجات الشعب اليومية، ويقوم تناقل الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)من جيل إلى جيل على التغيير في الشكل والثبات في المضمون ويساعد الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)على نقل الخطاب الفلسفي والروحي الموغل في القدم.
يتجذر تناقل الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)في موروثات عشرة قرون ويرسخ في ذاكرة الجماعة إما بالكتابة كالوقائع الدينية والتاريخية على سبيل المثال أو بالكلام المقولب (وهو سلوك مكرر على نحو لا يتغير تعوزه الصفات الفردية المميزة) كالأمثال والأساطير والحكايات والسير، ويرتبط الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)المستمد من التجربة البشرية قبل ظهور الكتابة بالتناقل من جيل إلى جيل إلا أن هذه الإرادة حصرته في قوالب جاهزة قريبة من السلوك المكرر، وتعتبر الكتابة الوسيلة الهامة التي اعتمد الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)عليها لتناقله عبر الأجيال إلى جانب الرواية.
إن اقصاء الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)واحتقاره بمثابة الحد من تعبير الشعب والقضاء على قوته الإبداعية ، إن هذه السلطة الخلاقة هي التي تساعد على إعادة النظر في نظام القيم الذي يقوم على التمييز الواضح بين الخير والشر في المجتمع.
6- "إن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)لا يمكن أن يكون شعبيا إلا إذا استقبلته الجماعة الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)بأسرها ورددته".
الجماعية : يتميز الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)بالروح الجماعية، فالجماعة هي التي تشكل النص حسب مزاجها وظروفها، ويعبر المبدع الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)عن وجدان الجماعة، ولا يعني هذا أن دور الفرد معدوم في الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)بقدر ما يدل على أن الجماعة لا تهتم بصاحب النص أكثر من انشغالها بالنص الأدبي ذاته.
اهتم كثير من الباحثين بالبحث عن مصدر انتاج العمل الأدبي، وانشغل هؤلاء بما إذا كان الفرد أو الشعب هو مؤلف الأثر الشعبي، ويعتبر عدد من العلماء فعلا أن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)إعداد جماعي وغير فردي مقابل الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)المدون الذي يعد فرديا وشخصيا. إن هذه الفرضية التي ظلت في صالح الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)وقتا طويلا صارت غير مقبولة الآن لأنه لا يمكن أن نتصور عملا شعبيا ألفه شعب بأسره، ومن هنا يبدو لنا أن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)انتاج مجهول، ويصبح النص الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)ممثلا لحدث معين ومتناقل من جيل إلى جيل عن طريق الرواة، ومهما كان دور الفرد في تكوين العمل الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)مثلما نجد ذلك في حالات الأغنية الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)أو الشعر الشفاهي فإن الإنتاج لا يكون شعبيا إلا إذا استوعبته الجماعة وتداولته، ويتمكن الإنتاج الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)من التأقلم والإنتشار عندما يقوم الشعب باسترجاعه، يتخلى المؤلف إن كان موجودا عن العمل الذي انتجه ويصبح جزءا أساسيا من الجماعة التي ينتمي إليها ويتحول بذلك إلى مؤد ويشارك كل مؤد بما فيه المؤلف في العمل الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)ولكن لا يصنعه أحدهم بمفرده، ولا يصبح الإنتاج شعبيا بأتم معنى الكلمة إلا بعد أن يدخل عدد لا حصر له من الرواة، تعديلات وتنقيحات وتحويرات عليه، يتحول الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)إذن باستمرار ولكن هذا التعديل مرتبط أساسا بالظروف التي انجز فيها هذا العمل الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)نفسه، إذ يحاول المؤدون تعديل آثارهم الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)حسب مزاجهم وطبيعة مستمعيهم .
إن الرواوي لا يستطيع أن ينتج نصا بمعزل عن الجمهور، ويتحدد معنى تدخله في النص الأدبي من خلال هذه العلاقة القائمة بين الراوي والجمهور، وتفترض عملية التواصل بين المرسل والملتقى جملة من عوامل تؤدي دورا هاما في صياغة الأثر الأدبي وتشكيله صورة ومعنى. تسيطر على الجمهور حاجات عديدة، وتتفاوت هذه الحاجات من فئة اجتماعية إلى أخرى حسب العمر (الشباب – الكهول – الشيوخ) والجنس (الذكور والإناث) ويعمل الراوي على أشباعها، وتختلف قدرات الرواة على الرواية وطاقاتهم على الحفظ والتذكر ومن ثم فإن النص يتعرض باستمرار للتغيير أثناء انتقاله في المجتمع، ولكن حجم هذا التغيير وأهميته تختلف باختلاف العناصر التي يصيبها التغيير، فالتغيير في مكان الأحداث وزمانها أو في الشخصيات يعد تغييرا بسيطا ولكن التغيير في حبكة الأحداث وتسلسلها أو في وضع نهاية مختلفة يعد أمرا هاما وهو ما يحدث عادة أثناء انتقال الحكاية، وإذا كان الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)يتعارض مع الكتابة فإنه من الطبيعي أن نقدر أن هؤلاء الأميين سوف يكونون المهتمين بالأدب الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)المحافظين عليه (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)القادرين على ترديده. ولكن إن ترديد الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)موجود دائما بين الناس جميعا ويرتبط بمناسبات عديدة.
إن نصوص الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)بأنواعه المختلفة تتقبل الإضافة والحذف والتعديل دائما بينما تعيش الأنواع الأدبية الخاصة على حالتها التي ابدعها بها مؤلفها، ويؤثر جمهور كل من الأدبين (الشعبي والمدون) في طبيعة كل منهما، يمكن للكاتب أن يعيش بعيدا عن الناس منعزلا في مكان خاص لا يشاركه فيه أحد أثناء ابداعه ولا يمكن للراوي أن ينعزل عن المستمع فلا بد أن يكون على صلة مباشرة به وأن يواجهه.
إن الكاتب أو الشاعر يشبهان جهاز (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الإرسال ويصبح الجمهور جهاز (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الإستقبال، وتوجد علاقة مباشرة بين المرسل والمستقبل.
لا يوجد رد فعل مؤثر مباشر من جانب الجمهور فيما يتعلق بالأدب المكتوب فإن الإرسال (الأثر الأدبي) هنا يعد مكتملا ومنتهيا قبل أن يصل إلى المستقبل وهو الجمهور أو القراء بينما نجد في نطاق الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي، ظهور ردود فعل مباشرة أثناء عملية الإرسال (أي أثناء الأداء) ومن هنا فإن الصورة النهائية التي يبدو بها هي نتيجة التفاعل المتواصل بين المرسل (الراوي – المغني) وبين الملتقى (الجمهور المستمعين) وتؤثر طبيعة الجماعة من حيث السن (الشباب – الكهول – الشيوخ) والجنس (الذكور أو الإناث) والثقافة (القراءة والكتابة – الأمية) في تنوع أساليب رواية النص ومضمونه، يتغير الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)إذن باستمرار ولكن هذا التعديل مرتبط بالظروف التي أنجز فيها هذا العمل الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)نفسه، إذ يحاول المؤدون تعديل نصوصهم الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)حسب مزاجهم وطبيعة مستمعيهم والمدة الزمنية التي وضعت في تصرفهم، فهم يختزلون العمل الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)أو يمددون فيه، يطورونه ويفصلونه أو يحذفون مقطعا منه حفاظا على أصالته إن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)ملك الجميع وغير معقول أن تكون الجماعة باسرها مصدرا له.
يقول هابرلاندت M. Haberlandt أن من أهم واجبات علم الفولكلور أن ينتبه إلى وجود أولئك الأفراد المبدعين الذي تمكن معرفتهم بالإسم في كل مجال من مجالات الثقافة الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الحية بين الناس وعليه يتحتم علينا أن نعدل بعض الشيء من مفهوم (الثقافة الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الجماعية) ذلك أن الإبداع الثقافي الفردي كامن في كل ثقافة جماعية من هذا النوع والفرق بين شعب وآخر وعصر وآخر هو في عدد وأساليب هذه الشخصيات الإيجابية المبدعة.

**د لا ل**
2012-11-29, 22:23
ولا يركز علم الفولكلور بالدرجة الأولى على فردية الإبداع الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)أي على الصورة الفردية التي يخرج بها الأثر الأدبي إلى الناس وإنما هو يهتم أولا وقبل كل شيء بالرصيد المشترك الشائع بين الأغلبية، ولكن لا يمكن فهم هذا الرصيد المشترك الشائع إلا عن طريق هذا الشيء المتفرد، ودراسة حياة حملة هذه المنتجات الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)المتفردة والمتميزة بسمات مبدعيها، فكثير من الصور التي اتخذها التراث المشترك لا يمكن فهمها دون اعتبار دور القوى المبدعة للإنسان الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الفرد، فتحديد اسهام هذا الفرد في التراث الجماعي أمر ضروري ومنهجي في ميدان الدراسات الشعبية.
إن المقصود بالقوة الإبداعية للجماعة الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)هو ابداعات الأفراد الموهوبين قد تكون معروفة بالإسم في البداية إلا أنها سرعان ما تدخل ضمن الرصيد المشترك لا يمكن لأحد أن يدعى إزاءه حق شخصي لأنها لا تستند إلى مؤلف معين إن النوع الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)هو انتاج شخص مبدع صاحب موهبة ولكن حينما يوجد فيه تعبير معين أو اصطلاح أو صورة غير موفقة أو غير مفهومة للكافة تعمد الجماعة إلى تغييرها من تلقاء نفسها وتجعل كل اجزاء هذا النوع الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)سهلا على نطاقها وفهمها، هذه المشاركة هي التي تسمو بالنوع الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)إلى درجة فنية راقية إلى الحد الذي تجعله بشكله المتداول فوق مستوى الفرد المبدع.
كان الرومانسيون يرجعون مثلا أسباب التنويعات والروايات المتعددة لحكاية واحدة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)إلى الأخطاء أو سوء الفهم والإضطراب وغيرها من أسباب كثرة تداول مواد الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي، فيرجعونه إلى الربط غير الواعي بين موتيفات متعددة من حكايات متباينة في حكاية واحدة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)وليس إلى الخلق الواعي.
إن فرد السرد سواء كان مقلدا أو مبدعا لا يمارسه بين الجماعة سوى أفراد قلائل دائما، إن امثال هؤلاء الرواة لا سيما المبدعون منهم ليسوا كثرة سواء بين الطبقة الدنيا أو العليا، إن المقلد وهو الطراز الملتزم بالرواية الأصلية هو الشائع بين الناس ، فهو يعيش على افراز القلة من المبدعين.
إن الإهتمام بالنص وممارسته من قبل الجماعة على الرغم من أنه من أهم مميزات الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)فإنه قضية نسبية فهناك قصائد (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)شعرية نشرت في المجلات أو لدى بعض الأفراد ولم تدخل حياة الجماعة الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)وقد لا تسمع بها اطلاقا.
إن الجماعية هو أن يكون العمل الأدبي مجهول المؤلف لا لإن دور الفرد في إنشائه معدوم ولا لأن العامة اصطلحوا على أن ينكروا على الخالق الفرد حقه في أن ينسب إلى نفسه ما يبدع بل لأن العمل الأدبي الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)يستوي أثرا فنيا بتوافق ذوق الجماعة وجريا على عرفهم من حيث موضوعه وشكله ولأنه لا يتخذ شكله النهائي قبلما يصل جمهوره شأن أدب المطبعة وأدب الفصحى عامة بل يتم له الشكل الأخير من خلال الإستعمال والتداول، ثم إن وسيلة إذاعته وهي النقل الشفاهي لا تلزمه حدودا جامدة بحيث يكون من المستطاع أن يضاف إليه أو يحذف منه أو يعاد ترتيب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)عناصره أثناء انتقاله من موطن إلى آخر.
من هو مؤلف الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)؟ أهو الشعب كمجموع أم فرد مجهول يعبر عن روح المجموع، ثم يتناقل الرواة ما ألفه بالإضافة والحذف ؟

الجماعية :
الجماعية بالمعنى السياسي أو الإجتماعي المعروفة به هي مبدأ اشتراكي قائل بسيطرة الدولة أو الشعب على جميع (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)وسائل الإنتاج والنشاطات الإقتصادية.
الجماعية في الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)والفن تعني تيارات الطليعية (وخاصة مذاهب التعبيرية والتجريدية والفعالية والفعالية مذهب خلقي يعني بمتطلبات الحياة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الفعلية ومنجزاتها أكثر من عنايته بالمبادئ النظرية هذه التيارات تحاول أن تنقص من النظرة المستقلة الذاتية لصاحب التكوين الفني، في سبيل إثبات الجماعية التي ينبغي عليها أن يكون لها المقام الأول وقد حاول جماعة من الفنانين الذين يدعون إلى الجماعية توحيد صفوفهم وجهودهم في التكوين الفني الواحد لإثبات قوتهم.
ويرى بعض الفلاسفة أن فكرة الجماعية في الفن والأدب هي فكرة خاطئة مستندين إلى أن أصل جوهر التكوين أو الخلق الفني ماهو إلا نظرة ذاتية للفنان يخرج منها إلى الإيضاح وإلى التعبير وإلى عكس الأشياء من وجهة نظر واحدة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)هي وجهة نظره فقط
الجمهور :
أصل الكلمة اللاتينية Publicus وهي تعني مجموعة المشاهدين والسامعين للعرض الفني، كما تعني المستقبلين لكل عمل فني آخر والجمهور مهما كانت شاكلته، واعيا أم غير واع ، أميا كان أم متعلما هو في النهاية الحكم الحقيقي والفعلي على مختلف الإنتاجات الفنية في أي فرع من الفروع، وفي العروض الحديثة يمكن أن يقوم الممثل بالتمثيل وممارسة فنه ومهنته وسط قاعة الجماهير بما يتشابه مع بعض العصور سابقا كما في دراما السوق في القرون الوسطى أو في الإتصالات بين الممثل وجمهوره في كوميديا الفن (الكوميديا دي لارتي) والعكس يمكن أن يحدث اليوم فإن يصعد الجمهور إلى خشبة المسرح لأماكن معدة له ليشاهد التمثيل في مواجهة لبقيته ووجها لوجه مع صالة الجمهور.
7- الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)هو مجموعة العطاءات القولية والفنية والفكرية والمجتمعية التي ورثتها الشعوب التي أصبحت تتكلم العربية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)وتدين بالإسلام"
الموروث التاريخي :
يدل هذا التعريف على أن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)ليس وليد الجزيرة العربية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)وحدها وإن كانت أصلا رئيسيا فيه ولكنه نتاج رقعة جغرافية وحضارية واسعة شاركت شعوبها التي تعبر بالعربية وتدين بالإسلام في صنعه بموروثها القديم عبر مراحل التاريخ، ويتضمن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)آثار الفلسفات والعقائد سواء التي انتجتها الشعوب صاحبة هذا الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)أو التي تتعلق بالبلدان المجاورة لها.
ولا يتحدد معنى الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)دون صلته بكل هذه التأثيرات، ولا يمكن أن نتجاهل التأثير الذي مارسه الموروث التاريخي على الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي.
إن الموروث التاريخي مقوم أساسي للأدب الشعبي، وأن النقاد والدارسين لم يلتفتوا إلى الموروث القديم بصورة كافية، واعتبروه مرة عقبة في سبيل استمرار العقيدة الدينية ومرة مجرد ظواهر لا قيمة لها، أو الوقوف على موروث الجزيرة العربية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)وحدها وعزل آثار المناطق الجغرافية والتاريخية الأخرى التي اسهمت في تكوين حصيلة الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)بمختلف أنواعه.
ماذا نعني بارتباط الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)بالعنصرين العربية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)والإسلام، هل نعني أنه الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الخارج عن الجزيرة العربية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)والمرتبط تاريخيا بالعطاء الصادر من الجزيرة العربية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)والذي يرجع إلى الأصول العربية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)قبل الإسلام وبعده ؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل استطاع العرب أن يزيلوا الموروث الحضاري للشعوب التي دخلت الإسلام منذ سنواته الأولى وكونت من البداية المنطقة الحضارية العربية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)التي صمدت أمام كل محاولات تفتيتها حتى اليوم، وبمعنى آخر هل تخلت شعوب المنطقة التي تمسكت بانتمائها العربي عن موروثها الحضاري والشعر القديم بمجرد دخولها إلى الإسلام دينا واستخدامها العربية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)لغة رسمية ؟

إن سبب الخلاف بين العلماء في تحديد (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)مفهوم الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)يعود أساسا إلى عنايتهم بالشروط الخارجة عن ماهية النصوص الأدبية، وقد وضعت هذه القيود في مرحلة الإهتمام بدراسة الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)(الرواية والتوارث وجهل المؤلف – الجماعية – التقليد أو العراقة – اللغة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)العامية والفصحى – العادات والتقاليد – الوجدان الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)– الذاتية الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)– التقدم الحضاري – القول التلقائي) وهي شروط لا تقتصر على التعبير الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)بقدر ما يشترك في بعض منها الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)المدون ، وتعتبر هذه الشروط الآن جزءا من تاريخ الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)وهي شروط لا تحدد مفهوم الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)في الأدب، ينبغي أن ينصب الإهتمام في تحديد (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)على النص الأدبي قبل صاحبه الذي أبدعه والظروف التي أحاطت به ، إن الجماعة تتفاعل مع النص الذي يعبر عن همومها ، إن تعريف الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)يكمن في خصائص أخرى ينفرد بها النص الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15423&)في نظر صاحبه وتفكيره وإحساسه وتذوقه ، كالإعتقاد الشديد بالغيب والإلتجاء إلى اصطناع حيز غير جغرافي والتعامل المطلق مع المجهول والإقبال على التعايش مع الكائنات الخارقة وغيرها من العناصر الغريبة والشاذة والمألوفة التي يتألف منها الواقع المعيش L’histoire Vécue

**د لا ل**
2012-11-29, 22:24
الأدب الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)والأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)ومجالهما
1- إشكالية المصطلح :
نحاول أن ندرس الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)والأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)من المنظور اللغوي والدلالي ولكن قبل ذلك ينبغي أن نحدد المصطلحين (الشعبي) و(العامي).
إن السؤال عن الشعب قد وارد الدارسين في القرن 18 الذي ازدهر فيه الإحساس بالفردية والإتجاه العقلاني في التفكير.
أما الأسباب التي دفعت الدارسين إلى البحث (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)عن مفهوم الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)فإنها تتمثل فيما يلي :
1/- العامل العلمي : عندما بدأ العلماء يهتمون بفلسفة التاريخ كان من الطبيعي أن يتساءلوا عن الروح الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)التي تفوق القوة الفردية في تأثيرها في التطور التاريخي .
2/- العامل الإجتماعي الوطني (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424):كان نتاجا لإعجاب المؤلفين والكتاب الرومانسيين بكل ماهو شعبي وقومي وتدل عبارة (ج ماير) على هذا الإعجاب حينما قال "لقد خلع الكتاب الرومانسيون معطف الشحاذين عن الشعب الألماني وألبسوه معاطف الملوك وتيجانهم"
إن الفترة الرومانسية وهي التي شعر فيها الباحثون بعقدة الذنب تجاه الشعب الذي أهمل طويلا، في دراستنا وأحاديثنا اليومية العامة.
يرى هوفمان كراير في بحث نشره عام 1902 أن كلمة الشعب تحتوي على مفهومين أحدهما سياسي يستخدم مصطلح الأمة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)والآخر اجتماعي أو حضاري يستعمل مصطلح الشعب ويعتقد هوفمان أن الدراسات ينبغي أن تهتم بالشعب صاحب المفهوم الحضاري
يعاني مصطلح (الشعبي) في الأصل غموضا والتباسا دلاليا إذا أخذنا بالحسبان تعدد المعاني Polysémie الذي يتميز به. إن المؤلفين والدارسين الذين يستخدمون مصطلح الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)لا يعطون جميعا الدلالة نفسها لكلمة (شعبي) بمعنى أن هذه الكلمة ذات قدرة على تقديم عدد وافر من الدلالات وبذلك تتضح مشكلة هذا المصطلح في كونه شكل التعارض بين ما هو عليه (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الواقع بكل أبعاده الإجتماعية والسياسية والجغرافية والتاريخية والثقافية وبين ما تتطلبه خصوصيات هذا الصنف من الأدب.
في دراساتنا وأحاديثنا اليومية نستعمل مصطلح (الشعبي) فماذا نريد مثلا بقولنا : الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الشعبي، الثقافة الشعبية، المهرجان الشعبي، الثورة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الشعبية، الأغنية الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الخ... للإجابة هن هذه الأسئلة نقول في البداية أن القدامى من العرب والمسلمين كانت لهم فكرة وعند البعض منهم دراسات عن هذه المادة العريقة ولكنهم وظفوا مصطلحات أخرى للدلالة عليها، وقد ذكر ابن خلدون على سبيل المثال أن أهل أمصار المغرب يسمون القصائد بالأصمعيات نسبة إلى الأصمعى راوية العرب في اشعارهم وأهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع بالشعر البدوي، أو الشعر الهلالي كما استخدم صفى الدين الحلي مصطلح الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العاطل.
إن الموروث الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)في نظر المؤرخين الأوائل شيء يتصل بالعامة التي غالبا ما أعطيت أوصافا سلبية كالغوغاء أو الدهماء أو أنها – على تعبير إخوان الصفا – تضم النساء والصبية واللاحقين بهم في العقل من الرجال، فلقد شكل التضاد الثنائي بين الخاصة، العامة أحد المحاور الأساسية للرؤية العربية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الإسلامية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)التي سادت المجال الإجتماعي والتاريخي المعروف منذ القدم، فالتقدم من شأن الخاصة وهو موجود في الحضر أما العامة فهم جهلاء ويمثلون عقبة في طريق الحضارة.
إن هذا الفهم عن الخاصة والعامة موجود ايضا إلى حد كبير في كتابات الرحالة بل هو جزء من نظام الفكر الذي كان سائدا في عصورهم وخصوصا أن الدين الإسلامي يقر مسألة التراتيب الإجتماعية، إلا أننا نجد اختلافا في معايير التمايز بين الطبقتين، فبينما أوضح إخوان الصفا أن العقل (أو العقلانية) أساس للتنفرقة بين مراتب الناس رأى الجاحظ في التخصص في العمل والمعرفة معيارا للتراتب الإجتماعي في حين نظر ابن بطوطة إلى الخاصة والعامة من خلال ممارسات الحياة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)اليومية كالطعام والشراب والملبس والمراسيم والإحتفالات.
وإذا كان مصطلح الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)متكون من ألفاظ عربية فإن مفهومه مستمد من الفولكلور الذي اقترحه وليام جون تومز سنة 1846 في حين نجد مصطلح (العامي) أعرق من حيث الإستعمال حيث ميز العرب القدماء المادة الحية التي جمعوها بأنها "الذائعة بين العوام" كما كان الكتاب أمثال الجاحظ ومن عاصره يسمون هذه المادة أدب العامة، ويرجح الباحث التلي بن الشيخ أن تسمية الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)لا تخلو من تأثير سياسي ذلك أن هذا الوصف يوحي بأن وضع الطبقات الدنيا يختلف عن مكانة الخاصة، أن تسمية الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)لا تخلو كذلك من تأثير إجتماعي حيث إن بنية التركيب الإجتماعي قبل عصر النهضة الحديثة كانت قائمة على أساس طبقي يفاضل بين أنماط التعبير حسب الوضع الإجتماعي، وقد كان الأديب متأثرا بهذا الواقع ينظر إلى أدب العامة نظرة احتقار وازدراء. وقد كان أحد الأدباء إذا استهجن شيئا قال "هذا من سقط العامة" أو "عقيدة العامة كذا" و"ذلك من سفاف العامة" أو "من أباطيل العوام وأوهامهم" و"هذا ما لم تستطع أن ترتفع إليه العامة".
إن كلمة Popular في اللغة الإنجليزية تدل على الشيوع أكثر من دلالتها على كون الشيء شعبيا. فالشعبي يفترض الشيوع علاوة على العمق الزمني البعيد ولكن الشيوع لا يدل حتما على شعبية المادة فأغاني مطرب مشهور اليوم قد تكون شائعة ولكنها ليست بالضرورة أغاني شعبية. فالشعبي أمر يرجع إلى الشعب أو خاص بالشعب. ويعرف سانتيف Saintyves صفة شعبي تمييزا لها عن كلمة رسمي officiel بأنها ما يمارس أو ينتقل transmission بين الشعب مع استبعاد كل ما تقوم السلطة القائمة بفرضه أو تعليمه.
ويرى أريكسون ARIXON خصائص أخرى لهذا المصطلح. فالعنصر الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)في نظره يجب أولا أن يكون جزءا من الشعب وألا يكون شيئا يتمسكون به لفترة قصيرة من الزمن ثم يجب ثانيا أن يكون شامل الظهور داخل الجماعة البشرية ومتكيفا مع ثقافتها.
ونعتبر أن مصطلحنا العربي (الشعبي) ليس في الواقع ترجمة لكلمة popular الإنجليزية ولكنه ترجمة لمصطلح سانتيف الأصلي وأقرب في راينا للدلالة عليه (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)ولا سيما إذا أخذناه بمضامينه الإجتماعية والسياسية السائدة.
لقد جاء الخلط في هذه الدلالة من سوء استعمالنا لكلمة (شعبي) فهي في قاموس (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)حياتنا اليومية تدل على كل ما هو أدنى الدرجات فالقماش الرخيص يطلق عليه (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)إسم القماش الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)والفول أساسي في الوجبات الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)والأحياء العتيقة والفقيرة في المدينة تسمى الأحياء الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424). ومن هنا يرى الباحث عبد المالك مرتاض أن إطلاق مصطلح (الشعبي) على كل نتاج أدبي مروي أو مكتوب بلغة عامية أو مكتوب بلغة فصحى منطقيا غير مستقيم، ويبرر موقفه هذا بأن هذا الإطلاق الشائع ساذج ولا ينبغي له أن يرقى إلى مستوى المصطلح النقدي الدقيق المفهوم الصارم حيث أن الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)لدى عامة الناس يطلق تهجينيا على كل ما هو مفتقر إلى الرقي والسمو فكأن مثل هذه الإطلاقات تعني كل موروث سواء أكان راقيا أم رديئا. ويلاحظ أن مصطلح الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)ورثه العرب عن علم الأنتروبولوجيا الذي تأسس بالغرب. ولذلك قرر رفض هذا المصطلح الساذج لأمرين : لأنه يهجن كل ما ينتمي إلى الشعب ثم إن الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)يطلق على كل نتاج خيالي يعول على الشفوية أساسا، مع أن هذه الشفوية لم تكن تعني في بداية أمرها (الشعبي) كما نلاحظ ذلك في سيرة الشعر العربي قبل الإسلام والآثار الأدبية الإغريقية قبل انتشار الكتابة فكأن الشفوية تعني الأسطوري والكتابة تعني العلمية، ويعتقد هذا الباحث كذلك أن الدارسين يتعاملون مع مصطلح الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)بكثير من التجاوز حيث أصبح يطلق على كل أدب مروي أو مكتوب بلغة فصيحة مثل ألف ليلة وليلة والسير العربية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)أو عامية وهي لغة معظم الآداب الشفوية على اختلاف أجناسها ولكن هذا الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)في حاليه الإثنتين يصطبغ بصبغة خيالية تميزه عن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)المدرسي. ويوجز الباحث تقديم هذه الإشكالية في نقاط : ليس كل ما يكتب بالفصحى يكون بالضرورة أدبا رسميا إذ كثير من الأثار الخالدة كتبت أو رويت بالفصحى البسيطة وهي مع ذلك تصنف في الآداب الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)وليس كل ما يكتب بالعامية أيضا يعد بالضرورة أدبا شعبيا.
إن شعبية هذا الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)تكمن في خصائص أخرى كالإعتقاد بالغيب والتعامل مع المجهول واصطناع حيز غير جغرافي والتعايش مع الكائنات الخارقة. ورغم أن ملاحظات الباحث صحيحة إلى حد ما فإنه مع ذلك لم يقدم إقتراحا فيما يخص تسمية هذا الصنف من الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)وعندما نحاول أن نعالج إشكالية المصطلح من الناحية الإجتماعية نواجه تساؤلات عديدة قد يتمثل الشعب في الفلاحين وسواد الشعب كما هو الحال بالنسبة لتجار الأثريات Antiquaires وجامعي الحكايات وبعبارة أخرىنقصد بذلك الطبقات الدنيا في مقابل الطبقات العليا، وقد نفكر في الطبقات ذات الثقافة المحدودة أو التعليم البسيط في مقابل النخبة والكتاب والعلماء، ويمكن أن نشير بالشعب إلى الطبقة الغليظة والخشنة في مقابل الطبقة الأنيقة الرشيقة اللبقة.
وقد نقصد بذلك أيضا التعمير Peuplement بالمعنى الذي يمكن أن نقول أن التعمير الألماني هو جرماني والتعمير الروسي سلافي والتعمير الجزائري (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)أمازيغي وعربي. وهل نفكر في الأمة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)أو الإثنية أو نظام الروابط التي توحد أعضاء السكان أنفسهم لأنهم يتقاسمون اللغة ذاتها والتاريخ نفسه والدين نفسه والقواعد نفسها والإقليم نفسه ؟ وهل نريد بذلك بالعكس الشعب في نطاق علاقته مع السيادة الوطنية، هذا الشعب الذي يرى مونتسكيو وروسو أنهما خاضعان بل تابعان للأمير أو الملك في النظام الملكي أو السلطاني ولكنهما يمثلان الحائز الشرعي المترتب عن السيادة في النظام الجمهوري.
إن كل هذه الأبعاد حاضرة في عبارة الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)كما يتصورها الغربيون، إن مصطلح الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)يأخذ دلالات متنوعة وحسب التاريخ الثقافي للبلدان التي استعمل فيها، إن الرجوع إلى الشعب في البلدان الجرمانية مثلا منذ "خطابات للأمة الألمانية" للفيلسوف فخت FICHTE (1807) يرمي بالدرجة الأولى إلى الألمان عامة من حيث هم أمة مبعثرة مشتتة بين دول متعددة، والإشارة إلى كلمة الشعب اليوم ولا سيما بعد توحيد ألمانيا تدل على الجنسية الألمانية والأثنية، وعندما يقول بوسلايف BOUSLA&Iuml;EV أن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)هو (لفظ الشعب بأسره) فإنه لا يرجع إلى الشعب الروسي بقدر ما يشير إلى الشعوب السلافية حتى ولو أن جل أعمالهم الأدبية مثل بروب PROPP (مورفولوجية القصة) موجهة إلى القومية الروسية، كما أن مصطلح الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)يختلف معناه في الثقافة الأمريكية حيث أن الوضعية التاريخية لأمريكا تختلف جذريا عن أوربا، إن مصطلح (الشعبي) أو (التقاليد الشعبية) في الدراسات الأمريكية يقول بن أموس BEN AMOS أداة التفكير وليس موضوعا للبحث لأن موضوع البحث (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)هو الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)أو التراث أو الفولكلور، ويسندون هذا الموضوع إلى مكونات سكانية محددة وهي الإنجليز والسود وقبائل الهنود الحمر وأهل كندا الناطقين باللغة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الفرنسية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)وأهل المكسيك.
إن الإهتمام بهذه المكونات السكانية ليس بسبب العرق بقدر ما هو محصور في أن المعارف والممارسات والرموز مهددة بالزوال والإتلاف ولا يمكن تعويض هذه العناصر الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)والحفاظ على المتشابه والحي منها سواء من خلال الثقافات البدائية أو الثقافات ذات المستوى المتحضر البسيط وهو ما يعني البحث (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)عنها في الطبقات الدنيا من المجتمع الأمريكي. وهكذا نجد أن كل البلدان الغربية تعطي لنفسها الأسلاف والأجداد الذين تختارهم شعوبها. وتمثل هذا الأسلاف رموز الهوية الوطنية وذلك بتجنيد القوى الإجتماعية حولها. إن سربيا كثيرا ما تجعل أبطال معركة كوسوفو مرجعا لها (1389) حيث أدى النزاع مع مسلمين البوسنة إلى إحياء النعرة العرقية من جديد. إن كل الدول الغربية تحاول أن تواجه منذ العهد القديم تحديين : إدراك التأخر بالنسبة للتطور وتأكيد فرديتها بتجنيد قوى المجتمع بأسره حول رموز الهوية الوطنية.
وقد يكون من المفيد في هذا المقام أن نشير إلى كلمة شعب كما وردت في لسان العرب. إن الشعب هو ما تشعب من قبائل العرب، والشعب : القبائل إذن يمكن أن نستخلص منها أنها تعني أكبر الوحدات البشرية تكوينا وأنها ترمز إلى الكل أو المجموع، وعلى هذا الأساس يمكن النظر إلى الشعب باعتباره مجموع الناس بطبقاتهم المختلفة سواء أكانت إثنية أو مهنية أو دينية، إن كلمة الشعب لا تستخدم في الدراسات الأثنوغرافية لتعني الطبقة المدنية مقابل الطبقة الحاكمة كما هو شائع في السياسة والإعلام. وكأن الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)عندنا هو الإنسان الذي يرتدي جلبابا أو برنوسا أو عمامة أو عباءة وأن يتردد على مقاهي القرية فقط.
وإذا كان بعض الباحثين يتحفظون في إدماج الطبقة الحاكمة في مجموع الناس فإن ذلك ينطبق فقط على الفترة المعروفة في التاريخ العربي بعصر الإنحطاط حيث شكل الحكام لفترات زمنية طويلة ومتعاقبة طبقة غريبة عن الناس سواء في انتمائها العرقي أو الثقافي. ويرى الباحث موسى الصباغ أن أول معاني الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)هو الإنتشار الذي يعود مصدره إلى التشعب الوارد في لسان العرب. وبما أن الشعوب تمتد في تاريخها إلى جذور عميقة موغلة في القدم والعراقة فإن المعنى الثاني للشعبية هو الخلود. ومن ثم فإن كلمة شعبي عندما نطلقها على الشيء لابدّ أن يتسم بالإنتشار والخلود في المكان والزمان، وعليه فإن ماهية كل جنس أدبي أو فني خاضعة بالضرورة لهذين الملمحين (الإنتشار والخلود) أو بمعنى آخر (التراثية والتداول) وذلك سواء في اللغة أو الدلالة.


وهنا يتحتم علينا أن نقف عند آراء الباحثين الذين عرضوا لمفهوم الشعب بالنسبة للدراسة الشعبية. يقوم الباحث بوحبيب بتحليل دلالي لتسمية (أدبي – شعبي) ويرى أنه إذا كانت صفة الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)تشير إلى كيان اجتماعي وسياسي وثقافي (الشعب) فإن هذا الوصف يمكن أن يقصد به ثلاثة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)احتمالات :
- أدب أنتج من أجل الشعب بصفته قارئا أو متلقيا للأدب.
- أدب يتحدث عن الشعب موضوع للأدب
- أدب أنتجه الشعب ذات جماعية مبدعة.
1/- إن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الذي ينتج من أجل الشعب قد ينطبق على أدب المؤسسات وأدب التجمعات معا.
2/- الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الذي يتحدث عن الشعب يشمل كل الآثار أو الأشكال التي تعالج السلوك الجماعي وهذا مالا يقبل التصنيف في خانة واحدة.
3/- ويطرح الإحتمال الثالث أشكالا منهجيا : الشعب شخصية معنوية مجردة من الملامح بينما الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)عملية ابداعية فردية أصلا فكيف يكون الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)من انتاج جماعة غير محددة في الزمان والمكان نجد منهم من وسع رقعة الجماعة الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)بحيث شملت الشعب كله في مستوياته الثقافية والإجتماعية المختلفة.
ميز بعض الباحثين ومنهم نبيلة ابراهيم بين معنى الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)في التعبير الفني ومعنى اصطلاح الشعب عندما نتحدث عن الشعب الجزائري (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)مثلا فإنما نعني كل فرد مهما كانت درجة مستواه العلمي أو الإجتماعي ولكن عندما ننطق بعبارة الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)أو التراث الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)أو الموروث الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)فإننا نكون على وعي تام بأننا نعني نتاج جماعة بعينها وليس الشعب بأسره.
فماهي هذه الجماعة ؟ ولماذا أصبحت موضوعا للدراسة دون غيرها ؟......
إن كل فرد من الشعب الواحد يحتوي في سلوكه على قدر من الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)ولهذا ينبغي أن يكون الحس الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)مقياسا بدلا من الجماعة الشعبية.
ومن الباحثين من حصر الجماعة الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)في الإهتمامات النفسية المشتركة وإن تكن متفرقة ولا تجمعها مساحة محددة من الأرض، ويذهب أصحاب هذا الرأي الثاني أن التعبير الأدبي لا ينبثق عن جماعات مشتة ومتباينة وإن جمعها الإقليم واللغة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)والدين والتاريخ. إن أفراد هذه الجماعة يتقاربون فكريا واجتماعيا فضلا عن العناصر الحضارية العامة، وإن لم تجمع بينهم مساحة جغرافية محددة، ومنهم من قصرها على الجماعة المرتبطة برقعة محددة من الأرض الأم وجمع بين أفرادها عادات وتقاليد ومعتقدات، وتشمل الفلاحين والعمال والصيادين والبدو.
إن النمط الأول من الجماعة يستخدم أفرادها أشكال التعبير الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)بدرجات متفاوتة سواء في النوع أو في الدرجة، أما الجماعة الثانية وإن جمع بينها السلوك الفكري فإنها لا تعد حاملة لكل أشكال التعبير الشعبي. وتحتفظ الجماعة الثالثة بحصيلة هائلة من أشكال التعبير بحيث نلجأ إليها لجمع المادة ولذلك ترى أنه من الضروري تحديد خصائصها، تحدد الباحثة نبيلة ابراهيم هذه الخصائص فيما يلي :
1- ترتبط الجماعة الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)بالأرض القديمة التي احتوت تراث قرون وتعيش بإحساس بوحدة الحياة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)وتداخل الواقع مع الغيب.
2- الإحساس بالقدسية بالنسبة إلى مفهوم المكان وتشيد فيه رموزا للقدسية كالجامع أو الكنيسة أو الضريح، أما المكان الآخر غير الخاضع لمراقبتها فهو يقف معارضا للمكان الأول من حيث يصبح مأوى للمخلوقات الوهمية والغيبية، كما تعيش في الزمن المطلق ومن هنا الإحساس بالصلة الوثيقة بين الأحياء والأموات وتزور الأموات في قبورهم في المواسم والأعياد، ولذلك تحرص على إحياء احتفالاتها بصفة دورية، وتزحزح الشخوص التاريخية من الواقع إلى الخيال أو المثال حيث تقترب من البطولة الأسطورية.
3- ترتبط هذه الجماعة بالطبيعة سواء بالنبات أو الحيوان أو الطير وبجميع مظاهر الطبيعة.
ومن جهة أخرى يرى بعض النقاد أن التعبير الشفاهي (Littérature Orale) المستخدم في فرنسا يتضمن تناقضا في الكلمات (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)لأن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)(Littérature) مشتق من مصدر (Lettres) ويشير مفهومه بالتحديد إلى عمل مدوّن وليس إلى عمل شفاهي. فهو يؤكد على أولية الكتابي عاى الشفاهي. ولذلك يفضل النقاد استعمال مصطلح التراث الشفاهي Traditions Orales الأكثر غموضا ولكنه خالي من التناقض. ثم لا ينبغي الخلط بين الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)المعبر شعبيا Littérature d’expression populaire بمعنىالذي يعبر عن أفكار الشعب وعواطفه وأخلاقه وبين الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)المنتشر شعبيا Littérature de Diffusion Populaire الموصوف غالبا بالأدب الهامشي، أدب الجوالة سابقا والروايات المسلسلة والروايات البوليسية أو الروايات السوداء، والروايات المصورة، وهو ما أطلق عليه (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الباحث ريشارد هو قار تسمية (ثقافة الفقير Culture du pauvre) إن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)المعبر شعبيا يكتسب صفته الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)بالتعبير في حين أن الرواية الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)على سبيل المثال Roman Populaire يتوقف انتشارها بين الشعب على الغاية والمقصد والمصير La destination.
كما يستخدم النقاد في فرنسا مصطلح para littérature شبه الأدب، وهو الإنتاج المطبوع الذي يدرج خارج الأدب، وقد أطلق العلماء هذه التسمية على هذا الصنف من الإنتاج خلال الملتقى (حوار حول شبه الأدب) في سيريزي سنة 1967.
إن هذا المصطلح يترجم العلاقة الغامضة التي تربط هذا الإنتاج بالمؤسسات الأدبية. ويزعم بعض الباحثين أن شبه الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)موجه للشرائح الإجتماعية التي تعيش على هامش التبادلات الثقافية المهيمنة، ويحيل هذا المصطلح إلى التمييز بين المتعلمين أو المثقفين من جهة والمحرومين من التفكير العلمي وروح النقد والقدرة على إصدار حكم على عمل أدبي أو فني من جهة أخرى، ولكن شبه الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)ليس أسلوب تعبير جماعة محددة ولا يعبر عن قيم طبقة أو زمرة من القراء خاصة، إن شبه الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)إنتاج يرمي
إلى إقامة رباط مباشر مع الجمهور. وقد وضع الإنجليز القدامى نظاما تدريجيا يتكون من مستويات عديدة :
- الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)النخبوي Littérature Higt Brow
- الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)المسلي littérature Middle Brow
- الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الخالص Littérature Low Brow
نلاحظ أن هذا التمييز بين عدد من أساليب الإنتاج يجرى الإنفصال فيه بواسطة طبيعة الأعمال الأدبية بدلا من التركيب الإجتماعي للجمهور، إن شبه الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)مجسد في الصحافة والإذاعة والتلفزة والمجلات حيث تنتقل قصص شبه الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)وإشكاله وشخصياته من المطبوع إلى الصورة ومن الصورة إلى المطبوع.
هل الشعب اليوم هو الفلاحون الذين درسهم جريم في بدايات القرن 19 وهل يدخل معهم (مع الفلاحين) الأميون الذين درسهم علماء الأنتروبولوجية وكانوا قبل معرفتهم الكتابة يتناقلون معارفهم عن طريق الكلمة المنطوقة ؟ أو أنهم هؤلاء الناس الذين يتجردون من الفولكلور (التراث) لأنهم يفتقدون التقاليد الفنية أو الأدبية كما ذكر ذلك (اكسندر كراب) أو لأنهم يفتقدون الطبقة المثقفة كما ذكر (ريتشارد دورسون) هل يتضمن مفهوم الشعب الناس في المجتمعات الصناعية والمدنية أو أن هؤلاء الناس يفتقدون المادة الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)(الفولكلور) (التراث) من هو الشعب إذن ؟
إن هذه القضية في غاية الأهمية في الدراسات الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)يرى 'الآن دندس) أن بعض علماء الفولكلور لا يزالون يربطون – خطأ- بين الشعب ومجتمع الفلاحين أو المجموعات الريفية. إذا قبلنا أو سلمنا بهذا المفهوم الضيق للشعب كان علينا عند التعريف أن ننتهي إلى أن الناس الذين يسكنون المدينة أو المركز الحضري لم يكونوا يوما من الشعب أو أنهم أصبحوا يشكلون مجتمعا خارج نطاق الشعب أوأنهم ليس لهم فولكلور.
يرى (تومز) عندما صاغ لأول مرة مصطلح الفولكلور أن الشعب يصبح هو ذلك (الجزء من السكان الذي احتفظ بالعادات وآداب اللياقة القديمة) أي الفلاحين وأهل الريف وهذا المفهوم للشعب هو الذي دفع (اندرولانج) إلى تعريف الفولكلور بأنه (دراسة الرواسب أو الموروثات الثقافية) ويذهب (ردفيلد) إلى أن الشعب (جماعة محافظة ملتزمة بالقديم) وأن مصطلح الشعب يشمل الفلاحين والأجلاف الذين لا يعتمدون على المدينة اعتمادا كاملا. أما (أودم) فيري أن الشعب يعني (جماعة تاريخية يرتبط أفرادها بتراث مشترك وشعور خاص بالتعاطف قائم على خلفية مشتركة)

ويعرف (بتش) الشعب معتمدا على التمييز بين هؤلاء الذين يغلب عليهم الجانب العاطفي في تفكيرهم وممارستهم للحياة وبين هؤلاء الذين تسيطر عليهم العقلانية والمنطقية فيقول (إننا نفهم من كلمة FOLK ذلك الحشد الكبير من أولئك الذين تتميز حياتهم الداخلية بصفة عامة بمشاعر حادة وخيال حي، في حين نجد في دنيا المتعلمين أن التفكير المنطقي هو المسيطر فعلا أو ينبغي أن يكون كذلك.)
والشعب عند (فايس) نوع من السلوك الذي يساهم كل فرد فيه بنصيب وهو عبارة عن موقف عقلي وروحي يحدده التراث والمجتمع.
ويدل الشعب في المفهوم الأثنولوجي على (العامة من الناس الذين يشتركون في رصيد أساسي من التراث القديم)
- حاول الكاتبان (لاكور) و(سافارد) أن يحددا مفهوم الشعب فذهبا إلى أن الشعب لا يعرفه الباحث بموطن السكن أو بالعادات أو بالفقر والغنى أو الطبقة الإجتماعية أو باستعمال السياسيين، لا ينبغي أن نميز بين الريفي والحضري أو بين العامل والبرجوازي، بل يجب البحث (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)عن الشعب التلقائي والمادة هي كل ما تنتجه العبقرية الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)من أفكار وعادات ومشاعر وخلق وابتكار... إنها كل ما يعبر عن أصالة الشعب عن طريق المثل أو المحاكاة وكل ما تفجره طبيعة الشعوب عن تجارب في كل لحظة.
إن الكاتبين يقولان "إننا لانستطيع أن نجد الشعب في أي مكان بل إن الشعب يتحدد وجوده تبعا لعوامل جغرافية أو اجتماعية محددة. فالشعب يجب أن يكون مختلفا عن الخاصة كما أن الفوكلور مختلف عن مأثورات الطبقات العليا وتراثها. ومهمة دارس الفةلكلور هي أن يتعرف على العبقرية الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)من خلال المأثورات الجماعية المجهولة المؤلف التي تعبر عن الحاجات الروحية والمادية للإنسان الشعبي.
ولعلنا نلاحظ من استقراء هاتين العبارتين أنهما يريان أن الإهتمام الرئيسي لدارس الفولكلور يجب أن يكون (الشعب) الذي يعتبر جزءا من السكان بالإضافة إلى الموروثات الشفاهية المجهولة المؤلف الجماعية.
لقد استخدم المؤلفان تعبيرات مثل (شعب تلقائي) (العبقرية الشعبية) (الطبيعة الشعبية) (الماثور الجماعي) (المجهول المؤلف) وهي كلها تعبيرات ذات طابع رومانسي لعلهما متأثران بمثاليات هردر وشلينج والأخوين جريم إذ تظهر عند هؤلاء الرومانسيين صورة هؤلاء الناس التلقائيين الذين يبدعون الشعر والأغاني والحكايات. كما أنهم تحدثوا أيضا عن التدفق الشعري الأصيل في الطبيعة الإنسانية، المجهول الأصل الذي يعود إلى بداية التاريخ واستمر حيا من خلال الشعب حتى اليوم، إن علماء الفولكلور الفرنسيين مازالوا متأثرين بهذه الأفكار وينظرون إلى الفولكلور على أنه عمل فني محض لم تزيفه المدنية والكتب وأنه مؤلف من قبل الجماعة. وهكذا فإن المؤلفين (لاكورسيير وسافارد) تأثرا بالنظرية الرومانسية.
لقد ناقش هانري دافنسون) مؤلف "كتاب الأغاني Le livre de chansons 1965 P 39-40"
المشكلة من ناحية احتمال وجود مثل هذا الشعب من وجهة نظر الأمة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الفرنسية، فهو يرى أن هذا المفهوم إذا كان صحيحيا .، فإنه يجب أن يكون هناك جزء من الأمة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)قد انفصل تماما عن (الخاصة) وأن هذا الجزء يفترض أنه مكون من أفراد أميين لا يعرفون القراءة والكتابة وفي استطاعتهم تطوير ثقافة جمالية خاصة بهم، وأن الباحثين إذا ذهبوا لدراسة هؤلاء الناس فإنهم سيجدون مواد كثيرة تناسب غرضهم ولكنهم سيجدون أيضا أن بعضا من انتاجهم يجب أن يستبعد لأن مؤلفيه معروفون في حين أن ذلك ليس صحيحا، فالمجتمعات الحديثة لم تعد تعرف تلك الطبقة أو الجماعة المعزولة عن بقية الشعب بحيث لا تؤثر فيه ولا تتأثر به، فالمدرسة والراديو والجرائد تنقل إلى كل إنسان تقريبا في أي مجتمع المعلومات والمعارف المختلفة.
إن المؤلفين (لاكور سييروسافارد) يوحيان بأنهما لم يكونا مهتمين بهذا المفهوم عن الشعب، فهو ليس الأفراد ولا الجماعات أو المجتمعات ولكنه آثار جمالية موجودة في بعض الأفراد، وتتبعا بعض الأغاني والحكايات القديمة التي اعتقدا أنهما تحتوي على قيمة أدبية كبيرة، هذه الحكايات والأغاني يمكن أن توجد كما يقولان في أي مكان وبين أي فئة من فئات المجتمع، وبدلا من جمعها حيثما وجدت ودراستها ذهبا إلى الميدان تحت تأثير بعض أفكار الرومانسيين الألمان ونسبا كل المضامين للأفراد الذين أمدوهم ببعض آثار الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)وهكذا قسما المجتمع إلى قسمين :
· الأول : الشعب وهو على السبيل المثال الأفراد الذين يعرفون بعض الأغاني والحكايات والأمثال وما إلى ذلك التي يتذكرونها من الماضي البعيد.
· الثاني : الخاصة وهم أصحاب الثقافة الرفيعة المتعلمة من الكتب.
الحقيقة أن المعرفة أو الجهل ببعض الأغاني والحكايات لا تصلح اساسا معقولا أو مقوما صالحا لتمييز مجموعة من الأفراد على أنهم شعب أو لبناء دراسة علمية. فالإختلافات بين الأفراد والجماعات من وجهة نظر علماء الإجتماع والأنثربولوجيا تأتي من أنهم نتاج بناء اجتماعي يتضمن أشياء كثيرة ويتأثر بدرجة التغير الثقافي الذي ينعكس على الأفراد والجماعات، إن الدراسة التي تنتخب بشكل عشوائي عناصر معينة من ثقافة مجموعة واحدة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)قد تصلح كأساس لدراسة أدبية أو غير ذلك ولكنها لا تستطيع أن تدعى القدرة على شرح أو وصف العبقرية الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)(Génie Populaire) لمجموعة أو مجتمع (أو الإصالة الشعبية) (l’authenticité Populaire) إن الفلاحين مثلا أكثر قدرة من غيرهم أن يحتفظوا لمدة أطول بالعادات والأغاني والحكايات وغيرها وأن يتذكروا أكثر من الذين يسكنون المدن حيث تنشأ أشياء جديدة كل يوم.
إن ما يحتفظ به الفلاحون ليس ملكا لهم وحدهم، فهم يشتركون فيه مع غيرهم من الناس ، فقد نجد أغنية كانت شائعة في مدينة الجزائر العاصمة في الأربعينات أو الخمسينات أو الستينات وما تزال تتردد في بعض القرى حتى اليوم فلا تشير إلى أنها من صنع الفلاحين الذين يغنونها حاليا ولذلك لا يمكن أن نستنتج منها عن العبقرية الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)للجماعة التي تنتمي إليها المغنية أو المغني، إن الأغنية التي ترددها قروية من المدينة في الراديو أو التلفزيون ليس دليلا على وجود اختلافات جوهرية بين الأفراد، إن الفرق (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)يمكن أن يوجد بين الأغاني المختلفة نفسها وليس بين الناس الذين يغنون، وقد يقول أحدنا أن الأغنية التي كانت شائعة في الربعينات ليست فولكلورا وليست قديمة قدما كافيا من هم إذن المبدعون لهذه الأشكال المجهولة الأصل ؟ هل أبدعها الشعب ؟ هل أبدعها المتعلمون ؟
وإذا سلمنا مع المؤلفين الرومانسيين بأن هذا الفولكلور هو تراث الأفراد الذين لم تدنسهم الكتابة أو التعليم وأن أشكال التعبير التي كانت الطبقات الإجتماعية الدنيا طوال التاريخ تعبر بها عن نفسها قد ظلت بعيدة عن الخاصة مجهولة، هل الحال كان كذلك دائما ؟

أجاب (لورد راجلان Lord Raglan ) و (تشارلس لويس Charles Lewis) (والبرت دوزات Albert Dauzat) بالنفي وأكدوا أن هذه الأشكال يمكن ان يكون الخاصة قد اشتركوا في ابداعها وتداولتها في الفترة نفسها، لا ينبغي أن يكون فرد على قدر من الموهبة والعلم بهذا الشكل وأسلوب تكوينه لكي يبدع مما يجعله يختلف عن غيره في المجتمع.
إن مصطلح الشعب يمكن أن يشير كما يرى (الآن دندس) إلى مجموعة من الناس تشترك في عامل واحد مشترك على الأقل، وليس من المهم في هذه الحالة ما إذا كان هذا العامل الذي يربطها عامل مشترك أو مهنة مشتركة أو دين واحد ولكن المهم أن يكون أفراد المجموعة مرتبطين مع بعضهم البعض بقدر من التقاليد والموروثات التي يعتبرونها خاصة بهم وتتيح لهم أن تكون لهم حياة شعبية.
وتذهب إحدى النظريات إلى أن المجموعة يجب أن تتضمن على الأقل شخصين، ولكن الحقيقة أن معظم المجموعات تتكون من كثير من الأفراد. وقد لا يعرف عضو المجموعة كل الأعضاء الآخرين ولكن المرجع أنه يعرف الجوهر المشترك للتراث الخاص بالجماعة، والتقاليد التي تساعد هذه الجماعة على أن يكون عندها الإحساس بذاتية معينة خاصة بها ومن ثم فإذا كانت الجماعة تتألف من الصيادين أو الفلاحين أو أعمال البناء فإن الفولكلور سيكون من إنتاجهم.
ويمكن أن يشكل طلاب الجامعة في هذه الحالة جماعة لها فولكلورها الخاص بها الذي يعبر عن الحياة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الجامعية وعاداتها وتقاليدها ونظرة الطلاب إليها.
وعلى الرغم من أن الرأي الذي ذهب إليه (آلان دندس) قريب من الصواب إلا أننا ينبغي أن نشير إلى أن الجماعات المختلفة سواء أطلقنا عليها إسم الشعب أو جماعة شعبية لا يعني أن هذه الجماعات تستقل بنفسها عن غيرها من الجماعات التي تكون المجتمع بل أنها تشترك مع بعضها البعض في عناصر كثيرة أثمرها التفاعل المستمر والتأثير والتأثر المتبادل بينها جميعا ويبدو منصهرا في ثقافة شعبية واحدة.
ويرى (جيرامب) في مقال له عنوانه (ماهو الفوكسكندة) أن روح الشعب التي كثر استعمالها تعني تجاربه الداخلية وهو يعني هنا التجارب الجماعية وليس الفردية، والشعب يستعين بالأسطورة والحكاية واللغز والمثل والأغنية والشعر والسيرة للتعبير عن هذه التجارب والخبرات التي تكشف عن هذه التجارب معتقداته وتقاليده وعاداته وأعرافه وقيمه.
عرف (جيرامب) الشعب بأنه تلك الجماعة العضوية التي تشترك معا في تكوين الحضارة، وهذه الجماعة ليست من وجهة نظر الأمة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)جميعها، ولكنها تلك الجماعة التي تنشأ في الأرض الأم وترتبط بها ارتباطا قويا، مما يجعلها تعيش في شكل وحدة عضوية متماسكة.
وفي عام 1946 صدر كتاب رائد للباحث (ريتشارد فايس) تحت عنوان "الدراسات الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)السويسرية" وعلى الرغم من أن هذا الكتاب يختص بدراسة التراث الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)السويسري فإنه أحدث صدى كبيرا لما يحتوي عليه (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)من دراسات نظرية على جانب كبير من الأهمية، وقد عارض فيه اختصاص الدراسات الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)بطبقة بعينها دون الأخرى، وذلك أن كل فرد من وجهة نظره ينتمي من ناحية السلوك الروحي إلى ما هو شعبي وما هو فردي معا بمعنى أن (فايس) لا يبحث عن الشعب من ناحية تكوينه الإجتماعي بل من ناحية سلوكه الروحي، ومن ثم يمكن أن يكون كل فرد موضوعا للدراسات الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)بناء على درجة الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)في تكوينه الروحي والفكري ومقياس هذه الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)يتحدد بدرجة ارتباط الفرد بمجتمعه وتراثه.
إن مدرسة النقد الإجتماعي الماركسي يعطي للنعوت (حكاية شعبية/تراث شعبي/خيال شعبي) معنى طبقيا يقوم على المفهوم الإجتماعي لكلمة "شعب" وكأن وظيفة التراث الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)أو الثقافة الشعبية/ محصورة في التعبير عن الصراع الطبقي، بين الجماهير العاملة والفئة الحاكمة، إن كتاب باكتين Bakhtine يتوخى هذه الطريقة في تأويل ظاهرة الكرنفال في التراث الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الغربي، وقد غاب على ذهن المؤلف أن الحفلة الكرنفالية (La fête carnavalesque) حفلة جماعية تشارك فيها كل الأصناف الإجتماعية دون تمييز.
تجاه هذه الأبعاد فإن المشكلة العويصة المطروحة بإلحاح شديد هي التي تمثل أساسا في تعريف الواقع، ماهو الواقع ؟ ماهي عناصره أو مكوناته ؟ هل على سبيل المثال يمكن أن نعتبر المعتقدات والخرافات والخوارق والقوى الغيبية جزءا من الواقع وعل أي مستوى ؟
وبعبارة أخرى هل يمكن استبعاد وحذف من تصورنا للواقع التأثيرات الحقيقية بسبب أنها تبدو لنا مشبوهة في ملاحظتنا النقدية، أن الناقد أو الأديب الكلاسيكي لن يقبل بسهولة مثل هذا التعريف للواقع. بل سيرفض الحكايات الخيالية وسيتردد من ادماج الطقوس السحرية والدينية بوصفها عنصرا مكونا للأدب ويفضل عند اللزوم أن يخصص لها فصلا خاصا يتضمن المظاهر الزخرفية والغريبة، ونستنتج مما سبق أنه هناك أبعادا مختلفة للواقع وطرقا عديدة للتحليل وتفاعل القوى الحاسمة لأفكارنا ونشاطاتنا بشكل مخالف، ولعل السبب العميق يتمثل في الإختلافات المتنوعة المتصلة بتصورات المجتمعات المتعددة، إذ نلمس فرقا شاسعا على سبيل المثال بين التصور الغربي العقلاني الفاقد لصفة القداسة وبين التصور الثقافي الإفريقي الذي يؤمن بالقوى الحيوية في الحياة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)اليومية.
إن الخروج عن المألوف ماهو إلا قراءة بطريقة خاصة للواقع، إن العجز عن تحقيق الرغبات والإنشغالات يؤدي بالمبدع إلى اللجوء إلى الخيال فالرموز والسحر والغرابة تعبير عن حرمان اجتماعي يهدف إلى إعادة النظام إلى أصله والتوازن في الإنسان.
يلاحظ رومان جاكوبسون أن في كل تركيب نحوي يوجد عنصر أساسي ينظم ويحول العناصر الأخرى ويضمن تكاملية البنية. فهو يطلق إسم الخاصة الغالبة Dominante على المبدأ الذي يحكم في كل رسالة لفظية. وفي شبه الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)تثبت الخاصة الغالبة داخل كل جنس أو شكل وتحدد وتوضح خصوصيته، إن رواية شبه الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)لا يتوقف سوى على سلطة الخاصة الغالبة التي تمتص مجموع الدلالة وتؤثر في كل شخصية وكل حدث أو فعل وتمنحهم جميعا مكانه ووظيفته، وعلى سبيل المثال نجد الخاصة الغالبة في الرواية البولسية تتمثل في اللغز والتحقيق وتنحصر بالنسبة للرواية الخيالية في المفهوم أو المتخيل. وتتمثل الخاصة الغالبة فيما يتعلق بالرواية الجاسوسية في الأسرار والأخبار والعدو الخارجي، إلا أن الخاصة الغالبة غير كافية لأعداد تصنيفة Typologie متعلقة بمجموعات شبه الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)ولذلك يجب الأخذ بالإعتبار المعطيات الفضائية والزمانية.
ومن هنا نستطيع أن نحدد مجموعة من الصفات التي تميز الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)عن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الشعبي.
وقد حصر الباحث محمود ذهني هذه الصفات فيما يلي :
1- يستخدم الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)اللهجة المحلية التي تحررت من الأعراب ولهذا أطلق عليه (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)صفى الدين الحلي إسم الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العاطل ووصفه بأن إعرابه لحن وفصاحته لكن وقوة لفظه وهن لذلك فإن ورود ألفاظ فصيحة أو معربة في الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)يعتبر عيبا بنفس القدر الذي يعتبر ورود ألفاظ عامية في الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)المدرسي نقصا فادحا، ومن هنا فإن لغة الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)لاترقى إلى التعبير عن الفكر إذ نجدها مختصرة يصعب كتابة أصواتها غالبا وتختلف في دلالة كثير من مفرداتها. إن كلمة (بز) تعني في الغرب الجزائري (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الطفل الصغير وفي الشرق تعني عند البعض الصغير الطائش وعند البعض الآخر صفة للشتم بمعنى لقيط. إن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)يتوسل بالكلمة ولكنها غير كافية للتعبير عن الغاية لذلك يستعين بالحركة التمثيلية والإشارية (حركة اليد، العين، الرأس).
2- يقتصر الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)على البيئة المحلية ويعبر عن احتياجات الإنسان فيها.
3- يعبر الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)عن اهتمامات محصورة في نطاق أصحابها دون أن يستطيع التطرق إلى القضية الإنسانية العامة أو انشغالات الجماهير الواسعة.
4- يتناول الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)موضوعات الساعة ولهذا يكاد يكون أدبا موسميا لا يعيش إلا في حدود المشكلة التي يعالجها، فإذا ما انتهت المشكلة فقد هذا الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)جانبا كبيرا من قيمته، فهو من حيث هذه الخاصية أقرب ما يكون شبيها بالرسوم الكاريكاتورية التي تكن قوية التأثير وقت ظهورها المرتبط بحدث معين فإذا مر الزمن على هذا الحدث فقدت قيمتها.
5- وبما أن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)محصور في نطاق إقليم ضيق يكون دائما معروف القائل منسوبا إلى صاحبه في حدود المكان والزمان بعكس الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الذي ينتسب إلى فرد هو أول من أوجده ولكن دوامه يدل على تداوله بين الشعب.
6- يعتمد الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)على صوتيات الكلام ولذلك يتجه إلى الموسيقى كعامل مساعد، ولذلك كانت معظم ألوانه منظومة. قدم صفى الدين الحلى دراسة كاملة عن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)يقول "ومجموع فنونه عند سائر المحققين سبعة فنون لا اختلاف في عددها بين أهل البلاد وإنما الإختلاف بين المغاربة والمشارقة فنين منها، والسبعة المذكورة هي عند أهل المغرب ومصر (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)والشام : الشعر القريض والموشح والدوبيت والزجل والمواليا والكان كان والحماق".
7- يتوقف الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)على فن الغناء فأصبح لا يصل إلى الناس إلا بواسطة الأغنية وصار الزجال يطلق عليه (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)لقب الشاعر الغناي، إن الغناء الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)أسبق الفنون إلى الظهور ولاسيما الغناء الجماعي الذي استخدمه البدائيون في الحرب والسلم معا .وفي بث روح التماسك بين أفراد القبيلة في مواجهة الخطر الخارجي أو من الحيوانات أو من الطبيعة وكذلك في المراسم والطقوس الدينية، وقد أدى فن الغناء بالأدب العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)إلى فقدان ذاتيته. وتعد الأغنية النموذج المفضل لتوضيح حدود الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)والأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)وبيان رواج نصوصهما الغنائية. يرى الباحث محمد (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)عيلان أن مسميات الأغنية تتعدد في الأدبين العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)والشعبي، فقد تنسب إلى المكان مثل أغنية أوراسية، أغنية صحراوية، أو تنسب إلى القبائل والأعراش مثل أغنية قبائلية، ترقية، سوفية أو إلى أفراد لهم قدسيتهم في ذهن العامة أمواتا أو أحياء كالأولياء الصالحين وهو نوع من الغناء الروحاني الصوفي يعد من آثار تمجيد السلف والتعلق بسلوكه وطقوسه وقد تنسب الأغنية إلى الأحداث مثل أغنية ثورة التحرير(يا أمي لا تبكي علي)، وقد تنسب إلى الزمن دون تحديد كقولهم أغاني عصرية أغاني عام الشر، عام الروز، عام الماريكان وهي الأغاني التي تعبر عن أحداث وقعت أثناء الحربين العالميتين، وهي معروفة بالشرق الجزائري، وقد تنسب إلى علم معروف فيقال أغنية فولكلورية نسبة إلى الفولكلور الذي يطلق أحيانا على المادة موضوع الدراسة وأحيانا أخرى على العلم الذي يدرسها بأدواته ومناهجه، تندرج أغاني الحاج رابح درياسة أو عبد الحميد عبابسة وخليفي أحمد ضمن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)لأنها تستمد مادتها من الشعر الملحون، بينما تعد أغاني (مول الشاش) و(أسا نزها) أو (صب الرشراش) وأغاني الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العاصمي الذي طوره المرحوم الحاج محمد (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العنقاء وبعض الشيوخ الآخرين من الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي.
وهناك من الأغاني المعروفة في الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)باسم الراي، والرأي أصلا من بكائيات الأندلس فهو لحن لأغاني الندب لأن الأندلسيين الفارين من بلادهم التي استرجعها الإسبان والذين نزل بعض منهم بمنطقة الغرب الجزائري (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)كانوا يبكون مدنهم بقولهم (ياراي ياراي لو أنك كذا) وفي مجال الأغنية العامية يمكن أن نشيد بالمرحوم دحمان الحراشي الذي استطاع أن يطور الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)وينقله إلى مستوى الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)ويتجاوز الحدود ومثال ذلك (يا رايح وين مسافر).
وينفرد الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)بأن يكون أكثر أداء للأغنية المقاومة، أما الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)بالنسبة للباحث محمد (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الفاسي في البلاد العربية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)فإنه نقصد به قبل كل شيء ما قيل من نثر أو شعر باللغة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)القريبة من الفصحى سواء عرف قائله أو كان مجهولا ومن أشكاله السير الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)والملاحم والقصص والخرافات والأساطير والألغاز والأمثال والنوادر ونداءات الباعة والنكت والأغاني والأذكار والشعر الصوفي والحكم.
أما عند الغرب فإن الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)يطلق على الخصوص على ما يروج بين الناس من أجناس دون أن يعرف القائل أو ما ألف بخصوص طبقات الشعب التي ليست لها ثقافة تؤهلها لتذوق الإنتاجات الأدبية لكبار الكتاب والشعراء وتفهمها. ويطلق من جهة ثالثة كذلك على المؤلفات التي تتعرض لوصف الأحوال الإجتماعية لطبقات الشعب العامة، وبما أن اللغة العامية عند أهل الغرب ليست بعيدة عن لغة الكتابة فإن الإنتاجات الأدبية الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)ضعيفة .
وتوجد ظاهرة مشتركة بين الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)والأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)وهي أن هناك من الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)العامي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)ما يتحول إلى أدب شعبي وكذلك يتحول الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15424)إلى أدب عامي ويخضع كل منهما في الإنتقال من مرحلة إلى أخرى لعملية التغيير تجعله قادرا على التعبير عن الرغبات الفنية للجمهور.

**د لا ل**
2012-11-29, 22:28
مناهـــــج دراســـــة الفولكلور

يتمثل هدف علم الفولكلور في دراسة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الجوانب المادية والروحية عند الشعوب، ويعود السبيل إلى ذلك إلى الظروف التاريخية والإجتماعية التي مرّ بها هذا العلم وتنوع موضوعاته والخلفيات الثقافية لرواده. ومن هنا تعددت النظريات واختلفت الإتجاهات والمذاهب ثم تركزت هذه الأبحاث مع مرور الزمن واعتمدت على مناهج واضحة.
ويعتمد علم الفولكلورعلى مجموعة من المناهج الأساسية هي : المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)التاريخي والجغرافي والإجتماعي والنفسي والوظيفي والبنائي وقد ساعدت كل منها على تفسير العلاقات القائمة بين الشعب والثقافة الشعبية.

1- المنهج التاريخي :

يعتبر المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)التاريخي أقدم مناهج الفولكلور لأنه ارتبط منذ بدايته بالدراسات الأدبية واللغوية. ويقوم هذا المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)على الكشف عن أصول النصوص الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)وتحديد علاقاتها بالظروف التاريخية التي مرت عليها من خلال تبادل الثقافات المختلفة، ويساعد هذا المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)على معرفة مظاهر الإتفاق والإختلاف بين النصوص الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)في المراحل الزمنية المتعاقبة من أجل الوصول إلى فهم التطور الذي قطعته عناصر الفولكلور، والتعرف على العوامل المحلية والأجنبية التي أدت دورا هاما في تشكيل (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)المادة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)في مرحلة محددة، ومن هنا يفيد هذا المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)في إجلاء الغموض (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الذي تتعرض إليه عناصر الفولكلور، ولكن الغلو في استعمال هذا المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)قد يجر الباحث إلى الخوض في مشكلات فرعية، ولذلك اعتبر علماء الفولكلور الجمع بين النظرة التاريخية والنظرة الجغرافية ضرورة ملحة.


2- المنهج الجغرافي :

تعتبر النظرة الجغرافية قديمة وماثلة في مختلف مراحل تطور العلم واستطاعت اليوم أن تبلغ قدرا وافرا من الدقة. إذا كان المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)التاريخي يسعى إلى تحديد البعد الزماني للظاهرة الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)فإن المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الجغرافي يهتم أساسا ببعدها المكاني.
يتوقف تنظيم البيئة على الموقع الجغرافي الذي يثير بدوره عند الجماعة كثيرا من الإحتياجات البشرية ويعمل على اشباعها. وتنحدر أو تتشكل عناصر الفولكلور طبقا لهذه الإحتياجات، ويظهر هذا المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الجغرافي إذن في ارتباط عناصر الفولكلور بالظروف الجيولوجية والمناخية والإقتصادية...إلخ وتختلف علاقة عناصر الفولكلور بالبيئة الطبيعية من حيث الضعف والقوة. إن الصلة القائمة بين بعض عناصر التراث (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الشعبي والظروف الجغرافية محدودة كالأغاني والأمثال والألغاز والحكايات الخرافية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)والأعمال الدرامية الشعبية، بينما تظهر أهمية المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الجغرافي في الجانب المادي من الفولكلور إذ يتعذر دراسة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)أدوات النشاط الزراعي والحرفي إلا في نطاق البيئة المحلية.
يجب ألا تبالغ في تقرير أثر الموقع الجغرافي على تشكيل (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)عناصر الفولكلور وصياغته لأن أكثر النماذج الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)ليست نتاجا طبيعيا وحسب ولكنها وليدة إبداع العقل البشري للإنسان الذي يعيش في المكان.

3- المنهج الإجتماعي :

يسعى المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الإجتماعي إلى دراسة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)ظروف المجتمع وطبيعة العلاقات والنظم الإجتماعية، ويهتم أصحابه بالجماعة التي تحمل الفولكلور باعتباره انعكاسا مباشرا لأساليب حياتها وتفكيرها.
إن تعرض الجماعات الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)إلى التفكك وإعادة ترتيبها بعد أن كانت متميزة بالتماسك والعزلة ظاهرة شائعة في المجتمعات النامية، ومن هنا جاء الإهتمام أكثر بالدراسة الإجتماعية للفلكلور.
يحاول المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الإجتماعي أن يحدد رصيد الطبقات الإجتماعية من الفولكلور بجميع مياديه : الأدب الشعبي، العادات والتقاليد، المعتقدات، الفنون والمنتجات المادية الشعبية، كما يتناول المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الإجتماعي التفاوت القائم بين الجماعات الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)في الريف والمدينة من الفولكلور سواء أكان من حيث الكم أم النوع. ولا يتمثل هذا الإختلاف في رصيد الفئات من عناصر التراث (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الشعبي فقط ولكن في ثراء العناصر الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)أو فقرها ودرجة السلوك الشعبي عند هذه الفئات ويبين المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الإجتماعي الدور الذي تقوم به هذه الجماعات المتنوعة في حمل هذا التراث (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الشعبي وتناقله عبر الأجيال والعمل على الإبداع فيه وتعديله بالحذف والإضافة. كما يهتم بإبراز تميز الفئات أو الطوائف بأنواع من عناصر الفولكلور وذلك من حيث العمر والجنس (الذكور أو الإناث) ويركز المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الإجتماعي كذلك على دراسة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)حركة التراث (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الشعبي داخل البيئة الإجتماعية وتعيين خطوطها العمودية أو الأفقية (من الكبار إلى الأطفال – من أسفل إلى أعلى – من أعلى إلى أسفل ... إلخ) ورصد التغيرات التي تطرأ على المادة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الشعبية. ومن هنا يمكن القول أن مركز الفرد في المجتمع وسلوكه فيه يكشفان عن قوانين ومشكلات إجتماعية هامة، كما تساعد عناصر الفولكلور على تصور أبعاده هذه المشكلات الإجتماعية ومدى تأثيرها على السلوك الفردي.

4- المنهج النفسي :

ارتبط موضوع الأرض الأم بالدراسات النفسية للشعوب، ويعني الباحثون بذلك تلك الأرض التي نشأ عليها الإنسان البدائي بتصوراته ومعتقداته، وتبحث مدرسة علم النفس التركيبي التي يتزعمها يونغ عن العناصر الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)التي تكون اللاشعور الجمعي. وقد أطلق يونغ على هذه الرواسب أو البقايا العقلية البدائية التي تعيش مع الإنسان المتحضر حتى اليوم مصطلح النمط الأصلي، ومن تم تركز المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)النفسي حول الكشف عن التجارب النفسية ذات الطابع الجماعي ومغزاها وعلاقتها بالأصول الأولى للحضارات.
وينصب الحديث (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)عن المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)النفسي في تحديد طبيعة مواد التراث (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الشعبي ودوافع التمسك بها والمستويات المتميزة بها.

1- التحليل السيكولوجي لمواد الفولكلور :

إن الشعب هو موضوع الدراسة في علم الفولكلور وذهب بعض الباحثين، منهم (هوفمان كراير) أن الشعب هو أولئك الناس الذين يتميزون بنوع من الفكر البدائي وبأنهم لا يبتكرون الثقافة وإنما يتداولونها نقلا عن الجماعات أكثر تطورا اجتماعيا وفكريا.
جاء مفهوم (ريتشارد فايس) عن الثقافة التقليدية يؤكد أن في داخل كل إنسان يوجد سلوك رسمي وسلوك شعبي ولذلك يصبح كل إنسان في المجتمع موضوعا للدراسة في علم الفولكلور.
يمكن أن تمثل الأبعاد النفسية إسهاما هاما في فهم الإنسان ولكن الإقتصار عليها يمكن أن تهمل الطبيعة الشاملة للإنسان ومقومات تفرده وتميزه.
حاولت المدرسة الفلندية في ميدان القصص الشعبي أن تربط منهجها التاريخي الجغرافي بنظرة سيكولوجية إلى المادة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الشعبية. ليست الأساطير في نظر بعض رواد هذه المدرسة مجرد حكايات عن الآلهة وحسب وإنما مستودعات التجربة الإنسانية.

2- المصادر النفسية للفلوكلور :

يرتبط اهتمام الدراسة للتراث الشعبي بالعوامل النفسية التي ساهمت في صياغة عناصره التي مازالت تعيش فيها وتؤثرعلى حياتها واستمرارها. إن الموقف النفسي الذي صدر عنه العنصر الشعبي في يوم من الأيام قد لا يكون واضحا عند الإنسان الشعبي في الحاضر وقد ينكر حامل التراث (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الشعبي المعاصر ارتباطه به.
حاول (أدولف باخ) أن يفسر العوامل الأساسية في نشأة عناصر الفولكلور كالحاجة إلى التسلية واللعب. إن الحكاية الخرافية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)في نظره تروى منذ البداية تحت تأثير التسلية. وكان الباحثون القدامى ينظرون إلى أحداثها باعتبارها محاولة لتقليد مختلف الأحداث التي تطرأ على العالم الطبيعي بظواهره المتعددة، وإذا كانت بعض الحكايات الخرافية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)تتضمن بعض التصورات الدينية القديمة فإنها تحتوي مع ذلك بعض الأفكار ذات طبيعة أخرى، حاول البعض تفسير الألغاز باعتبارها رواسب لإختيارات الحكمة القديمة بينما رأى الباحثون الآخرون أن اللغز نشأ منذ العهد القديم تعبيرا عن رغبة الإنسان في اللهو.
ليست جميع العناصر الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)نقلا مباشرا لبعض الأشكال الدينية والسحرية القديمة ولكنها من إبداع الفنان أو الفرد الشعبي العادي. إن المرح وحب الفكاهة والميل إلى اللهو والدعابة من المصادر النفسية لظهور بعض عناصر الفولكلور.

3- المستويات السيكولوجية في الفولكلور :

ينصب الإهتمام هنا على تحديد المستويات السيكولوجية المتنوعة التي يمكن أن تندرج ضمن تراث الشعوب، أو بمعنى آخر تحديد مدى التزام بعض عناصر الفولكلور بأساليب أو خصائص الثقافة الكلاسيكية (التربية والتعليم). وتتناول هذه الدراسة السيكولوجية كذلك السمات البدائية العامة في ثقافة شعب معين، كما تعد العلاقة بين الثقافة والشخصية من ميادين البحث (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)في علم النفس الذي يتناول تأثير الإنسان في الثقافة أو تأثره بها. وما يؤخذ على هذا المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)النفسي عموما هو مغالاة أصحابه في البحث (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)عن أعماق الإنسان الشعبي فتتحول دراسة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الفولكلور إلى سيكولوجية.

المنهج البنائي :

تمثل المدرسة البنائية أبرز النظريات في ميدان العلوم الإجتماعية واللغوية وعلم الفولكلور، وقد حاولت هذه المدرسة أن تطور أسلوبا جديدا في تناول التراث (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الشعبي.
شغلت النظرية البنائية في العصر الحديث (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)كافة فروع المعارف البشرية واعتمدت أساسا على الإحصاء والرسوم البيانية.
ويتعرض هذا المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)في نظر العلماء "لدراسة الشكل بوصفه كلا بعد تحليله إلى عناصره الصغيرة بهدف وضع هذا الشكل في التصنيف المناسب له وعلاقته بالبيئة الحضارية التي يعيش فيها".
إن الأبحاث التي تناولت الأدب الشعبي من خلال المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)البنائي متنوعة ويمكن حصر اتجاهاتها في نوعين : اتجاه فلاديمير بروب واتجاه كلود ليفي شتراوس.
1- بروب والتحليل المورفولوجي للحكايات الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422):
دخل المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)البنائي في الدراسات الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)على يد فلاديمير بروب في كتابه (مورفولوجية الحكايات الخرافية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الروسية) وكان يعني بها تلك الأنماط التي ظهرت في تصنيف (آرن طومسون) من رقم 300 إلى 749، ولما ترجم الكتاب رأى الباحثون أن التحليل (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)المورفولوجي الذي قام به بروب ينطبق على أكبر عدد من القصص الشعبي العالمي.
عرف بروب التحليل (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)المورفولوجي بأنه "وصف للحكايات وفقا لأجزاء محتواها وعلاقة هذه الأجزاء بعضها ببعض ثم علاقتها بالمجموع".
ويهدف اتجاه بروب إلى وصف النظام الشكلي للحكايات الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)وفقا للتتابع الزمني للأحداث. ومعنى هذا أن منهج بروب في التحليل (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)يسير في اتجاه أفقي. وقد أطلق على هذا الإتجاه (تحليل البناء التركيبي)
Analyse structurale Syntagmatique.
درس بروب بناء الحكاية الذي يتكون من مجموعة الأحداث التي تؤدي وظائف (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)مستقلة وينتهي بروب إلى أن بناء الحكاية قائم على وحدات خاصة تتمثل في الأحداث التي تؤلف الثوابت ويمكن التعرف عليها عن طريق الشكل دون المضمون، تتمثل الثوابت عند بروب في الوظائف دون الظروف، ليست الشخصيات وأبعادها وحدات نمطية، إن المهم هو الحدث ووظيفته أما معرفة فاعل الحدث أو وسيلته فإنها لا تدخل في بناء الحكاية.
يبلغ عدد الوحدات الوظيفية (Unités fonctionnelles) التي تسيطر على الحكايات إحدى وثلاثين وإذا كانت هذه الوظائف لا تورد في كل حكاية فإنها لا تخرج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)عن حدودها.
يورد بروب في مقدمة الحكاية قائمة من الوظائف ويرى بروب أن هذه الوظائف السبع مجرد تمهيد.
1- غياب (تغيب أحد أفراد الأسرة عن البيت).
2- تحريم أو منع (تحذير البطل من فعل شيء محدد).
3- ارتكاب المحظور أو انتهاك التحريم (عدم الإستجابة للتحذير).
4- استدلال (يبذل الشرير محاولة للإستدلال أو الإستطلاع).
5- الحصول على معلومات (يتلقى الشرير معلومات عن ضحيته).
6- خداع (يحاول الشرير خداع ضحيته ليأخذ مكانه أو ممتلكاته).
7- مشاركة لا إرادية في الجريمة (وقوع الضحية في الشرك ومساعدتها الشرير دون قصد) تبدأ الحركة الفعلية في الحكاية من الوظيفة الثامنة التي يعتبرها بروب ذات أهمية خاصة.
8- نذالة (يحدث الشرير الضرر بأحد أفراد الأسرة).
9- استدعاء (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)للعون أو اانجدة (التعرف على الضرر وأمر البطل بإصلاحه).
10- إبطال الفعل (قبول البطل إصلاح الضرر).
11- رحيل (يترك البطل منزله أو يغادر موطنه لأداء المهمة).
وتؤدي الوحدات 8-9-10-11 إلى مرحلة التأزم في الحكاية.
12- اختبار (يخضع البطل لإمتحان من أجل الحصول على أداة سحرية أو مساعدة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)من الشخصية المانحة).
13- رد فعل البطل (يستجيب البطل للمساعدة التي قدمتها له الشخصية المانة).
14- الأداة السحرية (توضع الأداة السحرية تحت تصرف البطل).
15- انتقال من مكان لآخر أو من مملكة إلى أخرى (ينتقل البطل إلى العالم المجهول حيث تكون حاجته).
16- صراع (المقابلة أو المواجهة بين البطل والشرير في معركة).
17- علامة (يرسم البطل بعلامة أو إمارة أي يصاب البطل بجرح نتيجة هذا الصراع).
18- انتصار (يهزم البطل الشرير فيهرب منه أو يقتل على يده).
19- اصلاح الضرر (زوال خطر الشرير ويحصل البطل على حاجته).
20- عودة (يعود البطل ويتخذ طريقه قافلا إلى بلده أو بيته).
21- مطاردة (يقتفي الشرير أثر البطل).
22- انقاذ (يهرب البطل من المقتفين لأثره).
23- الوصول متخفيا (يصل البطل إلى بيته أو إلى بلد آخر دون أن يتعرف عليه أحد)
24- تزييف (يدعى البطل المزيف القيام بالعمل غير الموجود، وغالبا ما يكون هذا البطل المزيف أخا للبطل الحقيقي).
25- مهمة صعبة (يكلف البطل بعمل صعب الإنجاز أو التحقيق).
26- تنفيذ (ينفذ الابطل ما اقترحه عليه).
27- تعرف (يتم التعرف بالبطل).
28- افتضاح (يكتشف أمر البطل المزيف).
29- تحول في المظهر (يظهر البطل في شكل أو وضع جديد).
30- عقاب (يعاقب البطل المزيف).
31- زواج أو تتويج / زواج وتتويج (يتزوج البطل أو يتزوج ويعتلي العرش معا).
إن دوائر هذه الوظائف متشابهة في الحكايات الشعبية.
2- اتجاه ليفي شتراوس :

ويمثل الإتجاه الثاني (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)في النظرية البنائية العالم الفرنسي كلود ليفي شتراوس ويسمى (تحليل البناء النموذجي) Analyse structurale paradigmatique
اقتحم ليفي شتراوس ميدان الدراسة البنائية للأدب الشعبي بمقال يحمل عنوان (الدراسة البنائية للأسطورة).
ويقوم منهج ليفي شتراوس على (استخلاص الوحدات المتعارضة من النص بقصد الكشف عن البناء الإجتماعي الذي تعيش الأسطورة في كنفه) وهو يعني مجموعة الألفاظ التي يجمعها اشتقاق واحد كما يعني مجموعة الألفاظ ذاتالطابع المتجانس في المعنى وإن ظهرت متعارضة مثل الحب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)والكراهية والفرح والحزن والقسوة والشفقة بمعنى مجموعة من التراكيب أو الألفاظ ذات دلالات ذهنية أو نفسية مترابطة كامترادفات مثل الحياة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)والموت.
نظر كيفي شتراوس إلى النص من الداخل لا من الخارج كما استخدم النظام العمودي في ترتيب عناصره معارضا في ذلك (بروب).
ويمكننا هذا التحليل (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)من الربط الوثيق بين الوحدات الأساسية للحكاية والنظام الإجتماعي الذي تعيش الحكاية في نطاقه إن خروج البطل إلى المغامرة ثم عودته إلى عائلته بعد أداء مهمته والتحريم الذي يرفض عليه والضرر الذي يعود عليه بسبب ارتكاب المحظور عوامل تكشف نظاما اجتماعيا محددا.
يعتبر منهج بروب تجريبيا قابلا للتطبيق على الأنواع الأدبية الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الأخرى. بينما يعد منهج كلود ليفي شتراوس تأمليا ولكنه من الصعب تطبيقه على الأشكال الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الأخرى منها الأسطورة، وهو السبب الذي يفسر النتائج التي حققها أنصار منهج بروب وعلى رأسهم (ألان دندس) و (ميهاي بوب). بينما تميزت أعمال أنصار منهج ليفي شتراوس بالتعقيد والنتيجة المحدودة.

المنهج الوظيفي :
لم تكتسب كلمة (الوظيفية) دلالتها ذات الطابع التخصصي إلا في القرن 19 في الرياضيات أولا ثم في البيولوجيا وبعد ذلك في العلوم الإجتماعية.
تطورت الوظيفة انطلاقا من فكرة أن المجتمع كلّ ومتصور في شكل مؤسسة، والدور الذي تؤديه أجزاؤه إحداها مقابل الأخرى أو تجاه الكل.
ارتبطت الوظيفة بمجموعة من المفاهيم الأساسية التي استعملتها من سبنسر Spenser إلى دور كايم.
إن المدرسة الوظيفية بأتم معنى الكلمة (ظهور الأنتروبولوجية الإجتماعية الأنجلوسكسونية التي يمثلها كل من مالينفسكي malinowski وبراون Brown) جديرة باهتمام خاص دونما أن ننسى أن علم الإجتماع والأنتروبولوجية الإجتماعية حاولا باستمرار (ولا سيما البلدان الأنجلوسكسونية) أن يصححا الضعف الذي تميز به المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الوظيفي، وبعبارة أخرى أن كل من مالينفسكي وراد كليف براون شارك في تدعيم النظرية الوظيفية في ميدان الأنتروبولوجية وعلم الإجتماع.
من الضروري أن نميز في البداية بين الوظيفية العلمية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)في ميدان علم الإجتماع والأنتروبولوجية التي تدعو إلى دراسة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الظواهر الثقافية والإجتماعية، والوظيفية في ميدان الفولكلور التي تتمثل في دراسة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)عناصر المادة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الشعبية.
تميزت الوظيفية في ميدان الفولكلور بمجموعة من الباحثين منهم فرانز بواس وفان جنب Van Gennep ووليام باسكوم W. Bascom.
ويعتبر فرانس بواس أحد الرواد الأوائل للنزعة الوظيفية الذين ساهموا في دراسة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الفولكلور والثقافة وإقامة العلاقة بين الأدب الشعبي والأسطورة والفلسفة والدين من جهة والحياة اليومية للشعوب باعتبار أن هذه العلوم الإنسانية تعبير منظم عن الأفكار والموفق والقيم الشعبية.
ويحدد وليام باسكوم أركان الدراسة الوظيفية للفولكلور بثلاثة عناصر أساسية هي :

1- السياق الإجتماعي للفولكلور :
وينصب على دراسة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)موقع العناصر الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)في الحياة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)اليومية كما يهتم بزمان رواية مختلف أشكال الفولكلور ومكانها وطبيعة الرواة وجمهورهم والأساليب والوسائل التي تستعمل في هذا الشأن.
2- السياق الثقافي للفولكلور :
ويقصد به العلاقة القائمة بين عناصر الفولكلور وبقية جوانب الثقافة وكذلك مدى انعكاس عناصر الفولكلور ثقافة الجماعة كاللغة والشعائر الدينية والنظم والأساليب التقنية والمعتقدات والإتجاهات السائدة والعادات.
3- وظائف الفولكلور :
ويبين هذا الركن أداء مختلف العناصر الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)لوظائفها في الثقافة. فالأساطير على سبيل المثال تضفى الشرعية على الممارسات السلوكية.
يعتبر (مالينوفسكي) و (جيمس فريزر) و (راد كليف براون) من رواد الدراسة الوظيفية، ويمكن أن نبرز جوانب هامة من هذا المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)من خلال عقد مقارنة موجزة بين الباحثين الثلاثة.
يتفق مالينوفسكي مع فريزر في وعيهما بالطبيعة الإنسانية المعقدة، ويتميز مالينوفسكي بالحرص الشديد على المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الوظيفي وتوضيح الأسس التي تقوم عليها.
ويتفق مالينوفسكي مع براون في معارضتها للمنهج التاريخي وفي أن كلا منهما طور المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الوظيفي، ولكن الباحثين يختلفان في مدى الإهتمام بالعمل الميداني. إذ اعتمد مالينوفسكي على النشاط الميداني وقدم من خلال الإتصال المباشر بالجماعات الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)والمعايشة الفعلية لها، صورة واضحة عن مظاهر حياتها الإجتماعية والسيكولوجية والفنية، بينما كان الحس الشعبي غائبا عند براون.
ارتبط – عند مالينوفسكي – النجاح (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)في العمل الميداني بالجانب النظري، وتعتبر هذه الدراسة النظرية أن سلوك الإنسان البدائي مزيج من العقلانية والخرافة. إذ يكتسب الإنسان الشعبي نوعا من المعرفة العملية ويستخدمها بطريقة عقلانية لمواجهة احتياجات حياته. ولا يمكن أن يتحقق هذا الهدف إلا عن طريق المنهج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15422)الوظيفي.
وتتضمن الوظيفة في نظره على معان مختلفة تبعا لإختلاف مسنويات البناء الإجتماعي.
يختلف مالينوفسكي مع فريزر في مفهوم السحر والدين والعلم، وفي وظيفة كل منها في البيئة البدائية والحضارية، فقد نظر فريرز إلى هذه الجوانب الثلاثة باعتبارها نشاطات مستقلة يؤدي كل منها دورا في مرحلة حضارية مختلفة بينما نظر مالينوفسكي إلى السحر والدين والعلم على أنها نشاطات متداخلة في حياة الشعوب..

**د لا ل**
2012-11-29, 22:28
الفولكلــــــــــــور


مقدمة تاريخية :


- البدايات – المصطلح : يعتبر "وليم جون تومر William Jhon Thoms" أول من صاغ مصطلح "فولكلور" في رسالة بعث بها في مجلة "ذي اثنيون The Athenacum" في سنة 1846. وقد اعترفت جمعية الفولكلور الإنجليزية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)بهذا المصطلح عند تأسيس سنة 1877.
وقد جاء هذا الإصطلاح ليخلف عبارة "الآثار الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)القديمة (الأثريات) التي كانت تستخدم في دراسة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)المأثورات والعادات والتقاليد.
يتألف اصطلاح فولكلور من مقطعين Folk ويعني الناس وLore ويعني معرفة أو حكمة، وتعني الكلمة بذلك معارف الناس أو حكمة الشعب- وهناك من العلماء من يرى أن المصطلح هو ترجمة للكلمة الألمانية "فولكسكندة VOLKSKUNDE" التي عرفتها الدراسات الألمانية بداية القرن 19 – البدايات- المادة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)الفولكلورية :
لعل الإهتمام بالمادة الفولكلورية يعود إلى تلك الكتب التي كتبت حول بعض الأجناس البشرية أو الشعوب والأقوام مع نهاية العصور الوسطى مثل كتاب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)"جرمانيا" GERMANIA لتاسيتوس الذي نشر في القرن الخامس عشر (15) ولقي اهتماما كبيرا من طرف الدارسين الألمان وأعيد طبعه عدة مرات. وحذا الدارسون خذوه فظهرت عدة دراسات ترمي إلى وصف سكان بعض المناطق وتؤرخ لحياتهم مثل كتابات سبستيان فرانك SBASTIAN FRANK الذي توخى فيها، وصف الأحياء والمدن الألمانية في القرن السادس عشر وقد استمر الإهتمام بالمواد الفولكلورية في الفرون التالية. ونضج هذا الإهتمام في ألمانيا على يد الأخوين "ياكوب جريم" و"فلهلم جريم" في منتصف القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، واتسمت معالجاتهم للمادة الفولكلورية بالمنهجية العلمية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)فجمعها منظما وعملا على تحليلها وتصنيفها وشرحها. لقد يسر الأخوان جريم للناس الإطلاع على المادة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)الفولكلورية وقاما بتبسيطها لتكون في متناول الجميع ورغم أن علم الفولكلور اليوم لايسمح بإجراء تعديلات وتغييرات مشابهة لتلك التي أجراها الأخوان جريم على المادة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)الفولكلورية (إعادة الصياغة) فلا شك أن لهما فضل لفت الأنظار إلى أهمية هذه المادة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)وتقريبها إلى نفوس الناس وتخليدها في منشورات ظلت تلقى اقبالا كبيرا من طرف القراء إلى يومنا هذا. –لم يكتف الأخوان جريم بعملية الجمع والتنظيم والتصنيف بل تجاوزها إلى محاولة التنظير فقالا بانحدار الحكايات (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)الأوروبية من التراث (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)الهندو أوربي وأن الحكايات (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)الموجودة في عصرهم ما هي إلا بقايا أساطير مندثرة وإذا كانت مثل هذه النظريات قد تجوزت الآن ولم تبق مقبولة، فإنه كان لها فضل إثارة نقاشات واسعة لاسيما بعد أن أنارت السبيل أمام الدارسين لإكتشاف نظريات مجدية في تحليل المادة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)الفولكلورية إلى جانب جهود الأخوين جريم أسهمت المجلات المحلية التي ازداد عددها في القرن التاسع عشر وراحت تتنافس في نشر التراث (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)المحلي لأقاليم ألمانيا وخاصة تلك المأثورات القديمة التي تعود إلى فترات سابقة على العهد المسيحي في النصف الثاني (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)من القرن التاسع عشر تأصلت الإتجاهات العلمية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)المنهجية في مجال الدراسات الفولكلورية ويلاحظ أن الألمان في هذه الفترة وجهوا عنايتهم للثقافة المادية وما يتعلق بالتقاليد والأعراف وأهملوا إلى حد ما الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)الشفاهي غير أن هذه الحركة العلمية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)سرعان ما اتسعت وغطت مختلف المجالات مع بداية القرن العشرين فظهرت دراسات "إريس شميدت Erich Smidt " "وجون ماير John Meir" "وفلهلم بسلر Vilhelm Passler وأدولف شبامر Adolf Spamer الذين تناولوا تاريخ الفولكلور ووصفوا أنواعه ودرسوا المخطوطات القديمة وفسروا كثيرا من النماذج الفولكلورية وقد اهتم الألمان أساسا بوضع الموسوعات الفولكلورية وتجميع الأنماط المتشابهة والتعليق عليها ووضع الحواشي، ونجد "كورت رانكه Kurt Ranke" مؤسس الجمعية الدولية للقصص الشعبي يصدر موسوعة ابتداء من سنة 1950 للحكايات الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)وموسوعة ثانية للحكايات الخرافية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)بهدف تغطية مختلف أقطار العالم، كما يعتبر أرشيف الأغنية الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)الألمانية في "فرايبورخ Freiburg" المركز الرئيسي لدراسات الأغنية الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)وتتمتع فهرسته بشهرة عالمية كبيرة.
ويعد كتاب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)"فريدريش زايلر Friedrich Seiler" عن الأمثال الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)الألمانية من أفضل الدراسات في هذا المجال.
أما في فينلندا فقد كانت عملية جمع ملحمة الفاليفالا نقطة البداية في الإهتمام الجاد بالمواد الفولكلورية الفنلندية. قام "إلياس لونروث" بجمع مختلف الروايات الشفهية من قصص شعري يتداوله الناس غناء متنقلا من منطقة إلى أخرى رغم قساوة الطبيعة وعدم توفر طرق المواصلات، وقام بتنظيمها ثم نشرها لتصبح الملحمة الوطنية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)للشعب الفنلندي عملا وطنيا بالدرجة الأولى وقام الدارسون بتنظيم عملية الجمع والفهرسة والنشر، وأسسوا أرشيفا ومعهدا للدراسات الفولكلورية لازال إلى اليوم يعتبر المعاهد العالمية ادمامة، ويجب الا ننسى أن الدارسين الفلنديين هم الذين قدموا لنا "المنهج التاريخي الجغرافي" الذي اشتهر في القرن 19 ولا زالت له قيمة تاريخية حتى اليوم. ولعله من الجدير بالملاحظة أن نسجل بأن إهتمام الدارسين الفنلنديين يالمادة الأدبية الشفهية كان طاغيا.
وبعد مرحلة التركيز على "الكاليفالا" بتأثير العالم "الياس لونروث" إتسع مجال اهتمام الدارسين الفنلدنيين فراحوا يهتمون بمختلف أنواع المأثورات، ومن أبرز هؤلاء الدارسين "كارل كرون" الذي أصدر سنة 1886 الجزء (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)الأول من كتابه "الحكايات الشعبية"فضمنه "حكايات الحيوان" ليلحق به بعد ذلك حكايات الملوك سنة 1893. وقد اكتملت المنهجية العلمية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)في عملية الجمع والتدوين عند هذا الدارس فوجدناه يعتمد على المادة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)التي أخذت من الناس مباشرة دون إجراء أي تعديل أو تغيير وقد توجت الأعمال العلمية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)لكارل كرون بحصوله على أول منصب أكاديمي لتدريس الفولكلور في جامعة هلنسكي سنة 1898. وهو بذلك يعد أول من شغل منصب الأستاذية في هذا العلم في العالم. أكد كارل كرون في مؤلفاته على الطبيعة الفنية للفولكلور كما أكد طبيعته العالمية. واصل الباحث الفنلندي الشهير "أنتي آرن" جهود كارل كرون وأغنى مكتبة التراث (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)الشعبي العالمي بـ "فهرس أنماط الحكايات (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)الشعبية" الذي نشره سنة 1910 وقام بتنقيحه الباحث الإنجليزي "ستيث تومسن" وأعيد نشره بالإنجليزية تحت عنوان Type indexe of folk tales. ويعد هذا الفهرس أساسا لمعظم الدراسات الفولكلورية تحتذيه فهارس الحكايات (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)في مختلف أرجاء العالم. وقد ظهرت في فنلندا عدة جمعيات (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)فولكلورية من أهمها جمعية أصدقاء الفولكلور التي تأسست سنة 1907 وأصدرت سلسلة من الدوريات نشرت فيها مواد فولكلورية وأبحاثا وتعليقات حول هذه المادة.
ويحتوي أرشيف الفولكلور الفنلندي على ما يقرب مليونين ونصف مادة فولكلورية مسجلة على بطاقات وأشرطة بالإضافة إلى المخططات التي خلفها رواد الدراسات الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)في فنلندا. ويضم الأرشيف مكتبة ضخمة وقاعات للدراسة وقاعات للندوات والتسجيل الصوتي ويحتوي على أكبر قدر من الدراسات العالمية حول الفولكلور بجميع لغات العالم. ويجد فيه الزائر عددا كبيرا من الخبراء والمتخصصين في الفولكلور الذين يتقنون عددا من لغات العالم ويقومون بتسهيل مهمة الباحثين الذين يقصدون الأرشيف وإذا كنا قد أشرنا من قبل إلى الدافع الوطني الذي حذا بالباحثين الفنلنديين إلى جمع ملحمة الكاليفالا تجدر بالإشارة إلى أن هذه الملحمة تعتبر مصدر اللغة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)الفنلندية الحالية وركيزة الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)الفنلندي وقد لعبت دورا مهما في توحيد هذه اللغة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)وهذا الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)وشدت من تماسك الشعب الفنلندي بحيث أصبحت موجودة في كل بيت فنلندي إذ ينشأ الأطفال على سماعها وقد دخلت أشعارها في البرامج الدراسية في جميع مستويات التعليم وأصبحت دراستها جزءا رئيسيا في دراسة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)واللغة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)الفنلندية.


بدأ الإهتمام بالمادة الفولكلورية في بريطانيا متأخرا ويشير مؤرخي الدراسات في هذه البلد إلى بدايات الإهتمام بالمادة الفولكلورية البريطانية إلى كتاب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)"وليم كامدن William Kamdem" عن لندن 1605 غير أن الدراسات الفولكلورية البريطانية عرفت دفعا جديدا في منتصف القرن الثامن عشر مع انبعاثات الحركة الرومانسية وكان للألمان تأثير كبير في هذا المجال على الدارسين البريطانيين، وقد عرفت هذه الفترة أعمال الأسقف "توماس بيرسي Thomas Percy" كما قام "السير ولتر سكوت Sir Waltir Scott" بجمع مجموعة كبيرة من الأغاني الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)القصصية BALLD والأشعار الشعبية، غير أنه كان كثيرا ما يعدل ويجري بعض التغييرات في الصياغة فقد كان شاعرا يقدم المادة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)الفولكلورية بأسلوب الشعري ولا يتروع عن إضافة أبيات من عنده. ونهج تلميده "روبرت شامبرز Robbert Chaumbers" نفس النهج فنشر سنة 1825 كتابا عن التقاليد السائدة في "أدنبرة" وكتابا آخر عن الأشعار الغنائية السائدة في اسكتلندا ويلاحظ على هؤلاء الدارسين الذين تشكلت أذواقهم واهتماماتهم في ظل الإتجاه الرومانسي ولعهم بالعناصر الفولكلورية التي تعود إلى عهود غابرة في التاريخ وفترات موغلة في القدم كما شغفوا بالمظاهر الشاذة والأشياء العجيبة والطريفة وخاصة منهم أولئك الدارسون المستكشفون الذين رحلوا إلى المناطق المستعمرة في إفريقيا وآسيا وسجلوا عادات الشعوب المستعمرة وتقاليدها وشيئا من تراثها.
وقد نشطت في هذه الفترة حركة الجمعيات المحلية التي كان يترأسها أفراد من الفئات الأرستقراطية في جمع مواد فولكلورية تتعلق بالأثريات الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)والعادات وبعض الصناعات القديمة وتقاليد الإحتفالات والأمثال والألعاب الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)واللهجات المحلية. كما أن المجلات والصحف البريطانية أصبحت تخصص صفحات لنشر المواد الفولكلورية، وقد ازدهرت هذه الجهود في منتصف القرن التاسع عشر وحل مصطلح "فولكلور" في بريطانيا كبديل لمصطلح "الأثريات الشعبية" بعد أن استعمله "وليم جون تومز" في مقالاته المنشورة بالمجلات.
وقد توجت هذه الجهود بتأسيس جمعية الفولكلور الإنجليزية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)سنة 1878 ونلاحظ أن الدارسين البريطانيين في القرن التاسع عشر وبداية هذا القرن جعلوا من العادات والتقاليد المحور الأساسي الذي تقوم عليه الدراسات الفولكلورية، وقد دعا مجموعة من الباحثين وعلى رأسهم "جورج لورانس جوم Sir George L. Gomme" إلى تطوير مظاهر الحياة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)القديمة لتتأقلم مع ظروف حياة معاصريهم، غير أنهم سرعان ما تخلوا عن هذه الفكرة ليسعوا من أجل بناء حياة ما قبل التاريخ من خلال مخلفات هذه العهود الموغلة في القدم فركزوا اهتمامهم حول تراث البدائيين ومعتقداتهم وأنماط حياتهم وتعد كتابات أدوارد تايلور EDWARD TAYLOR من الأبحاث البارزة في هذا المجال خاصة كتابه "الإنسان البدائي" المنشور سنة 1871. ولا شك أن النصف الثاني (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)من القرن التاسع عشر يعد الفترة الأكثر ازدهارا في تاريخ الدراسات الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)البريطانيا إذ ظهرت فيها دراسات مجموعة من الباحثين كان لهم فضل كبير في تطوير الدراسات الفولكلورية ليس فقط على مستوى بريطانيا بل في العالم من أمثال "أدوين سيدن هارتلاند EDWIN SIDNY HARLAND" وأندرو لانج ANDREW LANG وألفريد نت ALFRED NUTT . وكان يمكن أن تؤتي هذه الجهود ثمارها في هذا القرن لو احتضنت الجامعات البريطانية الدراسات الفولكلورية وهو ما لم يحدث وما كان له أترسلبي على هذه الدراسات إذ بدأت تأفل مع أفول نجم الإمبراطورية البريطانية مع بدايات هذا القرن.
وقد عرفت الدول الأوربية الشرقية نفس الإهتمام بالمادة الفولكلورية في القرن التاسع عشر وازداد هذا الإهتمام بعد انتصار الثورات الإشتراكية فيها إذا أصبح لتراث الجماهير والشعب العامل حضوة خاصة واهتماما خاصا من طرف المؤسسات العلمية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15421)والجامعات.

**د لا ل**
2012-11-29, 22:29
الألغاز في الأدب الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)


اللغز في وضع اللغة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)مفردة تعني ''لغز اليربوع جحره وألغزه'' أي حفره ملتويا وسكنه، واتخاذه مثلا هو الذي نقل المعنى الحقيقي إلى مفهوم اصطلاحي مجازي- التعمية في الكلام تحايلا على المتلقي، وقد اتخذت في العامية الجزائرية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)اسما آخر حيث تعرف بالأحجية، وتبقى دائما لفظا مخالفا للمعنى، فاشتقاق الأحجية من الحجا -العقل والذكاء والنباهة، لكن الأحجية أصبحت تعقيدات وأغاليط كلامية يتعاطاها المازحون لاختبار ذكاء الآخر، وتوسع مجال استعماله مجرى انتشارهما، ومن الخطأ اعتبار الألغاز (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)مجرد كلمات مبهمة المعنى تطرح في اللقاءات والأمسيات الجميلة بين الأصحاب والمعارف، فهو عمل أدبي شعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)أصيل أصالة الأنواع الأدبية الأخرى، ربما كانت الغاية من الألغاز (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)والأحاجي في بعض أطراف الوطن (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)العربي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)ليشمل أحيانا الحكاية الخرافية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)والتعبير كناية عن التبلد والغباء. واللغز نمط من أنماط الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)الشعبي، عمره عمر الأسطورة والحكاية الخرافية، ساير انتشاره التسلية البريئة في الثقافة الشعبية، والتربية العملية المباشرة، معتمدة الاستعارات والكنايات والمجازات، كون العقل البشري عادة يعجز عند التجريد عن إدراك العلاقة الدلالية بين اللفظ ومضمونه، ولا يتمكن من ذلك إلا حين ينضج ويرقى في سلم المعرفة ومضامين القيم.
إذا سلطنا الضوء وركزنا الاهتمام على مدى انتشار الألغاز (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)فإنه يتبين لنا لأول وهلة أنها قليلة الكم قصيرة النص، لكننا بجرد البحث (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)والجمع والترتيب نقف على ثراء وتنوع هذا النمط من الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)الشعبي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)بمعانيه الغزيرة وأذواقه الرفيعة، ونخلص إلى أن سبب تقلص مجالاتها إنما هو الغزو الحضاري لباديتنا العربية، وتعدد الثقافات الوافدة والحياة أصبحت غير سابقة الحياة، وحضارة اليوم غير حضارة الأمس والريادة صارت للوسائل التكنولوجية الحديثة، وما صاحبها من تدرج العسر نحو اليسر في مجالات الحياة.
وقد نتبين من القراءة المتأنية والتأمل الدقيقة لمعاني الأحاجي والألغاز نجد المضمون مغزى عميقا ومقاصد هادفة تنم على ذكاء العقلية الشعبية وتمسكها بالقيم عبر القرون الغابرة، وبلاغتها تتجلى في قدرتها على ربط اللفظ الظاهر المنطوق بالمعنى الباطن المقصود، وتجعل النظرة الجوهرية إلى روح الأشياء واحدة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)عند الشعب،على الرغم من تباين الألفاظ المعبر عنها باختلاف المناطق واللهجات، الشيء الذي يزيد من صعوبة تحديد (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)نشأة اللغز وموطنه وتطور جوره الحضاري وذلك راجع إلى استئثار الشيء موضوع (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)اللغز بتفكير العام في أزمنة مختلفة وأمكنة متباينة ومتباعدة.
ويظل مسرح الألغاز، مجالس السمر في أوقات السهر بين أشخاص متقاربين السن أو تجمعهم مواطن العمل، أو روابط الدم ومناسبات، ومواضيعها تتغير بتغير الزمان أو المكان أو الجمع، وهي تخضع لبعض القواعد والمبادئ
- تشيع بين النساء أكثر مما تشيع بين الرجال.
-تشيع بين العجائز أكثر مما تشيع بين الفتيات.
-تشيع بين الشيوخ أكثر مما تشيع بين الشباب والكهول.
وهي تعتمد على السجع والجمل القصير وهو ما ييسر تداولها بين الناس بسهولة، وقد تؤثر في المهتمين والمثقفين أكثر من تأثير العلمية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)الرفيعة، خاصة وأنها بموضوعاتها المتميزة المتصلة بحياة الإنسان واهتماماته اليومية، وفي غالب الأحيان تستغل استغلالا جيدا في التوجيه الأخلاقي والصحة النفسية خاصة إذا اجتمع الكبار-الجدات والأجداد- مع الصبيان، ومادامت بعض الأشياء، والحيوانات، والنبات، تسترعي انتباه الإنسان أو تجلب اهتمامه فقد نجد بعض الألغاز (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)تتكرر مع صنف وآخر، وهي تتناول محاور عديدة أهمها: الموت والحياة - أوقات العبادة- أوقات الغرس والجني-- السلاح- الرسالة- المرأة الحامل- الدجاجة والبيضة - الساعة - الحذاء - البصر - الجهد- الشمس - النبات واستعماله ،الخ.
وبتصنيفها نجد أنها تتناول عبر ..محاور كبرى:
1 الإنسان وأعضاء جسمه
2 الحيوان والطير.
3 الآلات والأسلحة.
4 النباتات والفواكه.
5 مظاهر الطبيعة
6 الآداب العامة.
7 المؤسسات'' الجامع - المسجد - الكتاب- المتجر- الورشة.
8 الأوضاع المستجدة.
إن فن الألغاز (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)تعج به الآداب الشعبية، فهو ليس ترفا ثقافيا لا يعني إلا خيالا جامحا وتسلية عابرة، بل هو صور ودلالات عميقة تمس الحضارة والتاريخ تعني التربية والتعليم وحفظ القيم، له وظيفته الاجتماعية كربط الصلات بين الأفراد والجماعات وترسيخ القيم وإيصال المعارف تبعا للتجارب السالفة.
وقل ما يكون ذا غاية سطحية عابرة،وهو ما يمكن استغلاله كأداة لحفظ الذاكرة الشعبية، وما وسعته من تراث.
عند ما نمر باللغز مثلا:
كيف حال الاثنين؟ ''الرجلين''--صاروا ثلاثة. ''الرجلين''.

وحال الجماعة؟ '' الأسنان''..تفرقوا
ندرك أن اهتمام الحبيب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)بحبيبه يبدأ بالسؤال عن صحته. ومن منطوق اللغز:
مزود، صوف، يبات يشوف.
نجد ثلاث دلالات حضارية على الأقل:
أولا المزود ويدل على البيئة الحضارية، البادية، حيث المزود وسيلة ادخار الحبوب والطحين.
ثانيا: ذكر الصوف له أكثـر من دلالة فالحضري لا يرى الصوف إلا مصنعا، لكن البدوي يعايشه في كل مراحله.
ثالثا: يبات يشوف كناية عن الكلب، وهو ما يبرز أهمية وجود الكلب في كل بيت بالبادية.
من هذا المنظور، لا بد لنا أن نتفق على حدود معقولة لأرضية مشتركة في تصورنا لمشروع تطورا لمجتمع العربي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)في إطار العالم الإسلامي بوجه عام، لأننا مازلنا بعيدين كل البعد عن تحقيق هذا المشروع على مستوى الممارسة الميدانية، بالقدر الذي يتيح للأمة أفرادا ومؤسسات أن تتخلص تدريجيا من أعباء الصراعات الهامشية التي ما يزال العالم العربي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)يشهدها وتتخذ أحياد أبعادا عقائدية فيبرز على شكل جدال بين الرجعيين والتقدميين، بين أصحاب النظرة المستقبلية ودعاة القدوة السلفية، ..الخ.
ومهما يكن من أمر فإن التطور الذي نريد هو ذلك الذي لا يتنكر للتراث ولا يقطع الصلة بالماضي، ويعتمد لغة متخلصة من الشوائب التي علقت بها خلال عقود من ويلات الاستعمار، وما رافقها من ظواهر سلبية أثناء المحن، لغة طيعة نقية ينسكب فيها الفكر العربي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15418)الأصيل، وتصاغ بها الإبداعات والمعاني، وأساليب التثقيف المبني على أسس صحيحة، قد ينكر علينا البعض ربط سياسة التسيير بمآثر التراث، ولكن جوابنا أننا مقتنعون بان الانغلاق في الماضي موت، وإهماله أو الانفصال عنه انتحار، وفي تراثنا ما يمكن استغلاله

**د لا ل**
2012-11-29, 22:31
تطبيق

التفسير النفسي لنموذج من الحكايات الشعبية الخرافية( بقرة اليتامى)التفسير النفسي لنموذج من الحكايات ا (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15415)


التفسير النفسي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15415)لنموذج (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15415)من الحكايات (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15415)الشعبية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15415)الخرافية( (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15415)بقرة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15415)اليتامى)
ملخص الحكاية: كان لامرأة طفلان؛ بنت وولد. قبل أن تتوفى حذرتهم من شرب الماء الراكد، كما أوصت زوجها أن لايبيع البقرة التي تملكها. تزوج الأب امرأة لها بنت. عرفت بأن الطفلين يتغذيان
من حليب البقرة ولذلك هما يتمتعان بالصحة والجمال. غارت منهما فدفعت بابنتها إلى الاقتراب من البقرة والرضاع من ضرعها، لكن البقرة رفستها وفقأت عينها، قامت زوجة الأب ببيع البقرة، ثم بحرق قبر الأم الذي يلتجئ إليه الطفلان فيوفر لهما بدوره الغذاء، ودفعت بهما إلى الرحيل من موطنهما الأصلي، أثناء الطريق شرب الولد من الماء الراكد فتحول إلى غزال بحث اليتيمان عن ملجأ، كبرت البنت وكانت فائقة الجمال عاشت مع أخيها عند عجوز، تزوجت البنت من شاب وأخذت عليه عهدا بأن لايذبح أخاها الغزال، تبعت زوجة الأب ربيبتها و التحقت بها، وظلت معها هي وابنتها العوراء، بايحاء من زوجة الأب قامت البنت العوراء باستدراج الفتاة اليتيمة نحو البئر ودفعتها فيه، وأخذت مكانها، وعندما استفسرها الشاب عن سبب قبحها، ذكرت له بأن ذلك بسبب طبيعة ماء بلاده، كان الشاب قد شاهد ما حصل فأنقذ زوجته الحقيقية وأخفاها عن الأعين في مكان أمين، عاقب الشاب البنت العوراء ،وبعد تكليفها بمهام شاقة ذبحها ووضعها في تليس وقدمها لأمها.فندبتها هذه الأخيرة. (المصدر: البطل الملحمي والبطلة الضحية في الأدب (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15415)الشفوي الجزائري، الملحق، عبد الحميد بورايو، الديوان الوطني (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15415)للمطبوعات، الجزائر، 1998).

إن الملاحظ لهذه الحكاية يستوقفه دور الأم فيها منذ أول وهلة. ويمثل هذا الدور الدليل الواضح على الحضور المكثف لنموذج"الأم" طيلة تطور أحداث القصة.إذن يمثل النمط الأصلي للأم الكبرى المدخل الواضح لدراسة هذه القصة وتحليلها من منظور علم النفس التحليلي اليونغي نسبة إلى "كارل غوستاف يونغ". يجد متلقي الرواية نفسه في مواجهة وجهين لهذا النمط الأصلي؛ الوجه السلبي الذي جسدته زوجة الأب الشريرة، والوجه الإيجابي الذي مثله دور الأم الضحية، التي تبدت في عدة صور خلال مراحل تطور الحكاية؛ في البداية تجلت في شكل نبعين من عسل وسكر يغذيان الطفلين المحرومين من الغذاء من طرف زوجة الأب الشريرة، ثم في شكل البقرة الحنون التي تسقيهما حليبا طيبا يساعد جسميهماعلى النمو، وقد ظل نفس الدور منوطا بضرع البقرة الملتصق بالجلد الذي حمله الأب من السوق إلى ولديه. يمثل توفير الغذاء للطفولة الملمح الأساسي الذي تتأكد من خلاله إيجابية النمط الأصلي. على العكس من ذلك يمثل التسبب في الحرمان من الغذاء الملمح السلبي لهذا النمط الأساسي.تتجسد إيجابية النمط أو سلبيته أيضا من خلال الثنائي: الجمال/ القبح، فالأثر السلبي لنمط الأم الكبرى يظهر من خلال التشوهات التي تصيب الأبناء؛ فمتن الحكاية يذكر بقبح ابنة زوجة الأب الشريرة، أما الولدان اللذان تمتعا بحماية النمط الأصلي في صورته الإيجابية فقد تغنت الرواية طويلا بتمتعهما بالجمال وحسن البناء الجسدي، مما أثار غيرة الزوجة الشريرة. أبرزت الحكاية ملمحا ثالثا على جانب كبير من الأهمية، ميز بدوره بين إيجابية النمط وسلبيته، هو التبعية المطلقة للأم ، وهو وجه سلبي طبع علاقة زوجة الأب الشريرة بابنتها وانعكس عليها، فظلت مسيرة من طرف أمها مما تسبب في هلاكها في نهاية القصة بينما تمتع الشقيقان باستقلال نسبي عن أمهما بعد وفاتها، وخاضا تجربة الحياة (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15415)فتكونت شخصيتهما وحققا نضجا مرحليا خلال كل قسم من أقسام الحكاية.
جعلت الحكاية الشقيقين اليتيمين يمثلان فضاء الصراع الذي احتدم بين التوجهين السلبي والإيجابي للنمط الأصلي، وبالتالي فهما النموذجان الممثلان للشخصية البشرية في خوضها للصراع النفسي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15415)في علاقتها بالنموذج الأصلي الموروث (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15415)للام الكبرى المستكن في أعماق اللاشعور. وقد قدمتهما الحكاية على أنهما النموذجان المثاليان الجديران بالإقتداء، وجعلت نهايتهما نهاية سعيدة مبشرة بالخلاص من عقدة الارتباط بالأم التي تولد معنا وتظل في أعماق لاشعورنا، تتحين الفرصة للبروز خلال مراحل العمر المختلفة. ومثلت البنت الشوهاء النموذج السيء لسيطرة عقدة الارتباط بالأم، والذي سرعان ما يتحول إلى عائق لنمو الشخصية، وسببا في اللاتوازن الذي عبرت عن مغزاه القصة في نهايتها عن طريق بيان النهاية الكارثية التي تعرضت لها بنت زوجة الأب الشريرة.

إلى جانب النمط الأصلي المتعلق بالأم، تبرز الحكاية نمطا أصليا آخر لا يقل أهمية عن النمط السابق، وهو "القرين" و" القرينة"؛ لقد مثل الشقيقان اليتيمان هذا النمط، كل منهما بالنسبة للآخر، بحيث جسدت الفتاة نمط" القرينة" بالنسبة للطفل، بينما جسد الولد نمط" القرين" بالنسبة للفتاة. وقد تميزت قرينة الفتى بالملمح الايجابي، فساعدته على اجتياز الصعوبات، ومكنته من النضج النفسي، وتغليب الشعور في النهاية، وتجاوز مرحلة اللاشعور بينما مثل القرين بالنسبة للفتاة القوى السلبية التي كانت تشدها للمرحلة اللاشعورية، فتكبح نموها النفسي (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15415)وتعرضها للخطر، وتخلق عراقيل في سبيل تطور قواها النفسية تقول نبيلة إبراهيم عن هذا النمط:" ...القرين أو القرينة جزء خفي في الإنسان مرتبط به وملازم له فهو جزء من محتوى اللاشعور" ولعل التحول السحري إلى حيوان والذي أصاب الطفل(تحوله إلى غزال) يمثل سمة لاشعورية تؤكد ما ذهبنا إليه تقول الدكتورة نبيلة إبراهيم:" ومن المعروف أن الحيوان المسحور في الحكايات (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15415)الخرافية (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15415)يرمز إلى هذا الجزء (http://www.5ayma.com/vb/showthread.php?t=15415)البهيمي
أو الغريزي الذي يمكن أن يقود الإنسان إلى متاهات اللاشعور المظلمة

**د لا ل**
2012-11-29, 22:39
محاضرات الادب الاندلسي (http://www.ckfu.org/vb/t322037.html)

المحاضره الاولى
تاريخ حضارة الأندلس
تاريخ الحضـارة الأندلسـية
ظهرت الحضارة الأندلسية عند قيام طارق بن زياد فتح بلاد الأندلس، حيث كانت شبه الجزيرة الأيبرية (اسـبانيا) تحت حكم الملوك القُوط الذين هاجـروا اليها من داخل اوروبا وقد عانى الاسبان كثيرا من ظلمهم وسوء ادارتهم وقد كانوا يتحـينون الفُرص للتخلص منهم.
حـانت الفرصــة عـندما جــاء مـلك القـُــوط لذريــق إلـى الحـكــم بعــد ان اغتـصـــب الحُـكـم من المـلـك الشــرعـي واغتياله فقد طلب بعـض الاسبان النجدة من موسى بن نصــير الذي أرســل قـائداً شـــاباً مع جـيـش صـغـير مـن المســلمين. كان هذا القــائد هو (طــارق بن زيــاد) الذي وطأت اقدامه هو وجيـشـه ارض الاندلـس في شـهر رجـب 92هـ 711م عــند المضيق المسـمى باســمه لهـذا اليوم (جبل طارق).
لم تكن سيطرة المسلمين على اسـبانيا كاملة تماماً اذ بقيت جيوب صغيرة للأسبان في الشمال والشمال الغربي في المناطق الجبلية الوعرة كانوا ينفذون منها للهجـوم والتخريب. لم يَدرْ في خلد المسـلمين الفاتحين. إن هذه الجـيوب الصـغيرة سوف تكون نواة لممالك الاسـبان مستقبلاً لينطلقـوا منها في التهـام ممالك الاسـلام في اسـبانيا الواحدة تلو الاخـرى عندما ضعف المسلمون ولم يكن طموح الاسـبان لينتهي إلاّ بطـرد المسـلمين بصورة نهائية كما سوف نرى.
تسمية الأندلس يعود أصل تسمية الأندلس بالأندلس إلى أسـاطير واحتمالات، إن الغالبية العظـمى من المؤرخين العـرب والمسلمين وخاصـة مؤرخـي العصور القديمة، يعتمدون على الروايات والقصص الدينية في البحث عن أصول شعب أو أرض ما.
• يذكُر كثير من المؤرخيـن العـرب أن الأندلس سُميت بهذا الاسـم نسبة إلى أندلس بن يافث بن نوح الذي هو أول من عمّرها.
• كما ذكـر ابن خـلدون إنّ أول من سـكنها بعد الطـوفان لسفينة نـوح قوم يُعـرفون بالأندلـش ـ بشين مُعجـمة ـ ثم عـرّب هذا الاسم بعد ذلك بسين مهملة.
• أما عبد الرحمن الحجي فإنه يذكر في كتابه (التاريخ الأندلسي) أن أصل مصطلح الأندلس مأخوذ من قبائل الوندال (Vandalos) التي تعود إلى أصل جرماني، احتلت شبه الجزيرة الأيبيرية حوالي القرن الثالث والرابع وحتى الخامس الميلادي، وسميت باسمها فاندلسيا Vandalusia أي بـلاد الوندال ثم نُطقت بالعربية الأندلس.
• ذكر النويـري أن النصارى أي الأسـبان، تسمي الأندلس إشـبانية باسـم رجل صلب فيها يقـال له إشبانش وقيل: باسم ملك كان لها في الزمان الأول اسمه إشـبان بن طيطش.
• على مرّ السـنين دخل الكـثير من الاسبان في الاسلام وكثر التزاوج بين الفاتحـين والأسـبان، بحيث نشأ جيل كبير من المولودين الذين يحملون في عـروقهم دماء اسبانية إضـافة إلى الدمـاء العربية والبربريـة وقد ارتقى الكـثير منهم في مناصب الدولة العالية مثل ابن حزم الاندلسـي الذي اعتنق جده الاسلام.
• دخلت الاندلـس المرحـلة الثـانية من تاريخـها السياسي عندما فوّضت أركان الخـلافة على بنـي أمية في دمشق حيث هزم اخـر خلفائهم مروان بن محمد امام جـيوش العباسـيين في معركة الـزّاب سنة 132هـ.
• ولى هائماً على وجهه وكأن الارض لا تسع لهربه بما وسعت ليلقى حتفه على يد العباسيين ولتـبدأ مرحلة دموية كان الامويون وقُـودُها، حيث أذاق بنو العباس الامويين حَرِّ الحـديد وبَأْسَ السـيف وجرعوهم مرارة الذل والهوان وشـردوهم وراء كل حجرٍ ومدرْ. نجا من تلك المذابح شـاب اموي اسمه عبد الرحمن استطاع عبور الفرات وهـرب إلى شمال افريقيا.
وبمسـاعدة اخواله البربر استطاع العـبور إلى الاندلـس استطاع عبدالرحمن الملقب (الداخـل) من تأليف القـبائل اليمانية التي كانت ناقـمة على هيمنة القـبائل القيسـية وبمساعدة البربر استطاع ان يخضع الاندلس لسيطرته وان يبايعوه أهـل الاندلس اميـراً عليها سنة 138هـ 755م. حاول الخليفة ابو جعفر المنصور عبثاً إِخضاع عبدالرحمن الداخل حيث اسـتطاع عبدالرحمن الناصر هذا الذي لقبـه المنصور بـ(صقر قريش) أن يهـزم جيش المنصور وأن يبرد برؤوس قادة الجـيش إلى المنصور لتصله إلى مكـة اثناء موسم الحج.
-اتخذ عبدالرحمن قرطـبة عاصـمة له وبدأ ببنـاء وتوسـعة مسجدها فدخلت قرطبة مرحلة مزدهرة اصبحت معها فيما بعد محط الانظار ومهد الحضارة
استمرت السُّـلالة الاموية في حكـم الاندلس حيث بلغت أوج حكمها في زمن عبدالرحمن الثـالث الذي دام حكمه لأكثر من خمسين عاماًً وامتد سُلطانه إلى شمال افريقيا وليقهر الأسبان وليجعل من (اسبانيا) قبلة الامصار وعروس اوروبا. إليها تشدّ الرحـال لطـلب العلم والأدب والفنـون وحتى صارت اللغة العربية هي لغة العلم حتى في اوروبا.
• بدأ حُكـم عبدالرحمن الثالث في سنة300هـ وانتهى عام 350هـ واستطاع أن يخلع على نفسه لقب أمير المؤمنين وسمّى نفسه الناصر لدين الله.
• وبهذا اصبحت دار الاسلام يحكمها ثلاثة خلفاء هم: (الامـوي والعباسـي والفاطمـي) في آن واحد.
• جدول يبين حكم الأندلس حسب الفترات الزمنية.
• 1. عصر الولاة الحــاكــم من الى الملاحضات
• طـارق بـن زيــاد 92 93 أول من دخلها وأميرا للجيش
• موسى بن نصير اللخمي 93 94
• أبو عبد الرحمن بن موسى بن نصير 94 95
• * هناك عدد كبير من الحكام لا يسع 59 138
الوقت لذكرهم ونوجز هنا في ذكر
الحكام الذين كانت لهم صبغة في
حكم الأندلس.
جدول يبين حكم الأندلس حسب الفترات الزمنية.
2. الحكام الأمويون في الأندلس (الأمراء) من الى ملاحظات
أول الحكام من الأمراء 138 172 مدة حكمة 34 سنة وتمتاز بطابعها الشامي
أبو المطرف "الداخل" عبد الرحمن
بن معاوية صقر قريش




جدول يبين حكم الأندلس حسب الفترات الزمنية.
الحاكم من الى الملاحظات
أبو المطرف "الناصر لدين الله" 300 350 دام ملكه خمسين حولاً وكان عهداً زاهراً وبلغت الأندلس أوج حكمها
عبدالرحمن (3) بن محمد
جدول يبين حكم الأندلس حسب الفترات الزمنية.
3- عصر الطوائف من الى الملاحظات
استطاعت الأسر القوية أن تستقل ببعض الأقاليم فهناك 629 633 ثم دخول بن الأحمر وأخيرا سقطت في أيدي القشتاليين
بنو جهور في قرطبة- بنو ذي النون في طليطلة-
بنو هود في سَرَقُسْطة- بنو الأفطس في بطليموس
- بنو عبد العزيز في بلنسية- بنو عبّاد في أشبيليا
أخر الحكام كان من عمال بني هود
* في عام 633هـ سقطت (غرناطـة) والأندلس في أيدي الأسبان.
مدن الاندلس قرطبه:
مدينة أندلسية تقع في الغرب الأسباني تتفرع سـفوح جبالها من سـلسلة جبال سيرا مورينا، الممتدة شـمالي المدينـة. وتمتد قرطـبة على الضفة اليمنى لنهر الوادي الكـبير الذي ينحني طفيفا في مجراه نحو الغـرب، مُؤلفا أهم طريق طبيعي في أسبانيا الجنوبية. وقرطبة مدينة
إيبيرية قـديمة البناء كان اسـمها
(إيبيري بحت) وترجم للعربيـة إلى
قرطبة.
سقوط قرطبه: دخول ايزابيـلا وفريـديناند الى غرناطة عشـية سقوطها.
اشبيليه: تقع إشبيبلة إلى الجنوب الغربي من قرطبة وفي شـمال قادس على مسـيرة (60) ميلا من ساحل المحيط الأطلسي. والاسم القديـم لمدينة إشبيلية هو إشبالي من أصل إيبيري، ثم تحول هذا الاسم إلى اسم لاتينيHispalis
بعد أن غزاها الرومان عام 205 قبل
الميلاد، وعَرَّبَ المسلمون هذا الاسم
إلى إشبيلية ومن هذا الاسم المتعرِّب
اشتق الأسـبان الاسم الحالي
غرناطه: تقع غرناطة على بعد267ميلا جنوب
مدينة مدريد (عاصمة أسبانيا). وهي
إحدى ولايات الجنوب الأسباني وتطل
على البحر المتوسط من الجنوب ونهر
شنيل وبساتين قصور الحمراء وتَلِّها العالي وهي تعلو قرابة (669) م فوق سطح البحر مما جعل مناخها غاية في اللطف والجمال. ومنه اشتق اسمها، حيث تعني كلمة غرناطـة عند عجم الأندلس "رمتنة" وذلك لحسنها وجمالها
بلنسية: بلنسية مدينة شهيرة تقع شـرقي مدينتي
تدميـر، وقرطـبة، وتتصـل بزمام إقليم
مدينة تدمير، وبلنسية مدينة برية بحـرية
ذات أشجار وأنهار، وتعرف باسم مدينـة
التراب. ويغلب على شـجرها القراسـيا،
ولا يخلو منها سهل ولا جبل، وينبت في ضواحيها الزعـفران، وكان الروم قد ملكـوها عام 487هـ ـ 1094م، واستردها المُلثمون (المُوحِدُون) عام 495هـ ـ 1101م.
طليطله: طُليطلة مدينة أندلسية عريقة في القـدم تقع على بعد 75 كم من مدريد العاصمة الأسبانية. وتقع على مرتفع منيع تحيط به أودية عميقة وأجراف عميقة، تتدفـق فيها مياه نهر تاجة.
ويحيط وادي تاجـة بطليطلة من ثلاث جهـات مُسـاهما بذلك في حصانتها ومنعتها.
عمارة الاندلس: بلغت الأندلس أوج ازدهارها في ظـل ”عبد الرحمن الناصر“ أول خليفة أموي في الأندلس بعد أن اتخذ منها عاصمة لدولته وجعلها كبرى المدن الأوروبية في عهده وأكثرها أخْـذاً بأسباب الثقـافة.
لقد أصــبحت قـرطـبة مقر خــليفة المســلمين في العــالم الغربـي، وكانت قرطـبة العاصـمة الكبـرى لإسـبانيا، يَفِـد إليها الملـوك والسفراء يقدمون للخـليفة فروض الطاعـة والـولاء. فقد كانت الدولة المسـيحية حتى القرن الحـادي عشر أشبه بالمحمية للدولة الإسلامية. وفـي هـذا العهــد نافـســت قرطـبة بأُبَّـهَـتِها وعــمرانها وحــالتها الثقــافيـة كبريات المـدن الإسـلامية كالقـاهـرة، ودمشــق، وبغـــداد والقيروان حتى أطلق عليها الأوروبيون (جوهرة العالم).
علماء اندلسيون: رَاجَت الثقافة في الأندلس وعزّزها الخـلفاء فنقلوا من الشرق العبّاسي أهم ما صُنـّف في العلوم وأسسوا المعاهد في المـدن والقـرى وشيّدوا المكاتب, وشجّعوا الحركة العقليّة.
من العلماء والأطباء ابن البيطار أحد مشـاهير الأطباء في ذاك العصر الذي بحث في رحلاته الطويلة عن الأعشاب حتى اصبح حجّة في معرفة انواعها وأصنافها وأماكنها وخصائصها. ومن مؤلفات ابن البيطار:
1. تفسير كتاب ديسقوريدس.
2. الإبانة والأعلام بما في المناهج من خلل وأوهام.
3. الجامع لمفردات الأدوية والأغذية.
4. الأفعال الغريبة والخواص العجيبة.
5. رسالة في تداوي السّموم.
6. المغنى في الأدوية المفردة.
7. ميزان الطبيب.
• اشتهر في قرطـبة كثير من العلماء المسلمين في شتى مجالات المعرفة. فمن العلماء الشرعيـين كان أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الشهير بإبن حزم وهو فقيه من أكبر علماء المذهب الظاهري.
• وكذلك محمد بن فتوح بن عبد الله
الحميدي وكان مؤرخا ومن الفقهاء
ظاهري المذهب.
• ومن أطباء الأندلس أبو داود سـليمان بن حسـان الأندلسي الشهير بابن جلجل وكان بارزا في حَقْـلي الطـب والنبات، وكذلك أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد ولد قريبا من قرطبة ودرس العلوم الدينية وكان قاضيا.
• وكذلك أبو القاسم خلف بن العباس الزهراوي وكان من أشهر أطباء وجراحي عصره.
• ومن علماء النبات اشتهر أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد المعروف بإبن وافد وكان فقيها بالعقاقير والأدوية وعالما بالفلاحـة، وأبو جعفر أحمد بن محمد الأندلسي الغافقي وكان من كبار الأطـباء والنباتيين في الأندلس.
• ومن الفيزيائيين أبو القاسـم العباس بن فرناس وكـان صاحب أول محاولة بشرية للطــيران وكانت له دراية بعلم الكيمياء وتوصل إلى اكتشافات في هذا المجال.
• ومن الجغـرافيـين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس الحسيني المعروف بالشريف لإدريسي وكان كتابه (نزهـة المشـتاق) الذي أهـداه إلى (روجـيه الثاني النورماندي) ملك صقلية من أعظم الكتب وهو رحالة وعالما بالأدوية المفـردة الفلك والنبات.
• ومن الفلكيين ابن الزرقالي الذي صنع أصـطرلابا عـرف باسمه, وحظـي بأهمية كبرى في ميدان علم الفلك, وكـان أكبر راصد في عصره. شارك في وضع جداول فلكية لمدينة طليطلة نقل عنها (كوبرنيك).
• ومن الأطباء الفلاسفة كان أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد وكان أوحد أهل زمانه في الفقـه وتميز في علم الطب وله فيه مؤلفات كثيرة.
• ويعتبر ابن رشد الفـقيه الطبيب
الفيلسـوف، اشـتهر في أوروبا
شـهرة كبيرة حيث اعـتمد على
مؤلفاته في القـرون الوسـطى.
ولد ابن رشد في سنة520هـ وهي نفـس السـنة التي توفى فيها جده. ونشـأ في مدينة قرطبة. وحفظ القرآن الكريـم، وحفظ كتاب الموطأ للإمام مالك، ودرس الفقـه ونبغ فيـه، كما درس علوم الحساب والفلك وعلم الهيئة ثم درس الطـب وتعمق في دراسته، وفي عام 565هـ تولى القضاء في أشـبيليه، ثم في قرطبة عام 567هـ، واشتهرت أحكامه بالعدل والنزاهة، فتولى قاضي القضاة وألف عدة كتب منها: "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" وكتاب "تهافت التهافت" وألف في الطب كتاب "الكليات”.
• أهم المراكـز الثقافيـة والتعليميـة: جامعة قرطبة التي أسسها عبد الرحمن الثالث بجوار الجامع الكبير، من أشهر المؤسسات الثقافية.
• مكتبة قرطبة والتي كـانت تحوي علـى أكـثر من 4000 مجلد.
• مدرسة مسلمة المجريطي في الكيمياء والرياضيات والفـلك.
• مدرسة أبو القاسم الزهراوي في الطب.
أهم المواقـع التاريخيـة: قلعة الملك في الخضراء.
• الحـمامات: كان أهل قرطبة يسترخون في حمامات عامة وخاصة كلها مُدفأة وتجري فيها المياه الساخنة والباردة.
• وكانت الحـمامات العامة تعتبر من أهم المنشـآت المدنيـة في المدينة لكـثرتها وتعـددها من جـهة، ولارتباطها الوثيـق بالطـهارة المتأصلة بعـمق في الإسلام من جهة أخرى، وقد تميزت قرطـبة بوجـه خاص بكـثرة حـماماتـها حتى قيل إن عددها بلغ 300 حمام.
• ومن الآثار الإسـلامية الباقـية في قرطبة حـمامان الأول صغير المسـاحة، عـثر عليه عام 1321هـ 1903م في جوف الأرض في المنطـقة المعـروفة بساحة الشهداء داخل نطاق القصر الخلافي بقرطبة.
مثقـفو وشـعراء الأندلس:
• هناك العديد من المثقفين والشعراء الأندلسيين نُوجِـز بعضاً من الذين وضعوا بصماتٍ تاريخيةٍ في تاريخ الأندلسي في المديح والهجاء والغزل والرثاء.
• لقد انتشرت المدارس في قرطبة حتى لم يعد فيها شخص واحد لايجيد القراءة والكتابة. واشتهرت قرطبة بالعلمـاء والشـعراء، والكثير منهم كانوا من أهـل الحكم أو البيت الحاكـم مثل الخليفة الحكم، والشاعر أبي عبد الملك مروان حـفيد عبد الرحمن الثالث، والخليفة المستعين بالله، والوزير أبو الغيرة بن حزم وهو ابن عم فيلسوف قرطبة الشـهير محمد بن حـزم، والوزير عبد الملك بن جهور، والوزير المصحفي، بالإضافة إلى عشرات بل مئات العلماء في كافة المجالات كـابن طُفيل وابن رشد وابن باجه في الفلسفة، وأبو عبد الله القرطبي في العـلوم الشرعية، والقاضي أبو الوليد الباجي وأبو الحسن على بن القطان القرطبي في الحديث النبوي، ومنذر بن سعيد قاضي الجماعة بقرطبة، وزَرْيَاب الموسيقى، وابن عبد ربه اللغوي الأديب، وغيرهم وغيرهم.
• ابن خفاجة الأندلسي (450-533هـ). إبراهيم بن أبي الفتح بن عبد الله بن خفاجه الهواري الأندلسـي أبو إسحـاق. من أعلام الشعراء الأندلسيين في القرنيـن الخامس والسادس. عُرِف عنه بالتأنق في مظهره ومطعمه، ولم يشـتغل بعمل ولم يتزوج قـط. وكان نزيه النفس سمي بـ”الجنّّان“ اشـهر قصـيدة له ”وصف الجبل“ وهي تشف عن رؤيته للموت والحياة، ويصـور من خـلالها كيف أن الجبل يحس السأم لطول بقائه ويتمنى الموت والفناء. اشتهرت أبياته التي تصـف الأندلس وطبيعتها الجميلة:
• يا أَهْـل أندلـس لله دَرّكُمُ ** ماءٌ وظِلٌ وأزهَـارٌ وأشْجَارُ
• ما جنّةٌ الخلدِ إِلاّ في ديَاركم ** ولو تخيرتُ هذا كنت أختارُ
• من قصائد ابن خفاجة الاندلسي (حلو اللمى)
• وأغيـدٌ حُلْو اللّـمى, أمْلـَـدٌ يُذْكِي عَلـى وِجْنَتِه الجَمْـرُ
• بِـتُّ أُنَاجِـيْـه , ولا رِيْـبـَةٌ تَعَـلّق بِـي فِيـه , وَلا وِزْرُ
• وَالليْـلُ سِتْرٌ وَدُونِـنَا وَمُرْسِلٌ قَدْ طَـرّزتْهُ أَنْجُـمُ حُمْـرُ
• أبْكِي وَيُشْجِيْني , فَفِي وِجْـنَتِي مَاءٌ , وَفِيْ وِجْـنَتَيْه خَـمْرُ
• وَأقْـرَأُ الْحُسْـنَ بِـهِ سُـورَةٌ أنَ لَها , مِنْ وَجْهِهِ , عَـشْرُ
• وَبأت يُسْـقِيْني وَتَحْـت الدُّجَى مَشْمُولةٌ, يَمْزُجُـها الْقَـطْرُ
• وابْتَسَمتْ , عَنْ وَجْـهِهِ , لَيْلَـةٌ كَأَنّهُ , فِـي وَجْهِـهَا , تَغْرُ
ابو البقاء الرُندي
هو صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم بن علي بن شريف الرندي الأندلسي. من أهل (رُنـدة) قرب الجزيرة الخضراء، من حُفـاظ الحديث والفقهاء. كان بارعا في منظوم الكلام ومنثوره مجيدا في المديح والغزل والوصف والزهد، ولكن ترجـع شُـهرته إلى قصيدةٍٍ نظمها بعد ضياع عدد من المدن الأندلسية.
وفي قصيدته التي نظمها يستنصر أهل العُدوة الإفريقية من بني مُرين لما أخذ ابن الأحـمر محمد بن يوسـف أول سـلاطين غرناطة يتنازل للأسـبان عن عدد من القلاع والمدن إرضاء لهم وأملا في أن يبقى له حكمه المُقلقـل في غرناطة وتُعرف قصيدته بمرثية الأندلس وفيها يقول:
لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَاتَم نُـقْصَانُ
فَلا يُغَرَّ بِطِيبِ العَيْشِ إنْسَانُ
هِيَ الأمُورُ كَمَا شَاهَدتُها دُولٌ
مَنْ سَرّه زَمَنٌ سَاءَتْه أَزْمَانُ
وَهَذِهِ الدّارُ لاَ تُبْقِى عَلَى أَحَدٍ
وَلاَ يَدُومُ عَلَى حَالٍ لهَاَ شَانُ
يُمَزِّقُ الدَّهْرُ حَتْماً كُلَّ سَابِغَةٍ
إِذَا نَمَتْ مَشْرَفيّاتٌ وقُرْصَانُ
أيْنَ الملُوكُ ذَوِيْ التيِّجَانِ مِنْ يَمَنٍ
وَأيْنَ مِنْهمُ أَكَالِيْلٌ وَتِيْجَـانُ
وَأيْن مَا شَادَه شَـدّادُ من إِرَمٍٍ
وَأيْن مَا سَاسَه في الفُرسِ سَاسَانُ
وأيْن مَا حَازَه قَارُونُ مِنْ ذَهَبٍ
وَأيْنَ عَـادٌ وشَدّادٌ وقَحْطَانُ
أتى عَلى الْكُلِّ أَمْرٌ لا مَرَدَّ له
حَتَّى قَضَوا فَكَأن القَوم ما كَانُوا
وَصَار ما كان مِنْ مُلْكٍ ومِنْ مَلِكٍ
كَمَا حَكَى عَنْ خَيَال الطّيْف وسْنَانُ
من الشعراء السجناء:
 الشاعر الشريف الطـليق (ت 396 هـ) الذي سجن وهو فتى يافع مع جـماعة من الأدباء فلم يزل يأخذ عنهم حتى (ثري تربه وطار شعره) فكان السجن له المدرسة التي علمته الأدب وفتحت قريحته الشعرية.
 الشاعر يوسف بن هارون الرمادي 403 هـ الذي سجن على يد الحكم المستنصر لأشعار كان ينظُـمها هو وجـماعة من الشـعراء يتبارون في هجاء الخليفة، وضع في سجنه كتابا سماه (الطـير).
 الشـاعر عبد الملك بن غصـن الحجـازي (ت 454هـ) في سجنه وضـع رسـالة في (صفة السجن والمسجون والحزن والمحزون) واودعها الف بيت من شعره في الاستعطاف، وكانت سببا في العفو عنه.
 ابن الابار (ت 658هـ) ألف أثناء نفيه الى بجاية مؤلفه (أعتاب الكتاب).
 وكان من بين الشعراء الأندلسيين الذين سُجنوا عدد لا بأس به من كبار شعراء الأندلس وأدبائها من امثال:
 يحيى بن الحكم الغزال، وابن شهيد وابن زيمن والمعتمد بن عباد، وابن حزم الأندلسي، ولسان الدين بن الخطيب.
ادبيات وشاعرات:
من أشـهر شاعرات الأندلس حسانة التميمية وقمر البغدادية وكانتا في زمن الإمارة الأموية (138ـ316هـ)، وعائشة بنت أحمد القرطبية والغسـانية البجـانية في زمن الخـلافة الأموية (316ـ422هـ)، ولادة بنت المستكفي وأم العـلاء الحجارية وأم الكـرم بنت المعتصـم بن صـمادح في زمن ملوك الطوائف (422ـ483هـ) و نزهـون بنت القلاعـي الغرناطية في زمن المرابطين، و حفصة بنت الحاج الركونية وحمدة بنت زياد المؤدب في زمن الموحدين
نزهون بنت القلاعي الغرناطية: شـاعرة مرحة حُلوة الحديث ذات طبع ندي معطاء ونفس شـفافة عرفت بسرعة البديهة روي أنها كانت تقرأ يوماً على أبي بكر المخزومي الأعمى فدخل عليهما أبو بكر الكتندي فقال مخاطباً الشاعر المخزومي الأعمى لو كنت تبصر من تجالسه؟ وصمت المخزومي بُرهـة يفكر! ولكنه لم يجرْ جواباً، وبسرعة فائقة أجابت عنه نزهون فقالت:
لَغَدَوتَ أخْرَسَ منْ خَلاخِلِه
البدرُ يطْـلُع مِنْ أزِرّتِـهِ
والغُصْـن يَمْرحُ في غَلائِلِهِ
غـاية المُنَى: هي شـاعرةٌ أندلسيةٌ لطيفةٌ جيء بها إلى المعتصم بن صمادح راغبا في امتحانها ليعرف مستواها الادبي فقال: ما إسمك؟ قالت: غاية المنى قال: أجيزي؟
فقال: اسألوا غاية المنى؟؟
من كَسَا جِسْمي الضّنَا .......
فقالت: على الفور:
أرَانِـي مُتَـيّماً .. سَيقُولُ الْهَوىَ أَنَا
صفية بنت عبدالله الرّي: شاعرة لم تعش طويلا ودعت الشباب وهي تتألق بهجة وحيوية لم يعثر على أخبارها إلا القليل القليل، ذات مرة عابتها امرأة على رداءة خطها فقالت:
وعَائِبَةً خَطِّـي فَقُلْتَ لَها اقْصِرِي
فَسَوفَ أُرِيكِ الدُّرَّ فِيْ نَظْمِ أَسْطُرِي
نادَيْتُ كَفِّـي كَيْ تَجُودَ بِخَطِّهَا
وَقَـرّبْتُ أقْـلاَمِي وَورقي وَمِحْبَرِي
فَخَطَّـتْ بِأبْيَـاتٍ ثَلاَثٌ نَظَمْتُها
لِيَبْدُو بِهَا خَـطِّي وَقُلْت لَهَا انْظُـرِي
• بثينة بنت المعتمد بن عباد: بنت ملك شـاعر وبنت شاعرة ظريفة فلا عجب إن أُشربت حُب الشـعر منذ أن كانت بُرعماً يتفتح للحياة، إذ حلت بأبيها النكبة المعروفة وسُبيت فأصبحت من جملة العبيد تباع في الأسواق واشتراها رجل من اشبيليا ثم وهبها لأبنه ولكنه لما أراد البناء بها امتنعت وأعلنت عن نفسها وقالت لا يكون ذلك إلا بموافقة أبي وكتبت له قصيدة تحكي له قصتها في اسى وحسرة فتقول:
اسمع كَلامِي واسْتَمِعْ لِمَقَالَتِي .. فَهِي السُّلُوك بَدَتْ من الأجيادِ
لا تُنْـكِروا أنِّي سُبِيتُ وأنَّني .. بِنْتٌ لِمَلكٍ من بَنِـي عـبادِ
نساء اندلسيات:
• كما اشتهرت المرأة الاندلسية في المجال الثقافي، فنذكر القرطـبية ولاّّدة بنت الخـليفة المُسْـتكفي الشاعرة الأديبة صاحبة الصالون الأدبي الشهير، ومريم ابنة يعقوب الشاعرة الأديبة.
• وعائشة بنت أحمد التي كانت مُربية ومُعلمة لولد المنصور ابن أبي عـامر أشـهر وأقوى وزراء الدولة الأموية في الأندلس.
التراث الاندلسي:
يوجد في الأندلس ثرواتٌ نفيسةٌ من التراث كانت تنافس الثروات في بغداد ودمشق والقيروان وبلاد النيـل والدولة العثمانية وعند سقوط غرناطة وأشبيلية نُهبت وسُرقت هذه الثروات إلى اسبانيا ومنها ما تم تصديره إلى فرنسا وإلى انجلترا
المخطوطات النادره: يوجد في الأندلس مخطوطات عديدة وقديمة وموثقة توثيق تأريخي منها القرآن الكريم الذي كتب في خط اليد الاندلسي، وكذلك مخطوطة ابن البيطـار وهذه المخطوطات ما زالت محفوظة في المتحف الأسباني
العملات في الاندلس: استخدمت في العصر الأندلسي عدة أشكال من العملات الأسلامية ضرب عليها ”الشـهادتين“ على الوجهـين وأسماء الحكـام آنذاك
مقتنيات وحلي اندلسية: تتميز الحلي الأندلسية بعراقتها ودقـة صياغتها حيث كانت تلبسها النساء في المناسـبات وكانت تصنع من الفضة وبعض المعـادن الأخرى مثل الذهب والنحاس
محققين وكتاب معاصرين: من الكتاب الذي كتبوا عن تاريـخ الأندلس كُثر، نستخلص منهم الكتاب البارزين الذين أثروا الساحة العربية بتحقيقاتهم الأندلسية ومن هؤلاء الكتاب، الكاتب الكبير”إحسـان عباس“ الذي حقـق الكثير في التأريخ الأندلسي. فعباساً كان أكثر اهتماماً بالشعر في الأندلس وخارجها. وقد بدأ اهتمامه التحقيقي بالنشرات العـلمية لدواوين الأندلسيـين والصقليـين, مثل: "ابن حمديس الصـقلي (1960), والرصـافي البلنـسي (1960), والأعلى التطـيلي (1963), والكتيبة الكامنة للسان الدين ابن الخطيب في أشـعار الأندلسيين (1963), والتشبيهات من أشعار أهل الأندلـس لابن الكتاني (1966), وتحفة القادم لابن الأبّار (1986), ومعجـم الشعراء الصقلـيين (1995)".
الدكتور والشاعر والمترجم ”عبد الله حمادي“ خريج جامعـة مدريد المركزية في إسبانيا عام1980م ومتخصص في الأدب الأندلسي والإسباني واللاتينو أميركي، ويعـمل حـاليا أستاذا لمادة الأدب في جامعة قسـنطينة بالجزائر، كما يتولى رئاسة قسم الترجمة فيها. وطيلة سنوات دراسته في إسبانيا جعلته يحتك بأدبائها، وشعرائها القـدامى والمحـدثين وكأن شـيئا غامضا يجذبه إلى أعماق الأندلس ليكون مصدر إلهامه. ولهذا جالت معظـم مؤلفاته في فلك الأندلس ومدى تأثيرها على الأدب الإنساني عامة والإسباني خاصة، من مثل: مدخل إلى الشعر الإسباني المعاصر، قصائد غجرية وأندلسيات
يأتي كتابه الجديد القديم "الأندلس بين الحلم والحقيقة" الجديد لأنه صدر في العام الحالي2004 والقديم لأنه
وليـد مطـلع التسعـينيات تَمخـّض مـن خلال
فكــرة التبــادل الشــعوري والفكـــري بيــن
الضـفـتين: الأندلس من جـهـة والســـاحـل
الأفريقي الشـمالي من جهة أخـرى. ورُغـم
استكمال مادته فإنه لمْ يـرَ النـور في أوانه
بســبب الظـروف الأمنـيـة التـي عــرفتـها الجــزائر في تلك الفتـرة المعروفة بعشرية الدماء والدموع.
 الشـعر في قرطـبة تأليـف: د. محمد سعيد محمد صادر
عن المجمع الثقافي ‏2003‏‏. يتكـلم الكـاتب عن في كـتابه الشعر في قرطبة حيث يقول:” تعد قرطبة مركزاً مهماً للعلوم والفنون ولم تصل إلى هذه المكانة إلا بفضل
القادة العظـام ومنهم عبدالرحمن الثالث،
فجعلوا البلاد تعـيش في اسـتقرار الذي
جعل رقعة قرطبة تتسع والحـياة الأدبية
تنشط مع التشجيع المتواصل من قبل ولاه الأمر للشعراء.
من النساء في العصـر الحديث كـتبت الأديبة والمؤلفة: رضوى عاشور عن الحياة الأندلسية في
كتابها (ثلاثية غرناطـة) سـنة النشـر
2001 ومؤلفها يقع في 502 صفحـة
وأبرزت جـميع المراحل التي مرت بها
الاندلـس وهـو كـتاب قيِّـمٌ للغايـة.
تواريخ سقوط بعض المدن الاندلسية:
• برشـلونة 74هـ 985م قــرطــبـــة 633هـ 1236م
• قرطاجـــنة 640هـ 1242م
• مرســــــيـة 641هـ 1443م
• لشــــــبونـة 645هـ 1247م
• إشـــــبيـليـة 646هـ 1248م
• جبل طارق 702هـ 1310م
• رنــــــــــدة 890هـ 1485م
• غــرناطــة 898هـ 1492
• ليـــــــون 392هـ 1002م
• سـلمنـقـة 446هـ 1055م
• مــدريـد 476هـ 1084م
• طليطــلة 477هـ 1085م
• سرقسطة 512هـ 1119م
• مـــــاردة 619هـ 1222م
• يابســـــة 632هـ 1235م
الخاتمه: لا بد لنا ان نعرج ولو باختصار على الجانب الحضاري لمسـلمي الاندلس. فقد ترعرعت حضارة زاهية في ربوع الاندلس كان لسانها العربية ومادتها الاسلام. وقد شملت هذه الحضارة مختلف الجوانب كالزراعة والصناعة والتجارة، الادب والفن،المعمار والفلسفة وفن الحروب والفروسية. فقد انشأ المسلمون نظام ري استطاع ان يحي الكثير من ارض الموات وتحولت ارض اسبانيا الى مروج خضراء، وقد دخل الفاتحون معهم المحاصيل الزراعية التي لم تكن معروفة في اسبانيا من قبل مثل النخيل والرز وقصب السكر. كما برعوا في تربية دود القز وصناعة الحرير، أما بالنسبة للفن المعماري فنظرة فاحصة إلى قصر الحمراء ومسجد قرطبة وقصر اشبيلية جديرة أن تثبت ما وصل إليه المسلمون من درجة عالية من الرقي في الفـن المعماري والذي لا يزال محط انظار العالم إلى وقتنا الحاضر.

المحاضره الاولى
تاريخ حضارة الأندلس
تاريخ الحضـارة الأندلسـية
ظهرت الحضارة الأندلسية عند قيام طارق بن زياد فتح بلاد الأندلس، حيث كانت شبه الجزيرة الأيبرية (اسـبانيا) تحت حكم الملوك القُوط الذين هاجـروا اليها من داخل اوروبا وقد عانى الاسبان كثيرا من ظلمهم وسوء ادارتهم وقد كانوا يتحـينون الفُرص للتخلص منهم.
حـانت الفرصــة عـندما جــاء مـلك القـُــوط لذريــق إلـى الحـكــم بعــد ان اغتـصـــب الحُـكـم من المـلـك الشــرعـي واغتياله فقد طلب بعـض الاسبان النجدة من موسى بن نصــير الذي أرســل قـائداً شـــاباً مع جـيـش صـغـير مـن المســلمين. كان هذا القــائد هو (طــارق بن زيــاد) الذي وطأت اقدامه هو وجيـشـه ارض الاندلـس في شـهر رجـب 92هـ 711م عــند المضيق المسـمى باســمه لهـذا اليوم (جبل طارق).
لم تكن سيطرة المسلمين على اسـبانيا كاملة تماماً اذ بقيت جيوب صغيرة للأسبان في الشمال والشمال الغربي في المناطق الجبلية الوعرة كانوا ينفذون منها للهجـوم والتخريب. لم يَدرْ في خلد المسـلمين الفاتحين. إن هذه الجـيوب الصـغيرة سوف تكون نواة لممالك الاسـبان مستقبلاً لينطلقـوا منها في التهـام ممالك الاسـلام في اسـبانيا الواحدة تلو الاخـرى عندما ضعف المسلمون ولم يكن طموح الاسـبان لينتهي إلاّ بطـرد المسـلمين بصورة نهائية كما سوف نرى.
تسمية الأندلس يعود أصل تسمية الأندلس بالأندلس إلى أسـاطير واحتمالات، إن الغالبية العظـمى من المؤرخين العـرب والمسلمين وخاصـة مؤرخـي العصور القديمة، يعتمدون على الروايات والقصص الدينية في البحث عن أصول شعب أو أرض ما.
• يذكُر كثير من المؤرخيـن العـرب أن الأندلس سُميت بهذا الاسـم نسبة إلى أندلس بن يافث بن نوح الذي هو أول من عمّرها.
• كما ذكـر ابن خـلدون إنّ أول من سـكنها بعد الطـوفان لسفينة نـوح قوم يُعـرفون بالأندلـش ـ بشين مُعجـمة ـ ثم عـرّب هذا الاسم بعد ذلك بسين مهملة.
• أما عبد الرحمن الحجي فإنه يذكر في كتابه (التاريخ الأندلسي) أن أصل مصطلح الأندلس مأخوذ من قبائل الوندال (Vandalos) التي تعود إلى أصل جرماني، احتلت شبه الجزيرة الأيبيرية حوالي القرن الثالث والرابع وحتى الخامس الميلادي، وسميت باسمها فاندلسيا Vandalusia أي بـلاد الوندال ثم نُطقت بالعربية الأندلس.
• ذكر النويـري أن النصارى أي الأسـبان، تسمي الأندلس إشـبانية باسـم رجل صلب فيها يقـال له إشبانش وقيل: باسم ملك كان لها في الزمان الأول اسمه إشـبان بن طيطش.
• على مرّ السـنين دخل الكـثير من الاسبان في الاسلام وكثر التزاوج بين الفاتحـين والأسـبان، بحيث نشأ جيل كبير من المولودين الذين يحملون في عـروقهم دماء اسبانية إضـافة إلى الدمـاء العربية والبربريـة وقد ارتقى الكـثير منهم في مناصب الدولة العالية مثل ابن حزم الاندلسـي الذي اعتنق جده الاسلام.
• دخلت الاندلـس المرحـلة الثـانية من تاريخـها السياسي عندما فوّضت أركان الخـلافة على بنـي أمية في دمشق حيث هزم اخـر خلفائهم مروان بن محمد امام جـيوش العباسـيين في معركة الـزّاب سنة 132هـ.
• ولى هائماً على وجهه وكأن الارض لا تسع لهربه بما وسعت ليلقى حتفه على يد العباسيين ولتـبدأ مرحلة دموية كان الامويون وقُـودُها، حيث أذاق بنو العباس الامويين حَرِّ الحـديد وبَأْسَ السـيف وجرعوهم مرارة الذل والهوان وشـردوهم وراء كل حجرٍ ومدرْ. نجا من تلك المذابح شـاب اموي اسمه عبد الرحمن استطاع عبور الفرات وهـرب إلى شمال افريقيا.
وبمسـاعدة اخواله البربر استطاع العـبور إلى الاندلـس استطاع عبدالرحمن الملقب (الداخـل) من تأليف القـبائل اليمانية التي كانت ناقـمة على هيمنة القـبائل القيسـية وبمساعدة البربر استطاع ان يخضع الاندلس لسيطرته وان يبايعوه أهـل الاندلس اميـراً عليها سنة 138هـ 755م. حاول الخليفة ابو جعفر المنصور عبثاً إِخضاع عبدالرحمن الداخل حيث اسـتطاع عبدالرحمن الناصر هذا الذي لقبـه المنصور بـ(صقر قريش) أن يهـزم جيش المنصور وأن يبرد برؤوس قادة الجـيش إلى المنصور لتصله إلى مكـة اثناء موسم الحج.
-اتخذ عبدالرحمن قرطـبة عاصـمة له وبدأ ببنـاء وتوسـعة مسجدها فدخلت قرطبة مرحلة مزدهرة اصبحت معها فيما بعد محط الانظار ومهد الحضارة
استمرت السُّـلالة الاموية في حكـم الاندلس حيث بلغت أوج حكمها في زمن عبدالرحمن الثـالث الذي دام حكمه لأكثر من خمسين عاماًً وامتد سُلطانه إلى شمال افريقيا وليقهر الأسبان وليجعل من (اسبانيا) قبلة الامصار وعروس اوروبا. إليها تشدّ الرحـال لطـلب العلم والأدب والفنـون وحتى صارت اللغة العربية هي لغة العلم حتى في اوروبا.
• بدأ حُكـم عبدالرحمن الثالث في سنة300هـ وانتهى عام 350هـ واستطاع أن يخلع على نفسه لقب أمير المؤمنين وسمّى نفسه الناصر لدين الله.
• وبهذا اصبحت دار الاسلام يحكمها ثلاثة خلفاء هم: (الامـوي والعباسـي والفاطمـي) في آن واحد.
• جدول يبين حكم الأندلس حسب الفترات الزمنية.
• 1. عصر الولاة الحــاكــم من الى الملاحضات
• طـارق بـن زيــاد 92 93 أول من دخلها وأميرا للجيش
• موسى بن نصير اللخمي 93 94
• أبو عبد الرحمن بن موسى بن نصير 94 95
• * هناك عدد كبير من الحكام لا يسع 59 138
الوقت لذكرهم ونوجز هنا في ذكر
الحكام الذين كانت لهم صبغة في
حكم الأندلس.
جدول يبين حكم الأندلس حسب الفترات الزمنية.
2. الحكام الأمويون في الأندلس (الأمراء) من الى ملاحظات
أول الحكام من الأمراء 138 172 مدة حكمة 34 سنة وتمتاز بطابعها الشامي
أبو المطرف "الداخل" عبد الرحمن
بن معاوية صقر قريش
جدول يبين حكم الأندلس حسب الفترات الزمنية.
الحاكم من الى الملاحظات
أبو المطرف "الناصر لدين الله" 300 350 دام ملكه خمسين حولاً وكان عهداً زاهراً وبلغت الأندلس أوج حكمها
عبدالرحمن (3) بن محمد
جدول يبين حكم الأندلس حسب الفترات الزمنية.
3- عصر الطوائف من الى الملاحظات
استطاعت الأسر القوية أن تستقل ببعض الأقاليم فهناك 629 633 ثم دخول بن الأحمر وأخيرا سقطت في أيدي القشتاليين
بنو جهور في قرطبة- بنو ذي النون في طليطلة-
بنو هود في سَرَقُسْطة- بنو الأفطس في بطليموس
- بنو عبد العزيز في بلنسية- بنو عبّاد في أشبيليا
أخر الحكام كان من عمال بني هود
* في عام 633هـ سقطت (غرناطـة) والأندلس في أيدي الأسبان.
مدن الاندلس قرطبه:
مدينة أندلسية تقع في الغرب الأسباني تتفرع سـفوح جبالها من سـلسلة جبال سيرا مورينا، الممتدة شـمالي المدينـة. وتمتد قرطـبة على الضفة اليمنى لنهر الوادي الكـبير الذي ينحني طفيفا في مجراه نحو الغـرب، مُؤلفا أهم طريق طبيعي في أسبانيا الجنوبية. وقرطبة مدينة
إيبيرية قـديمة البناء كان اسـمها
(إيبيري بحت) وترجم للعربيـة إلى
قرطبة.
سقوط قرطبه: دخول ايزابيـلا وفريـديناند الى غرناطة عشـية سقوطها.
اشبيليه: تقع إشبيبلة إلى الجنوب الغربي من قرطبة وفي شـمال قادس على مسـيرة (60) ميلا من ساحل المحيط الأطلسي. والاسم القديـم لمدينة إشبيلية هو إشبالي من أصل إيبيري، ثم تحول هذا الاسم إلى اسم لاتينيHispalis
بعد أن غزاها الرومان عام 205 قبل
الميلاد، وعَرَّبَ المسلمون هذا الاسم
إلى إشبيلية ومن هذا الاسم المتعرِّب
اشتق الأسـبان الاسم الحالي
غرناطه: تقع غرناطة على بعد267ميلا جنوب
مدينة مدريد (عاصمة أسبانيا). وهي
إحدى ولايات الجنوب الأسباني وتطل
على البحر المتوسط من الجنوب ونهر
شنيل وبساتين قصور الحمراء وتَلِّها العالي وهي تعلو قرابة (669) م فوق سطح البحر مما جعل مناخها غاية في اللطف والجمال. ومنه اشتق اسمها، حيث تعني كلمة غرناطـة عند عجم الأندلس "رمتنة" وذلك لحسنها وجمالها
بلنسية: بلنسية مدينة شهيرة تقع شـرقي مدينتي
تدميـر، وقرطـبة، وتتصـل بزمام إقليم
مدينة تدمير، وبلنسية مدينة برية بحـرية
ذات أشجار وأنهار، وتعرف باسم مدينـة
التراب. ويغلب على شـجرها القراسـيا،
ولا يخلو منها سهل ولا جبل، وينبت في ضواحيها الزعـفران، وكان الروم قد ملكـوها عام 487هـ ـ 1094م، واستردها المُلثمون (المُوحِدُون) عام 495هـ ـ 1101م.
طليطله: طُليطلة مدينة أندلسية عريقة في القـدم تقع على بعد 75 كم من مدريد العاصمة الأسبانية. وتقع على مرتفع منيع تحيط به أودية عميقة وأجراف عميقة، تتدفـق فيها مياه نهر تاجة.
ويحيط وادي تاجـة بطليطلة من ثلاث جهـات مُسـاهما بذلك في حصانتها ومنعتها.
عمارة الاندلس: بلغت الأندلس أوج ازدهارها في ظـل ”عبد الرحمن الناصر“ أول خليفة أموي في الأندلس بعد أن اتخذ منها عاصمة لدولته وجعلها كبرى المدن الأوروبية في عهده وأكثرها أخْـذاً بأسباب الثقـافة.
لقد أصــبحت قـرطـبة مقر خــليفة المســلمين في العــالم الغربـي، وكانت قرطـبة العاصـمة الكبـرى لإسـبانيا، يَفِـد إليها الملـوك والسفراء يقدمون للخـليفة فروض الطاعـة والـولاء. فقد كانت الدولة المسـيحية حتى القرن الحـادي عشر أشبه بالمحمية للدولة الإسلامية. وفـي هـذا العهــد نافـســت قرطـبة بأُبَّـهَـتِها وعــمرانها وحــالتها الثقــافيـة كبريات المـدن الإسـلامية كالقـاهـرة، ودمشــق، وبغـــداد والقيروان حتى أطلق عليها الأوروبيون (جوهرة العالم).
علماء اندلسيون: رَاجَت الثقافة في الأندلس وعزّزها الخـلفاء فنقلوا من الشرق العبّاسي أهم ما صُنـّف في العلوم وأسسوا المعاهد في المـدن والقـرى وشيّدوا المكاتب, وشجّعوا الحركة العقليّة.
من العلماء والأطباء ابن البيطار أحد مشـاهير الأطباء في ذاك العصر الذي بحث في رحلاته الطويلة عن الأعشاب حتى اصبح حجّة في معرفة انواعها وأصنافها وأماكنها وخصائصها. ومن مؤلفات ابن البيطار:
1. تفسير كتاب ديسقوريدس.
2. الإبانة والأعلام بما في المناهج من خلل وأوهام.
3. الجامع لمفردات الأدوية والأغذية.
4. الأفعال الغريبة والخواص العجيبة.
5. رسالة في تداوي السّموم.
6. المغنى في الأدوية المفردة.
7. ميزان الطبيب.
• اشتهر في قرطـبة كثير من العلماء المسلمين في شتى مجالات المعرفة. فمن العلماء الشرعيـين كان أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الشهير بإبن حزم وهو فقيه من أكبر علماء المذهب الظاهري.
• وكذلك محمد بن فتوح بن عبد الله
الحميدي وكان مؤرخا ومن الفقهاء
ظاهري المذهب.
• ومن أطباء الأندلس أبو داود سـليمان بن حسـان الأندلسي الشهير بابن جلجل وكان بارزا في حَقْـلي الطـب والنبات، وكذلك أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد ولد قريبا من قرطبة ودرس العلوم الدينية وكان قاضيا.
• وكذلك أبو القاسم خلف بن العباس الزهراوي وكان من أشهر أطباء وجراحي عصره.
• ومن علماء النبات اشتهر أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد المعروف بإبن وافد وكان فقيها بالعقاقير والأدوية وعالما بالفلاحـة، وأبو جعفر أحمد بن محمد الأندلسي الغافقي وكان من كبار الأطـباء والنباتيين في الأندلس.
• ومن الفيزيائيين أبو القاسـم العباس بن فرناس وكـان صاحب أول محاولة بشرية للطــيران وكانت له دراية بعلم الكيمياء وتوصل إلى اكتشافات في هذا المجال.
• ومن الجغـرافيـين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس الحسيني المعروف بالشريف لإدريسي وكان كتابه (نزهـة المشـتاق) الذي أهـداه إلى (روجـيه الثاني النورماندي) ملك صقلية من أعظم الكتب وهو رحالة وعالما بالأدوية المفـردة الفلك والنبات.
• ومن الفلكيين ابن الزرقالي الذي صنع أصـطرلابا عـرف باسمه, وحظـي بأهمية كبرى في ميدان علم الفلك, وكـان أكبر راصد في عصره. شارك في وضع جداول فلكية لمدينة طليطلة نقل عنها (كوبرنيك).
• ومن الأطباء الفلاسفة كان أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد وكان أوحد أهل زمانه في الفقـه وتميز في علم الطب وله فيه مؤلفات كثيرة.
• ويعتبر ابن رشد الفـقيه الطبيب
الفيلسـوف، اشـتهر في أوروبا
شـهرة كبيرة حيث اعـتمد على
مؤلفاته في القـرون الوسـطى.
ولد ابن رشد في سنة520هـ وهي نفـس السـنة التي توفى فيها جده. ونشـأ في مدينة قرطبة. وحفظ القرآن الكريـم، وحفظ كتاب الموطأ للإمام مالك، ودرس الفقـه ونبغ فيـه، كما درس علوم الحساب والفلك وعلم الهيئة ثم درس الطـب وتعمق في دراسته، وفي عام 565هـ تولى القضاء في أشـبيليه، ثم في قرطبة عام 567هـ، واشتهرت أحكامه بالعدل والنزاهة، فتولى قاضي القضاة وألف عدة كتب منها: "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" وكتاب "تهافت التهافت" وألف في الطب كتاب "الكليات”.
• أهم المراكـز الثقافيـة والتعليميـة: جامعة قرطبة التي أسسها عبد الرحمن الثالث بجوار الجامع الكبير، من أشهر المؤسسات الثقافية.
• مكتبة قرطبة والتي كـانت تحوي علـى أكـثر من 4000 مجلد.
• مدرسة مسلمة المجريطي في الكيمياء والرياضيات والفـلك.
• مدرسة أبو القاسم الزهراوي في الطب.
أهم المواقـع التاريخيـة: قلعة الملك في الخضراء.
• الحـمامات: كان أهل قرطبة يسترخون في حمامات عامة وخاصة كلها مُدفأة وتجري فيها المياه الساخنة والباردة.
• وكانت الحـمامات العامة تعتبر من أهم المنشـآت المدنيـة في المدينة لكـثرتها وتعـددها من جـهة، ولارتباطها الوثيـق بالطـهارة المتأصلة بعـمق في الإسلام من جهة أخرى، وقد تميزت قرطـبة بوجـه خاص بكـثرة حـماماتـها حتى قيل إن عددها بلغ 300 حمام.
• ومن الآثار الإسـلامية الباقـية في قرطبة حـمامان الأول صغير المسـاحة، عـثر عليه عام 1321هـ 1903م في جوف الأرض في المنطـقة المعـروفة بساحة الشهداء داخل نطاق القصر الخلافي بقرطبة.
مثقـفو وشـعراء الأندلس:
• هناك العديد من المثقفين والشعراء الأندلسيين نُوجِـز بعضاً من الذين وضعوا بصماتٍ تاريخيةٍ في تاريخ الأندلسي في المديح والهجاء والغزل والرثاء.
• لقد انتشرت المدارس في قرطبة حتى لم يعد فيها شخص واحد لايجيد القراءة والكتابة. واشتهرت قرطبة بالعلمـاء والشـعراء، والكثير منهم كانوا من أهـل الحكم أو البيت الحاكـم مثل الخليفة الحكم، والشاعر أبي عبد الملك مروان حـفيد عبد الرحمن الثالث، والخليفة المستعين بالله، والوزير أبو الغيرة بن حزم وهو ابن عم فيلسوف قرطبة الشـهير محمد بن حـزم، والوزير عبد الملك بن جهور، والوزير المصحفي، بالإضافة إلى عشرات بل مئات العلماء في كافة المجالات كـابن طُفيل وابن رشد وابن باجه في الفلسفة، وأبو عبد الله القرطبي في العـلوم الشرعية، والقاضي أبو الوليد الباجي وأبو الحسن على بن القطان القرطبي في الحديث النبوي، ومنذر بن سعيد قاضي الجماعة بقرطبة، وزَرْيَاب الموسيقى، وابن عبد ربه اللغوي الأديب، وغيرهم وغيرهم.
• ابن خفاجة الأندلسي (450-533هـ). إبراهيم بن أبي الفتح بن عبد الله بن خفاجه الهواري الأندلسـي أبو إسحـاق. من أعلام الشعراء الأندلسيين في القرنيـن الخامس والسادس. عُرِف عنه بالتأنق في مظهره ومطعمه، ولم يشـتغل بعمل ولم يتزوج قـط. وكان نزيه النفس سمي بـ”الجنّّان“ اشـهر قصـيدة له ”وصف الجبل“ وهي تشف عن رؤيته للموت والحياة، ويصـور من خـلالها كيف أن الجبل يحس السأم لطول بقائه ويتمنى الموت والفناء. اشتهرت أبياته التي تصـف الأندلس وطبيعتها الجميلة:
• يا أَهْـل أندلـس لله دَرّكُمُ ** ماءٌ وظِلٌ وأزهَـارٌ وأشْجَارُ
• ما جنّةٌ الخلدِ إِلاّ في ديَاركم ** ولو تخيرتُ هذا كنت أختارُ
• من قصائد ابن خفاجة الاندلسي (حلو اللمى)
• وأغيـدٌ حُلْو اللّـمى, أمْلـَـدٌ يُذْكِي عَلـى وِجْنَتِه الجَمْـرُ
• بِـتُّ أُنَاجِـيْـه , ولا رِيْـبـَةٌ تَعَـلّق بِـي فِيـه , وَلا وِزْرُ
• وَالليْـلُ سِتْرٌ وَدُونِـنَا وَمُرْسِلٌ قَدْ طَـرّزتْهُ أَنْجُـمُ حُمْـرُ
• أبْكِي وَيُشْجِيْني , فَفِي وِجْـنَتِي مَاءٌ , وَفِيْ وِجْـنَتَيْه خَـمْرُ
• وَأقْـرَأُ الْحُسْـنَ بِـهِ سُـورَةٌ أنَ لَها , مِنْ وَجْهِهِ , عَـشْرُ
• وَبأت يُسْـقِيْني وَتَحْـت الدُّجَى مَشْمُولةٌ, يَمْزُجُـها الْقَـطْرُ
• وابْتَسَمتْ , عَنْ وَجْـهِهِ , لَيْلَـةٌ كَأَنّهُ , فِـي وَجْهِـهَا , تَغْرُ
ابو البقاء الرُندي
هو صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم بن علي بن شريف الرندي الأندلسي. من أهل (رُنـدة) قرب الجزيرة الخضراء، من حُفـاظ الحديث والفقهاء. كان بارعا في منظوم الكلام ومنثوره مجيدا في المديح والغزل والوصف والزهد، ولكن ترجـع شُـهرته إلى قصيدةٍٍ نظمها بعد ضياع عدد من المدن الأندلسية.
وفي قصيدته التي نظمها يستنصر أهل العُدوة الإفريقية من بني مُرين لما أخذ ابن الأحـمر محمد بن يوسـف أول سـلاطين غرناطة يتنازل للأسـبان عن عدد من القلاع والمدن إرضاء لهم وأملا في أن يبقى له حكمه المُقلقـل في غرناطة وتُعرف قصيدته بمرثية الأندلس وفيها يقول:
لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَاتَم نُـقْصَانُ
فَلا يُغَرَّ بِطِيبِ العَيْشِ إنْسَانُ
هِيَ الأمُورُ كَمَا شَاهَدتُها دُولٌ
مَنْ سَرّه زَمَنٌ سَاءَتْه أَزْمَانُ
وَهَذِهِ الدّارُ لاَ تُبْقِى عَلَى أَحَدٍ
وَلاَ يَدُومُ عَلَى حَالٍ لهَاَ شَانُ
يُمَزِّقُ الدَّهْرُ حَتْماً كُلَّ سَابِغَةٍ
إِذَا نَمَتْ مَشْرَفيّاتٌ وقُرْصَانُ
أيْنَ الملُوكُ ذَوِيْ التيِّجَانِ مِنْ يَمَنٍ
وَأيْنَ مِنْهمُ أَكَالِيْلٌ وَتِيْجَـانُ
وَأيْن مَا شَادَه شَـدّادُ من إِرَمٍٍ
وَأيْن مَا سَاسَه في الفُرسِ سَاسَانُ
وأيْن مَا حَازَه قَارُونُ مِنْ ذَهَبٍ
وَأيْنَ عَـادٌ وشَدّادٌ وقَحْطَانُ
أتى عَلى الْكُلِّ أَمْرٌ لا مَرَدَّ له
حَتَّى قَضَوا فَكَأن القَوم ما كَانُوا
وَصَار ما كان مِنْ مُلْكٍ ومِنْ مَلِكٍ
كَمَا حَكَى عَنْ خَيَال الطّيْف وسْنَانُ
من الشعراء السجناء:
 الشاعر الشريف الطـليق (ت 396 هـ) الذي سجن وهو فتى يافع مع جـماعة من الأدباء فلم يزل يأخذ عنهم حتى (ثري تربه وطار شعره) فكان السجن له المدرسة التي علمته الأدب وفتحت قريحته الشعرية.
 الشاعر يوسف بن هارون الرمادي 403 هـ الذي سجن على يد الحكم المستنصر لأشعار كان ينظُـمها هو وجـماعة من الشـعراء يتبارون في هجاء الخليفة، وضع في سجنه كتابا سماه (الطـير).
 الشـاعر عبد الملك بن غصـن الحجـازي (ت 454هـ) في سجنه وضـع رسـالة في (صفة السجن والمسجون والحزن والمحزون) واودعها الف بيت من شعره في الاستعطاف، وكانت سببا في العفو عنه.
 ابن الابار (ت 658هـ) ألف أثناء نفيه الى بجاية مؤلفه (أعتاب الكتاب).
 وكان من بين الشعراء الأندلسيين الذين سُجنوا عدد لا بأس به من كبار شعراء الأندلس وأدبائها من امثال:
 يحيى بن الحكم الغزال، وابن شهيد وابن زيمن والمعتمد بن عباد، وابن حزم الأندلسي، ولسان الدين بن الخطيب.
ادبيات وشاعرات:
من أشـهر شاعرات الأندلس حسانة التميمية وقمر البغدادية وكانتا في زمن الإمارة الأموية (138ـ316هـ)، وعائشة بنت أحمد القرطبية والغسـانية البجـانية في زمن الخـلافة الأموية (316ـ422هـ)، ولادة بنت المستكفي وأم العـلاء الحجارية وأم الكـرم بنت المعتصـم بن صـمادح في زمن ملوك الطوائف (422ـ483هـ) و نزهـون بنت القلاعـي الغرناطية في زمن المرابطين، و حفصة بنت الحاج الركونية وحمدة بنت زياد المؤدب في زمن الموحدين
نزهون بنت القلاعي الغرناطية: شـاعرة مرحة حُلوة الحديث ذات طبع ندي معطاء ونفس شـفافة عرفت بسرعة البديهة روي أنها كانت تقرأ يوماً على أبي بكر المخزومي الأعمى فدخل عليهما أبو بكر الكتندي فقال مخاطباً الشاعر المخزومي الأعمى لو كنت تبصر من تجالسه؟ وصمت المخزومي بُرهـة يفكر! ولكنه لم يجرْ جواباً، وبسرعة فائقة أجابت عنه نزهون فقالت:
لَغَدَوتَ أخْرَسَ منْ خَلاخِلِه
البدرُ يطْـلُع مِنْ أزِرّتِـهِ
والغُصْـن يَمْرحُ في غَلائِلِهِ
غـاية المُنَى: هي شـاعرةٌ أندلسيةٌ لطيفةٌ جيء بها إلى المعتصم بن صمادح راغبا في امتحانها ليعرف مستواها الادبي فقال: ما إسمك؟ قالت: غاية المنى قال: أجيزي؟
فقال: اسألوا غاية المنى؟؟
من كَسَا جِسْمي الضّنَا .......
فقالت: على الفور:
أرَانِـي مُتَـيّماً .. سَيقُولُ الْهَوىَ أَنَا
صفية بنت عبدالله الرّي: شاعرة لم تعش طويلا ودعت الشباب وهي تتألق بهجة وحيوية لم يعثر على أخبارها إلا القليل القليل، ذات مرة عابتها امرأة على رداءة خطها فقالت:
وعَائِبَةً خَطِّـي فَقُلْتَ لَها اقْصِرِي
فَسَوفَ أُرِيكِ الدُّرَّ فِيْ نَظْمِ أَسْطُرِي
نادَيْتُ كَفِّـي كَيْ تَجُودَ بِخَطِّهَا
وَقَـرّبْتُ أقْـلاَمِي وَورقي وَمِحْبَرِي
فَخَطَّـتْ بِأبْيَـاتٍ ثَلاَثٌ نَظَمْتُها
لِيَبْدُو بِهَا خَـطِّي وَقُلْت لَهَا انْظُـرِي
• بثينة بنت المعتمد بن عباد: بنت ملك شـاعر وبنت شاعرة ظريفة فلا عجب إن أُشربت حُب الشـعر منذ أن كانت بُرعماً يتفتح للحياة، إذ حلت بأبيها النكبة المعروفة وسُبيت فأصبحت من جملة العبيد تباع في الأسواق واشتراها رجل من اشبيليا ثم وهبها لأبنه ولكنه لما أراد البناء بها امتنعت وأعلنت عن نفسها وقالت لا يكون ذلك إلا بموافقة أبي وكتبت له قصيدة تحكي له قصتها في اسى وحسرة فتقول:
اسمع كَلامِي واسْتَمِعْ لِمَقَالَتِي .. فَهِي السُّلُوك بَدَتْ من الأجيادِ
لا تُنْـكِروا أنِّي سُبِيتُ وأنَّني .. بِنْتٌ لِمَلكٍ من بَنِـي عـبادِ
نساء اندلسيات:
• كما اشتهرت المرأة الاندلسية في المجال الثقافي، فنذكر القرطـبية ولاّّدة بنت الخـليفة المُسْـتكفي الشاعرة الأديبة صاحبة الصالون الأدبي الشهير، ومريم ابنة يعقوب الشاعرة الأديبة.
• وعائشة بنت أحمد التي كانت مُربية ومُعلمة لولد المنصور ابن أبي عـامر أشـهر وأقوى وزراء الدولة الأموية في الأندلس.
التراث الاندلسي:
يوجد في الأندلس ثرواتٌ نفيسةٌ من التراث كانت تنافس الثروات في بغداد ودمشق والقيروان وبلاد النيـل والدولة العثمانية وعند سقوط غرناطة وأشبيلية نُهبت وسُرقت هذه الثروات إلى اسبانيا ومنها ما تم تصديره إلى فرنسا وإلى انجلترا
المخطوطات النادره: يوجد في الأندلس مخطوطات عديدة وقديمة وموثقة توثيق تأريخي منها القرآن الكريم الذي كتب في خط اليد الاندلسي، وكذلك مخطوطة ابن البيطـار وهذه المخطوطات ما زالت محفوظة في المتحف الأسباني
العملات في الاندلس: استخدمت في العصر الأندلسي عدة أشكال من العملات الأسلامية ضرب عليها ”الشـهادتين“ على الوجهـين وأسماء الحكـام آنذاك
مقتنيات وحلي اندلسية: تتميز الحلي الأندلسية بعراقتها ودقـة صياغتها حيث كانت تلبسها النساء في المناسـبات وكانت تصنع من الفضة وبعض المعـادن الأخرى مثل الذهب والنحاس
محققين وكتاب معاصرين: من الكتاب الذي كتبوا عن تاريـخ الأندلس كُثر، نستخلص منهم الكتاب البارزين الذين أثروا الساحة العربية بتحقيقاتهم الأندلسية ومن هؤلاء الكتاب، الكاتب الكبير”إحسـان عباس“ الذي حقـق الكثير في التأريخ الأندلسي. فعباساً كان أكثر اهتماماً بالشعر في الأندلس وخارجها. وقد بدأ اهتمامه التحقيقي بالنشرات العـلمية لدواوين الأندلسيـين والصقليـين, مثل: "ابن حمديس الصـقلي (1960), والرصـافي البلنـسي (1960), والأعلى التطـيلي (1963), والكتيبة الكامنة للسان الدين ابن الخطيب في أشـعار الأندلسيين (1963), والتشبيهات من أشعار أهل الأندلـس لابن الكتاني (1966), وتحفة القادم لابن الأبّار (1986), ومعجـم الشعراء الصقلـيين (1995)".
الدكتور والشاعر والمترجم ”عبد الله حمادي“ خريج جامعـة مدريد المركزية في إسبانيا عام1980م ومتخصص في الأدب الأندلسي والإسباني واللاتينو أميركي، ويعـمل حـاليا أستاذا لمادة الأدب في جامعة قسـنطينة بالجزائر، كما يتولى رئاسة قسم الترجمة فيها. وطيلة سنوات دراسته في إسبانيا جعلته يحتك بأدبائها، وشعرائها القـدامى والمحـدثين وكأن شـيئا غامضا يجذبه إلى أعماق الأندلس ليكون مصدر إلهامه. ولهذا جالت معظـم مؤلفاته في فلك الأندلس ومدى تأثيرها على الأدب الإنساني عامة والإسباني خاصة، من مثل: مدخل إلى الشعر الإسباني المعاصر، قصائد غجرية وأندلسيات
يأتي كتابه الجديد القديم "الأندلس بين الحلم والحقيقة" الجديد لأنه صدر في العام الحالي2004 والقديم لأنه
وليـد مطـلع التسعـينيات تَمخـّض مـن خلال
فكــرة التبــادل الشــعوري والفكـــري بيــن
الضـفـتين: الأندلس من جـهـة والســـاحـل
الأفريقي الشـمالي من جهة أخـرى. ورُغـم
استكمال مادته فإنه لمْ يـرَ النـور في أوانه
بســبب الظـروف الأمنـيـة التـي عــرفتـها الجــزائر في تلك الفتـرة المعروفة بعشرية الدماء والدموع.
 الشـعر في قرطـبة تأليـف: د. محمد سعيد محمد صادر
عن المجمع الثقافي ‏2003‏‏. يتكـلم الكـاتب عن في كـتابه الشعر في قرطبة حيث يقول:” تعد قرطبة مركزاً مهماً للعلوم والفنون ولم تصل إلى هذه المكانة إلا بفضل
القادة العظـام ومنهم عبدالرحمن الثالث،
فجعلوا البلاد تعـيش في اسـتقرار الذي
جعل رقعة قرطبة تتسع والحـياة الأدبية
تنشط مع التشجيع المتواصل من قبل ولاه الأمر للشعراء.
من النساء في العصـر الحديث كـتبت الأديبة والمؤلفة: رضوى عاشور عن الحياة الأندلسية في
كتابها (ثلاثية غرناطـة) سـنة النشـر
2001 ومؤلفها يقع في 502 صفحـة
وأبرزت جـميع المراحل التي مرت بها
الاندلـس وهـو كـتاب قيِّـمٌ للغايـة.
تواريخ سقوط بعض المدن الاندلسية:
• برشـلونة 74هـ 985م قــرطــبـــة 633هـ 1236م
• قرطاجـــنة 640هـ 1242م
• مرســــــيـة 641هـ 1443م
• لشــــــبونـة 645هـ 1247م
• إشـــــبيـليـة 646هـ 1248م
• جبل طارق 702هـ 1310م
• رنــــــــــدة 890هـ 1485م
• غــرناطــة 898هـ 1492
• ليـــــــون 392هـ 1002م
• سـلمنـقـة 446هـ 1055م
• مــدريـد 476هـ 1084م
• طليطــلة 477هـ 1085م
• سرقسطة 512هـ 1119م
• مـــــاردة 619هـ 1222م
• يابســـــة 632هـ 1235م
الخاتمه: لا بد لنا ان نعرج ولو باختصار على الجانب الحضاري لمسـلمي الاندلس. فقد ترعرعت حضارة زاهية في ربوع الاندلس كان لسانها العربية ومادتها الاسلام. وقد شملت هذه الحضارة مختلف الجوانب كالزراعة والصناعة والتجارة، الادب والفن،المعمار والفلسفة وفن الحروب والفروسية. فقد انشأ المسلمون نظام ري استطاع ان يحي الكثير من ارض الموات وتحولت ارض اسبانيا الى مروج خضراء، وقد دخل الفاتحون معهم المحاصيل الزراعية التي لم تكن معروفة في اسبانيا من قبل مثل النخيل والرز وقصب السكر. كما برعوا في تربية دود القز وصناعة الحرير، أما بالنسبة للفن المعماري فنظرة فاحصة إلى قصر الحمراء ومسجد قرطبة وقصر اشبيلية جديرة أن تثبت ما وصل إليه المسلمون من درجة عالية من الرقي في الفـن المعماري والذي لا يزال محط انظار العالم إلى وقتنا الحاضر.

**د لا ل**
2012-11-29, 22:40
المحاضره الثانية:الشعر الاندلسي
1. عهد الولاة.
2. عهد بنو أمية.
3. عهد ملوك الطوائف.
4. عهد المرابطون.
5. عهد الموحدون.
6. عهد بنو الأحمر.
كـــان صَـــــدى الشِّــعر فـي عـــهــد الـــولاة ضَـــعيفاً بالنسبة للشعر الشـــرقــــي وتــردٍ فـي معانيــــه وأســـاليبه. أهم الشعراء في عهد الولاة:
1. بكـر الكـناني
2. عباس بن ناصح
3. يحيى بن حكم الغزال
4. حسانة التميمية
عهد بنو امية: ازداد الشعر ازديادا لما اولاه الحكام كم عناية ولما كان هناك حركة علمية وادبيه وهي اشبه بحركة اوائل العهد العباسي في الشرق
• اهم الشعراء في عهد بنو امية: ابن دراج القسطلي
• ابن شـهيد
• ابن حـزم
• عهد ملوك الطوائف: تنافسوا فـي نظـم الشـعر وكـانو يتراســـلون فيما بينهم شـعرا، ويحـاولون أن يعيشـــون حياة شـــعرية والسـبب تحول بلاد الأندلس إلى أمــارات، وتــنافس فيها الحكام فـي طلب العلم والأخذ بأسباب الأدب وتقريب الشعراء.
• أهم شعراء فـي عهد
ملـــــــــوك الطــــــوائف
• المعتمد بن عباد
• ابن زيـدون
• ولادة بنت المستكفي
• عهد المرابطون: انحط الشعر انحطاطا لـقُصرِ عهد المرابطــين وذلـك بســبب انهــيار المشــــرق، تضــــاءل الشــعر وتلاشى ونزع نزعة الزجل والتوشيح. مما جعل أحد أهل الحرص على جـمع الشـعر الأندلســي خشية عليه أن يضيع، مثل ابن بسـام في كتابه (الذخيرة في محاسن أهل الجــزيرة) وكـذلك كتاب ابن خاقــان القلاعـــي (قلائد العقيان).
• أهم شعراء في عهد المرابطون:
• ابواسحاق ابن خفاجة
• يحي بن الزقاق
• الأعــــمى التطــيلي
• ابن قزمان
• عهد الموحدين: عهد هدوء وسكينة، كما كان عهد عــِلـــمٌ عُـرف فيـــه العـديــد من الأدبــاء والشعراء البارزين.
• أهم الشعراء في عهد الموحدون:
• ابن الطفيل
• ابن رشد
• ابن البيطار
• الرصـــــــافـي
• حفصة الركونية
• عهد بنو الاحمر: كان عهد بنو الأحمر عهد انحلال وفوضى اشتهر فيه عدد من الشعراء البارزين.
• أهم الشعراء في عهد بنو الأحمر:
• لسان الدين الخطيب
مراحل الشعر الاندلسي: حمل العرب إلى الأندلس طبيعتهـم الشـــعرية كــما حـــمـلوا نزعــاتــهـم العـِرقيّــة، وقــــد نـظــر الغــرب إلــى الشــرق نظــر الفــرع إلـى الأصــــل، ونظــر الشــرق إلــى الغــرب نظــرة اسـتصــغار، وانتـشـــر الشــــعر فـي جميع الطــــبقات وما أن كــــان القـــرن الحـادي عشــــر حتـى قويـت الشـخصية الأندلسية وحتى أخذ الأندلسـيون يعرضون شيئاً فشيئاً عن المشارقة.
عهد الولاة: كان الشعر الأندلسـي فـي عهد الولاة صداً للشعر المشــرقي تتردد فيه معــانيه وأســـاليبه، وقد ظهرت في هذا العهد الأراجـيز التاريخية كـما ظهرت الموشحات، وانتشر شعر النّــوريات إلى جــنب الزُّهـديات و التاريخـيات. ومن شــعراء تلك الفــترة بكــر الكــناني، عباس بن ناصــــح، يـحــيى بن حــكــم الغــزال، حســانة التميمية.
ومن شعراء فترة الولاة أبو الأجــرب جعـونة بن الصِّـمَّة، وقيل أن هذا الشاعر كان بمرتبة جرير والفرزدق، كـما روي أن أبا نــواس ســأل عنه عباس بـن ناصــح الأندلـســي، حين التقى أبو نواس بابن ناصــح في العراق، والشاعر أبو الخطــار حُسام بن ضـــرار، وهـــو من أشــراف القحطــانين بالأندلس وكان شاعراً فارساً؛ لذا لقب بـعنترة الأندلس وهذان الشاعران لـم يــعثر إلا على القليل من أشـعارهما.
عهــد بنو أميـة: ازداد الشــعر انتشــاراً لما كـــان مـن حركــة علمية وأدبية ولما أولاه الحكـام من عــناية، وقد اشــتهر من الشــعـراء ابن عبد ربـه، وابن هــاني الإلبيري، والزَّبـيدِي، وابن درّاج القسطلي، واشتهر في فترة الانتقال من العهد الأموي إلى عهد ملوك الطوائف ابن شُـهَيْد، وابن حَـزْم، وقد شهدا سقوط الخلافة الأموية وبكيا قصر الخلافة فـي قرطبة.
عهــد ملــوك الطــوائف: تنافســـوا فـي نظـــم الشـــعر وكانوا يتراســـلون فيما بينهم شـعراً، ويحـاولون أن يعيشـون حياة شـعرية والسـبب تحول بلاد الأندلس إلى إمــارات، وتنافــس فيها الحكــام فـي طـلب العلــم والأخذ بأسباب الأدب وتقريب الشعراء. وقد اشتهر فـي تلك الفترة المعتمد بن عباد ابن زيــدون وولادة بنت المستكفي.
عهد المرابطون: انحــط الشــعر انحطـاطاً منــها قـصــر عهــدهم الذي لم يـهيأ ما يـهـذب خـشــــونـتـهم ويرقـــق أذواقــهم، وكــذلك بســـبب انهــيار المشـــرق، تضـــــاءل الشــعر وتلاشــى ونــــزع نزعـــة الزجــل والتوشـيح. مـما جعــل أحــد أهــل الحرص يجــمع الشــعر خشـية عـليه أن يضـــيع، مثـل ابن بســـــام فـي كـــتابه الذخــيرة فـي محاســن أهل الجــــزيرة وكـذلك كتاب ابن خاقــان القلاعي قلائد العقيان.
وقد تغلب في هذا العهـد ذوق العــوام، ومال الشــعر إلى كــل ما هــو سُـوقـيّ، واتســم بســـــمةٍ البـذاءة، والهـجــاء اللاذع والمتحرِّرين والمجان، وعهد كبار الزجالين. وقد اشتهر من الشعراء أبو إسحاق بن خفاجة، وابن أخـته يحي بن الزقاق، والأعمى التطيلي، وابن قزمان.
عهـد الموحـدون: كـان عهد هــدوء وســكينة كما كان عهد علم عرف فيه ابن الطـفيل وابن رشد ابن البيطار وغــالب البلنســي المعروف بالرُّصــافـي، واشتهر عدد من النســاء اللــواتي يــتــعـاطــين القريــض ، منهــن حفصــة الركــونية، كــما اشــتهر ابن الأبّار القُضَاعي.
اتجاهات الشعر الاندلسي: هناك ثلاث اتجاهات للشعر الأندلسـي وإذا نظـرنا إلى الشــعر في بداية الأمر وجدنا أنه سار في اتجاه المدرسة المشــــرقــيــة المحافظـــة. وإن أو مظـــهر من مظــاهر هـذا الاتجاه المحافظ هو الالتـزام بالموضــوعات التقــليدية، كــما كــان يســــير عـلى منــهــج الأقــدمــيـن فـــي بنـــاء القصيدة وفي تجميع صورها من عالم البادية وتأليف أسلوبها فـي الأعــم الأغـلب على الأسلوب الذي يعتمد على الألفاظ الجـزلة والعــبارات الفخــمة، كـما يميـل إلى الأبحر الطويلة ذات القوافـي الرنانة.
ومن أمثلة ذلك قول أبو المخشي من قصـيدة يمدح بها عبد الرحمن الداخل ويصف الرحلة إليه فيقول:
امْتَطَــيْــنـَا سِـــــمَاناً بُـــــدْنا فَتَركـْــنَاها نَضَــــاء بالـعَـــنا
وذُريْـنَى قدْ تَجـَـاوَزتْ بِهَــا مَهمَها قفراً إلى أهْل النّدى
قَاصِدا خَير مَنافٍ كُلها ومَنافٌ خَيرُ من فَوقِ الثّــرَى
وردت هــذه الأبـيـــات فـي ( الإحاطــــة) لابــن الخــطـــــيب (مخطوط بالإسكوريال رقم 1673، ورقة352) نقــلاً عن أحمد هيكــــل، الأدب الأندلســي ص82. ويتـــصــل نســب الشاعر بالعبــاد نصــارى الحــيرة، وكــان أبــوه مع جند الشام الذين وفدوا على الأندلس في فترة الولاة، وكان أبا المخشــي ذا بــذاء زائد يتســرع به من لا يوافقـــه مــن النـاس، وذا هجــاء يمــس الحـــرم ويتــــناول الأعـــــراض؛ لذا كان الشعراء يجدون فـي أصله النصــراني البعيد مغمزاً يعيرونه به،
وقد ذكر فـي إحدى مدائحه بيتاً من الـشعر اعتبره هشام بن عبد الرحمن الداخل تعريضاً به. وهــو هـذا البيت:
ولَيْسُوا مِثْلَ من إنْ سَيل عرفا
يُـــقَــلِّــب مُقْــلَــة فِيْــــهَــا إِعـْــــوِرَار
فهــشــام كـــــان أحـــــول فاغـــتــاظ مــن أبـــي المخـــشــي، فاســتدعاه إلى مديـــنة مـاردة وكــان هشام واليها فـي حياة أبيه فخــرج إليه طامعاً فـي عطائه، فلــما دخــل عليه قال له: "يا أبا المخشـي إن المـرأة التي هـوت ابنها، فقذفتها فأفحشــت فيها، قد أخلصت دعاءها لله فـي أن ينتقــم لهــا منك، فاســتجاب رجـــاءها، وســلطـــني لأقــتص لها" ثم أمر به فقطــع بعض لســانه وســـملت عيناه، فعظــم مصابه وكــثرت شــكواه فـي أشعاره.
ولما بلغ عبد الرحمن الداخــل صــنيع ابنه عــنفه، ثـم قدم الشـاعر على عبد الرحمن وأنشـده قصيدته التي صدرها بتصوير محنة العمى، فرق له الأميـر وأجازه بألفـي دينار وضـاعف ديـته، ولما صــار الأمر إلى هـشام بعد أبيه استشعر الندم مما أصاب الشاعر على يديه، فتــرضـــاه وضــاعف ديتــه كـذلك. وردت أخـــبـاره فـي المغرب لابن سعيد، ج2، ص124.
الاتجاه المحدث أو الجديد ونعني بهذا الاتجـاه، الاتجاه الذي سـار فـي المشرق مثل أبي نواس ومســلم بن الوليد وأبو العتاهية وأمثالهم من المجددين، والذي تزعمه أبو نواس حــين ثار عـلى الاتجــاه المحــافظ ونـدّد بطــريقتـه وراح يطرق أغراض جديدة وبنهج وأســلوب محدث ثــار عـــلى المقـــدمة الطــــــــللية كـــما ثار على الموضــــــــوعات التقـليدية وأهـتم بأغــراض شــعرية لم تــكن شـــائعة من قبل وتوسع في الغزل والخمر ووصفها.
فمن المعــروف أن أصـــل نشــأة هـذا الاتجاه فـي الشــرق كــان أثــراً للحــياة الجـــديدة التي عاشـــها الناس فــي العـــصـــر العـباســي الأول وأخـــــذ
النـاس يفتحـــون عــيونـهـم عــلــى
دهشــــة مســـتــحــدثات الحضـــارة
لقــد كـــان لهذه الحركــة التــي
تزعمها أبو نواس ومعاصروه أثراً
على بعض الشـــعراء..
من هؤلاء الـشعراء عباس ابن ناصح الذي ســافر إلى المشـــرق والتـقى بأبي نواس فـي العــراق وســمع شــعره وعاد إلى الأندلس فأشاعه بينهــم وما لبث أن تــمثلوه وأنتجوا شعراً مشابهاً به بل يفوقه في بعض الأحايين ونتيجــة الحــياة الجــديدة أيضــاً التي بدأت يحـــيونها العرب في بلاد الأندلس ظهرت تلك الأشعار المحدثة التي أخــذت اتجــاهات جــديدة مثل: الخـــــــــمـــــريــــات، والمجــــونــيـــات، وظــهر الغــــــزل الشــــــاذ.
ومن أمثل هذا الاتجاه قول المطرف بن عبد الرحمن الأوسط:
أفْنَيتُ عُمْري بالشُّرْبِ والوُجُوه الـمِلاح
ولَمْ أضَيع أصيلاً ولا إطِّلاع صَبَاح
أُحـيّ اللّيالِــي سُهْداً فـي نَشْــوةٍ ومِـرَاح
ولم أسْــمَـع مَاذا يَقُــول دَاعِ الفَـلاح
* فالأبيات صريحة في المجون والعبث وضياع الوقت بين الخمر والملذات.
فيمكـن أن نجـمل خصــائص الاتجاه المحـدث بأنه اتجـاه فيه ثورة على الأغراض القديمة؛ ولذلك فموضــوعـاته جديدة، ومن حيث الأسـلوب فنلاحـظ أنه واضـح وســـهل والألفاظ تعبر عن المعاني دون تكلف، ويضـاف إلى ذلك أنه أسلوب يميل إلى التفصيل ويتجه أحياناً إلى القص، وتشـع فيه روح الدعــابة والســخرية والتحــرر الزائـد، أما الموســيقى فهــذا الاتجــاه يتجــه نحــو البحــور القصــــيرة والقوافي الرقيقة.
• ومن أمثلة ثورة أبو نواس والتعريض بكل واقف على الأطلال والنيل من العرب في سخرية قوله:
قُلْ لِمَنْ يَبْكِي عَلَى رَسْمِ دَرْسٍ
وَاقِفاً ما ضَرّ لَوْ كَانَ جَلَسْ
اتْرُكْ الرّبْعَ وَسَلْمَى جَانِباً
واصْطَبِحْ كَرْخِيـَّةَ مِثْل الْقَبَسْ
وظهــر الاتـجــاه المحافــظ الجــديد فــي المـشـــرق كـــرد فعـــل للاتجــاه المحدث الذي تزعـمه أبو نواس والذي خرج بالشعر العربي عن كــثير من تقــاليده فجـاء هذا الاتجـاه المحافظ الـــجديد ليعــيد إلى الشــعر الــعربي طـــبيعــته العـربيــة دون الوقــوف عــلى أو الجــمــود، ومــن هــنـا كــــان هـــذا الاتجــــــاه محافظاً من جــانب ومجــدداً من جــانب آخـر، فهو محافظ فـي منهــج القصــيدة ولغــتـها ومــوســيقــاها ثــــم فـي روحــــها وأخلاقياتها، وهو مجــدد فـي معاني الشعر وصـوره وأسـلوبه وجمالياته.
ومــن خصـــائص هــذا الاتجــاه المحافــظ الجــديد أنــه يســير على الطــريقة القـديمة فـي البدء بالبكـاء على الأطلال أو الافتتاح بالغـزل، ثم الانتقال إلى الغـرض الأساسي الذي قد يسبق فـي وصف رحلة الشاعر وقد يـتبع بالفخــر. وكـذلك من ناحــية اللغــة يفضــلون أصحاب هذا الاتجـــاه الأســلــوب القــديــم ذا الألفــاظ القويــة الجــزلة، وفخاــمة العــبارة.
ومن حـيث الموســيقــى يـؤثــرون الأوزان الطــــويـلة ذات النغــم الوقــور، والقوافـي القــويــة ذات الرنــين الرزيـن. ومن حيث روح الشــعر وأخــلاقيته يبتعـد أصحب هذا الاتجــــــاه عـــن الإفـــــراط فـــي المجــــون والمجــاهـرة فـــي العصــيان واجــتناب الفخــر بارتكــاب الرذائل.
ومن حيث معانــي الشعر وصــوره فقـد كـانوا يســيرون مسـيرة المجـــددين فـي البحث عــن المبتــكر الرائـع، ومن تلـك صــور تشــخيصــية ورائــعة لــوادٍ ظــليل تــقـــدمهــا الشــاعرة حــمدة بنـــت زيـــاد المؤدب إذ تقول:
وقَــانَا لَفْحَــةِ الرّمْضَـــاءِ وَادٍ
سَقَاهُ مُضَاعَفُ الغَيْثِ العَمِيمِ
حَـلَلْنَا دوْحـهُ فَحَــنّا عَــــلَيْنـا
حُنُوَّ الْمُرضِعَاتِ عَلَى الفَطِــيْــم
وأرْشَـفْنَا عـَـلى ظَــمأٍ زُلاَلاً
أَلَــذُّ مـِـــنْ الُمُـــدَامَــــــةِ للنَّــدِيــــمِ
يَصُدُّ الشَّمْسَ أنَّى واجَهَتْنَا
فَيـَـحْجُــبُهَا ويَــأْذَنُ لِلنَّسِــــيـــم
وحــمدة بنت المؤدب تسـمى (حـــمدونة) ونسـب إليها أهـل المغــرب الأبيات الشهيرة المنسوبة للمنازي الشاعر المشهور وهو أحمد بن يوسف المنازي المتوفى سنة سبع وثلاثين وأربعمائة:*
وَقَـــانَا لَفْحَـــةَ الرّمْضَــــاء وَادٍ سَقَاه مًضَاعَف الغَيْثِ العَمِيْم
نَزَلْنَا َدوْحَـــهُ فَحـَــنّا عَـــلَيْنا حُنُوّ الْمُرضِعَاتِ عَلَى الفَطِيْـــم
وَأَرْشَــــفْنَا عَـــلَى ظـَــمَأ زُلاَلاً يَــرُدُّ الــرُّوحَ لِلقَــلْبِ السَّــــقِيــْم
يَصُدُّ الشَّمْسَ أنَّى وَاجَهَتْنا فَيَحْــــجُــبُها وَيَـــأْذَنُ لِلــنَّسِـــيْم
يَرُوعُ حَصَاه حَالِيَةَ العَذَارَى فَتَلْمَسُ جَانِبَ الْعِقْد النّظِيْم
المحاضره الثالثه:
موضوعات الشعر:المدح من ابرز شعراء الاندلس في المدح قمر البغدادية: مَا في المَغَارِبِ مِنْ كَريمٍ يُرتَجَى
إلاّ حَلـِيفُ الجُودِِ ابْرَاهِـيْمُ
إِنِّي حَـلَلْتُ لَدَيْهِ مَنْزِلَ نِعْمَةٍ
كُلَّ المَنَـازِلَ مَا عَدَاهُ ذَمِيْـمُ
الرثاء/ ابو البقاء الرندي في قصيدته رثاء الاندلس لكل شي..."الى خيال الطيف وسنان
المعتمد بن عباد رثا نفسهعندما نفاه يوسف بن تاشفين الى مدينة اغمات التي مات فيها فقيرا مأسورا
فِيْمَا مَضَى كُنتَ بِالأيّامِ مَسْرُورَا
فَجَاءَكَ العِيْدُ فِي أغْماتِ مَأْسُورَا
تَرَى بَنَاتِكَ فـي الأطْـمـَارِ عَارِيَةً
يَطَأْنَ فِي الطيْنِ مَا يَمْلِكْنَ قِطْمِيرَا
• الغزل: تناول كثير من الشـُّعراء في الأندلس شعر الغـزل في قصائدهم خصوصا من هُـم قـريـبون من الحكَّام، أو اللذيـن تــم ســجنهم، ومن أبرز ما كـتب في الغزل ابن خــفاجــة فـي قصـــــيدته المشـــهــورة: (حُلو اللّمى): وأغيدٌ حُلْو اللّمى, أمْلَدٌ** يُذْكِي عَلى وِجْنَتِه الجَمْرُ
• بِتُّ أُنَاجِيْه , ولا رِيْبـَةٌ**تَعَـلّق بِي فِيه, وَلا وِزْرُ
• وَالليْلُ سِتْرٌ وَدُونِنَا وَمُرْسِلٌ**قَدْ طَرّزتْهُ أَنْجُمُ حُمْرُ
• أبْكِي وَيُشْجِيْني فَفِي وِجْنَتِي**مَاءٌ وَفِيْ وِجْنَتَيْه خَمْرُ
هذه هي حفصة الركونية تعبر للوزير الوسيمابي جعفر عن ولعها به ونهمها الى حب يدفع بها الى الغيرهثم ينتقل بها من مرحلة الغيره الى مرحلة الاثره والانانية: أخَافُ عَلَيكَ , مِنْ عَيْنِي ومِنِّي
ومِنْكَ , وَمِنْ زَمَانكَ , والمَكَانِ
وَلَوْ أنِّي خَـبَّأْتُكَ فِي عُـيُونِي
إلَـى يَوْمِ القِـيَامَةِ مَا كَـفَانِي
• لم تلفت ولاّدة من شعر إبن زيدون وهــو يجــوب قُرطـــبة وضـــاحــيتـــهــا الزهـــراء عاشـــقاً ومولـــعــاً ومتيـماً بِحُــب ولادة بنـت المُســـتكــفي، وقـد كتب فيها الكثير، ومن شعره:
• إني ذَكَرتُكِ بالزّهْرَاءِ مُشْتَاقَا **وَالأُفْقُ طَلْقٌ وَمَرْأى الأرْضِ قَدْ رَاقَا
• وَلِلنّسِـيمُ إعْتِلالٌ في أصَائِلِهِ ** كَـأنّهُ رَقَّ لِيْ فَاعْـتَلّ إشْـفَاقَا
• نَلْهُو بِمَا يَسْتَمِيلَ العَيْنَ مِنْ زَهْرٍ ** جَالَ النّدَى فِيه حَتى مَالَ أعْنَاقَا
• كَأنّ أعْيُنُه إذْ عَايَنْت أرْقَـي ** بَكَتْ لِمَا بِي فَجَالَ الدّمْعُ رِقْرَاقَا
• الهجاء: لمْ تَقُم له سوق رائد فـي الأندلس ولا سيما الهجاء الســياسي لقلـّة الأحزاب الســياســية وقد ظـهـر فـي عهـد الأمـراء هجـاء بين الـمُضـريّة واليمنيّة، ولكن لم يحفظ لنا منه شيئا.
• لم يكن هناك هجـاء سياسـي بالمعنى المعـروف عند المشـــارق كالدفــاع عن العُرفِ وذم الشــــعوبية لأن الشعوبية لم يكن لها شأن فـي الأندلس.
وعلى كل حال فإن الشعراء اللذين مارسوا هذا الغرض لم يبلغوا فيه شأن المشارقة، وأشــهر من عُرف بهذا الفن أبو بكر المخزومي الأعمى. بينه وبين نزهون القلاعي الغرناطية معابثات فاحشة قال فيها المخزومي
على وجه نزهون من الحسن مسحةً
وتحت الثياب العار لو كان باديا
قواصد نزهونٍ توارك غيرها
ومن قصد البحرَ استلقى السواقيا
فأجابته نزهون
إنْ كَانَ مَا قُلْتَ حَـقــًّـا منْ بَعْدِ عَهْـــدٍ كَرِيْم
فَصـَــار ذِكْـرَى دَمَـــيْما يُـعْزَى إلىَ كُـــلَّ لَــــوْم
وَصِــــرْتَ أقْــبـَــــحَ شَــــيْءٍ فـي صُورَةَ الْمَخْزُومِي

• الخمر: حظي الخـمر بنصيبٌ كبير من الشعر الأندلســي، وكـان أكـثر ما تـناوله هُـم العاشـقون الهـائمون، ومن أشــعارهم في الخمر.
• قال علي بن أبي الحسن في وصف الراح:
• يَرُوجُ مِنْ الْخَطيِّ فِيْها كَواكِبٌ
• لَهَا منْ قُلُوبِ الْمُجْرِمينَ مَنَازِلُ
• تَرَدّتْ نُحُولَ العَاشِقِيـنَ كَأنّمَا
• بِهَا مِنْ تَبَارِيْـحِ الغَـرَامِ بَلاَبِلُ
• وقال شاعر آخر:
وَنَدِيـمٌ هِمْـتَ في غَرّتِهِ
وَبِشُرْبِِ الرَّاحِ منْ رَاحَـتِهِ
كُلّمَا اسْتَيقَظَ منْ سَكـْرَتِه
جَذَبَ الزِّقَّ إلِيْه واتَّكَا*وَسَقَانِي أَرْبَعَا فِيْ أرْبَع
وقال الغزال في وصف الخمر:
وَمَا رَأيْتُ الشُّربَ أكْدَتْ سَمَاؤُهم
تَأبّطْتُ زِقِّـي وَاحْتَسَـبتُ عَنَائِي
وهذا أبو زكريا يحيى بن محمد المعتصم بن معـن, رفيع الدولة يصف مجلس لهو وخمر:
أبَا العَلاءُ, كُؤُوس الخَمْرِ مُتْرَعَةٌ
ولِلنّدَامَى سُرُورٌ في تَعَاطِيْهَا
ولِلْغُصُونِ تَثن فَوْقَهَا طَرَبا
وَلِلْحَمَائِمِ سَجْعٌ في أَعَالِيْهَا
فَاشْرَبْ عَلى النَّهْرِ منْ صَهْبَاءٍ صَافِيَةٍ
كأَنّها عُصِرَت منْ خَدِّ سَاقِيْها
• الوصف: إن أكـثر ما تم وصـفه في الأندلس هـي المزارع أو أراضــي الفــلاحين حــيث كــان لهـم اهتمام كــبير فـي الطــبيعة لـمَ لها من تأثيـــر نفســي وعمق تأصـيلي في الحياة ومن تلك الأوصاف نذكر ما قــاله: الأميـر عبدالملك بن بشــر بن عبدالملك بن مروان:
• تَبَدّت لَنَا وَسَـطَ الرّصَـافَة نَخْـلَةٌ
• تَنَاءتْ بأَرْضٍ الغَرْبِ عَن بَلَدِ النّخْـلِ
• فَقُلْت شَـبِيْهي فِي التّغَربِ والنّـوَى
• وطُولَ التّنَـائي عنْ بَنِيْ وعنْ أهْلـِي
• نَشَأتُ بأرْضٍ أنْتَ فِيْـهَـا غَرِيبـةٌ
• فَمِثْلُكَ في الإِقْصَـاءِ والمُنْتَـأى مِثْلِي
• سَقَتْكَ غَوَادِي المُزْنَ مِن صَوْبِهَا الّذي
• يَسُـحُّ وَيَسْتَمرِي السّمَاكِين بِالوَبْل
• بِمَهْلكَةٍ يُسْتَهلَكُ الجُهْد عَفْوِها
• وَيَتْركَ شَمْلَ العَزْمِ وَهو مُبَدّد
• تَرَى عَاصِفَ الأرْوَاحِ فِيْهَا كَأنّهَا
• مِنْ الأَيْنِ تَمْشِي ظَالِعٍ أوْ مُقَيدّ
• العفه: من الخصــال التي تمــيز بهــا أهــل الاندلـس (العـفّــة) والمحــفاظــة على خصال الحياء، وتعتبر العفة صفة محمودة في ذاك العصـر الرائع قــال أحـــد الشــــعراء المجــهــوليـن يصــــف الأخلاق والعفة: وطَائِعَةَ الْوِصَالِ عَفَفْتُ عَـنْهَا
• وَمَا الشّـيْطَانُ فِيْـها بِالمُطَاوَعِ
• بَدَتْ فِي اللّيْلِ سَـافِـرَةً فَبَانَتْ
• دَيَاجِـي اللّيلُ سَـافِرَةَ القِـنَاعِ
• وَمَا مِـنْ لَحْـظَـةٍ إلاّ وفِيْـها
• إلى فِتَـنِ القُـلُوبِ لَها دَوَاعِي
• فَمَلّكْتُ النُّهَى جَمَحات شَـوْقِي
• لأجْرِي فِي العَفَافِ عَلى طِبَاعِي
• الحماسه: من شـعرِ الحماسةِ ما قاله الفاتح طـارق بن زيـاد وهو يَحثُّ المسلمين على حماس الجهـاد عبر مســيرته الطـّـويلة في الذود عن دمـــارِ الاســلام والترغــيب في الحـرب والنِّضـال من أجل إعلاء كلمة الله ورفع راية الاســلام في الأندلـس
• رَكِـبْنا سَـفِيناً بالمَجَـازِ مُقِـيرا
• عَسَى أنْ يَكُونَ الله مِنّا قَدْ اشْتـَرَى
• نُفُوسَـاً وَأمْـوَالاً وَأهْـلاً بِجَـنة
• إذَا مَا اشْتَهَيْنا الشّيء فِيْهَا تَيَسـّرا
• وَلَسْنَا نُبَالِي كَيْفَ سَالَت نُفُوسَـنَا
• إذَا نَحْنُ أَدْرَكْنَا الّذي كَانَ أجْـدَرَا
وقال الأمير بن مُردنيش يصف الحماسة والشجاعة في المعركة: أَكُرُّ عَلَى الكَتِيْبَةِ لاَ أُبَالِي
أَحْتَفِي كَان فِيْهَا أمْ سِوَاهَا
الزهد
» هو إنصـراف الإنسان عن متاع الدنيا وحطامها اللذين يكونان سببا في خطيئة الإنسان والإلتفات إلى عـبادة الله وطاعته، وقد اختلفت دواعـي لجـوء الشـــعراء إلى الزهــد، فمنهـــم من
أصـــبح زاهــدا بعـد أن أســـرف فـي
اقتراف المعاصي واقتناص الملذات
بكـل أنواعــها.
قال الشاعر ابو الوليد الباجي:
إذا كُنْتُ اعْلَمُ عِلْماً يقيناً
فَلِمَ لا أكــونُ ضَـــنيناً بـِـها
بأنّ جَميعَ حَيَاتي كَسَاعةٍ
واجْعَلهَا في صَــلاَحٍ وَطَـاعةْ
• المدح: من أبـرز شُــعراء المـدح فـي الاندلـس نـذكـر للعرض لا للحصر، شاعرة عالية القامة في الشعر، ذات رأي سديد وجواب شاف، ومنطق صائب، هي (قـَمَر البغداديـة) التي امتدحت مولاها ابراهيم بن حجاج اللخـمي:
• مَا في المَغَارِبِ مِنْ كَريمٍ يُرتَجَى
• إلاّ حَلـِيفُ الجُودِِ ابْرَاهِـيْمُ
• إِنِّي حَـلَلَتُ لَدَيْهِ مَنْزِل نِعْمَةٍ
• كُلَّ المَنَـازِلَ مَا عَدَاهُ ذَمِيْـمُ
• الحكمة: إنّ الشعراء الأندلسيين بدت حكمتهم ساذجة لم تنشر في تلك الربوع، بل تأخر ظهور الفلاسفة إلى آواخر القرن الخامس في عصر المرابطين والموحدين فقد كان هذا العصر عصر فلسفة وتأليف. فيه ظهر ابن باجة وابن رشد وابن طفيل.
فقد كان للفقهاء سلطانا على ملوك الأندلس فقد ضيّقوا حرية التفكير وكفروا كل مُتفلسف وأفتوا بنفيه وإحراق كتبه. فكانت العامة تُجاري أهواء الفقهاء لذلك لم يظهر شعر الحكمة في شعراء الاندلس وإن كان إبن هانئ أكثر الشعراء الأندلسيين إهتماماً بالحكمة في شعره فهو بذلك محاولاً تقليد المتنبي.
وحكتمه تدور حول شكوى الدهر والتحذير من الدنيا، فكانت كحمة غيره من الشعراء مبتذلة بعيدة عن النضج. ومن قوله في قصيدة يرثي فيها ولداً لإبراهيم بن جعفر بن علي أحد ممدوحيه:
وهب الدهر نفيساً فاسترد ربما جاد بخيلاً فحسد
خاب من يرجو زمانا دائماً تعرف البأساء منه والنكد

**د لا ل**
2012-11-29, 22:41
المحاضره الخامسه: الموشح :عــرّف ابن ســناء الملـك الموشح فقــال: الموشــح كلام منظوم على وزن مـخصــوص، ومـن هُــنا نـعـلم بـأنّ الموشّـحــات تـخـــتلــف عــن القصـائد بخروجها عن مبدأ القافية الواحدة بل تعتمد على جُــملةٍ من القــوافـي المتــناوبــة والمتناظــرة وفق نسق معين. والموشحات تخـتلف عن الشــعر من ناحــية أخــــرى، حـــيث أنهـــــا تـنطــــــوي فــي بعـــض أجــزائها وبخـاصـــة خاتمــتها على العبــــارة العاميـــــة دون الفُـــصــــحى كــــما تـتـــــصـل الموشــــحات اتصــــالاً وثــيقاً بفن الموســيقى وطريقة الغناء فـي الأندلس.
بداية الموشح الاندلسي: بدأت الموشحات فــي الأندلس منذ القـرن الرابع الهجـري ولا زالـــت تُغـَــنـــى كــأغـــانٍ للمجــمــوعــــة فـي كـل من ليـبـيـــا والجـــزائـــر والمغــرب وموريتـانيا حتى الآن.
تسمية الموشح: تسمية الموشح استعيرت من الوشاح والذي يعّرف فـي المعـاجــم "سـيرٌ منسوج من الجلدِ مُرصّـــع بالجـواهر واللـؤلـؤ تـتـزين به المرأة“ ولهذا سمي هذا النمـط بالمـوشح لما انطــوى عليه مـن ترصيع وتزيين وتناظر صنعه.
تلحين الموشح: تلحــن الموشــحات على الـموازيــين الـمســتعــملة فـي الموسيقى العربية ويستحسن أن تلحن على الموازيين الكبيرة كالمربع والمحجر والمخمس والفاخــت أو من أي وزن آخر يقسـم الـموشـح عند تلحـينه إلى ثــلاثـة أقســام ويســـمــى القســـم الأول بالــدور ويقـاس عـليــه القســم الثــالـث وزنــاً وتلحـــيــناً ، أمـا القســـم الثــــاني فيســمى الخــانة وغــالباً ما يخــتلف الوزن والتلحـــين فـي هذا القسم عن الدور الأول والثالث.
انواع الموشح: هُناك عدة أنواع من الموشح تخـتلـف بعضـها عـن الأخر، من حيث الوزن والشـكل والرسـم والبيئـة وكـذلك من حــيـث التـوشـــح بهــا كـلحنـا أو لفظاً ــ أي الموشح ــ كصــوتا.
الكـار: وهـو الذي يبدأ بالتـرنـُّم ويكـون على إيقـاع كبير كموشح
“برزت شـمس الكـمال“
لأبي خليل القـــباني.
الكــار الناطق: وهو الذي يكون ملحناً على إيقـاعــات متوســطـة مع توريــة فـي الشـــعـر باســم المقــامات كــموشح:
غَـنّـت سُـليمَى فِـي الحِجَاز
وَأطــْـــرَبـَــتْ أهـْــــلَ العـِـــــرَاق
النقـش: وهو الذي يكـون مُلحناً من ثلاثـة إيقاعات إلى خمسـة غير محددة كموشح
"نـَـبّه النّـدْمَان صَـاح"
الزنجــير العربـي: وهـو الذي يكـون مُلحـناً من خــمســة إيقاعـــات غــيــر مُحــددة مـثـــل موسـيقــى نقـش الظــرافات.
نموذج لموشح الكار لابن معتز
أيُّها السّاقي إليكَ المشْتكَى**قَدْ دَعَونَاك وإنْ لَـمْ تَسْمعِ
ونديـــمٌ هِــمْت فــي غَــــرّتـِهِ ** وبــِــشـُربِ الــرّاحَ من رَاحَـتــِــهِ
كُلما اسْتيقَظَ مِنْ سَكـْرتِه
جَـــــذَبَ الزِّقَّ إليــهِ واتّــــــكَـــــا
وَسَـــقانِي أرْبَـعـــا فــــي أرْبَــــع
مَا لِعـَيْـنـي عَشِـيَتْ بالنّــظَــر
أنْكَـرَت بَعْدَكِ ضَــوْء القــَـمَر
وإذا مَا شِـئْت فاسْـمَع خَبَري
عَشِيَت عَيْناي مِنْ طُول البُكا**وَبَكا بَعْضِي عَلى بَعْضِي مَعِي
الزّنْجِـير التركي: وهـو الذي يكــون مُلــحــناً مــن خمســة إيقاعــات محــددة.
الضُّــــربَان: وهو الذي يتــألف من إيقــاعــين غــير محــددين ، فيــكون الدور من إيقــاع والخــانة من إيقـاع آخر كموشح ”ريم الغاب ناداني“ لنديـم الدرويش.
الـمألوف: ويتألف من دورين وخانة وغطـاء ويسمى سلسلة وهو من إيقاع واحد ومثاله”املألي الأقداح“
القَــدْ: موشح من إيقاع صـغير كالوحدة وأولــه يـبدأ كـمذهب يــردده المغـــنـون ، وأول ما لُحِّـنَ هذا اللــون سـمي بالـموشحات الصغيرة ولا يجوز أن نطلق عليه أغنية بل نقول قد وجمعه قدود.
اشهر الموشحيين الاندلسيين: من اشـــهر الـموشــحين الأندلســـيــيــن ابن قـــزمــان الأصــغر وهو محمد بن عيسى بن عبد الملك بن عيســى, أبو بــكر, المعـــروف بابن قــزمــان الأصــغر, تمييزا له عن عمه أبي بكر محـمد بن عبدالملك (ت 508هـ). من أهـل قرطبة كان إمام الزجالين بالأندلس, تناقل الناس أزجاله فـي أيامه.
كـان ينظم الموشحات بكلام العـامــة حين رأى نفـــسه مُقصِّرا عن أندادهِ ومُعاصريه فـي نظـم الشـــعر بكـــلام الفصــحاء من الشـــعراء كـابن خــــفاجــــة وابن حــمديس وغيرهما. فـي شــعره جرأة وشيء من النقـد الاجـــتماعي, وله ديــوان فيه مديــح وغزل وخمريات.
قال فـي الموازنة بين الفارس والأديب:
يُمْسِـك الفَارِس رُمْحـًا بـِيـَـدْ
وَأنـَــا أُمْـسِــكُ فِيْهـَـا قَصَـــبـَـة
فِكَــلاَنـَــا بَطـَــــلٌ فِــي حَــرْبــِـــهِ
إِنّمــَـا الأقـْـــلاَمُ رُمْــحَ الْكَــتَبـَـة
وله فـي الهرم بعد الشباب:
وَعَهْــدِي بِالشـّـبَابِ وَحُسْـنَ قَــدِّي
حَـكَى ألْـفَ ابْن مُقْلَةَ فـي الكِتَاب
فَصُــرْتُ اليَــوْمَ مُنْحَــنِيـًـا كَــأنـِّي
أُفَتِّشُ فِــي الــتُّـرَابِ عَـلَى شَـــبَابِي
وهناك ابن الصابوني الإشبيلي: وهو محمد بن أبي العباس أحمد بن محمد الصابوني الإشبيلي. كان يلقب بالحمار, لقّبه به أبو علي الشلوبين (ت 546هـ) فلزمــه هـــذا اللقـــب , لأنـــه ضــــــيق الصـــــدر مريــض الأعصاب, شـديد الانحراف عن المسلك الاجتماعي السـوي , سيئ التصرف. كــان شــاعرا جــيد المعــاني, متين السبك, جزل
لــه موشــحات , لكــن تطــرفــه فـي الإعجــاب بنفســـه أكســبه عداوات كثيرة وألقى ستارا على شهرته. اتصـل برجـال الدولتـين الـموحدية والحفصـية فلم يـَنلْ ما كان يُؤَمِلُه فــعـزم على الرحـلـة إلى مصــر, فلما وصلها لم يجد من يُقَدره قَدْرَه وعاجلته المنية فمــات فـي الطــريق إلى الإســكــندرية. قال عــنه ابن الأبار (ختمت الأندلس شعراءها بابن الصابوني).
من موشحاته:
قَسَمًا بالهَوَى لِذِي حَجَرٍ * مَا لِلّيْلِ المُشَوقِ مِـنْ فَجْر
خَـــمَدُ الصُّبـْــحُ لَيْسَ يُطْـــرُد
مـَــا لِلَيْــلـِي فِيْمـَــا أظُــنُّ غَــد
صَــحْ يـَـا لَيْــلُ أنـّـــكَ الأَبــَــــد
أوْ تَقَضّتْ قَـوَادِمَ النّسْرِ * فَنُجُـومَ السّـمَاءِ لاَ تَسْـرِي
ابن الجــيان أبو عـبد الله: هو محـمد بن محـمد بن أحمد الأنصــاري, أبو عبد الله بن الجــــيان, من أهــل (مرسية). من الكـتاب الشــعراء. كــان قصــيرا جــدا يظن من يراه من خـلف أنه ابن ثـمانية أعوام. خــرج من بلنســية سنة 640هـ حين استولى عليها الأســبان واســتقر فـي (بجـــــاية) بالـمغرب الأوسـط (الجــزائر) وكــانت بينه وبـين كـــتاب عصـــره مكـاتبـات ظــهرت فيها براعته. توفـي فـي (بجاية).
له موشـحة فـي مدح الرســول صلى الله عليه وسلم يقول فيها:
اللهُ زَادَ مُــحَـــــــمّــدًا تَـــــــكْـــــريــْــــــــمــــا
وَحَبـَـــاه فَضْــــلاً مِـنْ لَدُنْهُ عَظِــــيْــما
وَاخْتَصّــــــهُ فِــي الـمُرْسَلِيْن كَـرِيْما
ذَا رَأْفَـــةٍ بـِالـمُـؤْمـِــنـِـيْـــنَ رَحَــــــيْــمـــا
صَـــلـّـــــوا عَــلَيـْـهِ وَسَــــلِّمِوا تَسْـــلِيْما
هـناك عدد كــثير من الـموشــحين الأندلسـيـيـن نذكـر بعضا منهـم لا للحصر:
1. ابن اللبانة. هو محمد بن عيسى بن محــمــد اللخــمي الدانــي , أبــو بكــــر مــن أهـــل (دانــيـــــة) بالأندلس وإليها نسبته. واللبانـة هي أمــه التـي كــانت فيما يبدو تبيع اللبن. أديب ناثر, شاعر, مُكـثـر ومُجيــد فـي نـثــــره وشــعـــره ولــه قــصــــــائد وموشـحات يتصرف فيها فـي الـمعاني بقليل من التكلف.
2. ابن حزمون المرسي. هو علي بن عبد الرحمن بن حـزمون, شاعر يغـلب عليه نظـم الموشحات. كان كثير الميل إلى الهجاء. لما عاد من وقـعة (الأرك) منتصرا ومطلعها:
حَيّتْكَ مًعَطّـرَةَ الْنَّفَسْ * نَفَحَـاتُ الفَتْحِ بِأَنْدَلُس
فَــذَرْ الكُفـَّـــارَ وَمـَــأْتَمِهِمْ * إنّ الإسْـــلاَمَ لَفـِـي عُــرْس
3. ابن سناء الملك. هو هبة الله بن جـعفر بــن سناء الملــك أبو عـــبد الله محــمد بن هـــبة الله الســـــعدي المصـــري من مصـــنفاتــه (ديــوان رســـائل) و (ديـــوان شعر) ثم ديــوان موشحات ســـماه (دار الطـــراز) ولـــه كتاب (روح الحيوان) اختصره من كــتاب الحيوان للجاحظ وغير ذلك توفي في القاهرة عن 73 عاما.
ولابن سناء موشح فـي الغزل بعد المديح:
وَغَـانِــيـَـة لَـمْ تَعْـد عِشْــــرِيْنَ حُــجَّـــــة
أقـُــــولُ لَهـَــا قـَــــوْلاً لَــــدَيْــــهِ ثـَـــــــــوَاب
عَلَيْــكِ زَكَاةٍ فَاجْعَلِيَهَـا وِصَــــالَــنَا
لأنـَّكِ فِـي الْعِشْـرِيْنَ وَهِـيَ نِصَــــــاب
وَمـَـا طَــــلَـبـِـي إلاّ قُـــبُــولٌ وَقُــــــبْـــلـَـــــةً
وَمَــــــا أَرْبِــــــيْ إلاّ رِضـَـــــــى وَرِضَــــــــاب
قائمة بالوشاحيين الاندلسيين حسب الترتيب الزمني: ابن الصابون الأشـــــبيلي 634هـ
أبو الحجـــاج الأشــــــبيلي 636هـ
شـــهـــاب الديــن العــــــزازي 710هـ
صــدر الدين أبو الوكـــيل 716هـ
الدهـــــــان الدمشـــــــــقـــــــــي 720هـ
إبـــــــــــــــن اللبـــــّـــانـــــــــــــــــــــــــة 507هـ
ابن قــــزمــان الكـــــــــبيـر 508هـ
أبو العباس التطـــيـــلي 525هـ
ابــــــــــــــن عـُــــــــــــرْلــَـــــــــــــــة 554هـ
ابن قـــزمان الأصـــــــــغر 555هـ
مذعـليــس 555هـ
أبو الحــســـن بن نـــــــزار 570هـ
ابـــــــــــــــــن هـــــــــــــــــــــردوس 573هـ
ابـــــــــن ســـــــــناء الـملك 608هـ
ابــــن هـــزمــون الـمرسي 614هـ
الواســـطـي القـاســـــــــــم 614هـ
ابن الجـيـان أبو عـبدالله 650هـ
شهاب الدين الـموصـلي 683هــ

**د لا ل**
2012-11-29, 22:42
المحاضره السادسة :الازجال
{ بسم الله الرحمن الرحيم}
الحمدلله المنعوت بجميل الصفات, وصلى الله على سيدنا محمد أشرف الكائنات المبعوث بالهدى ودين الحق وعلى آله وصحبه أجمعين...
وأشرعت الأندلس العظيمة أبوابها لقادة راحَ مجدهم التليد في بلاد العرب فبحثوا عنه فلم يجدوه إلا في أحضانها... هكذا هم القادة الأمويين.. هكذا هو عبد الرحمن الداخل يشمر عن ساعديه ليؤسس حضارة إسلامية تليدة شهدت بها قصور الزهراء والحمراء.. شهدت بها الكتب والمخطوطات.. شهدت بها الفنون والعلوم. نعم.. الزجل الذي كان كالموشحات أند لسي النشأة والولادة, وأن الأندلسيين استحدثوه بعدما شاع فن التوشيح عندهم وبلغ الغاية, والحقيقة أن الحديث عن نشأة الأزجال أصعب بكثير من الحديث عن نشأة الموشحات, فإذا كانت الموشحات وليد الأغنية التي يقترن ظهورها بقيام مجالس الأنس والطرب في قصور الملوك والأمراء والوزراء, فإن الأزجال وليدة البيئة العامية
ويبدو أن أنقلاباً خطيراً وقع لأهل الأندلس من قبل الموشحات, يوم قضت على محاولتهم الأولى في مرحلة مبكرة عندما كانت المنظومات الغنائية لا تزال تحبو رويداً, وتخطو خطواتها الأولى نحو التطور, فلم تبق لهم من اغنيتهم الشعبية بلغتهم الدارجة غير " الخرجة" وقد تمكنت الموشحات من نفوس الأندلسيين لعدوبتها وأناقتها, وحلاوة الخرجة فيها, فأنستهم ما كان من أمر ثورتهم وانقيادهم للغتهم العامية, ولكن لم تكد الفرصة المواتية تُتاح لهم, حتى سارعوا بدافع من شوقهم وحنينهم إلى لغتهم الدارجة, يعبرون من خلالها عن شؤونهم وقضاياهم, وعن مظاهر حياتهم العامة بجدها وهزلها, وأفراحها وأحزانها.
هذا هو فن الزجل فن حديث استحدثه أهل الأندلس, وسوف يرد المزيد عنه في ثنايا بحثنا هذا وإن دل على شيء إنما يدل على حضارة المسلمين وفنهم الرفيع.
• متى وكيف ظهر الزجل: الزجل فنُُ من فنون الشعر التي أستحدثها الأندلسيون ، وعلى هذا فهو وليد البيئة الأندلسية، وقد شاع الزجل بعد أن كانت الموشحات قد أحتلت مكانتها العتيدة وثبتت أقدامها ورسخت أركانها في المجتمع الأدبي الأندلسي.
• وطبيعي أَنْ يشكل الزجل المرحلة الثالثة من مراحل تطور الشعر الأندلسي، فالمرحلة الأولى شملت ما قاله الشعراء من الشعر الفصيح ، والمرحلة الثانية كانت إدخال بعض الألفاظ العامية في ذاك الشعر الفصيح , وبعد ذلك ظهر الزجل في المرحلة الثالثة التي تمثلت في تحوير بناء القصيدة ودخول بعض المقطوعات التي تعبر عن رغبات العامة وتتفق مع ميولهم
• أَمَّا عن مخترع الزجل فإنَّ مؤرخو الشعر الأندلسي لَمْ يُشيروا لا من قريب أو من بعيد إلى مخترع هذا الفن لأنَّ الزجل " عبارة عن الأغنية الشعبية وهي عادة تكون من تأليف العوام من الناس أي مجهولة المؤلف، إلا أنهم ذكروا أول مَنُ أبدع القول فيه وهو أبن قزمان ـ على أن ذلك فيه خلاف سوف نشير إليه عند الحديث عن أبن قزمان ـ فهذا عبد الملك بن سعيد(ت685هـ.) يقول عن ذلك " قيلت ـ الأزجال ـ قبل أبي بكر بن قزمان ، ولكن لَمُ تظهر حلاها، ولا أنسبكت معانيها، ولا اشتهرت رشاقتها إلا في زمانه
• الزجل ظهر في عهد المرابطين مع أن في هذا العصر أنحط الشعر الفصيح لأنه لم يوجد مايهيء أو يهذب خشونة أصحاب ذاك العصر ويرقق أذواقهم فغلب في هذا العهد ذوق العوام فنزع نزعة الزجل والتو شيح. كما أن الزجل نشأ وظهر في القصائد والموشحات التي لاترقى إليها أفهام العامة , فأن لهؤلاء العامة أيضاً شعرهم الشعبي ممثلاً في أغانيهم الشعبية التي هي مظهر لحياتهم العقلية، وآرائهم الاجتماعية وآدابهم وأخلاقهم.
• تعريف الزجل: الزجل في اللغة: الصَّوْت يقال: سحاب زَجِل: إذا كان فيه الرعد. ويقال لصوت الأحجار والحديد والجماد أيضاً: زجل. قال الشاعر:
• مررتُ على وادي شِياثٍ فَراغي به زَجلُ الأَحجار تحت المعادلِ
• والزجل في لسان العرب: اللعب والجلية ورفع الصوت، وخص به التطريب.
• وهذه الفنون تختلف بحسب اختلاف بلاد مخترعيها وتفاوت اصطلاح مبتدعيها:
• فمنها ما يكون له وزن واحد، وقافية واحدة، وهو الكانْ وكانْ.
• ومنها ما يكون له وزن واحد، ,أربع قوافٍ، وهو العواليّا.
• ومنها ما يكون له وزنان، وثلاث قوافٍ، وهو القُوُمَا.
• ومنها ما يكون له عدذ أوزان، وعدة قوافٍ، وهو الزجل.
• لما سمي الزجل بهذا الاسم: سمي هذا الفن زجلاً، لأنه لا يلتذُّ به، وتفهم مقاطع أوزانه، ولزوم قوافيه حتى يُغنى به ويُوت، فيزول اللبس بذلك.
وسمي أيضاً بذلك لترجيع الصوت به في الإنشاء
• اقسام الزجل: للزجل أربعة أقسام يفرق بينها بمضمونها المفهوم لا بالأوزان واللزوم فلقبوا :
• 1ـ ما تضمن الغزل والنسيب زجلاً.
• 2ـ ما تضمن الهزل والخلاعة والأحماض بُلّيْقا.
• 3ـ ما تضمن الهجاء والثَّلْب قرقيّا.
• 4ـ وما تضمن المواعظ والحكم مكَفرا ولقبه مشتق من تكفير الذنوب.
• ابن قزمان: بما أن أبن قزمان إمام الزجالين على الإطلاق نورد نبذه عنه.
• هو أبو بكر محمد بن عيسى بن عبد الملك بن عيسى بن قزمان الأصفر، أمام الزجالين بالأندلس. ولد في مدينة قرطبة العريقة سنة406هـ ـ 1068م ، وقيل 480هـ ، أما وفاته فقد كانت في 554هـ ـ 1160م، في الوقت الذي حاصر فيه الأمير محمد بن سعد بن مرنيش قرطبة. وقد بدا حياته شاعراً فلما أحس بأنه لن يصل على مرتبة شعراء عصره كابن خفاجة, وأنس في الوقت نفسه القدره على الزجل والإبداع فيه أنصرف إليه بكل طاقته
• فتفوق على جميع معاصريه في هذا الفن. لم يكن ابن قزمان المبتكر الأول لهذا الفن ، وإنما سبقه إليه آخرون غلا أن أبن قزمان يزعم أن هؤلاء كانوا لا يعرفون طريق الأزجال الصحيحة.
• وقد درس الدكتور الأهواني ابن قزمان من أزجاله دراسة دقيقة تفصيلية, وصورته الشخصية فيها أنه: طويل القامة ابيض الوجه اشعر اللحية ازرق العينين وهذا قد يوحي بأنه كان جميلاً إلا أن أبن سعيد يذكر في ترجمته نزهون الغرناطية أن ابن قزمان كان قبيح المنظر وأنه لبس مرة عفارة صفراء فرأته نزهون وقالت له: أصبحت كبقرة بني إسرائيل ولكن لا تسر الناظرين
• لقد عاشت أزجال أبن قزمان وأولع بها الناس خصوصاً المشارقة، حتى كانت في القرن السابع كما قال ابن سعيد العربي مروية في بغداد أكثر مما هي في حواضر المغرب، وكان أهل الأندلس يقولون " أبن قزمان في الزجالين بمنزلة المتنبي في الشعراء" ولقد كانت فلسفة ابن قزمان في الدنيا تقوم على أن عمر الإنسان ذاهب .
• فإذا حاول أحد أن يحاكيه وجده لا يُدرك ولا يُلحق.
موضوعات الزجل/ وصف الطبيعه
• إذا كانت بيئة الأندلس الطبيعية قد فتنت الشعراء والوشاحين فلا شك أن الزجل لا يستطيع أن يتخلف عن المشاركة في هذا الميدان، وهذا أبو علي الدباغ يقدم هذا الزجل في وصف الطبيعة فيقول :
• لا شرابْ إلا في بستانْ والربيع قد فاح نوارُ
• يبكي الغمام ويضحـــك أقحوان مع بهـــــار
• والمياه مثل الثعـابيـن في ذاك السواقي دارُ
• الهجاء: هو الطرف المناقض للمديح، فإنه من الطبيعي أن يطرق موضوع الهجاء, لقد طرقه بقسوة وإقذاع وتدنّ، إن شعراء الفصحى في الأندلس قد أسرفوا في فحشهم حينما طرقوا هذا الموضوع، فمن المتوقع أن يكون الزجالون أكثر فحشاً وأشد إقذاعا، ولكن ذلك لم يمنع من وجود أهاجي زجليه تتسم بخفة الروح والنكتة البارعة مع اصطناع السخرية اللاذعة, ومن هذا النوع ما أنشأه أبو علي الدباغ في هجاء طبيب:
أن ريت من عداك يشتكي من تلطيخ
وتريـد أن يقبـــــــر أحملُ للمــــــــريخ
قد حلف ملك الموت بجميع أيمانُ
ألا يبرح ساعة من جوار دكـــان
ويريــح روحٌٌٌ ويعظـــــم شــــــانُ
• التصوف: فقد ظهرت نزعة التصوف في القرن السابع، ومن شعراء الصوفية أبو الحسن الشنتري وقيمة هذا الشاعر الكبير تتمثل في غزارة أدبه الصوفي المنوع الأشكال وفي انه الناقل الحقيقي للزجل من الموضوعات الدنيوية المحسّة كالعشق الحسي والغزل في الغلمان والخمر، إلى جو هو تمجيد الله والهيام في حبه
• الغزل/ لن نشأته أتت مصاحبه للغزل واللهو المجون وغيرها من الموضوعات الزجالين لمدحهم بالغزل، كما فعل أبن قزمان في مدائحه جرياً على التقاليد الموروثة في بناء القصيدة العربية وبعضهم مزج غزله بوصف الخمر ومثال ذلك:
• الذي يعشق مليــــح والذي يشرب عتيـــــق
• المليح أبيض سمين والشراب أصفر رقيق
• طريقة بناء الازجال: بناء الأزجال هي الأقرب إلى بناء القصيدة الشعرية منها فن التو شيح في طريقة بناء هيكل الزجل. ويعد الزجل من الفنون الملحونه" هو أرفعها رتبة، وأشرفها نسبة ، وأكثرها أوزاناً ، وأرجحها ميزانا، ولم تزل إلى عصرنا هذا أوزانه متجددة، وقوافيه متعددة، ومخترعوه أهل المغرب، ثم تداوله الناس بعدهم .
فالزجل يبدأ بمطلع ويستمر في النظام حتى الانتهاء من زجله، والأزجال لا تتقيد بعدد من الأقفال والأبيات، ويكون بنائه على الشكل الآتي:
• 1) المطلع .
• 2) الـقفـــل.
• 3) البيــــت.
4) الخرجة
تاريخ الزجل حسب القرون
في القرن الخامس .
• قدر الدارسون أن الزجل ظهر في الوقت الذي أخذ فيه التوشيح يتجه إلى التعقيد والتكلف ويبتعد عن البساطه الأولى .... ومعنى هذا أن الزجل يرجع إلى أواخر القرن الهجري، حيث عاش عبادة بن ماء السماء ويوسف بن هارون الرمادي، وهما اللذان أدخلا التغيير على التوشيح، حسب نص أبن بسّام.ولن نستطيع أن نتحدث حديثاً طويلاً عن الزجل خلال القرون الخامس الهجري لأن نصوص الأزجال في ذلك القرن قد ضاعت كلها، ولم يصل إلينا عن الزجل غير أشارات موجزه نجدها في المقدمة التي كتبها أبن قزمان .
• ابن قزمان يؤكد أن الزجالين في القرن الخامس كانوا يقتربون في فنهم من الوشاحين، وأنهم كانوا يتأثرون بهم، ومعنى هذا إنهم كانوا من المثقفين الذين أرادوا لغتهم أن ينتشر بين طبقات من الخاصة، ولم يقصدوا به جماهير العامة ، ولعل كَساد أزجالهم يرتد إلى أن القرن الخامس، وهو عصر الطوائف، كان قرن التوشيح والقصائد، إذ أن ملوك الطوائف كانوا يتشبهون في حياتهم الأدبية بالعصور الذهبية للشعر العربي في بلاط العباسيين، فلم يكن للأزجال ولكل ماهو ملحون مكان كبير عندهم.
• 2- الزجل في القرن السادس
• إذا كنا لا نعرف من أسماء الزجالين قبل ابن قزمان غير اسمين أو ثلاثة فإننا نعرف من معاصري ابن قزمان، أي ممن عاشوا في القرن السادس الهجري، ضعف هذا العصر، فلدينا غير أبن قزمان بعض من ذكر أسمائهم معه في جولاته في أشبيلية وفي تنزهانه.
• ومن أشهر زجالي هذا العصر أبو عمرو بن الزاهد وهو اشبيلي أيضاً وأبو الحسن المقرئ الداني، أبو بكر بن مرتيت. وهؤلاء الزجالين فيما عدا أبن قزمان وأبن الزاهد لا تعرف عنهم غير أسمائهم ولا نجد لهم غير مقطوعة واحدة .
• 3-الزجل في القرن السابع.
• ولا نعرف عن الزجالين الذين عاشوا في القرن السابع الهجري وما بعده إلا أسماء قليلة, وبعض مختارات لا تتجاوز أسطراً لا يتضح منها سيء عن حياة الزجال أو عن الأطوار التي تقلب فيها الزجل.ولا يذكر غير أسطر قليلة عن أثنين من الزجالين وهما أبن جحد ر الذي فضل الزجالين في فتح ميورقه، وقد جعله أبن سعيد إمام عصره في قوله أثناء الحديث أبن قزمان. غير أن زجالاً آخر في عصر أبن سعيد وهو أبو علي الحسن بن أبي نصر الذباغ ألف كتاباً في مختار ما للزجالين المطبوعين أعتمد عليه أبن سعيد ونقل منه مختارات لزجالي القرن السابع ،
• وإذا جاز لنا بعد هذا أن نحكم على الزجل في القرن السابع الهجري، فليس لنا ما نقوله إلا أن الزجل من ناحية شكله ونظامه الخارجي ظل متجهاً إلى تقليل القوافي والبعد عن مزاحمة الفقرات وتعددها. أما موضوعات الزجل أو أغراضه فقد ظل الحب يستأثر فيه بالمكان الأول وكذلك الحديث عن الرياض وجمال الطبيعة وكل ما يسجل في يبدو أنها استحدثت في هذا القرن ومع ذلك فلا يتبقى أن ننسى أن القرن السابع كان قرن المحنة الكبرى للأندلس ففيه سقطت قرطبة, وضاعت أشبيلية، والتي جعلت أهل الأندلس ينتظرون سقوط الأندلس كلها عاماً بعد عام.
• 4-الزجل في القرن الثامن .
• ومن أهم الزجالين في هذا العصر الوزير ابو عبد الله ابن الخطيب له ثلاث مقطوعات قصيرة في الشراب والتصوف ناحياً فيها منحى الششتري, وأخبار ابن الخطيب كثيرة جداً ولقد وصلت إلينا مؤلفاته منها مخطوط ومنها ماهو مطبوع ، و شهرة أبن الخطيب وحياته ومؤلفاته في شيء غير الزجل وزجله مع ذلك لم يصل إلينا إلا من خلال ما ذكره أبن خلدون, ويظهر لنا أن الزجل كان عارضاً في أنتاج هذا الوزير السياسي الطبيب المؤرخ الشاعر الوشاح ولا يمكن أن نعده من الزجالين لمشاركه اليسيرة في فن الزجل ولك لا يخلو إنتاجه الضخم من شيء منه.
تاريخ الزجل حسب الفئات
الزجل عند المدجنين.
في القرون الوسطى وجد نصاَ لشاعر من اشهر شعراء اللغة الأسبانية على الإطلاق هو المسمى قسيس هيتا الذي عاش في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، أي قبل سقوط غرناطة بقرن ونصف، لهذا الشاعر ديوان بعنوان ellipro do buen amor يقص فيه الشاعر حياته ومغامراته. وقد تحدث فيه الشعر الذي ينظمه وعد من بين ما ينظمه شعراً يصنعه لنساء مسلمات moras وهو هنا يريد الجماعات الإسلامية التي كانت تعيش تحت حكم الدول المسيحية، يعرفون بأسم ( المد جنيين) في العربية ولا ندري إلا أي حد كان القسيس يعرف العربية. ولكن هذه المنظومات التي كان يصنعها للمسلمات كانت فيما يعتقد الباحثون مكتوبة في اللغة الأسبانية التي كان يعرفها المدجنون، ولكنها على نمط الأغاني العربية التي كانت لا تزال متوارثة بين هذه الجماعات، التي احتفظت بالإسلام على أن النصوص الأسبانية كثيرة فيما يتصل بنشاط المد جنيين واشتراكهم في إحياء الحفلات بالغناء والرقص، حتى أن مجمع القساوسة الذي انعقد في بلد الوليد سنة1322م شكا من أن المسيحيين يدخلون الكنائس نفسها المسلمين واليهود، يغنون ويعزفون على الآلات الموسيقية.
• زجل عند المتصوفين : فلقد ظهر قبل ذلك بقرون واسم الششتري مقرون دائماً بالزجل التصوفي, وأبو الحسن علي بن عبدالله الششتري من رجال القرن السابع الهجري ولد في الأندلس وعاش فيها منذ صباه وشبابه، وله ديوان كبير فيه قصائد وموشحات وأزجال، وله رسائل وكتب في التصوف، وقد تحدث عنه كثيراً من تلاميذه وزجله كإنتاجه الآخر يصور مذهبه التصوفي، والقول بوحدة الوجود، ولكننا إذا تركنا جانباً هذه الناحية التصوفية أو الفلسفية في منظوماته وحاولنا أن نلتمس صورة إنسانية لحياة هذه الشخصية العظيمة حقاً, وجدنا هذه الصورة وإن ضاقت حدودها في الزجل، أكثر مما نجد في الشعر
• زجل عند المصريين : كان للزجل عند المصريين تاريخ خاص لموافقة هذه الطريقة مافي طباعهم من اللين ومشايعة الكلام بشيء من التهكم الذي بعث عليه صفوة الفتور الطبيعية فيهم، ويقال فيها ( ذوق حلاوة النيل ).
• ـ أنواع الزجل عند المصريين وسبب تسمية كل نوع بهذا الاسم:
• كان الزجل عند المصريين على ضربين:
• الأول عُرف بالبليقة وعرف الثاني باسم القرقيه.
• وسميت البليقة بهذا الاسم مأخوذة من البلق وهو أختلاف الألوان.
• أما القرقية سميت كذلك من القرق، وهي لعبة يلعب بها صبيان الأعراب, وذكر هذه اللعبة صاحب القاموس: القرِق ، ووصفها ورسمت خطوطها في تاج العروس.
• الفرق بن البليقة والقرقية وبين الزجل:
• أن الزجل متى جاء فيه الكلام المعرب كان معيباً له، أما البليقة لبست كالزجل، بل يذكر فيها المعرب وغير المعرب.
• والبليقة لا تزيد عن خمس حشوات غالباً, وقد تنتمي إلى السبع قليلاً والقرقية تزيد كثيراً على حكم الزجل.
• من أخترع البليقة والقرقيات:
• اخترعت البليقة في القرن السابع، لكنهم تبسطو فيها حتى ظهر عندهم ما يسمى بالقرقيات، ولا تحقق تاريخها ولكنها متأخرة عن المائة السابعة حتماً، والدليل على ذلك ما ورد في ترجمة صدر الدين بن الرحل المتوفى سنة 716هـ بالقاهرة صاحب كتاب( فوات الوفيات) والمعروف كذلك بابن الوكيل المصري حيث قال:" وشعره مليح للقرقيات يدل على أنها كانت غير معروفة في ذلك الوقت وإن كانت من الزجل.
• ـ أشهر نوابغ المصريين في الأزجال من المتقدمين: الغباري كان من المصريين الدين نبغوا في الأزجال وكان ذلك في عهد السلطان حسن، فقد كان لأزجاله شهرة بعيدة لما توفر فيها من دقة الصنعة وإبداع المعاني وكثرة التفنن. وفي مجموعة من مدائحه حملاًً زجلياً( أهل هذا الفن يسمون ما يعادل القصيدة في الشعر منه : حملاً ) لرئيس العامة على عهد محمد علي باشا, وهو محمد الحباك القشاشي، يزاهي (560 ) بيتاً، مدح فيه أهل مصر على طريقة عامية ذكره في الزجل، وقال: إن الغباري ما أستطاع أن يضبط محاسن مصر فيما وصف.
• مدى شهرة الزجل في مصر:
• لا زال هذا الفن مشهوراً بمصر على عهدنا, ولأهله فيه إحسان كثير وهم يرتجلونه ويحاضرون به، فقد ذكر الأذيب ( عبدالله نديم المصري ) الشهير في مجلة الأستاذ واقعة في المساجلة بالزجل مع بعض روؤساء الفن من العامة، وكان الشرط أن من تلعثم أو استبلع الآخر ريقه يبتغي بذلك مهل البديهة وخلسة الفكر فهو المغلبّ، وذكر هناك بعض الأوزان التي أخذوا فيها.
زجل عند الاوربيين: فيما يتصل باللغة البرتغالية توجد أشعار جاءت في قالب زجلي في ديوان الفاتيكانة وفي مختارات برانكوتي وتظهر أيضاً في قصائد فرنان فلهو شاعر من عصر الملك الفونسو العاشر الملقب بالعالم وفي ديوان الشاعر بايوسواريز.
في أنجلتر نلتقي بأغان شعرية قديمة موجهة إلى العذراء أو تقال في أعيــــــــاد الميلاد، صبت في هذا القالب الشعري الأندلسي وحتى يومنا لا نزال نجد في الأغان الشعبية في إسكوتلانده، وفي إيرلندة، رباعيات جاءت على نمط أزجال مسلمي الأندلس.
• فيما يتصل بأسبانيا احتفضت هذه بشكل الزجل حياً خلال العصور الوسطى، وفي العصر الذهبي للأدب الإسباني ( القرن السادس عشر الميلادي ) ولقد حاز العلماء فقه اللغة زمناً في أوزان أغاني الفونسو العاشر، أما الآن وبعد أن قام خوليان ريبيرا بدراسة موسيقاها على نحو رائع وخالد، فيمكن تفسيرها في ضوء الزجل الأندلسي قالباً ووزناً، فإذا كتبت هذه الأغاني دون أن نقطع الأبيات إلى أشطار وجدنا معظمها من طراز الأزجال, وإن كان القفل ينظم على قافية سابقة.
زجل عند المسيحيين: كان لزجل الديني صدَّ في العالم المسيحي المعاصر كما أشار إليه" رامون لول " هو من أهل جزيرة " ميورقه كبرى "
لكن ما وصل إلينا من هذا الزجل الديني بغض النظر عن الششتري، قد ظل هذا النوع يحمل ذكرى انتسابه إلى الزجل الدنيوي في خرجاته، فكثير من أزجال الششتري تحتفظ بخرجيهما كانت موجودة من قبله في أزجال أبن قزمان، ويستتبع وجود هذه الخرجات التزام نفس الوزن ونفس نظام القوافي.
• بيئة الزجل في الاندلس: أن الأزجال الصوفية وجدت لها بيئة خاصة عاشت فيها, وكذلك وجدت الأزجال الغزلية بيئة أخرى خاصة بها بيئة الأولى جماعة الفقراء الذين خلعوا الدنيا وهاموا في حب الله سائحين مقتربين ينشدون أزجال الششتري ويغنون فيها، بل يرقصون على ألحانها وبيئة الثانية طبقة من الشباب الأرستقراطيين من أهل قرطبة وأشبيلية وبقية المدن الأندلسية وجدوا بين أيديهم مالاً, ووجدوا بطالة مصدرها انحلال المجتمع الأندلسي وابتعاده عن مسح الحوادث الكبرى، حيث أنفرد بتدبيره البربر المرابطون من جهة والقشتاليون من الجهة الأخرى: إنهم جماعة من الشباب لا يبالون بغير اللذة واللهو والعكوف على الشراب وإحياء الليالي بالغناء والرقص والبحث عن العشق وغالب الظن أن الحروب الكثيرة قد ذهب ضحيتها كثير من الرجال أهل السن, وخلفوا شباباً ورثوا عنهم بعض المال فأنفقوه في شهواتهم و ولم يجدوا أباً يرعاهم أو عملاً يشغلهم وديوان أبن قزمان يعطينا صورة لهذا المجتمع الأندلسي.
• تاثر القصائد في الازجال: لقد ظهر تأثير القصيدة جلياً واضحاً في الأزجال, ظهر في شكلها الخارجي, كما ظهر في أسلوبها وأصول الصنعة فيها, وظهر في معانيها وأخيلتها.
• ومهما تكن قدم هذه القصائد أو تأخرها من ناحية الزمن, فأنها ستظل شاهداً على سلطان القصيدة على الزجل والزجالين.
• وقد رأينا أن الموضوعات الكبرى التي تناولتها القصيدة تناولها الزجال أيضاً فالنسيب والمديح والخمريات, والهجاء والفخر والرثاء وأحياناً, كل ذلك لم يوجد في الزجل وجوداً مستقلاً وإنما وجد قبل كل شيء لأنه كان موجوداً في القصيدة ونسجل منها بعض هذه الظواهر.
• الغزل مقدمة للمديح:
• المديح موجود في الأزجال وأكبر مجموعة وصل إلينا من الأزجال ـ نحو ثلاثة أرباعها لم تخل من إشارة غلى ممدوح وإنما هو فيما نعتقد، تقليد للقصيدة،ومحاكاة لها.
• الخروج إلى المديح:
أن العلماء عنوا بمسألة الخروج من الغزل إلى المديح وإن منهم من يطغى إلى ذلك دون تمهيد قائلاً ( دع عنك هذا ) أو ما يشبه ذلك من العبارات.
دعُ ذا كل فلس فيه فابد وما مضى الكلام فيه زايد
وامدح بنا الوزير القايـد ابـــن سعـــاد انو عـــبد الله.
• معاني المديح :
ولو نظرنا في المعاني التي مدح بها الزجال ممدوحيه، والتشبيهات التي أستخدمها، وأنواع المجاز لوجدنا في مواضيع كثيرة جداً صورة الشعراء تطل علينا من خلف هذه النصوص، ورأينا جملاً وتراكيب ألفناها في القصائد مثل :
إذ تُســـــــاق إلى أياديه فالسحاب إلى يسثاق.
ولم يقف تأثير الشعراء في الزجاليين عند المعاني والأساليب والصنعة الفنية وإنما كان لهم أثرهم في خلق هذا الوضع الإجتماعي , الذي جعل الصلة بين الزجال والأمير كالصلة بين الشاعر والأمير نريد مادحاً وممدوحاً.
• تأثير القصيدة في أبواب أخرى:
وقد أثرت القصيدة العربية في كل الأبواب الأخرى، التي عالجها الزجالون، فهي واضحة التأثير في الشراب والخمر وفي الوصف وفي الفخر وفي الغزل أيضاً.
• والمقابلات البلاغية بين الشراب والمعشوق انتقلت أيضاً إلى الزجل:
الــذي نعشق مليــح والـــــذي نشرب عتيق
المليح أبيض سمين وتالشراب أصفر رقيق
• وصف الطبيعة :
• وكذلك في وصف الطبيعة نجد عند أبي علي الذباغ هذه الصور.
لأشرب إلا في يستان والربيع قد فاح الأنوار
يبكر الغمام ويضحك اقــــحوان مع بهــــــــار
ومال يقال عن الوصف يقال أيضاً عن جانب كبير من الغزل .
والمعاني العامية في هذا الفن الجديد هو الذي أكسب الزجل طرافته, والذي جعله يستطيع الشباب أمام أصحاب القصيدة لأنه لو ظل قانعاً بالدائرة القديمة لا يخرج عنها، لحكم على نفسه بالموت.
• تاثير الشعبي في الزجا: فالزجل أدب واقعي كلة محادثات فيها حياة فنحن لسنا أمام شاعر يتخيل المواقف تخيلاً, وإنما نحن أمام زجل أندلسي يعيش في قرطبة بأزقتها.. عاداتها.. شبانها ونسائها.. لذلك رأينا أن نستعرض بعض ما أستوقفنا من تلك الأزجال وما فيها من معاني وصيغ وطرافة يستمتع فيها القارىء.. وقد تجيء هذه الحياة في الزجل عن غير تركيب عامي وعن غير ألفاظ جديدة، فيكفي أن يذكر الزجال لفظ.."ياابني" مكان ك يابُنَي" التي يستخدمها الشاعر لنحس بنعمة جديدة كقولةه في مطلع زجل:
ترى يا قمّتي متى تنجلي واش ذا الهجران ياابْني يا علي
• وقد يكتسب الزجل طرافته من أسماء الأصوات التي يكثر منها الزجالونن فتصور للسامع المكان والزمان مع الحركة والسرعة:
طَق من بالباب؟ أن هو خـــــرجْ لي
• وقد تجيء قوة التعبير من ذكر ألوان أقترنت في أذهان الناس بمعان مثل:
يوم نراك ياعين يا بياض
• فهذه كلها أساليب من الحديث اليومي أنتقلت إلى الأزجال زلكنها لم تنتقل على القصائد. ومن الزجل لما اراد الزجَّال أن يعبر عن عصيان المعشوق, ومعاكسة لرغبات العاشق قال :
لم قط يُرى معشوق إلا مُخالف إن قلت له أجلس يقوم واقف
• كذلك ما يقوله الزجال عن ممدوح له:
لًفظه يُغنيك عن العشا والغذا
كل هذا فيه بساطة ومبالغة لطيفة وفي الوقت نفسه, وهو معنى متداول عن الحديث الممتع والحديث المشبع.
هل الزجل فن شعبي: نلاحظ من دراسة ازجال أبن قزمان دراسة دقيقة إن هذه الازجال مهما كان حظ الخيال العامي فيها والمعاني الشعبية, لم تكن فناً شعبياً صحيحاً، وإنما كانت مزيجاً من فنيين فن خاص قديم يتداول بين الشعراء والوشاحين.
• وفن شعبي لا سند له من التراث المكتوب.
وأن جمهور الزجل لم يكن الشعب في الأزقة والحارات كما لم يكن أيضاً الجماعة الضيقة لمحدوده التي نظم لها الشعراء والقصائد.
العلاقه بين الزجل والموشحات: 1- البناء.
يتشابه الموشح مع الزجل حيث يبنى كل منهما المطلع والأبيات والأقفال والخرجة عدا أن بناء المطلع في الموشح يختلف عن بنائه في الزجل؛ ففي الموشح المطلع يكون مثل بناء الأقفال والخرجة ؛ فعلى سبيل المثال:
ياولاة الحبَّ إن دمي سفتكتهُ الأعينُ النَّجلُ
فالمطلع يتكون من جزأين وكذلك بقية الأقفال ن فالقفل الأول:
فتكت بي فتك منتقم بسهام راشها الكحلُ
والقفل الثاني :
صنمُُ, ناهيك من صنم حائرُُ في خدَّه االخجلُ.,
وهكذا في باقي الأقفال حتى الخرجة
فكمالُ الحسن بالكرم والذي يزرى به البخِلُ.
فعدد الأجزاء في المطلع هي نفسها عدد الأجزاء في الأقفال والخرجة.
فبناء المطلع مع الأقفال والخرجة لا يتغير
اما الزجل: فيختلف عن الموشح في هذا البناء وقد يتشابه وهذا نادرو فعلى سبيل المثال الزجل الذي مطلعه:
نهو طـــــباخ أفكـــــــاري خل ناري تقيدهْ.
يارب عبذ وبسورة الدخان ياحميد يا مجيدْ.
والقفل الأول:
وفي دست الهوان على قلبي غليـــــا نو شديد.
حتى يصل إلى الخرجة فيقولك
مـــثل ماجا يقاس الفضــة والذهب بالحديد
والزجل يتكون من تسعة أقفال مكونة من جزأين متفقه في التقفية الخارجية فهنا أتفاق مابين المطلع والأقفال ولكن هناك أزجالاً أختلف عن هذا البناء كالزجل الذي مطلعه: الزمان سعـــيد مواتى والحبيــب حلو رشيقْ
والربيع بساط أخضر والشراب اصفر مروق.
والقفل الأول :
والهزار يعمل طرايق في الغنا مزمور ومطلقْ.
والقفل الثاني:
لا تخاف الصبح يهجم دع يجي ويركب أبلقْ.
والخرجة :
زعقت: حرام زوجي والنبي غدا نطلقْ
ويتشابه الموشح ع الزجل في التقفية الخارجية للأقفال غلا أن أجزل الأقفال في الموشحة قد تأتي معقدة أو كثيرة على خلاف الزجل كالموشح التالي:
شعاعها بكفَّي يخل جنى عند الغنىَّ وقد شربتها كتى
توقعنى في سكره تجدبني بعطفىّ.
وكثر هذا النوع في الموشحات في العصر الملوكي.
• 2- الخرجه وكذلك تتشابه الموشح مع الزجل في الخرجة غلا أن الخرجات أتت في الموشح على الأنواع " العامية , والمعربة, والمقتبسة, والأعجمية" أما في الزجل فأتت على نوعين " العامية والمقتبسة".
• فالخرجة العامية: تمتاز بالبساطة لتشبه حديثاً عادياً إذا أقيست بالموشحة فالوشاح يخرج من المعرب إلى العامين وأن مثل هذه الخرجات في الموشحات هي التي ادت إلى ظهور فن الزجل.
3- اللغه
يتشابه الموشح مع الزدجل في اللغة العامية في خرجة الموشح, وقد كتبت في العصر المملوكي بعض الموشحات باللغة العامية وهذا مادفع بعض الباحثين إلى القول إن" لغة الموشحات يغلب عليها الضعف والركة وأساءة من هذه الناحية إلى اللغة العربية فأصبح الشاعر الوشاح لا يجد حرجاً في التساهل اللغوي طالما يبقى أذواق العامة" وهذا الحكم يعتد به في الخرجات لأن بعضها كتب باللغة العامية القريبة من لغة اللصوص وغيرهم والموشحات " ساعدت على تدعيم مكانة الفصحى لأنها أشاعت هذه اللغة الجميلة بين الناس, ومن ثم حالت دون سيطرة العامة, وجعلت للزجل مكانة ثانوية في الأدب"
• وأتت لغة بعض الموشحات فصيحة زجله والبعض الآخر فصيحة سهلة.
• وأتت لغة الزجل سهلة بسيطة تتماشى طبيعة البيئة .
سمات الزجل: 1 ـ وهناك ظاهرة أخرى في الزجل هي حذف الهمزة تخفيفاً وذلك كما في قول العزاري :
بتُ مشَُغوفاً بحب رَشا
بين حبات القلوب رشا
قد براه الله كيف يشـــا
2 ـ وهذه الظاهرة واضحة بكثرة في الزجل , ومن المظاهر الواضحة أيضاً في الموشحات ابدال السين ثاء كقول أحمد الوصل:
ما كمحبوبي ولا خلقــــا
غصن بان في كثيب نقا
سينه ثـــــاء إذا انطلقـــا
مثكر المثطار من لعث وتحيق المثك لي نفث.
3ـ ومن الظواهر الملفته تتطرفي الأزجال عدم تقيد الزجل بالقواعد النحوية والصرفية.
4ـ واستخدام صيغ وتراكيب معينه استقاها الزجالون من أفواه العامة كما يستخدم كلمة " اش" وهي لهجة عامية كقول علاء الدين بن مقاتل:
اش لو تكون يا جاري
تدعني من فيك أشبع قال أش يكون لك اشعبْ.
5 ـ وكذلك ظهر بوضوح بعض الألفاظ العلمية المتداوله مثل " والنبي" كقول فخر الدين بن مكانس:
والنبي زاد بوهيامى ولا نسمع لوم لايم.
6 ـ واستخدم الزجالون صيغ التصغير وذلك في قول أبن النبيه:
آه على قبله في جيدوا وأخرى في ذا القميم.
7 ـ ومن تلك الظواهر حذف حرف وإشباع حركته كقول فخر الدين بن مكانس:
أي قوم خلص مميشق كنوا إلا اسمر مثقف
8 ـ أو حذف الحرف كقول فخرا لدين بن مكانس في الزجل نفسه:
وبقي يخجل مسيكين ويقول لى كلتْ تفاح.
إلى غير ذلك من سمات خاصه بالزجل.
الخاتمة
ومهما قيل في الأزجال من أنها الأدب الشعبي الذي يصور الأحاسيس وخير مصور لحياة العامة بجدها وهزلها. ويسجل العواطف التي تثور بها نفوس العامة, وأفئدة الدهماء, فإننا لا نراها إلا عنواناً على تخلف اللغة,وهجر الفصحى, وعدم العناية بالضاد, أو الأقبال عليها, ولا يشتغل الناس بها, ويجعلونها لسان تصويرهم وتعبيرهم من ترف في البيان, وتقويم في اللسان وازدهار للأدب, ولنهم يفرون غليها من إفلاس وفقر، وهزال ومرض, وضعف وانتكاس, حينما يطغى تيار العجمة, وتحل العامية محل الفصحى.
• والعربية الصحيحة مهما كانت ثقيلة على الطالب, أو بغيضة إلى الناشئ, أو متشعبة المسالك على المتعلم، فهي ـ على كل حال ـ اللسان الذي لا ينحرف والبيان الذي لا يزيغ, والهادي الذي لا يضل, والرائد الذي لا يكذب أهله, والصديق الذي لا يخون صديقه, ولا يتخلى عنه, ولا يمل صحبته, ولا يكره معاشرته, ولا تختلف معاملته للناس... أما العامية فهي كالمنافق الذي يلقى كل واحد بوجه, وكل صديق بدعوى, وكل صاحب بمقال, وكل رفيق بلون, وعامية المدينة غير عامية القرية, وعامية قطر غير عامية الأخر, وهكذا تكون بلبلة اللسان والبيان, وللفكر والرأي, والعقل والمنطق, والهوى والميل, والذين يدعون إليها, أو يتشجعون عليها, ربما غاب عنهم أنهم فتنة في الأرض وفساد كبير.
• فالزجل فن شعبي عبر عن فلسفة الطبقات الشعبية في الحياة ونظرتهم إليها, إلا أنه يعد رجعة إلى الوراء, مع أن سنة التطور في الحياة تحتم على الأدب أن يرتفع بمستوى جمهور الناس فيسمو بسموه في الشكل والمضمون لا أن ينزل إلى مستواهم فتنحدر لغته وتختل قيمه وتهتز صوره.

**د لا ل**
2012-11-29, 22:44
محاضرات في الأدب العباسي

الأغراض الشعرية في العصر العباسي :
أوّلا : المديح
نظم العباسيون في المديح الذي هو من الموضوعات القديمة التي نظم فيها
الجاهليون والإسلاميون , وبذلك أبقوا للشعر العربي شخصيته الموروثة ودعموها
بما لاءموا بينها وبين حياتهم العقلية الحصينة وأذواقهم المتحضرة المرهفة ,
فإذا المديح يتجدد من جميع أطرافه تجددا لا يقوم على التفاصل بين صورته
القديمة وصورته الجديدة , بل يقوم على التواصل الوثيق .
تعريف المديح :
المديح ثناء حسن يرفعه الشاعر إلى إنسان حيّ أو جماعة أحياء , عرفانا
بالجميل أو طلب للنوال , أو رغبة في الصفح والمغفرة , أو تمجيدا لقيم
إنسانية تتجسد في سلوك قائد أو أمير , أو شخصية تاريخية فذة مثل محمد - صلى
الله عليه وسلم - الذي مدحه الشعراء من حسان بن ثابت إلى أحمد شوقي إلى
غيرهما من الشعراء في الوقت الحاضر .
ويندرج في مجال المدح هاشميات الكميت , والمدح السياسي الذي قاله الشعراء
في الأحزاب السياسية التي شهدتها مرحلة الصراع على الخلافة في أوائل العهد
الأموي وبدايات العهد العباسي .
تطور المديح في العصر العباسي :
نستهل الحديث عن المدح بقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في وصفه لزهير بن
أبي سلمى والذي استحسنه قدامة بن جعفر وفيه يقول " إنه لم يكن يمدح الرجل
إلا بما يكون للرجال " وعقب قدامة على ذلك " فإنه في هذا القول إذا فهم
وعمل به منفعة عامة , وهي العلم بأنه إذا كان الواجب أن لا يمدح الرجال إلا
بما يكون لهم وفيهم , فكذا يجب ألا يمدح شيء غيره " ثم ينتقل قدامة إلى
ذكر فضائل مدحهم , فيحددها في أربعة أنواع هي : العقل والشجاعة والعدل
والعفة , مبينا أن المادح للرجال بهذه الخصال تعد مدائحه صائبة , بخلاف
المادح بغيرها فهو مخطئ , ثم وضح بأن الفضائل الأربعة قد لا تجتمع مرة
واحدة للشاعر المادح , ولهذا يجوز له أن يقصد بعضها دون بعضها الآخر .
ونتيجة للتطور الذي طرأ على الحياة العباسية من جهة , ونظرة الناس إلى ما
يجب أن تكون عليه الحياة الفنية التي هي وليدة الحياة العامة , فإن نظرة
المادح والممدوح وموقفهما من تلك المقاييس أصبحت هي أيضا متطورة ومتغيرة ,
وبذلك لم يعد الشعراء في العصر العباسي الأول يتقيدون بتلك المقاييس التي
تحدث عنها قدامة بن جعفر إلا أن هذا لا يعني أنهم تخلوا عنها تماما , لأن
شعر المديح في هذا العصر قد شهد تطورات استدعت تغيرات في شكل القصيدة
ومضمونها .
وفيما يلي أهم التطورات الحادثة على قصيدة المديح في العصر العباسي :
1- كان المديح في العصر العباسي ذا طابع تكسبي , فقد إستطاع أغلب الشعراء
أن يرسموا لشخصية الممدوح صورة رائعة تتسم بجميع الصفات الحسنة والقيم
النبيلة , وذلك كان يرضى غرور الممدوحين لأنه بمثابة الإعلام المسيّس
والموجه , الذي يخدم الممدوح خاصة إذا كان من الطبقات السياسية العليا ,
ولا يثير غضب الناس عليه ولا على سياسته , ومن هذا المنطلق كان الممدوحون
يغدقون الأموال على الشعراء , وينادمونهم ويقربونهم ، تذكر المصادر أن
مروان بن أبي حفصة مدح المهدي فاستهل مدحته برقيق الغزل فقال :
طرقتك زائرة فحيّ خيالها *** بيضاء تخلط بالجمال دلالها
قادت فؤادك فاستقاد ومثلها *** قاد القلوب إلى الصبا فأمالها
ثم يصل مروان بن أبي حفصة إلى لب القصيدة وفكرتها :
هل تطمسون من السماء نجومها *** بأكفكم أو تسترون هلالها .
أو تجحدون مقالة عن ربكم *** جبريل بلغها النبيّ فقالها .
شهدت من الأنفال آخر آية *** بتراثهم فأردتهم إبطالها
فيزحف المهدي من صدر مصلاه حيث كان جالسا حتى صار على البساط إعجابا بما
سمع , ثم يقول لمروان : كم هي ؟ فيقول مائة بيت , فيأمر له بمائة ألف درهم
فكانت أول مائة ألف أعطيها شاعرا في أيام العباسيين .
2- التزموا بنظام القصيدة القديمة في أكثر الأحيان , ولكنهم غيروا من رمزية
هذه الأركان , فاستبقوا على الأطلال والرحلة في الصحراء غير أنهم اتخذوها
رمزا، أما الأطلال فلحبهم الداثر وأما رحلة الصحراء فرحلة الإنسان في
الحياة .
ومثاله قول مسلم بن الوليد :
هلا بكيت ظعائنا وحمولا *** ترك الفؤاد فراقهم مخبولا
فإذا زجرت القلب زاد وجيبه *** وإذا حبست الدمع زاد همولا
وإذا كتمت جوى الأسى بعث الهوى *** نفسا يكون على الضمير دليلا
واها لأيام الصبا وزمانه *** لو كان أمتع بالمقام قليلا
3- النداء بالتخلي عن المقدمات التقليدية بل بدلت بالفعل مقدمة البكاء على
الأطلال أو مقدمة النسيب التقليدي أو سواها بمقدمات وصف الخمرة ومجالس للهو
والعبث والتغزل المتهتك , ولم يتوقف تطور قصيدة المدح عند هذا الحد , بل
تعداه إلى عنصر الرحلة حيث استعاض الشعراء عن وصف الناقة والصحراء وحيوان
الوحش بالحديث عن الرحلة البحرية ووصف السفينة وأهوال البحر , وأحيانا
يقدمون مدحتهم بوصف الرياض في الربيع .
•فمثال المقدمة الخمرية والنداء بالتخلي عن المقدمة الطللية قول أبي نواس :
قل لمن يبكي على رسم درس *** واقفا ما ضر لو كان جلس
تصف الربع ومن كان به *** مثل سلمى ولبينى وخنس
•ومثال وصف الرحلة البحرية ووصف السفينة قول مسلم بن الوليد :
كأن مدب الموج في جنباتها **** مدب الصبابين الوعاث من العفر
كشفت أهاويل الدجى عن مهولة *** بجارية محمولة حامل بكر
لطمت بخديها الحباب فأصبحت *** موقفة الديات مرتومة النجر
إذا أقبلت راعيت بقنة قرهب *** وإن أدبرت راقت بقادمتي نسر
ومثال وصف الرياض في الربيع قول أبي تمام :
رقت حواشي الدهر فهي تمرمر *** وغدا الثرى في حليه يتكسر
نزلت مقدمة المصيف حميدة *** ويد الشتاء جديدة لا تكفر
لولا الذي غرس الشتاء بكفه *** لاقى المصيف هشائما لا تثمر
4- كان المديح موجها للطبقات العليا من الخلفاء والوزراء والولاة والقادة ،ولم يكن يهتم بالطبقات العامة إلا نادرا .
وقد أسهم كثير من الشعراء في الدفاع عن العباسيين وخلافتهم من خلال مدائحهم
, من بين هؤلاء مروان بن أبي حفصة , السيد الحميري , أبو دلامة , سلم
الخاسر وأبو نخيلة الذي يقول في السفاح :
حتى إذا ما الأوصياء عسكروا *** وقام من تبر النبىّ الجوهر
أقبل بالناس الهوى المشهر *** وصاح في الليل نهار أنور
يقول أشجع السلمي مادحا هارون الرشيد :
إلى ملك يستغرق المال جوده *** مكارمه نثر ومعروفه سكب
ومازال هارون الرضا بن محمد *** له من مياه النصر مشربها العذب
متى تبلغ العيس المراسيل بابه *** بنا فهناك الرحب والمنزل الرحب
يقول الأصفهاني < كان هارون الرشيد يحتمل أن يمدح بما تمدح به الأنبياء فلا ينكر ذلك ولا يرده >
5-المدح بالمثالية الخلقية ومثالية الحكم : مضى الشعراء في مديح الخلفاء
والولاة يضيفون إلى المثالية الخلقية من سماحة وكرم وحلم وحزم ومروءة وعفة
وشرف نفسه وعلو همة والشجاعة والبأس , مثالية الحكم وما ينبغي أن يقوم عليه
من الأخذ بدستور الشريعة وتقوى الله والعدالة التي لا تصلح حياة الأمة
بدونها , وبذلك كانوا صوتا قويا لها , صوتا ما يني يهتف في آذان الحكام بما
ينبغي أن يكونوا عليه في سلوكهم .
يقول منصور النمري في هارون الرشيد :
بورك هارون من إمام *** بطاعة الله ذي اعتصام
له إلى ذي الجلال قربى *** ليست لعدل ولا لإمام
ويقول أبو العتاهية فيه أيضا :
وراع يراعي الله في حفظ أمة *** يدافع عنها الشر غير رقود
تجافى عن الدنيا وأيقن أنها *** مفارقة ليست بدار خلود
ويقول أبو نواس مادحا هارون الرشيد كنموذج الحاكم العادل :
إلى أبي الأمناء هارون الذي *** يحيا بصوب سمائه الحيوان
في كل عام غزوة ووفادة *** تنبت بين نواهما الأقران
هارون ألفنا إئتلاف مودة *** ماتت لها الأحقاد والأضغان
متبرج المعروف عريض الندا*** حصر بلا منه فم ولسان
6- كانت قصيدة المديح أحيانا بمثابة رسائل توجيهية للحاكم ليصلح من حال
رعيته , ومثاله مدح أبي العتاهية لهارون الرشيد وتبليغه في مدحته مأساة
اجتماعية فيقول :
من مبلغ عني الإما *** م نصائحا متواليه
إني أرى الأسعار أسـ *** عار الرعية غالية
وأرى المكاسب نزرة *** وأرى الضرورة غاشية
وأرى اليتامي والأرا *** مل في البيوت الخالية
من بين راج لم ينزل *** يسمو إليك وراجية
يا ابن الخلائف لا فقد *** ت ولا عدمت العافية
إن الأصول الطيبا *** ت لها فروع زاكية
ألقيت أخيارا إليـ **** ك من الرعية شافية
ونصيحتي لك محضة **** ومودتي لك صافية


7 - صورت قصيدة المديح في العصر العباسي الإنتصارات الباهرة التي حققها
قادة الأمة الإسلامية وأبطالها في حروبهم ضد أعدائها , ومن تلك المعارك
التي وصفها الشعراء في مدائحهم وصفا رائعا إهتزت لها الجماهير وكأنها هي
الممدوحة بها , معارك هارون الرشيد ضد نقفور إمبراطور بيزنطة
يقول عبد الله بن يوسف مادحا الرشيد :
نقض الذي أعطيته نقفور *** وعليه دائرة البوار تدور
أبشر أمير المؤمنين فإنه **** غنم أتاك به الإله كبير
فلقد تباشرت الرعبة أن أتى ***** بالنقض عنه وافد وبشير
أعطاك جزيته وطأطأ خده **** حذر الصوارم والردى محذور
8- كانت مدائح انتصارات الخلفاء والقادة والأبطال على أعداء الأمة تاريخا
كتب شعراء , إذ أشادت هذه المدائح بكل معركة خاضوها وكل حصن اقتحموه , حتى
كادت لا تترك موقعه ولا بطلا دون تصوير يضرم في النفس العربية الاستبسال
،وجلاد الأعداء جلادا عنيفا، فإذا الشباب العربي يترامى وراء قائده على
منازل الأعداء ترامي الفراش على النار , ولم يكتف الشعراء بهذا التصوير فقط
بل عنوا بتسجيل كل ما يستطيعون من تفاصيل عن تلك المعارك العربية , ومن
أمثلة ذلك :
مديح على بن جبلة للبطل أبي دلف العجلي قائد المأمون المشهور في إحدى وقائعه :
المنايا في مقانبه *** والعطايا في ذرا حجره
وزحوف في صواهله *** كصياح الحشر في أمره
صاغك الله أبا دلف *** صيغة في الخلق في خيره
كل من في الأرض من عرب*** بين باديه إلى حضره
مستعير منك مكرمه **** يكتسيها يوم مفتخره
وكذلك مدحة مسلم بن الوليد ليزيد بن مزيد الشيباني قائد هارون الرشيد الذي فتك بخوارج الموصل :
لولا يزيد لأضحى الملك مطرحا *** أو مائل السمك أو مسترخي الطول
يغشى الوغى وشهاب الموت في يده *** يرمي الفوارس والأبطال بالشعل
موف على مهج في يوم ذي رهج *** كأنه أجل يسعى إلى أمل
لا يرحل الناس إلا نحو حجرته *** كالبيت يفضي إليه ملتقى السبل
تراه في الأمن في درع مضاعفة *** لا يأمن - الدهر – أن يدعى على عجل
لا يعبق الطيب خدّيه ومفرقه *** ولا يمسّح عينه من الكحل

9- مدح الخلفاء بالدين والدنيا : فقد عرف شعر المدح في هذا العصر معاني
إسلامية رددها أكثر من شاعر , ومن هنا فإن رغبة الخلفاء والأمراء أصبحت
تتطلع إلى شعر مديحي يكون مشفوعا بمعان إسلامية , وأن ينعت الممدوحون فيه
بصفات تستمد من منابعه كالذي نجده في شعر عمر بن سلمة المعروف بابن أ بي
السعلاء الذي رضخ لشرط الرشيد بألا يدخل عليه إلا من يمدحه بالدين والدنيا
في ألفاظ قليلة , فقال ابن أبي السعلاء :
أغيثا تحمل الناقـ *** ـة أم تحمل هارونا
أم الشمس أم البدر *** أم الدنيا أم الدنيا
ألا لا بل أرى كل الـ *** ذي عددت مقرونا
على مفرق هارون *** فداه الآدميونا
10- المبالغة والتهويل في المدح : وهي عادة فارسية إلتزمها الشعراء الفرس
في مدح ملوكهم بما يخرجهم عن طبيعتهم الإنسانية إلى ما يشبه الآلهة عندهم .
ومثاله مدح أبي نواس لهارون الرشيد في عدة قصائد نختار منها هذه الأبيات
وأخفت أهل الشرك حتى إنه *** لتخافك النطف التي لم تخلق
فيصف أبو نواس هارون الرشيد بالمهابة والقوة والعظمة , ويبالغ في ذلك لحد
أن النطف في الأرحام تخافه وتهابه , ويهدف الشاعر إلى تجاوز المحسوس أو
الموجود إلى مالا وجود له , وهنا يلمح الشاعر إلى دوام ملك الرشيد واستمرار
نفوذه السلطوي , وقوة خلافته التي تبدوا من خلال بثه الرعب في نفوس
المشركين وسلالاتهم .
ويقول في قصيدة أخرى مادحا دائما الرشيد :
ملك تصور في القلوب مثاله *** فكأنه لم يخل منه مكان
ما تنطوي عنه القلوب بنجوة *** إلا يكلمه بها اللحظان
حتى الذي في الرحم لم يك صورة *** لفؤاده من خوفه خفقان
11- مدح المدن والتعصب لها : يرى مصطفى هدارة أن " من الاتجاهات الجديدة
التي ذهب إليها شعر المديح في القرن الثاني مدح المدن والتعصب لها ,
والإفاضة في تعداد محاسنها ونواحي جمالها , وكان أكثر هذا النوع من المديح
يدور حول الكوفة والبصرة أو بغداد باعتبارها المراكز الرئيسية للحياة
الفكرية والاجتماعية والاقتصادية النشطة , ولا سيما بالنسبة للشعراء
المادحين "
ومن ذلك مديح عمارة بن عقيل لبغداد :
أعاينت في طول من الأرض والعرض *** كبغداد دارا إنها جنة الأرض
صفا العيش في بغداد وأخضر عوده *** وعيش سواها غير صاف ولا غض
12- مدح الذات الإلهية :
ظهر نوع جديد من المدائح يتوجه بها أصحابها إلى الذات الإلهية يمتدحونها ,
مستغنين بمديحها عن البشر وما يضطرون إليه من كذب ونفاق في مديحهم , ومن
ذلك قول أبي العتاهية :
تعالى الواحد الصمد الجليل *** وحاشى أن يكون له عديل
وقد كان عمران بن الحطان الشاعر الخارجي قد دعا إل هذا الاتجاه في المديح , من ذلك قوله :
أيها المادح العباد ليعطى *** إن لله ما بأيدي العباد
فاسأل الله ما طلبت إليهم *** وارج نفع المنزل العواد
لا تقل في الجواد ما ليس فيه *** وتسمي البخيل باسم الجواد
وقد استفحل هذا التيار حتى كاد يتداخل مع تيار الزهد الذي شكل ظاهرة في
العصر العباسي الأوّل , ولكنه تطور فيما بعد ليصبح أهم موضوعات الشعر
الصوفي , وليأخذ أبعادا فنية وجمالية متعددة .
13- مدح فئة الكتّاب :
ساهم الشعراء الكتّاب في تطوير قصيدة المديح، إذ جاء بعضهم بالقيم الفنيّة
القديمة وأضاف قيما فنيّة جديدة متمثلة لحضارة العصر وذوقه , فخاطبوا
بمديحهم فئات من الناس ما كان الشعراء ليقصدوها بمدحة أو هجائية من قبل ,
ووفروا للغتهم في هذه المدائح السهولة , ولتراكيبهم البساطة , ومعانيهم كل
ما هو جديد ومرتبط ببيئاتهم الاجتماعية والفكرية والأدبية ولإيقاع شعرهم
الأوزان الخفيفة .
مدح أحمد بن الخصيب كاتبا له فقال :
وإذا نمنمت بنانك خطا *** معربا عن إصابة وسداد
عجب الناس من بياض معان *** يجتنى من سواد ذاك المداد
14- جنوح الشعراء المداح في العصر العباسي إلى سهولة الألفاظ والتراكيب
ووضوحها وصبغوا قصائدهم بألوان من التطور في الصياغة والتشكيل ، فجاءت
قصائدهم طافحة بالفن والجمال ومجسدة لجماليات الإبداع الشعري في هذا العصر .
15- اعتناء الشاعر العباسي بمدائحه إذ دفعتهم دقتهم الذهنية إلى الملائمة
بين مدائحهم وممدوحيهم , فإذا مدحوا الخلفاء نوهوا بتقواهم وعدلهم في
الرعيّة، وإذا مدحوا الوزراء تحدثوا عن حسن سياستهم ,وإذا مدحوا القادة
الأبطال أطالوا في وصف شجاعتهم , وكذلك صنعوا بالفقهاء والقضاة والكتاب
والمغنين، فلكل أوصافه التي تخصه , وهي أوصاف طلبوا فيها وفي كل مدائحهم
الفكر الدقيق والتعبير الرشيق .
16- شاعت في العصر العباسي المقطوعات في المديح وتقهقرت المطولات نسبيا.
17- أنتقد شعر المديح في العصر العباسي بأنّه مديح بغير الواقع , فأغلبه
نفاق وكذب ومجاملة ورغبة في جنيّ الأموال، والوصول إلى المناصب العليا في
الإدارة , فجلّ القيّم والصفات التي مدح بها هؤلاء الشعراء ممدوحيهم لا
تتوافر في هؤلاء الممدوحين، وقد دافع بعض الكتاب عن ذلك قائلين إن ذلك قد
يكون صحيحا إلى حد ما , ولكن ليس هدف الشعر عامة والمدح خاصة أن يصف أو
يصور لنا الواقع كما هو , إنما الهدف الأساسي من الشعر أن يصور الواقع كما
يجب أن يكون , إذن فطموح الشعر هو تغيير الواقع المشوه إلى واقع أكثر كمالا
وجمالا , ومن هذا المنطلق نستطيع القول أن الشاعر – في أغلب الأحيان – لا
يمدح شخصية بعينها , إنما يمدح الإنسان النموذج الذي له القدرة على تمثل ما
يطمح إليه المجتمع من قيّم، وتجسيد هذه القيّم في الواقع من خلال الممارسة
الفعلية في السلوك قولا وعملا، ومن خلال هذا التفسير للغاية الأساسية من
المديح يمكن فهم جميع الأشعار التي قيلت في هذه المرحلة مع عدم إغفال
خصوصية كل شاعر في مجال الصياغة الفنيّة , والناحية التشكيلية والانتماء
السياسي أو المذهبي .
18- اشتهر عدد كبير من شعراء المدح , وعلى رأسهم أبو تمام والبحتري والمتنبي
أمّا أبو تمام فقد مدح المأمون والمعتصم والواثق والحسن بن سهل وأحمد بن
أبي دؤاد وغيرهم , وكان في مدحه عظيم التصوير , يميل إلى الصناعة البديعية
مع ابتكار الصور , مركزا على التسلسل المنطقي في بناء قصائده , وعمل على
تطوير الأسلوب المدحي فجعل الاستهلال للحكمة , وكانت معانيه موغلة في
الغموض أحيانا يصعب الوصول إلى دقائقها .
وقصيدته في وصف " فتح عمورية " يظهر فيها المدح جليّا للخليفة المعتصم منها هذه الأبيات :
السيف أصدق أنباء من الكتب *** في حده الحدّ بين الجدّ واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف *** في متونهن جلاء الشك والريب
تدبير معتصم بالله منتقم *** لله مرتقب في الله مرتهب
لم يغز قوما ولم ينهد إلى بلد *** إلا تقدمه جيش من الرعب
أما البحتري فقد نهج في شعره منهج الأقدمين , واكتفى بالمعاني العادية
ولكنّ في مدائحه جمال التصوير , وصفاء الديباجة وموسيقى الألفاظ والقوافي ،
فيقول في قصيدته التي يمدح فيها المتوكل وهو يصف موكبه في عيد الفطر
المبارك، ويثني عليه بالعبادة في شهر رمضان :
عمت فواضلك البرية فالتقى *** فيها المقل على الغنى والمكثر
بالبرّ صمت وأنت أفضل صائم *** وبسنة الله الرّضيّة تفطر
فانعم بيوم الفطر عينا إنه *** يوم أغر من الزمان مشهر
فاسلم بمغفرة الإله فلم يزل *** يهب الذنوب لمن يشاء ويغفر
الله أعطاك المحبة في الورى *** وحباك بالفضل الذي لا ينكر
ولأنت أملأ للعيون لديهم *** وأجل قدرا في الصدور وأكبر
أما أبو الطيب المتنبي فسلك في مدحه سبيل أبي تمام , وأكثر من المدح لينال وليحقق ما يهدف إليه وليكون عظيما من العظماء
ومما قاله في مدح سيف الدولة الحمداني :
لكل امرئ من دهره ما تعودا *** وعادة سيف الدولة الطعن في العدى
هو البحر غص فيه , إذا كان ساكنا **** على الدر واحذره إذا كان مزبدا
المراجع المعتمدة :
1-د.نور الدين السد , الشعرية العربية , ديوان المطبوعات الجامعية , الجزائر 1995
2-د.مصطفى بيطام , مظاهر المجتمع وملامح التجديد من خلال الشعر في العصر العباسي الأول , ديوان المطبوعات الجامعية , الجزائر 1995.
3-د.شوقي ضيف , تاريخ الأدب العربي , العصر العباسي الأول , دار المعارف , مصر , ط6 ,

**د لا ل**
2012-11-29, 22:45
ثانيا: الهجاء في العصر العباسي
أ- تعريفه : يعد الهجاء فنا من فنون الأدب العربي الرفيعة وهو يعد انتقادا
صريحا للواقع المشوه , ورفضا للقيّم التي تعيق سعادة الإنسان , فالإنسان
النموذج هو الذي يسلم من الصفات السيئة، والهجاء يعين على تصور الحياة عند
الأفراد وفي المجتمع , وقد يساعد على تأريخ الحياة العربية حين يصدق
الشاعر.
والهجاء كسائر الأغراض الشعرية الأخرى بالخصوص المديح منها، يتأثر بما يطرأ
على الحياة والمجتمع من تغير وتطور، فالمديح يتناولها من الناحية
الايجابية والهجاء من الناحية السلبية .
ومعالم التطور في الهجاء أعمق وأوسع منها في المديح لأنه يتصل بحياة العامة اتصالا لعلّه أدق من اتصال المديح .
ب-أسبابه : موضوع الهجاء كانت تدفع إلى القول فيه دوافع مختلفة منها
السياسية والاجتماعية والخلقية والدينية وسوى ذلك . ويعد الصراع العقلي
والديني والفلسفي في العصر العباسي الأول الباعث الأول والدافع القوي
للهجاء , نقف عنده في قصائد بعض الشعراء العباسيين الذين مالوا إلى
الجهربالكفر والإلحاد والمجون , وسواه من الانحرافات التي أدت إلى بروز نوع
غير مباشر من الهجاء الاجتماعي , الذي لم يقف عند حدود الجبن والبخل وكشف
عورات الشرف بل تعداها في أكثر الأحيان إلى الدين والعادات والأخلاق .

ج-تطور غرض الهجاء في العصر العباسي
1-النزوع إلى الشعبية : وهو يعني أنّ الهجاء يميل إلى الشعبية في
أسلوبه،وقد أشار مصطفى هدارة إلى ذلك , ومن هنا كان انتشار الهجاء وسرعة
رواجه , ولعل في هجاء الشمقمق بشارا ما يدل على هذا النزوع الشعبي في أسلوب
الهجاء ومن ذلك قوله :
هلّلينة هلّلينة *** طعن قثاة لتينّة
إنّ بشار بن برد *** تيس أعمى في سيفنة

2-الهجاء المقذع : قد أسرف الشعراء في الهجاء المقذع كالهجاء بالنتانة وعدم
النظافة , وهي مظاهر غير محببة اجتماعيا وأخلاقيا ومثال ذلك :
*هجاء حماد عجرد لبشار في قوله :
والله ما الخنزير في نتنه *** بربعه في النتن أو خمسه
بل ريحه أطيب من ريحه *** ومسّه ألين من مسّه
ووجهه أحسن من وجهه *** ونفسه أنبل من نفسه
وعوده أكرم من عوده *** وجنسه أكرم من جنسه
*ومثاله أيضا هجاء دعبل الخزاعي ( 148هـ/ 246هـ) لبني بسام بسبب اهمال نصر
بن منصور بن بسام قضاء طلب للشاعر، فقال دعبل عامدا إلى التورية والطباق
يا آل* بسام* في المخازي *** وعابسي الوجه في السؤال
حواجب كالجبال سود **** إلى عثانين كالمخالي
وأوجه جهمة غلاظ ***** عطل من الحسن والجمال
3- الهجاء في الأعراض : مثال ذلك هجاء بشار لسبويه بقوله :
أ سيبويه يا ابن الفارسية ما الذي *** تحدثت عن شتمي وما كنت تنبذ
أظلت تغنّى سادرا بمساءتي **** وأمك .........................
وكان سيبويه قد أخذ عليه بعض المآخذ اللغوية في شعره فغاظ ذلك بشار واعتبره
إهانة له , ويلاحظ من السياق أن بشارلم يحاول تبرير أخطائه ولكن طعن في
عرض سيبويه وشرف أمه، ونستخلص من هذه الصورة الشعرية قيمة اجتماعية
وأخلاقية فحواها أن المجتمع العباسي كان يمكنه أن يسوغ خطأ لغويا , ولكنه
لا يسوغ سقطة أخلاقية فمفهوم العرض والشرف كانت له قداسة اجتماعية.
4-الطعن في رجولة المهجو ووصمه بالتخنث والشذوذ وعدم المروءة :
وهي قيمة جديدة مستقبحة استحدثت في العصر العباسي ومثال ذلك
*قوله دعبل الخزاعي في الأمين :
ولست بقائل قذعا ولكن *** لأمر ما تعبّدك العبيد
5- فن الهجاء في العصر العباسي كان في أغلبه من صنع الشعراء المجان الذين
حاولوا من خلاله تحطيم جميع الموانع والقيود التي فرضها الدين الإسلامي
الحنيف على الشعراء الهجائين وشعرهم الهجائي الذي كان مجالا للطعن في أعراض
الناس وقذف المحصنات . وكتاب الأغاني أحد الكتب التي تحوي آلافا من
الجنايات الهجائية التي أقترفت في حق الناس خاصهم وعامهم .
6- استفحال الهجاء السياسي في هذا العصر : وهو هجاء النظام السياسي أو هجاء الخلفاء والأمراء والولاة ومثال ذلك :
*دعبل الخزاعي الذي يعد علويا متعصبا لآل البيت فهجا الخليفة العباسي
المعتصم منتقدا سياسته لأنه ترك الأتراك يحكمون أمور الدولة ويسيرون أمور
الرعية حسب أهوائهم فقال :
ملوك بني العباس في الكتب سبعة *** ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة*** خيار إذا عدوا وثامنهم كلب
وإني لأعلي كلبهم عنك رتبة *** لأنك ذو ذنب وليس له ذنب
لقد ضاع ملك الناس إذ ساس ملكهم *** وصيف وأشناس وقد عظم الخطب
*هجاء المتنبي لكافور الإخشيدي
عيد بأيّ حال عدت يا عيد *** بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم **** فليت دونك بيد دونها بيد
7-الهجاء بالخلقة وعيوبها، وجعله نوعا من الهجاء الساخر الذي يعتمد أصحابه
على رسم المفارقات الجسدية والشكلية لشخصية المهجو ومثاله:
*هجاء حماد عجرد لبشار بن برد :
وأعمى يشبه القرد *** إذا ما عمي القرد
دنيء لم يرح يوما *** إلى مجد ولم يغد
ولم يحضر مع الحضا *** ر في خير ولم يبد
ولم يخش له ذم *** ولم يرج له حمد
*ومثاله أيضا قول دعبل الخزاعي واصفا هاجيا جارية له اسمها غزال
رأيت غزالا وقد أقبلت *** فأبدت لعيني عن مبصقة
قصيرة الخلق دحداحة *** تدحرج في المشي كالبندقة
وأنف على وجهها ملصق *** قصير المناخر كالفستقة




8-التكرار :
لقد بلغ تأثر الشعر بالغناء والإيقاع والموسيقى في هذا العصر مبلغه حتى
أصبحنا نجد ظاهرة التكرار على مستوى الألفاظ أو الجمل أو الأشطر كما في قول
بشار بن برد في هجاء أحد الأشخاص :
ذر خلّتنا ذر خلّتنا يا ابن خليق قد أتى
فبشار يوظف التكرار صوتيا ولذلك دلالة جمالية ونفسية كبيرة.
9-أصبح الهجاء يقتصر على مقطوعات قصيرة , يقول مصطفى هدارة " ولعل أول ما
نلحظه في شعر الهجاء في القرن الثاني اقتصاره على المقطوعات الصغيرة " وهذا
يعود إلى تطور الحياة ومتطلبات العصر التي فرضت على الشعراء الإيجاز لا في
الهجاء فقط بل في مختلف الأغراض والموضوعات .
10- التصوير الكاريكاتوري :
يعتبر الهجاء الساخر التطور الفني الذي لحق الهجاء الذي يستهدف إضحاك الناس
على المهجو وسخريتهم منه، فهو يرسم شخصية المهجو المعنوية والحسية رسما
كاريكاتوريا يبعث على الضحك , ويستعين الشاعر في هذا النوع الأصيل من
الهجاء بكل معارف عصره , وبجميع عناصر الفكاهة والهزل الشائعة بين الناس ,
وهذه الصور الشعرية الساخرة تشكل الأساس الرئيسي لمدرسة الصورة الشعرية
الساخرة التي ازدهرت عند ابن الرومي بحيث عرفت به ونسبت إليه والواقع أن
فضلا كبيرا في أصلها يرجع إلى دعبل لخزاعي الشاعر الرسام الساخر الهجاء
الفنان .
*ومثال ذلك قول منصور الأصفهاني في من اسمه مغيرة :
وجه المغيرة كله أنف *** موف عليه كأنه سقف
من حيث ما تأتيه تبصره *** من أجل ذلك أمامه خلف

*ومثاله أيضا هجاء دعبل جاره الذي سرق ديكه وأكله هو وعياله ثم أنكر ذلك ,
فشهّر به دعبل في المسجد بهذه الأبيات الساخرة المضحكة المتحركة:
أسر المؤذن صالح وضيوفه *** أسر الكميّ هفا خلال الماقط
بعثوا عليه بنيهم وبناتهم *** من بين ناتفة وآخر سامط
يتنازعون كأنهم قد أوثقوا *** خاقان أو هزموا كتائب ناعط
نهشوه فانتزعت له أسنانهم *** وتهشمت أقفاؤهم بالحائط

فالهجاء الساخر يعتبر طريقة تعبيرية متطورة لنقد الأوضاع الاقتصادية
والسياسية والاجتماعية والفردية , وهو بذلك محاولة إلى تجاوزها إلى ما هو
أفضل وذلك بالإصلاح والتغيير وكشف الزيف ومواجه التشوه .
المراجع المعتمدة :
1-د.مصطفى ببطام مظاهر المجتمع وملامح التجديد من خلال الشعر في العصر العباسي الأول (132-232) .
2-د.نور الدين السد – الشعرية العربية – دراسة في التطور الفني للقصيدة العربية حتى العصر العباسي .






ثالثا الرثاء :
ظل شعر الرثائي منذ الجاهلية كباقي الأغراض الأخرى مواكبا لركب الحياة
يتطور ويتجدد تبعا لتطورها وتجددها , فلما دانت الرقاب لبني العباس اقتفى
شعراؤهم نهج أسلافهم من شعراء أمية في مراثيهم التي كانوا يجمعون في أكثرها
بين التهنئة والتعزية
1-ومن الشعراء العباسيين الذين تحقق لهم الجمع بين التهنئة والتعزية أبو نواس الذي يعزي الفضل بن ربيع عن الرشيد ويهنئه بالأمين :
تعز أبا العباس عن خير هالك *** بأكرم حيّ كان أو هو كائن
حوادث أيام تدور صروفها *** لهن مساو مرة ومحاسن
وفي الحي بالميت الذي غيّب الثرى *** فلا الملك مغبون ولا الموت غابن
2-ومن بين المواضع التي أكثر فيها الشعراء العباسيون من نظم الشعر الرثائي
موضوع رثاء الخلفاء والوزراء والقادة حيث أبنوهم بمرثيات تعد من روائع
الشعر العربي , أتوا فيها على ذكر أعمالهم الحميدة وبطولاتهم الفذة ومحنة
الأمة في فقدانهم , كما يعد بكاء الرفقاء والأصدقاء والأبناء والآباء
والأمهات والأزواج من المواضيع التي شغلت حيزا كبيرا في أشعارهم .
*يرثى أبو الشيص هارون الرشيد بمرثية عجيبة يقول فيها
غربت في المشرق الشمـ *** ـس فقل للعين تدمع
ما رأينا قط شمسا *** غربت من حيث تطلع
* ومن أمثلة المراثي التي قيلت في القادة مرثية أبي تمام التي رثى فيها محمد بن حميد الطوسي قائد جيش المأمون يقول فيها :
أصم بك الناعي وإن كان أسمعا *** وأصبح معنى الجود بعدك بلقعا
فتى كلما ارتاد الشجاع من الرّدى *** مفرا غداة المأزق إرتاد مصرعا
فإن ترم عن عمر تدانى به المدى *** فخانك حتى لم يجد فيه منزعا
فما كنت إلا السيف لاقى ضريبة *** فقطعها ثم انثنى فتقطعا

*ورثى عبد الله بن أيوب التيمي البطل منصور بن زياد البطل قضى على ثورة بالقيروان لعهد الرشيد فقال :
أما القبور فإنهن أوانس *** بجوار قبرك والديار قبور
والناس مأتمهم عليه واحد *** في كل دار رنّة وزفير
عجبا لأربع أذرع في خمسة *** في جوفها جبل أشم كبير
*ويقول منصور النمري فر رثاء يزيد بن مزيد الذي فتك بخوارج الموصل :
وإن تك أفنته الليالي وأوشكت ** فإن له ذكرا سيفني الليالي
وواضح ما في هذه الأشعار من دقة التفكير وبعد الخيال ولا عجب إذ كانوا يتنافسون في استنباط المعاني النادرة.
*ومن مراثي الرفقاء والأصدقاء : رثاء بشار لأحد أصدقائه من الزنادقة :
اشرب على تلف الأحبة إننا *** جزر المنية ظاعنين وخفضا
ويلي عليه وويلتي من بينه *** كان المحب وكنت حبا فانقض
قد ذقت ألفته وذقت فراقه *** فوجدت ذا عسلا وذا جمر الغضا
*ونجد الرثاء عند أبي العلاء المعري عبارة عن وقفة تأملية يشترك فيهما
العقل والعاطفة والخيال , وأروع قصائده في هذا الغرض تلك التي رثى بها أبا
حمزة، وهو الفقيه الحنفي وكان عزيزا عليه فقال في مطلعها :
غير مجد في ملتي واعتقادي *** نوح باك , ولا ترنم شاد
صاح هذي قبورنا تملأ الرحـ ** ب فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطء ما أظن أديم الأر ** ض إلا من هذه الأجساد
ربّ لحد قد صار لحدا مرارا*** ضاحك من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين *** في طويل الأزمان والآباد
تعب كلها الحياة فما أعجب *** إلا من راغب في ازدياد
وبعد مقدمات في ذكر الحكم والعبر , شرع في ذكر خصال الفقيد ومما قاله :
قصد الدهر من أبي حمزة الأواب *** مولى حجى وخدن اقتصاد
أنفق العمر ناسكا يطلب العلم *** بكشف عن أصله وانتقاد
ذا بنان لا تلمس الذهب الأحمر *** زهدا في العسجد المستفاد
4-وظهرت ضروب جديدة للرثاء لم تكن معروفة قبل هذا العصر كرثاء المدن فهذا
ابن الرومي( 255 هـ) يرثي مدينة البصرة عندما أغار عليها الزنج فنهبوها
وأحرقوها فقال واصفا تلك الفضائع :
ذاد عن مقتلي لذيذ المنام *** شغلها عنه بالدموع السجام
أي نوم من بعدما حل بالبصرة *** ما حل من هنات عظام
أي يوم من بعدما انتهك الزنج *** جهارا محارم الإسلام
حتى يقول :
كم أخ قد رأى أخاه صريعا **** ترب الخدين بين صرعى كرام
كم أب قد رأى عزيز بنيه **** وهو يعلى بصارم صمصام
كم فتاة مصونة قد سبوها **** بارزا وجهها من غير لثام
5-ومن ضروب الرثاء الجديدة مراثي الطير الصادح مثل القمري والحيوانات المستأنسة والأحصنة ،
فقد رثى ابن الزيات فرسا له أشهبا لم ير مثله فراهة وحسنا أخذه منه المعتصم فقال :
كيف العزاء وقد مضى لسبيله *** عنا فودعنا الأحمّ الأشهب
منع الرقاد جوى تضمنه الحشا *** وهوى أكابده وهم منصب
6-وتعتبر المعاني الحضارية التي أدخلت في الرثاء إحدى مظاهر التجديد التي
عرفها هذا الغرض كالذي نراه في رثاء المغنين وأهل اللهو حيث شاعت فيهم معان
لم يألفها الرثاء من قبل , فبينما كان يرثى قديما بصفات النجدة والمروءة
والكرم والشجاعة وما إلى ذلك من الصفات، أصبح بعض الناس في بغداد يرثي بمثل
ما رثى به ابن سيابة إبراهيم الموصلي فيقول:
تولى الموصلي فقد تولت *** بشاشات المزاهر والقيان
وأي بشاشة بقيت فتبقى *** حياة الموصلي على زمان
ستبكيه المزاهر والملاهي *** وتسعدهن عاتقة الدنان




ثالثا الرثاء :
ظل شعر الرثائي منذ الجاهلية كباقي الأغراض الأخرى مواكبا لركب الحياة
يتطور ويتجدد تبعا لتطورها وتجددها , فلما دانت الرقاب لبني العباس اقتفى
شعراؤهم نهج أسلافهم من شعراء أمية في مراثيهم التي كانوا يجمعون في أكثرها
بين التهنئة والتعزية
1-ومن الشعراء العباسيين الذين تحقق لهم الجمع بين التهنئة والتعزية أبو نواس الذي يعزي الفضل بن ربيع عن الرشيد ويهنئه بالأمين :
تعز أبا العباس عن خير هالك *** بأكرم حيّ كان أو هو كائن
حوادث أيام تدور صروفها *** لهن مساو مرة ومحاسن
وفي الحي بالميت الذي غيّب الثرى *** فلا الملك مغبون ولا الموت غابن
2-ومن بين المواضع التي أكثر فيها الشعراء العباسيون من نظم الشعر الرثائي
موضوع رثاء الخلفاء والوزراء والقادة حيث أبنوهم بمرثيات تعد من روائع
الشعر العربي , أتوا فيها على ذكر أعمالهم الحميدة وبطولاتهم الفذة ومحنة
الأمة في فقدانهم , كما يعد بكاء الرفقاء والأصدقاء والأبناء والآباء
والأمهات والأزواج من المواضيع التي شغلت حيزا كبيرا في أشعارهم .
*يرثى أبو الشيص هارون الرشيد بمرثية عجيبة يقول فيها
غربت في المشرق الشمـ *** ـس فقل للعين تدمع
ما رأينا قط شمسا *** غربت من حيث تطلع
* ومن أمثلة المراثي التي قيلت في القادة مرثية أبي تمام التي رثى فيها محمد بن حميد الطوسي قائد جيش المأمون يقول فيها :
أصم بك الناعي وإن كان أسمعا *** وأصبح معنى الجود بعدك بلقعا
فتى كلما ارتاد الشجاع من الرّدى *** مفرا غداة المأزق إرتاد مصرعا
فإن ترم عن عمر تدانى به المدى *** فخانك حتى لم يجد فيه منزعا
فما كنت إلا السيف لاقى ضريبة *** فقطعها ثم انثنى فتقطعا

*ورثى عبد الله بن أيوب التيمي البطل منصور بن زياد البطل قضى على ثورة بالقيروان لعهد الرشيد فقال :
أما القبور فإنهن أوانس *** بجوار قبرك والديار قبور
والناس مأتمهم عليه واحد *** في كل دار رنّة وزفير
عجبا لأربع أذرع في خمسة *** في جوفها جبل أشم كبير
*ويقول منصور النمري فر رثاء يزيد بن مزيد الذي فتك بخوارج الموصل :
وإن تك أفنته الليالي وأوشكت ** فإن له ذكرا سيفني الليالي
وواضح ما في هذه الأشعار من دقة التفكير وبعد الخيال ولا عجب إذ كانوا يتنافسون في استنباط المعاني النادرة.
*ومن مراثي الرفقاء والأصدقاء : رثاء بشار لأحد أصدقائه من الزنادقة :
اشرب على تلف الأحبة إننا *** جزر المنية ظاعنين وخفضا
ويلي عليه وويلتي من بينه *** كان المحب وكنت حبا فانقض
قد ذقت ألفته وذقت فراقه *** فوجدت ذا عسلا وذا جمر الغضا
*ونجد الرثاء عند أبي العلاء المعري عبارة عن وقفة تأملية يشترك فيهما
العقل والعاطفة والخيال , وأروع قصائده في هذا الغرض تلك التي رثى بها أبا
حمزة، وهو الفقيه الحنفي وكان عزيزا عليه فقال في مطلعها :
غير مجد في ملتي واعتقادي *** نوح باك , ولا ترنم شاد
صاح هذي قبورنا تملأ الرحـ ** ب فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطء ما أظن أديم الأر ** ض إلا من هذه الأجساد
ربّ لحد قد صار لحدا مرارا*** ضاحك من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين *** في طويل الأزمان والآباد
تعب كلها الحياة فما أعجب *** إلا من راغب في ازدياد
وبعد مقدمات في ذكر الحكم والعبر , شرع في ذكر خصال الفقيد ومما قاله :
قصد الدهر من أبي حمزة الأواب *** مولى حجى وخدن اقتصاد
أنفق العمر ناسكا يطلب العلم *** بكشف عن أصله وانتقاد
ذا بنان لا تلمس الذهب الأحمر *** زهدا في العسجد المستفاد
4-وظهرت ضروب جديدة للرثاء لم تكن معروفة قبل هذا العصر كرثاء المدن فهذا
ابن الرومي( 255 هـ) يرثي مدينة البصرة عندما أغار عليها الزنج فنهبوها
وأحرقوها فقال واصفا تلك الفضائع :
ذاد عن مقتلي لذيذ المنام *** شغلها عنه بالدموع السجام
أي نوم من بعدما حل بالبصرة *** ما حل من هنات عظام
أي يوم من بعدما انتهك الزنج *** جهارا محارم الإسلام
حتى يقول :
كم أخ قد رأى أخاه صريعا **** ترب الخدين بين صرعى كرام
كم أب قد رأى عزيز بنيه **** وهو يعلى بصارم صمصام
كم فتاة مصونة قد سبوها **** بارزا وجهها من غير لثام
5-ومن ضروب الرثاء الجديدة مراثي الطير الصادح مثل القمري والحيوانات المستأنسة والأحصنة ،
فقد رثى ابن الزيات فرسا له أشهبا لم ير مثله فراهة وحسنا أخذه منه المعتصم فقال :
كيف العزاء وقد مضى لسبيله *** عنا فودعنا الأحمّ الأشهب
منع الرقاد جوى تضمنه الحشا *** وهوى أكابده وهم منصب
6-وتعتبر المعاني الحضارية التي أدخلت في الرثاء إحدى مظاهر التجديد التي
عرفها هذا الغرض كالذي نراه في رثاء المغنين وأهل اللهو حيث شاعت فيهم معان
لم يألفها الرثاء من قبل , فبينما كان يرثى قديما بصفات النجدة والمروءة
والكرم والشجاعة وما إلى ذلك من الصفات، أصبح بعض الناس في بغداد يرثي بمثل
ما رثى به ابن سيابة إبراهيم الموصلي فيقول:
تولى الموصلي فقد تولت *** بشاشات المزاهر والقيان
وأي بشاشة بقيت فتبقى *** حياة الموصلي على زمان
ستبكيه المزاهر والملاهي *** وتسعدهن عاتقة الدنان

**د لا ل**
2012-11-29, 22:46
رابعا : الوصف
إن التطور الذي عرفه الوصف في العصر العباسي استهدف أسلوبه ومعناه ولفظه ,
إلا أن هذا لا يعني أن موضوع الوصف قد تخلص كلية من الطريقة التقليدية , بل
لبث في بعض نواحيه يساير مواضيع الوصف القديم كوصف الإبل والنياق والذئب
والطير والبقر الوحشي وغيرها .
*والشاعر في هذا الغرض بعد أن كان يحلق ببصره في ربوع تهامة ونجد والجزيرة
وما تحويه من فيافي وقفار و وهاد موحشة ومظاهر أخرى هي وليدة البيئة
العربية الخالصة كالخيام المضروبة هنا وهناك، وما كان يحيط بها من شياه
وخيول ،أصبح بعد التحول الذي طرأ على المجتمع العربي المتنقل من حياة
البداوة و الترحال إلى حياة التمدن والاستقرار , يرفل في ألوان المدنية
وينعم بضروب الترف والبذخ , ويلهو
بمسرات الدنيا وطيباتها .
وقد تعرض ابن الرشيق في أثناء حديثه عن الوصف الذي قال عنه بأن أكثر الشعر
يرجع إليه , إلى تفاضل الناس في الوصف وإلى أهم موصوفاته أو موضوعاته على
عهد المولدين فقال " الأولى بنا في هذا الوقت صفات الخمر والقيان وما
مشاكلها وما كان مناسبا لهما كالكؤوس والقنان والأباريق ,و باقات الزهر،
إلى مالا بد منه من صفات الخدود والقدود و... , ثم صفات الرياض والبرك
والقصور وماشاكل المولدين , فإن ارتفعت البضاعة , فصفات الجيوش وما يتصل
بها من ذكر الخيل والسيوف والرماح والدروع والعصي والنبل , إلى نحو ذلك من
ذكر الطبول والبنود وليس يتسع بنا هذا الموضوع لإستقصاء ما في النفس من هذه
الأوصاف – العمدة لابن الرشيق ج2 , ص 295-296 .
*ثم يقول ابن الرشيق " وليس بالمحدث من الحاجة إلى أوصاف الإبل ونعوتها
والقفار ومياهها .... لرغبة الناس في ذلك الوقت عن تلك الصفات، وعلمهم أن
الشاعر إنما تكلفها تكلفا ليجري على سنن الشعراء قديما" .
1- ومن الموضوعات التي دار حولها الوصف عند أكثر من شاعر في هذا العصر وصف
الخمر والغناء ووصف مجالسهما وآلاتهما، وجاهروا بالدعوة إلى ممارسة ذلك
وبالغوا في الأمر مما نجم عنه الاستهتار بالدين .
*فأبو نواس جاهر بالخمر والدعوة إليها فيقول :
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر *** ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
فعيش الفتى في سكرة بعد سكرة *** فإن طال هذا عنده قصر العمر
وما الغبن إلا أن تراني صاحيا *** وما الغنم إلا أن يتعتعني السكر
فبح باسم من أهوى ودعني من الكنى *** فلا خير في اللذات من دونها ستر
*وقال في قصيدة أخرى :
لا تبك هندا ولا تطرب إلى كعب *** واشرب على الورد من حمراء كالورد
كأسا إذا انحدرت من حلق شاربها *** أجدته خمرتها في العين والخد
فالخمر ياقوتة والكأس لؤلؤة *** من كف لؤلؤة ممشوقة القد
تسقيك من طرفها خمرا ومن يدها *** خمرا فمالك من سكرين من بد
لي نشوتان وللندمان واحدة *** شيء خصصت به من بينهم وحدي
2-وأخذ الشاعر العباسي يصف الطبيعة في الحاضرة ببساتينها ورياحينها , وقد
أخذ يخص هذه الطبيعة بمقطوعات وقصائد كثيرة حيث أصبحت موضوعا جديدا واسعا ,
وكان يمزج نشوته بها في بعض الأحيان بنشوة الحب أو نشوة الخمر وسماع
القيان وفي كثير من الأحيان كان يقف عند تصوير فتنته بها وبورودها
ورياحينها من مثل قول إبراهيم بن المهدي في النرجس:
ثلاث عيون من النرجس *** على قائم أخضر أملس
يذكرنني طيب ريّا الحبيب *** فيمنعنني لذة المجلس
3-وقد أكثروا من وصف الأمطار والسحب ووصف الرياض خاصة في الربيع , وعبروا
عن أحاسيسهم ومشاعرهم أحيانا خلال هذا الوصف , ومن خير ما يصور ذلك مخاطبة
مطيع بن اياس لنخلتي حلوان :
أسعداني يا نخلتي حلوان *** وأبكيا لي من ريب هذا الزمان
واعلما أن ريبه لم يزل يفـ *** رق بين الألاف والجيران
ولعمري لو ذقتما ألم الفر **** قة أبكاكما الذي أبكاني
أسعداني وأيقنا أن نحسا *** سوف يلقاكما فتفترقان
كم رمتني صروف هذي الليالي *** بفراق الأحباب والخلاّن
4- ونرى شعراء كثيرين يعنون بوصف مظاهر الحضارة العباسية المادية وما يتصل
بها من الترف في الطعام والتأنق في الملابس والثياب ووصف القصور وما حولها
من البساتين وما يجري فيها من الظباء والغزلان من مثل قول أبي عيينة
المهلبي في وصف قصر ابن عمه عمر بن حفص المهلبي :
فيا طيب ذاك القصر قصرا ومنزلا*** بأفيح سهل غير وعر ولا ضنك
بغرس كأبكار الجواري وتربة *** كأن ثراها ماء ورد على مسك
وسرب من الغزلان يرتعن حوله *** كما استل منظوم من الدّر من سلك
5- وأكثروا من وصف الحيوان والطير والحشرات , واشتهر بذلك خلف الأحمر وجهم بن خلف وفي كتاب الحيوان للجاحظ من ذلك مادة وافرة .
6- وقد وضعوا وصف دقيقا الأمراض والآفات التي أصابتهم . فهذا عبد الصمد بن المعذل يصف حمى اعترته فيقول :
وبنت المنية تنتابني *** غدوّا وتطرقني سحرة
كأن لها ضرما في الحشا *** وفي كل عضو لها جمرة
7-وقد صوروا كثيرا من العواطف الدقيقة من ذلك التعاطف الرفيق بين الأب
وبنيه وبناته وما يطوى فيه من الرحمة والبر والحنان , و مثال ذلك تصوير
ووصف ابن يسير عطفه على بنية له , كيف يستأثر به ويجشمه اقتحام المصاعب من
أجل سعادتها , وكيف يحببه في الحياة خوفه عليها من ذل اليتم وجفوة الأهل ,
وأنه ليشفق عليها حتى من الدموع التي سترسلها حين يتأهب لمفارقة الحياة
فيقول :
لولا البنية لم أجزع من العدم *** ولم أجب في الليالي حندس الظلم
وزادني رغبة في العيش معرفتي *** ذل اليتيمة يجفوها ذوو الرحم
أخشى فظاظة عم أو جفاء أخ *** وكنت أخشى عليها من أذى الكلم
إذا تذكرت بنتي حين تندبني *** جرت لعبرة بنتي عبرتي بدم
8-وحللوا كثيرا من المشاعر كالغيرة والشعور بالبؤس والمصغبة .

**د لا ل**
2012-11-29, 22:47
خامسا الغزل
الغزل فن وأدب وجداني وظيفته التعبير عن الأحاسيس في عالم الحب دون سواها من المواضيع الأخرى .
*وقد أراح ابن رشيق القيرواني الدارسين من مشقة الخلاف بينهم في التسميات فقال " والنسيب والغزل والتشبيب كلها معنى واحد "


*والغزل يعد غرضا من أغراض الشعر العربي , برز منذ العصر الجاهلي في اتجاهين رئيسيين هما : الغزل الحسي والغزل العفيف .
*فالأول أي الغزل الحسي ازداد شيوعا في العصر العباسي الأول , وكثر أتباعه
الذين أفرطوا في اللهو والمجون لكثرة الجواري والإماء , ووفرة مختلف أسباب
القصف والعبث مما جعل شعرهم يعكس مدى التدهور الأخلاقي في تلك البيئة
المريضة، وأمثالهم : أبو نواس , بشار بن برد ,مطيع بن اياس والحسين بن
الضحاك ومسلم بن الوليد وغيرهم .
*الغزل العفيف : وهو عكس التيار الأول في مضمونه واتجاهاته، نبتت جذور
شجرته في الجاهلية ثم ترعرعت في العصر الأموي , فلما كان العصر العباسي
الأول الذي يندر أن تعثر فيه على شاعر عفيف وطاهر , انحصرت بقايا هذا الفن
في شعر خمسة من الشعراء ذوي الشهرة في هذا الغرض وهم : العباس بن الأحنف
زعيم هذا الفن وعكاشة بن عبد الصمد العميّ , والمؤمل ابن جميل الشاعر عم
مروان بن أبي حفصة , وابن رهيمة وعلى بن أديم الكوفي .
أ‌-الغزل الحسي :
لعبت البيئة العباسية الفاسدة في أكثر مظاهرها الاجتماعية دورا خطيرا في
إشاعة تيار الغزل الحسي الفاحش ونشره , فلولا الانحلال الخلقي الذي أدى
بالمرأة الجارية الأمة على الخصوص إلى الكشف عن مفاتنها لما تجرأ الشعراء
ولا سيما المتعودون منهم على السقوط في مراتع الإثم والفجور إلى فضح المرأة
ونهش ما كان يعد منها أساس وجودها وعفافها (انظر الأغاني وما يصوره على
سبيل المثال )
*ومن أمثلة الشعر الذي يكشف عن حقيقة المرأة الجارية وكيف كانت تجري وراء
الرجال من أجل ايقاعهم معها في الفواحش قول مطيع بن إياس التي كان يألف "
بربر " صاحبة الجواري , التي كانت ترسل جواريها ومن بينهم جوهر الجارية
لتفسد عسكر المهدي فقال :
خافي الله يا بربر *** لقد أفسدت العسكر
بريح المسك والعنبر *** وظبي شادن أحور
وجوهر دره الغوا *** ص من يملكها يجبر
فلا والله ما المهدي *** أولى منك بالمنبر
فإن شئت ففي كفيـ *** ك خلع ابن أبي جعفر
*والمتتبع لأخبار الغزل الماجن في كتاب الأغاني يقف عند أخبار وأشعار
متنوعة تكشف عن حقيقة هؤلاء الشعراء المجان الذين كانت لهم العديد من
الرفيقات الماجنات من الجواري والإيماء يتغزلون بهنّ تغزلا ماديا فاحشا دون
أن تدفعهم تلك العلاقة إلى الحب الصادق .
*وهذا بشار بن برد يقول داعيا صراحة إلى الفحش :
لا خير في العيش إن كنا كذا أبدا *** لا نلتقي وسبيل الملتقى نهج
من راقب الناس لم يظفر بحاجته *** وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
ب- الغزل العفيف :
يعد العباس بن الأحنف إمام الغزل العفيف، فهو الذي أحيا هذا النوع من الشعر بعد أن كاد يندثر .
ومما يدل على تخصص الشاعر في هذا الفن وعدم تجاوزه إلى الأغراض الأخرى قول
الجاحظ : << لولا أن العباس بن الأحنف أحذق الناس وأشعرهم كلاما
وخاطرا ما قدر أن يكثر شعره في مذهب واحد لا يجاوزه لأنه لا يهجو ولا يمدح
ولا يتكسب ولا يتصرف , وما نعلم شاعرا لزم فنا واحدا لزومه فأحسن فيه
وأكثر>>.
*إن القارئ لديوان الشاعر يدرك بأنه لم يقل شعرا إلا في محبوبة واحدة هي
فوز , أما ظلوم و" دلفاء " فليس لهما حظ في الديوان فقد ذكرهما مرة أو
مرتين , فهما على ما يظهر صفتان في الغالب أطلقهما على محبوبته فوز التي
تغزل فيها تغزلا عفيفا , ويتضح ذلك من قوله :
وما بيننا من ريبة فنراقبها *** ولا مثلها يرمى بسوء ولا مثلي
وإني لأرعى حق فوز وأتقي *** عليها عيون الكاشحين ذوي الختل
وإني وإياها كما شفنا الهوى *** لأهل حفاظ لا يدنس بالجهل
وقوله أيضا :
قالت ظلوم سمية الظلم *** مالي رأيتك ناحل الجسم
يا من رمى قلبي فأقصده*** أنت العليم بموضع السهم
وقوله أيضا :
لا جزى الله دمع عيني خيرا *** وجزى الله كل خير لساني
نمّ دمعي فليس يكتم شيئا *** ورأيت اللسان ذا كتمان
كنت مثل الكتاب أخفاه طي *** فاستدلوا عليه بالعنوان
وشعر الغزل في العصر العباسي تأثرت لغته بالحياة الاجتماعية المتحضرة
الجديدة , وبالثقافة الشائعة آنذاك , مما جعل الشعراء يستخرجون للورود
والرياحين لغة خاصة كانوا يخاطبون بها أحباءهم، وكذلك ما كان شائعا عندهم
من "اللبان والتفاح والريحان والسواك " .
*ومن أبرز ملامح الغزل العفيف اقتصار الحب على واحدة على خلاف أصحاب التيار
المضاد , والتزام العفة وطهارة الضمير , زيادة على شيوع ألفاظ ومعان
حضارية مستجدة , والميل بهذا الفن نحو الأسلوب السهل السلس .
سادسا " الزهد
شعر الزهد هو الشعر الداعي للتقشف من الحياة الدنيا ومتعها والاشتغال
بالآخرة ولوازمها من عبادة وانقطاع إلى الله , وهو الشعر الذي يصف دون
تزييف حقيقة الدنيا وأنها متاع الغرور وأن الآخرة خير وأبقى .
وكان الإمام البارز في هذا المجال , الشاعر أبو العتاهية الذي كان غافلا في
أول شعره , ثم لبس الصوف وتزهد , وأكثر في هذا الغرض , وصارت له فلسفته
الخاصة في الزهد , والإعراض عن الدنيا :
دنياك غرارة فذرها *** فإنها مركب جموح
دون بلوغ الجهول منها *** منيته نفسه تطيح

وهو يتصور الحياة الآمنة في عزلته ,وتعبده فيقول في بساطة :
رغيف خبز يابس ** تأكله في زاوية
وكوب ماء باردا ** تشربه من صافية
وغرفة ضيقة ** نفسك فيها خالية
أو مسجد بمعزل ** عن الورى في ناحية
خير من الساعات في ** فيء القصور العالية
وشعره في الزهد تغلب عليه البساطة في اللفظ : حتى يكون قريبا إلى أفهام
الناس جميعا ومنها شعره المزدوج الذي لا يراعى فيه وحده القافية إلا في صدر
البيت وعجزه , ونجد ذلك في أرجوزته التي تعد من بدائعه , وهي طويلة جدا ,
يقال إن فيها أربعة آلاف مثل وقد سماها أبو العتاهية بذات الأمثال والتي
يقول فيها:
حسبك مما تبتغيه القوت *** ما أكثر القوت لمن يموت
الفقر فيها جاوز الكفافا *** من اتقى الله رجا و خافا
هي المقادير فلمني أو فذر*** إن كنت أخطأت فما خطا القدر
لكل ما يؤذي وإن قلّ ألم *** ما أطول الليل على من لم ينم
ما انتفع المرء بمثل عقله *** وخير ذخر المرء حسن فعله
إن الفساد ضدّه الصلاح *** ورب جد جره المزاح
من جعل النمام عينا هلكا *** مبلغك الشرّ كباغيه لكا
إن الشباب والفراغ والجدة*** مفسدة للمرء أي مفسدة
وحتى الشاعر أبو نواس لما انهى جسمه , وشعر بالانتقام الرباني , وأن أجله المحتوم يقترب , تاب وسأل الله العفو والغفران فقال :
دب فيّ السقام سفلا وعلوا *** وأراني أموت عضوا فعضوا
لهف نفسي على ليال وأيام *** تجاوزتهن لعبا ولهوا
قد أسأنا كل الإساءة *** فا للهم صفحا عنا وغفرا وعفوا
سابعا : الخمريات
الخمرة من الفنون التي شاع أمرها وسرت نشوتها في نفوس الكثير من أبناء
المجتمع العباسي عامتهم وخاصتهم , وإذا كان الجاهليون والأمويون قد سبقوا
إلى ذكرها والتغني بها في أشعارهم إلا أن ذلك لم يكن يقصد لذاته فهي تأتي
عندهم في مقدمات قصائدهم بشكل عرضي على خلاف العباسيين الذين قصدوها لذاتها
.
*يعتبر أبو نواس من أبرز شعراء هذا العصر المتخصصين والمسرفين في حبها ,
وإذا كان الأعشى والأخطل قد سبقاه إليها إلا أنهما لم يفردا لها بابا قائما
بذاته , لأن الخمرة عندهما كانت وسيلة وليست غاية على خلاف النواسي ,
فإنها كل شيء عنده في الحياة ولاشيء يشغل باله غيرها , مما جعله يتخصص فيها
ويفرد لها بابا مستقلا كاد أن يقصر شعره كله عليه .
ملامح التجديد في الخمريات :
1- التعمق في معانيها .
2-استقلالها ضمن قصائد بدلا من بقائها كغرض من أغراض القصيدة التقليدية .
3-حلت محل النسيب بمطالع القصائد العباسية .
*لقد اتسع المعجم الفني لشعر الخمر وازداد ثراؤه وتنوعت صوره وأخيلته في
العصر العباسي , وهذا يدل على ما ألم بالقصيدة الخمرية من تطور واتساع ,
فقد كان الشعراء يهتمون بإبراز الخصائص الفنية للخمريات من خلال تصويرهم
لألوانها وروائحها ومذاقها وأوانيها ومجالسها وتأثيرها على الشاربين .
* تميزت خمريات زعيم الشعر الخمري في العصر العباسي أبي نواس بـ:
1- ترف الإحساس
2- بساطة التعبير
3-سهولة اللغة
وهذا يدل على أنها تطورت فنيا وجماليا .
يقول عبد القادر القط ( حركات التجديد في الشعر العباسي , ص 418 ) " إن في
قصائد أبي نواس الخمرية كثير من الصور الفنية الجميلة وهي تمتاز عن
الخمريات السابقة في الشعر العربي بـ :
1-بوحدة موضوعها
2-وصدق تجربتها
3-ونجاحها في تمثيل نفسية قائلها أصدق تمثيل
4-ولكن كثيرا منها تكرار لمعان وأحاسيس وتشبيهات ومجازات عبر عنها في عيون قصائده "
ويرد عليه د.نور الدين السد بالنسبة للنقطة الرابعة << أما عن تكرار
ذلك فهي ليست عيبا بل على العكس من ذلك , فهي ميزة ايجابية استدعتها طبيعة
النسق الفني العام الذي يربط بين قصائده , فالخمرة عند أبي نواس تجسد هاجسا
مستمرا , وتجربة شعرية تكاد تكون واحدة , وقضية انتشار بعض الصيغ اللغوية
البلاغية في قصائده , تؤكد رؤيته إلى عالم الخمر , وما توحي به من دلالات ,
فالخمر عند أبي نواس رمزا للذة , وأحيانا هي رمز لاستمرار الحياة والتجديد
والنماء والخصب , فهي عنده متعددت الدلالات , وهو بهذا المنظور يخرجها من
معناها الحرفي أو اللفظي في النص , ويتيح لنا فرصة تأويل معناها بما يتناسب
وسياق القصيدة .>>
*يقول أبو نواس في رده على النظام وهو أحد زعماء المعتزلة , حين لامه على شرب الخمر.
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء** وداوني بالي كانت هي الداء
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ** لو مسها حجر مسته سراء
*ويلجأ الشاعر أبو نواس إلى روح التعليل الفلسفي , والحجة الكلامية ومن هنا تظهر مغايرة هذا الأسلوب الشعري للأساليب السابقة .
*ويقول أبو نواس في الخمرة لائذا بها لعله ينسى محاصرة الزمن وقرب الرحيل إلى مصير مجهول :
غرد الديك الصدوح *** فاستقني طاب الصبوح
واستقني حتى تراني *** حسنا عندي القبيح
يقول أحمد دهمان " لم يكن عند النواسي شيء أهم من الخمرة يهدف إلى تفجير
طاقاته المكبوتة , ومن هنا كان مجلس الخمرة مكانا يتبتل فيه لها , ومعبدا
تقام فيه شعائر الحب والجمال والحرية والنشوة والفن , فمناسك الخمرة تتحقق
في مجلسها وفي هذه الأجواء التي تكون عادة لأصحاب المواهب , ينتقل من
العالم الخارجي إلى عالمه الداخلي , هربا من قيود مجتمعه وريائه وزيفه
ليحقق إمكانياته من خلال تأمل الكأس وأشيائه , والشعور بالذات المتحررة من
قيود الزمان والمكان بالإغراق في اللذة , كي يعيش متعة الحياة القصيرة -
كما تصورها - متخلصا من قلقه الوجودي وشعوره بتفاهة الحياة.
*يسبر هذا الرأي النقدي أغوار النفس النواسية القلقة , فيقبض على أهم
الرموز التي تشكل محاور أساسية في متن القصيدة الخمرية لدى أبي نواس , وهي
مجلس الشراب , هذا المكان الذي ينزاح عن دلالته العادية ليأخذ بعدا دلاليا
جديدا , فيتحول إلى معبد تقام فيه شعائر الحب والجمال والحرية , ويخلو فيه
الشاعر إلى عالمه الداخلي , يشعر بتحقيق ذاته , وفي مجلس الخمرة يقول :
ومجلس ماله شبيه *** حل به الحسن والجمال
يمطر فيه السرور سحا *** بديمة مالها انتقال
شهدته في شباب صدق *** ما إن تسامى لهم فعال
تشربها بالكبار صرفا *** وليس في شربنا مطال

**د لا ل**
2012-11-29, 22:48
الأغراض الشعرية المستحدثة
أولا : الشعر التعليمي :
تعريفه : هو ما ألف نظما لتسهيل حفظ العلوم أو الفنون الأدبية .
*وهو شعر استخدم لحشد المفردات العلمية فيه بقصد الاستدلال والاحتجاج بها ,
ثم تطور به الأمر فتمخض لسرد المفردات واتخاذه وسيلة من وسائل التعليم
،ومن أجل ذلك سمي الشعر التعليمي .
تاريخه : تعود بداية هذا النوع من الشعر إلى العهد اليوناني القديم , ولعل
أول من سبق إليه << هيزيود >> اليوناني الأصل الذي عاش في
القرن الثامن قبل الميلاد , فقد ابتكر هذا الشعر ونظم مجموعة من القصائد
أولها وأشهرها قصيدته الخالدة " الأعمال والأيام " ضمنها جملة من الحكم
والعظات والقواعد الخلقية وغيرها من النصائح والإرشادات وقد بلغ عدد
أبياتها أكثر من 800 بيت .
*وإلى جانب شهرة اليونان في هذا الفن الشعري , فإن الهنود أيضا كانوا مولعين بنظم قواعد الرياضيات والفلك فيه .
*وقد كانت الثقافتان اليونانية والهندية العارفتان للشعر التعليمي على صلة
بالآداب العربية وثقافتها , فأثرها عليها خاصة الهندية منها .
*ومن حيث أولوية هذا الفن وشأنه في الشعر العربي , فقد نشأ أولا عند أصحاب
الآراء والمذاهب الدينية من الشعراء فاستخدموه في تأيد مذاهبهم وفي التحدث
عن فضائلها والحملة على خصومتها .
*ويعتبر السيد الحميري أول من نظم في شعرنا العربي نموذجا من الشعر
التعليمي , ضمنه جملة من المناقب والفضائل الحميدة والسير النبيلة كالتي
تروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبنائه :
أتى حسن والحسين النبي ** وقد جلسا حجره يلعبان
ففداهما ثم حياهما ** وكانا لديه بذاك المكان
فراحا وتحتهما عاتقاه ** فنعم المطية والراكبان
*ونتيجة لاتساع الحركة العلمية وازدهار الثقافة العربية وبخاصة في أيام
المنصور والرشيد والمأمون الذين حرصوا على نقل ما أمكن من العلوم والمعارف
العقلية والإنسانية كالطب والصيدلة والقانون والحكمة والموعظة وعلم النجوم
والرحلات وسواها ، فإن بعض الشعراء قد اهتدوا إلى تحصيل بعض العلوم
وتدوينها بواسطة الشعر التعليمي حتى يسهل حفظها بكل يسر وسهولة .
*ويعتبر إبان بن عبد الحميد اللاحقي أول من بدأ هذا النوع من الشعر
التعليمي بغرض تسهيل حفظ العلوم وتدوينها وذلك في القرن الثاني الهجري .
* أشار صاحب الأغاني إلى أن إبان قد نقل كتاب " كليلة ودمنة " ونظمه شعرا
حتى يسهل حفظه , وأنه خص به البرامكة وقد أجازه عليه جعفر البرمكي جائزة
كبيرة .
فكان أول نظمه قوله :
هذا كتاب أدب ومحنة *** وهو الذي يدعى كليلة ودمنة
فيه دلالات وفيه رشد *** وهو كتاب وضعته الهند
فوصفوا آداب كل عالم *** حكاية عن ألسن البهائم
فالحكماء يعرفون فضله *** والسخفاء يشتهون هزله
*وقد ذكر صاحب الفهرست بأن كتاب كليلة دمنة المتكون من سبعة عشر بابا , لم
ينقل بكامله إلى الشعر من قبل إبان بن عبد الله الحميد اللاحقي وحده , بل
شاركه في ذلك كل من علي بن داود وبشر بن المعتمد .
*ونظم ابن سينا <ت 428هـ> منظومته في المنطق .
*ونظم الحريري منظومة في ملحة الإعراب.
ثانيا:الشعر الفلسفي
يعتبر أبو العلاء المعري شاعر فلسفة الحياة , وهو أول شاعر ينظم ديوانا
كاملا في الفلسفة يدعى " اللزوميات " وفيه ملخص للمذاهب الفكرية السائدة في
عصره .
فهو يرى أن السلطة المدنية فاسدة بسبب المكر والرشوة , والحكام أصحاب فوضى
ويتبعون هواهم , ويحكمون الرعية بالظلم وينعمون بمالها وثمرة تعبها فيقول :
يسوسون الأموربغير عقل *** فينفذ أمرهم ويقال ساسه
فأف من الحياة وأف منّي *** ومن زمن رئاسته خساسه
ثالثا : الغزل بالمذكر (أو الغزل الشاذ )
*لم يعرف العرب قبل النصف الثاني من القرن الهجري مثل هذا الميل إلى
الغلمان كما عرف في الأمم السابقة،أي قبل اختلاطهم بالأمم الأجنبية .
*ويعتبر أبو نواس من الشعراء المولدين الذين ورثوا دماء فارسية فتغزلوا بالغلمان وأسسوا هذا الفن . يقول أبو نواس :
يا من يقول الغواني *** أحلى جنى و التزاما
خذ النساء ودع لي *** مما يلدن غلاما
المراجع المعتمدة:
1-د.نور الدين السد , الشعرية العربية , ديوان المطبوعات الجامعية , الجزائر 1995
2-د.مصطفى بيطام , مظاهر المجتمع وملامح التجديد من خلال الشعر في العصر العباسي الأول , ديوان المطبوعات الجامعية , الجزائر 1995.
3-د.شوقي ضيف , تاريخ الأدب العربي , العصر العباسي الأول , دار المعارف , مصر , ط6 .

zakio92
2012-12-05, 21:35
لسلام عليكم اخواني اخواتي انا ادرس السنة اولى تخصص ادب عربي اريد منكم بحث في مقياس البلاغة وهو
النهي تعريفه واقسامه ما يفيده ............

omarzant
2012-12-06, 03:36
شكرا لك الاخت دلال على مجهوداتك
في انتظار محاظرات السنة الثالثة كلاسيكي ان شاء الله

omarzant
2012-12-06, 03:37
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

في هذا الموضوع إن شاء الله سنعرض المنهجية العلمية في كتابة بحث أدبي

* الصفحة الأولى ( La page de garde )

* الصفحة الثانية: تترك بيضاء

*الصفحة الثالثة: عنوان البحث بخط كبير

* الصفحة الرابعة: الإهداء

* الصفحة الخامسة: المقدمة

عناصر المقدمة:

1- الأسباب التي دفعتك إلى اختيار البحث و أهمية الموضوع و جديته.

2- ذكر الفقرات و كل فقرة تتناول ما جاء في كل عنصر.

3- ذكر المشاكل و المصاعب التي اعترضت الباحث.

4- الشكر، التقدير و الثناء.

* الصفحة التالية: خطة البحث

عناصر خطة البحث:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ
عنوان البحث

* الفصل الأول:

المبحث الأول:

- المطلب الأول:
- المطلب الثاني:
- المطلب الثالث:

المبحث الثاني:

- المطلب الأول:
- المطلب الثاني:

* الفصل الثاني:
.
.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


* الصفحة التالية: العرض أو المتن أو الفصول

على الهامش ( الإحالة ):
المؤلف/ الكتاب/ ج ، ط ، سلسلة/ دار الطبع، بلد الطبع / سنة الطبع / الصفحة

* الخاتمة: النتائج التي توصل إليها الباحث على مستوى كل فصل ( صفحة أو ثلاثة على الأكثر )

* قائمة المصادر و المراجع: ترتيب أبجدي

المصدر: أمهات الكتب، الرواية، الشعر و الشعراء، الأغاني

المراجع: الدراسات، الدواوين الشعرية، الصحف و المجلات، الأنترنات ...

* الفهرس: آخر شيء

**د لا ل**
2012-12-23, 20:14
شكرا على اضافتك اخي الكريم

تقبل تحياتي

**د لا ل**
2012-12-23, 20:25
محاااااااااضرااات الادب الجزاااااائري

المقياس: أدب جزائري حديث
الأستاذ: حمزة قريرة


المحاضرة الأولى : محطات في مسار الشعر الجزائري
تمهيد:
إن النص الشعري الجزائري نص وليد ظروف كثيرة متشابكة ومتداخلة مر بها عبر مراحله التاريخية انطلاقا من دخول المحتل أرض الجزائر وصولا للاستقلال ثم مرحلة ما بعد الاستقلال التي خُتمت بجيل الثمانينيات أو جيل اليتم كما أطلق عليهم الناقد أحمد يوسف في كتابه "يتم النص"، وعبر هذه المراحل التاريخية التي تتعدى القرن والنصف خاض فيها الشعر الجزائري صراعا مريرا مع مختلف ما تعرّض له من مؤثرات لينصهر بتجربته مع كل مرحلة مقدّما نصا مختلفا يتماشى وجديد المرحلة، بهذا فمحطات الشعر الجزائري قدّمت نصوصا مختلفة، وهذا ما سنركّز عليه، فلن نتعرّض بشكل مباشر للظروف والمتعلقات التاريخية بالشعر الجزائري بقدر ما سنتعرّض للنص وتحوّلاته على مستوى لغته وبنيته بشكل عام وسنتتبع هذه المحطات النصية كالتالي:
1- محطة دخول المحتل الفرنسي ووضع الشعر في الجزائر: من 1830 إلى غاية 1900:
يعد حادث احتلال الجيش الفرنسي لمدينة الجزائر صدمة عنيفة وقعت على كل المغاربة فهزت نفوس الأحرار منهم، فنجد لهذا الاحتلال صدى في الشعر التونسي وشعر المغرب الأقصى يومئذ فضلا عما كتبه أدباء الجزائر وشعراؤها أمثال : حمدان بن عثمان خوجة، ومحمد بن الشاهد، وقدور بن رويلة، والأمير عبد القادر وآخرون، فظهر في كتابات هؤلاء جميعا الشعور القومي الوطني التحرري[1] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn1)، ومن أهم ما يمكن تمييزه خلال هذه المرحلة من النصوص هو نص الأمير عبد القادر الجزائري الذي يعد بنية متفرّدة في زمن وصلت فيه اللغة إلى أسوء أحوالها مع نهايات فترة العثمانيين، وزادها الأمر سوء دخول المحتل الفرنسي، ولكن رغم هذه المثبطات للشعر فإن الأمير عبد القادر شق بنصه الآفاق وقدّم أنموذجا راقيا للشعر العربي بقوته اللغوية وبنائه الراقي الذي أحيي به الشعر العربي القديم، بهذا تميز نصه بالقوة على المستوى اللغوي الأسلوبي مما ميّزه على نصوص عصره، ويعد موضوع المقاومة في شعره من أهم الموضوعات حيث يحمل قيمة شعرية تشد اهتمام الدارس خصوصا خلال القرن (19م) الذي ظل الشعر العربي فيه يرزح تحت أشكال التقليد اللفظي والصنعة المفتعلة والأغراض البالية والركاكة البادية في الصياغة والتعبير، فكان موضوع المقاومة الذي برع فيه الأمير نواة للانطلاق، فقدّم نصا من الطراز الرفيع الذي فسح مجالا واسعا لصور التضحية والفداء ليشهد بذلك على بديات طيبة لنهضة الشعر الجزائري منذ النصف الأول من القرن 19م. ولعله بذلك قد سبق الأقطار العربية، فشعر الأمير- كما نلاحظه عبر قصائد ديوانه – يطفح بمعاني السمو وتمجيد البطولة والاعتزاز بالشخصية القومية والنخوة العربية، والملاحظ لشعر الأمير يشعر بالتأثر الشديد بشعر القدماء من الجاهليين والعباسيين، فجاء شعره هذا تعبيرا صادقا عن روح الفروسية الثائرة و تصويرا لحمية الشباب الطموح المتشبع بقيم الوطنية ونجد ذلك مثلا في قصيدته التي نظمها عقب معركة " خنق النطاح" قرب وهران عام 1832 م و تبلغ نحو 30 بيتا ، وقد افتتحها بقوله[2] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn2):
توسد بمهد الأرض ، قد مرت النوى ***و زال لغوب السير من مشهد الثوا
و عر جيادا جاد بالنفس كـــرها *** و قد أشـرفت مما عراها علي التوى
من خلال هذين البيتين تظهر قوة نص الأمير الذي تشع منه ألفاظ الماضي العتيقة القوية، ونجد لهذا الحضور القوي لنصه وجودا في مختلف قصائده خصوصا التي حملت موضوع الفخر، كقصيدة " بنا افتخر الزمان" ومنها يقول:
لنا في كل مكرمة مــجال* ومن فوق السمــاك لنا رجال
ركبنا للمكارم كـــل هول * وخضنا أبحرا، ولــها زجال
إذا عنها توانى الغير، عجزا * فنحن الراحلون لها، العجال[3] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn3)
من خلال هذه العينات يظهر بشكل واضح قوة نص الأمير عبد القادر على مستوى اللغة، كما يظهر إتباعه للنص القديم، فهو من رواد الإحياء الشعري، وهذا يجعلنا نعتبر قصائد الأمير الأقوى في هذه المرحلة التي مهدت لمرحلة خَفَت فيها الشعر بسبب المحتل وسياساته التجهيلية التي لم تميز أحد في المجتمع الجزائري لتبدأ حقبة جديدة مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

2- محطة سيطرة المحتل ودخول الشعر مرحلة الابتذال: من 1900 إلى 1920:
خلال هذه المرحلة يظهر ضعف النص الشعري الجزائري واضحا سواء على مستوى الموضوعات أو على المستوى اللغوي والأسلوبي، فنجد مثلا أن الموضوعات لم تخرج من بعض المدائح الدينية لمشايخ الطرق الصوفية أو التهاني على منصب معيّن أو مدح حاكم فرنسي، ومن هؤلاء الشعراء نذكر الشيخ شعيب بن علي قاضي تلمسان، والشيخ أبي بكر بو طالب وغيرهما كثير مما سار خلف ركب المحتل[4] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn4)، وعليه لا يمكن خلال هذه المرحلة أن نجد نسقا نصيا متميّزا في الشعر الجزائري وسبب ذلك إلى سياسات المحتل التي أفقدت الجزائريين خلال أكثر من سبعين سنة كل مقوّمات التقدّم الثقافي أو الاجتماعي فانعكس ذلك على نصوصهم التي ما كان لها أن تأخذ بوادر التحرر إلى مع مطلع العشرينات من القرن العشرين فبدأ ظهور شعراء وأدباء يبشروا بانطلاقة جديدة للشعر الجزائري فحملوا اللواء وعقدوا العزم على التخلّص من التخلف الثقافي والشعري فقدّموا نصوصا تحمل بذور التحوّل النصي وأسباب مرحلة جديدة.
3- محطة بداية التخلص من سيطرة الموضوعات المبتذلة وبداية الوعي الوطني: 1920 إلى 1930:
خلال هذه المرحلة بدأ الشعر الجزائري يتعافى خصوصا بعد ظهور موضوعات جديدة أكثر إلحاحا على الساحة الشعرية كمحاربة الطرقية والتخلف والجهل والدعوة للعلم، وقد عملت الصحافة دورا مهما في هذه المرحلة خصوصا بظهور صحافة أكثر وطنية كصحيفة "الصديق(1922)" و"المنتقد(1925)" و"الجزائر(1925)" و"وادي ميزاب(1929)" وغيرها من الصحف[5] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn5)، حيث عملت هذه الصحف على إتاحة الفرصة للشعراء والمبدعين لتقديم إنتاجهم والتعبير عما يدور في خلدهم بلغة صارت أكثر قبولا من الناحية الفنية خصوصا بتطور الآلة النقدية لأصحاب الصحف الذين وجهوا الشعراء وقدّموا لهم النصائح ليُقوّموا نصوصهم، وعليه تعد هذه المرحلة ممهدة للمرحلة الإصلاحية حيث قادها أعلام في الفكر والأدب الجزائري مع بداية القرن العشرين، نذكر منهم، "عبد الحليم بن سماية ومحمد بن مصطفى بن الخوجة، وعمر بن قدور وغيرهم"[6] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn6)، لكن حضورهم الفردي في الساحة لم يمكّنهم من خلق تيار فكري موحّد له أسسه وضوابطه ومنهجه الفكري المستقل، فلم يُكْتب للحركة الإصلاحية أن تظهر بشكل فعلي إلا بعد فترة حيث انطلق فرسان لغة كان لهم حضورهم القوي وتمكّنهم من ناصية النص، حيث عملوا جميعهم على رفع راية الإصلاح انطلاقا من أدبهم وشعرهم.







المحاضرة الثانية: النص الشعري الجزائري التقليدي المحافظ، مرجعياته وبنياته.
ليس بعيدا عن مختلف الأوضاع الأدبية والنقدية في المشرق العربي كان المغاربة وعلى رأسهم الجزائريون يتابعون بحماس التطورات الشعرية، رغم سياسات التجهيل والتفقير والتنصير التي مارسها الاحتلال، إلا أنّ المبدع الجزائري لم ينثنِ على مواكبة حركة النهضة الشعرية في المشرق العربي، فبدأت جموع الشعراء في التأثر بما يصدر عن المشرق - كل حسب توجهه وانتمائه- والبداية كانت مع حركة الإصلاح التي حملت على عاتقها إحياء التراث الشعري القديم محاكية بذلك حركتي الإحياء والتقليد في المشرق العربي، فقام بذلك اتجاه تقليدي جزائري على مرجعية عربية مشرقية قريبة وأخرى تقليدية قديمة تنهل من التراث الشعري العربي القديم، كما تميّزت هذه الحركة بحضورها القوي وسيطرتها شبه التامة على الحياة الأدبية في الجزائر، وذلك بسبب الطابع الديني للمجتمع الجزائري وخوفا من أي حركة تجديدية تحمل موالاة للمحتل عبر الذوبان في ثقافته، فعمل بذلك أعلام حركة الإصلاح على ترسيخ مبدأ محاكاة المشارقة التقليديين على وجه خاص وإحياء التراث العربي عموما، لينطلق معهم الشعر الجزائري الإصلاحي، الذي قدّمته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وحمَته واحتضنته، ولكن تجدر الإشارة إلى أن الحركة الإصلاحية، ممثلة في جمعية العلماء، في ظهورها لم تكن الأولى على الساحة الأدبية الجزائرية فقد سبقتها ومهّدت لها حركة إصلاحية قادها أعلام في الفكر والأدب الجزائري مع بداية القرن العشرين، نذكر منهم، عبد الحليم بن سماية ومحمد بن مصطفى بن الخوجة، وعمر بن قدور وغيرهم[7] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn7)، لكن حضورهم الفردي في الساحة لم يمكّنهم من خلق تيار فكري موحّد له أسسه الواضحة ومنهجه الفكري المستقل، لهذا لم يُكْتب للحركة الإصلاحية أن تظهر بشكل ممارسة فعلية لها سبيلها الخاص إلا مع الجمعية التي حوّلت العمل الإصلاحي إلى شكله المقنّن والموجّه بتأسيسها مدارس وإطلاقها لمجلات وغيرها من الممارسات التي طوّرتها من مجرّد فكرة إصلاحية لمؤسسة لتخريج الرجال، فأخذت على عاتقها حمل مشعل الفكر الإصلاحي الجزائري الحديث، وكان للشعر نصيبه الأوفر في هذه النهضة، التي اتخذت من التقليد والمحافظة شعارا لمشروعها الشعري، لهذا قدّمت نصها بطابعه التقليدي على مختلف مستوياته اللغوية منها والإيقاعية والهندسية، وهو ما سنتتبّعه من خلال نماذج من الشعر الجزائري التقليدي، معتمدين على أبرز الأسماء الشعرية فيه، وعلى رأسهم محمد العيد آل خليفة.
1- بنية النص التقليدي – الإصلاحي- : نتتبّع فيه أهم مستويات النص الشعري بداية باللغة والتشكيل الإيقاعي والهندسي وانتهاء بالموضوعات، وذلك من خلال التمثيل بنصوص أعلامه.
1-1- مستوى اللغة الشعريّة: اتبع شعراء الاتجاه التقليدي نمطا مشرقيا في توظيف اللغة التقليدية التي لم يتجاوز قاموسها الألفاظ القديمة، ومن أمثلة ذلك ما نقرؤه من قصيدة"حزب مصلح" لمحمد العيد آل خليفة* (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn8) حيث يقول:
سرْ مع التوفيق فهو الدليل * حصحص الحق وبان السبيل
عاطني السراء كأسا بكأس * واسْقنيها إنــها سلسبيــل[8] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn9)
نلاحظ من خلال البيتين أن الشاعر وظف ألفاظا عتيقة مقارنة بعصره ومنها: حصحص، السراء، اسقنيها، وغيرها من الألفاظ التي تأخذ مرجعيتها من الماضي الشعري والقرآني، بهذا تظهر خاصة المعجم الشعري عند الاتجاه التقليدي في أنه يستمد طاقته من القرآن الكريم والشعر العربي القديم، وكل ما تعلّق بالآثار الإسلامية من تاريخ وشخصيات[9] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn10)، وغيرها مما له علاقة بالتراث، ومن خلال تتبع عدد من النصوص التقليدية المنتجة في هذه المرحلة، نرصد العديد من النماذج التي تُظهر تمسك الجزائري باللفظ العربي القوي والشكل التقليدي، ولعل ذلك راجع لخوف الشاعر المصلح من ذوبان المجتمع في الثقافة الغربية لهذا ندّد الشاعر بكل انحراف عن العروبة والإسلام اللذين يمثلان المرجعية الأولى للشعب الجزائري وشعره، وقد عزز الشاعر دعوته بنصه، الذي أكّد ارتباط الجزائر وشعبها بالعربية والإسلام، فقال عبد الحميد ابن باديس* (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn11):
شعب الجزائر مسـلم* وإلى العروبة ينتسب

[1] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref1) من مقال محاضرات في الشعر الجزائري الحديث والمعاصر، عثمان حشلاف، منشورات المدرسة العليا للأساتذة، دط، بوزريعة- الجزائر.


[2] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref2) ينظر، مقال :التشكيل اللغوي في شعر الأمير عبد القادر الجزائري لـ، د.وهب رومية*الموسوعة العربية دهشة www.dahsha.com (http://www.dahsha.com/) الاطلاع بتاريخ، 15/03/2010.

[3] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref3) الربعي بن سلامة، محمد العيد تاورته، عمار ويس، عزيز لعكايشي، موسوعة الشعر الجزائري، المجلد الأول، أ- ز، دار الهدى عين مليلة، الجزائر، دط، 2009. ص 355.

[4] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref4) ينظر، محمد ناصر، الشعر الجزائري الحديث، اتجاهاته وخصائصه الفنية، 1925- 1975، دار الغرب الإسلامي، بيروت لبنان، ط2، 2006. ص 19، ص 20.

[5] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref5) ينظر، محمد ناصر، المقالة الصحفية الجزائرية، نشأتها - تطوّرها – أعلامها، من 1903 إلى 1931، الجزء الأول، صدر عن الجزائر عاصمة الثقافة العربية، 2007، الجزائر، ص 43.

[6] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref6) صالح خرفي، الشعر الجزائري الحديث، المؤسسة الوطنية للكتاب، دط، الجزائر، 1984م، ص 33، ص 34.

[7] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref7) ينظر، صالح خرفي، الشعر الجزائري الحديث، المؤسسة الوطنية للكتاب، دط، الجزائر، 1984م، ص 33، ص 34.

* (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref8) ولد 1904 وتوفي 1979، ينظر مقدمة الديوان.

[8] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref9) محمد العيد آل خليفة، الديوان، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ط3، ص 129.

[9] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref10) ينظر، عمر بوقرورة، الغربة والحنين في الشعر الجزائري الحديث، 1945/1962، منشورات جامعة باتنة، الجزائر، 1997، دط، ص 194.

* (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref11) رائد الاتجاه الإصلاحي في الجزائر وأول رئيس لجمعية العلماء المسلمين، توفي في 16 أفريل 1940.

**د لا ل**
2012-12-23, 20:26
من قال حاد عن أصله * أو قال مات فقد كذب[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftn1)
نلاحظ توظيفه لألفاظ العروبة والإسلام والأصل وكلها دعوات لترسيخ المرجعية القديمة ولو على المستوى الانتمائي الذي يتبعه الشكل الشعري بالضرورة.
أما من الناحية التركيبية فلم تخرج أيضا عن التقليد من الناحية النحوية والبلاغية، فقد عمل الشاعر الإصلاحي على بعث التراكيب في حلتها القديمة، ومن نماذج هذا التوظيف نذكر مما قاله الهادي السنوسي مخاطبا ابن باديس بعد نجاته من محاولة اغتيال:
خبرت البلاد، وأضرارها* فأقبلت تندب أحرارها
وأرسلتها نظرة حرة* رعى الله في الحر أفكارها
فصوّرت للناس آلامها * وأجليت للعين أغوارها[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftn2)
نلاحظ نمط التركيب النحوي البسيط والتقليدي في طابعه، خبرت البلادَ، أقبلت، أرسلتها، صوّرت للناس، فهو مباشر وسطحي ولا يتعدى التركيب الإسنادي المباشر الذي يظهر طرفاه بشكل جلي ولعل بساطة التركيب راجعة لثقافة الشاعر التقليدية من جهة ورغبته في إيصال خطابه بشكل مباشر وبسيط ليصل للمتلقي الخاص في ذلك العهد.
أما من ناحية التصوير البلاغي فلم يخرج النص التقليدي المحافظ على الصور القديمة من تشبيه واستعارة وكناية ومن ذلك ما نقرؤه في وصف ليل الاحتلال لمحمد العيد آل خليفة:
يا ليل. ما فيك نجم* جلا الدجى، وأزاحا
إلا كواكب حيرى * لم تتضح لي اتضاحا
....
أخشى على الشعب هلْكا* يبيده واجتياحا
من ألسن قاذفات * تروي القبيح فصاحا[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftn3)
نلاحظ توظيف الاستعارة في البيتين الثاني والأخير بشكلها التقليدي المباشر السطحي فلا إغراق في الصورة، وهذا ليس عيبا لأن الشاعر يحيي نظاما تصويريا بلاغيا قديما، الذي يعتمد المباشرة والنبرة الخطابية وهي من خصائص الاتجاه التقليدي الذي احتاج لأسلوب يهز ويثير المتلقي الجزائري المحدود الأفق فاعتمد على أساليب الاستفهام والإنكار والتعجب والنداء، وكل الألفاظ الرنانة لتوقظ الهمم[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftn4) في شعب أضناه المحتل بسياسات التجهيل والتفقير، ومن نماذج الأسلوب الخطابي المعتمد على التكرار والتأكيد والتحريض ما نقرؤه من قصيدة سعيد الزاهري سنة 1925:
ألا فليفق شعبي من النوم، فإنه * لفي مرض من النوم قاتل
ألا فليفق شعبي من النوم برهة * فإنا لفي شغل من النوم شاغل[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftn5)
نلاحظ من خلال البيتين توظيفه للأمر بعد النداء وهو أسلوب إنشائي غرضه التمني والرجاء، فهو مشابه للأساليب التقليدية في ذات الغرض، كما نلاحظ التكرار في مطلعي البيتين، وذلك للتأكيد على رجائه في استنهاض همم الشعب الجزائري.
مما تقدّم نصل إلى أن النص التقليدي الجزائري حافظ على هويّته القديمة ومساره الإحيائي للشعر العربي متأثرا بالشعر التقليدي المشرقي من جهة ومستعينا بثقافته الأصولية من جهة أخرى، فقام بترسيخ مبادئ نظم الشعر التقليدي وعلى رأسها عمود الشعر الذي تَمَثّله شعراء التقليد بكل مقوّماته، حيث تجاوزوا اللغة إلى الإيقاع الذي ظل تقليديا فاعتمد الوزن الخليلي والقافية الموحّدة، بل تعدى ذلك إلى إتباع ذات البحور التي نظم عليها المشارقة وأعلام الشعر العربي القديم لدرجة أنهم جاؤوا بقصائد على نفس الروي في شكل معارضات، وهذا ما سنراه في المستوى الإيقاعي.
1-2- مستوى الإيقاع:
مثلما اتبعت القصيدة التقليدية مثيلتها المشرقية في الجانب اللغوي اتبعتها في الجانب الإيقاعي، حيث خضعت للوزن والقافية بشكل مطّرد مقتفية آثار المرجعية الماضوية، التي تعتبر بنية البيت الشعري المكتملة في النص القديم هو أساس بناء القصيدة فيه[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftn6)، لهذا عمد رواد الإحياء على تفعيل هذه الخاصة فجعلوا من البيت منطلقا في بناء نصوصهم، ومن البيت ينطلق الإيقاع بأهم مقوّماته في شعرية التقليد وهما الوزن والقافية اللذان لم يعرفا مع الإحياء

[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftnref1) ينظر، صالح خرفي، الشعر الجزائري الحديث، ص 206.


الإيقاع بأهم مقوّماته في شعرية التقليد وهما الوزن والقافية اللذان لم يعرفا مع الإحياء غير التكرار واستحضار الماضي بأوزانه وأضربه المختلفة، ومثال اعتماد قواعد عمود الشعر ما نقرأه لمحمد العيد آل خليفة حول العلم وهي قصيدة نضمها سنة 1937:
العلم سلطان الوجود، فسدْ به* من شئْت، أو ذدْ عن حياضك وادْفعِ
اه اه ااه اه اه ااه ا ااه ااه * اه اه ااه اه اه ااه اا اه ااه
مستفعلن مستفعلن متفاعلن * مستفعلن مستفعلن متفاعلن
والْجأ له بدل الحصون، فلا أرى * حصنا كمدرسة سمت، أو مصنع[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftn1)
اه اه ااه اااه ااه اااه ااه * اه اه ااه اااه ااه اه اه ااه
مستفعلن متفاعلن متفاعلن * مستفعلن متفاعلن مستفعلن
............................... ..................................
............................... ..................................
............................... ..................................
............................... ..................................
............................... ..................................
............................... ..................................


الشكل رقم ()
شكل يوضّح البناء الهندسي للقصيدة التقليدية التناظرية


يظهر جليا أن الشاعر وظّف وزن البحر الكامل الذي تفعيلاته تقوم على تفعيلة (متفاعلن) المكررة ست مرات في شطري البيت[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftn2)، وقد اعتراها زحاف الخبن وتحوّلت إلى مسْتفعلن، وانطلاقا من هذا نلاحظ مدى التزام الشاعر بالوزن والقافية حتى أنه لم يُدخل من العلل المستحدث منها واكتفى بزحاف واحد وهو الخبن مما يربطه أكثر بالنص القديم، ومن خلال متابعة النص التقليدي والمحافظ نجد العديد من النماذج التي حافظت على الوزن والقافية ومختلف شروط عمود الشعر مما يعزّز دور الماضي الشعري في رسم ملامح إيقاع النص التقليدي الجزائري، الذي لم يكتف بإتباع قواعد عمود الشعر بل تعداها، كما هو موضّح في أبيات محمد العيد، إلى الشكل الهندسي الذي ظل محافظا على تناظره وتوازيه، مقدّما لنا الشكل التالي:






نلاحظ الشكل العمودي المتوازي لأشطر الأبيات التي تقدّم تمثيلا للقصيدة العمودية كما دوّنت قديما بالشكل التناظري المتوازي، وقد احتل هذا النموذج الهندسي مكانة مهمة في الشعرية التقليدية الجزائرية فصار قالبا يصبون فيه قصائدهم، من خلال رصف الوحدات اللغوية في شطرين متقابلين أفقيا في خط واحد، يفصل بينهما بياض ذو طول محدد، ليشكلا نموذج البيت الشعري الذي تتوالى أسفله أبيات أخرى موازية له عموديا[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftn3)، ليتم بناء شكل هندسي متوازي ومتناظر الأقسام، ليُقدّم القصيدة وكأنها مبعوثة في صحيفة من الماضي العتيق، فيدعّم بذلك الرؤية المقدّسة للماضي لدى الشاعر الجزائري المحافظ.
1-3- مستوى الموضوعات:
مثلما سجّلت القصيدة التقليدية الجزائرية إتباعها وتقليدها على مستوى اللغة والإيقاع فهي لم تخرج في إطار الموضوعات على الرؤية الماضوية، حيث طرق روادها الموضوعات القديمة من مديح ورثاء ووصف وغيرها من الموضوعات. ومن نماذج الموضوعات التقليدية نذكر موضوع الرثاء الذي احتل مكانة مهمة في الشعرية التقليدية الجزائرية ومن أمثلته رثاء محمد العيد آل خليفة للملك عبد العزيز آل سعود في قصيدته بعنوان "فقدْنا مليكا عادلا":
لك الويْل من نعي به هتف البرق * فريع له الإسلام واضطرب الشرق
وردّده المذياع من كـل موطـن * فصُمّت به الآذان واحتبس النطـق[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftn4)
يظهر الأسلوب التقليدي من خلال البيتين رغم أنه أدخل بعض المستحدثات كالمذياع، ولكن ظل الطابع تقليديا محافظا على مستوى الموضوع والتناول وتوظيف المعجم والإيقاع.
كما نرصد موضوع الرثاء في رثاء أعلام الشعر التقليدي المشرقي، ليؤكد الشاعر الجزائري المحافظ ولاءه وإخلاصه للروح التقليدية المشرقية، ومن ذلك رثاء محمد العيد لأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، حيث يقول في قصيدة "ذكرى شاعرين":
خُلق المــوت فناء لبقاء * وجــزاء من نعيم أو شقاء
ولقاء في فــــراق باغتا * كــل نفس أو فراقا في لقاء
...
دولة الشعر من الشرق انقضت * وانقضى فيها مراء الأمراء
ولواء الضاد في الشرق انحنى* فانحنى الشرق على ذاك اللواء
عفـت الدنيا فلا (شوقي) ولا * (حافظ) غير أحــاديث الثناء[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftn5)
إضافة لموضوع الرثاء فقد طرق رواد هذه الاتجاه موضوع الغزل على استحياء بسبب الطابع الديني لثقافتهم ومرجعيتهم ومن ذلك الغزل العذري في قصيدة أين ليلاي، والتي نلمس فيها إشارات سياسية دقيقة، ويقول في مطلعها:
أيـــن ليلاي أينها* حــيل بيني وبينها
هل قضت دين من قضى * في المحبين دينها[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftn6)
ويضاف لهذا الموضوع العديد من الموضوعات التقليدية الطابع التي لم يهمّش رواد هذا الاتجاه أيا منها، ولكن رغم الرؤية الماضوية في تتبع الموضوعات إلا أنهم لم يكتفوا بها بل كتبوا في بعض موضوعات عصرهم المستحدثة، ليُذكّرونا بالاتجاه التقليدي المشرقي الذي طرق موضوعات مستحدثة بشكل تقليدي فوصفوا مثلا القطار والطائرة وغيرها من المخترعات، لهذا كتب رواد الاتجاه التقليدي الإصلاحي في موضوعات جديدة كالأحزاب والسياسة وهمومها ومن ذلك يقول الهادي السنوسي:
قد سئمنا سياسة طرفاها * وضـعا في خطى الجزائر قيدا
أرهقتنا مع (اليمين) وعيدا * وأرتنا (اليسار) أكثـر وعــدا
والبلادُ البلادَ من بين هاذيـ * ـنِ جميعا، قاســـت عذابا أشدا[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftn7)
نلاحظ أن الشاعر وظّف عددا من الألفاظ والمصطلحات الحديثة في قالبه التقليدي كاليمين واليسار وكلها مصطلحات سياسية مستحدثة، جاءت لتقدّم صورة عن ارتباط الشاعر الإصلاحي بعصره وما يدور فيه، في ظل حفاظه على مقوّمات شعريته.
ومن نماذج التجديد في الموضوعات نجد وصف بعض جديد العصر كوصف المدرسة ومن ذلك قول محمد العيد في افتتاح مدرسة الهدى بالقنطرة:
فتح جديد قد بدا* في فتح (مدرسة الهدى) [8] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftn8)
حيث انطلق الشاعر من اسم المدرسة ليرسم لها صورة مشرقة في نشر العلم والمعرفة، مؤكدا على دورها في النهوض بالشعب الجزائري نحو غد أفضل، ليظهر بذلك الدور الإصلاحي الإرشادي بشكل جلي في النص التقليدي الجزائري، الذي احتفى بمختلف المضامين الإصلاحية والإرشادية[9] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftn9)، التي صارت علامة لتمييزه ومنارة تهدي لرواده.
انطلاقا مما تقدّم نلاحظ أن الشكل العام لبنية القصيدة التقليدية المحافظة بقي ثابتا، انطلاقا من اللغة مرورا بالإيقاع والتشكيل الهندسي العمودي المتوازي وصولا للتيمات التي لم تخرج عن صورتها القديمة إلا في وصف بعض الأمور المستحدثة، ولو أن هذا الوصف لم يخرج عن الشكل التقليدي الذي اعتمد النص المشرقي مرجعية أولى، وعلى النص القديم مرجعية ثانية بعيدة. بهذا ظل النص الشعري الجزائري الحديث يخطو نحو التأسيس لقاعدة ينطلق منها لبعث نص قوي يجابه قوة العهد الجديد الذي دخلته الجزائر والأمة العربية بشكل عام، لهذا عمل رواد هذا الاتجاه على تكريس رؤيتهم الماضوية بممارسة نصية احتلت مكانة مهمة في خارطة الشعر الجزائري الحديث، الذي لم يتوقّف في تطوّره على هذا الاتجاه، فقد ظهر على استحياء اتجاه تجديدي وجداني الطابع، موازيا للتقليدي المحافظ، حيث عرف النور بعد الحرب العالمية الأولى على يد عدد من الأدباء والشعراء الجزائريين أمثال رمضان حمود ومبارك جلواح ومحمد الأخضر السائحي وغيرهم متأثرين بشكل كبير بالرومانسية العربية المشرقية، أكثر من تأثرهم بالتيارات الرومانسية الغربية التي يخشون الانصهار بها. وقد تميّز النص الوجداني بمختلف خصائص الرومانسية، التي سنتعرّف عليها تباعا.





المحاضرة الثالثة: الاتجاه الوجداني ودوافع ظهوره :
لم تتوقف الحركة الشعرية الجزائرية على إحياء التراث وبعث القصيدة القديمة من خلال الاتجاه التقليدي الإصلاحي، فقد شهدت الحركة الشعرية بروز اتجاه آخر في الساحة الشعرية الجزائرية ترسّخ بشكل كبير بعد الحرب العالمية الثانية، هذا الاتجاه عُرف بطابعه الرومانسي الوجداني فقد خاطب العاطفة وقلّل من توظيف اللغة والإيقاع التقليدي، بهذا يمكن الإقرار منذ البداية بأن هذا التوجه العاطفي الوجداني تأثر بشكل كبير بالرومانسية العربية المشرقية، وقد فضّل أغلب الدارسين تسميته بالوجداني دون الرومانسي[10] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftn10) لأنه لم يمثل مذه

[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftnref1) ينظر، صالح خرفي، الشعر الجزائري الحديث، ص 152.

[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftnref2) ينظر، الخطيب التبريزي، كتاب الكافي، في العروض والقوافي، ص 46.

[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftnref3) ينظر، محمد الماكري ،الشكل والخطاب، مدخل لتحليل ظاهراتي، ص 136.

[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftnref4) محمد العيد آل خليفة، الديوان، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ط3، ص 482.

[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftnref5) محمد العيد آل خليفة، الديوان، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ط3، ص 493، ص 495.

[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftnref6) المصدر نفسه، ص 41.

[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftnref7) ينظر، صالح خرفي، الشعر الجزائري الحديث، ص 200.

[8] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftnref8) ينظر، المرجع السابق، ص 161.

[9] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftnref9) ينظر، المرجع نفسه، ص 341.

[10] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftnref10) ينظر ، عبد الله الركيبي، الشاعر جلواح، من التمرد للانتحار، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1986، ص13.



[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftnref2) ينظر، المرجع نفسه، ص 77.

[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftnref3) ينظر، المرجع السابق، ص 180.

[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftnref4) ينظر، المرجع نفسه، ص 34، ص 342.

[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftnref5) ينظر،المرجع نفسه، ص 343.

[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513287&posted=1#_ftnref6) ينظر، مشري بن خليفة، الشعرية العربية ـ مرجعياتها وإبدالاتها النصية، ص 91.

**د لا ل**
2012-12-23, 20:27
المحاضرة الثالثة: الاتجاه الوجداني ودوافع ظهوره :
لم تتوقف الحركة الشعرية الجزائرية على إحياء التراث وبعث القصيدة القديمة من خلال الاتجاه التقليدي الإصلاحي، فقد شهدت الحركة الشعرية بروز اتجاه آخر في الساحة الشعرية الجزائرية ترسّخ بشكل كبير بعد الحرب العالمية الثانية، هذا الاتجاه عُرف بطابعه الرومانسي الوجداني فقد خاطب العاطفة وقلّل من توظيف اللغة والإيقاع التقليدي، بهذا يمكن الإقرار منذ البداية بأن هذا التوجه العاطفي الوجداني تأثر بشكل كبير بالرومانسية العربية المشرقية، وقد فضّل أغلب الدارسين تسميته بالوجداني دون الرومانسي[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftn1) لأنه لم يمثل مذهبا خاصا بأسسه كما ظهر في المشرق بل كان مجرّد توجّه محدود نسبيا مقارنة بما حدث عند المشارقة، لكن ظل طابعه العام رومانسيا وعليه يمكن تحديد مفهوم الشعر الوجداني بـأنه ذلك الاتجاه الشعري الذي ظهر بعد "ح ع 1 " وترسّخ بعد "ح ع 2" في الجزائر متأثرا بحركة الرومانسية العربية وذلك بجنوح أصحابه إلى الخيال والذات الشاعرة وانصرفوا عن مختلف الموضوعات القديمة كما جدّدوا في الموسيقى واستخدام اللغة وتميز اتجاههم عموما بمختلف خصائص الرومانسية من تمجيد للذات، وإبحار في الخيال، وبساطة اللغة وغيرها من الخصائص، وقد عملت عدة مؤثرات للتمهيد ودفع هذا الاتجاه نحو النمو والتطوّر ونذكر بعضها فيما يلي:
1- دوافع سياسية واجتماعية واقتصادية:
بدأت تظهر وتتجسد تلك الدوافع مع بوادر اليقظة القومية قبيل "الحرب ع 1 " وأثنائها، حيث نجد العديد من النصوص ظهرت في هذه الفترة تصف الواقع المرير في نغمة يائسة، ونظرة قاتمة، ومشاعر واعية بالفرد وتطلعاته إلى غد أفضل، وقد دلت بعض تلك القصائد من خلال عناوينها على ما تحمله من هذه الأحاسيس " دمعة على الملة "، "زفرات العشي" ، " زفرات الحيران ذي الشجن "، "دمعة كئيب"... ولكن هذه النصوص ـ مع تجاوزنا في إطلاق هذه التسمية عليها ـ لا تتعدى كونها بذورا تعبر عن مشاعر الشعراء، إبان الحرب العالمية الأولى[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftn2) إزاء الحياة والمجتمع. إلا أن البداية الحقيقية لهذا الاتجاه، إنما بدأت في الأشعار التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى، مع بداية الوعي بالواقع الاجتماعي والسياسي، فإن الأوضاع المؤلمة التي فرضها المستعمر آنذاك تعد مؤثرا أساسيا في طغيان مشاعر الكآبة التي لوّنت الشعر الجزائري آنئذ، حتى غدت طابعا عاما يميز أغلب الإنتاج الشعري الذي ظهر في العشرينيات[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftn3)، فقد صحب النهضة في الجزائر أوضاع اجتماعية قلقة أبرزها تلك الصراعات الدينية والفكرية بين دعاة السلفية والمتفرنسين من جهة، وبين الطرقية والسلفيين الإصلاحيين من جهة ثانية. هذا الصراع هو الذي طبع الإنتاج الفكري شعره ونثره عند طائفة الشباب الذين كانوا يحاولون زحزحة القديم المتحجر.
ولم تمض معاناة الشعب طويلا بعد الحرب الأولى حتى جاءت الحرب العالمية الثانية لتحدث انقلابا خطيرا من كل نواحي الحياة في المجتمع الجزائري، ولاسيما في الميدان الوطني، فكان تأثيرها على الشعراء عميقا لما تمخضت عنه هذه الحرب من تيارات شعورية وفكرية لا تقل عن تلك التأثيرات التي تمخضت عنها الحرب الأولى.
وهكذا فإن نغمة اليأس من الحياة عادت إلى الظهور في النصوص الشعرية بصفة أكثر حدة ولاسيما في السنوات( 1943ـ1954) مما يدل على أن الأوضاع الاجتماعية، التي هي وليدة التأثيرات السياسية والاقتصادية، لها تأثير مباشر في توجيه الشعراء إلى الشعر الذاتي الوجداني، حيث أخذ الشعر الجزائري في هذه الفترة يتجه اتجاها واضحا إلى التعبير عن المشاعر الفردية، وظهرت فيه انعكاسات التجربة الذاتية بعد أن كانت نظرة الشاعر تطغى عليها الغيرية وشعر المناسبات[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftn4)، وفي ذلك برزت أهم خصائص الرومانسية، ولو بمحدودية في المفاهيم والإنتاج مقارنة بالمشرق العربي.
2- دوافع تأثرية: ويمكن رصد نوعين من التأثر أحدهما بالمشارقة والآخر بالاتجاهات الرومانسية الغربية، أما التأثر بالمشارقة فقد عكسه الإقبال الكبير على شعر المشارقة وآرائهم النقدية، ومن تلك الاتجاهات الرومانسية في المشرق نذكر؛ جماعة أبولو والديوان والرابطة القلمية في أمريكا، أما إنتاج جماعة أبولو فقد كان معروفا لدى الأدباء الجزائريين منذ نشأتها، وكانت مجلة " أبولو " تصل إلى الجزائر بانتظام[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftn5)، فكان –مثلا - لأحمد زكي أبو شادي مؤسس جماعة أبولو معجبون من الشعراء الشباب، وصلته بالشعراء الجزائريين ظهرت بارزة بعد الحرب العالمية الثانية، ومما يدلل على ذلك ما قالته عنه الصحافة الجزائرية يوم رحيله، حيث تلقّت الأوساط الأدبية نبأ وفاته بأسى مرير، لتتوارد على الصحافة قصائد من عدد من الشعراء ترثيه وممن كتبوا في ذلك؛ أحمد معاش الباتني ومحمد الأخضر السائحي والطاهر بوشوشي [6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftn6)، حيث أظهرت نصوصهم مكانة الرجل في الأوساط الأدبية الجزائرية.
أما النوع الثاني من التأثر فكان التأثر بالاتجاهات الغربية[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftn7)، التي كان المنتظر أن تكون الصلة قوية بينها والشعراء الجزائريين، بحكم الثقافة الفرنسية التي كانت مسيطرة على المجتمع الجزائري طوال الحكم الاستعماري، ولكن شيئا من هذا لم يحدث، إلا مع أفراد قلائل. فقد كانت صلة الشعراء الجزائريين بالشعر العربي أشد، واستفادتهم منه أقوى، فإن الحذر من كل ما هو استعماري جعلهم يزهدون حتى في ثقافته وأدبه، إضافة إلى كون الشعراء ينتمون ـ في الأغلب الأعم ـ إلى الحركة الإصلاحية ذات الطابع السلفي، وأغلبية أصحابها من ذوي الثقافة العربية الخالصة.
ولكن هذا لم يمنع بعض المفرنسين من التأثر بالثقافة والاتجاهات الغربية، منهم رمضان حمود، وأحمد رضا حوحو، والطاهر بوشوشي، وعبد الله شريط، ومبارك جلواح[8] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftn8). ويعد رمضان حمود من أوائل الدافعين إلى الاحتكاك بالآداب الغربية والاستفادة منها، وقد حقق ذلك على مستوى التنظير من خلال مقالاته التي نشرت بعضها مجلة الشهاب، كما قدّم رؤيته للشعر من خلال نصوصه، التي قدّمت على قلّتها رغبته في التحرر من قيود عمود الشعر والأخذ من الآخر الغربي، ولكن زهرة لا تصنع ربيعا، فالشاعر رمضان حمود كان صوتا فريدا منفردا من جهة ومن جهة أخرى قصر عمره* (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftn9)، حالا دون أن يشكل تيارا تجديديا حقيقيا يُحسب كاتجاه في مسيرة الشعرية العربية الجزائرية.
3- المؤثرات البيئية والنفسية :
لعبت البيئة على مر العصور دورا مهما في صقل مواهب الشاعر وإلهامه، وككل رواد الاتجاه الرومانسي، شغلت البيئة بما حوت شعراء الاتجاه الوجداني، وأثرت في عواطفهم أيما تأثير، خصوصا أن أغلب شعراء الاتجاه الوجداني في الجزائر كانوا من سكان الصحراء، والمناطق النائية، أمثال، أحمد معاش الباتني، محمد الأمين العمودي، أحمد سحنون، أبو القاسم سعد الله، أبو القاسم خمار ... وغيرهم كثير. فعملت بيئتهم على توجيه نهجهم الشعري. ولا شك أن البيئة وحدها لا تخلق شاعرا كما يرى عبد الله ركيبي فالحس المرهف والنفس الشاعرية بطبعها، لؤلئك الشعراء، عملت على التأثير بشكل كبير في خلق الاتجاه الوجداني، بكل ما يحمل من خصائص، ونذكر من بين الحالات النفسية التي كان يعانيها الشعراء في تلك الفترة، حالة القلق والاضطراب المستمر لما تعانيه البلاد وما يرزح تحته العباد، فعملت تلك الحالة غير المستقرة على تحريك أنفس الشعراء لتقذف ألسنتهم بشعر يعج بالعواطف الجياشة، والإغراق في الذاتية.
4- دوافع مفهومية:
ما هو الشعر؟ وما حدوده؟ هذا السؤال الذي تأخر طرحه حتى العصر الحديث، وهو ما قَلَب الموازين، فلم يعد الشعر الكلام الموزون المقفى، بل تغيرت حدوده، ليصبح الثورة، كسر القيود، الانطلاق الانعتاق من كل الإطارات، إنه التعبير الجميل المنبعث من دواخل الشاعر اللامحدودة الأفق والحدود، فجوهر الشعر بذلك هو التعبير عن معاناة الشاعر الحقيقية وترجمة الواقع الذي تعيشه الإنسانية المعذبة، والقصيدة الشعرية في خضم هذا المفهوم، إنما هي تجربة إنسانية مستقلة في حد ذاتها. ولم يكن الشعر مجرد مجموعة من العواطف، والمشاعر، والأخيلة، والتراكيب اللغوية فحسب، بل هو إلى جانب ذلك طاقة تعبيرية تشارك في خلقها كل القدرات والإمكانيات الإنسانية مجتمعة، ومن هنا ننطلق في فضاء مفهومي واسع للشعر في ظل التحرر[9] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftn10)، بهذا التغيير في مفهوم الشعر، تأثر الإنتاج ذاته، وانطلق الشعراء من حدود التعريف لخلق جديد ذو بنيات موسيقية ولغوية متطورة تطوّرَ اللغة، وقد تجسد الدافع المفهومي في إنتاج الشعر الوجداني عند رمضان حمود بالخصوص، وذلك لتأثره بمفهوم الشعر عند الغرب، فرأى وجوب تطوير الأوزان، وخلق لغة جديدة تتماشى والواقع الجديد، والتطرق لموضوعات معاصرة، ويمكن رصد آراء رمضان حمود من خلال مجموع مقالاته التي كان ينشرها بمجلة الشهاب، إذ عبر فيها على آرائه بصراحة حول التجديد، والمتتبع للحركة الشعرية والنقدية وقته لا يكاد يجد صوت كصوت حمود حول التجديد الشعري، ومن بين مقالاته نذكر مقال بعنوان" حقيقة الشعر وفوائده" منشور سنة 1927م بالشهاب، وقد ضمّن مقاله مختلف آرائه حول إعادة بعث الشعر في حلّة جديدة، كما وجّه نقودا قوية لأصحاب الاتجاه التقليدي وخاصة في المشرق وعلى رأسهم أحمد شوقي، حيث يقول رمضان حمود في شأنه:" ... إن شوقي لم يأت بشيء جديد لم يعرف من قبل ...... وأكثر شعره أقرب إلى العهد القديم منه إلى القرن العشرين الذي يحتاج إلى شعر وطني، قومي... يجلب المنفعة..."[10] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftn11)
من خلال مقولة حمود يتضح رأيه بصراحة في الشعر التقليدي، ودعوته للتجديد، فالأدب حسب رأيه لن يكون ذا فائدة إن لم يعبّر عن شخصية قائله وعن تجاربه، وفق ما يتناسب مع العصر لغة وأسلوبا.

المحاضرة الرابعة: بنية نص الاتجاه الوجداني
رأينا أن الاتجاه الوجداني لم يخرج من فراغ فهناك دوافع عديدة اجتمعت لدفع عجلته نحو الأمام، وعلى رأسها كما ذكرنا الحالة السياسية والاجتماعية التي كانت تعيشها البلاد، مما خلقت سوداوية في الرؤية، وبعثت بالنغمة الحزينة على ألسنة الشعراء، مما جعل النص الوجداني يمتاز بخصائص على المستوى البنيوي تميّزه عن غيره من النصوص التي عاصرته، ومن هذه الخصائص ما هو متعلق باللغة الشعرية ومنه ما يرتبط بالإيقاع والموضوعات وغيرها من المستويات التي إن أردنا تتبعها – على اختلافها – في الشعر الوجداني علينا الانطلاق من خصائص الرومانسية لكونها تشكل الإطار الذي أحاط بالاتجاه الوجداني في الجزائر، لهذا سنذكر خصائص الرومانسية مركزين على ما يخص الاتجاه الوجداني، ولكن تجدر الإشارة بداية لمفارقة مهمة حول تجسد الرومانسية في الاتجاه الوجداني الجزائري، تكمن في أن رواد هذا الاتجاه لم ينطلقوا من ثورة ضد الكلاسيكية كما فعل رواد الرومانسية الأوروبية، الذين انطلقوا من فلسفة ثورية، فكان مذهبهم ثوري عام في مختلف الميادين، في حين تعد انطلاقة رواد الاتجاه الوجداني بسيطة بساطتهم، ومحدودة للغاية[11] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftn12)، فلم تأخذ الطابع الثوري ضد المبادئ الكلاسيكية، بل انطلق رواده من حبهم للحرية وشعورهم الحزين بواقعهم المرير، وعليه لم يكن الاتجاه الوجداني مذهبا خاصا له نظريته في الشعر، وفلسفة مُؤسَّسَة، بل كان مجرد اتجاه عبّر فيه الشعراء عن ما يجوب بخاطرهم، بأشكال مختلفة، آخذين من الرومانسية أهم خصائصها وهي الإغراق في الذاتية، لما تسمح لهم هذه الخصيصة من تعبير الحر عن ذواتهم. وعليه سنتتبع أهم خصائص الرومانسية بما يتوافق مع الاتجاه الوجداني انطلاقا من اللغة الشعرية ومرورا بالإيقاع، كالتالي :
1- مستوى اللغة الشعرية: قام النص الوجداني على استخدام اللغة والتراكيب البسيطة، فالرومانسية لا تعترف بوجود لغة فخمة وأخرى أقل شأنا منها، بل كل الألفاظ اللغوية تصلح لأن تكون ألفاظا شعرية، ومن ذلك جاءت قصائد الاتجاه الوجداني ملونة بألوان المفردات على اختلاف حقولها، فطوّروا بذلك القاموس الشعري[12] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftn13)، فجاء نصّهم معبّرا بألفاظ بسيطة ومفعمة بالعواطف، ومن جهة أخرى جاءت لغتهم هامسة[13] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftn14)، حيث امتلك الشاعر الوجداني الأذن الموسيقية الحساسة فأمدّته بقدرة عجيبة على اختيار الألفاظ البسيطة والرنانة والمعبرة والزاخرة بالدلالات الجمالية، ومن نماذج هذا القاموس الشعري ما نقرؤه من قصيدة وحي الأسى لمحمد الأخضر السائحي يقول:
غيّرتني الخطوب والآلام * فعلى عهدي القديم السلام
رحمة الله عنه عهدا تولى * وزمانا كأنه أحـــلام[14] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftn15)
من خلال البيتين تظهر ميزة القاموس فهو لم يتعد حقل العواطف اتجاه المآسي، فجاء بكلمات أكثر تداولا كالخطوب والآلام والأحلام وغيرها مما هو مفهوم ومعبّر عن دواخل الشاعر الوجداني المتأججة، وقد تم ذلك انطلاقا من بساطة اللغة ومرونتها، فالقاموس اللغوي غير معقد والشاعر استخدم ألفاظا عادية متداولة بين أفراد العامة، ليمرر خطابه لمتلقي ذلك العهد، بهذا يظهر المعجم الشعري عند الاتجاه الوجداني في صورة مختلفة عما لاحظناه في الاتجاه التقليدي المحافظ، فامتاز إضافة لبساطة اللغة، بالنزوع للذاتية كما حملت كلماته إيحاءات وإشارات خضعت لمطالب النفس ونوازعها، فانتقلت بذلك اللغة من مجرّد التقليد والتقرير لِلُغة تنبع ألفاظها من تجارب الشاعر ونفسه[15] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftn16)، بهذا بدأ التحول في وظيفة اللغة الشعرية نحو أفق رحب يحمل بذور التحديث، الذي عرفته الشعرية الجزائرية المعاصرة بعد فترة من تمهيد الاتجاه الوجداني له، وعليه يعد هذا الاتجاه المنطلق الأول نحو التأسيس لنص يتجاوز التقليد.
أما على مستوى التراكيب، فكانت سهلة بعيدة عن التعقيد اللغوي، ولعل ذلك راجع لرغبة الشعراء العميقة في إيصال أحزانهم وسلواهم بصورة مباشرة للمتلقي، بعيدا عن أي تكلّف، كما يمكن ملاحظة خصيصة

[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftnref1) ينظر ، عبد الله الركيبي، الشاعر جلواح، من التمرد للانتحار، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1986، ص13.

[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftnref2) ينظر، عبد الله الركيبي، الشعر الديني الجزائري الحديث، ص 495.

[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftnref3) محمد ناصر، الشعر الجزائري الحديث، اتجاهاته وخصائصه الفنية، دار الغرب الإسلامي، بيروت لبنان، ط1، 1985. ص80.

[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftnref4) المرجع السابق، ص93، ص94.

[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftnref5) ينظر، المرجع نفسه، ص 109.

[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftnref6) ينظر، المرجع نفسه، ص110، ص111.

[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftnref7) ينظر، المرجع السابق، ص 96.

[8] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftnref8) ينظر، الشاعر جلواح، من التمرد للانتحار، عبد الله ركيبي،، ص303.

* (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftnref9) لم يتجاوز الربيع الثاني والعشرين. رمضان حمود: ولد بغرداية عام 1906 ، و توفي 1926 .يحمل الشهادة الابتدائية .ترك ما يقرب من ثلاثين قصيدة ، و كتابا سماه بذور الحياة .

[9] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftnref10) ينظر فاتح علاق، مفهوم الشعر عند رواد الشعر العربي الحر، ص 41.

[10] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftnref11) محمد ناصر، الشعر الجزائري الحديث، اتجاهاته وخصائصه الفنية عن : رمضان حمود، بذور الحياة، ص 115/116/117.

[11] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftnref12) ينظر المرجع نفسه، ص85، ص 86.

[12] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftnref13) ينظر المرجع السابق، ص332.

[13] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftnref14) ينظر المرجع نفسه، ص 317.

[14] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftnref15) ينظر، صالح خرفي، الشعر الجزائري الحديث، ص 110، من الملحق.

[15] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513310#_ftnref16) ينظر، عمر بوقرورة، الغربة والحنين في الشعر الجزائري الحديث، ص 210.

**د لا ل**
2012-12-23, 20:30
ونجد لهذا الموضوع حضورا كبيرا في قصائد الشعراء الوجدانيين لما كان يمثل لهم الأهل والأحبة، ولحساسيتهم اتجاه الفراق، الذي تسبب فيه الاحتلال بما أفرزته سياساته من معاناة للشعب فدُفع الكثير لمغادرة الوطن وترك أحبائهم. كما لم يتوقّف التغزّل وذكر الأحبة على البعاد والفراق، بل جاء بشكل أكثر مباشرة، في غزل الحرية وما عُرف بالتغزّل السياسي، ومن ذلك تغزل رمضان حمود في الحرية سنة 1928 يقول:
لا تلمني في حبها وهواها * لست أختار ما حييت سواها
هي عيني ومهجتي وضميري * إن قلبي وما إليه فداها[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftn1)
إلا أن الطابع الغزلي بمختلف أنماطه وأهدافه لم يحض بمساحة كبيرة بين الموضوعات بسبب الثقافية التقليدية من جهة، وعدم تقبّل المجتمع الموضوعات الغزلية من جهة أخرى لهذا ظل الغزل محصورا ومحدودا في نماذج بسيطة مقارنة بالموضوعات الأخرى.
3- موضوع رفض الواقع والثورة ضد الاضطهاد: يعد هذا الموضوع من أبرز الموضوعات حضورا نتيجة للواقع المرير الذي عايشه الشعراء مما دفعهم للزهد في الحياة وتمني الموت على ظهور الجياد من العيش أذلة تحت سلطة المحتل، كما دعوا للعلم مقترنا بالجهاد، ونمثّل لذلك بقصيدة "الموت مجد فوق متن جهاد" عبد الرحمن بن العقون* (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftn2) التي يقول فيها:
رُحماكَ ربِّ تفطّرتْ أكبادي
وقد انمحى بين الضلوع فؤادي
هجمتْ عليَّ الحادثاتُ تنوشني
ولبثتُ في البلوى وحيدَ «الوادي»
فبلوتَني ودهيتَني متقطّعَ الْـ
أوصالِ والأحباب والأولاد
……….
........
والموتُ في كَنَف المذلّةِ سُبّةٌ
والموتُ مجدٌ فوق متنِ جهاد[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftn3)




من خلال هذه الأبيات يظهر رفض الشاعر لواقعه المزري ويحبذ الموت شرفا على حياة المهانة، في واقع أبى أن يتغيّر، بسبب تضييق المحتل وممارساته المجحفة في حق الجزائريين.
4- موضوع البؤس والشقاء، وذكر مآسي الفقراء والمساكين الذين سدوا الطرقات في عهد المحتل، يقول في ذلك مصطفى بن رحمون* (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftn4):

المسكين (( مع شبح البؤس ))
لا تعذِلُوهُ فإن الفقر أضواهُ
والحظُّ عاكسه والدهرُ عاداهُ
لا تنهروه إن استجدى أَكُفَّكمُ
فالجوعُ آلمه والصبرُ أعياه
ما كان يبسط للتسآل راحتَهُ
إلا وَوِجْدانُه عن ذاك ينهاه
تأمّلوا - إنْ أردتمُ - ما يكابدهُ
تدلّكم عن أليم الوخز عيناه[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftn5)



نلاحظ من خلال الأبيات دقّة الوصف وكأنّ الشاعر يرى ويُعايش هذا المسكين، مما يؤكّد ارتباط الشاعر الوجداني بهموم واقعه ودقة تصويره لهذا الواقع المرير، الذي أعلن عليه العديد من الشعراء حرب الكلمة ورفضوه بشدّة، لعلاقته بالمحتل الغاشم، وقد تجسد ذلك أكثر بعد أحداث الثامن ماي 1945م وما جرّته من قتلى وجرحى ومشردين، فعبّر الشعراء الوجدانيون من خلالها بقوة، لأنها حرّكت نفوسهم وألهمت قرائحهم من ذلك نأخذ قصيدة "عجباً لوجهك كيف عاد لحاله" للربيع بوشامة* (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftn6) يصف فيها هول أحداث الثامن ماي، ويلعن فيها الشهر والمستعمر:

قُبِّحْتَ من شهر مدى الأعوامِ
يا (مايُ) كم فَجَّعْتَ من أقوامِ
شابتْ لهولك في الجزائر صِبيةٌ
وانماع صخرٌ من أذاك الطامي
وتفطّرتْ أكبادُ كل رحيمةٍ
في الكون حتى مهجةُ الأيام
تاريخُكَ المشؤوم سُطِّر من دَمٍ
ومدامعٍ في صفحة الآلام[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftn7)

من خلال الأبيات نلاحظ مدى الحرقة التي تعتصر الشاعر، إلى درجة أنه قبّح زمن شهر ماي على مر الأعوام، كما تظهر اللغة الرنانة التي تحرّك الدواخل، ومنها : قبّحت، هولك، انماع صخر، أذاك، مدامع، وغيرها مما يشحذ النفس ويوجّهها إلى تلقي فجيعة وهول هذا اليوم.
5- موضوع الانتماء للعروبة، والإسلام: نجده حاضرا بقوة في شعرهم ومثاله عند مبارك جلواح* (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftn8) في قصيدته" أنا عربي" التي يقول فيها:
أنا عربي
أنا عربيْ لا جنسَ أمجدُ من جنسي
أنا عربيْ أفدي العروبةَ بالنفسِ
أنا مسلمُ المبدا جزائريُ الحِمى
أنا بلبلُ الفصحى المقدّسة الجَرْس
شدوتُ بما شادتْ صوارمُ «خالدٍ»
وأسيافُ «عمرو» الفتحِ بل «عُمَرِ» البأس[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftn9)





يعلن الشاعر منذ الانطلاق عن انتمائه للعروبة التي يعتز بها، لدرجة أنه يفديها بنفسه، ويعلن بعد ذلك عن مرجعيّته الثانية وهي الإسلام الذي لم يفرّق الجزائري بينه وبين العروبة وهذا واضح في هذه الأبيات، حيث يعزّز الشاعر انتمائه لهذه المرجعية بتوظيفه لأسماء إسلامية (خالد، عمرو) ليجعل منها منطلقا في انتمائه وتأسيسا لمنهجه في الحياة والشعر، ليكون بلبلَ الفصحى.
6- موضوع المدينة والحنين إليها: عبّر الشعراء الوجدانيون عن ولههم وارتباطهم القوي بالمدينة، لهذا تغنوا بها وبمحاسنها، فقد فتنتهم مبانيها وشوارعها، ومن ذلك نذكر قصيدة " المدينة المنيعة: قسنطينة" لمحمد الصالح خبشاش* (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftn10)* يقول فيها:
المدينة المنيعة أو ) قسنطينة(
تلك المدينةُ هل في الأرض مبناها؟
وهل حوتْ كُتبُ التاريخ معناها؟
مدينةٌ أحكمَ الباني لها أُسساً
مُثْلى وأتقن بعد الوضع أعْلاها
خُطَّتْ على ذروة ما بين أهويةٍ
النجمُ يحرسها والشمسُ ترعاها
قامتْ على جبل أَعظِمْ به جبلاً
بين الجبال يحوز الفخرَ والجاها[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftn11)





نلاحظ مدى دقة تصوير الشاعر لهذه المدينة حيث رسمها بالكلمات من خلال وصفه لمكانها وفخره بشموخها، ليؤكّد على ارتباطه بها وحبّه لعظمتها بين المدن.
كما نسجّل في الأخير خاصة تعد من أهم ما يميّز الاتجاه الوجداني على مستوى مختلف مستوياته وهي الغوص في الذاتية، حيث عبّر الشاعر الوجداني عما يدور في خاطره بصدق وشفافية، فهو المركز الذي تنطلق منه القصيدة، ومثال ذلك نجده عند رمضان حمود، في قصيدته السالفة الذكر"يا قلبي"، كما نجد ذلك حاضرا عند الشاعر جلواح الذي يعد رائد الذاتية الوجدانية في هذا الاتجاه، من خلال أحزانه التي بثها في شعره ومن ذلك قوله في قصيدة مصرع الأمل:
هنا بين الدوح والزهــرات * غسلتك قبل الدفن العبرات
هنا راعني فيك القضاء بضربة * فقدت فؤادي بعدها وحصاتي[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftn12)
يظهر من خلال البيتين البعد الذاتي للشاعر والعاطفة غير المحدودة التي ينبع منها نصه، ليبرز لنا توجه الشاعر نحو ذاته وهمومها، وانصرافه إلى مشاكله واعتبارها مركز الهموم، لكونه مركز العالم. كما يمكننا من خلال البيتين ملاحظة الطابع التجديدي خصوصا على مستوى اللغة فالقاموس ينبض بمتعلقات العاطفة؛ من العَبَرات إلى الفؤاد، وهذا يقدّم دليلا على انطلاقة النص الوجداني نحو التجديد في مختلف مستوياته.
مما تقدّم نلاحظ أن الاتجاه الوجداني ظل يسير جنبا إلى جنب مع الاتجاه الإصلاحي رغم الاختلاف في البنية بينهما، وقد ظل ذلك حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وأحداث ماي الأليمة، حيث بدأ الجزائريون يفكرون في العمل المسلّح والثورة، التي ما كادت تنقضي سنة 1954 حتى انطلقت أولى رصاصاتها، فآذنت برفع القيد، وظهور نص أخذ من مختلف ما كان قبله من بنيات نصية، ليتميّز بلغة وموضوعات جديدة تخدم القضية الوطنية، إنه النص الثوري، الذي أطلق معه نصا آخرا جديدا رافقه في انتفاضته، وهو النص الحر الذي دخل معترك الساحة الشعرية الجزائرية وافدا من المشرق العربي، حوالي السنة بعد اندلاع الثورة ليستفيد من التحوّلات التي رسّختها، فكان نص أبي القاسم سعد الله "طريقي" فاتحة الطريق نحو النص الشعري الحر، الذي أخذ مختلف مقوّماته وخصائصه من الشعر الحر في المشرق. ورغم حال البلاد من تأزم وبعد عن التواصل الأدبي عموما إلا أن هذا النمط الشعري عرف ازدهارا نسبيا على يد عدد من الشعراء، ليرسم لنفسه طريقا مع الاتجاهين السابقين.



















المحاضرة السادسة: بنية النص الشعري الجزائري في مرحلة الثورة والنص الشعري الجزائري الحر:
لم تُنتج الثورة نصا مختلفا بالكامل إنما هي مرحلة أثّرت في الشعرية الجزائرية بمختلف أطيافها وطبعتها بطابعها على المستوى اللغوي والموضوعاتي بالخصوص، لهذا لا يمكن اعتبار نص مرحلة الثورة –العمودي منه- نصا جديدا كلية، فمرحلة الثورة ليست اتجاها جديدا إنما مؤثرات خارجية أثرت في الشعر، وعليه سنتتبع خصائص النص الثوري انطلاقا من نماذج عنه تعد امتدادا لما قبل الثورة، فشعراء الثورة أنفسهم من كتبوا في ما قبلها، ويضاف لهم شعراء آخرون أول ما كتبوا في الثورة لكن على نهج من سبقهم، وتجدر الإشارة في هذا الموضع إلى أن الرغبة في الثورة لم تكن مع 1954 بل قبل ذلك فالشعب الجزائري عرف حقيقة الثورة و دو

[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftnref1) ينظر، صالح خرفي، الشعر الجزائري الحديث، ص 302، ص 303.

* (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftnref2) عبد الرحمن بن العقون ولد عمل 1908 بوادي الزناتي ،أتم الدراسة الابتدائي، وعمل في التعليم ، و أصبح عاملاً في صفوف جبهة التحرير الجزائرية أثناء الثورة .صدر له (( ديوان ابن العقون )) 1980 ، و له مؤلفات أخرى .


[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftnref3) من موقع مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطيين للابداع الشعري: www.albabtainprize.org/default.aspx

* (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftnref4) مصطفى بن رحمون - ولد بلبانه نواحي بسكرة عام 1921 وتوفى عام1984 - تتلمذ على بعض المشايخ في علوم العربية والدين- عمل في الصحافة والتعليم .- صدر له ديوان ابن رحمون.

[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftnref5) من موقع مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطيين للابداع الشعري: www.albabtainprize.org

* (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftnref6) - الربيع بو شامة، ولد في " فنزاة " قرب سطيف عام 1916 - درس على المشايخ في المساجد ثم نال شهادة التطويع من تونس.- اشتغل في التعليم - له ديوان مطبوع نشر بعد الاستقلال بعنوان " ديوان الربيع بو شامة"، وأعدمه الفرنسيون عام. 1959

[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftnref7) من موقع مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطيين للابداع الشعري: www.albabtainprize.org


* (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftnref8) مبارك بن محمد جلواح، ولد عام 1908 في (( قلعة بني عباس )) بولاية سطيف ، و توفي بباريس عام. 1943 قرأ القرآن على والده ، و انخرط في جمعية العلماء المسلمين التي أرسلته إلى فرنسا كمرشد ديني .
له ديوان شعري بعنوان (( دخان اليأس )) ، و جمع الدكتور عبد الله ركيبي أعماله الشعرية .

[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftnref9) من موقع مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطيين للابداع الشعري: www.albabtainprize.org

* (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftnref10)* محمد الصالح خبشاش، ولد بوادي يعقوب قرب قسنطينة عام 1904 ، و توفي أثناء الحرب العالمية الثانية .- حفظ القرآن الكريم و تتلمذ على الشيخ عبد الحميد بن باديس .- لم يجمع شعره بعد .

[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftnref11) من موقع مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطيين للابداع الشعري: www.albabtainprize.org

[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=11#_ftnref12) عبد الله ركيبي، الشاعر جلواح، من التمرّد إلى الانتحار، ص 349.

**د لا ل**
2012-12-23, 20:31
المحاضرة السادسة: بنية النص الشعري الجزائري في مرحلة الثورة والنص الشعري الجزائري الحر:
لم تُنتج الثورة نصا مختلفا بالكامل إنما هي مرحلة أثّرت في الشعرية الجزائرية بمختلف أطيافها وطبعتها بطابعها على المستوى اللغوي والموضوعاتي بالخصوص، لهذا لا يمكن اعتبار نص مرحلة الثورة –العمودي منه- نصا جديدا كلية، فمرحلة الثورة ليست اتجاها جديدا إنما مؤثرات خارجية أثرت في الشعر، وعليه سنتتبع خصائص النص الثوري انطلاقا من نماذج عنه تعد امتدادا لما قبل الثورة، فشعراء الثورة أنفسهم من كتبوا في ما قبلها، ويضاف لهم شعراء آخرون أول ما كتبوا في الثورة لكن على نهج من سبقهم، وتجدر الإشارة في هذا الموضع إلى أن الرغبة في الثورة لم تكن مع 1954 بل قبل ذلك فالشعب الجزائري عرف حقيقة الثورة و دورها في تخليصه من المحتل خصوصا بعد أحداث الثامن ماي 1945 الدامية التي تأكد فيها للشعب الجزائري ضرورة القتال المسلح لنيل الحرية، بهذا فقد عملت أحداث العقدين الرابع والخامس من القرن العشرين دورا مهما في شحذ الجزائريين وتعبئتهم لقضيتهم والتفافهم حول الثورة[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn1)، التي مهّدت إليها نصوص مبكّرة أطلقت رصاص اللغة وانتفضت، ومن هذه النصوص تُطالعنا رائعة محمد العيد آل خليفة وهي النشيد الذي ظهر سنة 1946، ليكون أول صرخة غضب شعبي:
من جبالنا طلع صوت الأحرار* ينادينا للاستقلال
ينادينا للاستقلال* لاستقلال وطننا
تضحيـــتنا للوطن *خــــير من الحياة[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn2)
من خلال هذا النص يظهر رغبة الجزائريين في التخلص من نير المحتل، بكل السبل فالتضحية في سبيل الوطن خير من الحياة. ومن هذا تظهر بوادر النزعة التحررية في الشعر الجزائري قبل الثورة، حيث مهّدت لها عدت عوامل، من أحداث ماي إلى ظهور الحركات السياسية الداعية للتحرر والحركة الإصلاحية وغيرها من الأسباب[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn3)، حيث اجتمعت لتقدّم نصا فتح الباب أما النص الثوري الذي تميّز على المستوى اللغوي والموضوعاتي، وفيما يلي نتتبّع أهم خصائصه من خلال نصوص أعلامه:
3-1- المستوى اللغوي: وفيه أخذت الألفاظ أبعادا جديدة في التوظيف فقد صارت محملة بشحنات الثورة وقاموسها ومن أمثلة هذا التوظيف نذكر ما قاله مفدي زكريا* (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn4) واصفا الشهيد أحمد زبانة وهو متجه للشهادة بالمقصلة ليلة 18 جويلية 1955 حيث يقول:
قام يــختال كالمسيح وئيدا * يتهادى نشوان، يتلو النشيدا
باسم الثغر كالملاك أو كالكطـ*ـفل، يستقبل الصباح الجديدا
شــامــخا أنفه جلالا وتيها* رافعا رأسها يناجي الخلودا[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn5)
من خلال هذه الأبيات تظهر قوة القاموس المستخدم ورنين كلماته فمنها؛ يختال، المسيح، يتهادى، رافعا ، شامخا، جلالا، الخلود وكلها كلمات قوية النغمة مؤثرة في المتلقي، وهذا يُمدّ النص بقوة إيقاعية كبيرة، تجعله يثور أثناء تلقيه فيُعبّر أحسن تعبير عن الثورة، التي لم يكتف الشاعر بقوّة اللفظ ونغمه الرنّان بل وظّف معه العديد من الأسماء والمناطق الجغرافية الجزائرية ليزيد من شحن الجزائري للالتفاف حول الثورة وقضية الحرية، ومن نماذج توظيف أسماء المناطق نجد توظيف أسماء الجبال التي احتضنت الثورة بصرْحها الكبير يقول مفدي زكريا:
هذي الجبال الشاهقات شواهد* سخرت بمن مسخ الحقائق وادعى
سل (جرجرا) تُنبّئك عن غضباتها* واستفت (شليا) لحظة و(شلعلعا)
واخشع بـ(وارشنيس) إن ترابها* ما انفك للجند المعطّر مصرعا[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn6)
نلاحظ من خلال الأبيات توظيف الشاعر لعدد من أسماء الجبال التي اتخذها الثوار حصونا لضرب العدو، ومنها جرجرة وشليا وشلعلع وغيرها مما دارت فيه معارك طاحنة كبّد فيها الثوار المحتل الفرنسي خسائر باهظة.
لكن رغم حداثة النص الثوري إلا أنه لم يخرج في بنيته عن الشعر التقليدي مقلّدا أو محاكيا نصوصه ومن ذلك قول مفدي زكريا معارضا أبي تمام في فتح عمورية:
السيف أصدق لهجة من أحرف * كتبت، فكان بيانها الإبهام
والنار أصدق حجة، فاكتب بها* ما شئت تصعق عندها الأحلام
إن الصحائف للصفائح أمرها * والحبر حرب، والكلام كلام[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn7)
ومنه فالنص الثوري العمودي القالب لم يخرج عن خط التقليد سواء على مستوى اللغة أو الإيقاع، إلا أن هذا لم يدم طويلا فبظهور النص الحر الوافد الجديد من المشرق، حتى انطلقت أقلام شعرائه في اقتحام عباب الثورة مجرّبين الشكل الجديد، ومما نسجّله من النصوص الحرة التي قيلت في هذه المرحلة خصوصا بعد 1957 قول أبي القاسم سعد الله، رائد الاتجاه الشعري الحر في الجزائر:
وهيهات. يا ألف قفل حديد
ااه اه ااه اه ااه ا ااه اه
فعولن فعولن فعول فعولن
ويا ألف سوط شديد
ويا ألف زنزانة مظلمة
ستنهار جدرانك الشامخة
وأقفالك المحكمة[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn8)
نلاحظ الشكل الحر في بناء النص، بداية بشكله الهندسي الشجري وانتهاء باللغة البسيطة المتداولة والإيقاع الذي اتخذ من تفعيلة "فعولن" البسيطة أساس لبنائه، حيث اجتمعت كلها لتحتضن موضوعا ثوريا، دلت عليه ألفاظ مثل: قفل حديد، سوط، زنزانة وغيرها من متعلّقات الثورة والمحتل.
3-2- المستوى الموضوعاتي: لم تخرج موضوعات النص الثوري على مجال الثورة والحرب وحق الشعب في الاستقلال وفضح جرائم المحتل ومن نماذج ذلك ما نقرؤه في رسالة مفدي زكريا لأحمد زبانة في طريقه للسماء، ومنها يقول:
يا (زبانة) أبلغ رفاقك عنا*في السماوات، قد حفظنا العهودا
واَرْوِ عن ثورة الجزائر، للأفـ*ـلاك والكائنات ذكرا مجيدا[8] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn9)

يقول مفدي زكريا مصورا الشقاق في الثورة ومنددا به:
أنا حطّمت مزهري. لا تسلني* وسلوت ابتسامتي لا تلمني
...
مذ رأيت السفين يجرفها اليم * لسوء المصير، أغرقت سفني[9] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn10)
وقبل ختام تتبعنا للمشهد الشعري في عهد الثورة نعرّج على جديد تلك المرحلة نصيا وهو الشعر الحر، الذي عرف طريقه للجزائر عبر الطلبة الجزائريين الذين درسوا في المشرق.


المحاضرة السابعة: النص الشعري الجزائري الحر:
يلفتنا خلال فترة الثورة ظهور نمط شعري جديد وهو الشعر الحر، الذي أراد من خلاله الشعراء مواكبة التطور الشعري العربي المعاصر، فالانطلاقة فيه كانت عربية خالصة، فلا نرصد أي طابع غربي فيها، رغم أن الدعوة لتحديث الشعر الجزائري كانت قبل ذلك حيث نجدها مع رمضان حمود الذي دعا مبكّرا لتحديث الشعر ومواكبة التطور الشعري الغربي إلا أن القطيعة معه ظلت قائمة[10] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn11)، فلم يطوّر الشعر الجزائري لغته وإيقاعه إلا في منتصف الخمسينات من القرن العشرين متأثرا بالشعر العربي المعاصر، وقد دشّن ذلك الشاعر الجزائري أبو القاسم سعد الله بقصيدة طريقي سنة 1955[11] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn12) ومنها يقول:
سوف تدري راهبات وادي عبقر
اه ااه اه اه ااه ا اه اه اه اه اه
فاعلاتن فاعلات فالاتن
كيف عانقت شعاع المجد أحمرْ
اه ااه اه اااه اه اه ااه اه
فاعلاتن فعلاتن فاعلاتن
وسكبت الخمر بين العالمين
اااه اه اه ااه اه اه ااه اه
خمر وحب وانطلاق ويقين
اه اه ااه اه اه ااه اه اااه اه
ومسحت أعين الفجر الوضية
اااه اه اه ااه اه اه ااه اه
وشدوت لنسور الوطنية
إن هذا هو ديني
فاتبعوني أو دعوني
في مروقي
فقد اخترت طريقي
يا رفيقي.[12] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn13)
يظهر من خلال نص سعد الله الطابع الحر في البناء وذلك على مختلف مستويات القصيدة، اللغوية منها والإيقاعية، فلغتها من قاموس متداول وأكثر بعدا عن التقليد، ومن ألفاظه؛ المجد، نسور الوطنية، رفيقي... كلها ألفاظ قريبة من المتلقي المشبّع بقيم الثورة، أما تراكيبها فمختلفة عن التراكيب التقليدية وتظهر فيها بذور التحديث ومن ذلك قوله : خمر وحب وانطلاق ويقين، حيث يظهر التركيب المبني على روابط إسنادية مختلفة عن الشكل التقليدي، مما يجعلنا أمام نص جديد يتشكّل ليؤسس ثورة في بناء القصيدة الجزائرية المعاصرة. كما نرصد توظيفه للصورة بشكل تجاوز فيه التشبيه والاستعارة فقد أدخل الأسطورة في قوله (وادي عبقر) ليُحمّلها بشحنات شعرية تستمد طاقتها من ماضي الأسطورة والقدرة العجيبة الذي يمدها هذا الوادي بمخلوقاته للشاعر ليقول ما لا يستطيع غيره قوله. إضافة للأسطورة نجده يستخدم الرمز بكثافة ومن ذلك قوله (المجد الأحمر) رمزا للتضحية في سبيل الوطن.
ولكن رغم حداثة التشكيل اللغوي للنص الحر وطموح الشعراء التجديدي إلا أنهم احتفظوا بسمة الوضوح[13] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn14) في نصهم الذي لم يتوقّف بعد الاستقلال إلا لينطلق معليا تمرّده في النص السبعيني.
أما على المستوى الإيقاعي فنلاحظ بعد التقطيع أن النص مبني على تفعيلة فاعلاتن وهي تفعيلة بحر الرمل وقد توزّعت بشكل متباين عبر الأسطر مما ولّد الشكل الشجري الذي قدّم تشكيلا هندسيا مختلفا عن النص التقليدي التناظري.
وقد توالت النصوص بعد سعد الله مجرّبة الشكل الجديد فكتب صالح باوية وأبو القاسم خمار وغيرهما الكثير من القصائد أخذت في معظمها طابع الثورة وموضوعها بسبب السياق الذي وُجدت فيه ومن نماذج هذه النصوص نذكر ما كتبه باوية:
إن تزرنا أيها النجم المغامر
نُطلق الأقمار من غضبة ثائر
نُطلق الأسرار من صمت الحناجر
....
ساعة الصفر انطلاقات مشاعر
يقظة الإنسان ميلاد الجزائر[14] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn15)
يظهر جليا من خلال هذا النص البعد الثوري الذي أسر أغلب شعراء تلك الفترة، ولكن هذا ليس مطّردا حيث تطالعنا نصوص حرة كتبت في موضوعات مختلفة كالحب والغربة والوحدة، ومن ذلك ما نسجّله في قول أبو القاسم خمار في قصيدته الرسالة الأولى سنة 1958 التي ضمّنها ديوانه "ربيعي الجريح" حيث يقول:
إليك يا حبيبتي
إليك يا حقيقة
كشعرك الجميل
....
كأنك أشعة الأصيل[15] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn16)
من خلال هذه الأسطر يظهر الموضوع بشكل جلي ولو أن الشاعر حاول تعتيمه، إلا أن سطحية الصورة خصوصا في التشبيه(كشعرك الجميل) فضحمشاعر الشاعر وخطابه للحبيبة ذات الشعر الجميل، والتي احتلت بؤرة القصيدة وكانت المحرّك لأسطرها، وهذا موضوع خارج عن مسار الثورة كما هو واضح. ومن خلال تتبع العديد من القصائد لذات الشاعر نجدها تدور في ذات الموضوع ومنها نذكر:
لا تسأليني سنة 1958
لا تسأليني .. ما الولوع..؟
ما الحب..؟ ما وهج الضلوع..؟
سيري.. تبارك الحياة
سيري.. فعمرك في طلوع[16] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn17)
إلى يولا
يولا..
إليك حكايتي
سأعيدها...
ولكم أعدت نسجها مليون مرة
حتى تشابك خيطها بأناملي[17] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn18)
يظهر في هذه النماذج إشارات مباشرة لموضوع الحب والغزل الذي أسر الشاعر ووجّه القصيدة، رغم أنه يحاول التستر خلف موضوعات أخرى تبدو الجزائر أهمها.
ونسجّل في الأخير أن الشعر الحر في بداياته وحتى بعد الاستقلال لقي معارضة شديدة من طرف العديد من الشعراء حتى من كتبوا به، فلم يقتنع بعض شعراء الثورة بهذا الشعر الذي خرج على نظام الشطرين، وانكسر عموده، وممن عارضه مفدي زكريا وأحمد الغوالمي[18] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn19)، لكن رغم ذلك ظل هذا الشكل الشعري الجديد قائما بل تطوّر بشكل كبير بعد الاستقلال باحتضانه النص الشعري الجزائري المعاصر، في حلّته الحرة.
كما تجدر الإشارة إلى أن الاتجاهات الشعر

[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref1) ينظر، صالح خرفي، الشعر الجزائري الحديث، ص 218.

[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref2) ينظر، المرجع نفسه، ص 217.

[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref3) ينظر، عبد الحميد هيمة، مقال بعنوان "النزعة التحررية في الشعر الجزائري الحديث قبل الثورة التحريرية"، مجلة الأثر، دورية أكاديمية محكّمةـ تصدر عن كلية الآداب واللغاتـ جامعة ورقلة – الجزائر، العدد الثالث، ماي 2004م، ص 276، ص 277.

* (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref4) مفدي زكريا بن سليمان الشيخ صالح ولد في بني يزقن عام 1908 تابع دراسته في جامع الزيتونة وفي المدرسة الخلدونية بتونس عمل في الصحافة والتعليم صدر له من الدواوين الشعرية اللهب المقدس 1961 تحت ظلال الزيتون 1965 من وحي الأطلس1976. توفى عام 1977

[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref5) ينظر، صالح خرفي، الشعر الجزائري الحديث، ص 235.

[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref6) ينظر، المرجع نفسه، ص 240.

[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref7) ينظر، المرجع السابق، ص 225.

[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref8) ينظر، المرجع نفسه، ص 243.

[8] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref9) ينظر، صالح خرفي، الشعر الجزائري الحديث، ص 239.

[9] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref10) ينظر، المرجع نفسه، ص 275.

[10] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref11) ينظر، المرجع نفسه، ص 352.

[11] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref12) ينظر، المرجع نفسه، ص 354.

[12] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref13) أحمد يوسف، يتم النص، الجينيالوجيا الضائعة، منشورات الاختلاف، ط1، 2002، ص59.

[13] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref14) ينظر، صالح خرفي، الشعر الجزائري الحديث، ص 356.

[14] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref15) ينظر، المرجع نفسه، ص 244.

[15] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref16) محمد أبو القاسم خمار، ربيعي الجريح، شعر، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1983م، دط، ص 21.

[16] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref17) المصدر نفسه، ص 27.

[17] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref18) المصدر نفسه، ص 33.

[18] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref19) ينظر، أحمد يوسف، يتم النص، الجينيالوجيا الضائعة، ص73.

**د لا ل**
2012-12-23, 20:32
كما تجدر الإشارة إلى أن الاتجاهات الشعرية الأخرى كالتقليدية والاتجاه الوجداني، بقيت قائمة وقت الثورة لكن طغى الجانب الثوري على الساحة الشعرية، ومن نماذج الاتجاهات الأخرى نجد الاتجاه الوجداني في طابعه الغزلي ومن ذلك ما كتبه أبو القاسم خمار في قصيدته ربيعي الجريح التي أرّخها بسنة 1955 حيث يقول:
هتف الحمام ورفرف الشحرور يشدو بالصفير
وتسابقت في الأفق أسراب القطا جدلى تطير[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn1)
وفي قصيدته شقراء التي أرّخها بسنة1960 يقول:
شقراء...يا فاتنة * الشعاع والضياء
يا باسمة الشروق* يا واهبة الإغراء
إليك يا ساحرتي* يا منبع الصفاء[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn2)
يظهر بوضوح الطابع الوجداني في هذين النموذجين، حيث لا يحملان أي إشارة للثورة ولا للمحتل، بل يزخران بألفاظ العواطف والوجدان، وكل ما له علاقة بالجانب الرومانسي، كالهتف والشحرور والقطا، والفاتنة ومنبع الصفاء وغيرها من الألفاظ التي تشير للبعد الوجداني مباشرة.


المحاضرة الثامنة: نص ما بعد الاستقلال:
تمتد فترة ما بعد الاستقلال، التي نقصدها، من الاستقلال سنة 1962م إلى غاية بداية السبعينات سنة 1970، وهي الفترة التي توقّفت فيها الحركة الشعرية الجزائرية بشكل نسبي، ويعلل الدارسون توقف الشعراء الرواد عن تطوير أساليب تعبيرهم الشعرية بسبب انصراف بعضهم الشعراء إلى الدراسة المتخصصة والبحث الأكاديمي وبعضهم الآخر أصابته دهشة الاستقلال، كما عملت الخِلافات التي شبّت بين أبناء الثورة قبيل الاستقلال وبعده، وأحداث إقليمية أخرى لصرفهم على المواصلة في قول الشعر[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn3)، وعليه كُتب للحركة الشعرية الجزائرية في هذه الفترة أن تتوقّفت ولو مؤقتا، وقد مسّ هذا التوقّف القصيدة العمودية والحرة على السواء، فلا نكاد نجد إنتاجا جديرا بالذكر لمرحلة كانت تستحق أكثر، خصوصا إذا قارنا هذه المرحلة بمرحلة الثورة قبلها، التي شهدت كما رأينا انتفاضة شعرية على مختلف المستويات. ومما يمكن تسجيله في هذه الفترة من النصوص المتفرّقة كتبها رواد جيل الثورة، الذين هجر بعضهم قرض الشعر كما حدث مع محمد العيد ومفدي زكريا، ومن هذه النماذج نذكر قصيدة يا غرفتي للشاعر أبو القاسم خمار التي ضمنها ديوانه ربيعي الجريح، وقد أرّخها الشاعر بسنة 1965م، ومنها يقول:
كم مقعد في غرفتي ينتظر
كم شمعة في ليلتي تحتضر[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn4)
إضافة لأبي القاسم خمار نجد الشاعر محمد الأخضر عبد القادر السائحي الذي كتب عن فرحة وبهجة الاستقلال، كما تغنى بالتصحيح الثوري في 19 جوان 1965 وفي ذلك يقول في قصيدته في ذكرى 19 جوان وهي مؤرّخة في سنة 1966 وقد تضمنها ديوانه "اقرأ كتابك أيها االعربي"* (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn5):
(يونيو) أيها الشهر الخلود * وطيف أحلام القلوب
أنت الحياة لموجة الأمجاد * في الوطن الحبيب[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn6)
إضافة لموضوع الثورة والاستقلال فقد كتب الشاعر في هذه الفترة وفق الطابع الرومانسي فجاءت قصائده تعجّ بالعواطف ومن نماذج ذلك نذكر قصيدته همسات المؤرّخة بسنة 1966، وهي من الشكل الحر ومنها يقول:
همسات
نشر السحر عليها صورا
أين منها وشوشات الطيف لصب العميد
همسات[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn7)
من خلال هذه الأسطر يظهر البعد الرومانسي الذي انتهجه الشاعر، فاللغة هامسة وقاموسها مليء بألفاظ العاطفة ومنها؛ همسات وشوشات الصب وغيرها، مما يجعلنا نصنفها في خانت الشعر الوجداني الذي ظل محافظا على مساره حتى بعد الاستقلال، ومن نماذج هذا الاتجاه أيضا في هذه الفترة، نذكر قصيدة فراشتي المؤرّخة سنة 1968 لذات الشاعر ومنها يقول:
فراشــتي هيا معي * إلى رمال الشاطئ
فراشـــتي هيا معي * إلى النسيم الهادئ
فالشمس أشرقت هنا * والبحر أصبح المنى[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn8)
عبر الأبيات يظهر بوضوح الوجه الرومانسي والمسحة العاطفية التي ميّزت الشاعر الذي أنتج العديد من النصوص في ذات الغرض خلال هذه الفترة، مما يقدّم الدليل على وجود إنتاج خلال هذه الفترة، لكن ظل الوجه العام للشعر الجزائري في تلك الفترة مندهشا من الفضاء الحر الذي دخله، فصمت وكأنه يستعد للانطلاق في اتجاه جديد يؤسس لثورة شعرية توازي الثورة التحريرية، بهذا لم يدم سكوت الشعراء طويلا فما كانت عشرية السبعينات تطل حتى انطلقت حركة شعرية كبيرة وشاملة قادت الشعر الجزائري بحلّته المعاصرة.

- بنية النص في شعر فترة السبعينات:
جاء النص في هذه الفترة مشبّعا بقيم إيديولوجية وافدة، نسخت النص بتصورات حوّلته إلى مجرد خطاب وشعارات ففقد أهم مقوّمات شعريته، ومن جهة أخرى تأثر رواد هذا النص ببعض الشعراء الحداثيين في المشرق العربي[8] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn9) الذين قطعوا شوطا في التحرّر من قيود عمود الشعر، لهذا فقد حاول رواد هذه الفترة الانطلاق من النموذج المشرقي من جهة ومتأثرين بالفكر الاشتراكي من جهة أخرى، ومن خصائص نصهم علة مستوى البنية نذكر:
1- مستوى اللغة الشعرية:
لم تخرج اللغة الشعرية لشعر هذه المرحلة عن قاموس الإيديولوجية الاشتراكية فجاءت قصائد الشعراء معبّئة بألفاظ العمال والمحراث والمنجل والتعاون وغيرها من الألفاظ الاشتراكية ومن أمثلة ذلك نذكر مما قاله أحمد حمدي* (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn10) في ديوانه قائمة المغضوب عليهم:
حين تحلم طفلة
في حوض "الأمازون"
ومن أشعار "النيرودا"
تنفجر قنبلة موقوتة
يتحرك قلب العالم ينفض قبح القرن العشرين
...
ويرتفع العلم الوطني
على أسوار"أريتيريا"
يمتلئ العالم بالثوار[9] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn11)
نلاحظ المعجم المفعم بالألفاظ الاشتراكية كالوطنية والثورة والثوار والعلم الوطني، وغيرها مما حوّل النص لما يشبه الخطاب السياسي الداعي للحرية وكسر قيود المحتل، فلا نعثر فيه على ما يقرّبه لروح الشعر المفعم بالعواطف أو الأفكار والرؤى، وهذا ليس غريبا عن الشاعر أحمد حمدي الذي يعد من أبرز رواد الشعر في جيل السبعينات حيث تأثر بشكل كبير بالتغير الشعري الحاصل في الشعرية العربية الحديثة، وارتبط بإيديولوجية الخطاب السياسي في تلك المرحلة التي تعد امتداد للخط الثوري[10] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn12)، لهذا جاء نصه مفعما بأفكار الاشتراكية التي حمّلها قاموسه الشعري.
1- مستوى الإيقاع والتشكيل الهندسي:
مثلما تأثر النص الشعري الجزائري في هذه الفترة في جانبه اللغوي بالنص الحر في المشرق، فقد أخذ عنه الإيقاع الحر كذلك مسقطا بذلك قواعد عمود الشعر، فصارت قصائدهم تُبنى على التفعيلة الموحّدة أو على كسرها نهائيا، ومن أمثلة ذلك نذكر قصيدة الصوت والصدى لمصطفى محمد الغماري من ديوانه مقاطع من ديوان الرفض ومنها يقول:
يرفض أن تمارس العهارة
اه اا اه ااه ااه ااه ااه
مفْتعلن متفْعلن متفْعلن
باسم الحضاره!
اه اه ااه اه
مستفعلاتن
يرفض أن تمارس الطهارة
اه اا اه ااه ااه ااه ااه
مفْتعلن متفعلن متفعلن
في محفل التتويج والترويج للأمير والإمارة!
اه اه ااه اه اه ااه اه اه ااه ااه ااه ااه اه
مستفعلن مستفعلن مستفعلن متفعلن فعولن
يا زمن الحقارة![11] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn13)
اه اااه ااه اه
من خلال تقطيع النص نلاحظ أنه بني على تفعيلة مستفعلن وهي تفعيلة بحر الرجز، رغم ما دخل عليها من زحافات وعلل أخرجها في عدد من الأسطر من تفعيلة هذا البحر، وهذا يعكس عدم احتفاء الشاعر بالتفعيلة بشكل كبير فهو يريد كسرها مثله مثل بقية شعراء هذا الجيل الذين تمرّدوا على عمود الشعر وبدؤوا محاولات كسر الإيقاع المبني على التفعيلة، حيث، لم يُرضهم الالتزام بالتفعيلة والقافية، ليتخلى بعضهم عن التفعيلة بشكل نهائي، وهذا لا يعني قصيدة النثر بحال من الأحوال، بل جاء نوع من الرفض لأي شيء من الماضي فالتمرّد الذي تميز به هذا الجيل جعله يكفر بماضيه محاولا التأسيس لذاته من عدم، وهذا محال من الناحية الشعرية.
ومن خلال تتبع عدد من النماذج نجد أن هناك العديد من النماذج تلاعبت بإيقاع التفعيلة وأسقطته بشكل نسبي ومن ذلك ما نقرؤه في قصيدة ما ذنب المسمار أيا خشبة؟! لحمري بحري ومنها يقول:
قمر مشلول يجلس في العتبة
اااه اه اه اه اه اا اه اااه
فعلن فالاتن فعلن فعلن
والليل رهيب
اه اه ا ااه اه
والليل عجيب
اه اه ا ااه اه
لكي أسمع في الفجر الأتي
ااه اه اه اه اه اه اه اه
إنشاد...
إنشاد...
...... في منجل فلاح
في مطرقة الحداد
إنشاد...[12] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn14)
من خلال تقطيع الأسطر نلاحظ عدم استقرار تفعيلاتها فلا يمكن انتظامها في شكل محدد مما يجعلنا نُسقط إيقاع التفعيلة عنها، وهذا لا يُدخلها في باب قصيدة النثر كما ذكرنا لكون الأخيرة تقوم على تقنيات تختلف عما كرّسه شعراء مرحلة السبعينات.
إضافة لتطوير الإيقاع فقد مس التحوّل التشكيل الهندسي للقصيدة فقد أخذت أشكال القصيدة الحرة، من الشكل الشجري إلى الذي يعتمد على الرموز والإشارات غير اللغوية، إلى جعل النص بأكمله يشكّل شكلا هندسيا كالخط المستقيم والمثلث وغيرها من الأشكال، ومن أمثلة ذلك قصيدة الغماري أواه يا سفر من ديوانه أغنيات الورد والنار يقول:
جرح يغيم..
وموجة تنأى
وشطآن تلوب
ومدى..
تسكّع في شفاه الدهر
يُجهضه الغروب[13] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftn15)
يظهر بوضوح الشكل الشجري للأسطر المختلفة الأطوال، حيث يرتبط ذلك بعدد التفعيلات في كل سطر، مما يعكس تعدد الدفقات الشعرية في القصيدة التي اعتمدت الجملة الشعرية كبنية لتشكيل أسطرها، حيث تنتهي أول جملة في قوله "شطآن تلوب" والجملة الثانية في قوله "يُجهضه الغروب" وقد عملت الجمل على المساهمة في التوزيع المختلف للأسطر مما يعبّر على اختلاف في رؤى الشاعر عبر محطات القصيدة.



خاتمة : لم تتوقف الحركة الشعرية عند فترة السبعينات بل استمرت في التطور عبر مراحل مختلفة متأثرة بالمد الشعري المشرقي من جهة، وقدرة الشعراء الرواد على تطوير نصوصهم من جهة أخرى، حيث ظهرت شعرية الاختلاف (الثمانينيات) التي قدّمت نموذج قصيدة النثر في شكله الأكثر تطوّرا، ويدخل هذا النص في الشعرية الجزائرية المعاصرة.


[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref1) محمد أبو القاسم خمار، ربيعي الجريح، ص 17.

[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref2) المصدر نفسه، ص 41.

[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref3) أحمد يوسف، يتم النص، الجينيالوجيا الضائعة، ص73

[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref4) محمد أبو القاسم خمار، ربيعي الجريح، ص 115.

* (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref5) المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1985م.

[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref6) محمد الأخضر عبد القادر السائحي، اقرأ كتابك أيها العربي، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، دط، 1985م، ص 19.

[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref7) المصدر نفسه، ص 15.

[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref8) المصدر نفسه، ص 29.

[8] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref9) ينظر، أحمد يوسف، يتم النص، الجينيالوجيا الضائعة، ص78.

* (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref10) أحمد حمدي شاعر جزائري معاصر، له عدة دواوين منها انفجارات، وقد أصدره سنة 1982 ليدخل في مرحلة السبعينات، وديوان؛ تحرير ما لا يحرر سنة 1985 وفيه بدأ يتخلص من وطأة الإيديولوجية ويدخل في جيل الاختلاف واليتم.

[9] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref11) أحمد حمدي، قائمة المغضوب عليهم، الشركة الجزائرية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1980، دط، ص 99. عن أحمد يوسف، ص 81.

[10] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref12) ينظر، مشري بن خليفة، مقال بعنوان "دلالة العنوان في ديوان-أشهد أنني رأيت- للشاعر أحمد حمدي"، مجلة الأثر، دورية أكاديمية محكّمةـ تصدر عن كلية الآداب واللغاتـ جامعة ورقلة – الجزائر، العدد الثاني، ماي 2003م، ص 200.

[11] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref13) مصطفى محمد الغماري، مقاطع من ديوان الرفض، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1989، دط، ص 33.

[12] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref14) حمري بحري، ما ذنب المسمار يا خشبة؟!، 1981، ص 11، ص 12.

[13] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12513382&posted=1#_ftnref15) مصطفى محمد الغماري، أغنيات الورد والنار، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1980م، دط، ص 53.

**د لا ل**
2012-12-23, 20:34
محاضرات في الشعر الجزائري الحديث والمعاصر


http://al-marsa.ahlamontada.net/t1960-topic

**د لا ل**
2012-12-23, 20:44
محاضرات الادب ا لجزائري للمدرسة العليا للاساتذة ببوزريعة

http://www.mediafire.com/?5cwf2i4dccc582k الجزء 1

http://www.mediafire.com/?jmlcz0g1ro519nhالجزء 2

**د لا ل**
2012-12-24, 13:33
مكتبة الادب العربي *مكتبة الاسكندرية *

http://www.bib-alex.com/adab.php

مكتبة الشعر العربي *مكتبة الاسكندرية *

http://bib-alex.com/sh3r.php

nesro alger
2012-12-25, 16:42
الشكر الجزيل لك أختي دلال وجعل الله هذا العمل في ميزان الحسنات يا رب ولكن أرجو منك أن تفيديني بمواضيع إمتحانات المدرسة العليا تخصص أدب عربي ...please.......

**د لا ل**
2012-12-26, 20:22
جزاك الله خيرا اخي على مرورك الكريم

وساحاول جمع الامتحانات باذن الله

**د لا ل**
2012-12-26, 20:33
امتحان في مقياس الأدب المقارن


تناول أحد السؤالين
-الأدب المقارن مصطلحا وتاريخا ووجدانيا.
-الأجناس أو الفنون الأدبية.


http://r28.imgfast.net/users/2814/36/80/42/smiles/156519.gif


امتحان في مقياس الآداب الأجنبية


تعد الرمزية امتدادا طبيعيا للرومانسية الا أنها تختلف عنها في جملة من الخصائص الأسلوبية، كما أنها تمثل رِيا مختلفة للعالم.
_ تحدث عن الرمزية مبينا خصائصها، كاشفا عن قيمها الأسلوبية الجديدة.


http://r28.imgfast.net/users/2814/36/80/42/smiles/156519.gif


امتحان في مقياس الأدب المعاصر


يقول سيكولا سعدا: " ان الصورة في الشعر العربي المعاصر قد تطورت من وضع استاتيكي جامد الى وضع دينامي حي "ويقول عز الدين اسماعيل: " الصورة في الشعر المعاصر هي تمثيل للعلاقة الجمالية بين الداخل والخارج وليس تمثيلا خارجيا للداخل ".
_ حلل وناقش مبرزا مفهوم الصورة وأنواعها في الشعر المعاصر.

**د لا ل**
2012-12-26, 20:34
امتحان في مقياس لسانيات النص


السداسي الاول
1_ ترتبط البنيات الكبرى ( عند فان ديك van dijk) " بالقضايا المعبر عنها بواسطة جمل النص عن طريق ما ندعوه القواعد الكبرى. هذه القواعد هي التي تحدد ما هو أساسي جدا من محتوى نص ما مأخوذ في كليته" علم النص، ص.208
_ حدد مصطلحات لسانيات النص في ما عرضه (فان ديك ) و مفاهيمها عنده.
_ إلى أي حد يمكن اعتبار القواعد الكبرى تتويجا لمسار تحليلي ينشد اتساق النص وانسجامه؟ مثل لما تذهب اليه ( بغير الأمثلة التي درست).
2_ عد الفصل والوصل عند المحدثين العرب بابا يقيم جسور تلاق متينة مع انسجام النص واتساقه، على الرغم من دقته وصعوبة ادراك مواطنه.
_ اظهر صواب الربط بين الفصل والوصل و الاتساق أ بطلانه من خلال نماذج تراها مدعمة لما تذهب إليه.
3_ اختر سؤالا واحدا مما يأتي:
أ_ هل تصح العودة إلى التراث العربي متى أذاع الغرب مفاهيمه وأدواته؟ علل لما تتبناه.
ب_ هل يمكن لأدبية النص كما ساقها الشكلانيون الروس ن تتحقق وفق الإجراءات التي رسموها؟ ارسم إجاباتك وفق ما درست.
الثلاثي الثاني
وازن بين الأطروحات النقدية للتفكيكية في مقارنة النص الأدبي وأطروحات جمالية التلقي المعاصرة.

**د لا ل**
2012-12-26, 20:35
امتحان في مقياس نظرية الأدب


يرى جيل تيغيا أن القراءة نشاط علائقي متعدد الوجوه، يمكن حصره في خمسة أبعاد.
تحدث عن هذه الأبعاد الخمسة بالشرح والتحليل.
http://r28.imgfast.net/users/2814/36/80/42/smiles/156519.gif

مقياس الادب المقارن

1- "انه لا يتم بناء نظرية جديدة وفقا لما يتهيأ او يتوافر لنا من نظريت الاخرين ولا من فروض خاصة بها دون ان تكون للنظرية الجديدة مجسماتها التاسيسية وخصوصياتها وشورطها وعناصرها التي تنسجم مع رؤاها اذ لم يعد مقنعا ولا مجديا ان تنسلخ في خطاباتها التنظيرية والثقافية باراء الغرب الحد الذي دفع بالبعض لاثبات صحة ما يذهب اليه الى تكديس خلائف اجنبية تحاصر رايه ان ابداه وتنفي تصوراته وان حرص على وجودها ولعل العصمة التنظيرية الغربية المتوهمة تجسد هشاشة وتبعية عربية لا مبرر لها في مجال الادب والثقافة والفن مما يجعلنا على قارعة الطريق بلا ماوى حضاري او فكري تتنازعنا سباقات الترجمة حينا او التسابق بالوقوف على اطلال او اثافي الاخرين مما يعني ان مهمة صعبة تلحق بالباحث العربي الذي يجسر على تاسيس نظرية جديدة للادب المقارن يتجاوز فيها محاذير الطريق وغلواء البحث "
على ضوء هذا التصور هل يمكن القول ان مرجعيات التنظير العربي للادب المقارن هي نظرية جديدة ام ترجمة جديدة


2 تحدث عن صورة الاخر لدى الجاحظ

3 ناقش مفهوم التلقي في الادب المقارن مركزا على دور الوسطاء في ذلك

4 انسب هذا الانتاج الادبي الى كاتبه مع بيان المرحلة الزمنية التي ظهر فيها

بلاغة العرب والافرنج
الادب الفارسي والادب العربي
بين شعراء الغزل العذريين وبين كاتيولس الشاعر اللاتيني
من الادب المقارن
المؤثرات الاجنبية في الادب العربي الحديث
مباحث في الادب المقارن
الادب المقارن منهجا وتطبيقا
دراسات في الادب المقارن والمذاهب الادبية
الادب المقارن من منظور الادب العربي مقدمة وتطبيق
دور العرب في تكوين الفكر الاوربي

nesro alger
2012-12-27, 14:39
شكرا لكي أختي دلال على هذا المجهود الرائع و لكن أنا أدرس في السنة الأولى أدب تخصص تعليم ثانوي وأرجو منك ان تقدمي لي خدمة أخرى و تنتقي لي هذه الامتحانات في أسرع وقت ممكن خاصة في
1- النحو و الصرف
2- العروض
3-اللسانيات
4-فقه اللغة
5-مناهج تحليل النصوص
6-مدخل الى علوم التربية
7-النقد القديم
8-الشعر الجاهلي
9-علوم اسلامية
10- حضارة عربية
11- انجليزية
و لن أنسى لك هذا المعوف ....سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك

**د لا ل**
2012-12-28, 15:02
شكرا لكي أختي دلال على هذا المجهود الرائع و لكن أنا أدرس في السنة الأولى أدب تخصص تعليم ثانوي وأرجو منك ان تقدمي لي خدمة أخرى و تنتقي لي هذه الامتحانات في أسرع وقت ممكن خاصة في
1- النحو و الصرف
2- العروض
3-اللسانيات
4-فقه اللغة
5-مناهج تحليل النصوص
6-مدخل الى علوم التربية
7-النقد القديم
8-الشعر الجاهلي
9-علوم اسلامية
10- حضارة عربية
11- انجليزية
و لن أنسى لك هذا المعوف ....سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك


ان شاء الله اخي الكريم ساحاول فعل ما استطيعه

موفق

**د لا ل**
2012-12-28, 20:40
امتحان مادة النحو العربي - السنة الأولى (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=58)


امتحان مادة (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=58) النحو (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=58)

السنة الأولى (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=58)

نص الامتحان:


قال ابن مالك في " تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد " : (( ويمنع إعراب الاسم مشابهة الحرف بلا معارض ’ و السلامة منها تمكن ))
المطلوب :
حلل هذه العبارة مبينا أسباب الظاهرة النحوية التي يشير إليها ابن مالك رحمه الله ’ مع التمثيل لكل حالة .

**د لا ل**
2012-12-28, 20:41
موصوعات امتحان السداسي الأول-السنة الثالثة (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=374)


:10:
السنة الثالثة (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=374)
قـسم اللّغة العربية و آدابها
كليّة الآداب،و العلوم الاجتماعية
جامعة سعد دحلب*البليدة *


امتحان مقياس
* السيميولوجيا *
السداسي 1


أطرق كلا الموضوعين الآتيين :
م1/ حددّ، و أوضح نوع العلاقة التي رأى إميل بنيفست أنّ النظام اللّغوي يضمّ بواسطتها بقية الأنظمة السيميوطيقية؟


م2/ اشرح الفكرة التي مفادها أنّ قيمة العلامة تكمن في اختلافها الوظيفي ضمن النظام الذي تنتمي إليه؟


:19:


امتحان مقياس
* النّقد الأدبي الحديث *
السداسي 1


نصّ السؤال:
قال المرصفي في تقريض قصيدة لمحمود سامي البارودي:
« انظر هداك الله إلى أبيات هذه القصيدة؛فافردها بيتا- بيتا تجد ظروف جواهر أفردت كلّ جوهرة لنفاستها بظرف،ثمّ اجمعها،و انظر جمال السياق،و حسن النّسق،فإنّك لا تجد بيتا يمكن أن يقدّم،أو يؤخرّ،و لا بيتين يمكن أن يكون بينهما ثالث ».


المطلوب: حلّل هذا القول، ثمّ ناقشه.



امتحان مقياس
* علم الأسلوب *
السداسي 1أجب عن أحد السؤالين الآتيين:
س1/ لا تعني الدّراسة البلاغية بالضرورة حيثيات الدّراسة الأسلوبية؛حتّى و إن كان الموضوع في كلا الجانبين يستهدف الأسلوب كأداة في الدّراسة.
حلّل، و ناقش هذا التصوّر شارحا وضع الاختلاف ( 15 سطرا على الأكثر ).


س2/ قد تستّغل البلاغة توظيف الأسلوب باعتباره معيار الحكم على النصّ بالجودة، و الرداءة.
حلّل، و ناقش هذا التصوّر شارحا وضع التوظيف ( 15 سطرا على الأكثر ).


:19:


امتحان مقياس
* الأدب الحديث *
السداسي 1


أكتب في أحد الموضوعين التاليين على الخيار:
م1/ تحقّقت النّهضة الأدبية، و الفكرية في البلاد العربية في العصر الحديث بفضل جملة من العوامل، لعلّ من أبرزها إنشاء النّوادي، و الجمعيات الأدبية:
تحدّث عن آثار هذا العامل في تطّور الحركة الشعرية في العصر الحديث، و أبرز مظاهر ذلك التطّور، و انعكاساته الفنّية في القصيدة العربية.


م2/ بنى الاتّجاه التجديدي في الشعر العربي الحديث طروحاته الجديدة انطلاقا من نقده الوضع الأدبي القائم إلى نهاية القرن التاسع عشر،حيث كانت سيادة الاتّجاه التقليدي.
ما الأسس الفنّية التي استند إليها المجدّدون في نقدهم التقليديين؟و ما هي أبرز ركائز التجديد عندهم؟.



:19:


امتحان مقياس
* مناهج البحث *
السداسي 1


أجب عن الأسئلة التالية:
س1/ حدّد تين(Taine)العصر، و الجنس، و البيئة معايير للمنهج الاجتماعي.
اشرح ذلك من خلال بعض النماذج التي تراها مناسبة.


س2/ كان دي سوسير أوّل من تحدّث عن علم العلامات، أو السيميولوجيا قبل أن تستقيم مفاهيم هذا العلم على يدّ آخرين، و في مقدّمتهم بارث.
ما أوجه الاختلاف بين مفهومي دي سوسير، و بارث لعلم العلامات؟ و كيف يسهم هذا المنهج في قراءة النصوص؟.


س3/ يسعى بعض البينويين،من خلال تطبيق البينوية منهجا لدراسة النصّ الأدبي،إلى البحث عن أدبية هذا النصّ.
بيّن أهمّ ما يميّز هذا المنهج، و المناهج الأخرى الجديدة عن المناهج التقليدية. و هل تعتقد أنّه بالإمكان الاعتماد على البينوية في الكشف عن جماليات النصّ الأدبي؟.



:19:


امتحان مقياس
* الأدب الشعبي *
السداسي 1


أجب عن سؤال واحد فقط ممّا يلي:
س1/ من المتوافق عليه في أيّامنا أنّه لكي نصل إلى دراسة شعب من الشعوب، و إلى معرفة نشاطه الرّوحي،و النّفسي،لم يعد يكفينا أن نحيط بلغته،و أدبه،و تاريخه،و آثاره،بل ينبغي لنا أن نعرف عاداته،و معتقداته،و طرائق سلوكه،في كلمة،ينبغي أن نلّم بكلّ ما يشكلّ تراثه الشعبي.
اشرح هذا القول مبيّنا: مفهوم الأدب الشعبي، أهمّ ممّيزاته، علاقته بالأدب الرّسمي، و التراث الشعبي.


س2/ يقول ابن خلدون: « اعلم أنّ الأذواق في معرفة البلاغة كلّها إنّما تحصل لمن خالط تلك اللّغة، و كثر استعماله لها، و مخالطته بين أجيالها حتّى يحصل ملكتها».
كيف ترى الصلة بين الأسلوب الفنّي – مظهر البلاغة – و العاميّة لغة كلّ يوم؟ ثمّ كيف ترى الجمال فيه؟ هل في شكله وحده أم في محتواه وحده.أم في كليهما؟.


:19:


امتحان مقياس
* المدارس اللّسانية *
السداسي 1


أجب بدّقة عن أحد السؤالين:
س1/ يقول دي سوسور في لعبة الشطرنج:
«...إنّ انتقال هذه اللّعبة من فارس إلى أوروبا أمر خارجي بخلاف كلّ ما يخصّ النظام و قواعد اللّعب فهو أمر باطني: إن استبدلت القطعة الخشبية بقطعة من العاج فإن هذا التغيير لا يمّس هذا النّظام؛و لكنّني إذا أنقصت،أو زدت عدد القطع فهذا التغيير سيّخل أيّما إخلال بـ(النّحو) الذي وضع عليه اللّعب... ».
حدّد الطرف الثاني من عملية التشبيه الذي قام بها هنا دي سوسور مرّكزا على مفهوم هامّ يعتبر هو وجه الشبه بين الطرفين.


س2/ « يظنّ بعض النّاس أنّ اللّسان إنّما هو في أصله مجموع ألفاظ أي قائمة من الأسماء تطلق على عدد مماثل من المسميّات... و في تصوّرهم هذا نظر، من عدّة وجوه؛ إنّه يفترض وجود معان جاهزة قبل وجود ألفاظها... و يشعرنا أيضا أنّ ارتباط الاسم بالمسمّى في غاية البساطة».
هل يوافق دي سوسور هذا الظنّ أم أنّه يذهب مذهبا آخر؟وضّح.


:19:



امتحان مقياس
* أصول النّحو *
السداسي 1


أجب عن الأسئلة التالية:
س1/ عرّف القياس، و ما هي أركانه (ممّثلا)؟


س2/ ما هو التقدير؟ و متى نقدّر؟


س3/ ما تقدير الكلمات، و الجمل الآتية:
. اتّفق – خذ – يزن – إيقاف – مقول – ازدهر - زيارة.
. الشمس ساطعة - لست كاذبا - صادق أنا - الحيّة الحيّة.


س4/ ما هو العامل؟وما هو المعمول؟
- استخرج العوامل، و المعمولات من الجملة التالية: - صورة المودّة الصّدق.
:21:

**د لا ل**
2012-12-28, 20:41
امتحان مقياس المعجمية

السداسي الثاني

السنة الثانية (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=54)

جامعة الجلفة

حلل وفق منهجية تحليل النصوص مايلي ودعم رأيك بشواهد بناءا على ما درسته :






احتل المعجم مكانة سامية عند جميع الأمم التي تحافظ على لغتها وتراثها ، فهو ديوان اللغة ، وعنه يأخذون ألفاظها ويكشفون غوامضها ، ولذا لا يكاد فرد من أفراد الأمة ممن لديه قسط من العلم يستغني عن الرجوع إلى المعجم .

وقد أصبح علم المعاجم علما واسعا ذا جوانب عديدة ، و أصبح له نظريات تتناول أسس صناعته ، و أصبحت الدراسات المعجمية (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=54) تحتل حيزا كبيرا من الدراسات اللغوية الحديثة ، و لم يقتصر هذا العلم على صناعة المعجم كما كان يغلب على الجهود السابقة ، بل أصبحت هذه الصناعة تخضع لقواعد و أسس دقيقة ، وصارت توازن بمعايير ثابتة تدل على نضج هذا العلم ، و مما أسهم في نضجه تلاقح الدراسات حول هذا الفن لدى العديد من الشعوب بلغاتهم المختلفة ، فقد كانت صناعة المعجم عند العلماء العربية نابعة من التراث العربي دون غيره ، ولذا عدّ إبداعا من إبداعات علماء العربية ، أما في عصرنا الحاضر فقد أصبحت صناعة المعجم عالمية أسهم في تطويرها لغويون من بلاد شتّى ولغات مختلفة .
و تطور هذه الصناعة في العصر الحاضر لا ينفي ما تميز به العرب في هذا الميدان و سبقهم الأمم الأخرى ، فقد فاقوا غيرهم في صناعة المعجم ، و تعدّدت طرفة لديهم ، و اختلفت أنواعه اختلافا اثري الدراسات حوله حتى أقرّ بتفوقهم غيرهم من العلماء اللغات الأخرى ، فهذا المستشرق الألماني أوجست فيشر يقول مبرزا تفوق العرب : " و إذا استثنينا الصين فلا يوجد شعب آخر يحق له الفخار بوفرة كتب علوم لغته ، و بشعوره المبكر بحاجته إلى تنسيق مفرداتها ، بحسب أصول و قواعد غير العرب ." و قال هايوود " : إن العرب في مجال المعجم يحتلون مكان المركز ، سواء في الزمان أو المكان ، بالنسبة للعالم القديم أو الحديث ، و بالنسبة للشرق أو الغرب ."

**د لا ل**
2012-12-28, 20:51
************************************************** ****

المدرسة العليا للأساتذة في الآداب والعلوم الإنسانية
*بوزريعة *


السنة الأولى
تخصص: اللغة العربية وآدابها


امتحان السداسي الأول
في وحدة النقد الأدبي القديم


نص الســــــؤال

تأثر النقد الأدبي في عصر البعثة و الخلفاء الراشدين بروح البناء و تأسيس المجتمع الإسـلامي الجـديد.
- تحدث عن الأثر الذي أحدثه الإسلام في النظرة إلى الشعر الجيد و الرديء.

المدرسة العليا للأساتذة في الآداب والعلوم الإنسانية
*بوزريعة *


السنة الأولى
تخصص: اللغة العربية وآدابها


امتحان السداسي الأول
في وحدة الأدب الجاهلي و الإسلامي و الأموي



أجب باختصار عن أحد السؤالين

السؤال الأول: قارن بين الالتزام في القصيدة الجاهلية و القصيدة الإسلامية.

السؤال الثاني: تحدّث عن أسباب الضعف الذي انتاب القصيدة في العصر الإسلامي.

المدرسة العليا للأساتذة في الآداب والعلوم الإنسانية
*بوزريعة *


السنة الأولى
تخصص: اللغة العربية وآدابها


امتحان السداسي الأول
في وحدة النحو والصرف


أجب عن الأسئلة الآتية

السؤال الأول: حدد أنواع شبه الاسم بالحرف شارحا (6ن)
السؤال الثاني: ما الفرق بين البناء الأصيل والعارض ممثلا؟ (4ن)
السؤال الثالث: ما هو التنوين؟ وما هي أنواعه؟ (4ن)
السؤال الرابع: بين علامات بناء الفعل ممثلا؟ (6ن)


المدرسة العليا للأساتذة في الآداب والعلوم الإنسانية


*بوزريعة *








السنة الأولى


تخصص: اللغة العربية وآدابها








امتحان السداسي الأول


في وحدة المصادر








أجب عن الأسئلة الآتية


السؤال الأول: حدد معنى المصدر لغة واصطلاحا.


السؤال الثاني: فرّق بين المصدر والمرجع.


السؤال الثالث: ماهي مصادر جمع اللغة.













المدرسة العليا للأساتذة في الآداب والعلوم الإنسانية

*بوزريعة *





السنة الأولى

تخصص: اللغة العربية وآدابها





امتحان السداسي الأول

في وحدة اللسانيات العامة











نص السؤال



حـدد ظـروف نشـأة اللسانيـات العـامة






المدرسة العليا للأساتذة في الآداب والعلوم الإنسانية

*بوزريعة *





السنة الأولى

تخصص: اللغة العربية وآدابها





امتحان السداسي الأول

في وحدة فقه اللغة





نـص السـؤال



دعا العالم اللغوي السويسري ( سوسور) إلى الفصل بين علم اللغة و فقه اللغة

السؤال الأول: عرف كلا من فقه اللغة و علم اللغة.

السؤال الثاني: بين بالشرح و الأمثلة الفرق بين العلمين و ذلك من خلال المقارنة بينهما.





بالتوفيق

زنوبيا الجزائر
2012-12-30, 10:26
السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
لدي بحث بعنوان أحمد شوقي و أحتاج إلى بعض العناوين لمراجع
من لديه أي عنوان فليفدنا به و أجره على الله

nesro alger
2012-12-30, 13:48
************************************************** ****

المدرسة العليا للأساتذة في الآداب والعلوم الإنسانية
*بوزريعة *


السنة الأولى
تخصص: اللغة العربية وآدابها


امتحان السداسي الأول
في وحدة النقد الأدبي القديم


نص الســــــؤال

تأثر النقد الأدبي في عصر البعثة و الخلفاء الراشدين بروح البناء و تأسيس المجتمع الإسـلامي الجـديد.
- تحدث عن الأثر الذي أحدثه الإسلام في النظرة إلى الشعر الجيد و الرديء.






المدرسة العليا للأساتذة في الآداب والعلوم الإنسانية
*بوزريعة *


السنة الأولى
تخصص: اللغة العربية وآدابها


امتحان السداسي الأول
في وحدة الأدب الجاهلي و الإسلامي و الأموي



أجب باختصار عن أحد السؤالين

السؤال الأول: قارن بين الالتزام في القصيدة الجاهلية و القصيدة الإسلامية.

السؤال الثاني: تحدّث عن أسباب الضعف الذي انتاب القصيدة في العصر الإسلامي.

المدرسة العليا للأساتذة في الآداب والعلوم الإنسانية
*بوزريعة *


السنة الأولى
تخصص: اللغة العربية وآدابها


امتحان السداسي الأول
في وحدة النحو والصرف


أجب عن الأسئلة الآتية

السؤال الأول: حدد أنواع شبه الاسم بالحرف شارحا (6ن)
السؤال الثاني: ما الفرق بين البناء الأصيل والعارض ممثلا؟ (4ن)
السؤال الثالث: ما هو التنوين؟ وما هي أنواعه؟ (4ن)
السؤال الرابع: بين علامات بناء الفعل ممثلا؟ (6ن)


المدرسة العليا للأساتذة في الآداب والعلوم الإنسانية


*بوزريعة *






السنة الأولى


تخصص: اللغة العربية وآدابها






امتحان السداسي الأول


في وحدة المصادر






أجب عن الأسئلة الآتية


السؤال الأول: حدد معنى المصدر لغة واصطلاحا.


السؤال الثاني: فرّق بين المصدر والمرجع.


السؤال الثالث: ماهي مصادر جمع اللغة.










المدرسة العليا للأساتذة في الآداب والعلوم الإنسانية

*بوزريعة *





السنة الأولى

تخصص: اللغة العربية وآدابها





امتحان السداسي الأول

في وحدة اللسانيات العامة











نص السؤال



حـدد ظـروف نشـأة اللسانيـات العـامة






المدرسة العليا للأساتذة في الآداب والعلوم الإنسانية

*بوزريعة *





السنة الأولى

تخصص: اللغة العربية وآدابها





امتحان السداسي الأول

في وحدة فقه اللغة





نـص السـؤال



دعا العالم اللغوي السويسري ( سوسور) إلى الفصل بين علم اللغة و فقه اللغة

السؤال الأول: عرف كلا من فقه اللغة و علم اللغة.

السؤال الثاني: بين بالشرح و الأمثلة الفرق بين العلمين و ذلك من خلال المقارنة بينهما.





بالتوفيق





شكرا لكي أختي دلال على هذا المعروف الذي قدمته لي سيكون إنشاء الله في ميزان حسناتكhttp://b66k.net/files/23831.swf :mh31:
هديتي لك

بولنوار السعيد
2012-12-30, 14:42
ابحث عن اهم الموضوعات المقررة في مقياس النحو و الصرف
عناوين أو محاضرات
أتمنى أن أجد طلبي عندكم
كما أريد التعرف و الاتصال بطالب أو طالبة في المدرسة العليا للأساتذة بوزريعة
تخصص أدب عربي
شكرا جزيلا على المجهود الكبير المبذول

**د لا ل**
2012-12-30, 15:07
المحاضرة الأولى



مدخل إلى دراسة الأدب المقارن
التعريف :



الأدب المقارن ممكن أن يعرف بأنه:ــ العلم الذي يبحث عن التأثر والتأثير في الأدب على جميع المستويات، سواء أكان ذلك بين كاتب وكاتب أو بين تيار فكري وتيار فكري آخر، كما أنه يبحث في انتقال الأنواع الأدبية من أمة إلى أمة، وفي الأخذ والعطاء بين الشعوب على مختلف مراحل نموها.




ولا يقتضي ذلك أبدا أن يكون المؤثر أو المتأثر بين الآداب أو الأجناس الأدبية من بيئة واحدة و إلا لا قتضي تحويل دراسة التأثر والتأثير داخل الأدب إلى نوع من دراسة السرقات الأدبية. فالأدب المقارن هو دراسة أدب وتأثره وتأثيره في أدب أجنبي ودراسة تبيان المسالك لهذا التأثر والتأثير .



فإن البحث في كليلة ودمنة مثلا والتمييز بين ما كتبه ابن المقفع مستمدا أصوله من الأدب العربي أو البيئة العراقية آنذاك، الأصول الهندية لهذا الكتاب كان ذلك من باب الدراسة المقارنة.


وقد تثار مسألة المتشابهات الأدبية عند الأمم مثل: شعر الفروسية في الإلياذة وديوان عنترة أو مثل وصف الذئب عند الشعراء. وإذا ما كان ذلك يعد من الأدب المقارن أو لا؟




النشأة والتاريخ




إن تسمية الأدب المقارن تعتبر حديثة نسبيا إذ يذكرنا كتاب هذا العلم بأن "فيلمان" أول نمن استعمل مصطلح الأدب المقارن باللغة الفرنسية عام 1827 في محاضراته التي ألقاها في السوربون، ثم في عام 1830 خصص له منبر في تلك الجامعةـ، ولم نصل عام 1940 إلا وقد ظهرت كتب عدة في هذا العلم الجديد.

وإن تناسينا تاريخ نشوء المصطلح نجد الأدب المقارن قد وجد قديما، ونشأ من الموازنة والمفاضلة التي نشأت عند الرومانيين حين تكلموا عن الكتاب الإغريق وقارنوهم بمؤلفيهم وكتابهم. ولعل أبناء الآداب التس سبقت اليونانيين قد أحسوا بذلك فعلا فلا بد أن البابليين قد ميزوا بين ماهو سومري أو بابلي.

وفي علم البلاغة العربية أجرى ابن سنان وابن الأثير مقارنات منوعة وطريفة حول الحرف العربي أو الأسلوب العربي ومقارنته باللغات الأخرى، وقد أشار الجاحظ إلى بعض الألفاظ الأجنبية في اللغة العربية وأسباب دخولها وأثر البيئة والمجاورة في ذلك.

أما نقاد القرون الوسطى في أوروبا فقد اهتموا بذكر ما أخذه كتابهم من الأدب الإغريقي والكلاسيكي، وكان البحث أقرب إلى موضوع السرقات الأدبية.


ركود حقل التبادل الأدبي العربي

يرجئ حسام الخطيب(آفاق الأدب المقارن عربيا وعالميا، ص 79) سبب قلة النشاط في حقل التبادل الأدبي العربي إلى أنه :
1ـ كان شائعا بين العرب أن اللغة العربية هي أم اللغات
2ـ أن رسالة العرب إلى الآخرين تتضمن وبشكل بارز"إعجاز القرآن الكريم" لا مضمونه فحسب.
3ـ أن العرب أهل الشعر والأدب ختى أنه كان يصعب على بعضهم تصور وجود شعر لدى الأقوام الأخرى.
4ـ كان اعتداد العرب بفصاحتهم ولسنهم يدفعهم إلى التعلق بقيم النقاء اللغوي.
5ـ لم يكن الإقبال على اللغات الأجنبية ومعرفة آدابها أمرين واردين في ظل الاعتداد الأدبي اللغوي الشديد.

وهذه الأسباب تجعل من الصعب ايجاد بيئة مقارنية في العالم العربي.
ويؤكد الخطيب على استمرار تيار الاعتداد بالأدب واللغة حتى اليوم ولا يسمح اطلاقا للمقارنات مع الآداب الأخرى وينكر موضوع التأثر للأدب العربي والأدب الغربي أو يحاول التقليل من شأنه أطمسه بدافع من الاعتداد الأدبي اللغوي الذي تقويه عامة نزعة المحافظة الدينية أو القومية. ومثل هؤلاء من الدارسين الذين يحاولون الاعتداد بالأدب واللغة يسرفون ويبالغون في رؤيتهم بشكل يوقف عجلة تقدم الأدب بشكل عام والمقارن بشكل خاص.






تمييز الأدب المقارن عن النقد وتاريخ الأدب



يقول داود سلوم (الأدب المقارن في الدراسات المقارنة التطبيقية، ص16): يجب علينا التمييز بين تعريف الأدب المقارن الذي يهتم بالبحث عن مصادر الجمال ونعريف النقد الأدبي الذي يبحث في أسباب الجمال ونميز كذلك بينه وبين تعريف تاريخ الأدب الذي يبحث في تراجم الشعراء وسيرهم وإحصاء مؤلفاتهم لغرض فهرستها حسب ظهورها وتطورها.

ولذلك فالكتاب الواحد يمكن أن يدرس من ثلاث زوايا:

زاوية الأدب المقارن.
زاوية النقد الأدبي .
زاوية تاريخ الأدب.

أما إذا درسنا الكتاب من حيث: ظهوره تاريخ نشره وإعادة طباعته وتسلسله لآثار الكاتب وأعمال مؤلفه الأخرى ومقدار ضبط نصوصه أو تحريفها أو الحذف منها...... فإن ذلك يكون من عمل تاريخ الأدب.





من رواد دارسي الأدب المقارن العرب
محمد غنيمي هلال

يذكر (عز الدين مناصرة : النقد الثقافي المقارن منظور جدلي تفكيكي، ص 390 ـــ ص 401 ) عن محمد غنيمي هلال أنه هو الرائد المنهجي للأدب المقارن، 1953م وقد أصدر كتبا عديدة ومن أهمها الأدب المقارن ولم يكن قد صدر قبله أي كتاب منهجي في الأدب المقارن باستثناء بعض الدراسات المتفرقة التي اشتملت على الترجمة وبعض الدراسات التي تعتبر إرهاصات للأدب المقارن لهذا يمكن اعتبار كتاب هلال في العالم العربي أشبه بكتاب بول فان تيغم في فرنسا، من حيث القيمة والتأثير، قياسا على زمانه.ويدرس في كتابه معنى الأدب المقارن ثم ينتقل هلال إلى الإشارة إلى أن أهمية الأدب تكمن في كشفه عن" جوانب تأثر الكتاب في الأدب القومي بالآداب العالمية، وما أغزر هذا التأثر"كما أنه ينتقد تسمية الأدب المقارن ويصفها بالانتقاص واقترح بديلا لها "التاريخ المقارن للآداب" تماما كما اقترح بعض الفرنسيين.

ثم ينتقل هلال إلى تاريخ نشأة الأدب المقارن فيشير إلى أن أقدم ظاهرة في تأثير أدب في أدب آخر هي: " تأثير الأدب اليوناني في الأدب الروماني .

ويتطرق هلال في كتابه لأدوات وعدة الباحث في الأدب المقارن. ثم يدرس غنيمي هلال ما يسميه ميدان البحث في الأدب المقارن ثم يقرأ عوامل عالمية الأدب أي خروج الأدب من نطاق اللغة كتب بها إلى لغة أو آداب لغات أخرى. وبعد ذلك ينتقل لدراسة الأجناس الأدبية ثم يقوم بدراسة المصادر يعني دراسة كل العناصر الأجنبية التي ساهمت في تكوين الكاتب كما يشير إلى دراسة المذاهب الأدبية الكلاسيكية والرومنتيكية ... وغيرها ويدرس تصوير الآداب القومية للبلاد والشعوب الأخرى. ويقدم هلال خاتمة عن علاقة الأدب المقارن والأدب العام.

بعض الملاحظات على كتاب هلال الأدب المقارن:
1) كان أول رائد منهجي للأدب المقارن في الوطن العربي.
2) ظل هو الممثل الفعلي للمدرسة التاريخية الفرنسية التقليدية .
3) رفض مبدأ التوازي والتشابه كما هو في المنهج الأمريكي المقارن.
4) توسع في المقارنة خارج النص الأدبي، من خلال دراسة صور البلدان في أدب الرحلات والصور المتبادلة بين الشعوب.
5) ركز على ضرورة الاهتمام والانطلاق من الأدب القومي أولا، في علاقته مع الآداب الأخرى. لهذا نجد أن كتاب هلال لم يقتصر على الأمثلة الأجنبية في المقارنة، بل كان دائما يشر إلى مقارنات عربية ــ أجنبية,
6) ركز في شخصية المقارن على ضرورة بل تلازم ثلاثة شروط هي : معرفة لغتين أجنبيين ومعرفة تعمق في الأدب القومي الذي ينتمي إليه المقارن ومعرفة منهجية الأدب المقارن.
7) أشار أكثر من مرة إلى أن المدرسة الفرنسية تنطلق وتتمحور حول الأدب الفرنسي بصفته شرطا للمقارنة مع الأدب الآخر لكنه اعتبر ذلك أمرا عاديا فلم يوجه أي انتقاد للمركزية الفرنسية أو المركزية الأوروبية واستسلم كذلك لفكرة "الروائع الأوروبية" دون أية مناقشة انتقادية.










************************************************** ***********************************


محاضرات في الأدب المقارن


الدكتور تيسير الآلوسي


ينبغي لتلافي اللبس في تعريف "الأدب المقارن" أنْ نشير بدءاَ َ إلى أنَّ مدلوله يظل تاريخياَ َ.. فالأدب المقارن يدرس مواطن التفاعل والتلاقي بين الآداب في لغاتها المختلفة، في ماضيها وحاضرها وما كان من ذياك اللقاء من تبادل حالات التأثير والتأثر في المحاور الرئيسة الكبرى أو العامة كالأجناس والمذاهب الأدبية وتياراتها الفلسفية أم في شأن موضوعات\ مواقف\شخوص معالجات الأدب وكذلك فيما يخص أمور الصياغات الجمالية وجملة القواسم المشتركة أو المتشابهة متبادلة التأثير بين ألوان آداب الشعوب...
إنَّ الحدّ الفاصل بين الآداب يتمثل أساسا في اللغة بالمعنى الواسع للمصطلح وهي بالتحديد ما يجري قراءته ومعالجته في تناول حالة التأثير والتأثر والمقارنة في الأمر على وفق منطق تعاقب الحدث والواقعة المتناولة.. وهكذا فمن المفيد توكيد البعد التاريخي للأدب المقارن لأنه يسلـّط الضوء على مصادر التيارات الفنية \ الفكرية للأدب وعلى مراحل تفاعله مع الآخر..
إذ كلّ أدب قومي (بلغة بعينها) لابد أن يلتقي مع الآداب العالمية ويحمل تاريخا من وقائع تبادل العلاقة إفادة واستفادة. على أنَّ منهج الأدب المقارن ليس ملزما بالخضوع رياضيا لمناهج الأدب والنقد ولكن تبقى هناك حالات التكامل بين تلك المناهج بالتأكيد..

وينبغي القول هنا لمزيد من إيضاح مفهوم الأدب المقارن أن نشير إلى أن أهميته لا تقف عند حدود دراسة التيارات والأنواع الأدبية ومفرداتها من القضايا الإنسانية؛ إنَّما يمتد للكشف عن مواقع تأثر أدب بآخر بما هو أبعد وأعمق من قراءات في "الشرقات الأدبية".. على أنَّ ذكرنا للسرقات قد يعيد للذهن مسائل من نمط عقد الموازنات بين طرفين في أدبين مختلفين ليس لهما من علاقة تبادل تاثير وهو أمر لا يدخله بعض قدامى الباحثين المختصين في صلب الأدب المقارن الذي يرونه فقط في تركيزه على حالة التأثر والتأثير بين طرفين أدبيين. يقول د. محمد غنيمي هلال: " لايعدّ من الأدب المقارن في شيء ما يُعقد من موازنات بين كتّاب من آداب مختلفة لم تقم بينهم صلات تاريخية حتى يؤثر أحدهم في الآخر نوعا من التأثير أو يتأثر به" [كتابه الأدب المقارن، ص 11]...
فالموازنة بين أبي العلاء المعري وملتون على الرغم من تشابه آرائهما ومكانتهما الاجتماعية ليست على وفق الدكتور غنيم ذات قيمة تاريخية تشير لتبادل تأثير بينهما.. ولا يجوز من ضوء ذلك أن ندخل في مجال الأدب المقارن أمورا تخص الأدب ونقده لمجرد حالة تشابه نرصدها لا تمتلك ارتباطا أو علاقة لتفاعل بينهما...
والأدب المقارن على وفق رؤيته التاريخية لا يُدخِل في إطاره تلك الدراسات التي تبحث عن التشابه أو التقارب الناجم عن مصادفة أو وضع بعينه.. وهذا اللون من الأدب المقارن يحافظ بتشدد على موقفه من إبعاد كل تلك القراءات وعدم إدخال أية دراسة إلا ما كان منها يملك خلفية تاريخية في التوالد بعضها من بعض والانتقال من أدب بلغة لآخر بلغة أخرى ومعالم تبادل التأثر والتأثير بادية في هذه الحالة من الانتقال...
ولكن الحقيقة التي ستبرهنها الدراسات اللاحقة ستشير لتغير جدي في التناول وهو ما سيفيد في معالجات أبعد من حدود الأدب المقارن بصفته التاريخية البحتة.. وهي الصفة الضيقة المحدودة التي تلمسناها هنا مثلما نتلمس إبعادها الموازنات التي تُقدَّم في الأدب القومي الواحد سواء بوجود صلات تاريخية أم بعدم وجودها كالموازنة بين أبي تمام والبحتري أو بين حافظ وشوقي في الأدب العربي وبين كورني وراسين أو رساين وفولتير في الأدب الفرنسي فتلك الموازنات بقيمتها التاريخية تظل في نطاق مادة تاريخ الأدب القومي فيما الأدب المقارن ميدانه دولي يربط بين الآداب العالمية المختلفة..

ولنتابع قراءة في تأثر الحرير ببديع الزمان الهمذاني على سبيل المثال فهي ستكون أبعد وأغنى في رؤية "الأدب المقارن" إذا ما قرئت في ضوء التفاعل والتأثير بانتقالها مثلا [أي المقامة] من الأدب العربي إلأى الفارسي وهنا سيكون الاغتناء بعدم الوقوف عند حدود فكرية جمالية بحتة أو ضيقة التفاصيل بل سيمر الموضوع باتجاه رؤى الكاتب وتأويله لما تلقاه وتأثر به...
فعلى سبيل المثال قرأ الكاتب الأنجليزي كارليل Thomas Carlyle الكاتب والشاعر الألماني غوته Goethe بوصفه داعية يتفق مع رؤاه الأخلاقية الدينية وبهذا يكون كارليل قد أوَّل بفهمه رؤى غوته لينساب التأثير عند غيره من الكتّاب عبر هذا التأويل وليس عبر طبيعة الأصل ...
وهناك التأثر العكسي في فهم رؤى الآخر كأن يقف أديب بالضد من الرؤية الفنية الفكرية لأديب أو حركة أدبية مختلفة لدى لغة أو قومية أخرى.. ومثالنا في ذلك رؤية كليوباترا في الآداب الغربية ورؤيتها عند أحمد شوقي الذي أراد إبعادها عن شخصية اللعوب الملتوية لتكون الوطنية المخلصة عنده؛ وهكذا سيكون لكل فكرة فنية \ فلسفية جذورها في تاريخ الفكر الإنساني حيث الميراث المُشاع للامتياح منه والأخذ به بطريقة ما من طرق التفاعل أو تبادل التأثر والتأثير...
وفي ضوء كل ذلك يتأكد عرض الأدب المقارن للحقائق (الأدبية) بطريقة تاريخية مدعَّمة بالبراهين ونصوص الآداب المختلفة دارسا الصلات العامة بينها ومواضع التأثر والتأثير في العلاقة مع الآخر والإفادة منه.. والأدب المقارن يرسم سير الآداب في علائقها ويوجه نحو تفاهم الشعوب بمقاربة تراثها الإبداعي وإخراجها من العزلة للقاء بوصف آداب الأمم والشعوب مفردات من كلِّ ِ أشمل هو الأدب العالمي، ما يجعل الأدب المقارن عنصرا مهما في درساة المجتمعات وعلائقها ودفع تلك العلائق للتعمّق.. وكنتيجة لهذه الرؤية يلزم تذكر حالة الغرور في رؤية أدب قومي من دون سواه مميزا متسيِّدا فوق جميع الآداب الأخرى بطريقة التعالي وتهميش الآخر؛ ومن الطبيعي أن تكون نتيجة دراسات الأدب المقارن وبحوثه مزيلة لمثل هذه النظرة الاستعلائية المرضية...


نشأة الأدب المقارن


لقد تكامل الأدب المقارن ونضج في ضوء نظريات نقدية وأسس مهمة لدراسات في تاريخ الأدب ما يتطلب مراجعتها للتعرف إلى تاريخ نشأة الأدب المقارن علما مكتملا مستقلا..
لقد كان لظهور الأبد المقارن بوصفه علما يُفاد منه جذور وظواهر تمثلت أولا بتحقق حالات تبادل التأثير والتأر بين الآداب العالمية.. وأقدم ظواهر تبادل التأثير تمثلت في دراسة أثر الأدب الأغريقي بالروماني [ونذكّر هنا بأنَّ الانكسار العسكري لوجود حخضاري يمنحه الطاقة للتأثير الثقافي كما حصل قبل ذلك في حضارة سومر الرافيدينية التي منحت إبداعها الثقافي على الرغم من الانكسار العسكري وتشير الوقائع التاريخية أن البابليين أبقوا على استخدام اللغة السومرية في الحياة العامة بكل تفاصيلها لـ 500 عام وتابعوا لـ 500 عام آخر مستخدمين إياها في المستوى الرسمي] ...
وعادة ما نقرأ إنَّ روما مدينة لأثينا في فلسفتها وإبداعها ربما كله خلا جنسي التاريخ والخطابة.. ومن هنا ظهرت نظرية المحاكاة عند النقاد اللاتينيين في عصر النهضة الأوروبي للارتقاء بأدبهم.. ولقد أكد هوراس 85-08 ق.م.هذا الأمر.. فيما خطا بعده كانتليان Quintilian 35-96 م بما أثر في النقاد عندما وضع للمحاكاة قواعد عامة:
1. المحاكاة مبدأ للفن لا غنى عنه حيث حاكى اللاتين اليونان....
2. المحاكاة تتطلب مهارات ومواهب كما محاكاة الطبيعة (الإبداع الأول)...
3. المحاكاة ليست للألفاظ بل لجوهر الأدب ومنهجه...
4. المحاكاة تتطلب اختيار ممكن المحاكاة والأداء وليس ما يستحيل استعادته...
5. المحاكاة لا تتعارض ولا تمنع الإبداع أو الأصالة...

وهكذا فقد تمَّ في القرون الوسطى 395-1453 م للآداب الأوروبية:
1. توحيد بعض اتجاهاتها لعامل ديني حيث اللاتينية لغة الأدب والكنيسة معا..
2. وعامل آخر يكمن في سلطة الفروسية وثقافتها وبها أكسب الأدب الأوروبي طابع العالمية..

ولكن بمجيء عصر النهضة التفت الأوروبيون مجددا لتراثهم اليوناني الروماني (اللاتيني) بمساعدة الترجمات العربية عاد أدب عصر النهضة إلى نظرية المحاكاة وبالتحديد إلى ما ساد الأدبين اليوناني \ اللاتيني من عناية بالإنسان ومشكلاته واقعيا بديلا للرؤى الميتافيزيقية لأدب القرون الوسطى...

وكان أوضح عمل في بداية القراءات الأولى التي تدخل في الأدب المقارن قراءة الشاعر الناقد دورا 1508-1588 من جماعة الثريا الفرنسية، حيث قدم المحاكاة عمليا مشيرا إلى تأثير اليونان باللاتيني مثل خطيب اليونان ديموستين في شيشرون ومثل هوميروس في فريجيل ومثل بنداروس في هوراس..
يقول الناقد دي بلي 1522- 1560 إنهم من دون المحاكاة لن يستطيعوا منح لغتهم (الفرنسية) شهرة الأقدمين من سمو وتألق... وقد قال بالعودة للنص الأصل لأن "كل ترجمة خيانة للأصل"
وإذا كان زملاؤه في الثريا قد اختلفوا معه في موضوع الترجمة فلأنهم كانوا برنون إلى "فضيلة إغناء اللغة في الترجمة إليها" وإن "ترجمة وافية دقيقة خير من ابتكار منقوص" [الأدب المقارن غنيمي هلال ص 26].
لقد كان وراء النزعة الإنسانية ودعواتها حرص على نهضة آدابهم بالامتياح من كنوز التراث.. ومن هنا فقد حذروا من المحاكاة في لغة بعينها أي في ذات اللغة أو نفسها لما يثير من جمود وتعزيزا لرؤى التفتح والإبداع يقول بليتييه: " لايصح أن يقع الكاتب المتطلع للكمال في زلة التقليد المحض، ويجب عليه أن يطمح – لا إلى إضافة شيء من عنده فحسب – بل إلى أن يفضل نموذجه في كثير من المسائل" [ص27] فالتقليد المحض لا ينتج عنه شيء رفيع والمعنى المتحصل هنا يؤكد رأي كانتيليان في أن المحاكاة يجب ألا تمحو الأصالة... وإنما يقصد بها التأثر الهاضم الأصيل لا التقليد الخاضع الذليل...
وعلى وفق رؤية الشراح الإيطاليين في ق 16 فالمحاكاة استكمال لنظرية أرسطو في محاكاة الطبيعة (الناقصة) التي استكملها المبدع الأول بأعماله التي ينبغي أن نحاكيها في كمالها وعليه فلابد للذي يحاكي الأقدم من:
1. أن يمتلك قدرة التمييز بين الصحيح من الزائف بعقله الرشيد ودربته الفنية..
2. أن يحاكي ما يتفق وعصره ويكتب له كما كتب الأقدمون لعصورهم..
3. ألا يحاكي نصا من نفس لغته..

وفي العصر الكلاسي أي ق 17\18 مال العصر إلى النقد الفني العملي بوضع قواعد للأنواع الأدبية وجعل تلك القواعد قياسا لقيمة النتاج الأدبي وهكذا فقد امتاحوا من التاريخي الفني العملي لا الوقوف عند تاريخية التوصيف...

-ــــــــــــــــ نقد مدام دي سكوديري للشاعر كورنيه لسرقته مسرحية السيد وهنا لم تفكر في تحليل الصلات وتقويمها

ـــــــــــــــ * ــــــ في ق 18 تعززت الصلات بين الآداب الأوروبية لكن ذلك لم يدفع لأبعد من بعض المحاولات الأولية كما لدى فولتير الذي لم يتعمق في قراءة الأنواع الأدبية تاريخيا وحالة تبادل التأثير بينها... حتى يأتي القرن 19 حيث دور البحوث العلمية والتطورات العاصفة في المجتمع...


الحركة الرومانسية ودورها في مسيرة نشأة الأدب المقارن



لقد كانت الرومانسية تيارا واسعا وممهدا لتحولات واسعة في الحياة الفنية والعامة.. وبقراءة تاريخية سنجد ولادتها أولا في إنجلترا فألمانيا ثم فرنسا وإيطاليا...فكان لها أثرها في توليد أو تمهيد الأجواء وتوجيهها وجهة مقارنة نتلمسها عبر مقابلتها بالكلاسية للتعرف إلى مبادئهما العامة... وأول تلك المبادئ:
1. العقل والعاطفة: إذا كان أساس الفسلفة الكلاسية في حين اهتم الرومانسيون بالعاطفة وهكذا فالكلاسيون يرون العقل مرادفا للذوق السليم ولصواب الحكم الذي لا تتوافر فيه السلامة والصواب إلا باتفاقه مع تواضع المجتمع وتقاليده.ز ومن ثمّ فلابد من التخلص من الخيال الجامح والنزعات الفردية والعواطف الجياشة وخير المؤلفات هي تلك التي تعبر عن المشترك الجمعي وتمثل القديم واتباعه عبر نظرية المحاكاة باسم العقل.. وعلى قاعدة سجلها بوالو في قوله: "أحبوا دائما العقل ولتستمد منه وحدة ؤلفاتكم كل ما لها من رونق وقيمة[الأدب المقارن ص 32 Boalleau:Art poetique, cantl, vara37-38 /]
لقد استندت الرؤية العقلية للكلاسيين على شرّاح أرسطو من الإيطاليين وعلى الرغم من لقائها مع النزعة العقلية في فلسفة ديكارت إلا أن الفرق أنهم اتخذوا العقل لتبرير القواعد المقررة ولم يسلكوا في نقدهم على وفق مبادئ ديكارت ومنهجه في الشك لبناء الفكر الجديد وهدم الموروث الخاطئ.. أما الرومانسيون فيغلبون العاطفة والشعور لأنها منبع الإلهام والشعور معالد للضمير الذي يمثل عندهم قوة من قوى النفس قائمة بذاتها وهو غريزة خلقية تميز الخير من الشر عن طريق الإحساس والذوق. ص 34 من الأدب المقارن عن[ تاريخ الفلسفة إميل برييه باريس 1950 ج2 ،ص 486- 487] وعند الرومانسيين يبقى الجمال هو دعامة كمال نشاط إنساني وهو أساس ما في الإدراك نفسه من نظام ومن صيغة فنية تظهر فيها شخصية الإنسان وأصالته كما يرد في فلسفة شيللنك وكانط Schelling و Kant ص34 من الأدب المقارن عن[A: Benguin dans , Le Romantisme Allemand.parie 1949. P130ets]
والجمال على وفق الكلاسيين ينحصر في كونه الانعكاس للحقيقة شأنه في ذلك شأن الطبيعة. ومن ثم فعند الكلاسيين يكون ذوق باريس الكلاسي مطابقا لذوق أثينا.
غير أن الموضع يختلف عن الرومانسيين فمرد الجمال إلى الذوق الفردي منه بالتحديد.. أي أن الجمال تحول من الموضوعية إلى الذاتية ومن المطلق إلى النسبي ومن القواعد التجريبية إلى التجريبية المعتمدة على الحواس النفسية الجمالية الممثلة للمشاعر والعواطف وآليات عملها. وهكذا فإن المتعة بالجميل لن تقف عند حدود معالجة الكلاسي المقصورة على معرفة المبادئ والأسباب أو توظيف الأشياء متناسبة الأجزاء مع معرفة المنفعة من لياقة وفائدة وراحة ولكن الأمر يذهب إلى الانفعال والإحساس بالجميل وهو ما يقوله الكلاسي بغير قيوده المنطقية العقلية..

2. بين حقيقة الكلاسي وجمال الرومانسي:
الكلاسي في عقلانيته ينشر الحقيقة بمعناها العام مبتعدا عن المشاعر الذاتية التي قد تمس التقاليد الثابتة لديه.. وكما يقول بوالو "لا شيء أجمل من الحقيقة فهي وحدها أهل لأن تُحَبّ ويجب أن تسيطر على كل شيء" الأدب المقارن ص 37 وتطبيق هذا في بقاء السيد سيدا والخادم خادما وفي ثبات التقاليد واستقرار القواعد الأرستقراطية كونها الحقيقة المطلقة.. في حين سنجد أن الرومانسي يعتمد رؤية كما يقولها ألفرد ديموسيه “لاحقيقة سوى الجمال ولا جمال دون حقيقة" [ص37 في الأدب المقارن عن A. de Musset Poesies Nouvelley op.cit, p157]
إذ كل مبدع يستند إلى هدي قلبه ومشاعره من دون قيود مسبقة ومن هنا لا يرى الرومانسي نفسا عظيمة أو وضيعة بلا احترام بل يميلون إلى الرحمة في مجموع البشر وإنصاف ضحايا المجتمع والحلم بالعدالة والمجتمع المثالي الذي لا يحترم حدودا تفصل طبقاته بظلم يجب أن يزول وأن يتم تكسير تقاليد لا مبرر لوجودها حيث حرية الإنسان منها تجعله أقرب للفضيلة والجمال من الالتزام به..

3. غاية الأدب:
تظل غاية الأدب كلاسيا خلقية فالملحمة في الأدب القديم أخلاقياتها وغاياتها تكمن في إصلاح العادات وأنماط الشعر وفنون السرد والدراما أيضا. ما يوجب انتصار الحق على الباطل ويبقى الأدنى منفصلا عن الأعلى ولا ينتقل إليه ودائما ينتصر الواجب على العاطفة والمشاعر إلا إذا تم ذلك في ميدان يُكشف فيه عن مواطن الضعف الإنساني تحذيرا للمتلقي منن ذاك الخلل أو الضعف.. يقول راسين عن فيدرا: إنه في هذه المسرحية لم يجلُ شهوات الأنفس إلا ليبين كل ما ينتج عنها من اضطراب ويجعلها بغيضة عند الناس فيكون المسرح الكلاسي مدرسة للفضيلة مثلما مدارس الفلاسفة..[ص 38\39 من الأدب المقارن Racine Phedre preface] وهذا ما يعمد رؤى الأدب الأرستقراطي المحافظ في الإيمان بحق الملوك الإلهي وبالإسقاط القدسي الديني بخلاف الرومانسية التي جاءت ثورة زلزلت تلك الرتابة والمحافظة وسلطة المجتمع وتقاليده المفروضة قسرا على الفرد وقد رافق هذا متغيرات اقتصادية اجتماعية وظهور أبرز للبرجوازية حيث صار الأدب الرومانسي تعبيرا عن الثورة ومصالح الفرد بالضد من مظالم المجتمع ما عمق الطابع الإنساني الشعبي في اختيار نماذجه وموضوعاته الأدبية الأمر الذي انعكس بوضوح في قضايا الدين والمجتمع والطبيعة.. حيث ولّد اهتماما بقراءة الكاتب وعبقريته وتفاصيل أحالتنا إلى تاريخ الأدب وإلى النقد الأدبي الحديث اللذين كانا سببا في نشأة الأدب المقارن الذي نحن هنا بصدد معالجته وتناوله..
ومن جهود القرن 18 كان ولهلم شليغل W. Schliegel 1746-1845 من الأوائل الذين بحثوا في عبقرية المبدع وعملوا على تفسير النتاج الأدبي في جمالياته رومانسيا [ص 43 من ألدب المقارن عن Mme De stael: De l’Allemagoe, 2e partie, chap XXXI] وقد ظهر للتفسير الرومانسي اتجاهان أساسيان:
الأول ينظر إلى الأدب في علاقته بالبيئة والمجتمع كما ورد في قراءات ومعالجات مدام دي ستال..
والآخر ينظر إلى الأدب في علاقته بمؤلفه كما ورد في قراءات ومعالجات سانت بوف..
مدام دي ستال 1766-1817: داعية الرومانسية في فرنسا التي اعتمد نقدها طابعا علميا يتجه للتفسير والتعليل ودراسة الأدب بمناحيه الفردية والاجتماعية. تأثرت بالألمان في بناء النقد على الفلسفة بما يطبع النهضة الأدبية ويشمل أسس النقد الحديث. وعلى الرغم من عدّها الأدب ذا طابع فردي إلا أنها مضت لقراءة النتاج الأدبي بتأثره بالنظم الاجتماعية وما يخضع له المجتمع من أشكال الحكم والديانات والتقاليد وما ينشأ من ذلك من فكر إحساس وذوق ، تقول دي ستال "إلى الشرائع والقوانين يكاد يرجع كل التخالف أو التشابه الفكري بين الأمم وقد يرجع إلى البيئة كذلك شيء من هذا الاختلاف ولكن التربية العامة للطبقات الأولى في المجتمع هي دائما وليدة النظم السياسية القائمة والحكمة مركز مصالح الناس والأفكار والعادات تتبع تيار المصالح [ ص 45 من الأدب المقارن
[B]Mme De Stael De la Ltterature considere dans ses Rapporte avec les lastitions Socials, parts, 1887 chapXVIII
ولأن الأدب صورة للمجتمع صار لزاما قراءة التاريخ ونواحي البناء المدني الأخرى وبناء على القمارنات التي عقدتها مدام دي ستال يمكن تلمس أوليات لقراءة الأدب المقارن وولادته...

سانت بوف 1804 - 1869
بحث في دلالة الأدب على مبدعه وليس على المجتمع فقط. حيث يتتبع الأمور خطوة فخطوة مع المبدع وتحقيقه منتجه الإبداعي ووظيفة النقد الأدبي عند سانت بوف هي النفاذ إلى ذات المبدع لكي يفهمه قرّاؤه "فالنقد يعلم الآخرين كيف يقرؤون" ص 49 من الأدب المقارن ويرى بوف أن كل كاتب ينتمي إلى نوع خاص من التفكير يكشف عنه استقصاء طبائع العقول في الأدب الذي ينتمي إليه. وفي هذا الموضع ينجح بوف بموازنة النص الأدبي بنظائره لتتضح خصائصه وقد يكون من ذلك موازنة في آداب مختلفة ما يدخل في الأدب المقارن وبعامة تظل الحركة الرومانسية في استيلاد الأدب المقارن محدودة الأثر في موضع النصح لمقارنات بين النصوص في آداب مختلفة..

النهضة العلمية


أما الاتجاه الذي كان له الأثر الأكبر والأوضح في ولادة الأدب المقارن فهو الظهور الأبرز للنهضة العلمية بخاصة بعد القرن التاسع حيث الدراسات النظرية والعملية على أساس منهجي وكان للتطورات في العلوم الصرفة والإنسانية آثارها الواضحة في النقد والأدب فعاد الأدب يصف واقع الحياة وصفا موضوعيا متحررا من جموح الخيال وانطلاق العاطفة .. فظهرت الواقعية وانحسرت الرومانسية في القصة والمسرحية وفي الشعر لصالح البرناسية...
إن بروز جمهور العمال للأدب الجديد هو الذي وطد رؤى الواقعية والطبيعية باتجاهها العلمي فلقد جاء داروين 1809-1882 بنظرية تطور الأنواع إلى جانب نظرية ماركس في الاقتصاد وولادة علم النفس على يد فرويد ودور فريزر في تتبع جذور الأديان وكان لهذه العلوم الوضعية دورها في توجيه الأدب والنقد..
لقد وضه أرنست رينان 1823-1892 كتابه تاريخ أصول المسيحية في مجلدات (1863-1883) وكتابه التاريخ العام والمنهج المقارن للغات السامية 1855 وهو ما دفع لقراءة مقارنة لأصول الأفكار وكيفيات وآليات التكوين... ثم يأتي الأنجليزي بوسنت بكتابه الأدب المقارن 1881 ليدرس ظاهرة الأدب في تأثراتها في دول مختلفة بالعوامل المخصوصة اجتماعيا لتلك الدول بين القبلي والمدني الإقطاعي والرأسمالي فكان خطوة أخرى باتجاه التأسيس لألأدب المقارن الذي تابعه فيه الفرنسي ليتورنو في كتابه تطور الأدب في مختلف الأجناس الإنسانية 1894 ص 53 ..
ولظهور علم الحياة المقارن والتشريع المقارن والميثولوجيا المقارنة وعلم اللغة المقارن كان على ألأدب وتاريخه أن يتجه نحو الأدب المقارن الذي انتهجه إدجار كينيه 1803-1875 وفي إشارة مباشرة واضحة للأدب المقارن وهي العلامة الأبرز في جهود التأسيس كما عند كل من هيبوليت تين وبرونتيير :
أما هيبوليت تين 1828 – 1863 فقد بنى نظرياته على مبدأين:
· التأثير المتبادل بين العوامل الطبقية والعوامل النفسية في نمو الجنس البشري وتقدمه..
· إن بحوث العلم لابد أن تؤثر في الأدب والفن..

وقد أكد إمكان قراءة النتائج النفسية من قراءة المؤثرات المولِّدة لها وهو ما أشار إليه في كتابه تاريخ الأدب الإنجليزي حيث حدد عوامل التأثير في الجنس البيئة الزمن وقد قصد بالجنس تلك الاستعدادات الأولية لمجموعة إنسانية محددة بأصل واحد سواء منها النفسية أم العضوية ما يعني أن الصفات التي تشكلت عبر التاريخ تحولت لما يشبه الغرائز الفطرية وهناك الجنس العربي \ العبري \ الآشوري \ الآري والأخير ينقسم على الهندي والأوروبي والأخير ينقسم على اللاتيني والسكسوني

مثال: ويبدو من قراءة أسفار أنجلو سكسونية قوة الخيال وفيض الإحساس أمام الطبيعة وقوة الإرادة والاتجاه العملي....

فيما قصد بالبيئة le milieau المحيط وعوامله الطبيعية والسياسية والاجتماعية المؤثر في تفكير الإنسان وهو مؤثر من خارج الإنسان في حين الجنس مؤثر من داخله..

مثال: اشتراك بوالو راسين في العوامل العامة لمحيطهما على الرغم من تميزهما فرديا...
مثال: تفسير قلة الشعر عند قريش في مكة والطائف بقلة الحروب كما يرد عند ابن سلام الجمحي ..

وقد وضع للزمن أو القوة الموجهة من تأثير الماضي في الحاضر والمكتسب من حركة ثقافة شعب عبر تاريخه موضعا ثالثا في التأثير في النتاج الأدبي ما يشير لنظرة تين في الأثر العميق للمذهب الطبيعي في الأدب...

برونتيير 1849 – 1906

استعان بنظرية التطور لداروين ورأى تطبيقها لدراسة الأدب وتبادلها التأثير:

- ففي الرسم كان دينيا أسطوريا ثم تاريخيا فواقعيا مع مستوى تطور البشرية وحرفيتهم.ز
- وفي القصة كانت ملحمية أسطورية ثم خيالية إنسانية فرومانسية فواقعية
وهكذا فكل جنس أدبي له معالمه وله مرحلته بما يعكس تطورا حتميا للعوامل الاجتماعية الطبيعية المؤثرة
وتعميقا لرؤى برونتيير فقد دعا لمقاربات الأدب المقارن وأثرها في ولادة الأجناس الأدبية المختلفة

بعامة لابد من الإشادة بكون مجموع المساهمات الصغيرة منها والكبيرة كانت المسرح للتمهيد للأدب المقارن حتى وصلنا جوزيف تكست في أواخر القرن 19 الأب الحقيقي للأدب المقارن وتبعه فردينان بالدنسبيرجيه وبالتأكيد بول فان تيغم
حيث الأدب المقارن يدرس الآثار الأدبية في كيفية تكوينها وظروفهتا التاريخية والاجتماعية على وفق تفاعلات ألوان لغوية قومية متعددة...

**د لا ل**
2012-12-30, 15:09
محاضرات في الادب المقاااااارن *تاااابع*



1......http://www.a17up.com/files/31585.pdf


2.......http://www.a17up.com/files/31584.pdf

3.......http://www.a17up.com/files/31587.pdf

منصوري مصطفى
2012-12-30, 15:12
السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
لدي بحث بعنوان أحمد شوقي و أحتاج إلى بعض العناوين لمراجع
من لديه أي عنوان فليفدنا به و أجره على الله



ََ1-أحمد شوقي - بقلم الدكتور زكي مبارك إعداد وتقديم كريمة المؤلف،دار الجيل ، لبنان، 1988،

**د لا ل**
2012-12-30, 15:58
الادب المقارن *تابع*



الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن



يُعدُّ مصطلح «الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن» comparative literature مصطلحاً خلافياً لأنه ضعيف الدلالة على المقصود منه. وقد نقده كثير من الباحثين ولكنهم في النهاية آثروا الاستمرار في استعماله نظراً لشيوعه. فمثلاً عدّه بول فان تييغم Paul Van Tieghem[ر] مصطلحاً غير دقيق, واقترح مصطلحات أخرى أقرب دلالة إِلى موضوعه مثل: «تاريخ الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن», و «التاريخ الأدبي المقارن», و «تاريخ المقارنة». واقترح ماريوس فرانسوا غويار M.F.Guyard مصطلحاً بديلاً هو «تاريخ العلاقات الأدبية الدولية». والملاحظ أن كلمة «تاريخ» هي المضافة في مختلف الاقتراحات البديلة, ذلك أن الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن هو في الأصل تاريخ للعلاقات المتبادلة بين الآداب وللصلات والمشابهات المتجاوزة للحدود اللغوية والجغرافية, وفيما بعد أضيفت الحدود المعرفية.

وعلى أية حال يبدو أن افتقار المصطلح إِلى الدقة كان له بعض فضل في الإِبقاء على وحدة هذا النسق المعرفي وفي مقدرته على استيعاب مناطق معرفية جديدة, أخذت تدخل نطاقه بعد منتصف القرن العشرين.

وترجع نشأة الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن إِلى العقد الثالث من القرن التاسع عشر, وربما إِلى سنة 1827 حين بدأ الفرنسي أبل فييمان Abel Villemain يلقي محاضرات في السوربون بباريس حول علاقات الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) الفرنسي[ر] بالآداب الأوربية الأخرى. والجدير بالذكر أنه استعمل فيها مصطلح «الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن» وإِليه يعود الفضل في وضع الأسس الأولى لمنطقه ومنطقته, في وقت بدأ يشهد تصاعد اهتمام العلوم الإِنسانية في أوربة بالبعد المقارني في المعرفة, إِذ نشأ «القانون المقارن» و«فقه اللغة المقارن» و«علم الاجتماع المقارن» وغيرها. وتعدُّ فرنسة المهد الأول للأدب المقارن, إِذ استمرت تطوراته بعد فييمان, وكان لذلك عوامل لغوية وسياسية واجتماعية وثقافية متداخلة أدّت إِلى أن يكون الفرنسيون أول من تنبّه إِلى قيمة التراث المشترك بينهم وبين المناطق الأوربية الأخرى, مما خلق الأساس الأول للتفكير المقارني.
وفي البدء كان التطور بطيئاً, فبعد فييمان ظهر جان جاك أمبير Ampére وألقى في مرسيلية سنة 1830 محاضرات في الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن لفتت إِليه الأنظار وأتاحت له أن ينتقل بعد ذلك بسنتين إِلى باريس ليلقي محاضرات حول علاقات الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) الفرنسي بالآداب الأجنبية. وفي سنة 1835 ظهرت مقالات فيلاريت شال Chales على صفحات مجلة باريس مؤكدة العلاقات المتينة بين الآداب الأوربية.

وعند نهاية القرن التاسع عشر أخذت تتلاحق التطورات وظهر جوزيف تكست Texte في ليون (1896) وحاضر في الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) الأوربي, وخلفه على منبر ليون فرنان بالدنسبرجيه F.Baldensperger الذي ألف كتابه «غوتة في فرنسة» سنة 1904, ثم سُمي أستاذاً في السوربون حينما أحدث فيها كرسي للأدب المقارن سنة 1910 وظهرت بعد ذلك مجلات وفهارس, وعرف الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن طريقه إِلى التطور النسقي منذ مطلع القرن العشرين. وإِلى جانب فرنسة سجلت بعض البلدان الأوربية إِسهاماً نسبياً في نشأة الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن, وكانت إِسهاماتها تتزايد مع تزايد نزعة «العالمية» في المعرفة ومع تزايد قوة الاتصالات والمواصلات في العالم. وقد ظهر أول كتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) في بريطانية عن الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) في أوربة بين عامي 1837-1839, لهنري هالام H.Hallam, غير أن التطورات بعده كانت شديدة البطء. وفي ألمانية تأخر ظهور الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن حتى ثمانينات القرن التاسع عشر, واشتُهر من مؤسيسه ك مورهوف K.D.Morhof وشميدت Schmidt كارييه M.Carriére, ولم يدخل الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن نطاق الدراسة المنظمة إِلا بعد سنة 1887 بفضل ماكس كوخ Max Koch الذي أصدر مجلة «الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن». ولكن دخول الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن إِلى مناهج الجامعة لقي معارضة شديدة وتأخر حتى مطلع القرن العشرين.

وتعرقل ظهور الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن في إِيطالية بسبب حدة النزعة القومية. وفي عام 1861 أمكن إِنشاء كرسي له في جامعة نابولي. ولكن كروتشه B.Croce[ر] تصدى للأدب المقارن وشنّ على أنصاره حملة قوية وحاول تسفيه منطقه, وبذلك كان له أثر في تاريخ تطور الدراسة المقارنة في إِيطالية بسبب ما كان يتمتع به من نفوذ فكري.

وإِذا كانت نهاية القرن التاسع عشر قد شهدت تطور الأبحاث التطبيقية في الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن وبدء الاعتراف به في الجامعات فإِن بداءة القرن العشرين شهدت تأسيس الوعي النظري لمنهج الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن. وقد تابعت فرنسة تطورها السباق فنشأت فيها كراسٍ جديدة للأدب المقارن في الجامعات. ومنذ سنة 1911 أخذ فان تيغم ينشر مقالات نظرية في المنهج المقارني. وفي عقد واحد تبلورت نظرته إِلى الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن في مقالاته في مجلة «الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن» ورصيفتها مجلة «مكتبة الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن».
وفي عام 1931 أصدر فان تييغم أول كتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) نظري عرفه العالم بعنوان «الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن», وظل هذا الكتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) مرجعاً أساسياً في بابه حتى اليوم, وترجم إِلى عدد كبير من اللغات, ومنها اللغة العربية في منتصف القرن العشرين. وتتابعت بعد ذلك المؤلفات الفرنسية في الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن نظرية وتطبيقاً, ومن أشهرها كتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) غويار «الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن» عام 1951 وترجم كذلك إِلى العربية عام 1956. وبدءاً من هذا التاريخ أخذت تظهر في فرنسة تحديات لما يمكن تسميته بالنظرية الفرنسية التقليدية في الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن, وكان أبرزها الهجوم الحاد الذي شنّه رنيه إِيتيامبل R.Etiemble على فان تييغم وغويار, وظهر بعد ذلك في كتابه «الأزمة في الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن».

وقد تعثر الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن في الدول الأوربية الأخرى ولم يصب تطوراً في بريطانية ربما حتى تسعينات القرن العشرين وكذلك كان شأن ألمانية وإِيطالية والاتحاد السوفييتي. وإِن كان ملاحظاً أنه ابتداء من الستينات انتعش الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن في القارة الأوربية والعالم كله, وذلك مع ازدياد نشاط الرابطة الدولية للأدب المقارن AILC. وزاد من قوة هذا التطور النشاط الأمريكي المتسارع في مجال البحث المقارني وفي المؤتمرات الدولية, والحق أنه في سنوات معدودات حقق المقارنون الأمريكيون حضوراً مرموقاً في مختلف أوجه البحث المقارني مع أن الولايات المتحدة دخلت متأخرة نسبياً في حقل الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن. ومن أجل استكمال الخريطة العامة لنشأة الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن تحسن الإِشارة إِلى التواريخ الرئيسية التالية:

1889 تولى تشارلز جيلي C.M.Geyley تقديم مادة النقد الأدبي (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=4423&vid=18) المقارن في جامعة ميشيغن, ثم انتقل إِلى جامعة كاليفورنية وأنشأ عام 1902 قسماً للأدب المقارن. 1890-1891 أنشأت جامعة هارفرد أول كرسي للأدب المقارن في أمريكة, تحول عام 1904 إِلى قسم كامل. وفي سنة 1946 تولى رئاسته هاري ليفين Harry Levin وأعاد النظر في برامجه, وخلفه ولتر كايزر W.Kaiser.

1902 جرى إِحياء كرسي قديم للأدب العام يعود إِلى سنة 1886 في جامعة كورنل Cornell على يد كوبر الذي أصبح فيما بعد رئيساً لقسم كامل للأدب المقارن فيها من 1927-1943.
على أن دراسة الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن في أمريكة ظلت حتى العشرينات مختلطة بـ «الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) العام» و«أدب العالم» و«الروائع» و«الإِنسانيات». وفي الأربعينات بدأ يظهر تميزه في الجامعات وصاحب ذلك ظهور مجلات للأدب المقارن في عدة جامعات مثل أوريغون Oregon عام 1949. ومن أهم التطورات في هذا المجال صدور المجلد الأول من «الكتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) السنوي للأدب العام والمقارن Yearbook of General and Comparative Literature» وذلك عن جامعة (نورث كارولينة) عام 1952.

وفي عام 1961 انتقلت إِدارة الكتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) إِلى جامعة إِنديانة Indiana, وما زال يصدر عنها حتى اليوم.

ومنذ الخمسينات بدأت تتوالى الكتب الجامعية في الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن, وتسود فيها طريقة التأليف الجماعي أو الدراسات المجموعة, وتتنوع مادة هذه الكتب بين النظرية والتطبيق كما تتنوع وجهات النظر. ومن أبرز التطورات في تاريخ الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن تأسيس الرابطة الدولية للأدب المقارن عام 1955. وتعقد هذه الرابطة مؤتمراتها العامة كل ثلاث سنوات ولها نشاطات متنوعة, وقد عقد مؤتمرها الأول في البندقية بإِيطالية. ومنذ ذلك الحين انحصرت مؤتمراتها واجتماعاتها في العواصم الغربية, حتى عام 1991 عندما عقد مؤتمرها الثالث عشر في طوكيو, وفي ذلك إِيذان بتزايد إِسهام اليابان في الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن, وبخروج الرابطة جغرافياً من بوتقة الغرب. على أن الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن بقي حتى اليوم علماً غربياً, وبقي إِسهام المنظومة الاشتراكية فيه محدوداً, وأقل منه إِسهام البلدان النامية.

ومنذ البدء اختلط مفهوم «الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن» بمفهومي «الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) العام» و«الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) العالمي». والملاحظ أنه حتى نهاية الثمانينات وبعد كل ذلك التطور المهم الذي حققه الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن, ما زالت هذه المفهومات مختلطة حتى في بعض الجامعات العريقة. ومن هنا كان الربط الدائم بين الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن والأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) العام في تسميات الأقسام الجامعية في دول أوربية كثيرة. كذلك يلاحظ أن الكتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) السنوي الأمريكي ما زال يحمل تسمية الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) العام إِلى جانب الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن. وقد آن أوان التفريق بين هذه الحقول المعرفية الثلاثة.

فالأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) العالمي world literature مصطلح من وضع غوته[ر], وكان ينطوي على حلم بزمان تصير فيه كل الآداب أدباً واحداً. ولكنه تحول بالتدريج إِلى الدلالة على تلك السلسلة الذهبية من الأعمال الأدبية التي قدمتها قرائح من مختلف شعوب العالم, وترجمت إِلى اللغات المختلفة, واكتسبت صفة الخلود, وارتفعت إِلى مصاف الروائع classics المعترف بقيمتها الفنية والفكرية في كل أنحاء العالم, وبالطبع تنضوي هذه الروائع تحت تخصصات الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن. والملاحظ أن سلسلة الروائع العالمية ظلت حتى ستينات القرن العشرين تحت تأثير المركزية الأوربية Euro- centralism, ولكنها أخذت تتسع بالتدريج لبعض الأعمال خارج نطاق الغرب, ربما بتأثير نمو التبادل الثقافي والتوسع في مفهوم الجوائز الأدبية العالمية.

أما الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) العام general literature فمصطلح استعمل غالباً لوسم تلك الكتابات التي يصعب أن تُصنَّف تحت أي من الدراسات الأدبية والتي تبدو ذات أهمية متجاوزة لنطاق الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) القومي. وهي أحياناً تشير إِلى الاتجاهات الأدبية أو المشكلات أو النظريات العامة في الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18), أو الجماليات. كما صُنِّفت تحت هذا العنوان مجموعات النصوص والدراسات النقدية والتعليقات التي تتناول مجموعة من الآداب ولا تقتصر على أدب واحد. وهكذا يتطابق الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) العام أحياناً مع مبادئ النقد ونظرية الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18), أي مع كل دراسة أدبية تركز على التنظير ولا تقتصر أمثلتها على أدب واحد.

ويقل استعمال مصطلح «الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) العام» اليوم ويكاد ينحصر في الدلالة على أنواع متفرقة من الدراسات الأدبية التي يصعب أن تُصنف في نطاق الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) القومي أو العالمي أو المقارن.

ولم تزل الخلافات بشأن منطق الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن ومنطقته قائمة حتى اليوم وإِن كانت تضيق تدريجياً لتفسح في المجال لمفهوم مشترك سيجري تحديد عناصره هنا بعد استعراض تاريخيّة اتجاهات الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن. يتبع....





http://illiweb.com/fa/empty.gif (http://cubba.keuf.net/t903-topic#top) http://illiweb.com/fa/empty.gif (http://cubba.keuf.net/t903-topic#bottom)

**د لا ل**
2012-12-30, 16:00
إِن المفهوم الأصلي للأدب المقارن هو مفهوم ما يسمّى جوازاً «المدرسة الفرنسية التقليدية», إِذ حدد مؤسسها الفعلي بول فان تييغم الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن «بأنه دراسة آثار الآداب المختلفة من ناحية علاقاتها بعضها ببعض» كما أكد جان ماري كاريه أن الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن يعتمد على مفهوم التأثر والتأثير من خلال الصلات بين الآداب أو الأدباء من بلدان مختلفة, واستبعد المقارنات غير القائمة على الصلات من منهجية الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن. كما رفض كل من كاريه وغويار فكرة التطابق بين الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) العام والأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن. وعدّ غويار الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) العام والأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) العالمي « مطمعين غَيْبييّن» وآثر أن يسمي الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن, تاريخ العلاقات الأدبية الدولية. وقد تمسكت هذه المدرسة بالمنهجية التاريخية الصارمة, وحاولت تمييز منهجية الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن ومنطقه ومنطقته من سائر الدراسات الأدبية واقتربت من العلمية والحياد, وتناولت أحياناً بمهارة, وأحياناً بآلية جامدة, مسائل مثل الشهرة الأدبية والنفوذ مثل غوتة في فرنسة, وطوّرت منهجاً يذهب إِلى أبعد من جمع المعلومات التي تتعلق بالمراجعات والترجمات والتأثيرات ليتفحص الصورة الفنية ومفهوم كاتب معيّن في وقت معيّن إِلى جانب عوامل النقل المتعددة كالحوليات والمترجمين والصالونات والمسافرين, وكذلك وجّهت انتباهها إِلى عوامل التلقي والجو الخاص والوضع الأدبي الذي أدخل فيه الكاتب الأجنبي, وبالإِجمال :«فقد تم جمع كثير من الشواهد عن الوحدة الصميمة بين الآداب الأوربية خاصة, كما ازدادت معرفتنا بالتجارة الخارجية للأدب». غير أن هذه المدرسة ما كادت تستوي على قدميها وتحقق وجوداً أكاديمياً معترفاً به حتى انبثقت من أحشائها أصوات معترضة تنكرها أشد إِنكار, وقام رنيه إِيتيامبل في الخمسينات, على رأس مجموعة من الكتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) اليساريين, بمهاجمة هذه المدرسة على أساس أنها تمثل المركزية الأوربية الاستعمارية وأنها قدمت آداب العالم جميعاً كما لو كانت منبثقة من بحر الآداب الأوربية أو منصبةً فيه, ولم تُعط آداب آسيا وإِفريقية وأمريكة اللاتينية حقها من البحث والاستقصاء. وقد هاجم إِيتيامبل زميله غويار واتهمه بالتعصب الإِقليمي والقومي وتركيز كل أضواء التأثير على الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) الفرنسي, وطالب المقارنين أن ينحّوا جانباً «كل شكل من أشكال الشوفينية والإِقليمية وأن يعترفوا أخيراً أن حضارة الإِنسانية التي جرى في سياقها تبادل القيم على مدى آلاف السنين لا يمكن أن تُفهم أو تتذوق من دون إِشارات متواصلة إِلى هذه التبادلات التي تقتضي تركيبتها منا ألاّ نركّز نظام بحثنا حول لغة واحدة معينة أو بلد واحد معيّن».

وابتداء من الستينات بدأت الأفكار الأمريكية ذات الطابع العملي والانفتاحي تسيطر على ساحة الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن. وقدم رينيه ويلك نظرات تركيبية شمولية وفي الوقت نفسه انبرى هنري رِماك H.Remak بتقديم اتجاه جاد للخروج من المعضلة, وذلك في مقالة منقحة ومزيدة ومفصلة عام 1971, وفيها راجع مفهومات الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن واتجاهاته بنفسٍ علمي جريء ومسؤول وانتهى إِلى توسيع منطقه ومنطقته على النحو التالي:

«الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن هو دراسة الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) خلف حدود بلد معيّن, ودراسة العلاقات بين الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) ومجالات أخرى من المعرفة والاعتقاد مثل الفنون كالرسم والنحت والعمارة والموسيقى, والفلسفة, والتاريخ, والعلوم الاجتماعية كالسياسة والاقتصاد والاجتماع, والعلوم, والديانة, وغير ذلك. وباختصار هو مقارنة الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) بمناطق أخرى من التعبير الإِنساني».

ويلاحظ على هذه التعريف: أنه ينطلق من فكرة التأثر والتأثير ليتجاوزها إِلى المشابهة أي أنه يركز على العلاقات ولا يجعلها شرطاً لازماً, وأنه يضيف بعداً جديداً إِلى منطقة الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن بدفعه إِلى دراسة العلاقات بين الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) وحقول المعرفة الأخرى ولاسيما الفنون. وبذلك يسجل نقطة إِضافية شديدة الأهمية. وقد بدا رماك متساهلاً في موضوع صلة الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن بالتذوق الأدبي, ولكنه بالنتيجة احتفظ بجوهر منطق الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن وهو دراسة الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) خارج حدوده الجغرافية واللغوية والمعرفية. وتبدو نظرية رماك أكثر قبولاً اليوم في العالم.

ومن الملاحظ أن بلدان أوربة الشرقية لم توجه عناية خاصة للأدب المقارن, وكانت منطلقاتها بوجه عام مستوحاة من ثورة إِيتيامبل. وتُعدُّ هنغارية ويوغسلافية أكثرها احتفاءً بالأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن.

والملاحظ أنه جرى دائماً تساؤل حول وظيفة الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن وامتحان لها. ومثل هذا التساؤل لا يتم عادة إِلا على الحقول المعرفية المستجدة, ذلك أن العلوم لا تقدم نفسها تقديماً نفعياً مباشراً. ومع ذلك يمكن القول إِن الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن:
ـ يقدم فهماً للأدب أفضل وأكثر شمولاً وأقدر على تجاوز جزئية أدبية منفصلة أو عدة جزئيات معزولة.

ـ ويميز ما هو محلي وما هو إِنساني مشترك.

ـ ويحدد الصلات والمشابهات بين الآداب المختلفة وبين الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) وحقول المعرفة الأخرى.

ـ ويسهم في تخليص الأقوام من النزعة الشوفينية والنرجسية المسيطرة في مجال الآداب القومية المختلفة.

ـ ويقدم للنقد الأدبي ودارسي الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) فرصة ممتازة لتوسيع آفاق معرفتهم وتوثيق أحكامهم حتى الجمالية منها, لأن المقارنة تبقى أقوى أسلحة الناقد إِقناعاً.

ـ ويقدم فرصة ممتازة لتطور نظرية أدبية قائمة على فهم طبيعة امتدادات الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) خارج حدوده.

وقد جرت الإِشارة في ثنايا البحث إِلى أعلام الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن البارزين وإِلى أبرز المؤسسات والمنظمات والمجلات التي تُعنى به وتضع نفسها في خدمة مجالاته.

وإِذا انتقل الدارس إِلى الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) العربي وجد أن الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن حقل معرفي فتي لا تكاد تبين له أصول في التراث الأدبي القديم, ذلك أنه كان لدى العرب في الماضي اعتداد خاص باللغة والشعر (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=161975&vid=18) وإِشاحة نسبية عن آداب الأمم الأخرى, مما أدّى إِلى أن يكون نشاطهم في حقل التبادل الأدبي أقل من نشاطهم في الحقول المعرفية الأخرى كالعلوم والفلسفة على أن غير العرب تأثروا تأثراً واضحاً بالأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) العربي فدرسوه وألّفوا على غراره. وفي عصرنا الحاضر ما زال هذا التيار من الاعتداد بالأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) واللغة فاعلاً بحيث يخلق رأياً عاماً لا يستريح إِلى المقارنات مع الآداب الأخرى ويجهد في تأكيد الأصول العربية للفنون الأدبية الوافدة كالقصة (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=162009&vid=18) والمسرح. ومن الملاحظ أن معظم الأدباء البارزين في عصر النهضة كانوا أكثر انفتاحاً في مجال التفاعلات الأدبية, ووضعوا أساساً لنهضة الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن في عصرنا. وكان لرواد النهضة الأدبية في الشام أثر كبير في الاستنارة الأدبية, وهكذا لمعت, إِلى جانب بناة النهضة من أبناء الكنانة مثل رفاعة الطهطاوي[ر] وعلي مبارك[ر] والشيخ حسن المرصفي, أسماء شامية مبكرة في مجال المقارنة مثل أديب إِسحاق[ر] وأحمد فارس الشدياق[ر] ونجيب الحداد, وتميز من بينهم علمان بارزان, هما سليمان البستاني[ر] وروحي الخالدي[ر], وضعا حجر الأساس للبحث التطبيقي في الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن على الرغم من أنهما لم يشيرا إِلى المصطلح بكلمة واحدة.

وتتلخص جهود البستاني في هذا الحقل بتعريب «الإِلياذة» الذي استغرق منه ثماني سنوات (1887-1895) وبمقدمتها المقارنية التي استغرقت منه ثماني سنوات أخرى, وقد أنجز شروح الإِلياذة ومقدماتها في 200 صفحة أواخر سنة 1903. وأجرى البستاني مقارنات جريئة بين الملحمة (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=4495&vid=18) اليونانية والشعر (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=161975&vid=18) القصصي العربي وأكد وجود ملاحم عربية قصيرة تختلف عن الملاحم الإِفرنجية الطويلة, وانطلق من هذه المقارنة للتوصل إِلى أحكام شاملة تتعلق بالشعر (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=161975&vid=18) الجاهلي والشعر (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=161975&vid=18) اليوناني القديم, وحكم لصالح الشعر (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=161975&vid=18) الجاهلي, وأشار بعد ذلك إِلى التشابه بين عبقرية ابن الرومي[ر] وعبقرية هوميروس[ر]. وكذلك كتب البستاني مقالاً حوى شيئاً من تاريخ الشعر (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=161975&vid=18) عند العرب والإِفرنج. وهكذا يكون البستاني صاحب سبق لا ينكر في مجال الدراسة المقارنة, وإِن كانت مقارناته تدل على أن ثقافته الأصلية كانت عربية تقليدية وأن ما قرأه من أفكار أدبية غربية ليس أكثر من نوافذ صغيرة للمقارنة.

وعند منعطف القرن التاسع عشر, على أية حال, ساد مناخ عام للمقارنة, أسهم فيه الشاعر أحمد شوقي[ر], وكتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) مثل خليل ثابت وأسعد داغر ونقولا فياض[ر] ويعقوب صروف[ر], وحملت مجلة «المقتطف» آنذاك رسالة الوعي المتفتح.

وإِذا ترك الدارس الأشخاص وانتقل إِلى الأعمال المفردة فإِنه يجد أن الكتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) العربي الأول المكرس للأدب المقارن التطبيقي هو كتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) «تاريخ علم الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) عند الإِفرنج والعرب وفكتور هوغو» للكاتب المقدسي روحي بن ياسين الخالدي. وقد نُشر الكتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) مقالات متسلسلة في مجلة «الهلال» بين سنتي 1902ـ1903,ثم طبعته دار الهلال سنة 1904 وطبع ثانية سنة 1912, وأعيد طبعه سنة 1985.
وهذا الكتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) مؤلف نوعي في الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن التطبيقي لا تنقصه سوى التسمية المقارنية, وتتصدره على الغلاف الفقرة المقارنية التالية:

«وهو يشتمل على مقدمات تاريخية واجتماعية في علم الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) عند الإِفرنج وما يقابله من ذلك عند العرب إِبان تمدنهم إِلى عصورهم الوسطى, وما اقتبسه الإِفرنج عنهم من الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) والشعر (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=161975&vid=18) في نهضتهم الأخيرة وخصوصاً على يد فكتور هوغو. ويلحق بذلك ترجمة هذا الشاعر الفيلسوف ووصف مناقبه ومواهبه ومؤلفاته ومنظوماته وغير ذلك».

وكتب الخالدي مقدمة للكتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) بالفرنسية تنبئ عن حسه المقارني. وأورد في كتابه مقارنات ومقابلات ودراسات للتبادلات الأدبية بين العرب والفرنجة, وترجمات وتعليقات, تدل كلها على أنه كان شديد الالتصاق بالمنهج المقارني.

وتوالى بعد الخالدي الاهتمام بالدراسات التطبيقية ذات الطابع المقارني, ومن أقدمها سلسلة مقالات نشرها فخري أبو السعود على صفحات «الرسالة» في الأعوام 1935-1937 وقابل فيها بين الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) العربي والأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) الإِنكليزي من دون اعتناء بناحية التأثر والتبادل. وفي عام 1935 كذلك ظهر الجزء الثالث من كتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) الأديب الحلبي قسطاكي الحمصي[ر] المعنون «منهل الورّاد في علم الانتقاد» وتضمن بحثاً مطولاً عن «الموازنة بين الكوميدية الإِلهية ورسالة الغفران», وفي الثلاثينات أيضاً نشر عبد الوهاب عزام دراسات في مجلة «الرسالة» حول العلاقات بين الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) العربي والأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) الفارسي. وفي الأربعينات ظهر كتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) لإِلياس أبو شبكة بعنوان «روابط الفكر بين العرب والفرنجة» ظهرت الطبعة الثانية من الكتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) عن دار المكشوف في بيروت عام 1945, وهو ذو موضوع مقارني واضح. وبالتدريج انتعش هذا النوع من الدراسات واغتنى وتعددت وجهاته.

ومن الملاحظ أن اسم فخري أبو السعود ورد آنفاً في باب الدراسات التطبيقية خلافاً لما درجت عليه المصادر العربية حتى الآن من نسبة الريادة النظرية إِليه. ويبدو أن فخري أبو السعود لم يستخدم مصطلح الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن ولم يكشف عن معرفة به, على الرغم من سبقه في مجال الدراسة التقابلية أي غير القائمة على التأثر والتأثير, وأن مصطلح الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن ظهر في «الرسالة» أول ما ظهر على يد الكاتب الشامي خليل هنداوي في سلسلة مقالات تلقي ضوءاً جديداً على ناحية من الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) العربي هو, اشتغال العرب بالأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن أو ما يسميه الفرنجة Littérature Comparée, في كتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) «تلخيص كتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) أرسطو في الشعر» لفيلسوف العرب الأول ابن رشد. وقد ظهر هذا العنوان في «الرسالة» (الأعداد من 154-156 من المجلة) بتاريخ 8/6/1936, وتكرر في أعداد ثلاثة تالية. وحملت المقالة الأولى مقدمة نظرية عن الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن ومنهجه ومزاياه تُعد الأولى من نوعها في الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) العربي.

والجدير بالذكر أن مقرر الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن ظهر أولاً في أدبيات دار العلوم بالقاهرة سنة 1938, ولكن المصطلح اختفى بعد ذلك ليظهر في أواخر الأربعينات في سلسلة من الكتب الجامعية تعاقبت بمعدل كتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) كل سنتين تقريباً, وصدر أولها سنة 1948 في القاهرة بعنوان «من الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن» لنجيب العقيقي, تضمّن شذرات من الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) العام والنقد النظري غير ذات صلة مباشرة بالعنوان. وفي عام 1949 ظهر كتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) عبد الرزاق حميدة «في الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن» كما ظهر عام 1951 كتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) مقارني لإِبراهيم سلامة. وكان أهم تطور تأليفي في الموضوع ظهور كتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) الدكتور محمد غنيمي هلال بعنوان «الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن» في القاهرة عام 1953. ويُعد هلال بحق مؤسس الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) العربي المقارن, وكان كتابه أول محاولة عربية ذات وزن أكاديمي في منهجية الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن, وبدا شديد التمسك بمبادئ المدرسة الفرنسية التقليدية. وفيما بعد طبع الكتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) عدة طبعات وخرّج جيلاًَ كاملاً من المهتمين بالأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن.

وبعد الخمسينات تطور تدريس الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن في الجامعات العربية بخطوات غير حثيثة. وألفت كتب جامعية متفرقة اعتمدت كثيراً على كتاب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=3580&vid=18) غنيمي هلال. ولكن بدأت تبرز في الثمانينات اتجاهات جديدة على يد الجيل التالي, مؤذنة بحلول مرحلة نهوض جديدة أكثر وعياً للتطورات العالمية الحية.



ومن أهم تطورات الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن العربي قيام «الرابطة العربية للأدب المقارن» التي عقدت الملتقى التحضيري في جامعة عنابة بالجزائر عام 1983, والملتقى الأول في عنابة أيضاً عام 1984, ثم المؤتمر الثاني في جامعة دمشق 1986, والثالث في مراكش 1989. ويشير وضع الثقافة العربية المعاصرة إِلى أن الأدب (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=795&vid=18) المقارن يبشر بمستقبل ذي شأن في رحاب الجامعات العربية وخارجها .

حسام الخطيب

**د لا ل**
2012-12-30, 16:23
محاضرات
في تحليل الخطاب
إعداد
الأستاذ : قدور عمران




مباحث عامة














المحاضرة الأولى :

الخطاب –الملفوظ- النص .
Discours – énoncé – Texte.
1-الخطاب :
ظهر مصطلح "خطاب" في حقل الدراسات اللغوية في الغرب ، ونما وتطوّر في ظلِّ التفاعلات التي عرفتها هذه الدراسات ، ولا سيما بعد ظهور كتاب "فرديناند دي سوسور" (محاضرات في اللسانيات العامة) الذي تضمّن المبادئ العامة والأساسية التي جاء بها هذا الأخير ، وأهمها تفريقه بين الدّال والمدلول ، واللغة كظاهرة اجتماعية والكلام كظاهرة فردية ، وبلورته لمفهوم "النسق" أو "نظام" والذي تطوّر فيما بعد إلى بنية .
ففي الاستعمال العادي نتحدث عن مصطلح "خطاب" للدلالة على ملفوظات رنّانة (ألقى الرئيس خطابا) أو للدلالة على التحقير لمّا نشير بها إلى ملفوظات سخيفة (كل هذا مجرّد خطابات) ، كما يُطْلَق هذا المصطلح على كلِّ استعمال مخصوص للغة ( الخطاب الإسلامي – الخطاب السياسي – خطاب الشباب...) ، وفي كلِّ هذه الاستعمالات تبقى لفظة "خطاب" غامضة [1] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn1).
في زماننا كثُرَ استخدام مصطلح "خطاب" في علوم اللسان ، وكثرة استعمال هذا المفهوم تعود لكونه علامة على التحولات التي طرأت على إدراكنا وتصوراتنا لمفهوم الكلام . وهذا التحول ناتج عن تأثير مجموعة من العلوم الإنسانية والتي يتمّ تجميعها غالبا تحت عنوان التداولية .الخطاب يتحدّد باعتباره إنتاجا لمختلف التطبيقات القولية المستعملة في الحياة العامة داخل المجتمع[2] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn2) ، وميادين الدين والسياسة والقانون والأدب وغيرها هي مصادر ومرجعيات للخطابات المُعَدَّة والمهيأة ، والمُحَدَّدة بمجموعة من قواعد التواضع .
ونظراً لتعدد مدارس واتجاهات الدراسات اللسانية الحديثة فقد تعدّدت مفاهيم ومدلولات هذا المصطلح ، نورِد بعضها فيما يلي :
أ-خطاب : مرادف المفهوم السوسيري "كلام" ، وهو معناه المعروف به في اللسانيات البنيوية .
ب – الخطاب ما دام منسوبا إلى فاعل فهو يشكل وحدة لغوية تتجاوز أبعادها الجملة ، رسالة أو مقول.بهذا المعنى يلحق الخطاب بالتحليل اللساني لأنّ المُعْتَبَر في هذه الحالة هو مجموع قواعد تسلسل وتتابع الجمل المكوِّنة للمقول ، وأول من اقترح دراسة هذا التسلسل هوة اللغوي الأمريكي "هاريس".
ج- والخطاب حسب "بنفينيست" هو كلّ مقول يفترض متكلما ومستمعا تكون لدى الأول نية التأثير في الثاني بصورة ما .



ويمكن إضافة مفهوم آخر للخطاب بمقابلته بمفهوم "لغة" كمجموعة متناهية من العناصر مستقرة نسبيا ، فيكون الخطاب عندئذ مجالا لإبداعٍ تتشكّل فيه وبطريقة غير ملحوظة سياقات تعطي قيَّما جديدة للغة ، وهكذا فإنّ تعدّد معاني لفظة ما صنيع خطابي يتحوّل بالتدريج إلى ظاهرة لغوية .
وبهذا نصل إلى أنه على المستوى اللغوي البحت يشير مصطلح "خطاب" في معناه الأساسي إلى " كل كلام تجاوز الجملة الواحدة سواء أكان مكتوبا أو شفويا . غير أنّ للخطاب مفهوما آخر ربما فاق المفهوم الألسني البحت في أهميّته النقدية ذلك هو ما تبلور في كتابات بعض المفكرين المعاصرين وفي طليعتهم الفرنسي "ميشيل فوكو" ، ففي محاضرته "نظام الخطاب" يحدِّد "فوكو" الخطاب بأنه شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تُبْرُز فيها الكيفية التي ينتج فيها الكلام كخطاب ينطوي على الهيمنة والمخاطر في الوقت نفسه .


2-الملفوظ:L'énoncé
الملفوظ نتيجة (Résultat) ، إنه نتاج إجرائي وعملي ، لساني واجتماعي ، أما الجملة فإنها تنتمي إلى بنية نظرية ، مجردة ومستقلة ، خاضعة للوصف النحوي. فعبارة ( ممنوع التخين) ، تُعدُّ جملة إذا جرّدناها من كل سياق ، وهي ملفوظ إذا سُجِّلت في سياق معيّن ، كأنْ تُكتَب باللون الأحمر وتوضع في إطار ،وتُعلق على جدارٍ في قاعة انتظار بالمستشفى .
الملفوظ إنجاز فعّال ، متماسك ، واقعي ، متعلق بالنشاط الذي ينتج عنه ويشهد عليه في آن ، هذا النتاج يحمل علامات إنتاجه ، تلك التي تتضمن مختلف التركيبات المتجدِّدة في كل تجربة لسانية أو تلفظية ، فهو إذن مجرّد عن الاستقلالية[3] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn3) .
وكونه إنتاجا لفعل التلفظ يصبح من هذا المنظور أثرا قوليا لهذا الفعل ، وحجم الملفوظ في هذه الحالة ليست له أهمية ، فقد يتعلق ببضع كلمات أو بكتاب كاملٍ، إنه متتالية محمّلة بمعنى ومُكتفية نحويا ، كقولنا : "الطالب ناجح " ، آهٍ" ، "ما أجمله!" . كما يُطلق مصطلح "ملفوظ" للدلالة على مقطع قولي والذي يشكِّل وحدة محادثة تامة تعود إلى جنسٍ محدّد للخطاب (نشرة جوية – رواية – مقال في جريدة ) ، هناك ملفوظات قصيرة كالأمثال والحكم وأخرى طويلة كالمحاضرات .
والملفوظ محمَّلٌ بمعنى قارّ وثابت ، ذلك الذي يُحَمِّله أيّاه المتكلم ، هذا المعنى هو الذي يفكّ شفرته المتلقي ، والذي يملك نفس الشفرة ويتحدّث نفس اللغة مع الباث.[4] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn4)
في هذا المفهوم للنشاط اللساني يكون المعنى مضمّنا في الملفوظ ، بحيث يكون الفهم مرتبطا بمعرفة قواعد الصرف والنحو ، ولكن السياق يلعب دورا أساسيا محيطا(Périphérique)، بحيث يمنح المعطيات التي تُمَكِّنُ من رفع الغموض عن الملفوظات .[5] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn5)
والملفوظ هو مظهر من مظاهر تجلي الخطاب .
3-النص : Texte
مصطلح "نص" يُسْتعمل للدلالة على قيمة محدّدة ، وخاصة لمّا يتعلق الأمر بفهم الملفوظ باعتباره يشكِّل كلاًّ أو وحدة متجانسة. وقسم اللسانيات الذي يدرس هذا الانسجام والتجانس يسمى "لسانيات النص".
هناك اتجاه يتحدّث عن النص كونه إنتاجا قوليا شفويا أو مكتوبا ، ويصاغ بطريقة تسمح له بالديمومة، وبأن يكرّر ويعاد إنتاجه (يروى) ، وبأن يذاع ويُنْشَر خارج سياقه الأصلي . لهذه الأسباب يكثر الحديث في الاستعمال العادي عن النصوص الأدبية والنصوص القضائية وغيرها في حين ننفر من الحديث عن النص فيما يتعلق بالمحادثة الشفوية .
والنص لا يكون بالضرورة مُنْتَجًا من طرف متكلِّم واحد . ففي المناقشات والمحادثات يكون إنتاج النصِّ موزّعا بين عدد من المتكلمين ، هؤلاء المتكلمون يمكن أن يخضعوا لسلّم رتبي ، وبخاصة لمّا يتعلق الأمر بالخطاب المنقول ، أي لما يُضَمِّن متكلِّمٌ في حديثه أقوالا لمتكلم آخر ، هذا التّنوع في النصوص هو شكل من أشكال تباين النصوص داخل النص الواحد. والشكل الآخر من تباين النصوص يتمثّل في العلامات الأيقونية (رسوم –صور) تلك التي توظفها النصوص كعلامات غير لسانية[6] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn6) .
باختصار ، النص يتعلق بالنموذج التجريدي الذي ينظم الملفوظات تحت قاعدة نماذج الخطابات . وقد قدّم "جان ميشيل آدام" معادلتين تبينان استقلالية النص وتجريديته ، وحسبه، يجب عزل النص عن محيطه وظروف إنتاجه [7] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn7).
خطاب = نص + سياق .
نص = خطاب- سياق .

أما "بول ريكور" فإنه يرى أنّ النص هو خطاب تمّ تثبيته بواسطة الكتابة .
إنّ النص في رأي "ريكور" لا يكون نصا إلا بعد كتابته ، فكأنه يقصي ويبعد كل النصوص الإبداعية الشفوية التي نصادفها كالخطب والأمثال وغيرها . إنّ التثبيت الذي تمارسه الكتابة ما هو إلا حدث حلّ محلّ فعل الكلام ذاته .
أما "قريماس" فقد جعل النص مرادفا للخطاب أو الملفوظ .

4- الخطاب وتحليل الخطاب :
يكاد يجمع كلّ المتحدثين عن الخطاب وتحليل الخطاب على ريادة "هاريس" (1952) في هذا المجال من خلال بحثه المعنون بِ "تحليل الخطاب" ، إنّه أول لساني (أمريكي) حاول توسيع حدود موضوع البحث اللساني بجعلِهِ يتعدّى الجملة إلى الخطاب .
أما "بنفينيست" فينظر إلى الخطاب باعتباره الملفوظ منظورا إليه من وجهة آليات وعمليات اشتغاله في التواصل ، والمقصود بذلك ، الفِعْلُ الحيوي لإنتاج ملفوظ ما بواسطة متكلم معيّن في مقام معيّن ، وهذا الفعل هو عملية التلفظ ، بمعنى آخر يحدِّد "بنفينيست" الخطاب بمعناه الأكثر اتساعا ، بأنّه كل تلفظ يفترض متكلما ومستمعا وعند الأول هدف التأثير على الثاني بطريقة ما .
انطلاقا من هذا التعريف نكون أمام تنوع وتعدّد الخطابات الشفوية التي تمتدّ من المخاطبة اليومية إلى الخطبة الأكثر صنعة وزخرفة ، وإلى جانب الخطابات الشفوية نجد أيضا كتلة من الخطابات المكتوبة التي تعيد إنتاج الخطابات الشفوية وتستعير أدوارها ومراميها ، من المراسلات إلى المذكرات والمسرح والكتابات التربوية ، باختصار كل الأنواع التي يتوجه فيها متكلم إلى متلقٍ قصد التأثير فيه .
5- الخطاب الأدبي :
إن عبارة "الخطاب الأدبي" تميِّز نوعا معيّنا من الخطابات عن الأنواع الأخرى ، ووجود خطاب أدبي يفترض وجود خطاب غير أدبي ، ولكل من الخطابين مقاييس تميزه ، والتعرف على مقاييس الخطاب الأدبي تعني استخلاص أدبيّته ، أي استخلاص جملة الشروط والخصائص والمقاييس التي تجعل من خطابٍ معيّنٍ خطاباً أدبياً ، وهو ما جعل بعض الدارسين المحدثين يرون بأنّ هدف علم الأدب ليس دراسة الأدب بل دراسة أدبية الأدب ، أي خصوصيته التي لا يمكن أن تتحدّد إلا على أساس الأشكال التي تأخذها العلاقات التي تقوم بين مختلف أجزاء الخطاب ، ذلك أنّ الخطاب الأدبي لا يختص بمضمونٍ محدّدٍ كالخطاب السياسي أو الرياضي مثلا ، فكلّ الموضوعات والمضامين التي تشكِّلها العوالم المعنوية للغةٍ ما بإمكانها أن تشكِّل مادة لمضمون الأدب .
والواقع أنّ الشكلانيين ومن جاء بعدهم من النقاد الذين ساروا على نهجهم رأوا بأنّ الأدب قد ضاع وتوارى في دروب العلوم الإنسانية الأخرى ، بحيث صار النقاد لا يمارسون الأدب بل يمارسون الفلسفة أو علم الاجتماع أو التاريخ أو علم النفس من خلال الأدب ، فكانوا يفسرونه من خلال مادة مضمونه، ولا أدلّ على ذلك من الإسقاطات التي كان النص أو الأثر الأدبي مسرحا لها ، فكان همّ الناقد البحث عن آثار المواقف بل المواقف ذاتها التي عاشها صاحب النص ، وآثار مجتمعه أو بيئته، ومميِّزات الحقبة التي ظهر فيها النص ، إلى غير ذلك من المعلومات التي يكون قد تزوّد بها قبل قراءته للأثر المزمع نقده ، مع أنّ المفروض حسب وجهة النظر الحديثة –البنيوية مثلا – أن نفسِّر هذه الظواهر بالأثر، لا أن نفسره بها ، إذ أنّ النص يشكل عالما قائما بذاته يحمل في طياته ما يفسره ، ويحمل العناصر المكونة لمعناه ، وفي ذلك ما يُغْني الباحث عن الاستعانة بعناصر خارجة عنه .











المحاضرة الثانية :
علم النص .
مصطلح "علم النص" ليس جديداً في معناه ، فقد استعمله الشكلانيون الروس منذ سنوات العشرينات من القرن الماضي بلفظ مغاير ، حيث استعمل "ياكبسون" في كتابه الشعر الروسي الحديث ما أسماه "العلم الأدبي" ، وجاراه في استعمال هذا المصطلح رفيقه "ايخنباوم" منظِّر الحركة الشكلانية حين تحدّث في مقال له بعنوان "نظرية المنهج الشكلاني" عن بعض مبادئ العلم الأدبي والجمالي[8] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn8) .
إنّ الحديث عن تأسيس "علم النص الأدبي" يثير لدينا نوعا من ردِّ الفعل ، ويجعلنا نتساءل عن بعض الأمور التي يمكن لنا أن نعبِّر عنها من خلال التساؤلات التالية:
- ألا يعني حديثنا عن تأسيس علم النص الأدبي أننا ننفي ضمنيا صفة العلمية عن الدراسات الأدبية السابقة ؟
- ما المقصود بِ "علم النص الأدبي" ؟ أهو علم خالص أم علم ذو خصوصية معيّنة؟
- ما هي دواعي هذا التأسيس ؟ وما هي مبرراته ؟
كلّ هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة المشابهة تحتاج في الواقع إلى مناقشة وتحليل. إنّ الدعوة إلى تأسيس "علم النص" لا تعبِّر بالضرورة عن نفي صفة العلم عن التراث النقدي السابق ، ولكنها تعبِّر عن رغبةٍ في تجاوز ذلك التراث الذي لم يعدْ رغم جلاله وعظمة قدره قادرا على الاستجابة لحاجات الإنسان المعاصر النفسية والروحية والذوقية ولا على استيعاب مختلف المشكلات التي يطرحها الأدب في العصر الحاضر . حيث أننا نعيش اليوم عصر العلم أكثر من أيِّ وقت مضى، إذْ حقّق الإنسان في ظرف الخمسين عاما الماضية من التقدم العلمي والتكنولوجي ما لم يحققه طوال الألف عام التي سبقتها ، وقدّم العلم فيها الكثير من التفسيرات للكثير من المعضلات ، والكثير من الحلول للكثير من مشكلات الإنسان .
ألا يستلزم الأمر والحال هذه أن يستفيد الأدب والدراسة الأدبية على الخصوص من ثمار العلم ؟
1- محاولات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين :
لقد بدأ التفكير في تأسيس "علم النص" في القرن التاسع عشر مع الفيلسوف الفرنسي "هيبوليت تين" الذي حاول أن يؤسس لعلم النص الأدبي حين راح يطبِّق منهج دراسة النبات على الأدب بالتركيز على عناصر ثلاثة فيه هي ما أطلق عليه مصطلحات : الجنس – البيئة – الفترة ، على النحوالذي تُدْرسبه النبتة[9] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn9) . فرأى أنّ هذه العوامل مُمَثَّلة في العرق(الجنس) الذي ينتمي إليه الأديب والمجتمع (البيئة)الذي ينشأ فيه والحقبة الزمنية (الفترة)التي يصدر فيها عمله الأدبي .
وعلى ضوء ذلك راح "تين" يبحث له عن نماذج وأمثلة تطبيقية من الأدب الفرنسي إلى فن الرسم الإيطالي إلى الأدب الأنجليزي يدعم بها نظريته.
وبالرغم من طرافة بعض الاستنتاجات التي جاء بها "تين" فقد انطوت في مجملها على عيوب كثيرة ، من هذه العيوب طريقة اختياره للأمثلة التطبيقية التي جعلها انتقائية ، حيث كان يأخذ من الأمثلة ما يتفق مع نظريته ويتطابق مع منهجه ، أما ما يختلف معهما فيتلافاه ويسقطه من حسابه ، كما أنّ منهجه لم يفرق بين طبيعة الأدب وطبيعة العلم ، هذا ما جعل "غوستاف لانسون" يهدِّم كل ما بناه هذا المفكر بجرّة قلم ،قائلا : « ليس هناك ما يجمع بين تحليل العبقرية الشعرية وتحليل السكر إلا الاسم »[10] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn10) .
بعد محاولة "تين" هذه جاءت محاولة الداروينيين بزعامة "برونتيير" ، والوضعيين بزعامة "لانسون" كلّ من جهته لتقريب الدراسة الأدبية من المنهج العلمي . فذهب "برونتيير" إلى القول بأنّ قوانين تطور الأدب والفنون شبيهة تماما بقوانين تطور الأحياء والنباتات ، وبناءً على هذه النظرة راح يطبق منهج "داروين" في دراسته للأحياء على الأدب ، وحسب هذه النظرة يكون النوع الأدبي مثل النوع البيولوجي، ينشأ ويتطور ثم ينقرض ، لكن المنقرض منه لا يفنى تماما وإنما

– Dominique Maingueneau :" Analyser les textes de communication" . Nathan.p37. 1

[2] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref2) - Jean –François Jeandillou : " L'analyse textuelle" .Armand Colin. P108.

1 -Jean-François Jeandillou : " L'analyse textuelle" . Armand Colin .Paris .1997. p54.

2Dominique Maingueneau : "Analyser les textes de communication" . Nathan. Paris. 2000.p.5. -

3Ibid : p06. -

[6] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref6) - ibid : p 43.

[7] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref7)-Jean-François Jeandillou : " L'analyse textuelle" . Armand Colin .Paris .1997. p109.

[8] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref8)- Eikhenbaum : "Théorie de la littérature.textes des formalistes Russes" Traduits par Tzvetan Todorov. Edition duseuil . Paris .p37.

[9] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref9) - أحمد منور : علم النص من التأسيس إلى التأصيل " . مجلة اللغة والأدب . العدد12. ص13.

[10] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref10)- ريني ويسليك و أوستين وارن : "نظرية الأدب" . ترجمة محي الدين صبحي . دمشق . ص 13.

**د لا ل**
2012-12-30, 16:28
تتواصل عناصر منه في النوع أو الأنواع التي تطورت عنه ، كما هو الشأن في القصة التي تطورت عن الملحمة بعد انقراضها . وقد وُجِّهت انتقادات لهذا المنهج بدوره وأهمها أنه يفسر ظاهرة خاصة نفسية هي الأدب بقوانين عامة[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12589760&posted=1#_ftn1) .
أما الوضعيون فقد استلهموا منهجهم العلمي من "أوغست كونت" في تحديده لتطور المجتمع البشري ، وتأثر منهج "لانسون" بمنهج المؤرخين ، ولاحظ الدارسون بأن المعنى الذي قصده من عبارة "المنهج العلمي" لا يعني أكثر من التدقيق في تاريخية النص .
2- التحول الكبير نحو المنهج اللساني في دراسة النص : (القرن العشرين)
في الوقت الذي كان "لانسون" يقدم دروسا لطلابه في الأدب الفرنسي وتاريخه كان "فرديناند دي سوسير" يقدِّم نظرياته اللسانية في ما أصبح يُعْرَف بِ "دروس في اللسانيات العامة" ، ويؤسس "اللسانيات البنيوية" التي أحدثت ثورة لا مثيل لها في دراسة اللغة. ومنذ أن ظهرت نظرية "البنية" في اللسانيات عرفت الدراسات الأدبية توجها جديدا وقويا لم يتوقف مدّه إلى اليوم[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12589760&posted=1#_ftn2) ، وكأنّ الدراسة الأدبية قد وجدت أخيرا ضالتها في اللسانيات ، ويبدو ذلك من خلال التطور المتوازي بين اللسانيات من جهة والدراسات الأدبية المتأثرة بها من جهة ثانية ، ويظهر هذا التأثر بجلاء في طغيان المصطلحات اللسانية على الدراسات النقدية الأدبية بحيث لم يعد في الإمكان القيام بمثل هذه الدراسات دون اللجوء إلى المصطلحات اللسانية ، وبهذا نخلص إلى أنّ كل النظريات المهمة في تحديد مفهوم النص الأدبي جاءت من قبل باحثين لسانيين .

3- حركة الشكلانيين الروس :
لم تظهر الدراسات الأدبية الجديدة المتأثرة باللسانيات في فرنسا كما كان من المنطقي أن يحدُثَ ، بحكم أنّ نظريات "دي سوسير" و مفهوم البِنْية التي تُشَكِّل أساسها قد انطلقت من السربون ، وإنما عرفت انطلاقتها من موسكو في شتاء 1914-1915 على يد الشكلانيين الروس . وقد جعلت هذه الجماعة همها منذ البداية مُرَكّزاً على دراسة المظهر اللساني للشعر ، وما ميّز عمل الشكلانيين بعد التوجه البارز في أعمالهم أنهم أعطوا أهميّة خاصة للتصنيف والنمذجة والوصف الدقيق المفصل للعمال الأدبية ووضع المصطلح التقني الذي يعبِّر عن ذلك[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12589760&posted=1#_ftn3) ،وهو ما أعطى لعملهم صبغة علمية وموضوعية بارزة ، وشكّل الأسس الأولى لعلم النص الأدبي الحديث .
وقد وضعوا العمل الأدبي في المركز الأول واستبعدوا من دائرة الدراسة كلّ عامل يقع خارج النص مثل السيرة الذاتية للكاتب أو البيئة الاجتماعية التي نشأ فيها أو أيِّ نوع من أنواع التحليل النفسي أو الاجتماعي أو التأمل الفلسفي .
غير أنّ "باختين" وهو شكلاني رأى أنّ تناول العمال الأدبية بهذا الشكل يُعَدُّ خطأً وقصوراً في التحليل لأنه لا يُمَكِّن الفصلَ بين اللغة والايديولوجيا ، باعتبار اللغة نظام إشا
إشارات مبنيا بناءً اجتماعيا ، ومن هنا نشأ ما يمكن أن نطلق عليه اسم المدرسة الاجتماعية أو "الباختينية" ضمن الحركة الشكلانية .
وبعد انكماش حركة الشكلانيين بعد قيام الثورة في روسيا انبعثت هذه الحركة من جديد في مدرستي "براغ" 1926 و "كوبنهاجن" 1934، غير أنّ جهود المدرستين انصبّت على الصوتيات بالنسبة لمدرسة "براغ" ، وعلم النحو بالنسبة لمدرسة "كوبنهاجن" . ولم يستفد علم النص من بحوث المدرستين إلا بشكل غير مباشر حين استُغِلَّت نتائج بحوثهما في دراسة الشعر على المستويين الصوتي والتركيبي ، كما ساهمت المدرستان في بلورة نظرية المعنى لاحقا.
4- نحو وضع قوانين عامة عالمية في دراسة النص :
على غرار البحوث اللسانية البحتة اصطبغت بحوث علم النص بالصبغة العالمية ، واتجهت نحو وضع قوانين عامة تحكم النص بوجه عام والنص الأدبي بوجه
خاص لتجيب عن سؤال محدّدٍ هو : "كيف ينتج النص معناه ؟[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12589760&posted=1#_ftn1) " وتأكّد هذا المنحى العالمي في المؤتمرات الدولية والملتقيات الجهوية لسيميائية النص .
5- بين انغلاق النص على ذاته وانفتاحه على محيطه:

[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12589760&posted=1#_ftnref1) - صلاح فضل : "بلاغة الخطاب وعلم النص" . عالم المعرفة . الكويت 1992. ص106.



[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12589760&posted=1#_ftnref1) - - أحمد منور : علم النص من التأسيس إلى التأصيل " . مجلة اللغة والأدب . العدد12. ص15.

[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12589760&posted=1#_ftnref2) T.Todorov: Ibid .p15.

[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12589760&posted=1#_ftnref3) -Ibid : p17.

**د لا ل**
2012-12-30, 16:29
غير أنّه وبالرغم من هذا التوجّه العالمي في دراسة النص فإنّ الجدل القديمَ الجديدَ حول انغلاق النص الذي تبناه أصحاب الاتجاه اللغوي أو انفتاحه على محيطه كما تبناه أصحاب الاتجاه الاجتماعي ظلّ قائما وما زال إلى يومنا هذا .
فبالرغم من أنّ "جورج لوكاتش" لم يكن بنيويا إلا أنّه كان من أوائل النقاد الماركسيين الذين ربطوا بين بنية العمل الأدبي وبين المحيط الاجتماعي الذي أنتجه[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12589760&posted=1#_ftn1) . لكن هذا الاتجاه تبلور في شكل نظرية بنيوية متكاملة فرضت نفسها في مجال دراسة النص عند الناقد "لوسيان جولدمان" في ما أسماه بالبنيوية التكوينية أو التوليدية . و"جولدمان" بنيوي غير أنّه كان ينظر إلى البنية باعتبارها واقعا حيّاً متحرِّكاوفق النظرة الجدلية للواقع ،ويرفض تبعا لذلك النظر إلى العمل الأدبي مفصولا عن محيطه الثقافي والاجتماعي ، ويضرب لذلك مثلا طريفا حين يقول : « كأننا ندرس التفاحة دون أن نأخذ بعين الاعتبار الشجرة التي أنتجتها والمحيط الزراعي والمناخي الذي عاشت فيه ، فدراسة التفاحة في حدِّ ذاته مهمٌّ ، ولكنها تصبح أهمّ وأشمل إنْ لم تُفْصَل عن الشجرة والمحيط الذي عاشت فيه ».
وفي دراسته لقصيدة "القطط" لِ "بودلير" حاول تجسيد نظرته الشاملة هذه . ويتواصل هذا الاتجاه مع "جوليا كريستيفا" التي نجدها تنظر إلى النص باعتباره وحدة ايديولوجية تتشكّل من التقاء النظام النصي المُعْطى بالأقوال والمتتاليات التي يشملها في فضائه أو التي يحيل إليها فضاء النصوص ذاتها .
6- نحو منهج يتجاوز البنيوية في دراسة النصوص :
هكذا ظلّ هذا السِّجال الذي تحدّثنا عنه قائما ، لكن الشّك لم يتطرّق أبدا إلى البنيوية نفسها التي بدت إلى غاية منتصف الستينات قادرة على تفسير كل شيء حتى جاء "جاك دريدا" وقام بالمحاولات الأولى الجادة في نقد البنيوية والعمل على تجاوزها فيما عُرِف عنده بِ"التفكيكية"[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12589760&posted=1#_ftn2) .
ويشير "دريدا " في نظريته إلى أنّ فكرة النص المنسجم الذي يشكِّل وحدة تامة ومنغلقة لا وجود له ، ولا يوجد هناك نص أصيل أو متجانس ، ومن هنا يلتقي "دريدا" مع "كريستيفا" في ما تسميه "تكوينية النص" أو "أصوله".

















[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12589760&posted=1#_ftnref1) - جورج لوكاتش : "الرزاية" . ترجمة مرزاق بقطاش . ص 10.

[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12589760&posted=1#_ftnref2) - أحمد منور : "محاولة في فهم أفكار جاك دريدا " .مجلة اللغة والأدب . العدد10. ص62.

**د لا ل**
2012-12-30, 16:32
المحاضرة الثالثة:

التناص .
1- في مفهوم التناص :
لقد حدّد باحثون كثيرون مثل "كريستيفا" و "ريفاتير" مفهوم التناص ، غير أنّ أيّ واحد منهم لم يضع تعريفا جامعا مانعا له ، وهذا راجع لكون مصطلح "تناص" تتغيّر دلالته من باحث إلى آخر توسيعا وفهما بالعلاقة مع المفهوم الذي للباحث عن النص ذاته ، فللنص تعاريف عديدة تعكس توجهات معرفية ونظرية ومنهجية مختلفة ، فهناك التعريف البنيوي وتعريف اجتماعيات الأدب والتعريف النفساني وتعريف اتجاه تحليل الخطاب ، ومن دون شك فإنّ هذه الاختلافات ستؤطِّر كل تعريف يقوم به هذا الباحث أو ذاك .
فسعيد يقطين ربطه بِ "نصية النص" ، يقول : « إنّ جزءاً من نصية النص تتجلى من خلال "التناص" كممارسة تبرز عبرها قدرة الكاتب على التفاعل مع نصوص غيره من الكتاب وعلى إنتاجه لنص جديد ، هذه القدرة التي لا تتأتّى إلا بامتلاء خلفيته النصية بما تراكم قبله من تجارب نصية وقدرته على تحويل تلك الخلفية إلى تجربة جديدة قابلة لأن تسهم في التراكم النصي القابل للتحويل والاسترار بشكل دائم» .
ويطرح "يوري لوتمان" مفهوما للنص يعلق وجوده فيه على مفهوم التناص ، لأنه يجعل العلاقة بينهما كالعلاقة بين الكلام واللغة في مفهوم "دي سوسير" ، وبالتالي يجعل كلاّ من المفهومين قاعدة لتأسيس إشارية العمل الأدبي . فالتناص حسبه هو الذي يهب النص قيمته ومعناه ، ليس فقط لأنه يضع النص ضمن سياق يمكننا من فض مغاليق نظامه الإشاري ويهب إشارته وخريطة علاقاته معناها ، ولكن هو الذي يمكننا من طرح مجموعة من التوقعات عندما نواجه نصا ما ، وما يلبث هذا النص أن يشبع بعضها وأن يولد في الوقت نفسه مجموعة أخرى .
وهكذا نكتشف البؤرة المزدوجة للتناص ، إنه يلفت اهتمامنا إلى النصوص الغائبة والمسبقة ، وعلى التخلي عن أغلوطة استقلالية النص ، لأنّ أي عمل يكتسب ما يحققه من معنى بقوة كل ما كُتِبَ قبله من نصوص . كما أنّه يدعونا إلى اعتبار هذه النصوص الغائبة مكوِّنات لشفرة خاصة يُمَكِّنُنا وجودُها من فهم النص الذي نتعامل معه وفض مغاليق نظامه الإشاري ، وازدواج البؤرة هنا هو الذي لا يجعل التناص نوعا من توصيف العلاقة المجددة التي يعقدها نص ما بالنصوص السابقة ولكنه يتجاوز ذلك إلى الإسهام في البناء الاستطرادي والمنطقي لثقافة ما ، وإلى استقصاء علاقاته بمجموعة من الشفرات والمواصفات التي تجعله احتمالا وإمكانية داخل ثقافة ما ، والتي تبلور احتمالات هذه الثقافة .
وحدّدت "جوليا كريستيفا" المجال التناصي بقولها :« إنه مهما كانت طبيعة المعنى في نص ما ، ومهما كانت ظروفه كممارسة إشارية فإنه يفترض وجود كتابات أخرى .. وهذا يعني أنّ كل نص يقع من البداية تحت سلطان كتابات أخرى تفرض عليه كونا أو عالَماً بعينه ». ولا بدّ هنا من التنبيه إلى أنّ الوقوع تحت سلطان الكتابات السابقة لا يعني بالضرورة الخضوع التام والمطلق لها ، إنّ النص وهو يقيم علاقة مع نصوص سابقة أو يقع تحت سلطانها فإنّ درجة الاستسلام والانقياد لهذا السلطان مختلفة من نص إلى آخر ، لأنّ التناص يزوِّدنا بالتقاليد والمواصفات والمسلَّمات التي تمكِّننا من فهم أي نص نتعامل معه والتي أرستها نصوص سابقة ، ويتعامل معها كل نص جديد بطريقته ، يحاورها ، يصادر عليها، يدحضها ، يقبَلها ، يرفضها ، يسخر منها أو يشوهها ، وهو في كل حالة من هذه الحالات ينميها ويرسخها ، ويضيف إليها . وهذا ما يقودنا إلى تحديد بعض مظاهر التناص .
2-مظاهر التناص :
2-1- النص الغائب :
يورد "صبري حافظ" مثالا من خلال تجربته الشخصية ، وفحوى هذا المثال أنه لم يطّلع على كتاب "فن الشعر" لأرسطو إلا بعد تجربة ثقافية معيّنة ، ولكنه عندما قرأ هذا الكتاب لم يجد فيه شيئا مثيرا أو جديدا ، لأنّ معظم الأفكار الواردة فيه سبق للناقد أن تعرّف إليها في مطالعاته المختلفة ، ولهذا صرّح صبري حافظ قائلا: « وقد أدهشتني هذه الظاهرة وقتها ، ولم أعرف ساعتها أنني كنت أعيش أحد أبعاد الظاهرة التناصية دون أن أدري . فقد كان كتاب "أرسطو" العظيم بمثابة النص الغائب بالنسبة للكثير من الأعمال النقدية التي قرأتها وتفاعلت معها ، وحاورتها وتأثرت بها . النص الذي ذاب في معظم ما ما قرأت من أعمال نقدية وأصبح من المستحيل فصله عنها أو عزل أفكاره عن سدى أفكارها أو لحمتها ، لأن رؤاه وأحكامه قد صارت نوعا من البديهيات الأساسية التي تصادر عليها معظم الكتابات النقدية التي قرأتها ، وبالتالي قاعدة غير مرئية ينهض عليها البناء النقدي لهذه الكتابات ».
بمعنى أنّ هناك بعض النصوص تتسلل إلى مكوِّناتنا الثقافية من دون أن نمتلك القدرة على تحديد هذا التسلل وطبيعته ، كما أنّ هذه النصوص تكوِّن جانبا من القاعدة التي ننطلق منها في الحكم وتقييم النصوص التي ندرسها أو نتعامل معها إبداعا ونقدا .
2-2- الإحلال والإزاحة :
النص عادة لا ينشأ من فراغ ، ولا يظهر في فراغ ، إنه يظهر في عالم مليء بالنصوص الأخرى ، ومن ثمّة فإنه يحاول الحلول محلّ هذه النصوص أو إزاحتها من مكانها ، وعملية الإحلال لا تبدأ بعد اكتمال النص وإنما تبدأ منذ لحظات تَخَلُّق أجنته الأولى ، وتستمرّ بعد بعد اكتماله وتبلوره . قد يقع نص في ظل نص أو نصوص أخرى ، وقد يتصارع مع بعضها ، وقد يتمكن من الإجهاز على بعضها الآخر ، ولهذا تترك جدليات الإحلال والإزاحة بصماتها على النص ، وهي بصمات هامة توشك معها فاعلية النص المزاح ألا تقلّ في أهميتها وقوة تأثيرها عن فاعلية النص "الحالّ" الذي احتل مكانه أو شغل جزءا من هذا المكان .
2-3- الترسيب :
النص عادة ما ينطوي على مستويات أركيولوجية مختلفة ، على عصور ترسّبت فيه تناصيا الواحد عقب الآخر دون وعي منه أو من مؤلفه ، وتحوّل الكثير من هذه الترسبات إلى مصادرات وبديهيات ومواصفات أدبية يصبح من الصعب إرجاعها إلى مصادرها أو حتى تصوّر أنّ ثمّة مصادر محدّدة لها ، فقد ذابت هذه المصادر كليّة في الأنا التي تتعامل مع النص ، فالنص ينطوي على عدّة عصور ولا بدّ أن تتقبّل أي قراءة له هذه الحقيقة وتنطلق منها .
2- 4- السياق :
بدون وضع النص في سياقٍ يصبح من المستحيل علينا أن نفهمه فهما صحيحا ، وبدون السياق نفسها يتعذّر علينا الحديث عن الترسيب أو النص الغائب أو الإحلال لأنّ هذه المفاهيم تكتسب معناه المحدّد –كالنص تماما- من السياق الذي تظهر فيع وتتعامل معه .
والنص الأدبي لا يعرف واحدية السياق وإنما ينحو دائما إلى طرح مجموعة من السياقات التي قد تتباين وتتعارض أحيانا ، ولكنها في تباينها وتعارضها تتناظر مع مستويات النص وعصوره المختلفة ، كما أنّ السياق هو الذي يحدّد مجال التناص في حدّ ذاته .
2-5-المتلقي :
لم يعد القارئ تلك الذات السلبية والثابتة المدعوّة سلفا وببساطة " المرسل إليه" أي مفعولا به يقع عليه فعل الكتابة ، بل أضحى فاعلا ديناميا يؤثِّر بالنصِّ فيصنع دلالته ، وهكذا أصبحت سيرورة القراءة تُدْرَك كتفاعل مادي محسوس بين نص القاريء ونص الكاتب . فالقراء المتعاقبون هم الذين يحققون العمل الأدبي من خلال قراءاتهم المتعدِّدة والمتجددة له ، وعليه فهم يمنحون النص الأدبي حياة مستمرة ، وبهذا المعنى تصبح القراءة إعادة كتابة ، كتابة النص ، لا استهلاكا سلبيا لمُنْتَجٍ جاهز ونهائي . فالقاريء وهو يمارس فعل القراءة يتناص مع نصوص أخرى مثل الكاتب تماما ، هذه النصوص تحدِّد طبيعة العلاقة التي يقيمها مع النص المقروء .

**د لا ل**
2012-12-30, 16:33
المحاضرة الرابعة

السردية

حظيت القصة بمختلف أنواعها وبخاصة بدراسات كثيرة نشأ منها في عصرنا مبحث يسعى إلى الاستقلال بنفسه أو على الأقل إلى التخصص الدقيق والتميّز عن سائر البحوث التي يستعمل بعض أدواتها ومفاهيمها وطرائقها أحيانا ، وقد عُرِف هذا المبحث الجديد بِ"السردية" أو "علم السّرد" . وشمل في الأصل جميع ما هو متصل بالسّرد ، مع اهتمام خاص بالقصص الأدبي والفني ، ويمكن أن يُعرف هذا "العلم" بكونه فرعا من علم العلامات العام ( السياميائية) . وفيه يجتهد الدارسون لتحليل أنماط التنظيم الداخلي في بعض أنواع النصوص السردية ....
ومن هنا يحسن التمييز الدقيق بين أنواع النصوص ( نص سردي – نص حجاجي- نص وصفي) ، وأنواع الخطاب ( الرواية – الشريط السينمائي – الصور المتحركة) .
وتعود بدايات هذا المبحث الجادة إلى العشرينيات عندما انصرف اهتمام الشكلانيين إلى النصوص النثرية بعد أن كان اهتمامهم منحصرا في النصوص في النصوص الشعرية ، وفي هذا الإطار ظهرت الدراسة العلمية الدقيقة للقصة على يد "فلاديمير بروب" في كتابه "بنية الحكاية العجيبة" الذي أصدره سنة 1928 والذي عُدّ فتحاً مبينا في السردية . فقد خرج فيه صاحبه عن الدراسات العامة الرجراجة وتخصص تخصصا دقيقا في نوع قصصي كان يُعَدُّ في الغالب من أمر العامة لا من شواغل أهل العلم ، ثمّ أنّ "بروب" قد سما في كتابه عن الشواغل التاريخية وغيرها ورام ضبط نوع قصصي محدّد هو الحكايات الشعبية العجيبة وحدّد منهجا معيّنا لدراستها وهو الوصف العلمي القائم على تحديد المكونات ثم الملاحظة فالتحليل فالاستنتاج .
وبعد ثلاثة عقود تُرْجِم هذا العمل إلى الانجليزية سنة 1958 وبعدها إلى الفرنسية، فأثّر هذا البحث تأثيرا عميقا ومباشرا في البحوث القصصية التي جاءت بعده ، وتفاعل معه عالمان هما "كلود ليفي شتراوس" و "رومان جاكبسون" . كما أثّر عمل بروب في مجال تحليل الأساطير وكذلك في دراسة منطق القصة خاصة مع "كلود بريمون" الذي نشر مقالة بعنوان "الرسالة السردية" سنة 1964 ، ثم ظهر سنة1966 كتاب "قريماس" "الدلالة البنيوية" الذي عُدّ أول كتاب يؤسس لعلم العلامات السردي .
ثم تلاحقت الكتب والمقالات لبناء هذا المبحث "علم السرد" وتميزه عن سائر فروع العلوم المتصلة به .
وقد ظهر في دراسة القصة اتجاهان : اتجاه يركز على عمل النص ذاته وعلى طريقة اشتغاله ،أي على نموه وحركته ومآله وهو الاتجاه الذي استند إلى مباحث "بروب".
واتجاه ثان يركّز على وظائف النص خارج عالمه اللغوي أي على اندراجه في تفاعل متبادل مع ما هو خارج النص ، وهذا الاتجاه مثّلَه "باختين" وأعلام آخرون.
وقد بقي هذان الاتجاهان منفصلين لاختلاف الشواغل والمنطلقات والمصطلحات لدى كلّ ممثّل منهما ، وقد حاول "جيرار جينيت" أن يوفق بينهما في كتابه المشهور "صور iii ".










المبحث الثاني

المنهج البنيوي

**د لا ل**
2012-12-30, 16:35
المبحث الثاني


البنـــــــــــــــــــــــــيــــــــــــــــــــ ـــــويـــــــــــــــــــة



1-المنهج البنيوي في تحليل الخطاب القصصي:
1ـ 1.البنية الزمنية:
تتأطّـر القصّة – أيّاً كان نوعها – باعتبارها أحداثا تتوالى وفق نظام خاصٍّ بعنصرين متلازمين باعتبارهما مكتنفين ضرورة فعل الإنسان أو من قد ينوبه ، وهما: الزّمـان والمكـان .لـكنّ هـذين العنصرين مختلفان في طبيعتهما وفي تعامل الإنسان معهما،ذلك أنّ المكان ذو أبعاد ومرجعيّات ماديّة محسوسة،أما الزّمان فليس محسوساً بصفة حسّية آليّة ،وإنّما يدرك على نحوٍ مخصوصٍ.
فالإنسان يمكنه أن يمضي من المكان في أيِّ اتجاه أراد ،ويمكنه أن يرجع القهقرى،أما الزّمان فإنّه لا يستطيع إلاّ أن يمضي معه قدماً في اتجاه خطيٍّ ،فهو يتّسم بعدم قابليّة الارتداد.
والقصّة هي تخطيبٌ لمادّةٍ حكائيّة ،بكلِّ ما تستلزمه عمليّة السّرد ثمّ الكتابة من تقنيّات ،والحكاية في تحوُّلها إلى قصّة تتعرّض كما ترى "مييك بال " لعمليّات ،أهمّها عمليّة التّنظيم والتّرتيب[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn1).
فإذا كان منطق الوقائع يفترض حدوثها في سيرورة زمنيّة خطِّيّة وحيدة الاتجاه فإنّ الخطاب القصصيَّ غالباً ما يؤخِّر على مدى متفاوتٍ ذكرَ بعض الوقائع ،وأحياناً يقدِّم على تفاوتٍ مماثل بعضها الآخر، لتنشأ مع ذلك النّسيج الـمُتميِّز والمترابط علاقة تفاعل خطابٍّي من الإثارة والتّشويق ومن الفنيّة والجماليّة القصصيّة[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn2).
إنّ معاينة التّنافر الزّمنيِّ القائم بين نظام الحكي ونظام القصّة يستدعي ضمنيًّا وجود الدّرجة الصِّفر(الحكي الأول)، إنّه حاضر القصّة زمنياً ، ويتحدّد هذا الحاضر داخليًّا من خلال راهنيّة إنجاز الحدث الأوّل في القصّة، أو من خلال ما يسمِّيه "جيرار جينيت" بالحكي الأوّل ،وبذلك يتحدّد ما هو قبلُ وما هو بعدُ بعلاقته بهذا الحكي[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn3).
إنّ تحديد الحاضر يتمّ على مستوى التّمفصلات الزّمنيّة الكبرى للحكي، أي على مستوى ما يأخذه الزّمن من علاقات بين الحكاية والقصّة على مستوى عام[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn4).
وعندما ننطلق من كون الحكاية قد وقعت في الماضي يكون السّؤال:ماذا يفعل الخطاب القصصي في هذا الصدّد؟هل يحكي القصّة كشيء تمّ في الماضي؟ أم أنّه يسعى إلى ترهينها؟ وكيف يرسل الخطاب ذلك من خلال ربط علاقة الحكاية والقصّة ؟إنّ تحديد الحاضر حسب المستوى الدّاخلي يتيح لنا تحليل زمن القصّة والوقوف على تمفصلاته الزّمنيّة الكبرى والصّغرى والكيفيّة التي تمّ بها تخطيب زمن الحكاية[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn5).
تطبيق :
ورد في رواية "ذاكرة الجسد" للروائية الجزائرية "أحلام مستغانمي" الفقرة الآتية :
«أغرتني هذه الفكرة من جديد ، وأنا أستمع إلى الأخبار هذا المساء وأكتشف، أنا الذي فقدت علاقاتي بالزمن ، أنّ غدا سيكون أوّل نوفمبر .. فهل يمكن لي ألاّ اختار تاريخا كهذا لأبدأ به هذا الكتاب ؟
غدا ستكون قد مرّت 34 سنة على انطلاق الرصاصة الأولى لحرب التحرير...»[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn6)
لقد حدّدت الروائية في هذه الصفحة وهي الصفحة 24 من روايتها ما سمّيناه زمن الحكي الأول ، إنّه حاضر الرواية ، وبعملية حسابية بسيطة نتمكّن من تحديد وضبط هذا التاريخ . ( 1954 + 34 = 1988) . معنى ذلك أنّ زمن إنجاز الحدث الأول في الرواية هو 31 أكتوبر 1988. إنّ تحديد الحاضر يسمح لنا بتحديد التمفصلات الزمنية الكبرى للحكي ، ويتحدّد ما هو قبل وما هو بعد .


1 ـ1 ـ1 .النِّظام الزّمني; ordre

[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref1) - صحراوي،ابراهيم:"تحليل الخطاب الأدبي :دراسة تطبيقية" دار الآفاق-الجزائر -ط1 -1999.ص29.

[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref2) - سعيد ،يقطين :"تحليل الخطاب الروائي"-المركز الثقافي العربي-ط2-1993.ص90.

[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref3) - نفسه . ص 91.

[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref4) - نفسه :ص92.

[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref5) - نفسه : ص 95.

[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref6) أحلام مستغانمي : " ذاكرة الجسد" . ص 24.

**د لا ل**
2012-12-30, 16:36
1 ـ1 ـ1 .النِّظام الزّمني; ordre temporel ' L
ليس من الضّروريِّ_ من وجهة نظر البنيويّة _ أن يتطابق تتابع الأحداث في رواية ما أو في قصّة مع التّرتيب الطّبيعي لأحداثها، كما يُـفْتَرَضُ أنهّا جرت بالفعل[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn1).وظهر لنا في زمن المادة الحكائيّة ـ وكلّ مادّة حكائيّة ذات بداية
ونهاية ـ أنّها تجري في زمنٍ سواءٌ أكان هذا الزّمن مسجّلاً أم غير مسجّلٍ كرونولوجيّا أو تاريخياً، والتّطابق بين زمن الحكاية وزمن القصّة لا نجد له مثالا إلاّ في بعض الحكايات العجيبة القصيرة على شرط أن تكون أحداثها متتابعة وليست متداخلة.وهكذا فبإمكاننا التّمييز بين زمنين في كلِّ قصّة:
ـ زمن القصّة.
ـ زمن الحكاية.
ونقصد بزمن القصّة تجليّات تزمين زمن الحكاية وتمفصلاته وفق منظور خطابيٍّ متميِّزٍ، يبقى أن نشير إلى أنّ هناك زمناً ثالثأً هو زمن السّرد، والذي يبدو مترابطا بزمن القراءة في علاقة ذلك بتزمين زمن الخطاب أي بإنتاجيّة النّصّ[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn2).وتزمين زمن الحكاية يتمّ وفق منظورٍ خطابيٍّ متميِّز، وهي نقطة جوهريّة في العمل القصصيِّ تتمثّل في لا اعتباطية هذه التّمفصلات[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn3).وتتجلّى لنا المفارقات الزّمنيّة بوضوح من خلال الحقول الزّمنيّة وتموقعها في القصّة ،أمّا إذا تتبّعنا التّمفصلات الزّمنيّة الصّغرى وقابلناه مع الأحداث كما يُتّفَقُ أن تكون قد وقعت في الواقع، فإنّ المفارقات تبدو أكثر جلاءً ووضوحاً، ويتّضح لنا كيف تمّ تزمين زمن الحكاية وفق منظورٍ قصصيٍّ معيّن ،لنقف في الأخير على مقاصد ذلك ونتوصّل إلى هذا بمعاينة السّوابق واللّواحق وتحديد وظائفهما.
اللواحق :
اللاحقة عملية سردية تتمثّل في إيراد حدث سابق للحظة الزمنية التي بلغها السرد، وتسمى هذه العملية الاستذكار Rétrospection .
ولكل لاحقة مدى وعمق :
-المدى : هو المسافة الزمنية الفاصلة بين اللحظة التي وصلها السرد والنقطة التي عادت إليها اللاحقة .
- العمق : هو الفترة الزمنية التي تغطيها هذه اللاحقة .
وتقسم اللواحق إلى قسمين :
- لواحق خارجية : وهي التي تتعيّن نقطة المدى فيها خارج الحقل الزمني للقصة، فلا تتداخل مع القصة الأولى .
- لواحق داخلية : زمنها هو زمن القصة ، وكثيرا ما يتداخل زمنها مع زمن القصة .
وظائف اللواحق :
- إعطاء معلومات عن ماضي عنصر من عناصر القصة ( شخصية – إطار...)
- سدّ ثغرة حصلت في النص القصصي .
- تذكير بأحداث ماضية وقع إيرادها فيما سبق من السرد .

تطبيق :
1-ورد في رواية "ذاكرة الجسد" وفي الصفحة 25 الفقرة الآتية :
« ذات يوم منذ أكثر من ثلاثين سنة سلكت هذه الطّرق ، واخترت أن تكون تلك الجبال بيتي ومدرستي السريّة التي أتعلّم فيها المادّة الوحيدة الممنوعة من التدريس. وكنت أدري أنّه ليس من بين خرّيجيها من دفعة ثالثة ، وأنّ قدري سيكون مختصرا بين المساحة الفاصلة بين الحريّة ..والموت.»
هذه لاحقة ، فقد عادت الكاتبة بالقارئ ثلاثين سنة إلى الخلف بعدما حدّدت زمن الحكي الأول من قبل ، عادت به إلى زمن الثورة بتقنية من تقنيات السرد . واللاحقة عملية سردية تتمثّل في إيراد حدث سابق للنقطة الزمنية التي بلغها السّرد وتسمّى هذه العملية الاستذكار .


السوابق :
السابقة عملية سردية تتمثل في إيراد حدث آتٍ ،أو الإشارة إليه مسبقا ، وهذه العملية تسمى في النقد التقليدي عملية (سبق الأحداث ) Anticipation . وهي أقل تداولا من اللواحق ، والسوابق هي أيضا بدورها تقسّم إ‘لى سوابق داخلية وأخرى خارجية.
وظائف السوابق :
- ترد لتسدّ مسبقا ثغرة في السرد .
- تلعب دور الإنباء ، ويرد الإنباء عادة في العبارة : ( سنرى فيما بعد ) .
تطبيق :
2- ورد في رواية" ذاكرة الجسد" في الصفحة 24 هذه الفقرة :
« ولذا سيكون الغد يوما للحزن مدفوع الأجر مسبقا .
لن يكون هناك من استعراض عسكري ، ولا من استقبالات ، ولا من تبادل تهاني رسميّة .
سيكتفون بتبادل التهم ..ونكتفي بزيارة المقابر.»
هذه سابقة ، فقد استبقت الروائية الأحداث ، وأشارت إلى ما يحدث في الغد . والسابقة هي عملية سرديّة تتمثّل في إيراد حدث آتٍ الإشارة إليه مسبقا وهذ العملية تسمى في النقد التقليدي "سبق الأحداث" Anticipation .

1-1-2.المــدّة:La durée
إذا كان من السّهل أن نقارن النِّظام الزّمني لحكاية ما مع النِّظام الزّمني الذي تبنّاه الرّاوي لكي يحوِّلها إلى عمل قصصيٍّ، فإنّ الأمر يصبح أكثر صعوبة إذا تعلّق بمقارنة جادّة نريد أن نقيمها بين زمن الحكاية وزمن السّرد[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn4). و يتمثّل تحليل مدّة النّص القصصي في ضبط العلاقة التي تربط بين زمن الحكاية الذي يقاس بالثّواني والدّقائق والسّاعات والشّهور والسّنوات وطول النّصّ القصصيّ الذي يُقاس بالأسطر والصّفّحات والفقرات، ومن خلال ما تقدّم يمكن تقسيم الزّمن في القصّة إلى ثلاثة أقسام:
ـ زمن الحكاية.
ـ زمن القصّة .
ـ زمن السّرد[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn5).
وزمن السّرد هو التّجسيد الأسمى لزمن القصّة وزمن الحكاية في ترابطهما وتكاملهما[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn6)، إلاّّ أنّ مقارنته بالأزمنة السّابقة تكاد تكون مستحيلة، فِ "جيرار جينيت" يجزم بأنّه يستحيل قيّاس مدّة النصّ وزمن النّص يرتبط أوّلا بزمن إنتاجيّته[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn7)، وهذا الزّمن يستحيل قياسه لأنّه متعلِّق بالكاتب، وفي القرآن الكريم يتعلّق بالتّـنـزيل ،كما يرتبط بزمن القراءة ،والقراءات تختلف باختلاف الأفراد،وايقاعها وسرعتها متعلِّقة بالأشخاص، ولا يوجد نظام محدّد تضبط به سرعة القراءة، وقد يبدو للنّقاد أنّ زمن االنّص يلتقي مع زمن الحكاية في المشاهد الحواريّة ،أي في صيغة الخطاب المعروض حين يغيب الرّاوي ويترك الشّخصيّات تتحدّث إلى بعضها البعض، إلاّ أنّ "جيرار جينيت" يصرّ على صعوبة مقارنة زمن الحكاية بزمن النّصِّ،ويشي

[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref1) - حميد،الحمداني:"بنية النّص السردي"-المركز الثقافي العربي-ط2. 1993.ص73.

[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref2) - سعيد، يقطين: "تحليل الخطاب الروائي" . ص88

[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref3) -ـحميد،الحمداني:نفسه.ص74.

[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref4) - J .L . Domortier et F . R .Plazanet : Pour lire le recit .Editions du seuil . Paris .72. P.93

[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref5) - - Gérard Genette: F 111 . P. 7


[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref6) - -سعيد،يقطين: نفسه .ص 89.

[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref7) --Gérard genette: F111. P 122 .

**د لا ل**
2012-12-30, 16:37
ويشير إلى أنّه إذا كان الحكي الأوّل يسمح بإبراز المفارقات بين تتابع الأحداث في الحكاية وتتابعها في القصّة فإنّه يصعب عليه أن يكون منطلقا لإبراز التّداخل بين زمن السّرد وزمن القصّة، فحتى وإن كان المشهد حوارياّ معروضا بأسلوبٍ مباشر فإنّه يتمكنّ من إعطائنا نمطا أو نوعا أو مجالا للمساواة بين المقطع السّرديّ (النّصّ)والمقطع المتخيّل(الحكي) لأنّه يروي أقوالا كما قيلت دون تدخّل للسّارد، إلاّ أنّه لا يضبط السّرعة التي قيلت بها هذه الأقوال،ولا يشير إلى الزّمن الميّت الذي تخلّلها، فقد يتوقّف المتحدِّث قليلا في الحكاية أثناء حديثه ليفكِّر فيما يقوله،وقد يتباطأ المحاور في الردّ،كما يمكن أن يكون ردّه سريعا جدّا ،وعند قراءة النّصّ لا نلتزم بهذه الفلتات الزّمنيّة ،وهكذا يصبح من الصّعب الجزم بقيّاس المدّة[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn1) حتى وإن كان مجالها المشهد المعروض.
وهكذا إذا كانت دراسة المدّة وقـيّاسها غير ممكنة في جميع الحالات ،فإنّ ملاحظة الإيقاع الزّمني ممكنة دائما بالنّظر إلى اختلاف مقاطع الحكي وتباينها،لهذا يقترح"جينيت" أن يدرس الايقاع الزّمني من خلال التِّقنيات الحكائيّة التّاليّة:
الإضمار ـ المجمل ـ المشهد ـ الوقف.

1-2-1-1.الإضمــار: ةlipse
ويسمّى "الحذف" و "القطع" وهو الجزء المسقط من الحكاية،أي المقطع المسقط في القصّة من زمن الحكاية،ويلجأ إليه الرِّوائيون التّقليديّون في كثير من الأحيان ليتجاوزوا بعض المراحل من القصّة دون الإشارة بشيء إليها[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn2)، و قد يكون القطع محدّدا كقول الرّاوي ـ "ومرّت سنتان "ـ وقد يكون غير محدّدٍ كقوله ـ"وانقضى وقت طويل"ـ وإذا كان القطع عند التّقليديِّين مُصرّحا به فالرِّوائيّون الجدد استخدموا القطع الضِّمني الذي لا يصرِّح به الرّاوي وإنّما يدركه القارىء فقط بمقارنة الأحداث بقرائن الحكي نفسه[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn3). والقطع يُحقِّق مظهر السّرعة في عرض الوقائع بإلغائه للتّفاصيل الجزئيّة،حيث أنّ :
زق= 0 ، زح = س
تطبيق :
جاء في "ذاكرة الجسد"هذه الفقرة :
« انتهى رمضان . وها أنا أنزل من طوابق سموي العابر ، وأتدحرج فجأة نحو حزيران. ذلك الشهر الذي كنت أملك أكثر من مبرّر للتشاؤم منه .» ص243.
ألغت الكاتبة الأحداث التي جرت في شهر رمضان ، واكتفت فقط بالإعلان عن نهايته ، والأكيد أنّ شهرا كاملا تجري فيه أحداث كثيرة ، ولكن الكاتبة اختارت أن تسقطها من روايتها بهذه التقنية المسماة تقنية الإضمار أو الحذف .

1-1-2-2 .المجمل: Sommaire
ويمكن تسميّته "الملخّص" أو القصّة الموجزة ،يختزل فيه الرّاوي أحداثاً ووقائع يُفترض أنّها جرت في سنوات أو أشهر أو ساعات في صفحات أو أسطر قليلة، دون التّعرّض للتّفاصيل[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn4) وقد ظلّ المجمل حتى نهاية القرن 19 يشكِّل عنصراً ملائما للانتقال بين مشهدين في العمل القصصي ،فيشكِّل بذلك النّسيج الذي يربط بين وحدات النّـصّ القصصي. وهذا النّسق عبارة عن تقلّص للحكاية على مستوى النّصّ،وهو عنصر يُمَكِّن حسب "جيرار جينيت" الانتقال من مشهد إلى المشهد الموالي، وتكون معادلة المجمل النّظرية كما يلي[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn5):
زق> زح
تطبيق :
ورد في الرواية ما يلي :
« يوم 10نوفمبر 1955 ، بعد صلاة المغرب ، كان مصطفى بن بوالعيد ومعه عشرة آخرون من رفاقه ، قد هربوا من سجن (الكديا) ، وقاموا بأغرب عمليّة هروب من زنزانة لم يغادرها أحد ذلك

[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref1)-Ibid: 123

[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref2) حميد،الحمداني: نفسه .ص77.

[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref3)Ibid: P139

[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref4) - حميد،الحمداني:نفسه. ص75

[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref5) - جميل،شاكر.وسمير،المرزوقي:"مدخل إلى نظرية القصة" -ديوان المطبوعات الجامعية-الدار التونسية للنشر-1985.ص50

**د لا ل**
2012-12-30, 16:39
تطبيق :
ورد في الرواية ما يلي :
« يوم 10نوفمبر 1955 ، بعد صلاة المغرب ، كان مصطفى بن بوالعيد ومعه عشرة آخرون من رفاقه ، قد هربوا من سجن (الكديا) ، وقاموا بأغرب عمليّة هروب من زنزانة لم يغادرها أحد ذلك اليوم ..سوى إلى المقصلة . بعد ذلك سقط مصطفى بن بوالعيد وبعض من فرّوا معه شهداء في معارك أخرى لا تقلّ شجاعة عن عمليّة فرارهم .» الرواية ص 324.
في هذا المقطع من الرواية لخّصت الكاتبة قصة فرار الشهيد مصطفى بن بوالعيد من السجن واستشهاده بعد ذلك في ثلاثة أسطر ، ولو شاءت لجعلت من هذه القصّة رواية لوحدها وذلك بذكر كلّ التفاصيل ،أما وأنها قلّصتها بهذا الشّكل المكثّف والمركّز فتكون قد طبّقت تقنية المجمل .

1-1-2-3.المشهد : Scéne
هو المقطع الحواريُّ الذي يأتي في تضاعيف السّرد ،وهو يمثِّل الفترة الحاسمة، فبينما يقع غالباً تلخيص الأحداث الثّانويّة يصاحب الأحداث والفترات الهامّة تضخّم نصّيٌّ[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn1)، لذلك فالمشهد هو اللّحظة التي يكاد يتطابق فيها زمن القصّة بزمن الحكاية من حيث مدّة الاستغراق.
ز ق = ز ح
ومع ذلك ينبغي أن لا نغفل أنّ الحوار الواقعيَّ الذي يمكن أن يدور بين أشخاص معيّنين قد يكون بطيئا أو سريعا حسب طبيعة الظّروف المحيطة،كما أنّه ينبغي مراعاة لحظات الصّمت أو التّكرار ممّـا يجعل التّحفظ على الفرق بين زمن حوار النّص وزمن حوار الحكاية قائماً على الدّوام[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn2).
تطبيق :
جاء في نفس الرواية ما يلي :
«- هل يسعدك أن أناديك "حياة" ؟
قلتِ متعجبة :
- لماذا ؟..ألا يعجبك اسمي الحقيقي ..أليس أجمل؟
قلتُ :
- أنه حقا أجمل ..حتى إنني تعجّبت وقتها كيف خطر اسم كهذا في بال والدك.» الرواية ص 110.
توقّف السّرد في هذا المقطع وفسح المجال أمام شخصيات الرواية لتبادل الحديث وبذلك تساوى زمن القصّة وزمن الحكاية .
1-1-2-4.الوقف :Pause
ويسمّى الاستراحة ،والوقف يقتضي عادة انقطاع السّيرورة الزّمنيّة ويعطِّل حركتها نتيجة توقّفات معيّنة يحدثها الرّاوي بسبب لجوئه إلى الوصف،إذ إنّ الرّاوي عندما يشرع في الوصف يعلِّق بصفة وقتيّة تسلسل أحداث الحكاية أو يرى من الصّالح قبل الشّروع في سرد ما يحصل للشّخصيّات توفير معلومات عن الإطار الذي ستدور فيه الأحداث[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn3).
غير أنّ الوصف باعتباره استراحة وتوقّفا زمنيّا قد يفقد هذه الصِّفة عندما يلجأ الأبطال أنفسهم إلى التّأمل في المحيط الذي يوجدون فيه، كما أنّ الرّاوي المحايد بإمكانه أن يوقف الأبطال على بعض المشاهد ويخبر عن تأمّلهم فيها واستقراء تفاصيلها ،ففي هذه الحالة يصعب القول بأنّ الوصف يوقف سيرورة الحدث، لأنّ التّوقّف هنا ليس من فعل الرّاوي وحده ولكنّه من فعل طبيعة القصّة وحالات أبطالها ، ولقد قدّم "جيرار جينيت" مثالا حيّـا من رواية "بحثا عن الزمن الضائع" ل "مارسيل بروست" فرأى أنّ أكثر من ثلث مقاطع الوصف في هذه الرِّواية لا يسبِّب تعطيلا زمنيّا في مسار الأحداث وهو يقول في هذا الصّدد[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn4):"إنّ الوصف لا يحدّد أبدا استراحة او انقطاعا في القصّة أو-بحسب التّعبير التّقليدي-انقطاعا في الفعل".

ومع ذلك ففي الجانب النّظري ينتج عن الوصف مقطع من النّص تطابقه ديمومة صفرٍ على نطاق الحكاية.
زق = س ، ز ح = 0
تطبيق :
جاء في الرواية ما يلي :
« ما زلت أذكر ملامح تلك العجوز الطيّبة التي أحبّتني بقدر ما أحببتها والتي قضيت طفولتي وصباي متنقلا بين بيتها وبيتنا . كان لتلك المرأة طريقة واحدة في الحبّ ، اكتشفت بعدها أنها طريقة مشتركة لكل الأمهات عندنا .» الرواية ص 107.
أوقفت الروائية سرد الأحداث ولجأت إلى الوصف ، لتقدّم لوحة تصف فيها شخصية من شخصيات الرواية .
1-2.التّواتر: La fréquence
التّواتر في السّرد هو مجموع علاقات التّكرار بين النّصّ والحكاية، وبصفة موجزة ونظريّة، من الممكن أن نفترض أربعة أنواع من هذه العلاقات[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn5):
1.أن يروى مرّة واحدة ما حدث مرّة واحدة،ويسمّى القصّة المفردة .
مثال على ذلك :
وذلك ما لمسناه في رواية "ذاكرة الجسد " لما ذكرت حادث استشهاد مصطفى بن بوالعيد ، فالحدث وقع مرّة واحدة وذُكِرَ في الرواية مرّة واحدة .
«بعد ذلك سقط مصطفى بن بوالعيد وبعض من فرّوا معه شهداء في معارك أخرى لا تقلّ شجاعة عن عمليّة فرارهم .» الرواية ص 324.

2.أن يروى أكثر من مرّة ما حدث أكثر من مرّة، وهو شكل آخر للقصّة المفردة.
3.أن يروى أكثر من مرّة ما حدث مرّة واحدة، ويسمّى هذا الشّكل القصّة المكرّرة.
مثال على ذلك :
جاء في سورة الأعراف ، الآية 138ما يلي :
﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَام...﴾ ومضمون الآية يشير إلى إنقاذ بني إسرائيل من فرعون ، وهذا الحدث وقع مرّة واحدة في تاريخ بني إسرائيل ولكنّ القرآن الكريم أعاد ذكره في سورة يونس الآية 90: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ ...﴾
4- أن يروى مرّة واحدة ما حدث أكثر من مرّة، ويسمّى القصّة المؤلّفة.
مثال على ذلك :
في سورة الكهف وفي صدد الحديث عن مكوث الفتية في كهفهم ، ذكر القرآن الكريم حدث تمثّل في الرعاية الإلهية التي كانوا محاطين بها في الآية 17 من السورة :﴿ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً }﴾ فحدث الرعاية من حرّ الشمس كان يتكرّر كل يوم طيلة
طيلة السنوات التي قضاها الفتية في الكهف إلا أنّ القرآن ذكره مرّة واحدة.



[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref1) - نفسه:ص93


[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref2) - حميد،الحمداني: نفسه. ص78.


[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref3) - جميل،شاكر.وسمير ،المرزوقي: نفسه. ص80.


[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref4)-Gérard Genette : F111.P133

[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref5) - J.L . Demorti er et Fr.Plazanet : Pour lire le récit. A.de boek- Bruxelles-1985.p.97.

**د لا ل**
2012-12-30, 16:41
1-3.الصّيغة : Mode
يقوم السّرد على دعامتين أساسيّتين :أوّلهما أن يحتوي على قصّة تروي أحداثا معيّنة ، وثانيتهما أن يعيِّن الطّريقة التي تـُحكى بها تلك القصّة، ذلك أنّ قصّة واحدة يمكن أن تُحكى بطرقٍ متعدِّدة، وهكذا فالسّرد هو الكيفيّة التي تروى بها القصّة عن طريق القناة التالية:

الراوي

المروي له


¬ القصة¬


وهذه القناة تخضع لمؤثِّرات بعضها متعلِّق بالرّاوي والمرويِّ له، والبعض الآخر متعلِّق بالقصّة نـفسها .وإذا شكّل
التحام التّرتيب بسرعة السّرد الوجه الأول لجماليّة العمل السّردي، فإنّ التحام صيغة السّرد بصوت الرّاوي يشكِّل الوجه المقابل له لِيُكَوِّنا معاً وحدته الكليّة،ويتكوّن منهما معاً النّسيج الجمالي الذي يؤدِّيه الخطاب السّردي.
إنّ وظيفة الخطاب السّردي القصصيِّ لا تتمثّل في إصدار الأوامر وإعلان الشّروط وتسجيل التّمنيّات، بل دوره يكمن في حكي قصّة، أو نقل أحداث حقيقيّة أو متخيّلة[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn1)، وبإمكان الرّاوي أن ينـقل حكيه بهذه الدّرجة أو تلك من التّأكيد، وهذا التّنويع في الدّرجات يتمّ بتنويع صيغ الخطاب، والخطاب القصصي بإمكانه تزويد القارىء بدرجات متفاوتة من التّفاصيل ،ومن مسافات مختلفة الأبعاد ،كما أنّه بإمكان الرّاوي التّنويع في الوجهة التي تقدّم من خلالها الأحداث ، حسب وجهة النّظر هذه أو تلك ،هذه القدرة وهذه الاختلافات الصِّيغية واستعمالاتها هي المقصودة من بحثنا في الصِّيغة السّرديّة.ذلك أنّ صيغة السّرد تنهض على ركيزتين متضافرتين ،الأولى خاصّة بالمسافة القائمة بين خطاب الرّاوي وخطاب الشّخصيّات، والثّانيّة خاصّة بالمنظور أو وجهة النّظر التي ينطلق منها خطاب الرّاوي في قصصه،في حين يتقدّم صوت الرّاوي ليعيِّن الموقع الذي يحلّ فيه هذا الخطاب بالنِّسبة للمعطيات القصصيّة التي يحدِّد معالمها[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn2).
1-3-1.المسافة : Distance
صيغة الخطاب تتعلّق بالطّريقة التي يقدِّم لنا بها الرّاوي القصّة أو يعرفها، والصِّيغتان الأساسيّتان تبعا لهذا هما :
-العرض Présentation .
مثال :
«قلت لك :
- لن يأخذ أحد منك الكتابة ..إنّ ما في أعماقنا هو لنا ولن تطوله يد أحد .
قلتِ:
- ولكن ليس في أعماقي شيء سوى الفراغات المحشوّة بقصاصات الجرائد ..بنشرات الأخبار ، وبكتب ساذجة ليس بني وبينها من قرابة .» الرواية ص 106.
-السّرد Narration .
مثال :
« عندما دخلت القاعة ، كنت أول من يطأها في ذلك الصباح . كان في الجو شحنة غامضة من الكآبة . لم يكن هناك من أضواء موجّهة نحو اللوحات ، ولا أي ضوء كهربائي يضيء السقف.» الرواية ص 78.
يتضح من خلال المثالين أنّ في الخطاب المعروض يتـمّ الاستشهاد الحَرْفي بأقوال الشّخصيّات ،ونجدنا أمام محاكاة خالصة.وفي الخطاب المسرود الرّاوي يروي الأحداث دون أن يفسح المجال أمام الشّخصيّات للحديث،وهو الخطاب الأبعد مسافة.ودراسة الصِّيغة السّرديّة تقودنا إلى الإجابة عن هذين السّؤالين:من أين يتكلّم المتكلِّم؟ ولمن يتكلّم[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn3)؟.إنّ نوعيّة العلاقة التي يقيمها السّارد مع خطابه يُـضاف إليها نوعيّة المتلقِّي لهذا الخطاب تمكِّننا من تحديد الصِّيغة السّرديّة كما يلي:
1-صيغة الخطاب المسرود:خطاب يرسله متكلِّم وهو على مسافة ممّا يقوله ،وهو الأبعد مسافة.
2-صيغة المسرود الذّاتي:خطاب يرسله متكلِّم إلى ذاته عن أشياء تمّت في الماضي ويبقى بينه وبين تلك الأشياءمسافة.
3-صيغة المعروض الذّاتي:خطاب يتحدّث فيه صاحبه إلى ذاته عن فعلٍ يعيشه وقت إنجاز الكلام.
4-صيغة الخطاب المعروض (المباشر):متكلِّم يتحدّث إلى آخر دون تدخلِّ الرّاوي وهو الخطاب الأقرب مسافة.
5-صيغة الخطاب المعروض غير المباشر: هو أقلّ مباشرة من المعروض، يتدخلّ فيه الرّاوي قبل أو أثناء أو بعد العرض
وفيه نجد المتكلم يتحدّث إلى آخر والرّاوي بتدخّلاته يؤشر للمتلقي غير المباشر.
6-صيغة المنقول المباشر :معروض مباشر ينقله متكلِّم غير المتكلِّم الأصلي.
7-صيغة المنقول غير المباشر :متكلِّم ينقل الخطاب دون أن يحتفظ بالأصل[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn4).
1-3-2.المنظــور: Pérspective
لقد كثُرت الدِّراسات وتضاربت الآراء في التّعامل مع هذا المفهوم كونه يشكِّل أحد أهمِّ مكوِّنات الخطاب السّردي متمثِّلا في الرّاوي وعلاقته بالعمل السّردي.والقارىء لا يلج عالم المغامرة (القصّة) من خلال راوٍ يضطلع بتقديم المادة فحسب ، وإنّما يلجه أيضا عبر مصفاة أولى سابقة لعمليّة السّرد ،وهذه المصفاة هي عين معيّنة أو إدراك معيّن .ولئن اقترنت لفظة الرّؤية (من رأى) بمعنى الإبصار الذي غلب عليها ،فإنّها في الحقيقة أوسع مجالا وأشمل معنىً باعتبارها تتّسع لجميع ضروب الإدراك .ومن البديهي ألاّ تكون الرّؤية دائماً من خلال عيني الرّاوي ،لأنّه قد يتخلّى في موضع أو مواضع معيّنة عن وظيفة الرّؤية لإحدى الشّخصيّات ،وفي هذه الحالة تكون الرّؤية بعين الشّخصيّة ،أمّا السّرد فيتمّ بلغة الرّاوي ،لكن المادّة التي ينقلها إنّما تكون من خلال إدراك شخصيّة أخرى غيره[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn5).
وقد عرف هذا المكوِّن تسميّات عديدة ،واختيار هذا الاسم أو ذاك يأتي في أحيانٍ كثيرة محمَّلا بدلالات أو أبعاد يُعطيها أيّاه هذا الباحث أو ذاك وفق تصوّره الخاصّ ونظريّته التي ينطلق منها، ومن هذه التّسميّات التي عرف بها[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn6):
وجهة النّظر-الرّؤية-البؤرة-حصر المجال-المنظور-زاوية النّظر- التّبئير.
وإذا كان مـفهوم "وجهة النّظر"هو الأكثر ذيوعاً فإن مصطلح "التّبئير" مفضّل على جميع المصطلحات التّقليديّة الأخرى لأنّه تقنيّ محض،ويقصي كل الدّلالات البسيكولوجيّة و الايديولوجيّة التي يوحي بها مصطلح "وجهة النّظر" وبقيّة المصطلحات الأخرى،ولهذا فضّله "جيرار جينيت"على باقي المصطلحات[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn7).
وتناوُلُ منظور السّرد (أي التّبئير )يسعى إلى الإجابة عن السؤال التّالي: من يرى؟
إنّ القارىء يرى الشّخصيّة بواسطة ترهينٍ آخر يراها ،ومن خلال رؤيته أيّـاها يريها للقارىء،وتسمِّـي"بال"هذا التّرهين ب "المبئِّر"،وتحدّد هذه النّاقدة الدّائرة التّصاعديّة التي يشتغل عليها الخطاب القصصيُّ كالآتي[8] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftn8):

السّارد ¬المبئِّر ¬ العامل
¯ ¯ ¯
السّرد¬التّبئير ¬ الوظيفة
¯ ¯ ¯
المسرود ¬ المبأّر¬الموضوع

الفاعل بإنجازه

[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref1) Gérard Genett e : F111.p18-

[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref2) - سامي، سويدان:"في دلالية القصص وشعرية السرد".ص183
“Un grand nombre de ces descriptions (sans doute plus d'un tiers) sont itératif et par conséquent ne peuvent en aucune façon contribuer a ralentir le récit”. Gerard genette.F111.P.133.


[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref3) سعيد،يقطين: "تحليل الخطاب الروائي".ص134

[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref4) نفسه:ص194.

[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref5) - قسومة ،الصادق :"طرائق تحليل القصة" -دار الجنوب للنشر -تونس-2000.ص155

[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref6) سعيد،يقطين: نفسه .ص284 .

[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref7) Mieke.Bal: -Narratologie -Editons .Klinck Siek. Paris.P36.

[8] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=13#_ftnref8) Ibid:p32

**د لا ل**
2012-12-30, 16:43
الفاعل بإنجازه للفعل يشكِّل أحداث الحكاية، و المبئِّر يختار الأحداث والزّاوية التي يقدِّمها منها للقارىء وبذلك ينتج القصّة،والسّارد في عمليّة السّرد يُحوِّل القصّة إلى خطابٍ سرديٍّ.والخطاب السّرديُّ[1] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn1) ـ وأيّ خطاب آخر بقدر ما يمكن اعتباره إخباريًّا ـ ينقل رؤية محدّدة أو وجهة نظر بعينها وذلك من خلال عمليّة التّبئير التي يعتمدها المبئِّر، ولقد تعدّدت الدِّراسات في هذا المجال،نبرز منها تصوُّرات ثلاثة نقادٍ بارزين[2] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn2):
ـ النّاقد الفرنسي "جـان بويـون" قدّم ثلاث رؤيات:
1-الرّؤية مع . 2-الرّؤية من الخلف. 3-الرّؤية من الخارج.
ـ أما "تودوروف" فإنّه يحافظ على على التّصنيف السّابق ويدخل عليه تعديلات طفيفة:
1-الرّاوي>الشّخصيّة :وفيه يكون الرّاوي أعلم من الشّخصيّة .
2-الرّاوي = شخصيّة :وفيها يعرف الرّاوي ما تعرفه الشّخصيّات.
3-الرّاوي<الشّخصيّة:معرفة الرّاوي هنا تتضاءل،وهو يقدِّم الشّخصيّة كما يراها ويسمعها دون الوصول إلى عمقها الدّاخليِّ.
ـ وبناءً على عمل "بويون" و " تودوروف" يقدِّم "جيرار جينيت" تصوَّره بعد تعميده لمفهوم التّبئير وإقصائه للمفاهيم الأخرى، فيّقدِّم بدوره تقسيما ثلاثيّاً للتّبئير[3] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn3):
1-التّبئير الصّفر أو اللاتبئير. 2- التّبئيـر الدّاخلي. 3- التّبئيـر الخارجي.

ـ التّبئير الصّفر :لا يأخذ فيه الرّاوي بزاويّة رؤية محدّدة ، فيتقدّم في روايته كلّي الحضور ،له حريّة واسعة في تناول الأحداث والشّخصيّات ،لا يعترضه أيّ حاجز في رؤية الوقائع وخلفيّاتها، ما قد يحدّ من تناولها أو بلورتها ، مطلق،لا يلتزم بداخل أو خارج،حتى يكاد يصبح الحديث فيه عن تبئير صعباً[4] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn4)، فيقال إنّه غائب أو معدوم (صفر)، والرّاوي في هذه الرّؤية لا يتموقع خلف شخصيّاته ولكنّه فوقهم كإلـه دائم الحضور،وهذه الرّؤية المطلقة يستحيل أن تتمّ بواسطة شخصيّة معيّنة[5] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn5).
تطبيق :
جاء في رواية "الطيب صالح" (موسم الهجرة إلى الشمال ) ما يلي :
«فوجيء الرجل قليلا ، وخيّل إليّ أنّ ما بين عينيه قد تعكّر ، لكنه بسرعة ومهارة عاد إلى هدوئه ، وقال لي وهو يتعمّد أن يبتسم :... »الرواية ص 35.
فالراوي في هذا المقطع علِم أن محدّثه فوجيء ، كما علم أنّه يتعمّد الابتسام وكأنه عالم بما يدور في نفسيته ، فنحن هنا أمام راو يعلم كلّ شيء عن شخصياته وهو ما يسمى بالتبئير الصفر . وجاء في رواية "القاهرة الجديدة" لِ "نجيب محفوظ" هذا المقطع في الصفحة 71.
« وقال لنفسه راضيا : إنّ اللبيب بالإشارة يفهم ؛ وحسبه ذلك الآن . أما عن المستقبل فقلبه يحدثه بأنّ هذه الفتاة لن تذهب من حياته كأنها شيء لم يكن .» البطل تحدّث مع نفسه وقلبه في هذا المقطع ، فمن أين علم الراوي بذلك ؟ إننا هنا أمام تبئير منعدم ، فالراوي يعلم ما ظهر وما خفي ، لذلك يصعب الحديث عن تبئير .
ـ التّبئير الدّاخلي: هو الذي يأتي تعبيرا عن وجهة نظر شخصيّة فرديّة ثابتة أو متحرِّكة،وتكون معرفة الرّاوي هنا على قدر معرفة الشّخصيّة الحكائيّة، فلا يقدِّم لنا أيّ معلومات أو تفسيرات إلاّ بعد أن تكون الشّخصيّة نفسها قد توصّلت إليها.
تطبيق :
جاء في الرواية :
« كنت أتدحرج يوما بعد آخر نحو هاوية حبّك ، أصطدم بالحجارة والصخور ، وكل ما في طريقي من مستحيلات . ولكنني كنت أحبك.» الرواية ص 140.
في هذا المقطع يتعرف القارئ على مشاعر الشخصية الحكائية من خلال ما باحت به من مشاعر الحب .فالتبئير هنا داخلي ، مما باحت به الشخصية عن حالتها النفسية .
ـ التّبئير الخارجي: هو التّبئير الذي يتيح التّعبير عمّا يحدث من وقائع ،وما يتمّ من تصرّفات، تقع جميعا في نطاق المشاهدة العيانيّة الخارجيّة[6] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn6)، والرّاوي يعتمد فيه كثيرا على الوصف الخارجي ولا يعرف ما يدور في خلد الأبطال، فيكون فيه الرّاوي بمثابة ملاحظ خارجي أو آلة تسجيل.وما تجدر الإشارة إليه هو أنّه من النّادر أن يلتزم الرّاوي في قصّة واحدة برؤيّة سرديّة أحاديّة ،ففي الغالب ما تتنوّع الرّؤى السّرديّة داخل الخطاب القصصي الواحد[7] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn7).
تطبيق:
جاء في الرواية :
«وقبل أن تصلني كلماتك ..كان نظري قد توقف عند ذلك السّوار الذي يزيّن معصمك العاري الممدود نحوي . كان إحدى الحلي القسنطينية التي تعرف من ذهبها الأصفر المضفور ، ومن نقشتها المميزة .» الرواية . ص 52.
المبئِّر في هذا المقطع خالد ، والمُبَأَّر : السّوار الذي كان بمعصم "أحلام" ، والتبئير تمّ بالعين المجرّة ، بما رآه ، فهو تبئير خارجي .


1-4.الصوت:Voix :
إنّ تحديد صيغة السّرد بمحوريها-المنظور والمسافة- لا يكفي للإحاطة بالفضاء السّردي للخطاب القصصيِّ ،لذا حاول جينيت تناول قضيّة الصّوت منفصلة عن القضايا الأخرى ، وقصد به السّرد من حيث هو إلحاحات منتجة للخطاب السّرديِّ،فأشار إلى تغيّر الأصوات داخل النّصِّ الواحد، ودرس زمن السّرد من خلال الأنواع السّرديّة، ومستويات القصّة، والسّارد وعلاقته بالحكاية[8] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn8).
واستقصاء وضعيّة هذا الصّوت تستلزم الإجابة عن السّؤال المركزيِّ الآتي:من المتكلِّم؟
قد يأتي الصّوت الرّاوي ـ بناءً على المستوى الذي يتحدّد فيه ولعلاقته بالحكاية ـ من خارج العالم المخبر عنه أو من داخله، ومن هنا نميّز بين نوعين من السّاردين:
1-سارد غريب عن الحكاية Hétérodiégétique وهو سارد لا علاقة له بالحكاية التي يحكيها[9] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn9).
2-سارد مُتَضـمَّن في الحكاية Homodiégétique وهو سارد مُـمثّل في الحكاية (بطل أو شاهد).
وإذا سمحت علاقة الرّاوي بالحكاية ببروز نوعين من الصّوت الرّاوي فمستواه السّردي يجعل الخطاب يتّسع لأربعة أنماط رئيسيّة من الصّوت الرّاوي،وهي[10] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn10):
1-سارد خارج حكائي-متجانس حكائي Homodiégétique- Extradiégétique ،سارد في الدرجة الأولى يروي قصّته الخاصّة.
وأحسن مثال على ذلك المقامة البغدادية لبديع الزمان الهمذاني :
«حدّثنا عيسى بن هشام قال :
اشتهيت الأزاد وأنا ببغداد وليس معي عقد على نقد ... »
فعيسى بن هشام سارد في الدّرجة الأولى يروي قصته في بغداد وما جرى له مع السوادي .
2-سارد خارج حكائي -متباين حكائي Extradiégétique- Hétérodiégétique،سارد في الدّرجة الأولى يروي حكاية هو غائب عنها.
وأحسن مثال على ذلك "شهرزاد" في "ألف ليلة وليلة" ، حيث كانت تروي لِ "شهريار" كلّ ليلة مغامرة جديدة لا علاقة لها بها ، فهي سارد في الدرجة الأولى يروي قصة هو غائب عنها .
3-سارد داخل حكائي-متجانس حكائي Intradiégétique - Homodiégétique،سارد في الدّرجة الثّانيّة يروي حكايته الخاصّة.وأحسن مثال على ذلك "أحلام مستغانمي" في "ذاكرة الجسد " حيث كانت من حين لآخر تروي قصصا لخالد عن حياتها الخاصة ، فكانت تحتل المرتبة الثانية في السرد (سارد في الدرجة الثانية) وتروي قصة هي بطلتها .
« قلتِ:
طبعا لقد زرته بعد ذلك مع كل واحدة منهن على انفراد ، وزرت أيضا السيدة المنوبية ، المرأة التي كدت أحمل اسمها ....» الرواية ص 110.
في هذا المقطع تروي أحلام قصة لخالد هي بطلتها ، فهي ساردة في الدرجة الثانية بعد ما أحال لها حالد وظيفة السرد ، وهي تحكي قصتها الخاصة .
4-سارد داخل حكائي-متباين حكائي Intradiégétique- Hétérodiégétique، سارد في الدّرجة الثّانيّة يروي حكاية هو غريب عنها.
في الرواية نفسها تروي "أحلام" لخالد قصة أمها مع أبيها ، فتحتل بذلك دور سارد في الدرجة الثانية يروي قصة لا يشارك فيها ، تقول :
«تصوّر أنها يوم كانت حبلى بأبي لم تفارق مزار (سيدي محمد الغراب) بقسنطينة، حتى إنها كادت تلده هناك....» الرواية ص108.

4.1.1-زمن السّرد:
انطلاقا من مبدإ التّباين بين زمن الحكاية وزمن القصّة يمكن أن نجد حالات أربعا لزمن السّرد :
-السّرد اللاحق:هو أكثر أنواع السّرد شيوعا باعتبار أنّ زمن السّرد واقع بعد زمن الحكاية،والرّاوي وهو في زمن غير زمن الحكاية يُكيِّف المادّة الحكائيّة وفق ما طرأ عليه من تغيّرات مع الزّمن ، ومجرّد استعمال الفعل الماضي يدلّ علي هذا النّوع من السّرد.
-السّرد السّابق:يكون هذا القصّ في شكل تنبّؤ ،يقصّ به الرّاوي ما لم يحصل بعد، وهذا أمر نادر لكنّه ممكن نظرياً ،وفي هذا الضّرب من القصّ يمكن أن ندرج قصص الخيال العلمي.
- السّرد المتزامن :وهو سرد في صيغة الحاضر ،معاصر لزمن الحكاية ،ونجد هذا القصّ
القصّ عندما تحصل أثناء الرِّواية أمور يتولّى الرّاوي تدوينها،وهذا ما نجده عادة في اليوميّات.
-السّرد المدرج:هو سرد معقّد إذ ينبثق من أطراف عديدة،متعدِّد الإلحاحات، يتداخل فيه زمن القصّ وزمن الحكاية فيؤثِّر أحدهما في الآخر.
2.1.4-وظائف السّرد

[1] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref1) - سامي،سويدان: نفسه:.ص183

[2] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref2) - سعيد،يقطين: نفسه .ص289.

[3] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref3) - نفسه :ص290.

[4] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref4) - سامي ،سويدان: نفسه . ص183.

[5] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref5) Pour lire le récit : P107-

[6] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref6) - حميد ،الحمداني : نفسه.ص48.

[7] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref7) Pour lire le récit: P111.

[8] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref8) Ibid:108

[9] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref9) J.P.Goldenst ein: "Pour lire le roman" ED.A.Debok.Bruxelles.1985.P23

[10] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftnref10) - نفسه.ص49

**د لا ل**
2012-12-30, 16:43
-وظائف السّرد:
الوظيفة الأساسيّة للسّرد تتمثّل في تلك العمليّات الدّاخليّة التي يمارسها السّارد على المادّة الحكائيّة ليحوِّلها إلى خطاب قصصيٍّ ،وهي وظيفة بديهيّة إذ أنّ أوّل أسباب تواجد الرّاوي سرده للحكاية.وهذه العمليّة تستدعي مهاما أخرى تنظِّمها وتكيِّفها[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590174&posted=1#_ftn1)،ومن أهمِّ هذه المهامِّ :
-وظيقة تنسيق :فالسّارد يربط بين الأحداث، ويذكِّر بالأحداث السّابقة، ويحاول أن يكسب سرده اتِّساقا وتآلفا.
-وظيفة إبلاغ :فالسّارد أثناء سرده للحكاية يبلِّغ القارىء رسالة ذات مغزى أخلاقي أو إنساني .
-وظيفة انتباهيّة:تبرز هذه الوظيفة في النّصوص التي يخاطب فيها السّارد القارىء مباشرة ،وهي وظيفة يقوم بها السّارد ليختبر وجود الاتصال بينه وبين القارىء.
-وظيفة استشهاديّة :وتظهر حين يُثبِّت السّارد في خطابه المصدر الذي استمدّ منه معلوماته.
-وظيفة ايديولوجيّة:تتمثّل في النّشاط التّأويليِّ والتّفسيريِّ الذي يعتمده الرّاوي خاصّة في القصص المعتمدة على التّحليل النّفسي.
-وظيفة إقناعيّة :وتبرز عندما يلجأ الرّاوي إلى أساليب يحاول من خلالها إقناع القارىء بطروحاته ،وتبرز في الأدب الملتزم.
-وظيفة انطباعيّة(تعبيريّة):

وظيفة انطباعيّة(تعبيريّة):تتجلّى هذه الوظيفة في أدب السّيرة الذّاتيّة حين يتبوّأ الرّاوي المكانة المركزيّة في النّصّ للتّعبير عن عواطفه وأفكاره ومشاعره[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590174&posted=1#_ftn1).

[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590174&posted=1#_ftnref1) جميل شاكر ،وسمير المرزوقي :نفسه .ص110.


[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590174&posted=1#_ftnref1) ابراهيم ،صحراوي :نفسه .ص118

**د لا ل**
2012-12-30, 16:45
تطبيق : تحليل نص : مقاربة بنيوية .
مثل الأسود وملك الضفادع .
قال الغراب : زعموا أنّ أسودَ كبِرَ وهرِمَ فلم يستطع صيدا ولم يقدر على طعام فدبّ يلتمس المعيشة لنفسه حتى انتهى إلى غدير ماء كثير الضفادع قد كان يأتيه ويصيد من ضفادعه فوقع قريبا من الغدير شبيها بالحزين الكئيب .فقال له ضفدع: ما شأنك أراك حزينا كئيبا ؟ قال : ما لي لا أكون حزينا وإنما كان أكثر معيشتي مما كنت أصيد من الضفادع فابتليت ببلاء حُرِمَت عليّ الضفادع حتى لو لقيتُ بعضها على بعض لم أجترىء على أكله . فانطلق الضّفدع فبشّر ملكه بما سمع من الأسود فدنا الملك من الأسود فقال له : كيف كان أمرك هذا ؟ فقال الأسود : لا أستطيع أن آخذ من الضفادع شيئا إلاّ ما يتصدّق به عليّ الملك . قال : ولِمَ ؟ قال: إنّي سعيت في أثر ضفدع منذ ليالٍ لأخذها ، فطردتها إلى بيتٍ مظلمٍ لرجلٍ من النّساك فدَخَلَتْهُ ودَخَلْتُ في إثرها ، وفي البت ابن الناسك فأصبت أصبعه فظننتها الضفدع ، فلسعتها فمات ، فخرجت هاربا وتبعني الناسك ودعا عليّ وقال: كما قتلت ابني البريء ظًُلْما أدعو عليك أن تذلّ وتخزى وتصير مَرْكَبًا لملك الضّفادع ، وتُحْرَم عليك الضفادع فلا تستطيع أكلها إلا ما تصدّق به عليك ملكها . فأقبلتُ إليك لتَرْكَبَني مُقِرّأً بذلك راضيا . فرغب ملك الضفادع في ركوب الأسود وظنّ أنّ ذلك شرف له ورفعة . فركب الأسود أياما ثم قال له الأسود : قد علمتَ إني ملعون محروم لا أقدر على التّصيّد إلا ما تصدّقت به عليّ ، فاجعل لي رزقا أعيش به . قال الملك : لعمري لا بدّ لك وأنت لي مركبٌ من رزقٍ تعيش به . فأمر له كلّ يوم بضفدعتين يؤخذان فيُدفعان إليه فعاش بذلك ولم يضره خضوعه للعدوّ الذليل ، بل انتفع بذلك وصار له معيشة ورزقاً.
عبد الله بن المقفع
"كليلة ودمنة "
المطبعة الكاثوليكية . بيروت . 1957. ص 178-179.





التحليل :
1- مستوى الأعمال (الوظائف) :
يصوّر هذا النص سُنّةً في التأليف استقرّ أمرها في الحضارة الإسلامية منذ القرون الهجرية الأولى ، هي قيام النص على ثنائية السّند و المتن . وسند هذا النص مزدوج ، نصفه متجسّد في اسم مفرد معرّف (قال الغراب) ، ونصفه الآخر فعل مسند إلى فاعل مجهول (زعموا).
أما المتن فقصّة تدور فيها أحداث تضطلع بها شخصيات حيوانية تكوِّن المجال الأول للتحليل ، أي ، النص باعتباره خبرا (حكاية).
يقوم هذا النص من حيث الأعمال (الوظائف) على مقطع وحيد قِوامه عدد من المقاطع الجزئية . وهو ينطلق من وضع أولي يمكن تحديد في المقطع الآتي :
(قال الغراب : زعموا أنّ أسودَ كبِرَ وهرِمَ فلم يستطع صيدا ولم يقدر على طعام)
تتمثل أهميّته في تقديم الشخصية المحورية في القصة (أسْوَد: حيّة عظيمة سوداء) وحالتها ( كبر وهرم وعجز عن تحصيل القوت) . وهذا الوضع الأولي هو الأرضية التي سيقع استغلالها في تطوير سردية النص .
1- المقطع الجزئي الأول :
البلاء
(فدبّ يلتمس المعيشة لنفسه حتى انتهى إلى غدير ماء كثير الضفادع قد كان يأتيه ويصيد من ضفادعه فوقع قريبا من الغدير شبيها بالحزين الكئيب .فقال له ضفدع: ما شأنك أراك حزينا كئيبا ؟ قال : ما لي لا أكون حزينا وإنما كان أكثر معيشتي مما كنت أصيد من الضفادع فابتليت ببلاء حُرِمَت عليّ الضفادع حتى لو لقيتُ بعضها على بعض لم أجترىء على أكله .)
تتحرّك وحدات هذا المقطع الجزئي الأول من خلال ثنائيات أربع مولّدة للتحوّل فيه:
-الحركة والجمود : فهو ينطلق من فعلي (دبّ) و (يلتمس) ، ولكن حركته تقف عند فعلين آخرين هما (انتهى) و (وقع) .
- السرّ والانكشاف : فالأسود الشبيه بالحزين يكشف عن سرّ حزنه ويتمثّل في البلاء الذي حلّ به فحرم عليه أكل الضفادع .
- الاستخبار والإخبار : وهي الوسيلة التيبها انكشف من أمر الأسود ما كان مستترا . فالاستخبار يظهر في : " فقال له ضفدع: ما شأنك أراك...؟" . والإخبار يظهر في ردّ الأسود : " قال : ما لي لا أكون حزينا..." .
- الرغبة والرّهبة : وهي ثنائية أساسية ههنا تمسك بطرفي المقطع الجزئي ، فبدايته رغبة : " فدبّ يلتمس المعيشة..." ونهايته رهبة : " لم أجترىء...".

2- المقطع الجزئي الثاني :
التأكيد .

(فانطلق الضّفدع فبشّر ملكه بما سمع من الأسود فدنا الملك من الأسود فقال له : كيف كان أمرك هذا ؟ فقال الأسود : لا أستطيع أن آخذ من الضفادع شيئا إلاّ ما يتصدّق به عليّ الملك .)
تتوسّع دائرة الفعل ههنا من خلال ثنائيتين :
- الانفصال والاتصال : وذلك من خلال الانفتاح بفعل "فانطلق" الذي تحوّل إلى "فدنا". ونلاحظ أنّ انفصال الضفدع عن الأسود قد آل إلى اجتماعه بالملك ، ثمّ إلى اجتماع الأسود والضفد والملك معاً .
-الإخبار والاستخبار : وقد جاءت هذه الثنائية في مراحل ثلاث :
-إخبار : " بشّر ملكه ..."
- استخبار : " فقال له : كيف كان أمرك هذا ؟"
- إخبار : فقال الأسود :..."
والملاحظ أنّ هذا المقطع الجزئي ينتهي بمثل ما انتهى به سابقه ، وهو الرهبة ، وتتجسد قول الأسود :" لا أستطيع أن آخذ من الضفادع شيئا..."



3-المقطع الجزئي الثالث :
سرّ البلاء

(قال : ولِمَ ؟ قال: إنّي سعيت في أثر ضفدع منذ ليالٍ لأخذها ، فطردتها إلى بيتٍ مظلمٍ لرجلٍ من النّساك فدَخَلَتْهُ ودَخَلْتُ في إثرها ، وفي البت ابن الناسك فأصبت أصبعه فظننتها الضفدع ، فلسعتها فمات ، فخرجت هاربا وتبعني الناسك ودعا عليّ وقال: كما قتلت ابني البريء ظًُلْما أدعو عليك أن تذلّ وتخزى وتصير مَرْكَبًا لملك الضّفادع ، وتُحْرَم عليك الضفادع فلا تستطيع أكلها إلا ما تصدّق به عليك ملكها . فأقبلتُ إليك لتَرْكَبَني مُقِرّأً بذلك راضيا .)
يتصل هذا المقطع بسابقه من خلال ثنائية :
- الاستخبار والإخبار : "قال : ولِمَ؟ " – "قال : إني سعيت..."
ولكنه داخل هذا الإخبار يوظف جملة من الثنائيات التي تدفع فيه بالمعنى ، وأهمها:
- المطاردة والفرار : فالمطاردة جليّة في " إنّي سعيت في أثر ضفدع" –"طردتها" –" دخلت في إثرها " – "تبعني الناسك" . والفرار واضح في " دخلته" – خرجت هاربا" .وظاهر أنّ هذه الثنائية تحققت في مرحلتين :
- الأسود يطارد الضفدع والضفدع يفر .
- الأسود يهرب من الناسك والناسك يتبعه .
- الخطأ والعقاب : المطاردة الثانية حصلت نتيجة خطأ تمثّل في لسع الأسود ابن الناسك ظنّاً منه أنّه الضفدع ، وتلا المطاردة الثانية عقاب تمثّل في دعاء الناسك على الأسود بالذّلة والخزي .
-الوعيد والتّحقّق : الوعيد متضمّن في الدعاء ، والتّحقّق جاء في ختام المقطع في صورة مشروع (فأقبلتُ إليك لتَرْكَبَني مُقِرّأً بذلك راضيا) الذي لم يقع إنجازه بعد.





4- المقطع الجزئي الرابع :
الانفراج

(فرغب ملك الضفادع في ركوب الأسود وظنّ أنّ ذلك شرف له ورفعة . فركب الأسود أياما ثم قال له الأسود : قد علمتَ إني ملعون محروم لا أقدر على التّصيّد إلا ما تصدّقت به عليّ ، فاجعل لي رزقا أعيش به . قال الملك : لعمري لا بدّ لك وأنت لي مركبٌ من رزقٍ تعيش به . فأمر له كلّ يوم بضفدعتين يؤخذان فيُدفعان إليه فعاش بذلك ولم يضره خضوعه للعدوّ الذليل ، بل انتفع بذلك وصار له معيشة ورزقاً.)
يكتسي هذا المقطع أهميّة مخصوصة ، لأنّه يأتي مغلقا لعدد من الثنائيات التي جاءت منبثة في مواضع شتى من هذا النص ، من ذلك أنّ المشروع الذي به انغلق المقطع الجزئي السابق قد وجد امتدادا في مشروع مساعد (فرغب ملك الضفادع في ركوب الأسود) وتمّ الإنجاز بعد ذلك "فركب الأسود".
كما أنّ الرغبة التي تجلّت منذ بداية النص وجوبهت بالحرمان ، قد وجدت ههنا استجابة تمثّلت في ضمان الأسود لطعامه . وقد جاء في بداية النص " يلتمس المعيشة لنفسه..." وفي نهايته " (وصار له معيشة ورزقاً).
أما العجز الذي ظهر في بداية النص " لم يستطع صيد " فقد انقلب استطاعة تمثّلت في توفّر الأكل ( فعاش بذلك بل انتفع بذلك وصار له معيشة ورزقاً).
أما الطلب الذي ظهر في البداية " دبّ يلتمس ..." فقد أردف باستجابة " فأمر له كلّ يوم بضفدعتين" .
وانغلاق هذه الثنائيات إنّما هو إيذان بانغلاق النص .
إنّ هذه الثنائيات المولّدة للسردية قد هدتنا السبيل إلى رصد حركة المعنى في المقاطع الجزئية . والناظر بعين المحقّق أو المحلّل يرى أنّ البنية التي قام عليها النص هي بنية التضمين . فقصة الأسود والناسك مضمّنة في قصّة الأسود مع ملك الضفادع . وبين القصّتين علاقة مزدوجة ، فإن كانت القصة المُضمّنة انتهت بالفشل فإنّ القصّة الإطار انتهت بالنجاح ، والقصة المضمّنة جاءت في خدمة القصّة الإطار ، إذ هي عامل من العوامل التي سهّلت على الأسود بلوغ النجاح في مسعاه الأساسي المتمثل في الحصول على القوت .
الشخصيات :
عددها في هذا النص قليل :
في القصة الإطار أربع شخصيات : ( الأسود – ضفدع – ملك الضفادع – الضفادع).
- في القصة المضمّنة أربع شخصيات أيضا: ( الأسود – ضفدع – الناسك – ابن الناسك ) .
2-مستوى الخطاب :
ننتقل في هذا المستوى من النص باعتباره خبرا تقوم فيه شخصيات بأعمال ، إلى النص باعتباره خطابا ، وحدّ الخطاب – كما وضّحنا ذلك في الإرسال الأول- أنه ملفوظ يتمّ في مقام معيّن ، ويترتّب على هذا أنّ الخطاب يدل في آن واحد على عملية إنتاج الكلام وعلى نتيجتها الملموسة عن طريق السماع أو القراءة .
أ – الزمن :
يسعى النص السردي إلى أن ينقل إلى متلقيه أعمالا متعاقبة وحالات متحوّلة . وإذا كانت هذه الحالات والأعمال خاضعة في مستوى الخبر لزمن معلوم ، فإنّ الخطاب يعتمد زمنية أخرى هي زمنية التمثيل . فما هي العلاقة بين زمنية الخبر وزمنية الخطاب في هذا النص ؟
-المدّة : دارت أحداث هذه القصة في "أيام" لا يفيدنا النص بعددها . فإذا شئنا أن نعيد بناء الخبر وجدناه يستمرّ من عهد فتوّة الأسود إلى عهد شيخوخته . إلا أنّ النص ينطلق من عهد الكِبر والهرم . ويمكننا أن نميّز فيه بين مرحلتين زمنيتين :
المرحلة الأولى : تستمر إلى أن غدا الأسود مركوبا لملك الضفادع . ويسودها المشهد ، إذ أنّ الحوار قد طغى عليها طغيانا بيّنا . وقد جاء الحوار بين الأسود والضفدع ثم بين الأسود وملك الضفادع . فتساوى زمن الخبر (الحكاية) وزمن النص (الخطاب) .
المرحلة الثانية : تبدأ من طلب الأسود من ملك الضفادع أن يؤمّن له رزقا . وهنا نلاحظ أنّ القسم الأول يسوده المشهد (حوار

والقسم الثاني يسوده المجمل .
والنص يقوم على ظاهرة طريفة هي المراوحة بين المجمل والمشهد .
مجمل مشهد مجمل مشهد مجمل
كبر وهرم حوار بين الأسود ركبه أياما حوار بين فعاش بذلك
والضفدع الأسود والملك



-الترتيب (النظام الزمني):
زمن الحكاية (الخبر) خطي ، لا يقبل الرجوع إلى الخلف ولا يستبق الأحداث ،أما زمن الخطاب فإنّه يُدْخِل على هذا الترتيب بعض التغييرات . ففي هذا النص اختلّ التّتابع أربع مرّات :
-مرّتين في شكل ارتداد إلى الخلف وذلك باستخدام اللواحق .
(كان يأتيه ويصيد من ضفادعه) .
( إني سعيت في إثر ضفدع منذ ليالٍ ).
باللاحقتين عاد الراوي إلى الخلف ليعطي معلومات سابقة قد تفيد في فهم الحاضر.
ومرتين في شكل استباق للأحداث موظفا تقنية السوابق .
(أدعو عليك أن تذل وتخزى).
( فأمر له كل يوم ...)
وبهذا الاستباق حدّد ما يحدث مستقبلا .
-التواتر :
غلب على هذه القصة تقنية القص الإفرادي ( القصة المفردة) ، فما حدث في الحكاية مرة واحدة ذكره الخطاب مرة واحدة ، إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور القص التّكرّري (القصة المكررة) مرتين :
-(غدير كان يأتيه ويصيد من ضفادعه )
-(أمر له كلّ يوم بضفدعين يؤخذان فيدفعان إليه ).
فما حدث مرّات عديدة في الحكاية لم يُذكر في الخطاب إلا مرّة واحدة .

3-أساليب القص :
أ-المسافة :
لئن كان العنصر الطاغي على هذا النص من حيث الصيغة التي قُدِّمَت بها الأحداث هو صيغة الخطاب المعروض (حكاية الأقوال) التي تجسمت في الحوار بين الأسود والضفدع وبين الأسود وملك الضفادع فإننا لا نعدم فيه صيغة الخطاب المسرود ( حكاية الأفعال) .
وقد قامت بين السّرد والعرض علاقة تناوب .
ب-الصوت :
ندخل هذا النص من خلال راوٍ خارج عن الحكاية هو الغراب ،والذي ينقل لنا قصة الأسود مع الضفادع وهي قصة لا علاقة له بها ، فهو إذن سارد خارج حكائي -متباين حكائي Extradiégétique- Hétérodiégétique،سارد في الدّرجة الأولى يروي حكاية هو غائب عنها.
غير أن النص إذ يتقدم بنا شيئا فشيئا يحيلنا على سارد آخر هو الأسود الذي يحدّث ملك الضفادع بما وقع له مع الناسك ، فنحن إذن أمام راوٍ مندرج في الحكاية أي في الدرجة الثانية من الحكي يروي لنا قصته الخاصة فهو إذن سارد داخل حكائي-متجانس حكائي Intradiégétique - Homodiégétique، سارد في الدّرجة الثّانيّة يروي حكايته الخاصّة.
ج-الرؤية (التبئير) :
إنّ الغراب وهو يقدم هذه القصة تقدّم كراوٍ يعرف الحاضر كما يعرف الماضي ، وينقل لنا ظواهر الشخصيات كما ينقل لنا بواطنها وما يدور في خلدها فهو راوٍ مهيمن والرؤية هنا رؤية من الخلف أو ما سميناه اللاتبئير أو التبئير الصفر.
أما في القصة المضمنة (قصة الأسود مع الناسك) فالراوي فيها هو الأسود ، والرؤية التي بأّر بها الأحداث هي الرؤية المصاحبة أو ما سميناه التبئير الخارجي،لأن الأسود لم يقد إلا الأشياء المشاهدة بالعين .

4-الدلالة :
لقد عرضنا للنص من جانبيه : بما هو حكاية وبما هو خطا

**د لا ل**
2012-12-30, 16:46
4-الدلالة :
لقد عرضنا للنص من جانبيه : بما هو حكاية وبما هو خطاب .وحاولنا الكشف عن بعض القوانين التي تسري في ثناياه ، واستوت لنا من ذلك صورة عن بنية هذا النص . غير أنّ هذا النص وإن أفضى بنا تحليله إلى أنّه نظام متكامل ، أو كما يقول البنيويون نظام مغلق ، إنما هو في حقيقة نفسه علامة لا تظهر أبعادها إلا إذا رُبِطت بسائر العلامات التي تماثلها ، حتى ينشأ لنا منها نصّ أكبر هو نص الحياة .
أ- أدبياً:
يعود هذا النص إلى القرن الثاني للهجرة ، وهو عصر كان فيه التدوين قد بدأ ، وقد انصرفت جهود العلماء عصرئذ إلى صنوف المعارف وأهمها الدين والتاريخ والشعر.
وأهم ما يميز هذا النص ظاهرتان :
- أولاهما أنه التزم بالطريقة التي كانت سائدة في الكتابة آنذاك وهي الابتداء بالسند .
- وثانيتهما الخروج عن السّنة الأدبية السائدة وذلك بجعل تدور على ألسنة الحيوان .
والنص بهذا ينتهج مبدأ التقليد في الكتابة في بداية الأمر ثم يجنح إلى التجديد ، فهو نسج على كلام العرب في الكتابة من جهة ، وخرق له من جهة أخرى .
إلا أنّ اعتماده على السند كظاهرة تقليدية في ذلك العصر فيه خروج عن المألوف، إذ الكاتب جعل الراوي هو الغراب ثمّ عدل عنه إلى جماعة مجهولة في قوله (زعموا) . أما المتن فإن كان يبدو جديدا فإنه يحيل على نص قديم هندي مترجم إلى الفارسية نهل منه ابن المقفع .


ب- سياسياً :
حين نقرأ النص توقفنا كلمات من قبيل ( ملك – شرف – رفعة ...) وعلى عبارات من قبيل ( اجعل لي رزقا – أمر له – خضوعه للعدو ...) وهي كلمات وعبارات تشدّ النص إلى قاموس سياسي صريح .
يضعنا النص أمام قطبين : (الأسود وملك الضفادع) . والعلاقة بينهما ذات جانبين، فهي من جهة العادة موسومة بغلبة الأسود على ملك الضفادع ، ولكنها من جهة الاستثناء موسومة بغلبة ملك الضفادع على الأسود . فنحد أمام ظاهرة تقويض للمراتب الطبيعية . إلا أنّ عبودية الأسود ليست إلا وجها من وجوه سيادته ، وما سيادة ملك الضفادع إلا وجها من وجوه عبوديته . فنحن أمام جدلية القوة والحيلة عند الأسود ، والهزيمة والنخوة عند ملك الضفادع . باختصار ما فقده الأسود من ضعف قوته استعاده بذكائه وحيلته .
ج- اقتصاديا :
يصور لنا النص حركة صراع بين نوعين من القيم :
- قيم مادية : تجسّدت في رغبة الأسود في الحصول على الطعام .
- قيم معنوية : تجلّت في رغبة ملك الضفادع في التفاخر والتباهي .
وقد جاء تدخل الراوي في خاتمة النص دالا على أن قيم المادة أهم من قيم الروح، فالخضوع لا يضر بل يفيد .
وإذا ذهبنا بعيدا في الدلالة وقرأنا النص قراءة حضارية نجد (الأسود) الذي كبر وهرم يرمز إلى حضارة الفرس التي شاخ سلطانها في ذلك العصر (ما بين 106ه – 142ه) وهي الفترة التي عاشها ابن المقفع ، وهذا الرجل فارسي الأصل عربي النشأة ، وقد جاء من بلاد فارس ليعيش في البلاد العربية . وملك الضفادع رمز به إلى سلطان الدولة الأموية ، وركوب ملك الضفادع للأسود هو كركوب العرب للفرس ، فالمركوب هو المستفيد .

**د لا ل**
2012-12-30, 16:47
المبحث الثالث

المنهج السيميائي



المنهج السيميائي : " منهـج قريماس "
مـدخل منهجي :
عرف القرن الماضي تطوّراً كبيراً في مجال النّقد الأدبي ،وقد ظهرت اتجاهات ومدارس نقديّة مختلفة نظرت إلى العمل الأدبي من الدّاخل في خصوصيّته ، وهذه الاتجاهات جاءت كردِّ فعل لممارسات تاريخ الأدب التقليديّة والتي كانت تنحصر في وصف كلِّ ما هو متعلِّق بولادة العمل الأدبيِّ وظروف نشأته ،متجاهلة في نهاية الأمر العمل نفسه.
وكانت دراسات الشّكلانيِّين الرّوس في بداية القرن محاولةً جدِّية وجيِّدة في بعض المجالات ،واتّسمت بالعلميّة وإن لم تكن قد أسّست علماً بما في العلم من قوانين ثابتة، وتبعتها انجازات البنيويِّين في فرنسا ،والتي نظرت إلى النّصّ الأدبِّي باعتباره دائرة مغلقة، ومنذ السِّتينات بدأت السِّيميائية تتبلور كمنهج ينظر في القوانين التي تحكم المعنى .وهذه المدارس في مجملها استفادت من العلوم اللسِّانية وجعلتها منطلقاً لتأسيس نظريِّتها في التّحليل.
وظائف "بروب":
يمثِّل البحث الذي قام به "فلاديمير بروب " خطوة حاسمة في وضع منهجيّة جديدة لتحليل النّصوص.وتعتمد دراسته أساسا النّظرة الهيكليّة الوصفيّة ،فالحكاية هيكل بنيته مركّبة ،يمكن تفكيكها واستنباط العلاقات التي تربط بين مختلف وظائفها في مسار قصصي معيَّـن.
وقد تمكّن "بروب"بعد دراسته لما يناهز المائة حكاية عجيبة من استنتاج ما سّماه بالمثال الوظائفي، وهو البنية الشّكليّة الواحدة التي تولِّد هذا العدد غير المحدود من الحكايات ذات التّراكيب و الأشكال المختلفة[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn1).
والوظيفة عنده هي عمل الفاعل معرَّفا من حيث معناه في سير الحكاية، والغاية من بناء المثال الوظائفي هي تجنّب ما سمّته النّظريّة الكلاسيكيّة بالمبِرِّرات النّفسانيّة .وعدد الوحدات الوظيفيّة عند "بروب"لا يتجاوز الواحد والثلاثين وظيفة. تبتدىء بعرضٍ أوّليٍّ الغاية منه إرساء دعائم القصّة زمنيّا وفضائيّا، وتقديم الشّخصيّات وإظهار غاياتهم، وهذا العنصر البنائي يمهِّد لظهور الوظائف[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn2).
ويمكن تلخيص النّموذج الوظائفي عند بروب بما يلي:
1-حصـول الاقتقـار (الوضعيّة الأوليّة-الوضع الأصل)[رحيل'1' -منـع'2' -خرق'3' - استخبار'4' اطلاع'5' -خدعة'6' - تواطؤ'7' - إساءة'8' - افتقار'9' ]
2-الاختبار التّرشيحي [طلب النّجدة '10' - قبـول'11' -اختبار المانح للبطل'12' - ردّ فعل البطل'13' - تسلّم الأداة'14' ]
3-الاختبار الرّئيسي [الانتقال'15' -الصِّراع'16' - العلامة'17' - هزيمةالمعتدي'18' - انتصار البطل'19' - إصلاح الافتقار'20' - عودة'21' - مطاردة البطل'22' - توفّر النّجدة'23' ]
4- الاختبار الممجِّد [ مطالب البطل المزيّف'24' - اختبار البطل الحقيقي'25' - الإنجاز'26' - التّعرّف على هويّة البطل الحقيقي'27' - انكشاف البطل المزيّف'28' -تجلِّي البطل'29' - معاقبة المعتدي'30' - مكافأة البطل'31' ][3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn3)
ورغم هذه المحاولة الرّائدة لبروب فهي لا تبتعد عن المحاولات الأخرى للشّكلانيين الذين نظروا إلى العمل الأدبي بوصفه بنية مغلقة، ومن ثّم إلى تضييق إطار التّحليل الشّامل له.
وقد ظهرت أبحاث كثيرة منذ مطلع القرن العشرين تدعو إلى تأسيس علم للعلامات، ذلك العلم الذي بشَّر به "سوسور"في قوله :»نستطيع أن نتصور علما يدرس حياة العلامات في داخل الحياة الاجتماعية بحيث يشكِّل جزءا من علم النّفس العام ندعوه بالسِّيميولوجية ،وسوف يعرِّفنا هذا العلم بما تتكوَّن منه العلامات والقوانين التي تحكمها [4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn4)«.
وبتطوّر المدارس اللسانيّة في النِّصف الأوّل من هذا القرن صاحبها تطوُّر في علم العلامات ،وقد تركت هذه المدارس اللسانيّة بصمات واضحة في المنحى الذي أخذته الدِّراسات النّقديّة ابتداءً من الستينات، وهي الفترة التي شهدت ميلاد السِّيميائيّة[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn5).
منهـج "قريماس ":
تقوم النّظريّة السِّيميائيّة في شموليتها على التّمييز بين صعيدي التّعبير والمضمون الذي أقرَّه "هيالمسلف" ،والذي يجعلنا نفترض أنّ معرفتنا للمعنى تتأطّر بالشّكل لا بالمادّة ، ويعتبر شكل المضمون الجهة الأساسيّة والمركزيّة التي يحيل عليها البحث السِّيميائي ونتخلَّى بذلك من النّظرة إلى النّصّ باعتباره انعكاسا لمشاعر الكاتب وإسقاطاً لهموم المجتمع وتناقضاته ،وتصبح الممارسة النّقديّة نشاطاً معرفيّاً مخلَّـصاً من التّحاليل الايديولوجيّة.
ونتيجة لهذا التطوُّر برز في مجال سيميائيّة تحليل الخطاب السّرديِّ "قريماس"[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn6)، والسِّيميائية القريماسيّة حقّقت نتائج مهمّة في البحث، وقد عاد هذا الباحث إلى النّموذج الوظائفي ل "بروب" وبنى عليه رسماً سرديّاً قادراً على احتواء اللّحظات القويّة في الحكاية.
وقد رأى "قريماس" بأنّ منهج "بروب" تنقصه الدِّقّة كما وجد فيه فراغات واضحة[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn7)، ويُضرب مثلا على انعدام الدِّقة فيه في المزج بين الوظيفة و الحالة، "بروب" يعتبر [الرّحيل ] وظيفة و"قريماس" يوافقه في ذلك، لأنّ الرّحيل يغطِّي حقلا أو مجالا تقوم به الشّخصيّة ،ولكنّ [الافتقار] بعيد من أن يكون وظيفة ،ولا يتعدّى أن يكون حالة ولا يمكن اعتباره وظيفة على الإطلاق.
بعد هذه الانتقادات يضع "قريماس" رسماً سرديّاً ينبني على مُهِمّات ثلاث تؤطِّر المسار السّردي للبطل:
ـ المهمّة التّأهيليّة.
ـ المهمّة الحاسمة.
ـ المهمّة التّمجيديّة[8] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn8) .

[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref1) سمير،الرزوقي:وجميل،شاكر: "مدخل إلى نظرية القصة". ص23.

[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref2) نفسه :ص 24

[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref3) نفسه : ص55

[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref4) فرديناند دي سوسور :" محاضرات في الألسنية العامة "-ترجمة يوسف غازي:ومجيد،النصر:المؤسسة الجزائرية للطباعة.ص98.


[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref5) أمينة،رشيد :"السيميوطيقا:مفاهيم وأبعاد".مجلة فصول .المجلد الأول.العدد3 . 1981. ص42.


[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref6) نفسه :ص55.

[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref7)J.Courtès : "Introduction à la sémiotique narrative et discursive "Préface :A.J.Greimas.P 7..

[8] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref8) Ibid : P 9

**د لا ل**
2012-12-30, 16:47
و"قريماس"ينطلق في بحوثه من التّفرقة بين البنية العميقة والبنية السّطحيّة ، والأهمّ عنده هو البنية العميقة ، أمّا البنية السّطحيّة فليست سوى تجليّات لإسقاط مكوِّني البنية العميقة[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn1).
والسّؤال الذي تبحث فيه السِّيميائيّة في مقاربتها للنّصوص هو:كيف قال هذا النّصّ ما قاله ؟[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn2)
وداخل النّصّوص هو المجال الوحيد الذي تتمكّن السِّيميائيّة من البحث فيه لتأسيس هذه الكيفيّة"كيفيّة المعنى"، فالتّحليل السِّيميائيُّ إذاً هو تحليل يبحث في داخل النّصّوص ليصف شكل المعنى ، أو هندسته، وليس المعنى في حدّ ذاته. والمعنى لايتولَّد إلاّ بالاختلاف ،والتّحليل السِّيميائيُّ هو وصفٌ للاختلاف وتثبيت له، فأين نجد هذا الاختلاف، وما هي العناصر التي نجده بينها ؟
إنّ تحليل الخطاب يجعلنا نتتـبَّع الاختلافات التي تظهر في النّصوص من خلال تتابع النّصّ، والسَّرديّة هي ظاهرة تتابع الحالات والتّحوّلات المسجّلة في الخطاب، والتى هي بدورها مسؤولة عن انتاج المعنى[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn3).

البنية السّطحيّة :
إنّ التّحليل السِّيميائي يقوم على قاعدة الاختلافات بين الوضعيّات وفق تحوّلات يستلزمها منطق السّرد .والفاعل في وضعيّته البدئيّة (الأوليّة) يكون في حالة اتِّصال بموضوع القيمة ،و يُـعَـبَّر عن هذه الصِّيغة )فا م( أو يكون في حالة انفصال ويُـعبَّر عنها بالصِّيغة )ف ب م ( ،والحالة البدئيّة هذه تطرأ عليها تحوّلات وفق أفعال تحويليّة تجعل الفاعل في وضعيّة تختلف عن وضعيّته الأولى، ويصبح الاختلاف قائماً بين الحالة الافتتاحيّة والوضع النِّهائي.
ففي النص السابق (مثل الأسود وملك الضفادع )لابن المقفع ، يبدو أن الفاعل وهو الأسود كان في الحالة البدئية في وضعية انفصال عن موضوع القيمة المتمثّل في الطعام ونرمز لذلك بما يلي : (فبم) حيث . ف = الأسود . م= الطعام.
ولكن التحولات التي طرأت على النص جعلت الأسود يتحول من وضعية انفصال إلى وضعية اتصال بموضوع القيمة في نهاية النص ، ونرمز لذلك بما يلي :
(ف ا م)
هذه الحالات والتّحوّلات تشكِّل البرامج السّرديّة للخطاب ،والبرنامج السّردي يتمحور حول ملفوظات الفعل ، باعتبارها تحويلات تحكم ملفوظات الحالة وتشكِّل فى الوقت نفسه البرامج السّرديّة.ومن الواضح أنّ هذه التّحويلات المتموضعة بين الحالات يمارسها فاعل الفعلِ على إثر تدخّل يُحدِث تغييراً يدلِّل على الانتقال من علاقة إلى أخرى يفترض اللجوء إلى تحويل ،أي إلى فعل ينبني عليه برنامج سرديٌّ ينتهي إلى حالتين متمايزتين :اتِّصاليّة أو انفصاليّة ، تقودان الفاعل إلى امتلاك موضوع القيمة أو إلى فقدانه[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn4). والمرحلة الأساسيّة في هذا البرنامج تتمثّل في الأداء Pérformanceباعتبارها نواة تدور حولها المراحل الأخرى، وتقابلها صيغة [فعل الماهية] Faire-تtre. إلاّ أنّ الفاعل المنجز لابدّ له من محفِّزٍ (مرسل) يحثّه على القيّام بالفعل ويقنعه بذلك، والصِّيغة المناسبة لهذه المرحلة هي فعل الفعل Faire-faire . بعد هذا التّأثير الذي يمارسه المرسل على الفاعل، يشترط أن يكون الفاعل قد توفّرت لديه مواضيع الصِّيغة les modalités والتي بواسطتها ينجز فعله، وتوصله إلى نتيجة وهي مرحلة الكفاءة ، وتقسّم مواضيع الجهة (الصيغة)إلى قسمين :
-جهات مضمرة : إرادة الفعل / واجب الفعل تأسيس الفاعل.
- جهات محينة : معرفة الفعل / قدرة الفعل تأهيل الفاعل.
وإذا عدنا إلى النص السابق، فالأسود تأسس كفاعل لما تملّك الإرادة وأحس بوجوب الفعل ، ويتضح ذلك في قوله : (فدبّ يلتمس المعيشة لنفسه..) ففعل دبّ يوحي بإرادة الفعل والإحساس بواجب الفعل .وبعد امتلاكه للجهات المضمرة تأهّل كفاعل بامتلاكه للجهات المحيّنة والتي تتمثّل في معرفة الفعل والدليل على ذلك حسن محاورته للضفدع ولملك الضفادع حتى جعل حيلته تنطلي عليه ، فهذا يندرج في معرفة الفعل ، يضاف إليها القدرة على الفعل والتي تتضح من خلال ما أنجزه .
وبعد الأداء تأتي المرحلة الرّابعة في البرنامج السّردي والمتمثِّلة في التّـقويم، والصِّيغة المناسبة لها هي كون الكون تtre-de l'تtre ، إذ فيها يُقوَّم عمل الفاعل وفقا للعقد الذي أبرمه مع المرسل ،وتُسمّى مرحلة الاعتراف،ومن خلالها تتحدَّد مصداقيّة النّصّ[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn5).
وفي النص السابق تتحدد هذه المرحلة في قوله ( فأمر له كل يوم بضفدعين ...فعاش بذلك ولم يضره خضوعه للعدو بل انتفع بذلك.)
والبرنامج السّردي وإن كان على جانب من البساطة يتأسّس على مشروعين سرديّين متلازمين .ومن ثمّ يجوز للرّاوي أن يركِّز على أحدهما جاعلا الآخر ضمنيًّا لكن في اتجاه معكوس .فإذا امتلك فاعل موضوعا أفضى ذلك إلى سلبه من فاعل آخر في عالم محكوم بقواعد تعامليّة قارّة[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn6). وهكذا فالبرنامج السّردي يتميَّز بالازدواجيّة ، فإذا كانت الوضعيّة البدئيّة للفاعل هي حالة اتِّصال بموضوع القيمة (ف1 ا م) فإنّه يقابله دائما فاعل مضادٌّ في حالة انفصال عن هذا الموضوع (ف ب 2 م).
وفي الوضع النِّهائي غالباً ما يتحوّل موضوع القيمة من ف1 إلى ف2 أو العكس، نتيجة الصِّراع الذي يتخلّل العمل القصصيّ ، و انتاجيّة النّص السّرديِّ تتمّ وفق رؤية معيّنة حيث تبرز برنامجا أكثر من الآخر[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn7).
وقد حاول "قريماس" شكلنة المثال الوظائفي ليصبح قابلا للتّطبيق على كلِّ الأنماط القصصيّة ،وتتجلّى هذه الشّكلنة في الرّسم العاملي (البنية العامليّة) ،وهذه البنية تعكس بوضوح التّمييز بين العامل والفاعل[8] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn8).
والسِّيميائيّة تتعامل مع الشّخصيّة بمفهوم الدّور،فالعامل Actant لا يقتصر استعماله للدّلالة على الانسان ،فكلّ ما يقوم بوظيفة في القصة سواء أكان حـيّاً أم جامداً أم فكرة ايديولوجية يُـعدّ عاملا ،ويأخذ النّموذج العامليُّ الشكل الآتي:

[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref1) -سامي،سويدان :نفسه. ص26

[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref2)Groupe d'entrevérnes : p 7.

[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref3) ibid: p14

[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref4) رشيد بن مالك:السيميائية بين النظرية والتطبيق".ص111 .

[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref5) Groupe d'entrevérnes : P19

[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref6) العجيمي:نفسه.ص50.

[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref7)J. Courtés : ibid .p12

[8] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref8) A.J.Greimas: -Du sens. Editions du seuil. P49.

**د لا ل**
2012-12-30, 16:48
المرسل ¬ الموضوع ¬ المرسل إليه


المساعد ¬ الفـاعل ® المعارض
ويتحدّد الدّور العامليّ من خلال علاقة العامل ببقيّة عناصر النّموذج العامليِّ.
والنموذج العاملي للنص السابق يمكن تحديده كما يلي :


المرسل موضوع القيمة المرسل إليه
( حب العيش) ( الطعام) (الأسود)








المساعد الفاعل المعارض
(الحيلة) (الأسود ) (الكبر والعجز )

وإضافة إلى الدّور العامليِّ للفاعل أو أيّ عامل آخر فإنّه يتقمّص دوراً آخر يتمثّل فيما يقوم به في مساره الصّوري،ونسمِّيه الدّور الغرضيRشle thématique[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn1). وذلك لأنّ البنيّة السّطحيّة تتـقاسمها تركيبتان : تركيبة سرديّة تشمل البرامج السّردية والأدوار العامليّة، وتركيبة خطابيّة تسعى إلى تقديم الجانب الشّكلي للموضوع، حيث تثير قضيّة الألفاظ وسيّاقاتها الدّلالية، وما تنجزه من مسارات صوريّة من خلال الأدوار الغرضيّة للعوامل.إلاّ أنّ التّركيبة السّرديّة هي التي تتحكّم في البنيّة الخطابيّة فتسَـيِّر صوَرَها وتضمن تجانسها ، وتمازُج التّركيبتين (السّرديّة و الخطابيّة) يشكِّل البنية السّطحيّة للخطاب. والتّحليل السّيميائيّ في جانبه هذا المتعلِّق بالصوّر يبدأ بملاحظة العناصر البسيطة (الوحدات المعجميّة) Léxémes والتي يسمح قاموس اللغة بتحديدها،واستخدامها في سيّاقٍ ما هو اكتشاف لإمكانيّةٍ من إمكانيات استخدامها، وهذه الصوّر تتجاور وتشكِّل شبكة من الصوّر مترابطة فيما بينها وهو ما يُسمّى بالمسار الصّوري.وهذه المسارات الصّورية هي التي تغطِّي البرامج السّرديّة،والمسارات الصّوريّة قد تشترك فيما بينها في نقاط معيّنة تندرج في إطار تشـكُّـلٌ خطابي معيّن.
والدور الغرضي الذي تقمصه الأسود في النص السابق هو ( العاجز – المحتال).

البنية العميقة :
في تحليل البنيّة السّطحيّة اكتشفنا التّحوّلات في البرامج السّرديّة والتي يـؤَسَّـسُ من خلالها المعنى،وفي البنية العميقة ننتقل من التّنظيم الذي يتحكّم في هذه التّحوّلات والاختلافات إلى المنطق العميق الذي يحكم الدّورة الدّلاليّة[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn2).
وينبغي في البدء تفكيك العناصر الدّالة إلى الخطوط الأساسيّة الدّنيا، فالبنية تتحدّد بإدراكنا للخلافات التي تقوم على الأقل بين عنصرين من عناصرها يكونان حاضرين في آن وتربطهما علاقة بشكل أو بآخر ،لأنّ العنصر في تفرّده لا يؤدِّي معنى ،ولا يملك قيمة دلاليّة.لذا ينبغي أن نربط العنصر بعلاقة مع عنصر آخر لامتلاكهما خاصيّة مثتركة ،ومن خلال هذه العلاقة تتجلّى الاختلافات بين العناصر ،وهذا الفرق بينها هو الذي يولِّـد المعنى[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn3).
إنّ الصّور التي عاينّاها في تحليل التّركيبة الخطابيّة قابلة للتّحليل المعجمي،والعنصر يمكن تفكيكه إلى الخطوط الدّنيا.
وانطلاقا من الموازاة التي أقامها الألسنيون بين الدّال والمدلول، واعتبارهم أنّ أيّ تغيير يلحق بالدّال يجد صداه في المدلول ،حاول علماء الدّلالة بناء نظريّة مماثلة تعتمد الموازاة بين الفونولوجية والدّلالة المعنوية.
وهكذا جعلوا المعطى الدّلالي في مستويين[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn4) :
-المستوى الأوّل :يتعلّق بالبنية العميقة.
-المستوى الثّاني: يتعلّق بالبنية السّطحيّة ،والتي بدورها تتفرّع إلى تركيبتين:
-تركيبة سرديّة.
-تركيبة خطابيّة

وعلى صعيد البنية العميقة يقيم البنيويّون النَّحو الأساسي الذي ينتظم العالَم المعنويّ الأوّل على أساسه.
والسِّيمات Sémes باعتبارها الوحدات الدّنيا للمعنى تُقسَّم إلى صنفين :
- سيمات نوويّة Sémes nucléaire
-سيمات سياقيّة Classémes
هذه السٍّيمات يمكن تجميعها وتصنيفها وفق نظائر ،هذه النّظائر هي التي تضمن تجانس الخطاب ،والنّظائر نوعان:
-نظائر دلاليّة Isotopies sémantiques تتحكّم فيها السِّيمات السِّياقية.
-نظائر سيميائيّة Isotopies sémiologique تتحكّم فيها السِّيمات النّوويّة[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn5) .
على أنّه لتحقيق النّوايا وترجمتها إلى عمل وفعل، يحتاج إلى أرض تكون ميداناً تتموقع فيه الأطراف المتواجهة و المتجاذبة، ذلك الميدان هو المرّبع السِّيميائي، وعلاقاته هي :التّضـاد - التّنـاقض - التّضمّـن[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn6) .
لكنّ الخطاب السّردي ،والخطاب اللغوي عامّة ،يخضع كما هو معـروف لمبدأ "الخطيّة". فهو ليس فضاءً منبسطا يتجلّى كما تتجلّى لوحة مرسومة مرّة واحدة من جميع زواياها ،إنّما تتوالى الملفوظات فيه تواليّا سياقيّا ، مـمّا يستوجب تحريك المربّع وبعث الحياة فيه[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn7).
وهكذا يثبت أنّ السِّيميائيّة تهتمّ بالظّروف المولِّدة للمعنى بحركيّته وبصيرورته في النّصّ، فالمعنى ليس ثابتاً بل هو قابل للتغيّر إذْ هو رهين ديمومة النّصّ القصصيّ .وفي هذا يقول "قريماس :»إنّ توليد المعنى ليس له معنى إلاّ إذا كان تغييرا للمعنى الأصلي «.وعلى هذا فكّـر في تكوين رسم هندسي يرمي إلى عقلنة المعنى ،وذلك بربط الصّريح بالضِّمني مع تنظير وشكلنة وسائل خلق المعنى وتصوّراته[8] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn8).
وفي هذا النِّطاق تصوّر ما أسماه بالمربّع السِّيميائيِّ كمثال أصوليٍّ لشكلنة المعنى . وقد أشرنا سابقا إلى أنّ الدّلالة تستخلص من علاقات الاختلاف والتّقابل القائمة بين حزمة من الوحدات الدّالة ، فالأبيض لا يستقيم معناه إلا بمقابلته بالأسود ، غير أنّ هذا التّقابل يقتضي وجود عنصر مشترك بينهما يسمّى "المحور الدّلالي"[9] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn9).
وانطلاقا من البنية الدّلاليّة الأساسيّة القائمة على التّقابل، بوسعنا أن نؤسِّس نموذجا منطقيّا ينظِّم شبكة من العلاقات
بين وحدات دلاليّة متولِّدة عن البنية المذكورة ،هذا الذي سّميناه المرّبع السِّيميائي[10] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn10).

م
أ أَ





لا أَ لا أَ
مَ

والمربع السيميائي للنص السابق هو :




(تعامل)

[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref1) رشيد بن مالك :نفسه.ص104.


[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref2) رشيد بن مالك :نفسه .ص133

[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref3)نفسه:ص142

[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref4) سامي، سويدان:نفسه .ص18.

[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref5). Groupe d'entrevérnes :p123.

[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref6) A.J.Greimas, J.Courtés :"Sémiotique : dictionnaire raisonné de la théorie du langage . p29.

[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref7) محمد،الناصر العجيمي : نفسه. ص98.

[8] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref8)سمير ،المرزوقي:وجميل ،شاكر: نفسه. ص123

[9] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref9) محمد الناصر العجيمي :نفسه .ص93.

[10] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref10) نفسه :ص95.

**د لا ل**
2012-12-30, 16:50
(تعامل)
حيلة غفلة



( نجاح) (خسارة)
الأسود ملك الضفاد

لا غفلة لاحيلة




وسنحاول إبراز نوعيّة العلاقات القائمة بين أركان النموذج :
ـ العـلاقات التّدرُّجيّـة : تقوم العلاقة الأولى بين أ، أَ و م، والعلاقة الثانية بين لا أ، لا أَ و مَ.[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn1)
أ ¬ م لا أ ¬ مَ
أَ ¬ م لاأَ ¬ مَ

ـ العـلاقات المقـولاتيّة : وهي العلاقات التي تتولَّد بين هذه الأطراف،وتقوم عمليّة التّولّد الأولى على قاعدة النّفي الذي يصيب كلاً من طرفي التّعارض الأوَّلى ،وهي عمليّة تتيح إقامة ثلاثة أنواع من العلاقات[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn2) :
أولها ،علاقة التّناقض بين كلٍّ من طرفي التّعارض ونفيها: أ ¬ لاأ .
أ ¬ لاأَ .
ثانيها علاقة تضاد يقيمها الطّرفان الأوليّان : أ أَ
وعلاقة شبه التضاد :
لا أ لا أَ
ثالثتها علاقة تضمُّن بين :
) لا أَ أ ( ، )لا أ أَ (
التولُّد الثاني يتمّ بين علاقة التّضاد وشبه التّضاد وهي في هذه الحالة تناقض.
) م¹ مَ (
والتّولّد الثّالث بين مؤشِّر الإثبات ومؤشِّر النّـفي ،وهو في هذه الحالة تضادّ ، ويتمّ بين :
) لا أ أ ( و ) لا أَ أَ (
وعلى هذا فالمربّع السِّيميائي صار شكلا هندسيًا، يصحُّ توليد مفاهيم منه لصياغة نظرية تعتمد على الطوبولوجيا والعلاقة والاختلاف والائتلاف[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn3).










تطبيق :
تحليل نص : مقاربة سيميائية .
المقامة البغدادية .
حدّثنا عيسى بن هشام قال :
اشتهيت الأزاذ وأنا ببغداذ ، وليس معي عقد على نقد . فخرجت أنتهز محالّه حتى أحلّني الكَرْخَ ، فإذا أنا بسوادي يسوق بالجهد حماره ويطرّف بالعقد إزاره . فقلت: "ظفرنا والله بصيد ، وحيّاك الله أبا زيد ، من أين أقبلت ؟ وأين نزلت ؟ ومتى وافيت ؟ وهلمّ إلى البيت" . فقال السواديّ : "لست بأبي زيد ، ولكني أبو عبيد ". فقلت : " نعم ، لعن الله الشيطان ، وأبعد النسيان ، أنسانيك طول العهد واتصال البعد ، فكيف حال أبيك ؟ أشابّ كعهدي أم شابَ بعدي؟ " فقال : " قد نبت الربيع على دمنته ، وأرجو أن يصيّره الله جنته ". فقلت : " إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ". ومددت يد البدار إلى الصدار أريد تمزيقه ، فقبض السوادي على خصري بجُمْعِه ، وقال : "نشدتك الله لا مزّقته ". فقلت : " هلمّ إلى البيت نُصِبْ غداءً ، أو إلى السوق نشتر شواء ، والسوق أقرب وطعامه أطيب". فاستفزّته حمة القرم ، وعطفته عاطفة اللقم ، وطمع ولم يعلم أنه وقع . ثم أتينا شوّاء يتقاطر شواؤه عرقا ، وتتسايل جوذاباته مرقا . فقلت : " أفرز لأبي زيد من هذا الشواء ، ثم زن له من تلك الحلواء ، واختر له من تلك الأطباق ، وانضد عليها أوراق الرقاق ، ورش عليه شيئا من ماء السماق ليأكله أبو زيد هنيا". فانحنى الشوّاء بساطوره على زبدة تنوره ، فجعلها كالكحل سحقا ، وكالطحن دقا. ثم جلس وجلست ، ولا يئس و لا يئست ، حتى استوفينا . وقلت لصاحب الحلوى: "زن لأبي زيد من اللوزينج رطلين ، فهو أجرى في الحلوق وأمضى في العروق . وليكن ليلي العمر ، يومي النشر ، رقيق القشر ، كثيف الحشو ، لؤلؤي الدهن ، كوكبي اللون ، يذوب كالصمغ قبل المضغ ، ليأكله أبو زيد هنيّا . قال : فوزنه ثم قعد وقعدت ، وجرّد وجرّدت ، حتى استوفيناه . ثم قلت : "يا أبا زيد ، ما أحوجنا إلى ماءٍ يشعشع بالثلج ليقمع هذه الصّارة ويفثأ هذه اللقم الحارّة ، اجلس يا أبا زيد حتى نأتيك بسقّاء ، يأتيك بشربة ماء ". ثم خرجت ، وجلست بحيث أراه ولا يراني أنظر ما يصنع . فلما أبطأت عليه ، قام السوادي إلى حماره ، فاعتلق الشوّاء بإزاره وقال : " أين ثمن ما أكلت ؟ " فقال أبو زيد : " أكلته ضيفا ". فلكمه لكمة ، وثنّى عليه بلطمة . ثم قال الشواء : "هاك ، ومتى دعوناك ؟ زن يا أخا القحة عشرين ". فجعل السوادي يبكي ، ويحل عقده بأسنانه ، ويقول : " كم قلت لذاك القريد " أنا أبو عبيد" وهو يقول قأنت أبو زيد " .
بديع الزمان الهمذاني

التحليل :
1 – البنية السطحية في المقامة البغدادية .
المقامة البغدادية هي قصة أو مغامرة هدفها الحصول على غذاء بطلها عيسى بن هشام .
-تقطيع النص :
لكي نستطيع الإلمام بنظام هذه المقامة ينبغي أن نقطّعها إلى مقاطع سردية ، معتمدين في ذلك على تعريف "قريماس" للمقطع ، فهو حسبه « وحدة محلية من الخطاب السردي قابلة لأن تكون قصة ، لكن بإمكانها أن تندمج في النص كإحدى أقسامه المكوّنة له » . وبناء عليه فإننا سنلاحظ وجود خمسة مقاطع في هذه المقامة هي :
1- المقطع الأول : عيسى بن هشام منفصل عن النقود .
"اشتهيت الأزاذ وأنا ببغداذ ، وليس معي عقد على نقد . فخرجت أنتهز محالّه حتى أحلّني الكَرْخَ".
2- المقطع الثاني : الامتحان التأهيلي في مواجهة السوادي .
"فإذا أنا بسوادي يسوق بالجهد حماره ويطرّف بالعقد إزاره . فقلت: "ظفرنا والله بصيد ، وحيّاك الله أبا زيد ، من أين أقبلت ؟ وأين نزلت ؟ ومتى وافيت ؟ وهلمّ إلى البيت" . فقال السواديّ : "لست بأبي زيد ، ولكني أبو عبيد ". فقلت : " نعم ، لعن الله الشيطان ، وأبعد النسيان ، أنسانيك طول العهد واتصال البعد ، فكيف حال أبيك ؟ أشابّ كعهدي أم شابَ بعدي؟ " فقال : " قد نبت الربيع على دمنته ، وأرجو أن يصيّره الله جنته ". فقلت : " إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ". ومددت يد البدار إلى الصدار أريد تمزيقه ، فقبض السوادي على خصري بجُمْعِه ، وقال : "نشدتك الله لا مزّقته ".
3- المقطع الثالث : الإيقاع بالسوادي.
"فقلت : " هلمّ إلى البيت نُصِبْ غداءً ، أو إلى السوق نشتر شواء ، والسوق أقرب وطعامه أطيب". فاستفزّته حمة القرم ، وعطفته عاطفة اللقم ، وطمع ولم يعلم أنه وقع" .

4-المقطع الرابع : في المطعم (الامتحان الرئيسي) .
"ثم أتينا شوّاء يتقاطر شواؤه عرقا ، وتتسايل جوذاباته مرقا . فقلت : " أفرز لأبي زيد من هذا الشواء ، ثم زن له من تلك الحلواء ، واختر له من تلك الأطباق ، وانضد عليها أوراق الرقاق ، ورش عليه شيئا من ماء السماق ليأكله أبو زيد هنيا". فانحنى الشوّاء بساطوره على زبدة تنوره ، فجعلها كالكحل سحقا ، وكالطحن دقا. ثم جلس وجلست ، ولا يئس و لا يئست ، حتى استوفينا . وقلت لصاحب الحلوى: "زن لأبي زيد من اللوزينج رطلين ، فهو أجرى في الحلوق وأمضى في العروق . وليكن ليلي العمر ، يومي النشر ، رقيق القشر ، كثيف الحشو ، لؤلؤي الدهن ، كوكبي اللون ، يذوب كالصمغ قبل المضغ ، ليأكله أبو زيد هنيّا . قال : فوزنه ثم قعد وقعدت ، وجرّد وجرّدت ، حتى استوفيناه" .
5- المقطع الخامس : مغادرة المطعم (الإنجاز) .
"ثم قلت : "يا أبا زيد ، ما أحوجنا إلى ماءٍ يشعشع بالثلج ليقمع هذه الصّارة ويفثأ هذه اللقم الحارّة ، اجلس يا أبا زيد حتى نأتيك بسقّاء ، يأتيك بشربة ماء ". ثم خرجت ، وجلست بحيث أراه ولا يراني أنظر ما يصنع . فلما أبطأت عليه ، قام السوادي إلى حماره ، فاعتلق الشوّاء بإزاره وقال : " أين ثمن ما أكلت ؟ " فقال أبو زيد : " أكلته ضيفا ". فلكمه لكمة ، وثنّى عليه بلطمة . ثم قال الشواء : "هاك، ومتى دعوناك ؟ زن يا أخا القحة عشرين ". فجعل السوادي يبكي ، ويحل عقده بأسنانه ، ويقول : " كم قلت لذاك القريد " أنا أبو عبيد" وهو يقول قأنت أبو زيد ".

في المقطع الأول يظهر عيسى بن هشام وتظهر المعطيات التالية :
- اشتهاؤه لنوع جيد من التمر .
- حالة فقر متمثلة في خلو جيبه من النقود .
وهكذا نجد أنفسنا منذ البداية أمام حالة انفصال عن موضوع القيمة (فب م) ، أما جملة ( فخرجت أنتهز محاله....) فتصوّر تنقلا أفقيا للبطل ، مبعث هذا التنقل هو عنصر الإرادة في الفعل ليتأسس عيسى بن هشام كفاعل .ونرمز لذلك بالصيغة الإضمارية الآتية :
ف(ف1) ( ف1 ب م .ج) (ف1 ا م. ج)
ف1 = عيسى بم هشام .
م.ج.= الاشتهاء (واجب الفعل) + الخروج ( إرادة الفعل) .

والتبليغ عن مواضيع الجهة هذه كان انعكاسيا ونرمز له بما يلي :


[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref1) بن مالك،رشيد : " الأصول اللسانية والشكلانية للنظرية السيميائية "-مجلة اللغة والأدب-العدد14. 1999. ص93.

[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref2) محمد،مفتاح :" دينامية النص " -المركز الثقافي العربي-ط2. 1990 . ص11.

[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref3) نفسه :ص12

**د لا ل**
2012-12-30, 16:50
والتبليغ عن مواضيع الجهة هذه كان انعكاسيا ونرمز له بما يلي :

المرسل موضوع القيمة
(الجوع) (الأزاذ)






الفاعل
(عيسى بن هشام)

وبهذا التنقل يباشر (ف1) عملية قلب الوضعية ، فهو في الحالة البدئية يبدو منفصلا عن الطعام وعن النقود ويرغب في الحصول عليهما . بلقائه بالسوادي يوظف (ف1) عنصر الحيلة والذي يندرج ضمن معرفة الفعل ليتأهل كفاعل يوقع بالسوادي الذي تنطلي عليه حيل عيسى بن هشام ، فيقوم فاعلا مؤهلا يمتلك جهات التحيين : معرفة الفعل + قدرة الفعل .
دخول (ف1) مع (ف2) إلى المطعم وتناولهما لأشهى الطعام يُعَدّ المرحلة الحاسمة في البرنامج السردي . أما (ف3) وهو صاحب المطعم فإنه تساهل مع (ف1) حيث قدّم له كل ما طلب من أطعمة وتركه في النهاية يغادر المطعم . وبعد المغادرة يتحقق الفاعل كفاعل منجز تجاوز مرحلة الأداء بنجاح ، وبذلك يحدث تغيّر في الوضعيات نمثّله بالملفوظ السردي الآتي :
ف.ت : (ف3) [ (ف1 ب م اف2)ـ ( ف1ا م ب ف2)]
حيث :
ف.ت = فعل تحويل.
ف1= عيسى بن هشام .
ف2= السوادي .
ف3= صاحب المطعم .
م= الوجبة الكاملة .
بعد هذا العرض للحدث العام في المقامة وتوضيح اتجاهاته المختلفة ننتقل الآن إلى مستوى أعلى ، هو النموذج العاملي ، والذي يرتكز على قاموس من الشخصيات النموذجية يُسَمَّى كلّ منها عاملا ، وتنتظم هذه الشخصيات في ثلاثة محاور يربط كل محور منها عاملين على النحو الآتي :
1- محور التبليغ : وطرفاه هما المرسل والمرسل إليه .
2- محور الرغبة : وطرفاه هما الفاعل وموضوع القيمة .
3- محور القدرة : وطرفاه هما المعارضون والمساعدون .
وللإشارة فإنّ الدور العاملي الواحد قد يكون حكرا على شخصية واحدة وقد تشترك فيه شخصيتان أو أكثر ، كما أنّ الشخصية الواحدة قد تكون موجودة على مستوى أكثر من دور عاملي واحد .
والوصف السّردي السابق يمكننا من تحديد وتوزيع الأدوار العاملية وبالتالي ضبط الشكل العاملي لهذه المقامة ، بمعنى أننا سنصبّ في هذا الإطار البرامج السردية التي تعرّفنا وبقية الأجزاء الأخرى من الوظائف التي قامت بها الشخصيات .
فمع بداية المقطع الأول وإعلان (ف1) اشتهاءه الأزاذ وخلو جيبه من المال وتنقله بحثا عن ذلك تتحدّد الأدوار العاملية الآتية :
-المرسل : هو الرغبة أو الاشتهاء.
- الفاعل : عيسى بن هشام .
- موضوع القيمة : الحصول على وجبة .
- المرسل إليه : عيسى بن هشام .
ويبقى علينا تحديد الدورين المتبقيين ونعيين عامليهما وهما دور المساعد ودور المعارض .
رأينا فيما سبق أنّ السوادي يحتلّ أساسا وضعية العامل المساعد رغم إظهاره معارضة طفيفة لما أنكر الاسم الذي أطلقه عليه عيسى بن هشام ، وفيما عدا ذلك فقد كان ضحية حيلة أي مساعد لا إرادي أو مساعد لا واعٍ .
في المقطع الأخير وبعد اختفاء عيسى بن هشام رجع (ف2) إلى وضعية العامل المعارض وخاصة لما رفض دفع الثمن ، أما صاحب المطعم فيمكن اعتباره العامل المساعد الحقيقي ذلك أنه لبى كل طلبات (ف1) وتركه يغادر المحلّ.
ويمكننا ترتيب هذه الأدوار العاملية في النموذج العاملي الآتي :

المرسل موضوع القيمة المرسل إليه
(الاشتهاء) (وجبة من الطعام) (عيسى بن هشام)






المساعد الفاعل المعارض
(الشواء) (عيسى بن هشام) (السوادي)


إذا عدنا إلى البرامج السردية التي شكلت المقامة نجدها مغطاة بشبكة صورية شكّلت مسارات صورية ، وهكذا يقوم عيسى بن هشام كقائم بفعل تمثل دوره العاملي في كونه فاعلا ومرسلا إليه ، ودوره الغرضي في كونه مخادعا محتالا واتهازيا . أما السوادي فهو قائم بفعل باعتباره تقمص دورا عامليا تمثل في كونه معارضا ودورا غرضيا تمثّل في كونه مغفلا وضحية .


تحليل البنية العميقة :
نستطيع القول منذ البداية أن الوحدة المعنوية الأساسية في هذه المقامة هي "كيفية كسب المعيشة" ، وهي تسيطر على النص من خلال :
أ‌- الحركة / الجمود . (تنقل البطل).
ب- الاحتيال / الأمانة . (حيلة البطل)
ج- الفائدة / الخسارة . ( انتهازية البطل) .
كل صنف من هذه الأصناف يحتوي على أصناف دلالية دنيا تولّد مع بعضها وحدات دلالية ثانوية .
ونلمس بعض صور التعارض الدلالي في الجدول الآتي والذي يوضح لنا بعض السمات المميزة لِ (ف1) و (ف2).

(ف1) (ف2)
مدني قروي
متيقن من نفسه مرتبك
ذكي ساذج
واعٍ غير واع
محتال أمين
مخادع مغفل

إنّ انتهازية البطل تحقق وحدة دلالية مقابل الأمانة ، وتغطي جزئيا الوحدة المعنوية الأساسية في النص . فالمادة "انتهز" تعني استغلال الفرصة بكل الوسائل وعدم تضييعها مهما كان الثمن ، مع تحقيق أكبر قدر ممكن من الفائدة .
والواقع أنّ البطل انتهز الفرصة وأفاد منها حال ظهور السوادي . والانتهازية لا تكون إلا بالحيلة ، فالدور الغرضي الذي حدّدناه للبطل هو "محتال" مقابل دور غرضي للسوادي " مغفّل" . وبالتالي يمكن أن نرسم المعنى عبر المربع السيميائي الآتي :

(ذكاء)
حيلة أمانة



(خداع) (غفلة)

لا أمانة لا حيلة
(سذاجة)

يوضح هذا المربع أن التضاد القائم بين الحيلة والأمانة من جهة ، ومتضمنيهما (لا أمانة- لا حيلة) من جهة أخرى ، يقابل ذلك التناقض بين الذكاء والسذاجة من جهة والخداع والغفلة من جهة أخرى .
والمقامة انطلقت من الخداع إلى ممارسة الحيلة وذلك من قبل عيسى بن هشام ، حيث انطلت على السوادي بفضل ذكاء البطل الذي استطاع أن يجعل السوادي يأمن وتنطلي عليه الحيل وذلك نتيجة غفلته ، وكل هذا يندرج ضمن الانتهازية .
















التحليل التداولي

**د لا ل**
2012-12-30, 16:51
التحليل التداولي

(الحجاج)








الحجــــاج:( (L'argumentation
-الحجاج لغة:
الحِجَاجُ لغة من حَاجَّ . قال ابن منظور: حَاجَجْتُه ، أَحَاجُّه ، حِجَاجًا ومَحَاجَّة حتى حَجَجْتُه أي غلبته بالحجج التي أدليت بها . وحَاجَّه مَحَاجَّة وحِجَاجًا ، نازعه الحُجَّة. والحُجَّة البرهان . قال الأزهري : الحُجَّة ، الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة .
ويقال أيضا رجل مِحْجَاجٌ أي جَدِلٌ . والتَّحَاجُ بمعنى التَّخَاصُمُ . وحَاجَّه أي نازعه الحُجَّة.[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn1) فعلى هذا يكون الحِجَاج النزاع والخصومة بواسطة الأدلة والبراهين الكلامية والحجج العقلية ، فيكون بهذا مرادفا للجدل ، إذ حدّ الجدل حسب ابن منظور أيضا: مقابلة الحُجَّة بالحُجَّة . الجَدَلُ : اللَدَدُ في الخصومة والقدرة عليها. وقد جَادَلَه مُجَادَلَة وجِدَالا . ورجل جَدِِلٌ : شديد الجَدَلِ . جَادَلْت الرجل فجَدَلْتُه : أي غلبته . والجَدَلُ : شِدَّة الخصومة . وفي الحديث : " ما أُوتِيَ الجدَلَ قومٌ إلا ضَلُّوا " . والجَدَلُ : مقابلة الحُجَّة بالحُجَّة. والمُجَادَلَة : المُخَاصَمَة والمناظرة.
الحجاج في اللغة:
-مفهوم الحجاج :
كان ميدان الحجاج يعتمد أساسا قبل "ديكرو" على البلاغة الكلاسيكية(أرسطو) أو البلاغة الحديثة (بيرلمان)، أو يعتمد على المنطق الطبيعي (كرايز) ، أما نظرية الحجاج في اللغة فقد وضع أسسها اللغوي الفرنسي "ديكرو" O.Ducrot منذ سنة 1973 ، وهي نظرية لسانية تهتم بالوسائل اللغوية وبإمكانات اللغات الطبيعية التي يتوفر عليها المتكلم ، وذلك بقصد توجيه خطابه وجهة ما ، تمكنه من تحقيق بعض الأهداف الحجاجية، ثم إنها تنطلق من الفكرة الشائعة التي مؤداها "أننا نتكلم عامة بقصد التأثير".وقد تنبّه القدامى إلى هذا التأثير الذي يُحْدِثُه الخطاب اللغوي في المتلقي ، فقد أورد "الجاحظ" في "البيان والتبيين" خبرا مفاده أنّ شيخا من الأعراب تزوّج جارية من رهطه وطمع أن تلد له غلاما فولدت له جارية ، فهجرها وهجر منزلها وصار يأوي إلى غير بيتها ، ومرّ بخبائها بعد حَوْلٍ وإذا هي تُرْقِص بنيّتها وهي تنشد :
ما لأبي حمزة لا يأتينا يَظَلُّ في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا تالله ما ذاك في أيدينا
وإنما نأخذ ما أُعْطينا
فلما سمع الأبيات مرّ الشيخ نحوهما حتى ولج عليهما الخباء وقبّل ابنته وقال : ظلمتكما وربّ الكعبة[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn2).
والشعر في هذا الخبر باعتباره خطابا ،كان الباث فيه امرأة تزوّجت شيخا من الأعراب لم يلبث أن هجرها حين رُزِقَت بنْتًا ، أما المتلقي فإنه لم يحضر ساعة الخطاب، أو على الأقل، لم يوجِّهْ إليه الباثُّ الخطابَ مباشرة وإنْ كان يستحضره ساعة إنشاء الشعر ، فكانت عملية التلقي صدفة واتفاقا ، وإذا بالخطاب يقوم بوظيفته الإقناعية فيغيِّر المواقف ، وتنجلي بذلك قدرة الخطاب على النهوض بوظيفة براغماتية (نفعية) صرفة. إنّ المرأة وقد أنشدت هذه الأبيات تكون قد أنجزت فعل التلفظ ، هذا الفعل أنتج ملفوظا شعريا ، كانت له وظيفة حجاجية إقناعية.
وبعبارة أخرى فإن دراسة الحجاج أخذت تهتم باستراتيجية الخطاب الهادف إلى الاستمالة استنادا إلى أنماط الاستدلالات غير الصورية ، وذلك بغاية إحداث تأثير في المخاطب بالوسائل اللسانية والمقومات السياقية التي تجتمع لدى المتكلم أثناء القول من أجل توجيه خطابه والوصول إلى بعض الأهداف الحجاجية.[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn3)
هذه النظرية تريد أن تبين أن اللغة تحمل بصفة ذاتية وجوهرية وظيفة حجاجية ، وبعبارة أخرى هناك مؤشرات عديدة لهذه الوظيفة في بنية الأقوال نفسها. ومن هذه الزاوية يصبح الحجاج بعدا جوهريا في اللغة ذاتها مما ينتج عن ذلك أنه حيثما وُجِدَ خطاب العقل واللغة فإنّ ثمة استراتيجية معينة نعمد إليها لغويا وعقليا إما لإقناع أنفسنا أو لإقناع غيرنا ، وهذه الاستراتيجية هي الحجاج ذاته .[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn4)
ولأخذ فكرة واضحة عن مفهوم الحجاج (Argumentation) ينبغي مقارنته بمفهوم البرهنة(Démonstration) أو الاستدلال المنطقي . فالخطاب الطبيعي ليس خطابا برهانيا بالمعنى الدقيق للكلمة ، فهو لا يقدم براهين وأدلة منطقية ، ولا يقوم على مبادئ الاستنتاج المنطقي . ولفظة الحجاج لا تعني البرهنة على صدق إثبات ما ، أو إظهار الطابع الصحيح لاستدلال ما من وجهة نظر منطقية ، ويمكن التمثيل لكل من البرهنة والحجاج بالمثالين التاليين :
- كل اللغويين علماء.
-زيد لغوي.
- إذن زيد عالم.[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn5)
يتعلق الأمر هنا ببرهنة أو بقياس منطقي ، فاستنتاج أن زيدا عالم حتمي وضروري لأسباب منطقية . أما قولنا :
-انخفض ميزان الحرارة .
- إذن سينزل المطر.
فإنه لا يعدو أن يكون حجاجا أو استدلالا طبيعيا غير برهاني ، فاحتمال نزول المطر يقوم على معرفة العالم ، وعلى معنى الشطر الأول من الجملة ، وهو استنتاج احتمالي.[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn6)
لتطويق بعض الشيء معنى "حاجّ(Argumenter) يجب أن نضعه في مقابل )"برهن" (أثبت،أقام الدليل) (prouver واستنتج (Déduire)فالخطاب الحجاجي ليس خطابا حاملا لأدلة وبراهين، كما أنه ليس خطابا لقيم استنتاجية منطقية ، و"حاجّ" لا تعني مطلقا برهن على صحة قضية ، ولا إبراز الطابع المنطقي للبرهان .[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftn7) العلاقة المنطقية تخضع دائما لشروط الصدق(Valeurs de vérité) وهذا ما لا نجده في العلاقة الحجاجية. ويمكن ملاحظة ملفوظات غير مقبولة منطقيا ومع ذلك فهي مقبولة وموجودة في الخطاب . فقولنا :

- ليس لدي وقت ، ومع ذلك أتناول فنجان قهوة .
منطقيا هذا القول ليس له معنى ، من حيث أن المتكلم ليس لديه الوقت الكافي وبالتالي لا يمكنه شرب القهوة ، مما يدل على أن العبارة الثانية خاطئة ، ومع ذلك لا يتبادر إلى ذهن أحد بأن الملفوظ السابق فيه تناقض ، والعلامة التي جعلت التناقض ينتفي من القول هي " ومع ذلك" . وبالتالي يصبح الملفوظ السابق مقبولا حجاجيا مرفوظا منطقيا . وهكذا يتضح الفرق بين الحجاج والبرهان ، ومن هنا وجب التمييز بين الاستدلال(Raisonnement) والحجاج(Argumentation)
لأنهما ينتميان إلى نظ

[/URL] [1] - ابن منظور : "لسان العرب " .المجلد الرابع. دار صادر . بيروت. مادة ( ح ج ج ) .ص38.

[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref1) -- الجاحظ : "البيان والتبيين". دار الجيل .ص 43.

[3] - عبد السلام عشير : "عندما نتواصل نغير " . ص67.

(http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref3) [4] - حبيب أعراب : " الحجاج والاستدلال الحجاجي " . مجلة عالم الفكر . العدد1 . المجلد 30. ص67.

Jacques Moeschler : " Argumentation et conversation" . p 46 - [5]

(http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref5) Ibid : p 46 -[6]

[URL="http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590219&posted=1#_ftnref7"] Ibid : p48 - [7]

**د لا ل**
2012-12-30, 16:53
لأنهما ينتميان إلى نظامين جد مختلفين ، نظام ما نسميه عادة بالمنطق ونظام الخطاب.
إن الأقوال التي يتكون منها استدلال ما مستقلة بعضها عن بعض ، بحيث إن كل قول منها يعبر عن قضية ما ، أي يصف حالة ما ، أو وضعا ما من أوضاع العالم، باعتباره وضعا واقعيا أو متخيلا ، ولهذا فإن تسلسل الأقوال في الاستدلال ليس مؤسسا على الأقوال نفسها ولكنه مؤسس على القضايا المتضمنة فيها ، أي على ما نقوله بشأن العالم .[1] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn1) أما الحجاج فهو مؤسس على بنية الأقوال اللغوية وعلى تسلسلها واشتغالها داخل الخطاب . ونوضح هذا بالمثال الآتي :
- أنا متعب ، إذن أنا بحاجة إلى الراحة.
إذا نظرنا في الجملة السابقة سنجد أنها تتكون من حجة ونتيجة ، والحجة يتم تقديمها لتؤدي إلى نتيجة معينة . التعب يستدعي الراحة ، فالتعب دليل وحجة على
على أن الشخص المعني بالأمر بحاجة إلى أن يرتاح.
إن الحجة عبارة عن عنصر دلالي يقدمه المتكلم لصالح عنصر دلالي آخر ، والحجة قد ترد في هذا الإطار على شكل قول أو فقرة أو نص أو قد تكون مشهدا طبيعيا أو سلوكا غير لفظي إلى غير ذلك.
والحجة تكون ظاهرة كما تكون مضمرة بحسب السياق ، والشيء نفسه بالنسبة إلى النتيجة والرابط الحجاجي الذي يربط بينهما ، ويمكن أن نبين ذلك بهذه الأمثلة :
- انا متعب إذن أنا بحاجة إلى الراحة .
تم التصريح بالحجة والرابط والنتيجة في هذا الملفوظ.
- أنا متعب ، أنا بحاجة إلى الراحة.
أُضْمِر الرابط في هذا المثال .
-أنا متعب .
لم يصرح هنا إلا بالحجة وأضمرت النتيجة التي يتم استنتاجها من السياق.
- أنا بحاجة إلى الراحة.
ذكرت النتيجة وأضمرت الحجة.
يبقى أن نشير إلى أن العلاقة التي تربط بين الحجة والنتيجة هي التي تدعى "العلاقة الحجاجية" وهي تختلف بشكل جذري عن علاقة الاستلزام أو الاستنتاج المنطقي ،ويمكن أن نرمز لها بالشكل الآتي:
ح ∑ن


-السلــــم الحجــاجي:((Echelle argumentative
نقول بأن ملفوظين ب و بَ ينتمبان إلى نفس القيمة الحجاجية محددة بملفوظ أ . في هذه الحالة نقول بأن الحجج (الحجتان ب و بَ) تنتميان إلى نفس السلم الحجاجي . [2] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn2)
السلم الحجاجي إذن هو فئة حجاجية موجهة.[3] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn3)
ونمثل للسلم الحجاجي بين ب ، بَ أ بما يلي :



أ
بَ

ب



فالسلم الحجاجي إذن هو علاقة ترتيبية للحجج ، فعندما تقوم بين الحجج المنتيمية إلى فئة حجاجية ما علاقة ترتيبية معينة فإن هذه الحجج تنتمي إذ ذاك إلى نفس السلم الحجاجي . ويتسم السلم الحجاجي بالسمتين الآتيتين :
1- كل قول يرد في درجة ما من السلم الحجاجي يكون القول الذي يعلوه دليلا أقوى منه .
2- إذا كان القول "ب" يؤدي إلى النتيجة "ن" فهذا يستلزم أن "ج" و "د" الذي يعلوه درجة يؤدي إليها ، والعكس غير صحيح ، فإذا أخذنا الأقوال الآتية :
- حصل عمر على الليسانس .
- حصل عمر عل الماجستير .
- حصل عمر على الدكتوراه.
فهذه الجمل تنتمي إلى نفس الفئة الحجاجية ، وتنتمي إلى نفس السلم الحجاجي فهي كلها تؤدي إلى نتيجة مضمرة من قبيل كفاءة عمر العلمية . ولكن القول الأخير "حصل عمر على الدكتوراه" هو الذي يرد في أعلى درجات السلم الحجاجي ، وهو أقوى دليل على مقدرة عمر العلمية ، ويمكن الترميز لهذا السلم كما يلي :


ن = الكفاءة العلمية



د = الدكتوراه.

ج = الماجستير.

ب = الليسانس.



"ب" ، "ج" ، "د" حجج وأدلة تخدم النتيجة "ن".
وللسلم الحجاجي قوانين أهمها ثلاثة : [4] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn4)
1- قانون النفي : إذا كان قول ما "أ" مستخدما من قبل متكلم ما ليخدم نتيجة معينة فإن نفيه أي( ≈أ) سيكون حجة لصالح النتيجة المضادة .
- زيد مجتهد ، لقد نجح في الامتحان .
- زيد ليس مجتهدا ، إنه لم ينجح في الامتحان.

2- قانون القلب : إذا كانت إحدى الحجتين أقوى من الأخرى في التدليل على نتيجة معينة فإن نقيض الحجة الثانية أقوى من نقيض الحجة الأولى في التدليل على النتيجة المضادة ، ولنوضح هذا بالمثالين التاليين :
- حصل زيد على الماجستير وحتى الكتوراه.
- لم يحصل زيد على الدكتوراه بل لم يحصل على الماجستير.
3- قانون الخفض : إذا قلنا:
- الجو ليس باردا.
فنحن نستبعد التأويلات التي ترى أن البرد قارس.
إذا لم يكن الجو باردا فهو دافئ أو حار .
وتتجلى صعوبة صياغة هذه الوقائع في أن الخفض الذي ينتج عن النفي لا يتموقع في السلم الحجاجي ، ولا يتموقع أيضا في سلمية تدريجية موضوعية يمكن تعريفها بواسطة معايير فيزيائية . فلا تندرج الأقوال الإثباتية من نمط (الجو بارد) والأقوال المنفية من نمط ( الجو ليس باردا) في نفس الفئة الحجاجية ولا في نفس السلم الحجاجي.[5] (http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=861527#_ftn5)

- العوامل الحجاجية والروابط الحجاجية :
لما كانت للغة وظيفة حجاجية ، وكانت التسلسلات الخطابية محددة بواسطة بنية الأقوال اللغوية و بواسطة العناصر والمواد التي تم تشغيلها ، فقد اشتملت اللغات الطبيعية على مؤشرات لغوية خاصة بالحجاج. فاللغة العربية مثلا ، تشتمل على عدد كبير من الروابط والعوامل الحجاجية التي لا يمكن تعريفها إلا بالإحالة على قيمتها الحجاجية . نذكر من هذه الأدوات : لكن ، بل ، إذن ، حتى ، لاسيما ، إذ ، لأن ، بما أن ، مع ذلك ، تقريبا ، ما....إلا....، وينبغي أن نميز بين صنفين من المؤشرات والأدوات الحجاجية : العوامل الحجاجية (Les opérateurs argumentatifs) والروابط الحجاجية (les (connecteurs argumentatifs .
1العوامل الحجاجيـة :
العوامل الحجاجية هي مورفيمات إذا وجدت في ملفوظ تحول وتوجه الإمكانات الحجاجية لهذا الملف

- [1]أبو بكر العزاوي : "اللغة والحجاج" . العمدة في الطبع.الطبعة الأولى.الدار البيضاء .المغرب.ص16.

-Jacques Moschler et Anne Reboul : " Dictionnaire encyclopédique de pragmatique" .p281. . [2]
Une échelle argumentative est donc une classe argumentative orientée" "

- Ibid : p281. [3]

- Ibid : p287. [4]

- Ibid : p287. [5]

**د لا ل**
2012-12-30, 16:54
فهي لا تربط بين متغيرات حجاجية أي بين حجة ونتيجة أو بين مجموعة حجج ولكنها تقوم بحصر وتقييد الإمكانات الحجاجية التي تكون لقول ما، وتضم مقولة العوامل أدوات من قبيل : ربما ، تقريبا ، كاد ، قليلا ، كثيرا ، ما...إلا....وجل أدوات القصر.
ولنوضح أكثر مفهوم العامل الحجاجي ندرس المثالين الآتيين :
- الساعة تشير إلى الثامنة.
- لا تشير الساعة إلا إلى الثامنة .
فعندما أدخلنا على المثال الأول أداة القصر "لا...إلا..." وهي عامل حجاجي لم ينتج عن ذلك أي اختلاف بين المثالين في القيمة الإخبارية ولكن الذي تأثر هو القيمة الحجاجية للقول ، أي الإمكانات الحجاجية التي يتيحها ، فإذا أخذنا القولين الآتيين :
- الساعة تشير إلى الثامنة ، أسرع .
- لا تشير الساعة إلا إلى الثامنة ، لا تسرع.[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftn1)
فسنلاحظ أن القول الأول سليم وله إمكانات حجاجية كثيرة كالدعوة إلى الإسراع ، التأخر والاستبطاء ، هناك متسع من الوقت ، موعد الأخبار ، وبالتالي فهو يخدم نتيجة من قبيل (أسرع) كما يخدم النتيجة المضادة لها (لاتسرع).لكن عندما أدخلنا عليه العامل الحجاجي "لا.....إلا..." فقد تقلصت إمكاناته الحجاجية وأصبح الاستنتاج الممكن هو :
- لا تشير الساعة إلا إلى الثامنة ، لا داعي للإسراع.
2-الروابط الحجاجية :
الرابط الحجاجي مورفيم من صنف الروابط (حروف العطف- الظروف) فهو يربط بين وحدتين دلاليتين أو أكثر ، في إطار استراتيجية حجاجية واحدة .[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftn2)
وللروابط وظيفتان :
1-تربط بين وحدتين دلاليتين أو أكثر .
2-تخدم دورا حجاجيا للوحدات الدلالية التي تربط بينها . [3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftn3)
فالروابط تربط بين قولين أو بين حجتين أو أكثر وتسند لكل قول دورا محددا داخل الاستراتيجية الحجاجية العامة . ويمكن التمثيل للروابط بالأدوات الآتية : بل، لكن ، حتى ، لاسيما ، إذن ، لأن ، بما أن ، إذ .
فإذا أخذنا المثال الآتي :
- زيد مجتهد ، إذن سينجح في الامتحان .
فسنجد أنه يشتمل على حجة هي (زيد مجتهد ) ونتيجة مستنتجة منها (سينجح) وهناك الرلبط (إذن) الذي يربط بينهما.
ونميز بين أنماط عديدة من الروابط :
أ- الروابط المدرجة للحجج ( حتى ، بل ، لكن ، مع ذلك ، لأن.....)
ب- الروابط المدرجة للنتائج ( إذن ، لهذا ، بالتالي ....)
ج- الروابط التي تدرج حججا قوية ( حتى ، بل ، لكن)
د- روابط التعارض الحجاجي ( بل ، لكن ، مع ذلك )
ه- روابط التساوق الحجاجي ( حتى ، لاسيما ) [4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftn4)

فقولنا :
- جاء زيد .
- حتى زيد جاء .
القولان يخدمان نتيجة واحدة ، ولكن في المثال الثاني (حتى زيد جاء ) يقدم معلومة جديدة (مجئ زيد غير متوقع) فدور الرابط تمثل في إدراج حجة جديدة أقوى من الحجة المذكورة في المثال الأول ، فالحجتان وإن كانتا تخدمان نتيجة واحدة إلا أن درجة القوة الحجاجية متفاوتة بينهما .
-الضامن والسند :( (garant et Support
وجود الروابط والعوامل الحجاجية لا يكفي لضمان سلامة العملية الحجاجية ، ولا يكفي أيضا لقيام العلاقة الحجاجية ، بل لا بدّ من ضامن يضمن الربط بين الحجة والنتيجة ، هذا الضامن هو ما يعرف بالمبادئ الحجاجية .
إن الشكل النموذجي القاعدي للحجاج يتمثل في الربط بين معطيات(حجج) ونتيجة. هذا الربط بين (حجج- نتيجة) يمكن أن يكون مؤسسا صراحة أو ضمنيا بواسطة ضامن Garant)) وسند أو دعامة((Support تكون الحجة هي الظاهرة والسند هو المضمر أغلب الأحيان ، أما العناصر الأخرى المكونة للمقطع الحجاجي فهي تتأرجح بين الظهور والإضمار .[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftn5)
وهذه المبادئ الحجاجية تقابل مسلمات الاستنتاج المنطقي في المنطق الصوري أو الرياضي ، هذه المبادئ هي قواعد عامة تجعل حجاجا ما خاصا و ممكنا ، ولها خصائص عديدة نذكر منها ما يلي :
أ- إنها مجموعة من المعتقدات والأفكار المشتركة بين الأفراد داخل مجموعة بشرية معينة .
ب- العمومية : فهي تصلح لعدد كبير من السياقات المختلفة والمتنوعة .
ج- التدرجية : إنها تقيم علاقة بين محمولين تدريجيين أو بين سلمين حجاجيين (العمل -النجاح)مثلا.
د- النسبية : فإلى جانب السياقات التي يتم فيها تشغيل مبدأ حجاجي ما ، هناك إمكان إبطاله ورفض تطبيقه باعتباره غير وارد وغير ملائم للسياق المقصود ، أو يتم إبطاله باعتماد مبدأ حجاجي آخر مناقض له .
فالعمل يؤدي إلى النجاح ولكنه قد يؤدي إلى الفشل في سياق آخر إذا زاد عن الحد المطلوب وإذا نظر إليه على أنه تعب وإرهاق وإهدار للطاقة.
وفي تحليل النص الحجاجي نعتمد من الناحية الشكلية على مفهوم أساسي يتضمن أهم العناصر في عملية الحجاج ، هو ما نسميه الهيكل الحجاجي schéma de base de l'argumentation) (Le .إنه يقابل تقريبا ما سماه أرسطو بالقياس الحجاجي : مقدمة كبرى - مقدمة صغرى- ونتيجة. فقد سميت عناصر هذا القياس بمصطلحات جديدة عند تولمان Toulmin فسمى"المقدمة الكبرى" قانون العبورloi du passage)) لأنها تسمح لنا بالانتقال من"الحجة" (المقدمة الصغرى) إلى النتيجة. ثم أضاف عناصر أخرى ثانوية مثل "السند" (Support) الذي هو مرجع لقانون العبور و "علامة القوة" التي تزيد في قوة النتيجة أو تنقص منها. فإذا قلنا :
- عمر ولد في فرنسا .
يحمتل إذن أن تكون له الجنسية الفرنسية ، فكلمة "يحتمل" تضعف هذه النتيجة .أو مثل الاستثناء الذي يسمح بإقصاء الحالات الاستثنائية.[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftn6)
ولتوضيح الشكل العام للمقطع الحجاجي (معطيات "حجج" نتيجة) نقدم المثال التالي :[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftn7)
- المركيزة لها أيادٍ ناعمة .
- إذن أنا أحب المركيزة.[8] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftn8)
إن الذي يؤسس في هذا المقطع الانتقال من المعطاة (الحجة) إلى النتيجة هو القاعدة الاستدلالية (المقدمة الكبرى) التي ترتكز على مبدأ عام أو هو ما هو متعارف عليه ويمكن صياغته بالطريقة الآتية ( الرجال يحبون المرأة التي لها أيادٍ ناعمة ) ، يمكن إذ

[/URL]- Ibid : p62. [1]

(http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftnref1)- Ibid: p62. [2]

- Dominique Maingueneau : " pragmatique pour le discours littéraire ". p54. [3]

(http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftnref3)- [4].. أبوبكر العزاوي : " الحجاج في اللغة". ص27

- Jean Michel Adam : " les textes types et prototypes ". E.d.Nathan .p105. [5]

[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftnref5) - كورنيليا فون راد –صكوحي : " الحجاج في المقام المدرسي " . كلية الآداب . منوبة . تونس. ص17.

- Jean Michel Adam : Ibid .p105. [7]

[URL="http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftnref8"][8] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftnref7) - ibid : p105.

**د لا ل**
2012-12-30, 16:56
، يمكن إذن تفكيك الحركة الاستدلالية وتقديمها في شكل قياس منطقي يتكون من مقدمة كبرى ، مقدمة صغرى ونتيجة.
مقدمة كبرى أو(قاعدة الاستدلال) = الرجال يحبون المرأة التي لها أيادٍ ناعمة.
مقدمة صغرى (حجة) = المركيزة لها أيادٍ ناعمة.
نتيجة = إذن أنا أحبها.
يمكن تنظيم الحركة الحجاجية في هذا المقطع الحجاجي (الهيكل الحجاجي) كالتالي:[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftn1)
المركيزة لها أيادٍ ناعمة الرجال يحبون المرأة الناعمة الأيدي إذن أنا أحبها



لأن
الضامن




معطاة(حجة) السند نتيجة

تأسيسا على هذا يمكن صياغة النموذج الشكلي للحركة الحجاجية كالتالي:[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftn2)


معطاة قاعدة الاستدلال نتيجة


ضامن


سند





























































إن المعطاة (الحجة) في المثال السابق لا تؤدي إلى النتيجة ( أنا أحب المركيزة) إلا عن طريق قاعدة الاستدلال.[3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftn3)
وإذا قلنا :
- المركيزة لها أيادٍ ناعمة ، لكنني لا أحبها .
في هذا المثال تمت معارضة القاعدة التي اشتغلت في المثال السابق ، وقد جاء الرابط الحجاجي (لكن) ليؤكد انقلاب النتيجة المنتظرة . بناء على هذا يجب أن نستنتج بأن تطبيق قاعدة الاستدلال المفضي إلى نتيجة ما ليس حتميا بل هو احتمال فقط ، إذن يمكن أن يكون هناك تقييد لقاعدة الاستدلال قد يؤدي إلى دحض العلاقة بين الحجة والنتيجة المتوقعة.[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftn4)
وهكذا نحصل على الشكل الآتي :








(معطاة) حجة ق لكــن نتيجة لا "ن"
تطبيق التقييد

تطبيق قاعدة الاستدلال


نتيجة "ن"





إن الشكل الذي صاغهToulmin وطوره باحثون آخرون بعده ، يمكن أن يعتبر شكلا نموذجيا يعبر تعبيرا صحيحا عن عمليات الإسناد والدحض للملفوظات المميزة للمقطع الحجاجي النموذجي ، ومن أجل تجسيد هذه الفكرة وتوضيحها ننطلق من هاتين القضيتين الوصفيتين .[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftn5)
1- علي فرنسي.
1َ- محمد جزائري. [6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftn6)
كل قضية من هاتين القضيتين يمكن أن تتحول إلى جزء من مقطع حجاجي ، إذا أسندت إلى قضية أخرى مرتبطة بها .

2-علي ولد في فرنسا.
2ََ- محمد ولد في الجزائر.
إن القضية الثانية لا تصبح معطاة أو مقدمة لنتيجة [ قضية(2)] إذن من المحتمل [قضية (1)] إلا بالنظر إلى قضية ثالثة تكون مضمرة غالب الأحيان.
3- الأشخاص المولودون في فرنسا هم عموما فرنسيون.
3َ- الأشخاص المولودون في الجزائر هم عموما جزائريون.
هذه القضية المضمرة التي تضمن صحة الاستدلالات ومصداقية البناء الحجاجي ترتكز هي بدورها إلى سند مضمر هو أيضا ويمكن صياغته على النحو التالي:
4- نظرا لقانون الجنسية الساري في البلد المعني.
لكن تقييدا في شكل دحض أو حصر أو استثناء يمكن أن يغير النتيجة:
5- إلا إذا اختار الجنسية الجزائرية حين بلغ الثامنة عشرة.
5َ - إلا إذا كان والده أجنبيا .
والاستثناء ليس نفسه في الحالتين ، فالعلاقة بالأرض في فرنسا تتقدم على الرابطة الدموية ، أما في الجزائر فإن رابطة الدم لها الأولية وبالتالي فإن جنسية الوالد يمكن أن تشكل تقييدا لقاعدة الاستدلال ، وهذا يعني أن الاستدلال الحجاجي يكتسب فعاليته ضمن عالم أو فضاء دلالي يمكن أن نعتبره حقلا حجاجيا . [7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftn7)
لكن الشكل النموذجي في الحالتين يظل واحدا وهوشكل يمكن صياغته كالتالي :

لكي نؤكد (1) أو (1َ) يجب أن نفترض (2) أو(2َ) بسبب (3) أو (3َ) و(4) تحت شرط (5) أو (5َ).
ويكون النموذج الحجاجي الكامل الذي يلخص الحركة الحجاجية في المثالين هو :

قضية(2)أو(2َ)..........استدلال...........إذن من المحتمل......قضية(1)أو(1َ)
معطيات نتيجة

ضامن (3)أو(3َ) إلا إذا (5)أو(5َ)




سند(4) تقييد
-العلاقات الحجاجية:
إن بناء القول الحجاجي يتشكل عن طريق تفاعل مكوناته الداخلية من استدلال وآليات ومفاهيم ومكوناته الخارجية من وقائع إنسانية وتجربة وأسباب ومسببات وهي عناصر ضرورية لكنها غير كافية لفهم وتحليل القول الحجاجي ، ذلك لأن الحجاج يطرح إشكالات أخرى ترتبط بطبيعة أشكاله وأنواع حججه وطرق توظيفها.[8] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftn8) وفي هذا الإطار تكون الحاجة ماسة إلى معالجة أشكال الحجاج وأنواع حججه معالجة جدية لا يكون الهدف منها الوقوف على الحجاج كبناء نظري خالص وإنما يكون هدفها طرح القضايا الإشكالية التي يتناولها الحجاج .

-العلاقات الحجاجية :
1- علاقة التتابع :
يقع التتابع إجمالا على مستويين : أحدهما مستوى الأحداث حيث تنغرس الحجّة في الواقع وتنتهي بداهة إلى أحد الصّنفين وهما : الحجج المُؤَسَّسَة على بنية الواقع والحجج شبه المنطقية .وثانيهما مستوى أعمق من الأول يتّصل بالحجج فيما بينها ، حيث تقتضي الحجّة حجّة أخرى وتؤكّد الثانية الأولى .
2- العلاقة السببية :
هذه العلاقة تُعدّ من أبرز العلاقات الحجاجية وأقدرها على التأثير في المتلقي ، حيث لا يكتفي المتكلّم فيها على ربط الأفكار ، والوصل بين أجزاء الكلام بل يعمد إلى مستوى أعمق فيجعل بعض الأحداث أسبابا لأحداث أخرى ويَسِمُ فعلا ما بنتيجة مُتَوَقَّعَة لفعل سابق ويجعل موقفا معيّنا سببا مباشرا لموقف لاحق .
3-علاقة الاقتضاء :
تُعَدّ علاقة الاقتضاء ذات طاقة حجاجية عالية ، حيث تجعل الحجّة تقتضي النتيجة اقتضاء ، فتغدو العلاقة ضربا من التلازم وهو ما لا توفّره سائر العلاقات الأخرى حتّى السّببية ، وأقدر الروابط الحجاجية على توفير هذا النوع من العلاقة أدوات الشّرط المختلفة .
4- علاقة الاستنتاج :
هذه العلاقة منطقية ، مِمّا يدين به الحجاج للمنطق ، وهي تؤكّد أنّ الحجاج في جانب من جوانبه يُعَدّ فنّا للانتقال من فكرة إلى أخرى بشكل منظّم وبيسر.
5- علاقة عدم الاتفاق أو التناقض :
بواسطة هذه العلاقة ندفع أمرا بإثبات تناقضه مع نتيجة للخطاب ، وإن كان التناقض ليس شكليا خالصا وإنّما أقصى ما يمكن الحديث عنه هو انعدام التوافق بين الحجّة والنتيجة[9] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftn9) .












تطبيق : تحليل قصيدة لجرير.
النص :
قالوا نصيبك من أجر فقلت لهم

[/URL]-Ibid : p 105. [1]

[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftnref1) - عبد القادر بوزيدة : " نموذج المقطع البرهاني" . مجلة اللغة والأدب . العدد 12. ص 309.

- ibid : p106. [3]

[4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftnref3) - عبد القادر بوزيدة : المرجع السابق .ص309.

- Ibid : p107. [5]

[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftnref5) - عبد القادر بوزيدة : المرجع السابق . ص313.

[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftnref7) - عبد القادر بوزيدة : نفسه .ص 313..

- [8] عبد السلام عشير : " عندما نتواصل نغير" .ص 156.

[URL="http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftnref9"][9] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=12590381&posted=1#_ftnref8) - سامية الدريدي : " الحجاج في الشعر لعربي القديم " ص321..

**د لا ل**
2012-12-30, 16:57
تطبيق : تحليل قصيدة لجرير.
النص :
قالوا نصيبك من أجر فقلت لهم من للعرينِ إذا فارَقْتُ أشبالي
لكن سوادة يجلو مُقْلَتَيْ لَحِمٍ بازٍ يصرصر فوق المرقب العالي
قد كنت أعرفُهُ مِنِّي إذا غلقت رُهْنُ الجياد ومدّ الغايةَ الغالي
إلاّ تكنْ لك بالدّيْرينِ باكيةٌ فربّ باكية بالرملِ معوالِ
كأمِّ بَوٍّ عجول عند معهده حنّت إلى جِلْدٍ منه وأوصالِ
تَرْتَعُ ما نسيت حتى إذا ذَكَرَتْ ردّت هماهِمَ حرّى الجوف مِثكالِ
زِدْنا على وجدها وجدا وإنْ رجعت في القلب منها خطوب ذات بلْبال
فارَقْتني حين كفّ الدهر من بصري وحين صرت كعظم الرِّمّة البالي
إنّ الثُّوِِيَّ بذي الزيتون فاحتسبي قد أسرع اليومَ في عقلي وفي حالي


التحليل :
هذه القصيدة قالها جرير في رثاء ابنه "سوادة" وقد هلك بالشام ، وهي على قصرها ثريّة من حيث معانيها ، هامة من حيث بنيتها الحجاجية . فالرثاء تفجع وتمجيد ، أما التفجع فهو إظهار الحرقة والألم لفقدان المرثي ، وأما التمجيد فهو تعداد خصاله وبيان فضائله .ومدار اهتمامنا في هذا التحليل هو الأنساق الحجاجية في هذه القصيدة ومختلف الروابط المعتمدة فيها .
يفتتح الشاعر قصيدته بقولين نسب الأول إلى ضمير الجمع "هم"( قالوا نصيبك من أجر) وجاء الثاني منسوبا إلى الذات الشاعرة ردا على القول الأول(فقلت لهم من للعرينِ إذا فارَقْتُ أشبالي) .فالناس يعزونه عزاء جميلا ويخففون عنه وقع الفجيعة وحجتهم في ذلك قيمة دينية مفادها ما في الصبر على الفجائع من أجر لا سيما إذا كان الصابر أبا فقدَ فلذّة كبده . هذه الحجدة يدحضها الشاعر بسؤال إنكاري (من للعرينِ إذا فارَقْتُ أشبالي؟) . فلا معنى لبيته الذي استعار له لفظة "العرين" إن خلا فجأة من أولاده الذين استعار لهم لفظة "الأشبال" ، فالفجيعة دمّرت بيتا كان عامرا ودكّت قوته وأفقدت الشاعر معنى الثبات والقرار. ويأتي الرابط الحجاجي "لكن" في البيت الثاني ليحكم ربطه بما سبق وليوجّه الخطاب وجهة جديدة غير تلك التي ذكرت ،ذلك أنّ من أهم سمات "لكن" الحجاجية أنها إذا حضرت في كلام نفت أهمية ما سبقها من قول ووجهت الكلام وجهة ما لَحِقَ بها . فقوله :
لكن سوادة يجلو مُقْلَتَيْ لَحِمٍ بازٍ يصرصرُ فوق المرقب العالي
يجعل الحجة المثبة في هذا البيت أهم بكثير من الحجة السابقة التي دفع بها إمكانية السلوّ والقدرة على الصبر . فهي هنا حجة تمثيلية تبني الواقع عن طريق المجاز ف (سوادة) كان كالبازي في حدّة نظراته وصفاء مقلتيه وقوته وبأسه . ويضيف الشاعر للمشبه به من النعوت ما يوضح المقصد ويجلي الغاية الحجاجية .
ويؤكد ما ذهب إليه في البيت الثالث إذ يقول :
قد كنت أعرفُهُ مِنِّي إذا غلقت رُهْنُ الجياد ومدّ الغايةَ الغالي
فيأتي بحجة بنيت على الواقع هذه المرة ، إذ عاد الأب المنكوب إلى ماض قريب يستدعي أحداثه التي خبرها وعاينها ( كنت أعرفُهُ مِنِّي).فهي أحداث تؤكد التقارب بينهما إلى حدّ التماهي ، إذ كان الفتى في كلذ مناسبة يؤكد لأبيه أنه جزء منه يتحلى بخصاله ويشاركه فضائله .
ويقوى الحجاج وتشتد القدرة على الاستدلال على هول الفجيعة في البيت الثامن :
فارَقْتني حين كفّ الدهر من بصري وحين صرت كعظم الرِّمّة البالي
إذ يعلل فداحة المصيبة بموضع مشترك مفاده أنّ فقدان ما أمست الحاجة إليه مؤكّدة أفظع من فقدانه وقد كنا في غنى عنه .
وفي البيت الأخير تصوير لحاله بعد الموت وأثر الفجيعة فيه ، فالراقد في مثواه قد أسرع في عقله وفي حاله أي نال من الشاعر جسدا وعقلا وأسرع به نحو المنيّة فإذا به فاعل بالموت والأب مفعول به

**د لا ل**
2012-12-30, 17:13
المنهج السيميائي : " منهـج قريماس "
مـدخل منهجي :
عرف القرن الماضي تطوّراً كبيراً في مجال النّقد الأدبي ،وقد ظهرت اتجاهات ومدارس نقديّة مختلفة نظرت إلى العمل الأدبي من الدّاخل في خصوصيّته ، وهذه الاتجاهات جاءت كردِّ فعل لممارسات تاريخ الأدب التقليديّة والتي كانت تنحصر في وصف كلِّ ما هو متعلِّق بولادة العمل الأدبيِّ وظروف نشأته ،متجاهلة في نهاية الأمر العمل نفسه.
وكانت دراسات الشّكلانيِّين الرّوس في بداية القرن محاولةً جدِّية وجيِّدة في بعض المجالات ،واتّسمت بالعلميّة وإن لم تكن قد أسّست علماً بما في العلم من قوانين ثابتة، وتبعتها انجازات البنيويِّين في فرنسا ،والتي نظرت إلى النّصّ الأدبِّي باعتباره دائرة مغلقة، ومنذ السِّتينات بدأت السِّيميائية تتبلور كمنهج ينظر في القوانين التي تحكم المعنى .وهذه المدارس في مجملها استفادت من العلوم اللسِّانية وجعلتها منطلقاً لتأسيس نظريِّتها في التّحليل.
وظائف "بروب":
يمثِّل البحث الذي قام به "فلاديمير بروب " خطوة حاسمة في وضع منهجيّة جديدة لتحليل النّصوص.وتعتمد دراسته أساسا النّظرة الهيكليّة الوصفيّة ،فالحكاية هيكل بنيته مركّبة ،يمكن تفكيكها واستنباط العلاقات التي تربط بين مختلف وظائفها في مسار قصصي معيَّـن.
وقد تمكّن "بروب"بعد دراسته لما يناهز المائة حكاية عجيبة من استنتاج ما سّماه بالمثال الوظائفي، وهو البنية الشّكليّة الواحدة التي تولِّد هذا العدد غير المحدود من الحكايات ذات التّراكيب و الأشكال المختلفة[1] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn1).
والوظيفة عنده هي عمل الفاعل معرَّفا من حيث معناه في سير الحكاية، والغاية من بناء المثال الوظائفي هي تجنّب ما سمّته النّظريّة الكلاسيكيّة بالمبِرِّرات النّفسانيّة .وعدد الوحدات الوظيفيّة عند "بروب"لا يتجاوز الواحد والثلاثين وظيفة. تبتدىء بعرضٍ أوّليٍّ الغاية منه إرساء دعائم القصّة زمنيّا وفضائيّا، وتقديم الشّخصيّات وإظهار غاياتهم، وهذا العنصر البنائي يمهِّد لظهور الوظائف[2] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn2).
ويمكن تلخيص النّموذج الوظائفي عند بروب بما يلي:
1-حصـول الاقتقـار (الوضعيّة الأوليّة-الوضع الأصل)[رحيل'1' -منـع'2' -خرق'3' - استخبار'4' اطلاع'5' -خدعة'6' - تواطؤ'7' - إساءة'8' - افتقار'9' ]
2-الاختبار التّرشيحي [طلب النّجدة '10' - قبـول'11' -اختبار المانح للبطل'12' - ردّ فعل البطل'13' - تسلّم الأداة'14' ]
3-الاختبار الرّئيسي [الانتقال'15' -الصِّراع'16' - العلامة'17' - هزيمةالمعتدي'18' - انتصار البطل'19' - إصلاح الافتقار'20' - عودة'21' - مطاردة البطل'22' - توفّر النّجدة'23' ]
4- الاختبار الممجِّد [ مطالب البطل المزيّف'24' - اختبار البطل الحقيقي'25' - الإنجاز'26' - التّعرّف على هويّة البطل الحقيقي'27' - انكشاف البطل المزيّف'28' -تجلِّي البطل'29' - معاقبة المعتدي'30' - مكافأة البطل'31' ][3] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn3)
ورغم هذه المحاولة الرّائدة لبروب فهي لا تبتعد عن المحاولات الأخرى للشّكلانيين الذين نظروا إلى العمل الأدبي بوصفه بنية مغلقة، ومن ثّم إلى تضييق إطار التّحليل الشّامل له.
وقد ظهرت أبحاث كثيرة منذ مطلع القرن العشرين تدعو إلى تأسيس علم للعلامات، ذلك العلم الذي بشَّر به "سوسور"في قوله :»نستطيع أن نتصور علما يدرس حياة العلامات في داخل الحياة الاجتماعية بحيث يشكِّل جزءا من علم النّفس العام ندعوه بالسِّيميولوجية ،وسوف يعرِّفنا هذا العلم بما تتكوَّن منه العلامات والقوانين التي تحكمها [4] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn4)«.
وبتطوّر المدارس اللسانيّة في النِّصف الأوّل من هذا القرن صاحبها تطوُّر في علم العلامات ،وقد تركت هذه المدارس اللسانيّة بصمات واضحة في المنحى الذي أخذته الدِّراسات النّقديّة ابتداءً من الستينات، وهي الفترة التي شهدت ميلاد السِّيميائيّة[5] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn5).
منهـج "قريماس ":
تقوم النّظريّة السِّيميائيّة في شموليتها على التّمييز بين صعيدي التّعبير والمضمون الذي أقرَّه "هيالمسلف" ،والذي يجعلنا نفترض أنّ معرفتنا للمعنى تتأطّر بالشّكل لا بالمادّة ، ويعتبر شكل المضمون الجهة الأساسيّة والمركزيّة التي يحيل عليها البحث السِّيميائي ونتخلَّى بذلك من النّظرة إلى النّصّ باعتباره انعكاسا لمشاعر الكاتب وإسقاطاً لهموم المجتمع وتناقضاته ،وتصبح الممارسة النّقديّة نشاطاً معرفيّاً مخلَّـصاً من التّحاليل الايديولوجيّة.
ونتيجة لهذا التطوُّر برز في مجال سيميائيّة تحليل الخطاب السّرديِّ "قريماس"[6] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn6)، والسِّيميائية القريماسيّة حقّقت نتائج مهمّة في البحث، وقد عاد هذا الباحث إلى النّموذج الوظائفي ل "بروب" وبنى عليه رسماً سرديّاً قادراً على احتواء اللّحظات القويّة في الحكاية.
وقد رأى "قريماس" بأنّ منهج "بروب" تنقصه الدِّقّة كما وجد فيه فراغات واضحة[7] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn7)، ويُضرب مثلا على انعدام الدِّقة فيه في المزج بين الوظيفة و الحالة، "بروب" يعتبر [الرّحيل ] وظيفة و"قريماس" يوافقه في ذلك، لأنّ الرّحيل يغطِّي حقلا أو مجالا تقوم به الشّخصيّة ،ولكنّ [الافتقار] بعيد من أن يكون وظيفة ،ولا يتعدّى أن يكون حالة ولا يمكن اعتباره وظيفة على الإطلاق.
بعد هذه الانتقادات يضع "قريماس" رسماً سرديّاً ينبني على مُهِمّات ثلاث تؤطِّر المسار السّردي للبطل:
ـ المهمّة التّأهيليّة.
ـ المهمّة الحاسمة.
ـ المهمّة التّمجيديّة[8] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn8) .
و"قريماس"ينطلق في بحوثه من التّفرقة بين البنية العميقة والبنية السّطحيّة ، والأهمّ عنده هو البنية العميقة ، أمّا البنية السّطحيّة فليست سوى تجليّات لإسقاط مكوِّني البنية العميقة[9] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn9).
والسّؤال الذي تبحث فيه السِّيميائيّة في مقاربتها للنّصوص هو:كيف قال هذا النّصّ ما قاله ؟[10] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn10)
وداخل النّصّوص هو المجال الوحيد الذي تتمكّن السِّيميائيّة من البحث فيه لتأسيس هذه الكيفيّة"كيفيّة المعنى"، فالتّحليل السِّيميائيُّ إذاً هو تحليل يبحث في داخل النّصّوص ليصف شكل المعنى ، أو هندسته، وليس المعنى في حدّ ذاته. والمعنى لايتولَّد إلاّ بالاختلاف ،والتّحليل السِّيميائيُّ هو وصفٌ للاختلاف وتثبيت له، فأين نجد هذا الاختلاف، وما هي العناصر التي نجده بينها ؟
إنّ تحليل الخطاب يجعلنا نتتـبَّع الاختلافات التي تظهر في النّصوص من خلال تتابع النّصّ، والسَّرديّة هي ظاهرة تتابع الحالات والتّحوّلات المسجّلة في الخطاب، والتى هي بدورها مسؤولة عن انتاج المعنى[11] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn11).

البنية السّطحيّة :
إنّ التّحليل السِّيميائي يقوم على قاعدة الاختلافات بين الوضعيّات وفق تحوّلات يستلزمها منطق السّرد .والفاعل في وضعيّته البدئيّة (الأوليّة) يكون في حالة اتِّصال بموضوع القيمة ،و يُـعَـبَّر عن هذه الصِّيغة )ف&Ccedil; م( أو يكون في حالة انفصال ويُـعبَّر عنها بالصِّيغة )ف &Egrave; م ( ،والحالة البدئيّة هذه تطرأ عليها تحوّلات وفق أفعال تحويليّة تجعل الفاعل في وضعيّة تختلف عن وضعيّته الأولى، ويصبح الاختلاف قائماً بين الحالة الافتتاحيّة والوضع النِّهائي.
ففي النص السابق (مثل الأسود وملك الضفادع )لابن المقفع ، يبدو أن الفاعل وهو الأسود كان في الحالة البدئية في وضعية انفصال عن موضوع القيمة المتمثّل في الطعام ونرمز لذلك بما يلي : (ف&Egrave;م) حيث . ف = الأسود . م= الطعام.
ولكن التحولات التي طرأت على النص جعلت الأسود يتحول من وضعية انفصال إلى وضعية اتصال بموضوع القيمة في نهاية النص ، ونرمز لذلك بما يلي : (ف &Ccedil; م)
هذه الحالات والتّحوّلات تشكِّل البرامج السّرديّة للخطاب ،والبرنامج السّردي يتمحور حول ملفوظات الفعل ، باعتبارها تحويلات تحكم ملفوظات الحالة وتشكِّل فى الوقت نفسه البرامج السّرديّة.ومن الواضح أنّ هذه التّحويلات المتموضعة بين الحالات يمارسها فاعل الفعلِ على إثر تدخّل يُحدِث تغييراً يدلِّل على الانتقال من علاقة إلى أخرى يفترض اللجوء إلى تحويل ،أي إلى فعل ينبني عليه برنامج سرديٌّ ينتهي إلى حالتين متمايزتين :اتِّصاليّة أو انفصاليّة ، تقودان الفاعل إلى امتلاك موضوع القيمة أو إلى فقدانه[12] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn12). والمرحلة الأساسيّة في هذا البرنامج تتمثّل في الأداء Pérformanceباعتبارها نواة تدور حولها المراحل الأخرى، وتقابلها صيغة [فعل الماهية] Faire-&Ecirc;tre. إلاّ أنّ الفاعل المنجز لابدّ له من محفِّزٍ (مرسل) يحثّه على القيّام بالفعل ويقنعه بذلك، والصِّيغة المناسبة لهذه المرحلة هي فعل الفعل Faire-faire . بعد هذا التّأثير الذي يمارسه المرسل على الفاعل، يشترط أن يكون الفاعل قد توفّرت لديه مواضيع الصِّيغة les modalités والتي بواسطتها ينجز فعله، وتوصله إلى نتيجة وهي مرحلة الكفاءة ، وتقسّم مواضيع الجهة (الصيغة)إلى قسمين :
-جهات مضمرة : إرادة الفعل / واجب الفعل تأسيس الفاعل.
- جهات محينة : معرفة الفعل / قدرة الفعل تأهيل الفاعل.
وإذا عدنا إلى النص السابق، فالأسود تأسس كفاعل لما تملّك الإرادة وأحس بوجوب الفعل ، ويتضح ذلك في قوله : (فدبّ يلتمس المعيشة لنفسه..) ففعل دبّ يوحي بإرادة الفعل والإحساس بواجب الفعل .وبعد امتلاكه للجهات المضمرة تأهّل كفاعل بامتلاكه للجهات المحيّنة والتي تتمثّل في معرفة الفعل والدليل على ذلك حسن محاورته للضفدع ولملك الضفادع حتى جعل حيلته تنطلي عليه ، فهذا يندرج في معرفة الفعل ، يضاف إليها القدرة على الفعل والتي تتضح من خلال ما أنجزه .
وبعد الأداء تأتي المرحلة الرّابعة في البرنامج السّردي والمتمثِّلة في التّـقويم، والصِّيغة المناسبة لها هي كون الكون &Ecirc;tre-de l'&Ecirc;tre ، إذ فيها يُقوَّم عمل الفاعل وفقا للعقد الذي أبرمه مع المرسل ،وتُسمّى مرحلة الاعتراف،ومن خلالها تتحدَّد مصداقيّة النّصّ[13] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn13).
وفي النص السابق تتحدد هذه المرحلة في قوله ( فأمر له كل يوم بضفدعين ...فعاش بذلك ولم يضره خضوعه للعدو بل انتفع بذلك.)
والبرنامج السّردي وإن كان على جانب من البساطة يتأسّس على مشروعين سرديّين متلازمين .ومن ثمّ يجوز للرّاوي أن يركِّز على أحدهما جاعلا الآخر ضمنيًّا لكن في اتجاه معكوس .فإذا امتلك فاعل موضوعا أفضى ذلك إلى سلبه من فاعل آخر في عالم محكوم بقواعد تعامليّة قارّة[14] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn14). وهكذا فالبرنامج السّردي يتميَّز بالازدواجيّة ، فإذا كانت الوضعيّة البدئيّة للفاعل هي حالة اتِّصال بموضوع القيمة
(ف1 &Ccedil; م) فإنّه يقابله دائما فاعل مضادٌّ في حالة انفصال عن هذا الموضوع (ف &Egrave; 2 م).
وفي الوضع النِّهائي غالباً ما يتحوّل موضوع القيمة من ف1 إلى ف2 أو العكس، نتيجة الصِّراع الذي يتخلّل العمل القصصيّ ، و انتاجيّة النّص السّرديِّ تتمّ وفق رؤية معيّنة حيث تبرز برنامجا أكثر من الآخر[15] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn15).
وقد حاول "قريماس" شكلنة المثال الوظائفي ليصبح قابلا للتّطبيق على كلِّ الأنماط القصصيّة ،وتتجلّى هذه الشّكلنة في الرّسم العاملي (البنية العامليّة) ،وهذه البنية تعكس بوضوح التّمييز بين العامل والفاعل[16] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn16).
والسِّيميائيّة تتعامل مع الشّخصيّة بمفهوم الدّور،فالعامل Actant لا يقتصر استعماله للدّلالة على الانسان ،فكلّ ما يقوم بوظيفة في القصة سواء أكان حـيّاً أم جامداً أم فكرة ايديولوجية يُـعدّ عاملا ،ويأخذ النّموذج العامليُّ الشكل الآتي:
المرسل ¬ الموضوع ¬ المرسل إليه



المساعد ¬ الفـاعل ® المعارض


ويتحدّد الدّور العامليّ من خلال علاقة العامل ببقيّة عناصر النّموذج العامليِّ.
والنموذج العاملي للنص السابق يمكن تحديده كما يلي :
المرسل موضوع القيمة المرسل إليه
( حب العيش) ( الطعام) (الأسود)



المساعد الفاعل المعارض
(الحيلة) (الأسود ) (الكبر والعجز )

وإضافة إلى الدّور العامليِّ للفاعل أو أيّ عامل آخر فإنّه يتقمّص دوراً آخر يتمثّل فيما يقوم به في مساره الصّوري،ونسمِّيه الدّور الغرضيR&Ocirc;le thématique[17] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn17). وذلك لأنّ البنيّة السّطحيّة تتـقاسمها تركيبتان : تركيبة سرديّة تشمل البرامج السّردية والأدوار العامليّة، وتركيبة خطابيّة تسعى إلى تقديم الجانب الشّكلي للموضوع، حيث تثير قضيّة الألفاظ وسيّاقاتها الدّلالية، وما تنجزه من مسارات صوريّة من خلال الأدوار الغرضيّة للعوامل.إلاّ أنّ التّركيبة السّرديّة هي التي تتحكّم في البنيّة الخطابيّة فتسَـيِّر صوَرَها وتضمن تجانسها ، وتمازُج التّركيبتين (السّرديّة و الخطابيّة) يشكِّل البنية السّطحيّة للخطاب. والتّحليل السّيميائيّ في جانبه هذا المتعلِّق بالصوّر يبدأ بملاحظة العناصر البسيطة (الوحدات المعجميّة) Léxémes والتي يسمح قاموس اللغة بتحديدها،واستخدامها في سيّاقٍ ما هو اكتشاف لإمكانيّةٍ من إمكانيات استخدامها، وهذه الصوّر تتجاور وتشكِّل شبكة من الصوّر مترابطة فيما بينها وهو ما يُسمّى بالمسار الصّوري.وهذه المسارات الصّورية هي التي تغطِّي البرامج السّرديّة،والمسارات الصّوريّة قد تشترك فيما بينها في نقاط معيّنة تندرج في إطار تشـكُّـلٌ خطابي معيّن.
والدور الغرضي الذي تقمصه الأسود في النص السابق هو ( العاجز – المحتال).



البنية العميقة :
في تحليل البنيّة السّطحيّة اكتشفنا التّحوّلات في البرامج السّرديّة والتي يـؤَسَّـسُ من خلالها المعنى،وفي البنية العميقة ننتقل من التّنظيم الذي يتحكّم في هذه التّحوّلات والاختلافات إلى المنطق العميق الذي يحكم الدّورة الدّلاليّة[18] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn18).
وينبغي في البدء تفكيك العناصر الدّالة إلى الخطوط الأساسيّة الدّنيا، فالبنية تتحدّد بإدراكنا للخلافات التي تقوم على الأقل بين عنصرين من عناصرها يكونان حاضرين في آن وتربطهما علاقة بشكل أو بآخر ،لأنّ العنصر في تفرّده لا يؤدِّي معنى ،ولا يملك قيمة دلاليّة.لذا ينبغي أن نربط العنصر بعلاقة مع عنصر آخر لامتلاكهما خاصيّة مثتركة ،ومن خلال هذه العلاقة تتجلّى الاختلافات بين العناصر ،وهذا الفرق بينها هو الذي يولِّـد المعنى[19] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn19).
إنّ الصّور التي عاينّاها في تحليل التّركيبة الخطابيّة قابلة للتّحليل المعجمي،والعنصر يمكن تفكيكه إلى الخطوط الدّنيا.
وانطلاقا من الموازاة التي أقامها الألسنيون بين الدّال والمدلول، واعتبارهم أنّ أيّ تغيير يلحق بالدّال يجد صداه في المدلول ،حاول علماء الدّلالة بناء نظريّة مماثلة تعتمد الموازاة بين الفونولوجية والدّلالة المعنوية.
وهكذا جعلوا المعطى الدّلالي في مستويين[20] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn20) :
-المستوى الأوّل :يتعلّق بالبنية العميقة.
-المستوى الثّاني: يتعلّق بالبنية السّطحيّة ،والتي بدورها تتفرّع إلى تركيبتين:
-تركيبة سرديّة.
-تركيبة خطابيّة

وعلى صعيد البنية العميقة يقيم البنيويّون النَّحو الأساسي الذي ينتظم العالَم المعنويّ الأوّل على أساسه.
والسِّيمات Sémes باعتبارها الوحدات الدّنيا للمعنى تُقسَّم إلى صنفين :
- سيمات نوويّة Sémes nucléaire
-سيمات سياقيّة Classémes
هذه السٍّيمات يمكن تجميعها وتصنيفها وفق نظائر ،هذه النّظائر هي التي تضمن تجانس الخطاب ،والنّظائر نوعان:
-نظائر دلاليّة Isotopies sémantiques تتحكّم فيها السِّيمات السِّياقية.
-نظائر سيميائيّة Isotopies sémiologique تتحكّم فيها السِّيمات النّوويّة[21] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn21) .
على أنّه لتحقيق النّوايا وترجمتها إلى عمل وفعل، يحتاج إلى أرض تكون ميداناً تتموقع فيه الأطراف المتواجهة و المتجاذبة، ذلك الميدان هو المرّبع السِّيميائي، وعلاقاته هي :التّضـاد - التّنـاقض - التّضمّـن[22] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn22) .
لكنّ الخطاب السّردي ،والخطاب اللغوي عامّة ،يخضع كما هو معـروف لمبدأ "الخطيّة". فهو ليس فضاءً منبسطا يتجلّى كما تتجلّى لوحة مرسومة مرّة واحدة من جميع زواياها ،إنّما تتوالى الملفوظات فيه تواليّا سياقيّا ، مـمّا يستوجب تحريك المربّع وبعث الحياة فيه[23] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn23).
وهكذا يثبت أنّ السِّيميائيّة تهتمّ بالظّروف المولِّدة للمعنى بحركيّته وبصيرورته في النّصّ، فالمعنى ليس ثابتاً بل هو قابل للتغيّر إذْ هو رهين ديمومة النّصّ القصصيّ .وفي هذا يقول "قريماس :»إنّ توليد المعنى ليس له معنى إلاّ إذا كان تغييرا للمعنى الأصلي «.وعلى هذا فكّـر في تكوين رسم هندسي يرمي إلى عقلنة المعنى ،وذلك بربط الصّريح بالضِّمني مع تنظير وشكلنة وسائل خلق المعنى وتصوّراته[24] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn24).
وفي هذا النِّطاق تصوّر ما أسماه بالمربّع السِّيميائيِّ كمثال أصوليٍّ لشكلنة المعنى . وقد أشرنا سابقا إلى أنّ الدّلالة تستخلص من علاقات الاختلاف والتّقابل القائمة بين حزمة من الوحدات الدّالة ، فالأبيض لا يستقيم معناه إلا بمقابلته بالأسود ، غير أنّ هذا التّقابل يقتضي وجود عنصر مشترك بينهما يسمّى "المحور الدّلالي"[25] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn25).
وانطلاقا من البنية الدّلاليّة الأساسيّة القائمة على التّقابل، بوسعنا أن نؤسِّس نموذجا منطقيّا ينظِّم شبكة من العلاقات
بين وحدات دلاليّة متولِّدة عن البنية المذكورة ،هذا الذي سّميناه المرّبع السِّيميائي[26] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn26).
م
أ أَ






لا أَ لا أَ
مَ

والمربع السيميائي للنص السابق هو :




(تعامل)
حيلة غفلة



( نجاح) (خسارة)
الأسود ملك الضفاد

لا غفلة لاحيلة

وسنحاول إبراز نوعيّة العلاقات القائمة بين أركان النموذج :
ـ العـلاقات التّدرُّجيّـة : تقوم العلاقة الأولى بين أ، أَ و م، والعلاقة الثانية بين لا أ، لا أَ و مَ.[27] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn27)
أ ¬ م لا أ ¬ مَ
أَ ¬ م لاأَ ¬ مَ

ـ العـلاقات المقـولاتيّة : وهي العلاقات التي تتولَّد بين هذه الأطراف،وتقوم عمليّة التّولّد الأولى على قاعدة النّفي الذي يصيب كلاً من طرفي التّعارض الأوَّلى ،وهي عمليّة تتيح إقامة ثلاثة أنواع من العلاقات[28] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn28) :
أولها ،علاقة التّناقض بين كلٍّ من طرفي التّعارض ونفيها: أ ¬ لاأ .
أ ¬ لاأَ .
ثانيها علاقة تضاد يقيمها الطّرفان الأوليّان : أ أَ
وعلاقة شبه التضاد :
لا أ لا أَ
ثالثتها علاقة تضمُّن بين :
) لا أَ أ ( ، )لا أ أَ (
التولُّد الثاني يتمّ بين علاقة التّضاد وشبه التّضاد وهي في هذه الحالة تناقض.
) م¹ مَ (
والتّولّد الثّالث بين مؤشِّر الإثبات ومؤشِّر النّـفي ،وهو في هذه الحالة تضادّ ، ويتمّ بين :
) لا أ أ ( و ) لا أَ أَ (
وعلى هذا فالمربّع السِّيميائي صار شكلا هندسيًا، يصحُّ توليد مفاهيم منه لصياغة نظرية تعتمد على الطوبولوجيا والعلاقة والاختلاف والائتلاف[29] (http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftn29).




تطبيق :
تحليل نص : مقاربة سيميائية .
المقامة البغدادية .
حدّثنا عيسى بن هشام قال :
اشتهيت الأزاذ وأنا ببغداذ ، وليس معي عقد على نقد . فخرجت أنتهز محالّه حتى أحلّني الكَرْخَ ، فإذا أنا بسوادي يسوق بالجهد حماره ويطرّف بالعقد إزاره . فقلت: "ظفرنا والله بصيد ، وحيّاك الله أبا زيد ، من أين أقبلت ؟ وأين نزلت ؟ ومتى وافيت ؟ وهلمّ إلى البيت" . فقال السواديّ : "لست بأبي زيد ، ولكني أبو عبيد ". فقلت : " نعم ، لعن الله الشيطان ، وأبعد النسيان ، أنسانيك طول العهد واتصال البعد ، فكيف حال أبيك ؟ أشابّ كعهدي أم شابَ بعدي؟ " فقال : " قد نبت الربيع على دمنته ، وأرجو أن يصيّره الله جنته ". فقلت : " إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ". ومددت يد البدار إلى الصدار أريد تمزيقه ، فقبض السوادي على خصري بجُمْعِه ، وقال : "نشدتك الله لا مزّقته ". فقلت : " هلمّ إلى البيت نُصِبْ غداءً ، أو إلى السوق نشتر شواء ، والسوق أقرب وطعامه أطيب". فاستفزّته حمة القرم ، وعطفته عاطفة اللقم ، وطمع ولم يعلم أنه وقع . ثم أتينا شوّاء يتقاطر شواؤه عرقا ، وتتسايل جوذاباته مرقا . فقلت : " أفرز لأبي زيد من هذا الشواء ، ثم زن له من تلك الحلواء ، واختر له من تلك الأطباق ، وانضد عليها أوراق الرقاق ، ورش عليه شيئا من ماء السماق ليأكله أبو زيد هنيا". فانحنى الشوّاء بساطوره على زبدة تنوره ، فجعلها كالكحل سحقا ، وكالطحن دقا. ثم جلس وجلست ، ولا يئس و لا يئست ، حتى استوفينا . وقلت لصاحب الحلوى: "زن لأبي زيد من اللوزينج رطلين ، فهو أجرى في الحلوق وأمضى في العروق . وليكن ليلي العمر ، يومي النشر ، رقيق القشر ، كثيف الحشو ، لؤلؤي الدهن ، كوكبي اللون ، يذوب كالصمغ قبل المضغ ، ليأكله أبو زيد هنيّا . قال : فوزنه ثم قعد وقعدت ، وجرّد وجرّدت ، حتى استوفيناه . ثم قلت : "يا أبا زيد ، ما أحوجنا إلى ماءٍ يشعشع بالثلج ليقمع هذه الصّارة ويفثأ هذه اللقم الحارّة ، اجلس يا أبا زيد حتى نأتيك بسقّاء ، يأتيك بشربة ماء ". ثم خرجت ، وجلست بحيث أراه ولا يراني أنظر ما يصنع . فلما أبطأت عليه ، قام السوادي إلى حماره ، فاعتلق الشوّاء بإزاره وقال : " أين ثمن ما أكلت ؟ " فقال أبو زيد : " أكلته ضيفا ". فلكمه لكمة ، وثنّى عليه بلطمة . ثم قال الشواء : "هاك ، ومتى دعوناك ؟ زن يا أخا القحة عشرين ". فجعل السوادي يبكي ، ويحل عقده بأسنانه ، ويقول : " كم قلت لذاك القريد " أنا أبو عبيد" وهو يقول قأنت أبو زيد " .
بديع الزمان الهمذاني

التحليل :
1 – البنية السطحية في المقامة البغدادية .
المقامة البغدادية هي قصة أو مغامرة هدفها الحصول على غذاء بطلها عيسى بن هشام .
-تقطيع النص :
لكي نستطيع الإلمام بنظام هذه المقامة ينبغي أن نقطّعها إلى مقاطع سردية ، معتمدين في ذلك على تعريف "قريماس" للمقطع ، فهو حسبه « وحدة محلية من الخطاب السردي قابلة لأن تكون قصة ، لكن بإمكانها أن تندمج في النص كإحدى أقسامه المكوّنة له » . وبناء عليه فإننا سنلاحظ وجود خمسة مقاطع في هذه المقامة هي :
1- المقطع الأول : عيسى بن هشام منفصل عن النقود .
"اشتهيت الأزاذ وأنا ببغداذ ، وليس معي عقد على نقد . فخرجت أنتهز محالّه حتى أحلّني الكَرْخَ".
2- المقطع الثاني : الامتحان التأهيلي في مواجهة السوادي .
"فإذا أنا بسوادي يسوق بالجهد حماره ويطرّف بالعقد إزاره . فقلت: "ظفرنا والله بصيد ، وحيّاك الله أبا زيد ، من أين أقبلت ؟ وأين نزلت ؟ ومتى وافيت ؟ وهلمّ إلى البيت" . فقال السواديّ : "لست بأبي زيد ، ولكني أبو عبيد ". فقلت : " نعم ، لعن الله الشيطان ، وأبعد النسيان ، أنسانيك طول العهد واتصال البعد ، فكيف حال أبيك ؟ أشابّ كعهدي أم شابَ بعدي؟ " فقال : " قد نبت الربيع على دمنته ، وأرجو أن يصيّره الله جنته ". فقلت : " إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ". ومددت يد البدار إلى الصدار أريد تمزيقه ، فقبض السوادي على خصري بجُمْعِه ، وقال : "نشدتك الله لا مزّقته ".


3- المقطع الثالث : الإيقاع بالسوادي.
"فقلت : " هلمّ إلى البيت نُصِبْ غداءً ، أو إلى السوق نشتر شواء ، والسوق أقرب وطعامه أطيب". فاستفزّته حمة القرم ، وعطفته عاطفة اللقم ، وطمع ولم يعلم أنه وقع" .

4-المقطع الرابع : في المطعم (الامتحان الرئيسي) .
"ثم أتينا شوّاء يتقاطر شواؤه عرقا ، وتتسايل جوذاباته مرقا . فقلت : " أفرز لأبي زيد من هذا الشواء ، ثم زن له من تلك الحلواء ، واختر له من تلك الأطباق ، وانضد عليها أوراق الرقاق ، ورش عليه شيئا من ماء السماق ليأكله أبو زيد هنيا". فانحنى الشوّاء بساطوره على زبدة تنوره ، فجعلها كالكحل سحقا ، وكالطحن دقا. ثم جلس وجلست ، ولا يئس و لا يئست ، حتى استوفينا . وقلت لصاحب الحلوى: "زن لأبي زيد من اللوزينج رطلين ، فهو أجرى في الحلوق وأمضى في العروق . وليكن ليلي العمر ، يومي النشر ، رقيق القشر ، كثيف الحشو ، لؤلؤي الدهن ، كوكبي اللون ، يذوب كالصمغ قبل المضغ ، ليأكله أبو زيد هنيّا . قال : فوزنه ثم قعد وقعدت ، وجرّد وجرّدت ، حتى استوفيناه" .
5- المقطع الخامس : مغادرة المطعم (الإنجاز) .
"ثم قلت : "يا أبا زيد ، ما أحوجنا إلى ماءٍ يشعشع بالثلج ليقمع هذه الصّارة ويفثأ هذه اللقم الحارّة ، اجلس يا أبا زيد حتى نأتيك بسقّاء ، يأتيك بشربة ماء ". ثم خرجت ، وجلست بحيث أراه ولا يراني أنظر ما يصنع . فلما أبطأت عليه ، قام السوادي إلى حماره ، فاعتلق الشوّاء بإزاره وقال : " أين ثمن ما أكلت ؟ " فقال أبو زيد : " أكلته ضيفا ". فلكمه لكمة ، وثنّى عليه بلطمة . ثم قال الشواء : "هاك، ومتى دعوناك ؟ زن يا أخا القحة عشرين ". فجعل السوادي يبكي ، ويحل عقده بأسنانه ، ويقول : " كم قلت لذاك القريد " أنا أبو عبيد" وهو يقول قأنت أبو زيد ".

في المقطع الأول يظهر عيسى بن هشام وتظهر المعطيات التالية :
- اشتهاؤه لنوع جيد من التمر .
- حالة فقر متمثلة في خلو جيبه من النقود .
وهكذا نجد أنفسنا منذ البداية أمام حالة انفصال عن موضوع القيمة (ف&Egrave; م) ، أما جملة ( فخرجت أنتهز محاله....) فتصوّر تنقلا أفقيا للبطل ، مبعث هذا التنقل هو عنصر الإرادة في الفعل ليتأسس عيسى بن هشام كفاعل .ونرمز لذلك بالصيغة الإضمارية الآتية :
ف(ف1) ( ف1 &Egrave; م .ج) (ف1 &Ccedil; م. ج)
ف1 = عيسى بم هشام .
م.ج.= الاشتهاء (واجب الفعل) + الخروج ( إرادة الفعل) .

والتبليغ عن مواضيع الجهة هذه كان انعكاسيا ونرمز له بما يلي :

المرسل موضوع القيمة
(الجوع) (الأزاذ)




الفاعل
(عيسى بن هشام)

وبهذا التنقل يباشر (ف1) عملية قلب الوضعية ، فهو في الحالة البدئية يبدو منفصلا عن الطعام وعن النقود ويرغب في الحصول عليهما . بلقائه بالسوادي يوظف (ف1) عنصر الحيلة والذي يندرج ضمن معرفة الفعل ليتأهل كفاعل يوقع بالسوادي الذي تنطلي عليه حيل عيسى بن هشام ، فيقوم فاعلا مؤهلا يمتلك جهات التحيين : معرفة الفعل + قدرة الفعل .
دخول (ف1) مع (ف2) إلى المطعم وتناولهما لأشهى الطعام يُعَدّ المرحلة الحاسمة في البرنامج السردي . أما (ف3) وهو صاحب المطعم فإنه تساهل مع (ف1) حيث قدّم له كل ما طلب من أطعمة وتركه في النهاية يغادر المطعم . وبعد المغادرة يتحقق الفاعل كفاعل منجز تجاوز مرحلة الأداء بنجاح ، وبذلك يحدث تغيّر في الوضعيات نمثّله بالملفوظ السردي الآتي :
ف.ت : (ف3) [ (ف1 &Egrave; م &Ccedil;ف2)&Uuml; ( ف1&Ccedil; م &Egrave; ف2)]
حيث :
ف.ت = فعل تحويل.
ف1= عيسى بن هشام .
ف2= السوادي .
ف3= صاحب المطعم .
م= الوجبة الكاملة .
بعد هذا العرض للحدث العام في المقامة وتوضيح اتجاهاته المختلفة ننتقل الآن إلى مستوى أعلى ، هو النموذج العاملي ، والذي يرتكز على قاموس من الشخصيات النموذجية يُسَمَّى كلّ منها عاملا ، وتنتظم هذه الشخصيات في ثلاثة محاور يربط كل محور منها عاملين على النحو الآتي :
1- محور التبليغ : وطرفاه هما المرسل والمرسل إليه .
2- محور الرغبة : وطرفاه هما الفاعل وموضوع القيمة .
3- محور القدرة : وطرفاه هما المعارضون والمساعدون .
وللإشارة فإنّ الدور العاملي الواحد قد يكون حكرا على شخصية واحدة وقد تشترك فيه شخصيتان أو أكثر ، كما أنّ الشخصية الواحدة قد تكون موجودة على مستوى أكثر من دور عاملي واحد .
والوصف السّردي السابق يمكننا من تحديد وتوزيع الأدوار العاملية وبالتالي ضبط الشكل العاملي لهذه المقامة ، بمعنى أننا سنصبّ في هذا الإطار البرامج السردية التي تعرّفنا وبقية الأجزاء الأخرى من الوظائف التي قامت بها الشخصيات .
فمع بداية المقطع الأول وإعلان (ف1) اشتهاءه الأزاذ وخلو جيبه من المال وتنقله بحثا عن ذلك تتحدّد الأدوار العاملية الآتية :
-المرسل : هو الرغبة أو الاشتهاء.
- الفاعل : عيسى بن هشام .
- موضوع القيمة : الحصول على وجبة .
- المرسل إليه : عيسى بن هشام .
ويبقى علينا تحديد الدورين المتبقيين ونعيين عامليهما وهما دور المساعد ودور المعارض .
رأينا فيما سبق أنّ السوادي يحتلّ أساسا وضعية العامل المساعد رغم إظهاره معارضة طفيفة لما أنكر الاسم الذي أطلقه عليه عيسى بن هشام ، وفيما عدا ذلك فقد كان ضحية حيلة أي مساعد لا إرادي أو مساعد لا واعٍ .
في المقطع الأخير وبعد اختفاء عيسى بن هشام رجع (ف2) إلى وضعية العامل المعارض وخاصة لما رفض دفع الثمن ، أما صاحب المطعم فيمكن اعتباره العامل المساعد الحقيقي ذلك أنه لبى كل طلبات (ف1) وتركه يغادر المحلّ.
ويمكننا ترتيب هذه الأدوار العاملية في النموذج العاملي الآتي :

المرسل موضوع القيمة المرسل إليه
(الاشتهاء) (وجبة من الطعام) (عيسى بن هشام)






المساعد الفاعل المعارض
(الشواء) (عيسى بن هشام) (السوادي)


إذا عدنا إلى البرامج السردية التي شكلت المقامة نجدها مغطاة بشبكة صورية شكّلت مسارات صورية ، وهكذا يقوم عيسى بن هشام كقائم بفعل تمثل دوره العاملي في كونه فاعلا ومرسلا إليه ، ودوره الغرضي في كونه مخادعا محتالا واتهازيا . أما السوادي فهو قائم بفعل باعتباره تقمص دورا عامليا تمثل في كونه معارضا ودورا غرضيا تمثّل في كونه مغفلا وضحية .
تحليل البنية العميقة :
نستطيع القول منذ البداية أن الوحدة المعنوية الأساسية في هذه المقامة هي "كيفية كسب المعيشة" ، وهي تسيطر على النص من خلال :
أ‌- الحركة / الجمود . (تنقل البطل).
ب- الاحتيال / الأمانة . (حيلة البطل)
ج- الفائدة / الخسارة . ( انتهازية البطل) .
كل صنف من هذه الأصناف يحتوي على أصناف دلالية دنيا تولّد مع بعضها وحدات دلالية ثانوية .
ونلمس بعض صور التعارض الدلالي في الجدول الآتي والذي يوضح لنا بعض السمات المميزة لِ (ف1) و (ف2).
(ف1) (ف2)
مدني قروي
متيقن من نفسه مرتبك
ذكي ساذج
واعٍ غير واع
محتال أمين
مخادع مغفل

إنّ انتهازية البطل تحقق وحدة دلالية مقابل الأمانة ، وتغطي جزئيا الوحدة المعنوية الأساسية في النص . فالمادة "انتهز" تعني استغلال الفرصة بكل الوسائل وعدم تضييعها مهما كان الثمن ، مع تحقيق أكبر قدر ممكن من الفائدة .
والواقع أنّ البطل انتهز الفرصة وأفاد منها حال ظهور السوادي . والانتهازية لا تكون إلا بالحيلة ، فالدور الغرضي الذي حدّدناه للبطل هو "محتال" مقابل دور غرضي للسوادي " مغفّل" . وبالتالي يمكن أن نرسم المعنى عبر المربع السيميائي الآتي :

(ذكاء)
حيلة أمانة



(خداع) (غفلة)

لا أمانة لا حيلة
(سذاجة)

يوضح هذا المربع أن التضاد القائم بين الحيلة والأمانة من جهة ، ومتضمنيهما (لا أمانة- لا حيلة) من جهة أخرى ، يقابل ذلك التناقض بين الذكاء والسذاجة من جهة والخداع والغفلة من جهة أخرى .
والمقامة انطلقت من الخداع إلى ممارسة الحيلة وذلك من قبل عيسى بن هشام ، حيث انطلت على السوادي بفضل ذكاء البطل الذي استطاع أن يجعل السوادي يأمن وتنطلي عليه الحيل وذلك نتيجة غفلته ، وكل هذا يندرج ضمن الانتهازية .






[/URL]

(http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftnref1)



(http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftnref3)





(http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftnref5)



(http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftnref7)



(http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftnref9)



(http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftnref11)



(http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftnref13)



(http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftnref15)




(http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftnref17)



(http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftnref19)



(http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftnref21)



(http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftnref23)



(http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftnref25)



(http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftnref27)

[URL="http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=861527&page=14#_ftnref29"]

عبير الياسمين.
2012-12-31, 20:09
ارجوكم اريد مساعده عن بحث الانطباعيه مقياس ادب عالمي

**د لا ل**
2013-01-24, 13:41
دراسة نقدية في الادب الجزائري


يتميز الأدب الجزائري الحديث عن بقية آداب اللغة العربية في العالم العربي، بخاصية منفردة قلما نجدها، تجتمع في أدب العروبة قديماً وحديثاً، ويتمثل ذلك التمايز في جملة من الخصائص المركبة المعقدة، أنبتتها صيرورة تاريخية لا مناص منها, تدخلت في تشكيل الأدب الجزائري على مرّ العصور ثلاثة عناصر، العنصر المحلي، والعنصر العربي، والعنصر اللاتيني الفرنسي، وانصهرت العناصر الثلاثة لغة وحضارة عبر التاريخ، ثم لبست حلة عربية في مرحلة استرداد السيادة الوطنية في الربع الأخير من القرن العشرين.
التقت العناصر الثلاثة : . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لقاء الصراع والتفاعل والاندماج، وأثمرت في النهاية أدبا« جزائرياً» قبل أن يكون لاتينياً فرنسياً، وإن نطق باللاتينية والفرنسية، وقبل أن يكون عربياً أو وطنياً محليا، وإن نسج أحداثه وشخوصه من عبقرية الأرض والعروبة، وبناء على هذا التركيب العجيب، توحدت عناصر اللغة والفكر والبيئة والتاريخ والإنسان الجزائري، في صورة شديدة التعقيد والثراء، تولدت عنها صورة الأدب الجزائري المعاصر، الذي تعددت منابعه وتباينت أصوله ومشاربه, لكنها تصب جميعها في محيط أشمل، يتسع لكل الروافد, محيط الثورة الجزائرية، التي انصهرت فيها كل التيارات الفكرية واللغوية، وتخضبت فيها كل الكفوف الجزائرية بالدماء، مثلما تخضبت بالحناء في عرس الاستقلال ونيل الحرية1.
فعندما تندمج الروح الشرقية للجزائر بالثقافة الفرنسية، التي يستخدمها الكتاب الجزائريون، تكون النتيجة أدباً أصيلاً. فالأدب الجزائري مع ما له من خصائص عربية عديدة تميزه، يختلف عن الأقطار العربية، حيث لم يكن للاستعمار تأثير مشابه على التعليم والثقافة، بل أن التفكير الجزائري ذاته يعتبر مختلفا ومتبايناً، حيث إنه يشكل مزيجاً من العقلانية والمنطق والشاعرية. ولا يمكن لهذه العناصر المتناقضة، أن تكون جميعها وليدة ثقافة واحدة؛ فالجزائري يمتلك بطبيعته الروح الشاعرية والمتدينة والقدرية، وقد تحصل من ثقافة المستعمر على المنطق والعقلانية. أقبلت الرواية الجزائرية باللغة الفرنسية في العشرينات، تحمل في تضاعيفها هذا التاريخ المثقل بالتنوع والثراء وبالصراع والمقاومة، الأمر الذي يفسر غلبة طابع المقاومة على الإنتاج الروائي الجزائري.

الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية إشكالية اللغة والوطن: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يزخر تاريخ أدب العالم بأمثلة عديدة من الكتاب الذين كتبوا بلغة غير لغتهم الأصلية، إما طواعية منهم أو أنهم كانوا مضطرين لذلك لأسباب سياسية في بلادهم، فكتب بعضهم بالفرنسية وآخرون بالإنجليزية ولم يعتبروا نتيجة لذلك فرنسيين أو إنجليزا، ومن بين هؤلاء جبران خليل جبران وجورج شحاتة من لبنان، وادوارد سعيد وجبرا إبراهيم جبرا من فلسطين، وقوت القلوب وأندريه شديد من مصر وغيرهم.
شكلت الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية ظاهرة ثقافية ولغوية متميزة وأثارت بذلك حولها جدلاً كبيراًً بين النقاد والدارسين، منهم من عدها رواية عربية باعتبار مضامينها الفكرية والاجتماعية، والكثرة عدوها رواية جزائرية مكتوبة باللغة الفرنسية، باعتبار أن اللغة هي الوسيلة الوحيدة التي بها يكتسب الأدب هويته، ثم إن الكتابة الروائية بالفرنسية قد ساهمت في نمو الأدب الفرنسي، أكثر ما ساهمت في إخصاب الأدب العربي، ولذا فنحن حينها نقف عند هذه الظاهرة المتميزة، فإننا لا نفعل أكثر من إعطاء فكرة عن نشأة هذا الفن في ظروف حرجة في الجزائر أو في المغرب العربي عموماً.
ويذكر« جان ديجو» أنه يمكننا فيما بين سنة 1920 وسنة 1945، أن نعثر على محاولات قليلة في الكتابة الروائية، فقد ظهرت سنة 1925 أول محادثة لعبد القادر حاج حمو بعنوان« زهرة امرأة عامل الناجم» وفي هذه الرواية يقلد الكاتب تكنيك الرواية الطبيعية عند أميل زولا. وفي 1926 كتب سليمان بن إبراهيم بالاشتراك مع إتيان دينيه رواية بعنوان «راقصة أولاد نائل» وكذلك كتب عبد القادر فكري بالاشتراك مع روبير راندو حواراً قصصياً يتميز بطابعه السياسي بعنوان« رفاق الحديقة» سنة 1933. وفي سنة 1936 كتب محمد ولد الشيخ رواية بعنوان« مريم وسط النخيل»2.
إن هذه النصوص شكلت فيما بينها المتن الجزائري الأول، الذي تميز على المستوى الجمالي بطغيان سلطة «الدياليكتيك»، حيث إن الخيال الروائي والنسيج النصي، كانا يتأسسان على قاعدة« المقايسة» لنص كولونيالي، له تصوراته عن الإنسان الجزائري، تلك التصورات التي تنتجها الأيديولوجيا الكولونيالية، والتي ترى الإنسان العربي والإفريقي بعين« اكزوتيكية» إغرابية، تحقيرية ومتخوفة. إن وضعية هذه الموجة تشبه حالة النساخين لأساليب الكتابة الروائية، التي مارسها الكتاب الفرنسيون مثل: لويس براتراند، وروبير راندو، وغابرييل أود يسو، وإيزابيل إبهارد، وإيتيان دينيه، وبول بيلا، وإيمانويل روبلس، وغيرهم.
كانت كتابات هذه الموجة من الروائيين« الهالي» تتميز بنسخية واضحة، قدمت الإنسان الجزائري في صورته الفلكلورية السياحية الاستهلاكية. كما النص نفسه من حيث البناء الجمالي، لم يتخلص من كتابة مغامرات مبسطة وتافهة، وحكايات غرامية بين الأهالي و«الفرنسيات» و«المسلمات»، إذ تصور الإنسان الجزائري غريزيآ، وساذجآ طيباً، وخبيثاً دموياً.
لقد كانت هذه الموجة من الكتاب متوجهة إلى« الآخر»، تريد أن تشعره أولاً بأن الانتلجانسيا الأدبية الأهلية قادرة على الكتابة، التي هي ظاهرة حضارية، لكن الهموم والمشكلات المطروحة في النصوص، لا تتعدى أن يكون هذا« الجزائري» إطاراً وموضوعاً للتسلية والفلكلور، بمفهومه الاستهلاكي التحقيري. بدأت الحركة الروائية الجزائرية باللغة الفرنسية، تؤسس لنفسها متناً هو مرآة لذاتها، لطموح الإنسان في هذا الشمال الإفريقي، الذي بدأت الحداثة تهزه على لعلعة مدافع هتلر، وتؤسس الحركات الوطنية، وسقوط العشيرة والدم والقبيلة أمام المفاهيم المعاصرة.
كان على منتجي الرواية باللغة الفرنسية، خلق مسافة لتأمل التاريخ ونقد الذات، ونقد الآخر. فمن خلال هذه المسافة وفي ظل هذه المساحة، بدأ الإعلان عن نص روائي جديد يبشر بإنسان جديد وبعقل جديد، قلب موازين البطولة الروائية. فإذا كان الآخر« الفرنسي» هو المركز في الرواية الكولونالية،« الأنا» أي« الأهلي» هو الهامش. وفي هذا النص الجديد ولد إنسان جديد3.
ففي سنة 1942 أنهى الكاتب الجزائري علي الحمامي روايته بعنوان« إدريس» التي توصف على أنها كتاب محرر في شكل رواية. وهذه المحاولات من الناحية الفنية تعد أقرب إلى القصة الطويلة أو الحدوثة منها إلى الرواية الفنية. استطاع القراء منذ 1945 التعرف على قلة قليلة من الروائيين، الذين ارتادوا اللغة الفرنسية مباشرة، وعبروا عن واقع مجتمعهم. وقد عرفت هذه الفترة ولادة جديدة للقصص الجزائري، المكتوب باللغة الفرنسية؛ فنشرت مارجريت طاوس عميروش روايتها« الياقوتة السوداء» سنة 1947. ثم نشرت جميلة دباش روايتها« ليلى فتاة الجزائر». وفي سنة 1948 نشر مالك بن نبي روايته« لبيك».
[:

مولود فرعون... وعي الذات والآخر . . . . . . .

وهكذا تضاعفت المحاولات باللغة الفرنسية في فترة الخمسينات، فنشر مولود فرعون عام 1950« ابن الفقير»، وفي سنة 1953 ظهرت له رواية« الأرض والدم»، وفي عام 1957«الدروب الصاعدة»، وصددت يومياته سنة 1969 في كتاب مستقل يحمل عنوان «مولود فرعون: رسائل إلى الأصدقاء»، وأخيراً نشرت روايته« الذكرى» عام 1972. ويعد فرعون أحد أكبر كتاب المغرب العربي ذوي التعبير الفرنسي شهرة، لقد كانت «ابن الفقير» روايته الأولى ولا تزال، أول عمل أدبي يبدأ به كل تلميذ جزائري اطلاعه على الأدب الوطني. وكان فرعون يلفت انتباه مواطنيه كلما أصدر كتاباً جديداً وكان آنذاك معلماً قروياً، انتقل للعمل في العاصمة قبيل هلاكه المأساوي على يدي غلاة الاستعمار الحانقين. وقد حاز إبداعه شيئاً فشيئاً على شهرة واسعة، ليس في وطنه فحسب بل في فرنسا كذلك، وترك موت الكاتب أثراً فاجعاً في قلوب كل الناس من ذوي الإرادة الطيبة. ساهم مولود فرعون كثيراً في دعم القضية الوطنية، وإيقاظ الوعي للشعب الجزائري، الذي هب لمعركته الخيرة والحاسمة ضد الاستعمار.
إثر اغتيال مولود فرعون، صرح جان عميروش في استجواب له، لقد كانت جريمة المغتال الرئيسية هي رغبته في رؤية الإنسان سعيداً، يحمل باعتزاز اسمه الخاص، وسعيداً بتمتعه بوطنه، ومؤمناً بمستقبله ويمكن كل ابن فقير من أن يقرر مصيره4.
ويكمن في هذه الكلمات الثلاث (الحرية، الرسم، الوطن) مغزى وهدف إبداع كتاب شمال إفريقيا. الذين فرعون ينتمي إلى جيلهم. اغتالته المنظمة الإرهابية السرية، التي كانت تعمل من أجل جزائر فرنسية في حي الأبيار، وهكذا انتهت الحرب من أجل الاستقلال، التي دامت سبع سنوات، بشكل مأساوي بالنسبة لفرعون، قبل ثلاثة أيام من توقيع اتفاقية أيفيان، ودفن يوم 18 مارس 1962.
ويذكر إيمانويل روبلس، وهو كاتب من الجزائر من أصل فرنسي، كان صديقاً لفرعون ودرس معه في معهد بوزريعة، كما قدم له دعماً ومساعدة ثمينتين، حين أجبره على «الشروع في الكتابة»، يذكر أن فرعون لم يكن إنساناً طيباً وهادئاً فحسب، بل أهم من ذلك مثقفاً« كان يقرأ أكثر منا جميعاً، وكان يلتهم الكتب ببساطة، كان يضمر الإجلال للكتاب الروس، ويحب فرنسيي القرن الثامن عشر، ثم بعد ذلك كشفت له الأمريكيين»5.
وما يشهده على أن الكتاب الروس، كانوا من ضمن من أحبهم فرعون، كونه استهل أول تجربة أدبية له، وهي رواية« ابن الفقير» بكلمات انطون تشيكوف« سنعمل للآخرين الآن، وفي شيخوختنا من دون أن نعرف سبباً للراحة، وحينما تحل ساعتنا سنموت بخنوع، وسنقول هنالك في لحدنا بأننا تعذبنا وبكينا وتجرعنا المرارة، حينذاك سيهبنا الله من لدنه الرحمة». لقد كانت جمل تشيخوف، مفعمة بمعنى واقعي بالنسبة لفرعون، الذي كان يعي هكذا بالضبط مغزى وغاية إبداعه وعمله الصعب والنبيل لخير وطنه.
كتب مولود فرعون في« ابن الفقير»، مبيناً كيف يتكون« الطبع الحقيقي» للرجل القبائلي، حيث يولد الطفل في هذه المنطقة، من أجل المعركة في سبيل الحياة. وتشكل فلسفة وحكمة الحياة وعاداتها ومعتقداتها وشعائرها القديمة ، ذلك العالم الخاص والأصيل الذي تمثله قرية تيزي، حيث شب ابن الفقير« فورلو»، وهي في الوقت ذاته ذلك العالم النموذجي لقرية قبائلية نموذجية. وهذا العالم لا يزال في الرواية يحيا أساساً وفق سنن موروثة من الماضي البعيد، حيث تسود أخلاق وأنماط حياة الأجداد، وحيث لا يزال كل واحد يؤمن بالقدر. غير أن الشكل الثاني من الصراع هو صراع من أجل إجادة لغة غريبة وثقافة غريبة، والدراسة في ثانوية فرنسية حيث يشعر دائماً بنفسه غريباً، ويشعر بالخوف من الطرد بسبب إخفاق عارض ويصمم« فورلو» على لقاء هذا العالم الذي يجهله، وهذه الحياة الغريبة عنه:« وحدي، وحدي في هذه المعركة الرهيبة التي لا ترحم...»6.
تعتبر رواية ابن الفقير إلى حد بعيد سيرة ذاتية، تصف طفولة الكاتب ومراهقته، كما تغطي الرواية السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الأولى، لتصل نهاية العشرينات.
وتناول فرعون في رواية« الأرض والدم» أول مرحلة من عملية هجرة شمال أفريقيا للعمل بسبب الوضع الشاق للعمال والفلاحين في المستعمرات، التي بدأت بشكل مكثف من العشرية الأولى من القرن العشرين. وإذا كانت الهجرة الاضطرارية مرتبطة في البداية بالمعاناة الشاقة لفراق الأرض الأصيلة، فإن الأمر أصبح شيئاً فشيئاً عادياً، أملاً في الكسب السهل في فرنسا. وحدث أن العودة إلى القرية كانت مرفوقة بصدمة نفسية, فقد كان الإحساس بالفرق بين العالم المهجور –عالم الغرب- والعالم التقليدي- الوطن- وهكذا يعود عامر في رواية« الأرض والدم» إلى موطنه رفقة زوجته الفرنسية الشابة، بعد أن اشتغل سنوات عدة في فرنسا، وجرب كل أنواع الحرمان، التي كانت من نصيب المغتربين في أوروبا، لكنه لا يستطيع مدة طويلة، أن يتأقلم مع حياة قريته الصغيرة، التي بدت له متخلفة ومتوحشة، واحتاج إلى عامين كي يصبح قبائلياً من جديد، وكأنه لم ير الكثير في حياته، ولم تحنكه الصعاب، ولم يواجه الموت7.
تقع أحداث الأرض والدم في الفترة الواقعة ما بين الحربين العالميتين، وتنتهي في عام 1930، ويفاجأ عامر بالحرب حالما يصل إلى فرنسا.
ونشعر بأنفاس ريح التغيير، وريح التاريخ، ابتداء من الصفحات الأولى في رواية« الدروب الصاعدة»، التي تبرز ذلك العالم المنغلق، الذي لم يمسسه الزمن، وهو ينسف تحت هجوم العصر، وللطبيعة الشاقة والمأساوية أحياناً لتأثير هذا الصدام بين الجديد والقديم في وعي الناس وسلوكهم. والرواية دراما عاطفية، حيث نجد مثقفاً قروياً، منعزلا في قرية قبائلية نائية، ومنفصلاً عن العالم، وبعيداً عن التاريخ، نجده يكتب مذكرات لا حاجة لأحد بها في وقت يقوم فيه جميع المثقفين الجزائريين بالثورة، والرواية تصور حيرة وارتباك جيل نضج. ويستمر فرعون في الدروب الصاعدة، يصور عالم القيم القديمة المتفجر، في تغذية الأمل في الأشكال الإنسانية للتخلص من العبودية8.
وتعتبر الدروب الصاعدة امتداداً للرواية الثانية، وإن كان هناك انقطاع في الوقت، حيث أن يوميات عامر ترجع في تاريخها إلى الخمسينات، وتعتبر بمثابة سنوات اليقظة بالنسبة للجزائريين، أي بداية الثورة ونهاية صدام الحضارات، وكذلك بمثابة بوتقة تذوب فيها خيبة أمل الإنسان الجزائري وسخطه وعدم رضاه.
وسيظل فرعون ممثلاً نموذجياً لجيله، جمع فعلاً في ذاته« عالمين وثقافتين» ومثالاً للفنان المخلص والشجاع، الذي نجد في إبداعه أو محاولة جدية لتصوير حياة وطنه، وشعبه بموضوعية، وطرح المشكلات والمتناقضات التي زخرت بها مرحلة يقظة الوعي الوطني للجزائريين تلك المرحلة المرتبطة بالكفاح من أجل الاستقلال.

**د لا ل**
2013-01-24, 13:44
مولود معمري . . . الحنين المفقود ونهوض المنسي. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وفي سنة 1952 نشر مولود معمري« الهضبة المنسية» كما نشر رواية« سبات العادل». وأعمال معمري تسير في خط متواز مع تطور الوقائع السياسية في الجزائر، فرواية « الهضبة المنسية»، تبتدئ وقائعها في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، لتصور الوضع في الجزائر في ظل الاحتلال الفرنسي، ويعبر الكاتب عن مآسي الشعب وأحزانه وبؤسه. إنها فترة اليأس والقنوط بدون إمكانية للعثور على حل، لأن الاستعمار لا يقدم حلولاً، وأيا كان الأمر، فإن بوادر الأمل بدأت تلوح، كنتيجة للتغيرات التي طرأت على الوضع السياسي في الجزائر9.
أما رواية«سبات العادل»، فتأخذ البطل ارزقي إلى داخل المجتمع الغربي، وهو مشبع بالآمال والتوقعات العظام، بيد إنه سرعان ما يرفض، فيخرج من التجربة وهو يشعر بالمرارة، وكأنه يسير في الفراغ. يعتبر ارزقي واحداً من الذين داروا حول الحلقة في جميع مراحلها؛ فقد بدأت رحلته في المدرسة الفرنسية في قرية جزائرية، وفي هذه المدرسة تعلم كلمات مثل: المساواة، العدالة، الإنسانية. وكانت حياة المدرسة بالنسبة لارزقي تجربة مريرة، ولكنه لم يعترف بما قاساه آنذاك إلا بعد مرور فترة طويلة عليها. فقد لاقى صعوبات بالغة في تعلم مواضيع عسيرة بلغة أجنبية، بل والأكثر من هذا فقد كان منبوذاً10.
ولكن اعتزازه بما حققه من نجاح في مدرسته دعم جهوده الضخمة، وساعده على تخطي التجربة، وكان هناك أيضاً إيمانه بالعلوم التي تعلمها، فقد استوعبها جيداً لدرجة ملكت عليه كل مشاعره وكل شيء حوله، وقد أرد أن يعرف شعبه أفكاره، ولا يتردد بأن يبوح بما عنده في أول فرصة تتاح له. ويحدد مواقف ارزقي مرحلة جديدة من العلاقة بين الأب والابن، بحيث إن التعدي على سلطة الوالد، تعتبر بمثابة الخطوة الأولى الهامة، نحو إضعاف الروابط العائلية، ومن ثم تفكك المجتمع الجزائري.
ونشر رواية« العفيون والعصا» سنة 1965، التي تمثل ظاهرة بالغة الأهمية في الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية في عهد الاستقلال، وهي أول نتاج أدبي عن الثورة الجزائرية، ألفه كاتب ظل وفياً لمبادئ إبداعه الباكر قبل الحرب، وليس صدفة أن ينشر معمري روايته هذه بعد نهاية المرحلة التاريخية التي يصفها، ذلك أن الكاتب يفضل اتجاهات الواقع، التي تحددت وبرزت بوضوح وليس تلك التي ما زالت في طور الارتسام. ومع ذلك فلا ريب في جدة الموضوع الذي اختاره، ولا يتخلى الكاتب عن السرد التوسعي في الأغلب، ويسعى إلى بحث وضع الأمة، مصوراً وعي الفئات الاجتماعية، الوعي الناقد،الذي يجسده البطل الرئيسي الطبيب البشير، والوعي الدوغمائي.
وما يثير الاهتمام هو أن معمري، يصور البطل رمضان، الذي غادر في طفولته مسقط رأسه، وراح يدرس الكتب بلا انقطاع في خلوة، عند عمه الذي يقطن المدينة، أين أصابه السل، يصوره فاقداً لطبقته، ومضيعاً لروابطه بالأرضية الطبيعية. ولعل هذا هو سبب فراغه الروحي المتميز، وقد أشار الكاتب إلى أن رمضان« كان يحب أن يماثل نفسه بمن يسميهم الشعب» ملمحاً بذلك إلى الطابع الاصطلاحي لهذا المفهوم على لسن بطله»نحن غير متعلمين»، هكذا سمى رمضان نفسه في رسالة إلى بشير11.
من المنطقي أن تثقل الحرية كاهل أبطال معمري، وتبدو التهدئة النفسية لرمضان حين زج به في المعتقل. ويستخدم معمري مراراً في روايته أسلوب دحض الرأي الذي يتشكل في البداية عن هذه الشخصية، أو تلك في محاربته لأية أحكام قبلية. وهكذا فمن بين شخصيتين متعارضتين: العادل رمضان، وبشير الذي يظهر في البداية أنانياً مخنثاً، يتضح أن البطل الإيجابي هو بشير بالذات، وعلى امتداد تطور الرواية، تبرز الكثير من شخوص المؤلف أفضل مما كنا نتوقع. وتكمل عضوباً الخلفية الشعبية للرواية، التي تشكلها صورة حياة الجماعة الفلاحية في عهد الهزات الرهيبة، صورة البطل المركزي بشير، الذي يبحث عن الحقيقة لخير المستقبل الوطني. إن تصوير الارتباط العميق لشخصية تقدمية مفكرة بالكل الشعبي في رواية« العفيون والعصا» يحدد المغزى الاجتماعي لهذا الأثر الأدبي البارز. فالرواية تعنى بحرب الاستقلال ذاتها؛ بمحاسنها ورعبها بأصدقائها وأعدائها.

**د لا ل**
2013-01-24, 13:45
محمد ديب. . . طواسين النبوءة والزلزال الكبير . . . . . . . . . . .

ونشر محمد ديب« الدار الكبيرة» سنة 1952، وفي سنة 1955 أضاف لها الجزء الثاني من الثلاثية« الحريق». ويعد محمد ديب رائداً للرواية الجزائرية الحديثة المكتوبة باللغة الفرنسية، امتصت هموم الإنسان الجزائري، الذي كان الشعر والأدب الشفهي عامة هو زاده الروحي الرئيسي. وتأتي ثلاثيته في مقدمة الأعمال التي تؤرخ لمولد الرواية الجزائرية، وكما مثلت سيرة شخصية لصاحبها، مثلت« مذكرات الشعب الجزائري» هكذا وصفها أراجون، أو هي الجزائر نفسها كما قال معظم النقاد، فهي تتناول حياة العمال في المدينة، وحياة الفلاحين في القرية، وتنتهي إلى« أن النار قد بدأت ولن تتوقف أبداً. إنها تستمر مشتعلة ببطء وبعماء إلى أن تعم ألسنتها الدموية البلاد كلها بحرارتها المدمرة»12.
وبصورة عامة لا تخرج الدار الكبيرة عن أطر تقاليد الكتابة عن العادات التي يمثلها معمري وفرعون أحسن تمثيل، وقد صور ديب في هذه الرواية الحياة اليومية لحي في المدينة، من خلال إدراك طفل يكون العالم بالنسبة إليه جديداً وممتعاً، برغم جوانب الحياة المأساوية؛ من بؤس وجوع وعسف السلطات الاستعمارية، كما أن أسلوب الرواية أكثر حداثة من أسلوب فرعون ومعمري، فهو وجيز ومعبر، وفي الوقت نفسه فإنه مشبع بالمشاهد المطولة، تلقي بعض الظلال بشكل غير مفيد، على مقاطع تمثل نموذجاً رائعاً في الوضوح، وتتعاقب شاعرية خفيفة مع نزعة طبيعية. ويخلف الإحساس باليأس والخوف الصوفي الإدراك المادي الجلي للعالم. ويتابع ديب في الثلاثية رصد سيرة بطله« عمر»، ويقرر أن يضيف إلى قصته المتواضعة معلومات اجتماعية مستفيضة، عن طريق التصريح وليس التعبير، ملمحاً بذلك إلى المعارك الطبقية القادمة، وإلى دور العمال البارز، وواعداً بتحولات اجتماعية قريبة. ويفقد بوضوح ديب، الذي وقع تحت سطوة القالب الذي استعاره من الروائيين الفرنسيين المعاصرين، اهتمامه بالبطل نفسه، وتتحول قصة حياة عمر وعلى الأخص في النول إلى تراكم لتفاصيل صغيرة وشاحبة، ينضفر منها نسيج الرواية الطويل وغير المعبر. ولم يتح لعمر رغم أنه كبر أن يصبح راشداً فيفقد تدريجياً ليس السمات الشخصية لطبعه فحسب، لكن كذلك كل ميزاته الفردية. حقاً إن فقدان البطل في« الحريق» يعوض لحد ما، بتصوير شاعري لرحاب الريف الجزائري وسكانه، الذين يحملون فكرة ضرورة الكفاح من أجل مستقبل أفضل.
تتوقف الثلاثية عند أعتاب« النبوءة» بما سيكون، تاركة ما كان إلى روايته، التي صدرت عام 1959 تحت عنوان« صيف إفريقي» وتتميز هذه بإحكام فني شديد، يتجاوز به ديب حدود الزمان والمكان، يواكب الثورة الجزائرية التي اندلعت، ويعمد إلى اختيار نماذجه من« الجزائر» كلها؛ يختار التاجر وصاحب الأرض والموظف الصغير، والطالبة والخادمة والفلاح، يختار أيضاً الثوري والخائن والمتردد، ويختار« فرنسا» بكل ما يمثل استعمارها من قيم تخون الثورة الفرنسية يختار لها وجهها الهمجي المتوحش، الذي يعبث بكل قيمة. لا يعمد ديب في بناء «صيفه الإفريقي» إلى العقدة الكلاسيكية بل ينسج بناءه الفني من الشخصيات13.
لقد كانت رواية« من يذكر البحر» 1962 انقلاباً جمالياً جزائرياً، تولد عن خروج ديب من عباءة بلزاك من أجل صياغة طرق كتابة رؤيوية جديدة، قائمة على الحكم كبديل للواقعية والتوثيقية، كان دخول الرواية ورشة الأحلام مع ديب، أنقذ المتن الجزائري بالفرنسية من إيديولوجية« كالوظيفة» وأدخل الروائيين في مغامرة مع العالم والكتابة. تدخل ديب بجرأة إشكالية حديثة. وتسحق هنا تماماً المقولات الكلاسيكية للتمثيل الروائي، التي كانت سائدة في الثلاثية: زمن خطي ذو اتجاه واحد يرسم منحى مصير، شخصيات تتوافق مع نماذج اجتماعية، وصف ذو وظيفة درامية وقيمة أخلاقية، حبكة تنظم القصة، رؤية موحدة للمؤلف –الرواية الكلي- المعلم. إن الوظيفة الاتصالية التي يقيمها الراوي من خلال نصه، مع المتلقي المفترض تغير شكلها ووظيفتها، فمن وظيفة موجهة جوهرياً إلى القارئ قصد التأثير عليه، تكتفي من الآن فصاعداً بأن تقترح عليه مشاركة في البحث عن معنى.
وفعلاً فتجربة الحدود التي يخوضها المؤلف، يخدمها السحري على طريقة كافكا، الذي يعالج اللامعقول كجزء من الحياة، حياة كابوسية، وتغزو الكثير من أساليب العجيب والسحري هذه القصة الخيالية، التي تنبذ الواقعية وتبعد المرجع الاجتماعي الرمزي ، ما هو إلا نتيجة لعمل نصي يأخذ المعنى المجازي بكل حرفيته، ويعرف تطورات غير متوقعة، لكنها تخضع لمنطق معين. رواية« من ذا يذكر البحر» وعن طريق نفس عملية استغلال استعارة التوحش بالمعنى الحرفي، شخصيات أسطورية تمثل غزاة المدينة القديمة. ومنذ ذلك الوقت فمن الطبيعي أن يصبح الصراع القائم بين حماة البناءات الجديدة وسكان المدينة القديمة ضرباً من السحر، يحتفل به سرياً من خلال طقوس مؤذية، صحبة جوقة من الكلاب والانفجارات المرعبة14.
إنها إرادة الاكتشاف وانتزاع الفنان لمكانته الخاصة في جوقة الأدب العالمي، التي تدفع هذه الانعطافة في جماليات محمد ديب. ولهذا السبب يرافق هذه المحاولة الجديدة عمل فكري حول الأدب، وتشاطر بذلك اهتمامات موجة الرواية الجديدة، التي كانت تحتل آنذاك مقدمة الساحة الأدبية في فرنسا. لكن لا ينبغي الخلط بين مقاصد المؤلف وشكلانية معاصريه الفرنسيين، فهو يعبر قصداً عن رؤية للعالم مختلفة في جوهرها عن رؤيتهم، ومن وجهة النظر هذه أعلن ديب عن انتقاله إلى رؤية جديدة للعالم في ذيل روايته« من يذكر البحر»، وقد صيغ وداع الماضي في هذه الرواية أكثر صراحة، ويتخلى عن المنهج الذي يسمى واقعياً، ويعلن سطحيته وعجزه عن إنارة الهوة المظلمة بأضواء كاشفة، كما يتخلى عن تثبيت الأحداث، وتصوير الحياة المحسوسة والصدق، ويعتبر أن مهمة الفنان هي نقل الهلوسات والنزوات الباطنية، التي تعبر عن وجهة نظره الحقيقي للإنسان، وتميز وضعه في العالم المعاصر15.
فالرواية في« من يذكر البحر» يبرز أكثر من قلق ويستشف أكثر من خطر، يترصد مستقبلنا عن طريق البحث عن الحقيقة التي تميزه، ويحدد البحث الذي يقترحه النص مثلاً في مجالين مفضلين، هما التصوف وانعتاق المرأة، وكذا الصراعات الإيديولوجية في جزائر ما بعد الاستقلال. تريد« الرواية الجديدة» لمحمد ديب بالضبط تجاوز حدود تقاليد« الواقعية» وهذا يقود المؤلف قبل أن يحكم طلقته، إلى تفضيل اللامعقول أساساً، وإلى إنتاج رؤية شبه فصامية للواقع المؤسس على تفرغ ثنائي أساسي بين الإنسان والأشياء. والواقع أن الجنون الذي يتحكم في العالم في زمن الحرب، يمكن أن يضفي مصداقية معينة على رؤية كهذه. فبينما تستسلم المدينة ظاهرياً للعمى العبثي لعنف بلا رحمة، يظل الأبطال الإيجابيون يتمتعون بصحو يأتيهم ليس من فهم عقلاني للأحداث، لكن من معرفة خفية نقلت عبر مسالك غامضة، تظهر في أثناء احتفالات يتعذر شرحها. ويقيم هذا الرمز، الذي يعده العمل الأدبي جوهرياً، صلة سحرية بالعالم الذي يربط من جديد، وراء العقلانية اللائكية للمثقف، الذي كونته المدرسة الفرنسية بالروحانية، التي تسبح فيها السلوكيات الشعبية لمواطنيه، ومن هذا الجانب الصوفي الذي يستغله عمل الكتابة, وهذا الغموض في المعنى واستعصاء فهمه في المجال الديني، يلتقي بنفس المفترض في المجال الجمالي، ويساهم في دعم العالم الأسطوري، الذي يقترحه عمل محمد ديب الأدبي كحاجة عن التساؤل السياسي والوجودي16.
ويصبح من الآن فصاعداً هذا الانتباه إلى الظاهرة الصوفية والباطنية بعداً جوهرياً لنص محمد ديب الروائي. وفي« رقصة الملك» يتحول إلى عنصر للتأمل، يعيد رضوان بواسطته تشكيل وجوده المهدد بالانفصال والانطواء ويتطور في رواية« الله في بلاد البربر»، حيث تطرح« خصوصية» الشعب الجزائري. والواقع أنه ليس من المهم بالدرجة الأولى أن يكون تمفصل السياسي والأسطوري مثلاً في مؤلفات محمد ديب، صحيحاً من وجهة نظر التحليل التاريخي الدقيق للظاهرة، ما دام الأمر يتعلق برؤية أصيلة متوقفة على مكانة محمد ديب الخاصة جداً، في المجتمع كفرد وكاتب في آن واحد. ومن هذه المكانة يعالج محمد ديب المسألة النسوية، التي مثلها مثل المسألة الدينية، لا يمكن لأي نقاش أو تفكير في المجتمع الجزائري المعاصر أن يتفاداها. وكان من اللازم انتظار« رقصة الملك» للعثور على بطلة: إنها عرفية المجاهدة القديمة في حرب التحرير، التي تؤكد نفسها على ساحة النص كموضوع فردي مستقل، وتكون صورتها سليمة من أي ابتذال. وهي نظرة تجمع بين التسامي بالمرأة وبغضها. وعرفية مثلها مثل نفيسة، التي تنتمي على الأقل إلى عالم خيالي، فهي مصداقية ليس باقترابها من الحقيقة، لكن بحقيقتها كتجسيد لتطلعات الانعتاق النسوي17.
تأثر محمد ديب بعيد بالكاتبة« فرجينا وولف» ولا سيما بكتابيها« الأمواج، وإلى المنارة» وأن وسيلة تيار الوعي لهذه الكاتبة هي التي تركت صداها العميق في روايته «رقصة الملك» فنرى شخصيات تلك الرواية تثير التساؤلات حول سخافة الحياة، وتتأمل مرور الزمن معبرة عن رغبتها بإيقافه، مثلما تفعل شخصيات رواية«الأمواج» ورضوان هو الشخص الذي يجسد هذا الموقف من خلال إثارته ذكرى حياته الماضية. وتساؤلاته حول المستقبل. وقد تعرف ديب قبل تأثره بوولف على الكتاب الفرنسيين، وكان شعراؤه المفضلون«مالارميه وفاليري»، ومنهما استقى أسلوباً نقياً ميز شعره ورواياته18.
وهذه المرحلة الثانية من إنتاج محمد ديب الروائي، هي إذن مرحلة يوسع فيها التماثل من الواقع، المبعد من خلال مزج الاصطلاحات الرمزية والأسطورية والواقعية، مشروع شهادته المؤرخة في الثلاثية، إلى مقصد أكثر شمولية وغموض. وفي الوقت ذاته يتمسك البحث الأدبي لمحمد ديب، بشحذ أداة روائية جديدة قادرة على ترقية تعبير متحرر من المتطلبات البلاغية واستغلال الوظيفة الخيالية. وهو المشروع الذي يستمر في« ركض على الضفة المهجورة» في شكل بحث سوريالي، متعمد يخلق ميثيولوجية شخصية قوية، تتخذ من خلال الإحاطة بالواقع صيغة ذاتية للغاية، ومنها استئناف وتطوير مشروعه الروائي بعد الاستقلال. يبرز كقطيعة مع المرجعية الاجتماعية التاريخية، وتجريب الأدب في بعده الخيالي الخالص.
إن القاسم المشترك بين روايات ديب الأخيرة هو البطولة المشتركة، وبعض السمات الشاعرية المتشابهة، وقبل كل شيء المونولوج، أو الحوارث الداخلية لكثير من الأشخاص، التي تعبر عن وجهات نظر مختلفة حول طريقة إنقاذ البلاد، كما أن هناك أمراً مشتركاً بينها، هو بحوث الأبطال المولعة واصطداماتهم.
منذ عام 1962، فاجأ ديب قرّاءه بتغيير مفاجئ في مسيرته الروائية، فقد أصدر روايته« من ذا الذي يذكر البحر» وكانت شبيهة بروايات علم الخيال –الواقعية الخرافية، التي التزم بها الكاتب طوال حياته الأدبية، حيث أصبحت رمزية غارقة في الغموض والشاعرية. في رواياته الأخيرة سما ديب بالثورة الجزائرية إلى قمة التصوف« الرمزي الخيالي»، صار الاستعمار آلات وحشية غريبة، كأنها تنزل من كوكب بعيد، وفي مواجهتها كان الثوار بشراً متمردين، يقاومون بأسلحة صغيرة لكنها سرعان ما تخرق الصمت، وتذيب صلب الآلات الوحشية. وبعد هذه الرواية واصل« تصوفه الخيالي» خاصة في« الجري وراء الضفة الأخرى» ورواية «سطوح اورصول». في هذه الروايات ظهر«أدب المنفى» واضحاً لدى الكاتب، والبطل ينتهي إلى العزلة التامة والضياع القاتل، وتنتهي رواياته بمونولوجاتها الطويلة المليئة بالأسئلة الثاقبة للذاكرة العائدة.
فإذا كان ديب في رواياته الأولى يكتب عن العادات والتقاليد في الأغلب، فهو الآن يعمل مع أوهام الخيال، ويترك هذا التحول انطباعاً عن حيرة الفنان. إن هناك تناقضاً كبيراً في الإبداع السابق لمحمد ديب، ينبئ بتطوره المعقد، الذي ما زال مستمراً على ما يبدو إلى يومنا هذا19.

**د لا ل**
2013-01-24, 13:46
مالك حداد . . شعرية القص ورمزية النص .

والشيء نفسه ربما يكون قد فعله مالك حداد مع بعض الخصوصيات، التي رافقته طول حياته، فمن« رصيف الأزهار لا يجيب» إلى« سأهبك غزالة» إلى« الشقاء في خطر» ظل حداد يحمل مأساته المزدوجة، وربما بحس يختلف عن الآخرين، هذا الهم المزدوج« الاستعمار واللغة» هو الذي حدد مسار كل أعماله. فبالرغم من مأساة اللغة ظل هذا الأديب نقياً، يعبر عن هموم وطنية وقومية وإنسانية، برؤية تقدمية في شكلها العام، بعيدة عن كل روح شوفينية، الأمر الذي ساعده على عدم السقوط في التعميم والغموض، مثل بعض الكتاب الفرنسيين المتواجدين في الجزائر، الذين أفرزتهم الثقافة الاستعمارية.
تتمثل الرؤية الأكثر عاطفية تجاه ثورة التحرير في أعمال« حداد» فهي تعتبر مجموعة من العواطف والأحاسيس أكثر منها مجموعة للأفكار والآراء. تشكل رواياته قصائد تأثيرية، تظهر فيها من حين لآخر تصريحات وطنية وحماسية، وهو ينظر إلى الحدث كشاعر بقلبه قبل فكره. الحقيقة أن حداد له مفهومه الخاص للالتزام، ففي روايته« سأهبك غزالة» يروي قصة حب بين سائق شاحنة وفتاة شابة، تعيش في الواحة التي يتوقف فيها السائق ليستريح، وهو في رحلته عبر الصحراء. فالكاتب في رأي حداد لا يلتزم إلا بشخصيات رواياته. لكنه لم يهمل ثورة التحرير والمجاهدين، الذين كانوا يقاتلون من أجل أن يحققوا السعادة والخير لشعبهم، أو من أجل الغزلان20.
وتكاد تجسد رواية« التلميذ والدرس» لمالك حداد أعمق الوثبات الفنية للمتناقضات الدامية، التي يكتوي بها وجدانه. والشكل الفني نفسه يكاد ينطق بغلبة الدماء الجديدة، وحداد يبدأ صياغته من الكلمة فالجملة إلى بقية النسيج الروائي، ولا يفعل العكس: أن يصمم هيكلاً روائياً للأحداث والشخصيات والمواقف، ثم يملأه بالكلمات. أي أن الشاعر ببساطة يسيطر على الروائي. وتكاد الرواية في كثير من المواضع تتحول إلى قصيدة شعرية. وهذا يفسر أن البناء الذي انتهت إليه هو« المونولوج» إن« التلميذ والدرس» في جوهرها مونولوج طويل، فنحن لا نتعرف طوال الرواية إلا على شخصية واحدة لهذا الطبيب الجزائري الكهل، القاطن في إحدى المدن الفرنسية، وحيداً بعد أن ماتت زوجته. والمفارقة الروائية التي ينطلق منها حداد هي أن الطبيب –الأب- حريص على إبقاء حفيده بين أحشاء الابنة –المناضلة- التي جاءت عليه راغبة في الإجهاض. يكشف لنا حداد عن رمز البطولة في المقاومة الجزائرية، من خلال هذه الرواية21.
وضع حداد في روايته الأب وابنته وجهاً لوجه، الابنة التي تعمل في صفوف المقاومة. ومثل هذه المواجهة، تعتبر مظهراً آخر لصراع الأجيال، الذي تجلى واضحاً في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وفي الواقع فإن حداد هذه تعتبر أفضل رواياته وهي أكثرها تماسكاً وحيوية ومحتوى، بالرغم أن الدور الكبير يتركز في معظمه على مشاعر الوالد وهو يفكر ويتأمل سلوك ابنته. لقد اختار حداد منذ الوهلة الأولى أن كون « المنفى» هو المهاد الذي يبذر فيه رموزه، واختار أيضاً « جيل المنفى» هو الصغيرة المعبرة عن رؤيا المقاومة في رواية « التلميذ والدرس». يقدم إبداع مالك حداد فكرة عن الدرجة النوعية الجديدة التي ارتقت إليها الرواية الواقعية الجزائرية. وقد صادف إبداعه برمته فترة الحرب، إذ أن المؤلف لم ينشر أي كتاب بعد انتزاع الاستقلال. وتنقل مؤلفات حداد واقعاً جديداً إذا ما قورنت بإبداع كتاب التقاليد والعادات. وقد كرست رواياته للعالم الداخلي للبطل المثقف، أو لذلك الإنسان الذي إن لم يكن مماثلاً للمؤلف، فهو على أية حال شديد الشبه به روحياً. ولا يمكن التأكيد أن سيرة أبطال حداد تفتقر إلى الأحداث الدرامية بصفة خاصة، فكل واحد منهم يشعر بشكل أو بآخر بآلام قاسية، كموت القريب أو انهيار الآمال الشخصية. غير أن هذه الأحداث لا تلفت في حد ذاتها انتباه الكاتب، وهي فقط ضريبة حتمية، يدفعها للزمن كل واحد من مواكبيه في تلك السنوات، التي أصبح فيها مفهوم الجزائري – كما يقول الكاتب نفسه مرادفاً للشقاء. إن موضوع حداد هو الحياة الروحية للشخصية، التي تنطوي على قدرة فائقة على معارضة هجوم القوى الهدامة والمعادية للإنسان. وهذه القدرة لا تتجلى في أحداث خارجية باهرة تسترعي النظر، لأن بطل حداد يحوز انتصاراته في الحياة اليومية غير المحسوسة، وهذا لا يحط بتاتاً من مغزاه. وعادة ما تنكشف أمام بطل مالك حداد إمكانية سلوك الطريق السهل، والرفاهية الشخصية على حساب تسوية مع ضميره الخاص، غير أن البطل يرفض بحزم سلوك هذا الطريق. ويوافق تماماً الأسلوب الإبداعي للكاتب محتوى مؤلفاته، التي يبرز فيها تعقد الحياة الاعتيادية وغير المحسوسة، والبساطة الأزلية اليومية، كما يفتقد سرده مثلاً إلى الزخرفة الأسلوبية والفصول المطولة22.
دارت روايات حداد حول الثورة الجزائرية، وتلمسها من قريب ومن بعيد في دوامة من المشاعر والعواطف، هذا وأن شخصية الكاتب والثورة تشكلان نبعاً غزيراً لرواياته، وحب الوطن يقوم بمثابة رباط الحياة، الذي يربط كافة الحوادث ببعضها بعضاً يبرز حداد في رواياته كاتب شعر أكثر منه كاتب قصة. فقد تأثر بالشاعر الفرنسي « أراغون»، وكذلك بالفيلسوف« برغسون»، الذي ترك أثراً واضحاً على أعماله.
كاتب ياسين . . . « نجمة» الأسطورة والرمز: . .

فإذا جاءت« البيت الكبير» كانت بشير مولود الرواية الجزائرية، فإن« نجمة» كاتب ياسين، تبرز من بين معظم المحاولات والتجارب، وبالرغم من كل هذا من تمزقات، تبرز دليلاً يقينيا على أن الرواية الجزائرية قد ولدت. وما جراحها إلا جراح الجزائر وعذاباتها. وتعد« نجمة» من أعظم منجزات الأدب الجزائري الحديث، كما يذهب النقاد الغربيون والعرب على السواء. وتنبع أهميتها في تقديرنا من أنها تجسيم بالحجم الطبيعي لرحلة العذاب، التي خاضها كاتبها ووطنه جميعاً. إنها تجسد شكلاً ومضموناً كافة مراحل التطور، ومختلف أشكال التناقضات واتجاهات الصراع ونتائجه، التي انتهت إليها الرحلة الدامية؛ إنها حققت درجة عالية من الوحدة الدينامية في العمل الفني، حتى أصبح من الصعب تصنيفها إلى شكل ومضمون، كما أنها حققت درجة عالية من روح الخلق حتى أصبح من العسير تصنيفها إلى خيال وواقع.
تبنى كاتب ياسين موقفاً متميزاً في كتاباته، فهو يبحث عن الموطن الأم، مشخصاً إياه في شخص امرأة يسميها «نجمة» وتصبح الجزائر حقيقة مجسدة، وتكون نجمة بمثابة روح البلاد التي تسري والحادثة التي أثرت تأثيراً بالغاً على أعمال ياسين الأدبية هي مذابح سطيف، وكانت الكتابة هي الأسلوب النضالي الذي اختاره في نصرة القضية الوطنية الجزائرية. وتعتبر الجزائر بالنسبة للكاتب الينبوع الثري، الذي لا ينضب كمصدر إلهام فقد تناول تاريخها في أثناء الاحتلالين التركي والفرنسي، منشغلاً دائماً بوجود الوطن وبقائه.
والشكل الفني في« نجمة» قريب غاية القرب من الفن التشكيلي، في أحدث مراحله، إذ هي تبدو كلوحة تجريدية، وبالتالي تخلو من البناء الكلاسيكي في أية صورة من صوره. يجتمع الماضي والحاضر والمستقبل في« نجمة» اجتماعاً حياً مشخصاً ماثلاً، لذلك فهي قد تتشابه مع قصة« الصخب والعنف» لفوكنر، أو قد تتشابه مع« رباعية الإسكندرية» للورانس داريل؛ من حيث أن لكل شخصية زمانها الخاص ورؤيتها الخاصة، التي أملت على كل من فوكنر وداريل، هذا التجديد في بناء الرواية الحديثة. تتشابه« نجمة» مع هذه الأعمال في انتساب الزمن إلى التكوين الداخلي للشخصية؛ تجسد تجربة بدايتها تمتد إلى الماضي السحيق، وتمتد نهايتها إلى المستقبل البعيد. تشكل شخصية« نجمة» البطلة المحورية، فهي ابنة الجميع وعشيقة الكل« هي روح الجزائر الممزقة من البداية، والمهددة بمختلف التوترات والتمزقات الداخلية« كما وصفها كاتب ياسين في بعض تصريحاته. هذه الروح هي الثورة والثورة هي التجربة، التي امتصت زمانها الخاص على نحو شديد التعقيد من الماضي والحاضر والمستقبل، فهي أشبه بالبناء الموسيقي، كما قال الناشر الفرنسي في طبعتها الأولى.
إن التطور« اللولبي» للأحداث في نجمة، يذكرنا بمبادئ بنية روايات« فوكنر» ولعل هذه المقابلة لم تكن تخطر على بال أحد، لو لم يتحدث كاتب ياسين علنا وصراحة، عن حبه لفوكنر، وجيمس جويس، الذي أثر تأثيراً كبيراً في إبداع فوكنر، وهكذا فإن صلة الروائي الشاب بجويس وفوكنر، سمحت باستنتاجين وهما أن كاتب ياسين اقتبس البنية الزمنية من فوكنر، وتقنية تيار الوعي من جويس. يلجأ الكاتبان فوكنر وياسين إلى استعمال فقرات جديدة تمتد على صفحات عدة، بدون أية علامة ترقيم. وهناك تشابه يبدو أكثر وضوحاً في« ابسالوم ..ابسالوم» لفوكنر، و»نجمة» لياسين، خاصة في مجال العلاقة اللاشرعية، التي تنشأ بين بعض الشخصيات. ويظهر عدد من الأطفال غير الشرعيين في الروايتين. نجمة التي يتصارع الرجال ليس فقط على حبها، ولكن على إخضاعها أيضاً، وكذلك الحال مع« كليتمسترا وشقيقتها» في رواية فوكنر. وتشترك الروايتان في الغموض، الذي يكتنف أصل بعض الشخصيات. وهذه حقيقة تطبع جل شخصيات روايات ياسين، فبدون معرفة اسم عائلة الشخص يصعب معرفة أصله. وجو كلتي الروايتين يكتنفه غموض المصير، غير أن نجمة لا تحمل الروح الشيطانية الجهنمية، التي تحملها ابسالوم ابسالوم23.
هذا وقد تأثر ياسين كثيراً بالشاعرين الفرنسيين« رامبو، وبودلير» ومن« الفراديس الزائفة» استقى ياسين فكرة« المرأة المتوحشة». وتجسد تيار الوعي في مذكرات مصطفى، وهذيان وحكايات رشيد، فقد كان يعكس أفكار وأحاسيس المؤلف، وساعدته هذه التقنية على خلق تنويعات شعرية، توهم بالامتلاء العاطفي الغنائي الذاتي. وتطرح إمكانية فهم الحاضر من خلال استرجاع الماضي، وبعث الأسطورة القديمة، التي تساعد على العودة إلى نقطة البدء، وهكذا فمن ضرورة الصلة بين الحاضر والماضي، ولدت بريشة كاتب ياسين قد تخيلها هو جزئياً، وأخذها في الأساس من خرافات الأجداد، قصة الجد الأكبر« كبلوت»، زعيم قبيلة بدوية عريقة، قدمت إلى الجزائر في عهود غابرة، من مكان ما من الشرق العربي، واستقر أحفاد «كبلوت» في الناظور بالقرب من قسنطينة، وقاوموا ببسالة أجيال متعددة من الغزاة. وهكذا استمر الأمر حتى الفرنسيين، لكن القبيلة لم ترضخ لهم24.
استعملت« نجمة» مادة الأساطير على مستويين متداخلين؛ الأول مادي ويخص تقاليد المقاومة عند الكبلوتيين، والثاني رمزي فلسفي، ويخص الحب القاتل للرفاق الأربعة لنجمة التي هي ليست امرأة فاتنة فحسب، وإنما هي رمز للوطن الرائع والمعذب بتاريخه البسيط، والمأساوي على حد سواء.
إن القلق والغموض والشك، الذي ملأ كتابات كامو وروبلس وبيلا وغيرهم، قابله خطاب روائي آخر، مؤسس على تقاليد الأدب الإنساني، فكان جيل 1952 الأدبي: محمد ديب (بلزاك الجزائر)، وكان كاتب ياسين (جيمس جوس، أو دوس باسوس)، وكان مولود فرعون، ومولود معمري (تولستوري) وكان مراد بوربون (غوركي) لقد كانوا جميعاً وهم يستندون إلى قيم الآداب الإنسانية وإلى قيم الحرية يشيدون تقاليد القطيعة الجمالية والفكرية، مع أدب التحقير والغرابة والإنسانوية الغامضة.
فبالرغم من لحظات اليأس، التي كان يصاب بها مالك حداد مع غيره من الكتّاب الجزائريين، أو كما سماه« اليأس الفني»، إلا أن كتاباتهم لم تصب بأي مرض من الأمراض، التي أصيبت بها بعض المدارس الغربية، التي سقطت في الإغراءات الشكلية المميتة، فلم يحاولوا البحث عن ذواتهم داخل الفراغات المغلقة، ولم يقتلهم القلق ولا التهويمات الميتافيزيقية الغامضة، فكل شيء كان بالنسبة لهم واضحاً، فالثورة الشعبية الكبرى وهناك أمور أخرى منعت هؤلاء الأدباء من السقوط في حبائل الاستعمار وإغراءاته، وعلى رأسها واقعهم الاجتماعي والطبقي، فكلهم من أصول طبقية فقيرة، ومهضومة الحقوق. نجد مثلاً كاتب ياسين، الطفل الفقير قد احترف الصحافة واشتغل عاملاً في الموانئ وفي الزراعة قبل أن يمارس الكتابة. وبالمثل محمد ديب اشتغل في معامل النسيج في تلمسان، وفي أقبيتها الباردة، ثم عمل محاسباً ومعلماً فصحفياً. هذه التجارب المرة هي التي جعلت منه أديباً مبدعاً، وثوريا وفناناً يغمس ريشته ريشة الرسام الصادق في الدم والعرق والعذاب والجنون، والحكمة والتمرد، والمرض والتناقض والثورة، فيخرج منها ألواناً يصبغ بها لوحته25.
لقد كانت استراتيجية الكتابة في ظل المدرسة الوطنية للآداب، هو أن يكون الأدب وسيلة للكفاح، لإعادة القيمة لذات منكسرة، مهزومة ومهمشة، إنها كتابة أهدافها تحويل المركز إلى الهامش والهامش إلى المركز. إن الروائي رشيد بوجدرة في« التطليق» وفي« ألف وعام من الحنين»، والطاهر جاووت في« الباحثون عن العظام» مارسوا عملية إثراء تقاليد الكتابة الروائية عند محمد ديب، وكاتب ياسين فيما يتصل بالاستراتيجية توليد الأحلام. وعلى الرغم من الإحالة على الواقع والتاريخ والأتوبيوغرافية في نصوص بوجدرة، إلا أن الكتابة كانت هي المركز والواقع هو الخطوة الثانية. ومع تعميق هذا الجانب كان الجزائريون يؤسسون نصاً للحيرة وحيرة للنص.

**د لا ل**
2013-01-24, 13:47
آسيا جبار ومرغريت عمروش . . . عطش الأنثى

وإذا كان الروائيون الجزائريون في الفترة ما بين الحربين، وحتى الثورة الجزائرية قد تتلمذوا مباشرة على صناع الرواية الكولونيالية، فإن الروائيين المعاصرين بالفرنسية، يعودون الآن لاستثمار أساليب وطرق الرواية الكولونيالية، والفن التشكيلي الكولونيالي في نصوصهم. اتكأ هؤلاء على نصوص أو لوحات لمبدعين استعماريين، يعودون إلى نهاية القرن الماضي بداية الغزو، حتى بداية استقرار الرأسمال الكولونيالي.
ويختلف موقف« آسيا جبار» ككاتبة، عن مواقف الجزائريين الآخرين، فهي ترى أن الرواية يجب أن لا تعكس حوادث العهد الذي تكتب فيه. فكأنها تحتاج إلى البعد الزمني، الذي تطلبه عمل المؤرخ لتقييم صادق للأحداث، وعلى هذا الأساس فروايتها« العطش» التي كتبتها خلال السنوات الأولى من حرب الجزائر لم تعكس الجو الذي كان سائداً في تلك الآونة، فهي تمثل للكاتبة هروباً من الواقع القاسي، ففي واقع حياتها كان الفرنسيون يلاحقون خطيبها، وكان أخوها في عداد الجيش المقاتل في الجبال، فهي تعتقد أن معالجتها للأحداثـ،، التي كانت تهز بلادها في تلك الفترة، لم تكن لتؤدي إلى كتابة أعمال تتسم بالعمق، ولم تعالج ثورة التحرير إلا في روايتها الثالثة« أطفال العالم الجديد» واتخذت في تناولها موقف المراقب للأمور وليس المشارك فيها26.
أما روايتها الرابعة« القبرات الساذجة» فقد اندمجت أكثر مع الأحداث، فانتقلت إلى ميدان المعركة وإلى مخيمات اللاجئين، ونفذت إلى أعماق نفوس الجزائريين، الذين كانوا يحاربون على الجبهة التونسية. وإن رواياتها بصورة عامة تعدّ وثيقة قيمة للمجتمع النسوي الجزائري، فقد كانت« جبار» في مركز أفضل من غيرها من الكتاب الجزائريين لتكشف عن أسرار ذلك العالم المغلق.
إن نقلة لدى آسيا جبار تقفز بها من رواية« أطفال العالم الجديد» بقيمتها الجمالية المنخرطة في جماليات الأدب الوطني المتموقع في سياقات الإيديولوجية الوطنية بكل تنوعاتها إلى نص ينتمي إلى متن جمالي كولونيالي متمثلاً في الروائي والرسام أوجين فرومنتان، إذ إننا نلمس بصمات واضحة لروايته« سنة في الرمال» على نصها« الحب، الفانتازيا»، والأمر نفسه نلمسه لدى ليلى صبار، إذ نجد في نصوصها حسا انبهاريا واغرابية، قادمين من تقاليد الكتابة الاستعمارية، الباحثة عن ألف ليلة وليلة في الواقع الجغرافي، وفي الإنسان الجزائري.
إن«دفاتر شهرزاد» 1985، الذي هو نص موصول بوضوح بنصها الأول «شهرزاد» الذي تستعرض فيه المشرق الذي هو المغرب العربي-لا فرق- من خلال عين سائحة مستشعة، فهي لا تعدو تكتب أدب البطاقة البريدية الجديدة، وعينها لا تختلف عن عين الرسام ماتيس أو دولاكروا في لوحته« نساء الجزائر». إن أدب البطاقة البريدية من خلال نصوص آسيا جبار وليلى صبار، يعكس بقوة خضوع الكاتب إلى الوضعية التي قدمته له دار النشر الفرنسية، التي هي ولادة حنين إلى تحول الكائنات الجنوبية إلى متعة ومتحف.
إن الجنس بمفهومه« الجنسوي» والفلكلور بمفهومه« الفلكلوري» والصحراء بمفهوم القفار والخلاء والمغامرة، والدين الشعبي والزواج والخيال الجزائري. كلها موضوعات ينتظرها القارئ الأوروبي في كتابات الجزائريين، إنها شرط الكتابة وشرط النشر وشرط الزواج.
وتأثرت «جبار» بالكاتب الأمريكي «دوس باسوس» فهي مثله تضع أفكار شخصياتها بين علامات تنصيص وأحياناً بي قوسين. ويظهر بوضوح تأثير« د.هـ.لورانس» في آسيا جبار، ويبدو أنها بمساعدة كتاباته توصلت إلى»اكتشاف الجسد» والتقى الكاتبان في نقطة اهتمامهما بالعلاقة بين الرجل والمرأة، فقد عالجت« جبار» هذا الموضوع ضمن روايتها الأولى، مركزة عليه بصورة خاصة في روايتها الأخيرة« القبرات الساذجة». وتركت روايتا« لورانس»- نساء محبات، وعشيق الليدي تشارلي –أثرا كبيرا على أعمال جبار. وكذلك فإن رواية« جوستين» للكاتب« لورانس داريل»، والتي أعجبت بها إعجاباً خاصاً، تركت علامتها على رواية« القبرات الساذجة» فكلتا الروايتين تنطقان على لسان راو، يتناوب دوره بين الملاحظة الخالصة والمشاركة الإيجابية في القصة، كما أنهما تتشابهان نوعاً ما أيضاً، في موقفهما إزاء المومسات اللواتي يظهرن تعاطفاً معهن. ومن ناحية أخرى، فإن كلا من جبار وداريل يعطيان للمدينة التي تدور فيها أحداث قصتيهما دوراً في سير الأحداث؛ فبينما داريل يشخص مدينة الإسكندرية، تحاول ذلك جبار مع مدينة تونس27.
ونأتي إلى الكاتبة« مارجريت طاوس عمروش» لنجد أنها تأثرت في كتاباتها بكل من« توماس» و»ج.كونراد واميلي برونتي، خاصة روايتها« مرتفعات وذرينج»، غير أن روايتها« الياقوتة السوداء» و»شارع الطبول» أقرب ما تكونان إلى السيرة الذاتية، وبذلك يصعب اكتشاف مدى التأثر فيهما بالكتاب الأجانب، وعلى أية حال، فإننا نلمس تشابهاً كبيراً بين عمروش وبين الروائيين السابقين لا سيما في مجال فن سرد القصة، فكل منهم يملك مقدرة على سرد القصة بطريقة جذابة، جاعلين من القصة المبسطة قصة شائقة، ومن القصة المعقدة قصة واضحة، وأن عمروش التي اكتسبت الخبرة من بيئتها القبائلية، هذه البيئة المعروفة بتقاليدها العريقة والغنية في الأدب الشعبي، تنعكس على روايتها «شارع الطبول»28.
نقول إنها قد بلغت النضج في هذا المجال، عند اتصالها واحتكاكها بهؤلاء الكتاب الكبار. وهناك جو درامي، ومسحة من التشاؤم يخيمان على كتابات عمروش من المحتمل أن تكون قد استمدتها من هاردي، وكونراد وبرونتي. فهؤلاء الثلاثة معروفون بنظرتهم التشاؤمية إلى الحياة.

**د لا ل**
2013-01-24, 13:48
بوربون وبوجدرة وميموني...سؤال الحداثة وحداثة السؤال . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يعتبر« مراد بوربون» الشعب أحد أهم مصادر كتاباته، فالشعب يمثل مدرسته، وأفراده أخوته الذين يرتبطون معه، ليس برابطة الدم فحسب، بل بأخوة خلقها الكفاح والنضال المشترك، وتركز أعماله حول هذا الاتجاه وعلى وجه الخصوص في روايته« ذاكرة الشعب» التي تتناول اليقظة الوطنية لدى الجزائريين. ويدعو إلى عدم استغلال الشعب وثورته وأن الأدب الجديد يجب أن يهتم أكثر بالنضال من أجل الإنسان الجديد، فهو ينتقد السلطة في الجزائر المستقلة، مبيناً أخطاء ونواقص الثورة التحريرية29.
وقد خصص رشيد بوجدرة جل رواياته المكتوبة باللغة الفرنسية، لمعالجة مشاكل ما بعد الاستقلال، ووجه فيها نقداً لاذعاً للمسئولين، كما أثار بوجدرة مسألة الاختلال العقلي الذي عانى منه بعض قدماء المجاهدين، وخصص لهم مكاناً كبيراً في روايته« التطليق». ومن المعروف أن الحروب تنجم عنها عادة أمراض نفسية، واختلال عقلي للمحاربين، هذه الظاهرة تفيض بها الرواية. ونظر بوجدرة إلى الوضع في الجزائر المستقلة من خلال عيني مريض نفسي سابق، فأعطاه هذا المنطلق حرية كبيرة في نقد السياسة الجزائرية، فمن يعاقب مجنوناً على أفعاله وأقواله؟ وقد احتاط الكاتب، فحذر القارئ موضحاً بأن بطل روايته لم يشف تماماً وأنه يصاب بنكسات من آن لآخر. وأخذ الراوي محتمياً بذلك الدرع، ينقد الأوضاع في الجزائر قبل الاستقلال وبعده. فهاجم العادات والتقاليد بنفس العنف، الذي هاجم به الجزائر الثورية، خاصة الإرهاب الذي ورثته من النظام الاستعماري، ومارسته على بعض القدماء المجاهدين. هذا بالإضافة إلى الاستعانة بوسائل التعذيب، التي استخدمها الحكام الفرنسيون في الجزائر. وقد سمى الكاتب حكام الجزائر المستقلة:« العشيرة»، أما جواسيسهم فأطلق عليهم اسم« الأعضاء السريين»30.
ونلحظ أن بطل رواية« التطليق» رشيد فرح بمرضه العقلي، الذي يبعده عن واقع الحياة والأوضاع المتدهورة في الجزائر، فكان يجهل حقيقة الأمور، لكن كان يدرك بحدسه أن الوضع مخيف، وذلك لأن الجزائر كانت فيها سجون ومعسكرات، ووسائل التعذيب ما زالت تمارس. وكان يشعر أن الاستقلال لم يأت بتغيير مفيد، ولم ينتج عنه إلا عمليات الانتقام، والاحتفالات والإثراء الفاضح. وعالج بوجدرة ظاهرة سوء توزيع الثروة في الجزائر المستقلة، ووضح أن العشيرة تحب المجوهرات بصورة خاصة.
كتب رشيد ميموني روايته «شرف القبيلة» وهي الرواية الثالثة بعد رواية «النهر المتحول» و»طومبيزا» تثير روايات ميموني في ذهن قارئها المتوهم عوالم كافكوية ووجودية، إذ تضعه روايته الأولى بين أهم الروائيين الذين يتوقفون في إثارة الانفعال والخوف، فنهر ميموني، يشدنا إلى مخاض شعب بأكمله، وتنضاف إليها رواية طومبيزا لترسم ملامح البؤس والعنف والقرف الجامح في ليل حالك السواد، لا تخترقه سوى التماعات حب جارف، لفضاء سرقت منه الأضواء. وبعد خمس سنوات تظهر رواية« شرف القبيلة» سنة 1989 لتثير ضجة في الأوساط الثقافية الفرنسية والجزائرية، وتصنف بين أجمل روايات الموسم.
يبدو أن بول فاليري، الذي يستهل ميموني به روايته، وهو يرى (بأن كل القصص تتعمق في الخرافات) كان يحث ميموني على الغوصفي وعي القبيلة الوجودي، وهو ما جعل الروائي يستدعي الراوي الشعبي، ليفتح (شرف القبيلة) بما تختزنه ذاكرتها. يحضر لاوعي القبيلة افتتاح الرواية، ويوهم بتوظيف مستنسخات دينية، ولكنها لا تلبث أن تنفجر مع حكي النهار، الذي يفضح ما يستتر عنه ليل حكي الصغار، ما دام التحول العنيف لا يصيب القبيلة وحدها بل يصيب السارد الذي ينتقل من عالم شفوي إلى عالم كتابي.
ويظهر السارد بطريقة ساخرة، يعفينا من عناء وصف غير روائي لأن القرية عبارة عن« بلد يقع في قعر العالم، وهو جد باهت، وجد مستتر، إذ لا تشير إليه أية خارطة في العالم، ولدرجة إيغاله في الديمقراطية فهو لا يحتاج إلى رئيس دولة»31.
إن أهل القرية جميعهم يتعارفون في ما بينهم، ويتبادلون التحايا صباح مساء، وبذلك فهم على علم بكل أحداث قريتهم، بل يعرف بعضهم عن بعض أقل الدقائق في حياة الآخر. إنهم إذن يعيشون ميثاق شرف قبيلة، يفترض أن على رب الأسرة الشريف أن يتوقف عن العمل بمجرد بلوغ أول أبنائه الذكور سن العمل، مما يسمح للشيوخ بالتمدد تحت ظلال شجرة الزيتون، ولا يتحولون عنه إلا للانتقال نحو الظل الذي يغادرهم. وتكاد تتحول القرية إلى« قرية فاضلة»، على غرار المدن الفاضلة لولا لعنة الأجنبي التي كنت تطاردهم، ولعنة المدينة التي تلاحقها. لغة الرواية متميزة عن باقي روايات التعبير الفرنسي، والتي تتفوق كثيراً على كتاب الجوائز الفرانكوفونية. يركز ميموني على العالم القروي وتحولاته، كما يتلافى الحديث عن الآخر باسمه، فهو الأجنبي والرومي والمتحضر، ويجمع داخل هذه التسميات كل أنواع الاستغلال التي انصبت على القبيلة، كيفما كانت طبيعتها الإيديولوجية والسلطوية. فلغة الرومي تكاد تكون لازمة في الخطاب المستنسخ عند ميموني، لأن بطله علي بن علي الذي عاد إلى القرية بدون روح، بعد أن التحق بالمدرسة الأجنبية سيصبح الوسيط الشرعي بين القبيلة والعالم الخارجي، خاصة وأنه التحق بالقرية بصفته مكلفاً بالبريد32.
وينتقل الصراع من القبيلة إلى الرومي، فإلى القبيلة الشرعية والأدهى والأمر أن القبيلة غير معنية بالصراع حول مصيرها ستلقى خبر تحررها من الرومي، دون وعي لأهمية الخبر. ويظهر عنف الخطاب الروائي عند ميموني في نقده المزدوج لما قبل الاستقلال ولما بعد الاستقلال على السواء، ويظهر هذا من خلال وضعية قرية الزيتونية، التي لم تتغير وضعيتها، ومورست عليها جميع وسائل العنف الهادئ والإداري. ويعي سكان القرية تمام الوعي بأن ما يفصل بين قريتهم والعاصمة هو ما يفصل بين السماء والأرض، ولكن لا أحد يصغي إليهم، فالأوامر والقوانين تتساقط فوق رؤوسهم بوتيرة تتجاوز ردود فعلهم. وتبلغ سخرية ميموني أقصاها حين يصور إلزام الدولة للدكاكين بوضع علامات مضيئة أمام محلاتهم بينما تستمر القرية في استعمال المصابيح الزيتية. وبهذا تتجاوز رواية رشيد ميموني «شرف القبيلة» طروحات رواية الواقعية والواقعية الاشتراكية، إلى رواية النقد المزدوج للذات وللآخر على السواء، بعد أن تكون لنا الوعي الزمني اللازم بمواجهات إشكاليات الكتابة الآلية والوقائع الغريبة لما بعد انتفاضة أكتوبر 1988 33
تعتبر المراهقة السن المفضلة لدى «رابح بلعمري» بالنسبة لشخوص رواياته في«الشمس التي تحرق الغربال»، و«النظرة الجريحة» وأخيراً «الملجأ الحجري» كلها روايات تحكي سيرة مراهقين، إنها سير اكتشاف وتعلم: اكتشاف العالم، اكتشاف الجنس والحب والجراح والموت. في رواية رابح بلعمري الأخيرة« الملجأ الحجري» جميع أمكنة الحنان والعطف والذاكرة تتهدم، وجميع الشخوص مهددون بالضياع والذوبان، في متاهات الحياة الصعبة. بعض هذه الشخوص مثل محنة (والأكيد الكاتب يرمز إلى المحنة بمعناها الحقيقي)، وأبو هامل (من همل بالعربية الفصحى) تحمل أسماء قدرية، غير أن هذه الشخوص لا تعرف الخيبة وحدها، بل أن كل الشخوص الأخرى تتعرض لنفس المحن والمآسي.
في ذاكرة الطفل البريء، امرأة زنجية مجنونة، هي أمه التي لم يرها إلا مرة واحدة في حياته، حيث كانت مسجونة في الكوخ. ماري الفنانة التشكيلية التي صممت على أن تبقى في الجزائر بعد الاستقلال، هي الأخرى تغرق في الجنون، وتنهي أيامها الباقيات في الملجأ الحجري، بينما تمثل الخالة عائشة تلك العجوز التي تذكي الذاكرة والأسطورة34.
إن رواية« الملجأ الحجري» تحمل العديد من الرموز والمفاتيح، مثل تلك الشخصية، الشاعر ذي الأصل الأوروبي الذي يتحمس لتطوع الطلبة وللذات البسيطة داخل المدينة وعلى الشاطئ التي تمثل بلا شك الشاعر الجزائري المعروف «جاك سيناك»، الرجل الذي أضاء طريق رابح بلعمري في الشعر والرواية. فلم ينسه الكاتب أبداً، حيث إن بلعمري لم يكتف بمثل هذه الإشارة إليه في روايته هذه، إنما خصص له دراسة نظرية نشرها مؤخراً في ديوان المطبوعات الجامعية تحت عنوان« جاك سيناك بين المتعة والألم».
هذه بعض الشخوص المهمة في رواية «الملجأ الحجري» التي يدور موضوعها في قرية بالهضاب العليا، بكل ما يحمل سكانها وحجارتها من أساطير، ومشاهد عنف ومناظر خلابة أو تعيسة، وكذا تعنت أولئك البشر المقيمون في آخر العالم كي يحيوا رغم الحروب والغزوات التخريبية.
إن رابح بلعمري يعتمد كتابة وقورة، وأسلوباً سلساً مضبوط العبارة، دقيق الكلمات مما يجعل من روايته تحفة حقيقية مهداة إلى الشبق والألم

**د لا ل**
2013-01-24, 13:49
تابع :


الرواية الجزائرية ذات التعبير الفرنسي والمأزق الحضاري: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إذا كان الكتاب الفرنسيون في العهد الاستعماري قد جاءوا إلى الجزائر أو ولدوا فيها، فأسسوا تقاليد جمالية لأدب كولونيالي، فإن أسماء كثيرة رحلت إلى الغرب، كي تكون هي العين التي تعيد لهؤلاء ما فقدوه على الأقل على مستوى الكتابة. تمثل الصحراء كفضاء مبهر للآخر حضوراً عنيداً في رواية التسعينات، وأسماء لأسماء قديمة أو لأسماء الجيل الجديد. إنها سند عناوين الإثارة في القراءة الأوروبية. فمن طاهر جاووت إلى رشيد ميموني إلى آخر رواية لمحمد ديب، مثلت الصحراء استنهاضاً لذاكرة الأوروبي في المغامرة، استنهاضاً لتاريخه ولأحلامه، وأحلام الأجداد الذين انهزموا36.
بقي معظم الكتاب الجزائريين يكتبون باللغة الفرنسية، بسبب الولاء المزدوج لحضارتين وثقافتين، ولكن بعضهم قد اختار العيش في فرنسا كل الوقت أو بعضه، مثل محمد ديب وكاتب ياسين. بل أن الذين بقوا في وطنهم ظلوا متمزقين أيضاً، وأرادوا أن يمزقوا معهم شعبهم، ويحدثوا في وسطه البلبلة الثقافية وزعزعة الولاء الحضاري، أمثال مولود معمري، فكأن بقاءهم فيها إنما هو لغرض القيام بمهمة خاصة، تخدم المصالح الاستعمارية التي عجزت عن تحقيقها مباشرة سواء أرادوا هم ذلك أم لم يريدوه.
ونلاحظ ان الكتاب الجزائريين الذين كتبوا باللغة الفرنسية، قد تمتعوا بحرية الحركة أكثر من الفرنسيين في اختيار الأجناس الأدبية والموضوعات والتقنيات، فهم خلافاً للفرنسيين أقل ارتباطاً بالتقاليد الأدبية. وكما يتوقع المرء، فإنهم قد أعطوا تركيزاً أكثر للرواية كما هي، باعتبارها الجنس الأدبي الطاغي في القرن العشرين.
وعلى العموم فإنهم قد منحوا الأدب الفرنسي المعاصر دماً جديداً وقوة جديدة بالطريقة نفسها التي أنعش فيها الأدب الأمريكي منذ وقت غير بعيد، الأدب الإنجليزي المعاصر. إن كتاب شمال أفريقيا قد أعطوا قوة للثقافة في وجوههم الجديدة. وهم أقل اهتماماً بالفحص الداخلي، كما يفعل المؤلفون في فرنسا نفسها، ولكنهم أقوى نبضاً نحو التسامي البطولي.
إن كتاب شمال إفريقيا غير الفرنسيين، يشتركون في عدد من الموضوعات: الهجرة إلى فرنسا بسبب كثرة الولادات والفقر في الجزائر، والصراع الطبقي في شمال إفريقية، سواء بين المجموعة العربية نفسها أو بين العناصر الشمال إفريقية والأوروبية. وكذلك المعركة بين القديم والجديد، وبين التقدم والتقاليد، يضاف إلى ذلك التنازع العرقي والديني بين مختلف المجموعات والأعراق والأديان التي تتعايش في شمال إفريقية مثل: أهل البدو والحضر والعشائر الحضرية، والفلاحين وسكان المدن والبربر والعرب والأوروبيين، وأخيراً اليهود والمسلمين والكاثوليك.
ومعظمهم يعرفون فرنسا جيداً، حيث عاشوا فيها في أثناء مناسبات عديدة؛ إما للبحث عن عمل لم يجدوه في مسقط رأسهم، وإما لمواصلة دراستهم بعد اكتشافهم للثقافة الغربية في المدارس الفرنسية في بلدانهم الأصلية، وإما في أثناء خدمتهم العسكرية، أو في أثناء مسيرة الحرب العالمية الثانية. وتعتبر أحداث العقدين الماضيين مهمة بالنسبة لتاريخ شمال إفريقية، عندما انفتحت أبواب المنطقة على مصراعيها للتأثير الأجنبي، ولا سيما الغربي منه ثم حل التأثير المشرقي في عهد لاحق. كما أن معظم هؤلاء قد جربوا حظهم في الصحافة التي عاونتهم كثيراً على تنمية علاقتهم بالغرب –وخصوصاً فرنسا- وعلى ابتعادهم شيئاً فشيئاً عن ثقافتهم الأصلية. وغالباً ما كانت أولى محاولاتهم في ميدان الأدب، هي كتابة السيرة الذاتية حيث يبرزون فيها ازدواجية الولاء لعالمين مختلفين كما يبرزون معاناتهم عندما يجدون أنفسهم بعد ذلك عاجزين على إيجاد مكان لهم في كلا العالمين37.
وهكذا استمر معين الروائيين باللغة الفرنسية، يغذي القراء حتى أيامنا هذه. وإن كانت ظاهرة التعريب قد دفعت بعض الروائيين إلى التوقف عن الكتابة باللغة الفرنسية، فبادر مالك حداد إلى التوقف عن الكتابة منذ فجر الاستقلال، تمشياً مع المبادئ التي كان ينادي بها أثناء الثورة، نتيجة إحساسه بالغربة الخانقة في اللغة الفرنسية, أما من استمروا في الكتابة باللغة الفرنسية مثل محمد ديب، فقد اختاروا الهجرة إلى فرنسا وفضلوا الغربة. وهناك من اختار طريقاً وسطاً مثل« كاتب ياسين» الذي اتجه نحو المسرح الناطق بالعامية الجزائرية المطعمة بالفرنسية. كما يلاحظ أن بعضاً من هؤلاء اتجهوا إلى ممارسة الكتابة باللغة العربية واستطاعوا أن يقدموا أعمالاً روائية يمكن أن نعتبرها مشروعاً لحركة الحداثة الروائية في الجزائر، نذكر منهم رشيد بوجدرة.


منقووووول

**د لا ل**
2013-01-24, 13:50
مظاهر الغزو في الأدب العربي ....

مظاهر الغزو في أدبنا الحديث

1 – موقفنا من الأخلاق:

وأول مظهر من مظاهر الغزو في أدبنا اليوم أننا فقدنا اللمسة الأخلاقية فيما نكتب، فمن سمات الفكر العربي الحق أنه فكر أخلاقي، يدعو إلى ارتفاع العقل الانساني إلى مراتب الخير والكمال. وحسبنا من ذلك أن كلمة (أدب) عند العرب كانت ترتبط بأدب النفس كل الارتباط، فالأديب هو الذي يروي من الشعر والنثر ما يرتفع بالروح ويسمو بالخلق. وقد بقي الشعر العربي، قبل اختلاط العرب بالأعاجم، صورة تنطق بالفضيلة والمروءة وكمال النفس، وقد قال أحد الخلفاء الأمويين لمعلم أولاده (علمهم الشعر يمجدوا، وينجدوا) لأن الشعر كان صورة النفس الماجدة ذات المروءة والخير. وقد ثبت هذا المعنى في عصورنا كلها. فبقي الأدب من شعر ونثر يعرض أروع الصور في السلوك والمعاملات كما يحفل بنماذج صافية من الأخلاق الجنسية. وبحسبنا أن نتذكر العشرات من دواوين الحماسة والشعر، ومجموعات الخطب والرسائل وأقاصيص النجدة والمروءة وكتب الإرشاد الأخلاقي. وقد ترك المتصوفة وحدهم تراثاً أخلاقياً عظيماً كله نبل وإنسانية. وحسبنا على سبيل المثال أن نشير إلى كتاب (الفتوحات المكية) لمحيي الدين بن عربي فقد وردت في الجزء الرابع منه مئات الصفحات في الأخلاق فيها من الخلق الكريم ما لا حدود لجماله وكماله. على أننا لا نحتاج أن نذهب بعيداً في التمثيل فإن كتابنا الكريم (القرآن) يعرض من صور الأخلاق ما يكفي للإفصاح عن روحية العرب. ومثله في الحديث النبوي وأخبار الصحابة وأدعية السجاد الإمام زين العابدين، وأمثالهم، ومؤلفات أدبية لا حصر لها في أدب النفس ومعاني الأخلاق. وقد تمثلت هذه القيم عملياً في قصصنا الشعبي عن سيف بن ذي يزن وعنترة العبسي وأبي زيد الهلالي وأمثالهم من قصص المروءة والبطولة.
ولم تفقد كلمة (أدب) مدلولها الأخلاقي إلا في عصرنا، فنحن اليوم نكاد نصدر في ما نكتب عن المفهوم الغربي للكلمة حيث تعني كلمة أدب Literature المعلومات والعلم، ولا تتصل بالأخلاق. ويرجع فصل الغربيين بين الأدب والأخلاق إلى عهود قديمة فنحن نجد في مذهب أرسطو الذي أدرجه في كتابه عن الشعر Poetics إن جمال الأدب لا يستند إلى الأخلاق، وإنما هو معنى منعزل لا شأن له بأية قيمة خارجية، ومن السائغ عند أرسطو أن يكون الأدب جميلاً كل الجمال حتى وهو غير أخلاقي، فلا دخل للمبادئ والمثل في الأدب.

وقد سيطر هذا المذهب على الفكر الأوربي فبقي يتحدر من صفحة إلى صفحة عبر تاريخ الأدب والنقد، وممن اسنده وأضاف إليه الناقد الألماني (ليسنغ) في كتابه المعروف Laocoon ولسنا ننكر أن طائفة صغيرة من مفكري الغرب قد رفضوا هذا المذهب ودعوا إلى ما يقرب من المفهوم العربي، ومن هؤلاء الشاعر الروماني هوراس، والناقد الانكليزي (فيليب سيدني)، والشاعر الألماني (فريدريك شيلر) إلا أن هذه الأصوات تاهت في خضم الفكر المادي فلم تؤثر تأثيراً محسوساً، وبقيت الصورة الثابتة لآداب الغرب منفصلة عن الأخلاق حتى قال الفيلسوف المعاصر (بنديتو كروتشه) نصاً: (لا شأن للأخلاق في الأدب) وهذا الحكم يعبر أفصح تعبير عن تيار التبذل والتحلل في أدب أوربا اليوم. وتمتد جذور هذا التيار إلى القرن التاسع عشر، وقد بالغ في الدعوة إليه أنصار المذهب الطبيعي، الذين جعلوا واجب الأديب أن يصف كل ما يقع للإنسان دونما اعتبار لقيم الأخلاق ومصلحة المجتمع. وحسبنا للتمثيل أن نشير إلى قصة (أميل زولا) المعنونة (غرمينا) فقد هبط إلى أدنى مستويات الروح والخلق، فوصف عالماً موبوءاً تلعب به الغرائز الحيوانية على شكل يلغي الحضارة ويرد الإنسانية إلى عهود الوحشية والبربرية. وما من شيء يبدو لنا أشد إيلاماً من هذا، فإن (زولا) يرتفع في القصة نفسها إلى آفاق عالية من الفن والإبداع، فكأنه يضع فنه وإنسانيته في خدمة التفسخ، ويساهم في قتل الحضارة.

ولقد اقتبس أدباؤنا العرب هذه النظرة إلى الأدب في اتجاهيها.. السلوكي والجنسي حتى أصبح أدبنا يضم أشنع النماذج في الإنسانية والخلق. فالقصاصون المحدثون يصورون في قصصهم أشخاصاً يعاملون آباءهم في قسوة وخشونة واحتقار، ويرسمون أبطالاً يتطاولون على أساتذتهم. وكم في القصائد والقصص من بذاءة وتبذل في اللغة، وقد أصبح نموذج البطل أن يجعله المؤلف كثير السب واللعن، ضيق الصدر، ضعيف الخلق، لا يترفع عن شيء. وشاعت صورة البطل المثقف الذي يبصق في الطريق ولا يعترف بأية قيمة للأشياء والأشخاص. وكل هذا مناقش لأدب النفس العربية الذي عرفه تراثنا. وإنما هو موقف منقول من الغرب، فذلك ما نجد في القصص الحديثة هناك وفي المذكرات والرسائل، فكان من علامات الثقافة الجديدة هناك أن يكون الإنسان متبذلاً قاسياً مغروراً لا يتورع عن شيء.

أما النظرة الجنسية في أدبنا الحديث فنلمسها في ذلك الركام الهائل مما كان قبل يسمى بالأدب المكشوف فأصبح اليوم لا يسمى حتى بذلك، لأن أدب الجنس أصبح يعتبر مظهراً من مظاهر الواقعية والتحرر الفكري والثقافة الحديثة. فما يكاد الناشئ يكتب حتى يصطنع الغرق في الرذائل والاستهتار بالقيم. ولا نهاية اليوم للكتب والمجلات التي تقذف بها المطابع ويصور فيها الإنسان العربي وكأنه قد تحول إلى حيوان أعجم لا يرتفع إلى أعلى الجسد والحواس. وقد قرأنا في دواوين الشعر التي صدرت هذه الأعوام عجباً عجاباً من الاسفاف والجموح، حتى أصبحت هذه ظاهرة أكيدة تطبع الإنتاج الجديد. ومن عجب أن الحكومات العربية ما زالت غافلة عن هذه الظاهرة، فلا نراها تتخذ إجراءاً بإزائها، لا في حقل النشر ولا في حقل التعليم والتوجيه. والواقع أن وراء هذه الظاهرة ثلاثة معان كلها خطير ينذر بالشر: أ – المعنى الأول أن هذا الأدب المتحلل الذي يهدم الأخلاق والمجتمع، يتعارض مع الدعوة القومية التي يعيش لها المجتمع العربي اليوم. فالقومية بناء وحياة، بينما أدب الجنس هدم وانتحار. تهدف القومية إلى بعث الأمة العربية بقدراتها الأصيلة وماضيها الحضاري الوهاج، بينما يهدف أدب الجنس إلى هدم الأخلاق والعقائد والقيم ومن ثم إلى هدم المجتمع. قال ابن خلدون في مقدمته: "إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل، وسلوك طرقها، فتفقد الفضائل منهم جملة ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم".

واستشهد بالآية الكريمة: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرها" والحق أن من يتأمل هذا الأدب الجديد تأملاً نزيهاً ينتهي إلى الشعور بأننا نعمل للقومية العربية بينما نترك أدبنا يعمل ضدها..
ب – المعنى الثاني: أن هذا الأدب لا يعبر تعبيراً سليماً عن البيئة العربية المعاصرة، وذلك لأن الفرد العربي المتوسط ما زال يعد قضية الشرف فوق كل القضايا. والمثل الأعلى في حياتنا الشعبية وفي حياة الأسرة العربية، هو مثل العفة والاحتشام وأدب اللسان. وإذن فإن هؤلاء الأدباء الناشئين قد انبتوا عن بيئتنا وباتت مراياهم تعكس أشباحاً وظلالاً من خارج الوطن العربي..
ج – والمعنى الثالث: أن هذا الأدب ليس أدباً صحياً سليماً. لأن تضخيم أثر الجنس في الحياة ينم عن إنحراف في الطبيعة الإنسانية، والإنسان السليم مزيج متوازن من العقل والروح والعاطفة والغريزة، لا يطغى فيه جانب على جانب. ومن كمال المجتمع أن تكون أغلبية أفراده من المتزنين الذين يعطون كل جانب من طبيعتهم حقه ولا نظنه يخفى أن الاستغراق في حماة الحواس ينتهي إلى زوال الكرامة وضعف الإرادة واختلاط الذهن. ومن ثم فإن طغيان المعاني الحسية على أدبنا ليس أقل من مظهر يدل على عدم التوازن وينذر بتصدع خطير في حياتنا العامة.

2 – موقفنا من الدين:

كان لإقبالنا الشديد على قراءة آداب الغرب ونقلها إلى لغتنا أثر سيء في حياتنا العقلية الحديثة، ما لبث أن أصابها بالانحراف، فلقد أخذنا عنهم فيما أخذنا موقفهم من الدين، والتقطنا نظرتهم المادية إلى الحياة، وموقفهم من الدين يختلف إختلافاً جسيماً عن موقفنا نحن – فإن الدين الإسلامي يرتبط كل الارتباط بالفكر، وقد قامت حول القرآن أركان اللغة والأدب والفقه والمنطق والتصوف والفلسفة جميعاً بحيث تعد هذه العلوم كلها تفريعات لعلم القرآن ترتكز إليه وتدور حوله. لا بل أن طلب العلم ونشره قد بقي هو نفسه واجباً دينياً مفروضاً يؤديه الطالب والعالم قربى إلى الله. ومن ذلك أن النحوي العلامة ابن مالك كان يخرج ويقف على باب مدرسته ويقول (هل من راغب في علم الحديث أو التفسير؟ قد أخلصتها من ذمتي)، فإن لم يجد راغباً أو طالباً قال (خرجت من آفة الكتمان) وتفسير ذلك أن العربي كان يعتقد أن الله حقاً (فيما استودع العلماء من فهم وعلم وأنه أخذ عليهم البيان) ((صورة معدلة من عبارة لعبدالعزيز بن يحيى الكناني (الحيدة) تحقيق جميل صليبا)) فلا يصح لهم السكوت عن نشر العلم وإظهار الحق وتعرية الباطل.

أما في أوروبا فإن الدين يتصف بشيء من الانعزال عن الحياة فلا يرتبط بالأدب والفكر إلا من بعيد، فالغربي يعد الدين لله، والأدب للحياة، وكأن الحياة نفسها ليست لله، كما يعتقد العربي. ولذلك الموقف سببان إثنان:

(الأول):

أن المسيحية بتقريرها لقيام الخطيئة الأولى وبدعوتها إلى التكفير بالرهبنة والامتناع عن الزواج، قد احتفظت بنظرية مثالية لها جمالها غير أنها عسيرة التطبيق. ولذلك بعد الدين عن الحياة بعداً طبيعياً وهو أمر لم يعرفه المجتمع المسلم حيث الدين يجعل الزواج سنة مفروضة.

(الثاني):

أن المسيحية التي نزلت في بلاد العرب قد فشلت في تحويل الغربي تحويلاً كاملاً عن وثنية آبائه، فبقي ثنائي المعتقد، يصلي لله ويؤمن رغماً عنه بآلهة الإغريق، حتى أنه يقسم في حياته اليومية بجو بتير كبير آلهة الإغريق، وهو يذهب يوم الأحد إلى الكنيسة للصلاة، ولا يلبث أن يرجع إلى منزله ليقرأ الفلسفات اليونانية ويكتب أدباً طابعه وثني تتردد فيه أسماء الآلهة الشريرة التي كان يعبدها اليونان والرومان. وإنما نصف هذه الآلهة بأنها شريرة لأنها كما قرر سقراط نفسه لا تتورع عن ارتكاب الشر والجريمة والصغائر. فهي كالبشر وإنما تتفوق في القدرة على الإيذاء والظلم. وبسبب هذه الوثنية الغربية بقي المسيحيون العرب أوثق صلة بالمسيحية الحقة من مسيحيي الغرب.

ولقد دعا الغزاة وأعوانهم عبر السنين الماضية إلى أن نحتضن الثقافة الغربية بكل ما فيها دونما تدبر أو مناقشة، فكان مما أخذناه عنهم هذا الفصل العجيب بين الدين والحياة. وقد كان لذلك تأثير سيء في حياتنا وفكرنا، لأن الدين الإسلامي يكاد يكون هو الحياة نفسها، فلا نستطيع انتزاع أحدهما إلا بإنتزاع الآخر، فقد كان الإسلام ديناً إلهياً، وثورة سياسية وفكرية واجتماعية معاً. ولذلك اهتزت له الأرض العربية اهتزازاً خصباً، وأحدث انقلاباً عميقاً في مناحي الحياة معاً.

ولم يترك الإسلام في حياة العربي شاردة ولا واردة إلا ضبطها وأحصاها، وقد كان القرآن كتاباً شاملاً فيه اللغة والأدب والشريعة والأخلاق جميعاً، فبني عليه تراثنا كله. فإذا فصلنا الدين عن الحياة لم يكن معنى ذلك إلا أن نفصل العروبة عن تراثها وحضارتها. ونحب أن نضيف إلى هذا، أن القرآن – باعتباره كتاب الدين الإسلامي والثقافة معاً – سيبقى أبداً كتاب كل عربي مهما كان دينه. فالمسيحي العربي الحضارة، لا يستطيع أن ينزع من نفسه وذهنه آثار القرآن، لأن التراث الإسلامي قد كان وما زال الثقافة الكبرى للعربي. وها نحن نرى إخواننا المسيحيين يحققون غير قليل من كتب التراث الإسلامي في إخلاص يثبت ما نقول أجمل إثبات.

ولقد اتخذ الأدب الجديد الذي ينشره اليافعون العرب موقف الغربيين من الدين، فظهرت عندنا الوثنية مصحوبة بالإلحاد في أدنى مستوياته، وهو مستوى الكفر بدافع التقليد والنقل، فلا شك في أن هذا الإلحاد أوطأ مرتبة من إلحاد مصدره شك يعتري النفس فيضللها ويحيرها. وقد واكب هذا ابتعاد الجيل اليافع عن القرآن وما فيه من أجواء روحية وكنوز أخلاقية وثروة لغوية وأدبية. وكل ذلك لا يبشر بالخير فإذا مضينا فيه قطعنا جذورها الحضارية وأضعنا الروح العربي جملة.

**د لا ل**
2013-01-24, 13:53
3 – موقفنا من اللغة العربية:

كانت وسيلة الغزاة العظمى في أضعاف لغتناء في الترجمة. والترجمة في ذاتها اغناء للغات ومد لآفاقها، فهي حق لنا وضرورة نتمسك بها. غير

أن الأشياء النافعة في الحياة الإنسانية يمكن أن تتحول بسوء النية إلى شرر وضرر. ولذلك حرصت بعض المؤسسات المشبوهة والجماعات المغرضة على أن تعهد بترجمة أمهات الكتب الغربية إلى كتاب ضعاف غير متمكنين من العربية، فصاغوا تلك الكتب العظيمة صياغة حرفية ركيكة، كان لها أثران سيئان في حياتنا الفكرية: (الأول) أن كثرة قراءة هذه الترجمات قد نجحت في تحويل الركاكة إلى مذهب في التعبير، فأدى

ذلك إلى أضعاف المستوى العام للغة و(الثاني) أن هذه الترجمة الركيكة حرمتنا فرصة تكتسب فيها لغتنا تعبيرات عربية جديدة لها الفصاحة

والجدة معاً. لأن الكتاب المترجم إذا صيغ بعربية سليمة لها خصائص لغتنا أفاد اللغة وأغناها، أما إذا ترجم حرفياً فإنه يخسرنا كما نخسره.

والمثل الذي نختاره للترجمة الركيكة وما تصنع هو ترجمة الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد فقد ترجم هذا الكتاب (الجليل) الذي يقدسه المسلم

والمسيحي معاً!! ترجمة ركيكة لا يقبلها الذوق السليم فأثرت في إضعاف الذوق الأدبي العام وأشاعت فينا العجمة، وإخواننا المسيحيون العرب ذوو حظ كبير من البلاغة العربية وقد نبغ منهم كتاب كبار وباحثون وشعراء اغنوا مكتبتنا فلا يصح لهم السكوت على مثل هذه الترجمة التي تشوه كتابهم ولغتهم معاً وتحرمنا قراءة سيرة السيد المسيح والتمتع بما لها من روحية وجمال.

وقد انحطت لغة الترجمات واقتربت من الحرفية عاماً بعد عام، حتى درجت اليوم منها لغة ركيكة قواعدها وأساليبها غير عربية. وسوف ندرج فيما يلي مظاهر العجمة العامة في هذه اللغة.

1 - كثرة الاصطلاحات الأجنبية التي يصر المترجمون على ابقاء صيغتها الغربية مثل قولهم (فولكور وايديولوجية واكاديمية وكلاسيك، ومتافيزيكية وبيروقراطية وتكتيك، وليبرالية، وامبريالية وأمثال ذلك كثير).

2 - استعمال قواعد النحو اللاتيني مع أنها في مقاييسنا النحوية تعد غلطاً، مثل تعدد المضافات إلى مضاف إليه واحد وهو ما يسمى عندنا بلغة

(قطع الله يد ورجل من قالها): ومثل الفصل بين المضاف والمضاف إليه بكلمات أجنبية، وهو ركيك مستحيل في لغتنا، لأن المتضايفين ينزلان

منزلة الإسم الواحد. ومن هذه الأساليب السقيمة تقديم الحال على عامله كقولهم (محملا يعود سيدي) ومنها تتابع الإضافات كقولهم (تقرير رئيس لجنة مكافحة أمراض المنطقة الحارة) وكل هذه الأساليب الغربية تصدم السمع العربي صدماً أكيداً.

3 - استعمال أساليب بناء العبارة اللاتينية وهي تخالف أساليبنا مخالفة مرجعها إلى الفروق بين

طبيعة اللغات. ومن ذلك تأخير الفعل في الجملة فلا يرد إلا بعد أن يتقدم عليه سطران كاملان من الظروف والمجرورات والمعطوفات كقولهم

(بعناية شديدة واهتمام، ومن دون أن يتحدثوا في ذلك الموضوع مباشرة، أو يثيروه على نطاق عام، وبعد أن فرغوا من دراسة التقرير، اشتغلوا في توزيع الملابس على سكان الحي). وهذا مخالف لما تعرف لغتنا، حيث يتقدم الفعل على معمولاته، لأنه أشرف ما في العبارة، ولا يتقدم المعمول إلا في حدود الفصاحة في مجالات بلاغية محدودة.

4 - استعمال وسائل البلاغة اللاتينية بدلاً من العربية كقولهم (انسحب بانتظام، والسوق السوداء، والحرب الباردة، ومؤتمر القمة) حتى نكاد ننسى أن لنا تلك الكنوز من وسائل البلاغة ولسنا بهذا نحاول أن نغلق لغتنا بإزاء استعارة جميلة قد تنفعنا ترجمتها، وإنما نريد التنبيه إلى موقفنا العام من ذلك فنحن اليوم نكاد نقف عن التفكير باللغة العربية فنترجم كل صيغهم دونما تدبر.

5 - تقليد العبارة الغربية الحديثة في تعقيدها وغموضها كما في كتب (هنري جميس) و(وولتر بيتر)،

وذلك بالإكثار من الجمل الاعتراضية، والفصل بين المبتدأ والخبر بكلمات كثيرة تربك القارئ. ومنه أيضاً استعمال العبارات الطويلة طولاً فادحاً.

وكل ذلك مما لا تسيغه بلاغتنا.

ولابد لنا بعد هذا الاستعراض أن نذكر بأن انكارنا للأساليب اللاتينية لا يعني أننا ننتقصها في لغاتها الأصلية، وإنما نعد تلك الأساليب بليغة في

اللاتينية ركيكة في العربية، لأن لكل لغة قواعدها وقيمها البلاغية. وما قواعد اللغات إلا مزيج من نفسية الأمم وتاريخها وحضارتها، وفكر الأمة

يرتبط بقواعد لغتها وأساليب بلاغتها كل الارتباط بحيث لا نملك أن نترجم لغات الغرب ترجمة حرفية إلا إذا قضينا أولاً على الفكر العربي. ومن الحق أن نشير كذلك إلى أن الترجمات الضعيفة في أسواقنا لا تصدر كلها عن سوء النية وإنما ضعف بعضها نتيجة الجهل باللغة والتراث.
وقد ابتليت العربية في هذا القرن بكثير من الدعوات المشبوهة التي نادى بها مغرضون يضمرون السوء للعروبة ولغتها، فرددها من العرب

طائفتان: طائفة الشعوبيين الذين يقصدون إضعاف العربية، وطائفة البسطاء الذين تخدعهم ألفاظ الحرية والتجديد، فيسيئون دونما قصد. فمن هذه

الدعوات، الدعوة إلى نبذ الحرف العربي واتخاذ اللاتيني في مكانه والدعوة إلى استعمال اللهجات العامية في الإذاعة وفي أدب القصة

والمسرح.. وقد تصدى لهذه الدعوات كثير من كتابنا الأفاضل فناقشوها وردوها إلى أصلها المشبوه المريب. وما من جهة تستفيد من إثارة هذه

القضايا مثل الغزاة، فهم يعلمون أنه إذا وقع الفصل بيننا وبين تراثنا انتهى الأمر بنا إلى أخطر تصدع عرفته الأمة.

يتبع /....

**د لا ل**
2013-01-24, 13:59
4 – موقفنا من المعنوية الغربية:

يحرص الغزاة وأعوانهم من الشعوبيين على قتل المعنوية العربية وإحلال المعنوية الغربية محلها ويكادون اليوم ينجحون في ذلك، فقد طلع في

السنوات الأخيرة أدب عربي جديد تنعكس فيه سمات النفسية الأوربية ومظاهر الأدب الغربي، وقد استعان الغزاة في عملهم هذا بوسائل معنوية

مكنتهم من اجتذاب الجيل العربي الناشئ الذي يملك بقلة علمه وتجاربه استعداداً فطرياً للتأثر. والوسيلة الكبرى للتأثير في اليافعين هي استعمال

القيم الرفيعة التي يحرصون عليها مثل الإنسانية والحرية، فباسم هذه القيم يتم تضليلهم فيوجهون توجيهاً يحطم المعنوية العربية.

أما الإنسانية فإن الشر الذي يتستر وراءها اليوم هو قولهم (الأدب العالمي). وبه يوحون لليافعين أن هناك أدباً عالمياً يتخطى الحدود ويعبر عن

نفسية الشعوب أجمعين. بمعزل عن ظروفها وشخصيتها، وأن هذا الأدب لا يناقش وإنما يقبل في كل مكان، فمن لم يقبله كان جامداً أو رجعياً أو

جاهلاً، وهم يضعون على عرش العالمية مجموعة من الأسماء الغربية في الغالب ويسألون الشباب أن يعجبوا بكل حرف يقوله أصحابها دونما

فحص ولا مناقشة. وأبرز هذه الأسماء تأثيراً في حياتنا جان بول سارتر الأديب الفيلسوف الفرنسي اليهودي. وسارتر من الناحية الأدبية ذو فكر

مبدع يسمو إلى الذرى العالية، وأنا أول من يقر له بالقيمة والقدرة.

وإنما وقع الانحراف المغرض في فرض آرائه على القارئ الطالع. ووجه ذلك أن الأديب الغربي قد يكون عظيم الشهرة ذا تأثير في أوربا كلها

دون أن يعني ذلك أن آراءه تنفعنا أو تتفق مع مطاليب حياتنا الاجتماعية والفكرية.

والواقع أن آراء سارتر أغلبها تناقض روحيتنا وحضارتنا فلا مصلحة لنا في اعتناقها إلا إذا أردنا أن نهدم أنفسنا. ذلك أن جان بول سارتر ناشر

فلسفة الغثيان، ومضمونها أن المجتمع بغيض وأن وجود الناس حولنا هو الجحيم، وأن الأخلاق والمثل والتقاليد سخافات يتلهى بها السطحيون!!

وأن الحياة خواء فارغ فلا يستحق الاهتمام فيه إلا الجسد والجنس، وأن الإنسان غير مسؤول لا أمام الله ولا أمام الضمير ولا أمام المجتمع. ولقد انتهى الجيل اليافع إلى تصديق خرافة العالمية فلم يقف عند الاعجاب بالأشكال الادبية واللفتات الفكرية والأساليب التعبيرية، وإنما قلد النظرة

واعتنق الآراء.


وأما القيمة الثانية التي يستغلونها في تضليل اليافعين العرب، فهي الحرية، وقد زعموا أنها معنى مطلق لا يتقيد بشيء فكل حرية أفضل من كل تقيد. وما من الحاد اجتماعي وأخلاقي أفظع من هذا. فإن المطلق معنى لا وجود له في الحياة الإنسانية، لأن منفعة الجماعات تتحكم فيه فتقيده

وتشذبه، وهذا الزعم يجعل الحرية تتعارض مع الفضيلة. ولا ينبغي للأخلاق أن يتعارض شيء منها مع شيء. وحسبنا دليلاً على ذلك التعارض،

أن الحرية المطلقة للفرد تناقض مصلحة المجتمع، ولذلك تقيد بحفظ حقوق الآخرين، ومصلحة الجماعة كلها. وعلى هذا تبطل حجة الذين ينادون

بحرية الأديب في نشر أدب الجنس والإلحاد، فإن هذا الأدب يهدم المجتمع ومن حق الجماعة أن ترفضه. فلا يحق للمواطن أن يطعن أمته في صميم كيانها الروحي والخلقي بدعوى حقه في الحرية.

وهكذا اتجه أدبنا الحديث بدوافع من (الإنسانية وحرية الفكر) إلى ترديد آراء الغربيين دونما فحص أو مناقشة فانتشرت روحية التشاؤم في أدبنا

شاع الاحساس بأن الحياة عبث وأن العدم خير من الوجود، وأن المشاعر الطيبة قيد للإنسان، وأن الإنسان غير مسؤول أمام شيء، ولا يمكن

للباحث المتأمل إلا أن يلاحظ مدى بعد هذه النظرة عن طبيعة الحياة العربية اليوم، فنحن نمر بفترة خصيبة رائعة، وقد رأينا مدننا الكبيرة تنهض

من الفراغ في ظرف ثلاثين سنة فقط، وشهدنا الاستقلال من الحكم الأجنبي وقيام الحكومات الوطنية ونهوض التعليم، ورأينا كيف اختلف جيلنا في

معارفه وأسفاره وعلومه عن جيل آبائنا. واليوم نعيش فترة انتصارات القومية العربية وتكاد أعيننا تكتحل بفجر الوحدة. وما من شك في أن الفرد

العربي أحسن حالاً وأكثر أملاً مما كان فلا ندري من أين يأتي هؤلاء الأدباء بالعدمية واليأس وإنكار الحياة. أترى حياتنا الأدبية تسير في اتجاه معاكس لحياتنا القومية؟ ونبحث عن الجواب عند نقادنا فلا نجد لديهم أكثر مما نسمع من الناقد الغربي من أن هذا الجيل – (كما يقولون) – (ذو تركيبة مزاجية معقدة تعقد الحياة التي يحياها) فكأنهم لا يرون الفرق العظيم بين الفرد العربي والفرد الأوربي. والواقع أن بيننا وبين الغرب ثلاثة فروق جوهرية.

(الأول):

أننا أبناء أمة بالروح والروحيات وتضعها فوق المادة، بينما ما زال الغرب يؤمن بالمادة والماديات. ومن مظاهر إيمان الفرد البسيط هنا

بالروح أنه يتوكل على الله في أموره كلها فلا يعرف اليأس ولا القنوط وهو مؤمن بالحياة كل الإيمان تنحدر إليه هذه النظرة من عهود سحيقة.

وقد عرفنا في التراث العربي كله صفة الإيمان والتفاؤل، فحتى شعر الزهاد كان مليئاً بالحياة بما فيه من تطلع إلى الله، وإيمان بالأخلاق

والتضحية ومساعدة الآخرين.

(الثاني):

أننا نختلف عن الغرب في الظروف التاريخية التي نمر بها، فنحن نمر بفترة حياة وانبعاث تهتز لها أرضنا كلها، إن مشاكلنا القومية

وزحفنا نحو فلسطين، ومعركتنا في حرب الفقر والجهل والمرض والبطالة كل ذلك يمنحنا هدفاً يستغرق حياتنا وكياننا. والمعروف عند علماء

النفس أن المشغولين لا يجدون وقتاً للقلق، واليأس والإحساس بالفراغ. وفي مقابلنا يجد الغربي نفسه فارغاً له كثير من الوقت وقليل من الأهداف.

إن في حياته فراغاً روحياً عميقاً سببه عدم إيمانه بالله، وخلو حياته من الهدف الكبير الذي يضفي الجمال والرونق على الحياة.

(الثالث):

وآخر الفروق بيننا وبينهم أن الغربي يرى غذاءه يصل إليه من طريق استعمار الأمم وسرقة قوتها، ومن ثم فهو يحس قلقاً غامضاً لا

يعرفه العربي الذي يأكل القليل الحلال ويحمد الله وينهض إلى عمله. وقد أشار الفيلسوف الألماني المعاصر (البرت شفايتزر) في كتابه (فلسفة

الحضارة) ترجمة الدكتور عبدالرحمن بدوي، إلى أثر هذا الظلم في نفسية الفرد الأوربي الذي أصبح لا يقوى على الإحساس بجمال الحياة.


إن هذه الفروق بيننا وبين الغرب تجعل نقلنا لموقف اليأس والعدمية والفراغ أمراً لا معنى له سوى تخلينا عن كرامتنا ومصلحتنا وشخصيتنا.

فكأننا نبكي في يوم عيدنا، ويحاول بعض الأدباء أن يبرروا الموقف بقولهم: إن هذا الحيل اليافع هو جيل المأساة الذي شهد ضياع فلسطين، فهو

ينكر الحياة ويدعو إلى الموت لذلك السبب، وذلك تعليل أبعد عن الحقيقة من السابق، فإن المأساة التي وقعت عام 1948م قد ألهبت الوطن

العربي كله بنار الكفاح والعروبة فقامت الثورات العظيمة في القاهرة والجزائر وبيروت وبغداد واليمن، وعبر هذه السنين لم تكن نفسيتنا متخاذلة

فقد انبعثت آمال عظيمة، ونهضت العزة القومية في القلوب، وشهدنا لحظات سعادة عميقة، وانتصارات لا تنسى. فاللون الذي يغلب على حياتنا

لون أخضر بهيج، وفي مثل هذا الإطار المشرق يصبح الأدب المتشائم المعلق على الصلبان أبعد ما يكون عن التعبير عن نفسية الأمة. إن أدباءنا

وقفوا عن التعبير عن مشاعرهم وراحوا يكررون ما يقول الأديب الغربي. ولذلك نجد القومية العربية تغني بينما مسجلاتهم تذيع النواح وصراخ

العدم، والفجر يتنفس على روابينا أجمل ما يكون بنيما تشع قصائدهم الظلام والموت.

يتبع /.....

**د لا ل**
2013-01-24, 14:04
5 – الحلول والمقترحات:

يبدو أن الدواء الناجع في مثل أزمتنا أن تكون لنا فلسفة شاملة تمس كل ما هو جوهري في الحياة العربية، وتقرر المبادئ والمثل الكاملة التي

ترفع مجتمعنا إلى ذروة الكمال. ومن دون هذه الفلسفة لا نستطيع أن نجابه عدواً غزا حياتنا على الجهات كلها. والحق أن افتقارنا إلى نظرية

فلسفية كاملة للحياة العربية بأبعادها كلها يجعلنا مضيعين لا ندري أين نتجه ولا ماذا نأخذ أو ندع. فلقد دخل حياتنا من العلوم والفنون والفلسفات ما

قلب تفكيرنا وأحدث في جونا الفكري بلبلة خطيرة وانشقاقاً في وجهات النظر. ولذلك نرى المثقفين في العالم العربي منشعبين في الموضوعات

كلها، كل يدين بمذهب. وقد يقال: إن هذا من الحيوية، فنقول: أنه ليس كذلك، فإنما يكون الخلاف من علامات الحيوية حين يكون المخالفون قلة

في مقابل إجماع الأغلبية على شيء ما. أما عندما يزول الاجتماع ولا يبقى إلا الخلاف فإن ذلك ناقوس الخطر يدل على قيام تخلخل ذاهب في

الأساس الفكري للأمة.



أما بنود هذه الفلسفة التي نطلبها فينبغي أن تدعو إلى وضعها الحكومات العربية، على أن تجمع لها أهل العلم والفضل والنظر والعربية، فيتفقوا

على ما ينفع ويضر، ويحددوا الطريق. فإذا اجتمعوا على شيء أخذت الحكومات على نفسها تطبيق هذه الفلسفة تطبيقاً كاملاً بالوسائل التالية:
تعديل مناهج التعليم في المدارس العربية تعديلاً يتناول الجذور والأسس مع الإلحاح على موضوع اللغة العربية، وإضافة موضوع الأخلاق إلى السنوات كلها.

1 - تعديل مناهج التعليم في المدارس العربية تعديلاً يتناول الجذور والأسس مع الإلحاح على موضوع اللغة العربية، وإضافة موضوع الأخلاق

2- إنشاء مؤسسة عربية كبيرة تشرف على الترجمة وتنسق جهود المترجمين العرب في ديارهم

كلها. وسيكون من واجب هذه المؤسسة أن تدرس ما يحتاج المواطن العربي إلى ترجمته دونما نظر إلى عالمية الأسماء، فقد يكون الأديب عالمياً وتكون فلسفته مناقضة لأهدافنا فتسيء إلينا بدلاً من أن تخدمنا.


3 - إنشاء قانون جديد للطباعة والنشر يجعل الصحافة والإنتاج في خدمة الأمة العربية لا في مصلحة المؤسسات الأجنبية وتجار الأفكار والقيم.

وهذا كفيل بأن يطهر الأسواق من كتب الجنس والابتذال والسطحية.


4 - تحديد مجال الإذاعات وخاصة المرئية منها، ووضع فلسفة عامة لمناهجها تراعى فيها مصلحة المواطن وستترفع هذه الفلسفة عن إقرار أفلام

العصابات والسفاكين وروايات التفسخ الخلقي، لأن مشاهدة الصبيان والبنات لمثل هذه الأشرطة كل مساء حري بأن يهدم كل ما تبنيه المدرسة

والتربية المنزلية من مثل أخلاقية. -انتهى -

**د لا ل**
2013-01-24, 14:08
سيميولوجيا التواصل وسيميولوجيا الدلالة

مساهمة الدكتور:جميل حمداوي*




تمهيــــــد:
من أهم المناهج الأدبية واللسانية التي ظهرت في الساحة النقدية العربية الحديثة والمعاصرة المنهج السيميولوجي الذي يدرس النص الأدبي والفني باعتبارهما علامات لغوية وغير لغوية تفكيكا وتركيبا. وقد تعرف المفكرون العرب على هذا المنهج نتيجة الاحتكاك الثقافي مع الغرب ونتيجة الاطلاع على مستجدات الحقل اللساني و تمثل تصورات ما بعد البنيوية وعبر البعثات العلمية المتوجهة إلى جامعات الغرب و نتيجة فعل الترجمة. إذاً، ماهي السيميولوجيا والسيميوطيقا ؟ وما هي مرتكزات منهجية التحليل السيميوطيقي؟ وما هي أهم اتجاهاتها النظرية والتطبيقية؟ وما الفرق بين سيميولوجيا التواصل وسيميولوجيا الدلالة؟ هذا ما سنعرفه في موضوعنا هذا.


1- مفهوم السميولوجيا وخطواتها المنهجية: السيميولوجيا هو علم العلامات أو الإشارات أو الدول اللغوية أو الرمزية سواء أكانت طبيعية أم اصطناعية، ويعني هذا أن العلامات إما يضعها الإنسان اصطلاحا عن طريق اختراعها واصطناعها والاتفاق مع أخيه الإنسان على دلالاتها ومقاصدها مثل: اللغة الإنسانية ولغة إشارات المرور، أو أن الطبيعة هي التي أفرزتها بشكل عفوي وفطري لادخل للإنسان في ذلك كأصوات الحيوانات وأصوات عناصر الطبيعة والمحاكيات الدالة على التوجع والتعجب والألم والصراخ مثل: آه، آي…..


وإذا كانت اللسانيات تدرس كل ماهو لغوي ولفظي، فإن السيميولوجيا تدرس ما هو لغوي وماهو غير لغوي، أي تتعدى المنطوق إلى ماهو بصري كعلامات المرور ولغة الصم والبكم والشفرة السرية ودراسة الأزياء و طرائق الطبخ. وإذا كان فرديناند دو سوسير F.De.Saussure يرى أن اللسانيات هي جزء من علم الإشارات أو السيميولوجيا ٍSémiologie ، فإن رولان بارت R.Barthes في كتابه" عناصر السيميولوجيا" يقلب الكفة فيرى بان السيميولوجيا هي الجزء واللسانيات هي الكل. ومعنى هذا أن السيميولوجيا في دراستها لمجموعة من الأنظمة غير اللغوية كالأزياء والطبخ والموضة والإشهار تعتمد على عناصر اللسانيات في دراستها وتفكيكها وتركيبها . ومن أهم هذه العناصر اللسانية عند رولان بارت نذكر: الدال والمدلول،واللغة والكلام، والتقرير والإيحاء، والمحور الاستبدالي الدلالي والمحور التركيبي النحوي. وإذا كان الأنگوسكسونيون يعتبرون السيميولوجيا إنتاجا أمريكيا مع شارل ساندرس ﯧيرس Perce في كتابه" كتابات حول العلامة"، فإن الأوربيين يعتبرونها إنتاجا فرنسيا مع فرديناند دوسوسير في كتابه " محاضرات في علم اللسانيات" سنة 1916م. وإذا كانت السيميولوجيا الأمريكية مبنية على المنطق وفلسفة الأشكال الرمزية الأنطولوجية ( الوجودية) والرياضيات، فإن السيميولوجيا الفرنسية مبنية على الدرس اللغوي واللسانيات



وإذا كان مصطلح السيميولوجيا يرتبط بالفرنسيين وبكل ماهو نظري وبفلسفة الرموز وعلم العلامات والأشكال في صيغتها التصورية العامة ، فإن كلمة السيميوطيقا الأمريكية Sémiotique قد حصرها العلماء في ماهو نصي و تطبيقي و تحليلي. ومن هنا يمكن الحديث عن سيميوطيقا المسرح وسيميوطيقا الشعر وسيميوطيقا السينما. وعندما نريد الحديث عن العلامات علميا أو نظريا أو تصوريا نستخدم كلمة السيميولوجيا Sémiologie.


وتتعدد الاتجاهات السيميولوجية ومدارسها في الحقل الفكري الغربي، إذ يمكن الحديث عن سيميولوجيا بيرس، وسيميولوجيا الدلالة، وسيميولوجيا التواصل، وسيميولوجيا الثقافة مع المدرسة الإيطالية ( أمبرطو إيكو Eco وروسي لاندي Landi)، والمدرسة الروسية" تارتو Tartu" ( أوسبنسكي Uspenski ويوري لوتمان Lotman وتوبوروڤ Toporov وإڤانوڤ Ivanov وبياتيگورسكي Pjtigorski )، ومدرسة باريس السيميوطيقية مع جوزيف كورتيس Cortés وگريماس Greimas وميشيل أريفي M.Arrivé وجان كلود ****ه Coquet وكلام Calame وفلوش Floche وجينيناسكا Geninasca وجيولتران Gioltrin ولوندوڤسكي Landovski ودولورم Delorme، واتجاه السيميوطيقا المادية التي تجمع بين التحليلين: النفسي والماركسي مع جوليا كريستيڤا J.kréstiva، ومدرسة ليون التي تتمثل في جماعة أنتروڤرن Groupe d’Entroverne، ومدرسة إيكس AIXمع جان مولينو J.molino وجان جاك ناتيي J.Natier التي تهتم بدراسة الأشكال الرمزية على غرار فلسفة إرنست كاسيرر Cassirer . ولكن على الرغم من هذه الاتجاهات العديدة يمكن إرجاعها إلى قطبين سيميولوجيين وهما: سيميولوجيا التواصل وسيميولوجيا الدلالة. إذاً، ماهي منهجية التحليل السيميوطيقي؟

**د لا ل**
2013-01-24, 14:27
2- خطوات المنهج السيميولوجي: قلنا سابقا إن السيميولوجيا علم الدوال اللغوية وغير اللغوية ، أي تدرس العلامات والإشارات والرموز والأيقونات البصرية. كما تستند السيميولوجيا منهجيا إلى عمليتي التفكيك والتركيب ( تشبه هذه العملية تفكيك أعضاء الدمية وتركيبها) على غرار البنيوية النصية المغلقة. و نعني بهذا أن السيميوطيقي يدرس النص في نظامه الداخلي البنيوي من خلال تفكيك عناصره وتركيبها من جديد عبر دراسة شكل المضمون وإقصاء المؤلف والمرجع والحيثيات السياقية والخارجية والتي لا ننفتح عليها إلا من خلال التناص لمعرفة التداخل النصي وعمليات التفاعل بين النصوص وطبيعة الاشتقاق النصي وتيئير الترسبات الخارجية والمستنسخات الإحالية داخل النص المرصود سيميائيا. وعليه، فالسيميوطيقا هي لعبة التفكيك والتركيب تبحث عن سنن الاختلاف ودلالاته. فعبر التعارض والاختلاف والتناقض والتضاد بين الدوال اللغوية النصية يكتشف المعنى وتستخرج الدلالة. ومن ثم، فالهدف من دراسة النصوص سيميوطيقيا وتطبيقيا هو البحث عن المعنى والدلالة و استخلاص البنية المولدة للنصوص منطقيا ودلاليا. ونحصر منهجية السيميوطيقا في ثلاثة مستويات وهي:



أ- التحليل المحايث: ونقصد به البحث عن الشروط الداخلية المتحكمة في تكوين الدلالة وإقصاء كل ماهو إحالي خارجي كظروف النص والمؤلف وإفرازات الواقع الجدلية. وعليه، فالمعنى يجب أن ينظر إليه على أنه أثر ناتج عن شبكة من العلاقات الرابطة بين العناصر. ب- التحليل البنيوي: يكتسي المعنى وجوده بالاختلاف وفي الاختلاف. ومن ثم، فإن إدراك معنى الأقوال والنصوص يفترض وجود نظام مبني على مجموعة من العلاقات. وهذا بدوره يؤدي بنا إلى تسليم بأن عناصر النص لا دلالة لها إلا عبر شبكة من العلاقات القائمة بينها. ولذا لا يجب الاهتمام إلا بالعناصر التي تبلور نسق الاختلاف والتشاكلات المتآلفة والمختلفة. كما يستوجب التحليل البنيوي الدراسة الوصفية الداخلية للنص ومقاربة شكل المضمون وبناه الهيكلية والمعمارية.

**د لا ل**
2013-01-24, 14:34
تحليل الخطاب: إذا كانت اللسانيات البنيوية بكل مدارسها واتجاهاتها تهتم بدراسة الجملة انطلاقا من مجموعة من المستويات المنهجية حيث تبدأ بأصغر وحدة وهي الصوت لتنتقل إلى أكبر وحدة لغوية وهي الجملة والعكس صحيح أيضا، فإن السيميوطيقا تتجاوز الجملة إلى تحليل الخطاب. و تسعفنا هذه المستويات المنهجية كثيرا في تحليل النصوص ومقاربتها. ففي مجال السرد يمكن الحديث عن بنيتين : البنية السطحية والبنية العميقة على غرار لسانيات نوام شومسكي Chomsky. فعلى المستوى السطحي يدرس المركب السردي الذي يحدد تعاقب وتسلسل الحالات والتحولات السردية، بينما يحدد المركب الخطابي في النص تسلسل أشكال المعنى وتأثيراتها.


وإذا انتقلنا إلى البنية العميقة فيمكن لنا الحديث عن مستويين منهجيين: المستوى السيميولوجي الذي ينصب على تصنيف قيم المعنى حسب ما يقوم بينهما من العلاقات والتركيز على التشاكلات السيميولوجية، والمستوى الدلالي وهو نظام إجرائي يحدد عملية الانتقال من قيمة إلى أخرى ويبرز القيم الأساسية والتشاكل الدلالي .



ت- تحليل الخطاب: إذا كانت اللسانيات البنيوية بكل مدارسها واتجاهاتها تهتم بدراسة الجملة انطلاقا من مجموعة من المستويات المنهجية حيث تبدأ بأصغر وحدة وهي الصوت لتنتقل إلى أكبر وحدة لغوية وهي الجملة والعكس صحيح أيضا، فإن السيميوطيقا تتجاوز الجملة إلى تحليل الخطاب. و تسعفنا هذه المستويات المنهجية كثيرا في تحليل النصوص ومقاربتها. ففي مجال السرد يمكن الحديث عن بنيتين : البنية السطحية والبنية العميقة على غرار لسانيات نوام شومسكي Chomsky. فعلى المستوى السطحي يدرس المركب السردي الذي يحدد تعاقب وتسلسل الحالات والتحولات السردية، بينما يحدد المركب الخطابي في النص تسلسل أشكال المعنى وتأثيراتها.


وإذا انتقلنا إلى البنية العميقة فيمكن لنا الحديث عن مستويين منهجيين: المستوى السيميولوجي الذي ينصب على تصنيف قيم المعنى حسب ما يقوم بينهما من العلاقات والتركيز على التشاكلات السيميولوجية، والمستوى الدلالي وهو نظام إجرائي يحدد عملية الانتقال من قيمة إلى أخرى ويبرز القيم الأساسية والتشاكل الدلالي .


ويعد المربع السيميائي Le Carré Sémiotique حسب گريماس المولد المنطقي والدلالي الحقيقي لكل التمظهرات السردية السطحية عبر عمليات ذهنية ومنطقية و دلالية يتحكم فيها التضاد والتناقض والتضمن أو الاستلزام. أما سيميولوجيا الشعر فتحلل النص من خلال مستويات بنيوية تراعي أدبية الجنس الأدبي كالمستوى الصوتي، والمستوى الصرفي، والمستوى الدلالي ، والمستوى التركيبي في شقيه: النحوي والبلاغي، والمستوى التناصي. أما فيما يتعلق بالمسرح فيدرس من خلال التركيز على العلامات المسرحية اللغوية والعلامات غير اللغوية. و بتعبير آخر يدرس المسرح عبر تفكيك العلامات المنطوقة ( الحوار والتواصل اللغوي بصراعه الدرامي وتفاعل الشخصيات والعوامل الدرامية….) والعلامات البصرية ( السينوغرافيا- التواصل- الديكور- الركح- الإنارة- الأزياء- الإكسسوارات- البانتوميم- الكوريغرافيا…).


3- سيميولوجـــيا التواصـــــل : يستند التواصل حسب رومان جاكبسون R.Jakobson إلى ستة عناصر أساسية وهي: المرسل والمرسل إليه والرسالة



3- سيميولوجـــيا التواصـــــل : يستند التواصل حسب رومان جاكبسون R.Jakobson إلى ستة عناصر أساسية وهي: المرسل والمرسل إليه والرسالة والقناة والمرجع واللغة. وللتوضيح أكثر نقول: يرسل المرسل رسالة إلى المرسل إليه حيث تتضمن هذه الرسالة موضوعا أو مرجعا معينا، وتكتب هذه الرسالة بلغة يفهمها كل من المرسل والمتلقي. ولكل رسالة قناة حافظة كالظرف بالنسبة للرسالة الورقية، والأسلاك الموصلة بالنسبة للهاتف والكهرباء، والأنابيب بالنسبة للماء، واللغة بالنسبة لمعاني النص الإبداعي… هذا، و تهدف سميولوجيا التواصل عبر علاماتها وأماراتها وإشاراتها إلى الإبلاغ والتأثير على الغير عن وعي أو غير وعي. وبتعبير آخر تستعمل السيميولوجيا مجموعة من الوسائل اللغوية وغير اللغوية لتنبيه الآخر والتأثير عليه عن طريق إرسال رسالة وتبليغها إياه .ومن هنا فالعلامة تتكون من ثلاثة عناصر: الدال والمدلول والوظيفة القصدية . كما أن التواصل نوعان: تواصل إبلاغي لساني لفظي (اللغة) وتواصل إبلاغي غير لساني ( علامات المرور مثلا).


ويمثل هذه السيميولوجيا كل من برييطو Prieto ومونان Mounin وبويسنس Buyssens الذين يعتبرون الدليل مجرد أداة تواصلية تؤدي وظيفة التبليغ وتحمل قصدا تواصليا. وهذا القصد التواصلي حاضر في الأنساق اللغوية وغير اللغوية. كما أن الوظيفة الأولية للغة هي التأثير على المخاطب من خلال ثنائية الأوامر والنواهي، ولكن هذا التأثير قد يكون مقصودا وقد لايكون مقصودا. و يستخدم في ذلك مجموعة من الأمارات والمعينات Indications التي يمكن تقسيمها إلى ثلاث: 1- الأمارات العفوية وهي وقائع ذات قصد مغاير للإشارة تحمل إبلاغا عفويا وطبيعيا مثال : لون السماء الذي يشير بالنسبة لصياد السمك إلى حالة البحر يوم غد. والأمارات العفوية المغلوطة التي تريد أن تخفي الدلالات التواصلية للغة كأن يستعمل متكلم ما لكنة لغوية ينتحل من خلالها شخصية أجنبية ليوهمنا بأنه غريب عن البلد.3- والأمارات القصدية التي تهدف إلى تبليغ إرسالية مثل : علامات المرور، وتسمى هذه الأمارات القصدية أيضا بالعلامات. وكل خطاب لغوي وغير لغوي يتجاوز الدلالة إلى الإبلاغ والقصدية الوظيفية، يمكننا إدراجه ضمن سيميولوجيا التواصل . وكمثال لتبسيط ما سلف ذكره : عندما يستعمل الأستاذ داخل قسمه مجموعة من الإشارات اللفظية وغير اللفظية الموجهة إلى التلميذ ليؤنبه أو يعاتبه على سلوكاته الطائشة فإن الغرض منها هو التواصل والتبليغ.

**د لا ل**
2013-01-24, 14:35
4- سيميولوجــــيا الدلالــــــة: يعتبر رولان بارت خير من يمثل هذا الاتجاه، لأن البحث السيميولوجي لديه هو دراسة الأنظمة والأنسقة الدالة. فجميع الوقائع والأشكال الرمزية والأنظمة اللغوية تدل. فهناك من يدل باللغة وهناك من يدل بدون اللغة المعهودة، بيد أن لها لغة خاصة. ومادامت الأنساق والوقائع كلها دالة، فلا عيب من تطبيق المقاييس اللسانية على الوقائع غير اللفظية أي الأنظمة السيميوطيقية غير اللسانية لبناء الطرح الدلالي. وقد انتقد بارت في كتابه " عناصر السيميولوجيا" الأطروحة السوسسيرية التي تدعو إلى إدماج اللسانيات في السيميولوجيا مبينا بأن" اللسانيات ليست فرعا ، ولو كان مميزا، من علم الدلائل، بل السيميولوجيا هي التي تشكل فرعا من اللسانيات".



وبالتالي، تجاوز رولان بارت تصور الوظيفيين الذين ربطوا بين العلامات والمقصدية، وأكد وجود أنساق غير لفظية حيث التواصل غير إرادي، ولكن البعد الدلالي موجود بدرجة كبيرة. وتعتبر اللغة الوسيلة الوحيدة التي تجعل هذه الأنساق والأشياء غير اللفظية دالة. حيث "إن كل المجالات المعرفية ذات العمق السوسيولوجي الحقيقي تفرض علينا مواجهة اللغة، ذلك أن " الأشياء" تحمل دلالات. غير أنه ما كان لها أن تكون أنساقا سيميولوجية أو أنساقا دالة لولا تدخل اللغة ولولا امتزاجها باللغة. فهي، إذاً، تكتسب صفة النسق السيميولوجي من اللغة. وهذا مادفع ببارت إلى أن يرى أنه من الصعب جدا تصور إمكان وجود مدلولات نسق صور أو أشياء خارج اللغة، فلا وجود لمعنى إلا لما هو مسمى، وعالم المدلولات ليس سوى عالم اللغة".



أما عناصر سيمياء الدلالة لدى بارت فقد حددها في كتابه" عناصر السيميولوجيا" ، وهي مستقاة على شكل ثنائيات من الألسنية البنيوية وهي: اللغة والكلام، والدال والمدلول، والمركب والنظام، والتقرير والإيحاء( الدلالة الذاتية والدلالة الإيحائية). وهكذا حاول رولان بارت التسلح باللسانيات لمقاربة الظواهر السيميولوجية كأنظمة الموضة والأساطير والإشهار… الخ ويعني هذا أن رولان بارت عندما يدرس الموضة مثلا يطبق عليها المقاربة اللسانية تفكيكا وتركيبا من خلال استقراء معاني الموضة ودلالات الأزياء وتعيين وحداتها الدالة ومقصدياتها الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والثقافية. ونفس الشيء في قراءته للطبخ والصور الفوتوغرافية والإشهار واللوحات البصرية.



ويمكن إدراج المدارس السيميائية النصية التطبيقية التي تقارب الإبداع الأدبي والفني ضمن سيميولوجيا الدلالة، بينما سيميوطيقا الثقافة التي تبحث عن القصدية والوظيفة داخل الظواهر الثقافية والإثنية البشرية يمكن إدراجها ضمن سيميولوجيا التواصل. ولتبسيط سيميولوجيا الدلالة نقول: إن أزياء الموضة وحدات دالة إذ يمكن أثناء دراسة الألوان والأشكال لسانيا أن نبحث عن دلالاتها الاجتماعية والطبقية والنفسية. كما ينبغي البحث أثناء تحليلنا للنصوص الشعرية عن دلالات الرموز والأساطير ومعاني البحور الشعرية الموظفة ودلالات تشغيل معجم التصوف أو الطبيعة أو أي معجم آخر.

**د لا ل**
2013-01-24, 14:36
خاتمــــة:



يتبين لنا من خلال هذا العرض الوجيز أن السيميولوجيا باعتبارها علما للأنظمة اللغوية وغير اللغوية قسمان: سيميولوجيا تهدف إلى الإبلاغ والتواصل من خلال ربط الدليل بالمدلول والوظيفة القصدية. أما سيميولوجيا الدلالة فتربط الدليل بالمدلول أو المعنى. وبعبارة أخرى إن سيميولوجيا الدلالة ثنائية العناصر( ترتكز العلامة على دليل و مدلول أو دلالة)، بينما سيميولوجيا التواصل ثلاثية العناصر( تنبني العلامة على دليل و مدلول ووظيفة قصدية). وإذا كان السيميوطيقيون النصيون يبحثون عن الدلالة والمعنى داخل النص الأدبي والفني، فإن علماء سيميوطيقا الثقافة يبحثون عن المقصديات والوظائف المباشرة وغير المباشرة.

rimel rimoucha
2013-01-29, 16:38
احتاج خاطرة تبين عظمة الخالق ومدى قداسة وعظمة مختوقاته

omarzant
2013-01-31, 01:40
قصيدة مؤثرة للشيخ محمد حسان تبين عظمة الخالق


لله في الآفاق آيات لعلّ أقلها هو ما إليه هداك

و لعل ما في النفس من آياته عجب عجاب لو ترى عيناك

و الكون مشحون بأسرار إذا حاولت تفسيرًا لها أعياك

قل للطبيب تخطفته يد الردى: من يا طبيب بـطـبّه أرداك ؟

قل للمريض نجا و عوفيّ بعدما عجزت فنون الطب: من عافاك ؟

قل للصحيح يموت لا من علة: من بالمنايـا يـا صحيح دهاك ؟

قل للبصير و كان يحذر حفرة، فهوى بها: من ذا الذي أهواك ؟

بل سائل الأعمى خطا بين الزحام بلا اصطدام: من يـقود خطاك ؟

قل للجنين يعيش معزولا بلا راع و مرعى: ما الذي يرعاك ؟

قل للوليد بكى و أجهش بالبكاء لدى الولادة: ما الذي أبكاك ؟

و إذا ترى الثعبان ينفث سمه فسأله: من ذا بالسموم حشاك ؟

و اسأله: كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا و هذا السم يملأ فاك ؟

و اسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهدا… و قل للشهد: من حلّـاك ؟

بل سائل اللبن المصفى كان بين دم و فرث: ما الذي صفّاك ؟

و إذا رأيت الحيّ يخرج من حنايا ميت فسأله: من يا حيّ قد أحياك ؟

قل للنبات، يجف بعد تعهد و رعاية: من بالجفاف رماك ؟

و إذا رأيت النبت في الصحراء يربو وحده فسأله: من أرباك ؟

و إذا رأيت البدر يسرى ناشرا أنواره فسأله: من أسراك ؟

و اسأل شعاع الشمس يدنو، و هي أبعد كل شيء: ما الذي أدناك ؟

قل للمرير من الثمار: من الذي بالمر من دون الثمار غذاك ؟

و إذا رأيت النخل مشقوق النوى فسأله: من يا نخل شق نواك ؟

و إذا رأيت النار شبّ لهيبها فسأل لهيب النار: من أوراك ؟

و إذا ترى الجبل الأشمّ مناطحا قمم السحاب فسله : من أرساك ؟

و إذا ترى صخرا تفجر بالمياه فسله: من بالماء شق صفاك ؟

و إذا رأيت النهر بالعذب الزلال سرى فسله: من الذي أجراك ؟

و إذا رأيت البحر بالملح الأجاج طغى فسله : من الذي أطغاك ؟

و إذا رأيت الليل يغشى داجيا فسأله: من يا ليل حاك دجاك ؟

و إذا رأيت الصبح يسفر ضاحيا فسأله: من يا صبح صاغ ضحاك ؟

ستجيب ما في الكون من آياته عجب عجاب لو ترى عيناك

ربى لك الحمد العظيم لذاتك… حمدا… و ليس لواحد إلاك

يا مدرك الأبصار و الأبصار لا تدرى لَهُ و لِـكُنهِ إدراكا

إن لم تكن عيني تراك فإنني في كل شئ أستبين علاك

و أرى مُنبِتَ الأزهار عاطرة الشذى … ما خاب يوما من دعا و رجاك

يا مجرى الأنهار عاذبة الندى: ما خاب يوما من دعا و رجاك

يا أيها الإنسان : مهلا ما الذي بالله جلّ جلاله أغراك ؟؟؟

omarzant
2013-01-31, 01:41
قصيدة جميلة في عظمة الخالق سبحانة

رائعة شعريه للشاعر:
"إبراهيم علي بديوي

لله في الآفاق آيات لعـــل * * * أقلهـــا هو ما إليه هداكا
ولعل ما في النفس من آياته * * * عجبٌ عجابٌ لو ترى عيناكا
والكون مشحون بأسرار إذا * * * حاولت تفسيراً لهــا أعياكا
قل للطبيب تخطفته يد الردى * * * من يا طبيـــب بطبه ارداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما * * * عجزت فنـون الطب من عافاكا
قل للصحيح يموت لا من علة * * * من بالمنـــايا ياصحيح دهاكا
قل للبصير وكان يحذر حفرة * * * فهــوى بها من ذا الذي أهواكا
بل سآئل الأعمى مشى بين الزحـ * * * ـام بلا إصطدام من يقود خطاكا
قل للجنين يعيش معزولا بلا * * * راع ومرعى مالذي يرعاكا
قل للوليد بكى وأجهش بالبكا * * * عند الولادة مالذي أبكاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه * * * فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو * * * تحيا وهذا السم يملأ فاكا
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت * * * شهداً وقل للشهد من حلاكا
بل سائل اللبن المصفى كان بين * * * دم وفرث مالذي صفاكا
وإذا رأيت الحي يخرج من حنايا * * * ميت فاسأله من يا حي قد أحياكا
قل للنبات يجف بعد تعهــد * * * ورعايـــــة من بالجفاف رماكا
وإذا رأيت النبت في الصحراء يربو * * * وحده فاساله من أرباكا
وإذا رايت البدر يسري ناشراً * * * أنواره فاساله من أسراكا
واسأل شعاع الشمس يدنو وهي * * * أبعد كل شيء مالذي أدناكا
قل للمرير من الثمار من الذي * * * بالمر من دون الثمار غذاكا
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى * * * فاسأله من يانخل شق نواكا
وإذا رأيت النار شب لهيبها * * * فاسأل لهيب النار من أوراكا
وإذا ترى الجبل الأشم مناطحا * * * قمم السحاب فسله من أرساكا
وإذا ترى صخرا تفجر بالمياه * * * فسله من بالماء شق صفاكا
وإذا رأيت النهر بالعذب الزلال * * * سرى فسله من الذي أجراكا
وإذا رايت البحر بالماء الأجاج * * * طغى فسله من الذي اطغاكا
وإذا رأيت الليل يغشى داجياً * * * فاسأله من ياليل حاك دجاكا
وإذا رأيت الصبح يسفر ضاحكاً * * * فاسأله من يا صبح صاغ ضحاكا
ستجيب ما في الكون من آياته * * * عجبٌ عجابٌ لوترى عيناكا
ربي لك الحمد العظيم لذاتك * * * حمداً وليس لواحد إلاكا
يا منبت الأزهار عاطرة الشذى * * * ما خاب يوماً من دعا ورجاكا
يا مجري النهار عاذبة الندى * * * ما خاب يوماً من دعا ورجاكا
يا أيها الإنسان مهلاً مالذي * * * بالله جل جلاله أغراكا

**د لا ل**
2013-02-01, 20:30
هذا ملخص لرواية ريح الجنوب لعبد الحميد بن هدوقة تتبعه دراسة حول البينة الدالة في الرواية وجدتها في احد المنتديات فاحببت نقلها اليكم




لقد شهد الأدب الجزائري محاولات قصصية مطولة تنحو منحى روائيا ، وأول عمل من هذا النوع كتبه صاحبه سنة 1849 وهو "حكاية العشاق في الحب والاشتياق" لمحمد بن إبراهيم المدعو الأمير مصطفى ، ثم تبعته محاولات أخرى مثل "غادة أم القرى" لأحمد رضا حوحو، "الطالب المنكوب" لعبد المجيد الشافعي ، " الحريق" لنور الدين بوجدرة ... (1) (http://www.echoroukonline.com/montada/newthread.php?do=newthread&f=86#_ftn1) .

إلا أن النشأة الجادة لرواية فنية ناضجة ارتبطت برواية "ريح الجنوب" ، وقد كتبها عبد الحميد بن هدوقـة في فترة كان فيها الحديث جديا عن الثورة الزراعية فأنجزها في 5/11/1970 ، ثم كان التطبيق الفعلي لهذا المشروع في 8/11/1971 ، فدشن الرئيس هواري بومدين أول تعاونية للثورة الزراعية في قرية خميس الخشنة في 17/06/1972 ، ثم دشنت بعد ذلك أول قرية اشتراكية في عين نحالة بتاريخ 17/06/1975 ( (http://www.echoroukonline.com/montada/newthread.php?do=newthread&f=86#_ftn2)2) .

تنطلق الرواية في صباح يوم الجمعة ، - وهو يوم سوق – أين يستعد عابـد بن القاضي للذهاب إلى السوق مع ابنه عبد القادر ، فيقف قرب الدار متأملا أراضيه وقطيع الغنم الذي يقوده الراعي رابح ، وعلى صدره هم ينغص راحة باله ، ذلك أن هناك إشاعات بدأت تروج منذ صدور القرارات المتعلقة بالتسيير الذاتي حول الإصلاح الزراعي ، ثم خطرت بباله فكـرة بعثت في نفسه السرور حين نظر من الخارج إلى غرفة ابنته نفيسة ، يتلخص مضمونها في تزويج ابنته إلى مالك شيخ البلدية والذي يقوم بتأميم الأراضي ، في ذلك الوقت كانت نفيسـة داخل غرفتها تعاني الضيق و الشعور بالضجر تقول أكاد أتفجر، أكاد أتفجر في هذه الصحراء ( (http://www.echoroukonline.com/montada/newthread.php?do=newthread&f=86#_ftn3)3) ، ثم تضيـف " كل الطلبة يفرحون بعطلهم ، أما أنا فعطلتي أقضيها في منفى " (4) (http://www.echoroukonline.com/montada/newthread.php?do=newthread&f=86#_ftn4) ، و فجأة تهدأ نفيسة من حالة الاضطراب ، عندما تسمع صوت أنغام حزينة كان يعزفها الراعي رابح ، فتطرب ولا يخرجها من ذلك إلا صوت العجوز رحمة منادية على أخيها عبد القادر من بعيد ، معلنة عن قدومها ، كي تذهب مع خيرة – والدة نفيسة- إلى المقبرة ، فترغب هذه الأخيرة في الذهاب معهما " أرغب في ذلك يا خالة ! أود أن أرى الدنيا ، إنني اختنقت في هذا السجن" ( (http://www.echoroukonline.com/montada/newthread.php?do=newthread&f=86#_ftn5)5) .

بعد أيام تحتفل القرية بتدشين مقبرة لأبناء الشهداء الذين سقطوا أيام حرب التحرير، فيستقبل عابد بن القاضي أهل القرية في بيتـه رغبة منه في التأثير في مالك و إعادة ربط ما بينهما من صلات قديمـة فمالك كان خطيب زليخـة – ابنة عابد بن القاضي- والتي استشهدت أيام الثورة ، حين أعد مالك ورفاقـه من المجاهدين لغما كان من المفترض أن يستهدف قطارا عسكريا ، لكنه خطأ استهدف قطارا مدنيا كانت زليخة من ركابه ، مما أثار غيظ ابن القاضي فوشى بالمجموعة لقوات الاحتلال ، فأثر ذلك في نفس مالك و أصبح يتهرب منه ، وفي هذا اليوم يوم الاحتفال يدعو عابد بن القاضي مالكا لرؤية زوجته خيرة ، لأنها ترجو ذلك منه ، فيقبل دعوتها، وعندما يدخل الغرفة ما إن يقع نظره على نفيسة حتى يبهت لما رأى ، فهي شديدة الشبـه بأختها وخطيبته السابقة زليخة .

ويسعى عابد بن القاضي لإشاعة خبر خطوبة مالك لابنته نفيسة على الرغم من تحفظ مالك ، فتعلن خيرة هذا الخبر لابنتها فترفض بشدة لأنها لا ترغب بالبقاء في القرية ، كما انه لا تريد الزواج بشخص يكبرها سنا ولا تعرفه جيدا وحين يصر الأب على قراره وتفشل في صده ، تستنجد بخالتها التي تسكن في الجزائر فتكتب لها رسالة ، تطلب من رابح أن يحملها إلى القرية المركزية ويضعها في البريد ، فيعجب بها رابح لأنها تكلمت معه بلطف ، وظنها معجبة به ، فقرر زيارتها ليلا، وبالفعل يقوم بذلك، وعندما تجده فجأة أمام سريرها تدفعه وتشتمه: " أخرج من هنا أيها المجرم ! ، أيها القذر أيها الراعي القذر " (6) (http://www.echoroukonline.com/montada/newthread.php?do=newthread&f=86#_ftn6) ، فخرج مطأطأ رأسه حزينا ، وبقيت تلك الكلمة المؤلمة تدوي في سمعه " أيها الراعي القذر " ، ومن يومها يقرر ترك الرعي ويشتغل حطابا.

تمر الأيام ولا يزال الأب مصمما على تزويج ابنتـه لمالك ، فتفكر طويلا في حل لمشكلتـها ، فتفكـر في إدعاء الجنون ثم الانتحار ، وأخيرا يقـع اختيـارها على حل نهائي وهو " الفرار" ، فتضع خطة محكمة للهروب ، وتقرر تنفيذ خطتها يوم الجمعة لأن الرجال يتوجهون إلى السوق بينما النساء يتوجهن إلى المقبرة ، فتخرج متنكرة مرتدية برنس والدها حتى لا يعرفها أحد ، فتتجه إلى المحطة عبر طريق ذا طابع غابي فتظل ويلدغها ثعبان ، فيغمى عليها، ويصادف أن يجدها رابح – الذي أصبح حطابا- فيتعرف عليها ، و يعود بها إلى بيته أين يعيش مع أمه البكماء ، ولا يطلع والدها لأنها لا تريد العودة " دار أبي لن أعود إليها أبدا " ( (http://www.echoroukonline.com/montada/newthread.php?do=newthread&f=86#_ftn7)7) ، لكن الخبر يشيع في القرية فيعلم والـدها ، ويعزم على ذبح رابح ، فينطلق إلى بيته ، ويهجم عليـه بقوة شاهرا " موسه البوسعادي " فتنهار قوى رابح ، فتسرع أمه إلى فأس ضاربة عابد بن القاضي على رأسه فتنفجر الدماء من رأسه ومن عنق رابح ، فتنصرف الأم مسعفـة ابنها و البنت مسعفة أباهـا ، ثم قامت الأم ودفعت نفيسة إلى خارج البيت وبدأت تصرخ ، فأقبل الناس فزعين ، واتجهت نفيسة راجعة إلى بيت أبيها، بعد أن فشلت محاولتها في الهرب.


(1) (http://www.echoroukonline.com/montada/newthread.php?do=newthread&f=86#_ftnref1) ينظر عمر بن قينة ، في الأدب الجزائري الحديث ، ص 197/198

( (http://www.echoroukonline.com/montada/newthread.php?do=newthread&f=86#_ftnref2)2) ينظر عمر بن قينة ، الأدب العربي الحديث ، شركة دار الأمة للطباعة والنشر والتوزيع ، الجزائر ، ط1 ،1999 ص 168

( (http://www.echoroukonline.com/montada/newthread.php?do=newthread&f=86#_ftnref3)3) عبد الحميد بن هدوقة ، ريح الجنوب ، المؤسسة الوطنية للكتاب ، الجزائر ، ط5 ، ص10

(4) (http://www.echoroukonline.com/montada/newthread.php?do=newthread&f=86#_ftnref4) عبد الحميد بن هدوقة ، ريح الجنوب ، ص10

( (http://www.echoroukonline.com/montada/newthread.php?do=newthread&f=86#_ftnref5)5) المصدر السابق ، ص20

(6) (http://www.echoroukonline.com/montada/newthread.php?do=newthread&f=86#_ftnref6) عبد الحميد بن هدوقة ، ريح الجنوب ، ص108

( (http://www.echoroukonline.com/montada/newthread.php?do=newthread&f=86#_ftnref7)7) المصدر السابق ، ص246

DJAMEL.DZ17
2013-02-14, 00:26
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم
نشكر القائمين على على قسم اللغة العربية وخاصة صاحبة النشاط ذو العزف المنفرد """ دلال""""
شكرا جزيلا على الخدمة الجليلة
وبقي أن أسالك عن كيفية حساب المعدل للسداسي الأول سنة أولى تخصص لغة وأدب عربي
المطلوب:
1- ماهي وحدات السداسي الأول؟
2- و ما هومعامل كل مادة؟
3-وكيف يحسب المعدل؟

**د لا ل**
2013-02-15, 20:52
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم
نشكر القائمين على على قسم اللغة العربية وخاصة صاحبة النشاط ذو العزف المنفرد """ دلال""""
شكرا جزيلا على الخدمة الجليلة
وبقي أن أسالك عن كيفية حساب المعدل للسداسي الأول سنة أولى تخصص لغة وأدب عربي
المطلوب:
1- ماهي وحدات السداسي الأول؟
2- و ما هومعامل كل مادة؟
3-وكيف يحسب المعدل؟


انا درست كلاسيك اخي

ولا ادري صراحة ماهي وحدات السداسي الاول لديكم

لكن كنا نحسب المعدل وفق المعامل طبعا كل مادة لديها حصة نظرية وتطبيقية معاملها 2 والباقي 1

تضرب النقظة في المعدل وتقسم على مجموع المعاملات


هذا ما كنا نقوم به

موفق اخي

**د لا ل**
2013-02-15, 21:32
السيميائية و السميولوجيا عند بيرس و دي سوسير


أجمع النقاد المحدثين على أنَ ( بيرس ) لم يلتقِِ ، أو لم يقرأ عن سوسير والعكس صحيح أيضاً ، إلاَ أنَ معطياتهما تكاد تكون متقاربة ومنسجمة في بعض المواضع ، فكلاهما أسس لعلم نقدي لغوي شامل ، وهو علم السيميائية ( Semiotique ) أو علم العلامات ، وكلاهما انطلق من تأسيس ذلك من خلال الحديث عن معطيات العلامة وتصنيفاتها ومداخلها ، وميادين تنظيرها وتطبيقها ، وكلاهما أسهم في إنعاش الحركة النقدية والمعرفية الأوربية ، وعُدت معطياتهما طرائق يُهتدى بها في السلوك التحليلي الفلسفي والنقدي واللغوي الحديث .
يُعدَ شارل ساندرس بيرس مؤسس المنهج الفلسفي الحديث البراغماتية ( Pragmatism ) أو ما يطلق عليــه : ( الذرائعية ، التداولية ) وهو منهج أكدته النتائج العلمية ، وراهنت على صحته المؤسسات البرجوازية ومفاده : أنَه ليس هناك معرفة أولية في العقل تُستنتج منها نتائج صحيحة ، بل الأمر كله مرهون بنتائج التجربة الفعلية العملية التي تحل للإنسان مشكلاته ، وأنَ الأفكار والنظريات والمعارف والنتائج تشكل بمجموعها وسائل وذرائع دائمة لبلوغ غايات جديدة ، وأنَ معيار صدق الأفكار والآراء هو في قيمة عواقبها العملية ، وأنَ الحقيقة وفقاً لهذا المنهج تُعرف بنجاحها ، وإن الإله ( موجود ) بقدر تعلق الأمر بانتظام المجتمع حسب ، وقد شارك بيرس في تأسيس تلك المعطيات : وليم جيمس (-1910) ، وجون ديوي (-1952) . ( ينظر : البراجماتزم أو مذهب الذرائع ، يعقوب فام ) .
ولقد أطلقت الدوائر الأوربية والأوساط السياسية شعارات ومناهج عمل انطلقت من مبادئ الذرائعية ، ومنها : ( الغاية تبرر الوسيلة ) ، و( الوقت هو المال ) … الخ ، وكان من نتائج ذلك تراجع القيمة الإنسانية ، وتعزيز القيمة الرأسمالية ، فضلاً عن انحسار الأخلاق أو اندحارها ، وكان لهذا السلوك الاجتماعي أثر كبير على مجمل المعطى النقدي والتحليلي .
وأسس بيرس أيضاً الخطوات المنهجية لدراسة العلامة وتقسيماتها وأهمية دراستها ، وتصنيف الحقول التي تسهم العلامة في الاشتغال فيها ، ويمكن القول أنَها تعمل بنشاط في كل ميادين الحياة المختلفة ، وتتسم خطوات بيرس هذه بميزتين


الأولى : أنَها تحليل فلسفي منطقــي .
الثانية : الإيغال في التقسيم والتفصيل .
فيما يتعلق بالنقطة الأولى اتسم تحليل بيرس للعلامات بوصفه تحليلاً فلسفياً منطقياً من حيث استخدام المصطلح الفلسفي ، ثم تصنيف العلامات وفقاً لذلك ، ولا غرابة في هذا لأن
(ش.س. بيرس ) هو فيلسوف ، واشتغاله في الميدان الفلسفي أوسع وأكبر من اشتغاله بالميدان النقدي ، أما فيما يتعلق بالميزة الثانية فقد كانت تقسيمات بيرس للعلامة وفروعها ، تقسيمات ثلاثية حتى قيل : " أن مزاج بيرس ثلاثي التفريع ، أما مزاج سوسير فثنائي التفريع " ( ينظر: بيرس أو سوسير ، جيرار لودال ، ت : عبد الرحمن بو علي ، مجلة العرب والفكر العالمي ، العدد 3 لسنة 1988 : 117 ) .
إنَ المفهوم الأساسيّ لسيميائية بيرس هو : الصيرورة الدلالية أي دلالة لا نهائية ( السيموزيس : Semiosis) التي يعمل بموجبها شيء ما بوصفه دليلاً ، وتحوي هذه الصيرورة على
عوامل ثلاثة : ( الممثل ، والموضوع ، والمؤول ) وهي أقسام العلامة كما صنفها بيرس ، والمهمة الأساسية ـ عنده ـ تكمن في تحليل اشتغال الدليل في الاستعمال الفردي للصيرورة بوصفهه ذات وظيفة دلائلية تواصلية ، وهذه الوظيفة هي خاصية جوهرية للغة محددة بقوانين القواعد ، والوحدات اللسانية ( ينظر : الاتجاهات السيميولوجية المعاصرة ، مارسيلو داسكال ، ت : حميد لحمداني وآخرون ) .
لقد استند التحليل السيميائي عند كل من بيرس وسوسير إلى ميراث فلسفي ينطلق من فجر الطرح الفلسفي مع اليونانيين : أفلاطون وأرسطو (-322 ق.م ) ، والرواقيين ( Stoics ) ، والشكيين ( Scepticum ) مروراً بأوغسطين (- 430 م ) وتوما الأكويني (- 1274 م ) وديكارت (- 1650م ) ، وهيجل (-1831م ) ، ولوك (- 1704 م ) وانتهاءً بأنجلز (- 1895 ) وماركس (-1883م ) ودوركايم ، وقد تحدث تودوروف بشكل مفصل عن ولادة السيميائية الغربية في كتابه : (Theories of the symbol , Tra : C. Porter : 19 ) ، وبيَـن أنَ مسيرة السيميائية ممتدة زمنياً ، ولا يمكن اختصارها ، فمعطياتها متشابكة ، وطرحها الفلسفي والنقدي يلفّ العالم أجمعه ، ويطمح إلى رسم فهم للوجود من خلال تفسير العلامات وتحليلها ، وبيان وظائفها وفاعليتها ومساهمتها في إنشاء التواصل بين مختلف الموجودات .
ومن هذا المنطلق توسعت مباحث السيميائية وشملت مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بل وحتى النفسية ، ودخلت بشكل كبير ومباشر إلى المعطيات النقدية لما بعد البنيوية ، حتى عُدت ركناً مهماً من أركان التحليل النقدي لما بعد البنيوية ، وقد اتسمت مسيرة السيميائية بالتطور المتنامي المتسارع ، لأنَها شكلت الأداة والمنهجية الدقيقة في تفسير سلوك العلامات وبيان وظائف علاقاتها ، وهذه العلاقات تتسم بقدرتها على التوالد والاستمرار والصيرورة ، إذ بلغت السيميائية مكاناً متميزاً بين المناهج الفلسفية والنقدية العالمية المختلفة ، لقد ابتدأت من تحليل العلامة فقدمت تفسيراً للموجودات ، وفهماً لحركة العالم ، وشرحاً لأنظمة الكون ، وصيغاً لا نهائية لمشاريع مستقبلية تتخذ من سلطان العلامة إطاراً موسوعياً لإبداع رؤى جديدة .
إنَ تنوع الأبحاث السيميائية هو تنوع في أنساب الجوانب الفلسفية التي تريد فهم الموجودات ، والتواصل الحاصل فيها هو تواصل بين الوجود والموجود ، بين النظام والوظيفة ، بين الدلالة والسياق ، بين المادة والماهية ، بين فعل الخَلق وفعل الإنتاج ، إنَ مسيرة السيميائية هي مسيرة التسلسل المعرفي والنقدي الذي يقابل التأمل بالتحليل ، والنسق بالتأويل .
إنَ التحليل السيميائي عند بيرس وسوسير هو : عبارة عن بيان شبكة من العلاقات تستهدف دراسة أوجه النشاطات والفعاليات الإنسانية في مظاهرها الدالة ، ودلالاتها الممكنة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً ، ويستهدف معرفة كيفية عمل الأنظمة الدلالية : ( اللسانية وغير اللسانية ) ، لذلك استخدمت المجاميع والمدارس النقدية المختلفة طرائق متباينة لاستعمال التحليل السيميائي ما بين تحليل سيميائي للتواصل ، وآخر للدلالة ، وللثقافة (ينظر: دروس في السيميائيات ، حنون مبارك : 100).
ويتضح الفرق النقدي بين معطيات سوسير عن السيميائية ، ومعطيات بيرس عنها بالنقاط الآتية :
1. إنطلاقة سوسير المنهجية كانت لغوية لسانية - الدال و المدلول- خصوصا ، أما بيرس فمنطلقه فلسفي منطقـي أي أن سيميولوجية سوسير لغوية جزئية و سيميائية بيرس كونية شاملة فهو يرى أن الكون رمز كبير و كل ماتحت قبة هذا الكون الفسيح رمز و أن العلم الوحيد الذي يدرس هذه الرموز هو علم السيميائيات.
2. العلامة عند سوسير ثنائية المبنى تتكون من دال ومدلول ، أي : تجمع بين الصورة العيانية والصورة الذهنية ولا تجمع بين الشيء ومسماه( الإعتباطية) ، في حين أنَ العلامة عند بيرس ثلاثية المبنى تتكون من الممثل (المحمول Interpretant)، والرابطة (الوسيلة Connective )، والموضوع (Object) وهي مبنية على قاعدة رياضية تقول: إنَ كل نظام لابد أن يكون ثلاثياً.
3. أكدَ سوسير بشكل كبير أهمية العلامة داخل نظامها في النص ، دون الارتباط بعالم المرجعية خارج النص ، ودرس اللغة من خلال وصفها نظاماً أجزاؤه مرتبطة فيما بينها، في حين أكدَ بيرس أهمية العلامة في علاقتها بعوالم ثلاثة : (عالم الممكنات ـ المقولة الأولانية ، وعالم الموجودات ـ المقولة الثانيانية ، وعالم الواجبات ـ المقولة الثالثانية) ، وقد استمد بيرس هذه المقولات من مقولات الظاهراتيــة : ( فلسفة الكائن ، ومقولة الوجود ، ومحاولة الفكر لتفسير الظواهر ). ( ينظر: ما هي السيميولوجيا ، برنـار توسان ، ت: محمد نظيف ) .
4. العلامة عند سوسير لغوية - حصراً - وتمتاز بكونها تباينية واعتباطية في علاقة دالها بمدلولها ، أما العلاقة عند بيرس فهي لغوية وغير لغوية .
5. تتحدد العلامة بعلاقة الدال والمدلول ، ويتحدد الرمز بعلاقة المرموز والمرموز له ، ولا تحوي العلامةُ الرمزَ عند سوسير ، أما عند بيرس فالعلامة تتحدد بعلاقةالحامل مع المحمول مع الموضوع ، فضلاً عن علاقة الآيقون والرمز والإشارة ، بمعنى أنَ العلامة عند بيرس تحوي الرمزَ ويشكل جزءاَ منها .
6. علامة سوسير هي أساس السيميولوجيا ( Semiology ) ، وتعدّ جزءاً من علم النفـس (Psychology ) ، أما علامة بيرس فهي أساس السيميوطيقا (Semiotic) ، وتعد جزءاً من علم المنطق ( Logicology ) و .


7. تشكل اللسانيات جزءاً من السيميائية عند سوسير لأن اللغة فعل سيميائي ، في حين تشكل المقولات الفلسفية عن الوجود والعالم صورة التحليل السيميائي عند بيرس .
إنَ السيميائية في معالجتها للعلامات المنبثقة من الأشيـاء والأفعال ، أعطت وحمَلت منهجية ما بعد البنيوية إمكانية السيطرة على الممارسات المعرفية ، من خلال امتلاك إدارة تأويل العلامة ، وتحديث صيغ دلالية يستدعي بعضها البعض من خلال عملية تحول دقيقة تجري بين نظاميّ : (العلامة / النسق ) ، و ( الناقد / المعنى ) ، فغاية الناقد ـ المُؤوِّل بشكل عام ـ تفسير العلامة المُتموضِعة في نسقها للوصول إلى المعنى ، في حين يسعى ناقد ما بعد البنيوية للوصول إلى اختلافات المعنى ، وعدم الاقتناع والتسليم بحدَ معين ، والغاية هي الدخول في لعبة يغيب فيها المدلول ، ويحيل فيها الدال إلى دوال أخرى ، وبهذا اتسم تحليل ما بعد البنيوية بصفة التحليل العدمي ، وبلا نهائية الدلالة ( الدلالة غير محدودة ) .
ومن النتائج المهمة الأخرى التي قدمتها السيميائية للمسار النقدي لما بعد البنيوية هو : ذوبان الإنسان ـ حسب كيلر ـ في سلسلة من الأنظمة ، ومعالجة الثقافات الإنسانية بوصفها علامات ، فضلاً عن دراسة المشاريع المعرفية المستقبلية بوصفها علامات أيضاً ، واكتشاف طبيعة الأبحاث والحقول المختلفة التي تجعل الاتصال الأدبي ممكناً ، وتمييز الاختلافات بين الخطاب الأدبي والخطاب اللاأدبي ، وإحالة الدلالة إلى أنَ الأشكال والمفاهيم لا توجد مستقلة ، بل إنَ دوالها ومدلولاتها هي كيانات علائقية ناتجة من نظم الاختلاف ، وبهذا يمكن للسيميائية أن تقدم فرعاً معرفياً تحليلياً يجمع في منظور شامل ، سلسلة كبيرة من الظواهر تستجيب للمعالجة بطريقة مشتركة عن طريق تفسير العلامات وتحليلها ، ولأجل ذلك كله وُصِفت السيميائية بكونها حركة إمبريالية ( Imperialism ) تتحرك فوق الميادين المعرفية في العلوم الاجتماعية والإنسانية. (ينظر: البحث عن الإشارات، جوناثان كيلر، ت: محمد درويش ، مجلة الرواد ، العدد 1 لسنة 1998 :79 ) .
أما على صعيد تأثير بيرس وسوسير في المدارس والمفاهيم والنقاد ، فقد كانت حصة سوسير هي الأكبر ، وذلك نتيجة للمسوغات اللسانية واللغوية المستخدمة في تحليلاته وكانت هي الأقرب للتوظيف عند النقاد ، لوضوحها وبعدها عن الإيغال في التبويب والتقسيم والمداخلات المنطقية والفلسفية .
ولم يكن الحال كذلك مع بيرس الذي استند في تحليلاته العلامة على التقسيم الفلسفي والمنطقـي ، مما جعل هذا التقسيم بعيداً عن الميدان الالسني ، قريبا من التنظير المنطقي ، ومِن أبرز النقاد الذين تأثروا ببيرس ـ بشكل كبير ـ ناقدين اثنين هما : ( كريماس ، وسيبيوك ) ، أُشتهِر كريماس بتحليلاته السيميائية المنطقية لميدان السرديات ( Narratives ) ، وبتقسيماته الدلالية المتعددة لوحداته ، مستخدما منهجية بيرس في تحليل العلامة ، وتحصيل الدلالة .
وقد ذكر في مقالته : ( نحو سيميائيات للعالم الطبيعي ) ، أنَ السيميائيات لا تمثل إلاَ شبكة من العلاقات ، وأنَ هذه العلاقات هي التي تحدد سمات العالم الطبيعي : (The Natural World) وهي المحرك لتفسير الموجودات ، فضلا عن اعتماد عناصر التواصل الإنساني على الأبعاد الدلالية لتلك العلاقات .
وأكد أيضاً دور الصيرورة ( Semiosis ) في تحديد حركية العلامات بوصفها موجودات في عوالم الدوال ، وإمكانية السيميائية في تمثيل البعد التاريخي للعالم الإنساني ، وعدم الانفصال بشكل كليّ عن مستواه الظاهري . (See: On meaning , selected writings in Semiotic theory, Tra : Paul J. Perren & Frank H. Gollins: 17).
لقد شكلت جدلية ( الصيرورة ) البرنامج الدينامي لتمثل الدوال التي يحيل بعضها على بعض ، والسعي إلى إنتاج المعنى وتحويله من دلالته في الصورة العيانية ، إلى دلالات أخرى تخضع لآلية التأويل ، ويرى كريماس أنَ الخطاب السيميائي هو خطاب إيحائي يتضمن التعبير عن دلالات أيديولوجية ومعرفية وثقافية ، أي أنَ هذا الخطاب يمثل ـ بالضرورة ـ رصيداً معرفياً ، ومعيناً دلالياً مهماً .
وصنَف في الإطار نفسه إمكانية الانفصال إلى حركات عدة : ( الحركة الإسنادية ، والحركة النظامية ، والحركة الإيحائية ، والحركة اللاعبة ، والحركة الاتصالية ) ، وتمثل هذه الحركات ـ حسب كريماس ـ مشاريع ثقافية وخطابات تنظم البنيات الاقتصادية والاجتماعية .
وقد أُشتهِر كريماس بنظريته حول المربع السيميائي : (The Semiotic Sqaure) ، الذي يشير إلى أنَ طبيعة العلامات يمكن أن تُدرك من خلال علاقات التضاد والتناقض ، ويتكون هذا المربع من الأجزاء الآتية :
1. علاقة التناقض بين كل من طرفي التعارض في النص .
2. علاقة الإثبات القائمة في الطرفين المتناقضين المنفيين .
3. علاقة التضاد بين الطرفيين الأولييــن .
ويشير كريماس إلى أنَ العلاقة بين أجزاء ( علاقات الإثبات ) هي علاقات إيجابية ، بمعنى أنَ تحولات العلامات فيها يكون على مستوى الاتصال ، في حين تكون العلامة بين أجزاء ( علاقات التضاد والتناقض ) علاقات سلبية ، بمعنى أن تحولات العلامات فيها يكون على مستوى الانفصال . وبهذا يتكون المربع السيميائي من عناصر ستة هي :
1. القاصــد : Sujet .
2. المقصـود : Objet .
3. المناصـر : Adjudaut .
4. المعارض : Opposant .
5. المؤتي – المانـح : Destinateure .
6. المؤاتي – الممنوح :Destinataire .

أما سيبيوك فقد أُشتهِر بدراسته لمقاييس الصيرورة ( Criteria of Semiosis ) ، ودراسته النظرية العامة للعلامات عند بيرس ، والأسس المنطقية للسيميائية (Logical Basis of semiotics) ، فضلاً عن علاقة السيميائية بفن العمارة ( Architecture ) والموسيقى ، والتمثيل (Representations) ، والسيرك (Circus) ، والثقافة واللاهوت ، والطب والأدب. (See: Aperfusion of signs , T. A. Sebeok : 22).
وتشكل نظرية العلامات عند بيرس ـ حسب سيبيوك ـ نظرية في التجربة الدلالية ، ونظرية في الوعي ، لأنَها تدرس إمكانيات علاقة البنية مع الفكر من خلال تحليل العلامة ، واكتشاف فاعلية الصيرورة في النظام العلامي الذي يكتنز معلومات دلالية ، وأبعاد معرفية وثقافية.
وقد تدخل السيميائية في علاقتها مع الثقافة إلى اللجوء لعملية السمطقة :
(Semiotization) التي تبين ـ حسب ريفاتير ـ شعرية النص أو أدبيته (See: Text production , Michael Riffaterre , Tra : Terese Lyons : 114) ، وتنعش هذه العملية طاقة العلامات من خلال إخفاء السمة الإيحائية على المعطى الثقافي ، وتحويله إلى نسق منمذج للعالم ، وبهذا يكون المقياس الدلالي للصيرورة الذي تحدث عنه سيبيوك ، هو تحديد فلسفة علامية ، تسند لنفسها تقديم رؤية شمولية للمفاهيم والمقولات .
ويشكل المقياس الدلالي للصيرورة عملية التحول إلى تشكيل العلامات ، وتحول الشيء إلى علامة يعني الدخول في سياق الصيرورة الذي يقتضي أسبقية النظام والبنية على الاستعمال ، وأسبقية اللغة على الكلام ، ويشكل هذا السياق فرضية العمل : ( البراكسيس - Praxies ) ، وحيوية الصيرورة التي يعمل بموجبها شيء ما بوصفه علامة ، ويقترب هذا الإجراء من المعطى النقدي لعملية السمطقة ، ويتم دراسة ذلك كلَه في أحد حقول السيميائية ومكوناتها وهي : التداولية ( Pragmatic ) بوصفها قاعدة السانيات ، وطرقاً لمعالجة العلامة بين العلامات ومستخدميها ، ومعالجة علاقة العلامات بمؤولاتها ، ومعالجة المظاهر الحياتية للصيرورة بطريقة شاملة ، ودراسة الأفعال اللسانية والسياقات التي تتم فيها ، فضلاً عن فهم اللغة الشامل عن طريق استعمال تنسيقات العلامات وتحويلاتها .
أما بالنسبة لتأثير سوسير على المدارس النقدية واللغوية ، فقد كان كبيراً جداً في مجمل الأوساط اللغوية والنقدية والإجتماعية ، انطلاقاً من المدارس البنيوية ، مروراً بمدارس السيميائية واتجاهاتها ، وانتهاءً بنظريات تحليل الخطاب ، ونظريات الاستقبال والتلقي ، ومنهج ما بعد البنيوية ، وحسب ما ذهب إليه تودوروف في مقالته : ( سيميائيات سوسير ) ، فإنَ أثر سوسير في الطرح النقدي ـلاسيما حديثه عن العلامات ـ سيكون له مهمة تكملة نظام التعبير العالمي الشامل ، ويمكن أن تتمثل بالطرح الألسني ، وتكون النموذج المتفرد لجميع فروع اللغة ، والمعين الثرّ للنظام السيميائي العالمي .
وتكمن قيمة سوسير النقدية في ميزان الوسط النقدي لما بعد البنيوية ـ بوصفه أباً ـ بدوره في إرساء قواعد نزع الصفة الجوهرية عن علاقة الدال بالمدلول. ( ينظر: رومان ياكوبسون أو البنيوية الظاهراتية ، المارهو لنشتاين ، ت : عبد الجليل الازدي : 60 ) ، ونعت تلك العلاقة بأنها اعتباطية ، وقد دفع هذا الطرح من توسيع عمليات الفصل بين الدال والمدلول ، بمعنى توسيع عقلنة الدال بوصفه حضوراً ، وعدم ضبط حدود المدلول بوصفه غياباً .
وقد أدى هذا الطرح أيضاً إلى استغلال إمكانية الدال في الإحالة إلى دوال أخرى ، بمعنى تحويل المسار التقليدي للدال بالإحالة إلى المدلول ، إلى مسار معرفي جديد يقتضي إحالة الدال إلى دال آخر ، في عملية ذات قصد عدمي لتغييب المدلول أو تعمد فقدانه ، وقد استثمر ( جاك دريدا ) هذا الطرح موظِفاً إيَاه في مجمل الطرح النقدي لما بعد البنيوية ، إذ أصبحت المؤسسات النقدية تتحدث عن تضايف المعنى ، وليس عن حقيقته ، وأصبحت نظرية اللعب التفكيكية لدريدا مخططاً نقدياً ، وصيغة عقلانية يمكن البرهنة عليها وتبني فاعليتها ، والحكم على منتقديها بالعبث والتطرف .
إنَ تأثير سوسير في الطرح النقدي واللغوي كان شاملاً وممتداً في مختلف المجاميع النقدية العالمية ، ولم تخلُ مدرسة لغوية أو نقدية من التأثير السوسيري ـ ولو كان يسيريسيراً ـ فمدارس الألسنية : الوظيفية : ( Functionalism ) ، والتوزيعية : ( Distributionalism ) ، والتوضيحية : ( Glossematiosm ) ، وما بعد السوسيرية : ( Post – Sausurianism ) ، التي تشمل التوليدية والتحويلية لشومسكي : ( Geneticism and Transformatism ) وغيرها ، كلها وقعت تحت تأثير الطرح اللغوي والنقدي لسوسير ، ويمكن إجمالاً القول أنّ دروس سوسير في اللسانيات أسهمت في مدّ العديد من الاتجاهات والمدارس الألسنية والنقدية والمنهجية بالتمفصلات المعرفية ، والأصول اللغوي.

كردادة
2013-02-21, 06:56
السلام عليكم؛ اخوكم محمد
اود ان اطرح خدمة نوعية جدا لطلبة الادب العربي بكل فروعه وتخصصاته القديمة والحديثة حتى.
الى كل طالب وباحث علم جاد في بحثه محمب لتخصصه اطرح عليه قائمة ادبية مكونة من
1: اكثر من 2600 كتاب في الادب؛ اغلبها غير متوفر في الساحة التجارية سواء الورقية او الالكترونية.
2: اكثر من 1200 مذكرة في الادب -دكتوراه، ماجستير، ليسانس- منتقاة بشكل علمي متخصص.
3: اكثر من 22000 مقالة ومجلة محكمة ومعتمدة اكاديميا من مختلف ربوع الوطن العربي.
4: العديد من كتب المنهجية المتخصصة.
5: العديد العديد من كتب امهات الكتب والمعاجم والروايات العربية والعالمية.
ملاحظة: جل ما لدي غير متوفر في الانترنت. وممكن ان ارسل القائمة على شكل ملف بي دي اف لمن اراد.
لكل جاد وحريص عل طلب العلم الاتصال على الرقم :
من داخل الجزائر: 0780012237
من خارج الجزائر: 00213780012237

**د لا ل**
2013-02-21, 10:56
السلام عليكم؛ اخوكم محمد
اود ان اطرح خدمة نوعية جدا لطلبة الادب العربي بكل فروعه وتخصصاته القديمة والحديثة حتى.
الى كل طالب وباحث علم جاد في بحثه محمب لتخصصه اطرح عليه قائمة ادبية مكونة من
1: اكثر من 2600 كتاب في الادب؛ اغلبها غير متوفر في الساحة التجارية سواء الورقية او الالكترونية.
2: اكثر من 1200 مذكرة في الادب -دكتوراه، ماجستير، ليسانس- منتقاة بشكل علمي متخصص.
3: اكثر من 22000 مقالة ومجلة محكمة ومعتمدة اكاديميا من مختلف ربوع الوطن العربي.
4: العديد من كتب المنهجية المتخصصة.
5: العديد العديد من كتب امهات الكتب والمعاجم والروايات العربية والعالمية.
ملاحظة: جل ما لدي غير متوفر في الانترنت. وممكن ان ارسل القائمة على شكل ملف بي دي اف لمن اراد.
لكل جاد وحريص عل طلب العلم الاتصال على الرقم :
من داخل الجزائر: 0780012237
من خارج الجزائر: 00213780012237


جزااك الله خيرا اخي على ما تقدمه
لكن هلا وضحت اكثر التفاصيل

**د لا ل**
2013-02-22, 13:04
كيف يتعامل الأدب الإسلامي مع قضية القدم والحداثة؟


إن الخصومة بين القديم والحديث، أو بين ما يسمَّى الآن "الأصالة والحداثة"، أو "التراث والمعاصرة"، أو غير ذلك من تسميات - هي قضية قديمة حديثة؛ ففي كل زمان ومكان يوجد مَن يتعصَّب لقديم أو حديث، أو يتعصَّب - في مقابل ذلك - على القديم أو الحديث.



وفي عصرنا مَن فهم الحداثة على أنها "الخروج على جميع ما سلف"، أو أنها التغيير الجذري لكل ما عُرف، أو ما سمي "ألمًا قبل" بتعبير بعضهم؛ فاحتقر التراث العربي الإسلامي جميعه، وعدَّه ساقطًا باليًا، في مقابل إنجازات الحداثة المعاصرة، التي دخلتْ من أوسع الأبواب إلى أدبنا الحديث، وهي - في غالبيتها - إنجازات الحداثة الغربية، وقد صدرتْ عن حضارة أخرى، وعن ثقافة غربية، مخالفة في القيم والتصوراتِ الفكرية والفنية لحضارتنا وثقافتنا.


ويتبنَّى الأدب الإسلامي الذي ندْعو إليه منهجَ الوسطية والاعتدال في التعامل مع هذه القضية المهمة الحاضرة باستمرار، وهذه الوسطية هي من جوهر الإسلام، الذي يقتبس منه الأدب الإسلامي؛ فالإسلام دين الوسطية في كل شأن من شؤون الحياة والكون والإنسان.


إن وسطية الأدب الإسلامي في التعامل مع قضية " القدم والحداثة" تمثلها - في رأينا - مجموعةٌ من التصورات، يمكن إبراز أهمها في النقاط التالية:

1- على حد تعبير ابن قُتَيبة: لم يقصر الله العلم والأدب والثقافة على قومٍ دون قومٍ، ولا خصَّ بها ناسًا دون ناس، من القدماء أو المحدَثين، بل مِن عدلِه أن ذلك حظ مشترك بين الجميع؛ فلا يجوز - بسبب من ذلك - التعصب لقديم أو حديث، أو التعصب على قديم أو حديث لمجرد الزمن وحده؛ فإن مقياس الزمن غير ثابت؛ فالقديم كان حديثًا في يوم من الأيام، والحديث اليوم سيغدو بعد حين قديمًا.



2- وبناءً على ما سبق؛ فإن ما يسمى "الخصومة بين القدم والحداثة" ما هو في حقيقته إلا خصومة بين القيم، بين الحق والباطل، اللذين تضبطهما قواعدُ الدين وأُسس الشرع، وقد يكون كل منهما مع هؤلاء أو أولئك من قدماء ومحدَثين؛ فلا خصومة أو صراع إذًا بين سلف وخلف، أو آباء وأبناء، كما تتمثَّل ذلك بعضُ التصورات الفكرية الحديثة.



3- لا يسعى الأدب الإسلامي وراء التجديد لذاته، شأن الاتجاهات الحداثية التي جعلتْ ذلك وكدها، فأعلتْ من شأن كل جديد لمجرد أنه جديد، وسفَّهتْ من شأن كل قديم لمجرد أنه قديم، ولكنه يسعى إلى الجديد الرشيد، الذي يحمل الحقَّ والخير، ويُغنِي التجرِبة الإنسانية، وهو ينفر من كل جديد أو حديث إذا كان شاذًّا، أو مخالفًا لشرع الله، كما هو شأن كثير مما تحمله بعض الاتجاهات الفكرية المعاصرة.



4- لا يعني التجديدُ الخروجَ المطلقَ على كل تراث أو قديم؛ ففي ثقافتنا ثوابتُ لا يجوز الخروج عليها؛ لأن هذا الخروج يعدُّ خروجًا من الدين، ومروقًا من العقيدة، ولكن التجديد الرشيد - الذي أشرنا إليه - هو في المتغيرات التي لم يَرِدْ فيها نص قطعي الدلالة.



5- يميز الأدبُ الإسلامي بين التجديد في المضمون والتجديد في الشكل؛ فالأشكال الفنية هي - غالبًا - محايدة، ولكن المضامين تمثِّل عقيدة الأمة التي أنتجتْها، فينبغي أن يتعامل معها بحذر، فلا يؤخذ منها إلا ما يتفق مع الإسلام.


6- إن التجديد مطلبٌ حيوي في الأدب الإسلامي؛ فهو نوعٌ من التحسين والتجميل، فيحرص عليه، ويسعى إليه، على أن يكون رشيدًا مفيدًا.


وإن المبدع المسلم مثقَّف ينفتح على ثقافات العصر، ولكن بوعيٍ وبصيرة، وإن الأدب الإسلامي لا يحقق حضورَه وذيوعَه إلا من خلال هذا الانفتاح، مع المحافظة على شخصيته وأصالته.


د. وليد قصاب ... منقووول

**د لا ل**
2013-02-22, 13:07
البلاغة في القران والدقة في التعبير و البيان
بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله

متى تكون المرأة زوجاً ومتى لا تكون ؟

عند استقراء الآيات القرآنية التي جاء فيها اللفظين ، نلحظ أن لفظ \"زوج\" يُطلق على المرأة إذا كانت الزوجية تامّة بينها وبين زوجها ، وكان التوافق والإقتران والإنسجام تامّاً بينهما ، بدون اختلاف ديني أو نفسي أو جنسي ..

فإن لم يكن التوافق والإنسجام كاملاً ، ولم تكن الزوجية متحقّقة بينهما ، فإن القرآن يطلق عليها \"امرأة\" وليست زوجاً ،
كأن يكون اختلاف ديني عقدي أو جنسي بينهما ..

ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى : \"وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ\" ،
وقوله تعالى : \"وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا\" .

وبهذا الإعتبار جعل القرآن حواء زوجاً لآدم ، في قوله تعالى : \"وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ\" .
وبهذا الإعتبار جعل القرآن نساء النبي صلى الله عليه وسلم \"أزواجاً\" له ، في قوله تعالى : \"النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ\" .


فإذا لم يتحقّق الإنسجام والتشابه والتوافق بين الزوجين لمانع من الموانع فإن القرآن يسمّي الأنثى \"امرأة\" وليس \"زوجاً\" .

قال القرآن : امرأة نوح ، وامرأة لوط ، ولم يقل : زوج نوح أو زوج لوط ، وهذا في قوله تعالى : \"ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا\" .
إنهما كافرتان ، مع أن كل واحدة منهما امرأة نبي ، ولكن كفرها لم يحقّق الإنسجام والتوافق بينها وبين بعلها النبي . ولهذا ليست \"زوجاً\" له ، وإنما هي \"امرأة\" .

ولهذا الإعتبار قال القرآن : امرأة فرعون ، في قوله تعالى : \"وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ\" . لأن بينها وبين فرعون مانع من الزوجية ، فهي مؤمنة وهو كافر ، ولذلك لم يتحقّق الإنسجام بينهما ، فهي \"امرأته\" وليست \"زوجه\" .

ومن روائع التعبير القرآني العظيم في التفريق بين \"زوج\" و\"امرأة\" ما جرى في إخبار القرآن عن دعاء زكريا ، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ، أن يرزقه ولداً يرثه .
فقد كانت امرأته عاقر لا تنجب ، وطمع هو في آية من الله تعالى ، فاستجاب الله له ، وجعل امرأته قادرة على الحمل والولادة .


عندما كانت امرأته عاقراً أطلق عليها القرآن كلمة \"امرأة\" ، قال تعالى على لسان زكريا : \"وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ
وَلِيًّا\" .


عندما كانت امرأته عاقراً أطلق عليها القرآن كلمة \"امرأة\" ، قال تعالى على لسان زكريا : \"وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ
وَلِيًّا\" .

وعندما أخبره الله تعالى أنه استجاب دعاءه ، وأنه سيرزقه بغلام ، أعاد الكلام عن عقم امرأته ، فكيف تلد وهي عاقر ، قال تعالى : \"قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء\" .

وحكمة إطلاق كلمة \"امرأة\" على زوج زكريا عليه السلام أن الزوجية بينهما لم تتحقّق في أتمّ صورها وحالاتها ، رغم أنه نبي ، ورغم أن امرأته كانت مؤمنة ، وكانا على وفاق تامّ من الناحية الدينية الإيمانية .

ولكن عدم التوافق والإنسجام التامّ بينهما ، كان في عدم إنجاب امرأته ، والهدف \"النسلي\" من الزواج هو النسل والذرية ، فإذا وُجد مانع حيوي عند أحد الزوجين يمنعه من الإنجاب ، فإن الزوجية لم تتحقّق بصورة تامّة .

ولأن امرأة زكريا عليه السلام عاقر ، فإن الزوجية بينهما لم تتمّ بصورة متكاملة ، ولذلك أطلق عليها القرآن كلمة \"امرأة\" .
وبعدما زال المانع من الحمل ، وأصلحها الله تعالى ، وولدت لزكريا ابنه يحيى ، فإن القرآن لم يطلق عليها \"امرأة\" ،
وإنما أطلق عليها كلمة \"زوج\" ، لأن الزوجية تحقّقت بينهما على أتمّ صورة . قال تعالى : \"وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ\" .

والخلاصة أن امرأة زكريا عليه السلام قبل ولادتها يحيى هي \"امرأة\" زكريا في القرآن ، لكنها بعد ولادتها يحيى هي \"زوج\" وليست مجرّد امرأته .
وبهذا عرفنا الفرق الدقيق بين \"زوج\" و\"امرأة\" في التعبير القرآني العظيم ، وأنهما ليسا مترادفين

**د لا ل**
2013-02-22, 13:08
من جواهر الآمام الشافعي رحمه الله






في كتمان الأسرار
إذا المـَــرء أفشـَى سِـرَّهُ بلســــَــانـه ولامَ عليــــهِ غــَـــيْـرَهُ فهُـوَ أحمَـقُ
إذا ضَـاقَ صَدْرُ المَرْءِ عَنْ سِرِّ نفسِهِ فصَدْرُ الذي يَسْتودِعُ السِّــرَّ أضْيـَقُ


في الأصدقاء
لا خيرَ في ودِّ أمرءٍ متلوِّن إذا الريحُ مَالت، مَال حيثُ تَميـلُ
ومَا أكثـَرَ الإخوانِ حينَ تعدّهم ولكنهـــُـــــم في النائباتِ قليلُ


العيبُ فينا
نعيـبُ زماننا والعيبُ فينا وما لزمانـنا عَيـبٌ سِوانـَــا
ونهجو ذا الزمانِ بغيرِ ذنبٍ ولو نطـَقَ الزمَان لهَجَانا
وليسَ الذئبُ يأكلُ لحمَ ذئبٍ ويأكلُ بعضنا بعضا ًعيانا


شروط الصداقة
إذا المـَرءُ لا يَـرعَــاكَ إلا تكـَلـُّـفـا ، فدَعـْهُ ولا تـُـكـْثـِـر عـَليـْهِ تأسـّـُـفـا
ففي الناسِ إبدالٌ وفي التـَّركِ راحة ٌ وفي القلبِ صَبرٌ للحبيبِ وَلـَوْ جَفـَا
فـــمَا كلُّ من تـهــواهُ يهــواكَ قلبُهُ ولا كلُّ من صَافيتـَه لكَ قــَدْ صَـفــَــا
إذا لــم يـَكـُــنْ صَفـْوُ الوِدادِ طبـيـعَـة ً فـَلا خـيرٌ في خـِلٍّ يجيءُ تـَكَـلـُّـفـَا
ولا خيـرٌ في خـِلٍّ يـخـُـونُ خـليـلـَه ويـلقــَاهُ مِن بعـدِ الموَدَّةِ بالجــَفــَـــا
ويـُـنـْكــِرُ عـَيـْشـاً قـد تـقادَمَ عَهدُهُ ويـظـْهَـرُ سِرّاً كانَ بالأمس في خـَفـَا
سَـلامٌ على الدنيا إذا لم يكـُنُ بـِها صَديقٌ صَدوقٌ صَادِقُ الوَعْدِ مُــنصفـَا


في الدهر
الدّهـْرُ يومَانِ ذا أمْنٍ وذا خـَطـَرِ والعيشُ عيشَانِ ذا صَفـْوٍ وذا كــَدَر ِ
أمـَا تـَرَى البَحْرَ تـَعْـلـو فوقـَه جـِيـَفٌ وتـستـَقـِرُّ بأقصَى قاعه الدٌّرَر ِ
وفي السَّماءِ نـُجومٌ لا عـِدادَ لهَا وليسَ يـُكـْسَفُ إلا الشّمسَ والقـَمَر ِ


في حظوظ البشر
تموتُ الأسُودُ في الغاباتِ جُوعا ً ولحْمُ الضَّأنِ تأكـُلـُهُ الكـِلابُ
وعبـْدٌ قـَدْ ينـَامُ على حَرير ٍ وذو الأنـسَابِ مـفـَارشُـهُ الـتـُّرابُ


الرئيس الحقيقي
إنَّ الفـَقـيهَ هُوَ الفـَقـيهُ بـِفـِعـْلِهِ ... ليسَ الفـقـيهُ بـِنـُطـْقـِهِ ومَقـَالـِــهِ
وكـَذا الرَّئــيسُ هـُوَ الرَّئيسُ بـِخـُلـْقـِهِ ، ليس الرَّئيسُ بقومِهِ ورجَالِهِ
وكــَذا الغـَنـِيُّ هـُوَ الـغـَنـِيُّ بـِحـَالـِهِ ... ليسَ الغـَنـِيُّ بـِمُـلكِـهِ وبمَالــِهِ


الهـُموم والتوكـٌّل على الله
سَهــِرَتْ أعـْــيُــنٌ ونـَامَتْ عـُيـُونٌ في أمـُور ٍ تـكونُ أو لا تَــكـُونُ
فادْرأ الهـَمَّ ما استـَطـَعـْتَ عَنِ النـّفـسِ فـَحِـمْـلانكَ الهُـمـُوم جـُنُونُ
إنَّ ربـَّـكَ كـفـَاكَ بالأمـسِ مَـا كـَانَ سَـيـكـفيـكَ في غــَـدٍ مـا يَـكــُونُ


الرِّزق
تـَوَكـّلـْتُ في رزقي على الله خـَالـقـِي وأيـْقــَـنـْتُ أنَّ الله لا شـَـكَّ رَازقـِي
ومَا يـَكُ مـِنْ رزقٍ فـَليْسَ يـَفـُوتـُني ولوْ كـانَ في قاعِ البـِحَار الـعـَوامـِق ِ
سـَيأتـي بـِه ِالله العـَظــيــمُ بـِفـَضْـلِه ولوْ لمْ يـَكـُنْ مِـنّي اللـسَـانُ بـِنـَاطـِق ِ
فــَفــِي أيّ شَـيءٍ تــذهـَـبُ حـَـسـْـرةً وقـــَد قــَـسَــمَ الــرَّحــْمــَنُ رزقــِي

**د لا ل**
2013-02-26, 21:56
أهمية العنوان في العمل الأدبي:
لقد أولت المناهج الحديثة و المعاصرة ، في نظريات القراءة، و سيميائيـات النص وجماليات التلقي، أهمية كبيرة لعنوان النص و مقدمته، و اعتبرتهمـا مكونين أسـاسيين و دالين فقد جعلهما جيرار جينيت (Gérard Génette) من النصوص الموازية Paratextes الدالة التي ترافق النصوص الرئيسة و التي لا يمكن الاستغناء أو التغاضي عنها .و تكمن أهمية هذين المكونين ( العنوان و المقدمة) في كونهما أول المؤشرات التي تدخل في حوار مع المتلقي ، فتثير فيه نوعا من الإغراء، و الفضول العلمي و المعرفـي و إليهما توكل مهمة نجاح الكتاب في إثارة استجابة القارئ بالإقبال عليه و تداوله ، أو النفور منه و استهجانه.
تنبثق أهمية العنوان ، بشكل خاص ، من كونه مكونا نصيا لا يقل أهمية عن المكونات النصية الأخرى، فالعنوان يشكل سلطة النص وواجهته الإعلامية، وهذه السلطة تمارس على المتلقي » إكراها أدبيا ، كما أنه [ أي العنوان ] الجزء الدال من النص و هذا ما يؤهــله للكشف عن طبيعة النص و المساهمة في فك غموضه« بـــل يعين مجموع النص و يظهر معناه، و هذا يعني أن العنوان هو مرآة النسيج النصي، وهو الدافع للقراءة، وهو الشرك الذي ينصب لاقتناص المتلقي، و من ثمة فإن الأهمية التي يحظى بها العنوان نابعة من اعتباره مفتاحا في التعامل مع النص في بعديه الدلالي و الرمزي، بحيث لا يمكن لأي قارئ أن يلج عوالم النص أو الكتاب، و تفكيك بنياته التركيبية و الدلاليـة و استكشاف مدلولاته و مقاصدها التداولية، دون امتلاك المفتاح ، أعني العنوان .
العنوان إذن هو الثريا التي تضيء فضاء النص، و تساعد على استكشاف أغواره، فيكون العنوان بكل ذلك ضرورة كتابية تساعد على اقتحام عوالم النص؛ لأن المتلقي يدخل إلى " العمل " من بوابة " العنوان " متأولا لــه، و موظفا خلفيته المعرفية في استنطاق دواله الفقيرة عددا و قواعد تركيب و سياقا، و كثيرا ما كانت دلالية العمل هي ناتج تأويل عنوانه، أو يمكن اعتبارها كذلك دون إطلاق« كما يأخذ العنوان أهميته من كونه علامة كاملة تحمل دالا و مدلولا.
على الرغم من أن العنوان نص مختصر مقلص فإنه يلعب دورا هاما وحاسما في الأعمال الأدبية خاصة وفي الأعمال الفنية عامة. فهو جزء لا يتجزأ من عملية إبداع الكاتب للعمل .
كما أنه يلعب دورا مركزيا في عملية إنتاج القارئ لمعنى العمل ودلالاته ويقوم بوظائف متعددة ومتنوعة." وتبرز أهمية العنوان في الأدب الحديث بصورة عامة وفي الشعر الحديث بصورة خاصة، اللذين لم يعد فيهما العنوان مجرد مرشد للعمل، يمر عليه القارئ مرورا سريعا متوجها إلى النص، وإنما أصبح جزءا من المبنى الاستراتيجي للنص." (1)
ويعزو "العلاق" ازدياد الوعي بأهمية العنوان إلى" كون علاقته بالنص أصبحت بالغة التعقيد وإلى امتلاكه طاقة توجيهية." (2) وتنبه فيري إلى" أن موقع العنوان فوق النص يمنحه سلطة، لأنه يخبر القارئ الذي لم يقرأ النص شيئا ما عن هذا النص." (3)
وتزداد أهمية العنوان، سواء في النثر أو في الشعر، خلال قراءة النص، وذلك لأن القارئ يتوجه إلى النص وقد علقت في ذهنه إيحاءات العنوان ورموزه، وهو يقوم بربط كل هذا بما يلاقيه أثناء عملية قراءة النص وتأويله. وإذا كان الحديث يدور عن قصيدة بشكل خاص، فإن العنوان يتخذ أهمية أكبر بعد قراءتها، لاتخاذه طبقات من المعنى أكثر عمقا في سياق ثيمات القصيدة المتعددة، هذا بالإضافة إلى أن العنـوان في حـالات كثيـرة يمكنه إعادة خلق قطعة أدبية ما.
لقد بذل الفنانون في الأدب الغربي في القرن التاسع عشر جهودا جمة في اختيار العنوان. وعلى الرغم من هذا فقد وجدت قصائد غير معنونة، لكنها تمكنت من أن تصمد مع عدم وجود عناوين لها. ونطرح سؤالا لا بد منه في هذا السياق: هل يقوم العنوان في الأدب الحديث بدور هام إلى درجة لا يمكننا معها اعتبار عمل أدبي ما كالقصيدة، لأنه لا يحمل عنوانا؟ إن هولاندر (Hollander) وفايسمن لا يوافقان علـى عـدم اعتبـار لوحة ما لوحة، أو قصيدة ما قصيدة، لأنها لا تحوي عنوانا. وتضيف فايسمن إلى هذا، وبشكل أكثر مباشرة من هولاندر، بأنه يمكن للأعمال سواء كانت أدبية أو غيرأدبية أن تصمد دون وجود عناوين لها.
كما ينبه هذان الباحثان إلى" أن العناوين برزت كغرض ضروري في نقطة تاريخية معينة ووفقا لعادة العنونة التي بدأت تسود، ولهذا السبب سعى الكتّاب بشكل دائب إلى وضع عناوين لأعمالهم."(1)
ولا بد أن نشير إلى أن وجود قصائد غير معنونة ليس مقصورا على أدب القرون الوسطى أو القرن التاسع عشر، وذلك لأننا نعثر في عصرنا الحالي على قصائد حديثة غير معنونة، وهي بنظرنا قصائد بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. ولنأخذ مثالا على ذلك القصيدة التالية للشاعرة السريالية جويس منصور (1928-1986)، والتي هي بضمن أربعين قصيدة، ترجمها عن الفرنسية الشاعر عبد القادر الجنابي،ويستطيع قائل أن يقول بأنه لو حوت هذه القصيدة عنوانا لربما كانت ستبدو أجمل أو أغنى معنى و أكثر إيحاء. ربما! لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال عدم اعتبارها قصيدة لأنها لا تحمل عنوانا، فكلماتها تحوي طاقة شعرية هائلة، تتجلى في الصور الشعرية المبتكرة الموجودة على طول القصيدة. ويجدر بنا أن ننبه إلى أن هناك قصائد من قصائد الشاعرة الأربعين تحوي عناوين، مما يدلنا على أن الشاعرة واعية لقضية العنونة.
وفوق ذلك إن هذا يدلنا على أن وضع عنوان للنص في الشعر الحديث أو عدم وضعه لا يتعلق على الغالب بوعي الشاعر لقضية العنونة، وإنما برغبته واختياره الشخصي.
في الليل شحّاذة أنا في وطن الدماغ
نفسي متمددة فوق قمرٍ من الأسمنت وقد روّضتها الريحُ تتنفسُ
وموسيقى أنصاف المجانين الذين يمضغون شعير المعدن ألق
الذين يطيرون ويطيرون ثم يسقطون على رأسي
بكلّ قواهم
ذا أنا أرقص رقصة الفراغ
أرقص فوق ثلوج التعاظم البيضاء
وأنت خلف نافذتك المحلاة بسكر الغيظ
تلطّخ فراشك بالأحلام انتظارًا لي (1)
لقد اعتبر العنوان إلى وقت قريب هامشا لا قيمة له وملفوظا لغويا لا يقدم شيئا إلى تحليل النص الأدبي؛ لذلك تجاوزه الكتاب إلى النص كما تجاوزوا باقي العتبات الأخرى التي تحيط بالنص.
ولكن ليس العنوان" الذي يتقدم النص ويفتتح مسيرة نموه- يقول علي جعفر العلاق- مجرد اسم يدل على العمل الأدبي: يحدد هويته، ويكرس انتماءه لأب ما. لقد صار أبعد من ذلك بكثير. وأضحت علاقته بالنص بالغة التعقيد. إنه مدخل إلى عمارة النص، وإضاءة بارعة وغامضة لأبهائه وممراته المتشابكة(...) لقد أخذ العنوان يتمرد على إهماله فترات طويلة، وينهض ثانية من رماده الذي حجبه عن فاعليته، وأقصاه إلى ليل من النسيان. ولم يلتفت إلى وظيفة العنوان إلا مؤخرا .(2)
وعلى الرغم من هذا الإهمال فقد التفت إليه بعض الدارسين في الثقافتين: العربية والأجنبية قديما وحديثا، وتنبه إليه الباحثون في مجال السيميـوطيقا وعلم السـرد والمنطـق
وأشاروا إلى مضمونه الإجمـالي في الأدب والسـينما والإشـهار نظرا لوظـائفه المرجعية واللغوية والتأثيرية والأيقونية.
وحرصوا على تمييزه في دراسات معمقة بشرت بعلم جديد ذي استقلالية تامة، ألا وهو علم العنوان(TITROLOGIE) الذي ساهم في صياغته وتأسيسه باحثون غربيون معاصرون منهم: جيرار جنيتG.GENETTE وهنري مترانH.METTERANDولوسيان ﮔولدمانL.GOLDMANN وشارل ﮔريفلCH.GRIVEL وروجر روفرROGER ROFER وليو هويك LEO HOEK الذي يعرف العنوان بكونه" مجموعة من الدلائل اللسانية [...]يمكنها أن تثبت في بداية النص من أجل تعيينه والإشارة إلى مضمونه الإجمالي ومن أجل جذب الجمهور المقصود"(1) هذا وقد نادى لوسيان كولدمان الدارسين والباحثين الغربيين إلى الاهتمام بالعتبات بصفة عامة، والعنوان بصفة خاصة. وأكد في قراءته السوسيولوجية للرواية الفرنسية الجديدة مدى قلة النقاد" الذين تعرضوا إلى مسألة بسيطة مثل العنوان في رواية الرائي le voyeur لذي يشير إلى مضمون الكتاب، ليتفحصوه بما يستحق من عناية "(2)
وتعتبر دراسة( العتبات SEUILS) لجيرار جنيت GERARD GENETTE أهم دراسة علمية ممنهجة في مقاربة العتبات بصفة عامة والعنوان بصفة خاصة؛ لأنها تسترشد بعلم السرد والمقاربة النصية في شكل مساءلة واستقصاء ، وتفرض عنده نوعا من التحليل.(3)
ويبقى ليو هويك LEO HOEK المؤسس الفعلي ( لعلم العنوان) ؛ لأنه قام بدراسة العنونة من منظور مفتوح يستند إلى العمق المنهجي والاطلاع الكبير على اللسانيات ونتائج السيميوطيقا وتاريخ الكتاب والكتابة. فقد رصد العنونة رصدا سيميوطيقيا من خلال التركيز على بناها ودلالاتها ووظائفها.
كما أن النقد الروائي العربي لم يول العنوان أهمية تذكر، بل ظل يمر عليه مر الكرام. لكن الآن بدأ الاهتمام بعتبات النص وصار يندرج" ضمن سياق نظري وتحليلي عام يعتني بإبراز ما للعتبات من وظيفة في فهم خصوصية النص وتحديد جانب أساسي من مقاصده الدلالية، وهو اهتمام أضحى في الوقت الراهن مصدرا لصياغة أسئلة دقيقة تعيد الاعتبار لهذه المحافل النصية المتنوعة الأنساق وقوفا عندما يميزها ويعين طرائق اشتغالها؟ (1)
أهم الدراسات العربية التي انصبت على دراسة العنوان تعريفا وتأريخا وتحليلا وتصنيفا نذكر ما أنجزه الباحثون المغاربة وغيرهم من النقاد العرب الذين كانوا سباقين إلى تعريف القارئ العربي بكيفية الاشتغال على العنوان: تنظيرا وتطبيقا، وهذه الدراسات هي على النحو التالي:
1 - (النص الموازي في الرواية) (إستراتيجية العنوان) ، مقال للدكتور شعيب حليفي منشور في مجلة الكرمل الفلسطينية في واحد وعشرين صفحة، العدد46 سنة 1992.
ويعد من المقالات الهامة التي درست العنوان دراسة تاريخية وبنيوية بطريقة منهجية وأهم مصدر استند إليه الدارسون في حديثهم عن العنوان.
2- مقاربة العنوان في الشعر العربي الحديث والمعاصر للدكتور جميل حمداوي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في الأدب العربي الحديث والمعاصر، تحت إشراف الدكتور محمد الكتاني، نوقشت بجامعة عبد المالك السعدي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ( تطوان) بالمغرب سنة 1996، ويطرح فيها صاحبها منهجية جديدة لدراسة العناوين سماها (المقاربة العنوانية)؛ وتعد أهم دراسة تحليلية شاملة للعنوان في الوطن العربي(562 صفحة من الحجم الكبير)
3- (العنوان في الرواية المغربية)، للدكتور جمال بوطيب، مقال منشور في كتاب الرواية المغربية، أسئلة الحداثة، منشورات دار الثقافة، الدار البيضاء، سنة 1996 ، و يوجد المقال في (12) صفحة؛
4- عتبات النص: البنية والدلالة، للدكتور عبد الفتاح الحجمري، منشورات الرابطة، الدار البيضاء، طبعة 1996، وفيه يدرس صاحبه العنوان على ضوء رواية الضوء الهارب لمحمد برادة في ست صفحات من الحجم المتوسط.
5- ( السميوطيقا والعنونة)، مقال للدكتور جميل حمداوي في33 صفحة، نشر في مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد 25، العدد3، يناير/ مارس، سنة 1997، وكان مصدرا ومرجعا للكثير من الدراسات التي انصبت على دراسة عتبة العنوان .
6- مقاربة النص الموازي في روايات بنسالم حميش، للدكتور جميل حمداوي، أطروحة دكتوراه الدولة ، ناقشها الباحث في 19 يوليوز سنة 2001 بجامعة محمد الأول بوجدة تحت إشراف الدكتور مصطفى رمضاني.
7- (صورة العنوان في الرواية العربية) للدكتور جميل حمداوي، مقال في حوالي 21 صفحة، نشر في التجديد العربي، في 22/07/2006.
8- العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي للدكتور محمد فكري الجزار، ، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1998 .
9- العنوان في الأدب العربي(النشأة والتطور) للدكتور محمد عويس، ،على نفقة المؤلف،1992.
5- أصناف العنوان:
تصنف الأبحاث الحديثة العناوين من حيث دلالاتها وعلاقتها بمضمون النصوص التي تحملها إلى أنواع كثيرة ويمكن أن تقسم إلى مجموعتين أساسيتين: المجموعة الأولى هي مجموعة العناوين المؤشِّرة، والمجموعة الثانية هي مجموعة العناوين الدلاليّة. وننوي فيما يلي الأصناف التي تدخل في إطار كل مجموعة من المجموعتين مع إيراد شرح لكل منها1.
أ) العناوين المؤشِّرة:1
تشبه هذه العناوين الاسم الذي ندعو به غرضا أو إنسانا، وهدفها الأساسي هو مساعدة القارئ على إيجاد العمل المطلوب في فهرس الكتاب، وتمييز هذا العمل عن أعمال أخرى. كما تكون هذه العناوين قصيرة بصورة عامة، بحيث تتألف من كلمة أو عبارة، وتعرض الموضوع المعالج بشكل موضوعي وحيادي، دون الإفصاح عن رسالة النص، وإن تواجد هذا الصنف من العناوين في الشعر، فإنه يترك القصيدة مفتوحة، ولا يثير توقعات القارئ، وتتوزع هذه العناوين المؤشرة إلى ثلاثة أنواع:2
* "عناوين عبارة عن أرقام عددية أو ترتيبية ("القصيدة الأولى"، "القصيدة الأخيرة")، أو عناوين ذات صلة بمكان الكتابة، أو بتاريخ معيّن، لكن لا توجد لها أية علاقة بما يقال في العمل نفسه".
*"العناوين التي تعتمد على الكلمة الأولى أو القريبة من الأولى أو على مجموعة الكلمات الأولى من العمل".
* "إشارة نجمة أو ثلاث نجمات توضع في رأس العمل".
قد يظن القارئ أن النوعين الأول والثاني يشيران إلى مضمون القصيدة أو جودتها، وذلك لميل القارئ إلى الافتراض بأن العنوان غير اعتباطي، وإنما هو حكم خفي يطلقه الشاعر على قصيدته فالعنوان "القصيدة الأولى" قد يُفسَّر بأن القصيدة هي أفضل أو أهم قصيدة في المجموعة، وكذلك الأمر بالنسبة للعنوان الذي يتألف من مجموعة الكلمات الأولى من النص، فهذه الكلمات قد تُفسَّر بأنها الكلمات الأكثر مركزية، مما يجعل القارئ يبني توقعاته من القصيدة بالاستناد إليها، لكن بعد قراءته لهذه القصيدة يتضح له أن العنوان هو إرشادي وإشاري.
وهنا لا بد من التنبيه إلى أن هذا الأمر ليس صحيحا في كل الحالات، لأن هناك عناوين تبدو لنا مؤشرة لأنها عبارة عن تكرار لكلمات البداية، لكن بعد التعمق في قراءة النص يتضح لنا أن العنوان لا يهدف إلى الإشارة إلى النص، وإنما له هدف دلالي يتعلق بمضمون القصيدة. وهذا ما تؤكد عليه باروخ وفايسمن حين يقولان" بأن هناك مجموعة من العناوين تبدو مؤشرة، لكن عند الوصول إلى نهاية القصيدة تظهر هذه العناوين كعناوين دلالية" (1).
أما كليمان فيعتبر العناوين التي تكرّر السطر الأول من النص عامة أجزاء من التجربة الجمالية (2) . وهو بذلك يناقض فيري التي تقول بأنه" عندما يُملأ فضاء العنوان باقتباس يكرر سطرا أو عبارة من النص، فإنه ليس للكلمات المقتبسة- خاصة إن كانت عبارة عن السطر الأول من النص أو الكلمات الأولى منه- مكانة العنوان. أما إن كانت الاقتباسات من أماكن أخرى من النص فإن الأمر يختلف، لأن هذه الكلمات تبدو على الأقل وكأنها تقول شيئا ما عن القصيدة".(3)
والقول عن عنوان يكرر الكلمات الأولى من النص، بأنه مؤشر أو دلالي يتعلق بمقاصد الكاتب التي يمكن الوقوف عليها خلال قراءة النص. أما النوع الثالث من العناوين المؤشرة فيعتبر بنظر إشكاليا أكثر من سابقيه؛ إذ لا يمكنه الإشارة إلى النص أو التمييز بين نتاج وآخر، مما يعني أنه لا يستطيع القيام حتى بالوظيفة الإشارية.
ب) العناوين الدلاليّة: 1
بالإضافة إلى كون هذه العناوين تقوم بالوظيفة الإشارية، فإنها تهدف أيضا إلى الإشارة إلى مضمون العمل الأدبي، كالقصيدة مثلا، وتوجيه ذهن القارئ إليه بطرق مختلفة. وسنتعرض فيما يلي لكل طريقة من هذه الطرق من خلال الحديث عن كل قسم من أقسام العنوان الدلالي الآتية:
* العنوان الاختصاري: وهو يلخص فكرة العمل الأدبي المركزية، ويحوي بصورة عامة تلخيصا قصيرا للعمل من وجهة نظر الكاتب. وهذا العنوان يثير توقعات في القارئ، ومن ثم يقوم بتحقيقها. وإذا كان الحديث يدور عن عنوان قصيدة فيمكن القول بأنه كلما كانت الروابط بين تفاصيل القصيدة وهذا العنوان أكبر كلما ازدادت قوته الاختصارية. وفي مجال هذا الصنف من العناوين تدخل تلك العناوين التي تحوي أسماء مجردة أو محسوسة، يعتبرها الكاتب محور العمل الأدبي.
* العنوان الساخر: وهو يوجه توقعات القارئ لموضوع معيّن، إلا أن هذه التوقعات تكسر أثناء قراءة النص.
* العنوان المتمِّم: يعتبر هذا العنوان جزءا متمِّما للنص، قد يتضرر بدونه، وقد لا يُفهم على الإطلاق، وذلك لاحتواء العنوان على مركز العمل الأدبي. وغالبا ما يلعب هذا العنوان دور افتتاحية النص، وفي هذه الحالة نجد له ارتباطا مباشرا بالسطر الأول من النص، مما يجعله جزءا لا يتجزأ منه.
* العنوان المُحيط: هذا العنوان يناسب عوامل مختلفة في القصة أو القصيدة، ونجد فيه بعض التعقيد، ينبع من عدم التزامه لمضمون النص. وهو عنوان تعميمي بدرجة كبيرة، بحيث يمكنه أن يخلق جهاز توقعات متنوعا ومتعدد الإمكانيات. وقد يكون ذا علاقة بتفاصيل مختلفة في النتاج، كما قد يوجه القارئ إلى موضوع معيّن، لكنه يمكّنه من تفسير الأمور بأشكال مختلفة. وتكون العناوين المحيطة، بصورة عامة، عبارة عن أسماء (على الغالب أسماء مجردة)، لا تلزم القارئ بأي تأويل، وذلك لأن هذه الأسماء لا تمتلك صفة معيّنة. ومثال ذلك العناوين:
"أساطير"، "ندم" و"فشل". وتتحدث فايسمن عن أربعة طرق يحيط بها العنوان النص (1) :
أ) كلمة تلخص وضعا ما، وتكون بصورة عامة مجردة. مثال: "خطأ"، "كلمات"، "صورة"
ب) أسماء عامة، مثلا: "صديق"، "شاعر"، "فتاة" ج) أسماء شخصية، توجهات وإهداءات. وهناك عناوين تربط الأحداث الحاصلة في النص بشخصية معيّنة. مثلا: "فرعون"، "إلى روبرت فروست" د) أسماء غامضة، كأسماء الإشارة والضمائر التي تدل على الغائب، وتؤدي إلى غموض العنوان.وأهم
* العنوان الاتجاهي: وهو يشير إلى موقف الكاتب فيما يتعلق بموضوع معيّن، ويصاغ بقصد التأثير في رأي الجمهور وبلورته، وذلك من خلال الإقناع، النقد، التحذير، التشويق أو مساندة موقف معيّن.وقد تكون اتجاهية هذا العنوان واضحة، غامضة أو واقعة ما بين الوضوح والغموض.
* العنوان المثير: يهدف إلى جذب القارئ من خلال إبراز الجانب المسلي في النص وذلك بواسطة استخدام التضاد أو التأكيد على أمر شاذ.
* العنوان الموجِّه: وهو مفسر بعض الشيء، وموجه للقارئ. ويمكنه أن يعبر عن موقف، قصد أو ادعاء، أو يلخص مجموعة من الأفكار، أو يطرح سؤالا مبدئيا، أو يثير تداعيات، وهذا العنوان يدخل في إطار العناوين الواضحة في توصيل رسالة النص إلى القارئ.
* العنوان الإهدائي: وهو صنف معروف في الأدب، يُكرس لشرف شخص ما، قد تكون له علاقة بالنص أو لا تكون (2) . إن أغلب هذه العناوين (المؤشرة والدلالية)، يرد في أصناف، تناولت العنوان في الأدب عموما وفي الشعر خصوصا، أم عن أصناف العناوين في الأعمال الفنية (الرسم والموسيقى)، والتي عالجها ليفينسون في مقاله (1) فإن قسما منها يشترك مع بعض الأصناف السابقة في عدد من الميزات، ومع ذلك، نضيف أصنافا أخرى، وذلك لوجود ميزات إضافية ومختلفة فيه.إحدى النقاط التي يؤكد عليها ليفينسون في مقاله هي أنه لا يمكن أبدا أن يكون العنوان خاليا من القدرة الجمالية، التي بفضلها يمتلك قوة معيّنة ويسهم في عملية قراءة العمل (2). ويخوض ليفينسون في هذه القضية من خلال مناقشته لكيفية تأثير الأصناف السبعة الآتية في محتوى العمل (3):
*العناوين المحايدة (neutral titles): وهي تشبه العناوين المؤشرة إلى حد ما، ويعتبرها ليفينسون أبسط أصناف العناوين، لكون اختيارها أوتوماتيكيا عادة، ولكونها تعد هامشية للعمل. وهذه العناوين هي عادة عبارة عن أسماء شخصيات، أغراض وأماكن، تظهر بشكل بارز في جسد العمل. مجموعة أخرى من العناوين المحايدة، والتي قد تتواجد في القصائد، هي تلك العناوين التي تكرر الأسطر الأولى من القصيدة. ومثل هذه العناوين لا يلعب دورا جوهريا على الإطلاق، ولا يغير شيئا في القصيدة، ولا يؤثر في محتوى النص، ويهدف فقط إلى منح العمل اسما، أو السير وفق عادة منح العمل عنوانا.
ويجب التنبيه إلى أن ليفينسون لا يقصد بهذا أن يقول إن هذه العناوين لا تحوي قدرة جمالية ما، لأنه يوضح فيما بعد بأنه إن كان هناك اهتمام بمسألة العنونة فمن الضروري أن تمتلك هذه العناوين طاقة فنية .
* العناوين المشدِّدة (underlining titles): وهذه العناوين، بخلاف السابقة، تعتبر عامة أو جوهرية، لأنها تضيف وزنا إضافيا على لب محتوى العمل، أو تشدد على موضوع يعتبر جزءا منه. كما أن هذه العناوين تشهد على أهمية المسمى، وتؤكد وتثبّت ما يقوله جسد النص بشكل مستقل. وهي بذلك تشبه إلى حد ما العناوين الاختصارية.
* العناوين المركّزة/ المبئّرة (focusing titles): وهذه العناوين تلعب دورا فنيا بشكل أكبر. فالعنوان منها ينتقي موضوعا واحدا من المواضيع الرئيسية التي تكوّن لب محتوى النص ويجعله قائدا للعمل. وحتى نتمكن من اعتبار هذا العنوان مركزا، لا مشددا، يجب أن يكون هناك غنى معيّن في محتوى العمل، يتجلى في وجود عنصرين أو أكثر في داخله يعتبران هامين، وما يفعله العنوان المركز هو اقتراح ثيمة من بين الثيمات المتنازعة وإعطاؤها مكانة مركزية في عملية تأويل العمل. وينبه ليفينسون إلى أن العناوين المركزة لا تقوم بهذه الأمور بشكل مطلق، وإنما بنسبة معينة.
* العناوين المقوِّضة (undermining/ opposing titles): وتشبه إلى حد ما العنوانين الساخر والجزئي. إن ظاهر مضمون هذه العناوين مضاد لما تقصده بالفعل، وهي تناقض التصريح المؤقت بتصريح يميل إلى الاتجاه المعاكس. وعندما تستخدم هذه العناوين في الأعمال المركبة والطويلة، كالروايات والأفلام، فإنها تعتبر ساخرة (ironic)، لأنها تعني عكس ما تصرّح به. وبعض العناوين المقوِّضة لا يستوعب على أنه ساخر، بل كمؤكد من خلال تقويضه على فكاهة، هزة معيّنة أو حيرة.
* العناوين المربكة (mystifying titles): بدل أن تعزز هذه العناوين أو تحصر شيئا ما في جسد النص فإنها تنحرف تماما عن هذا الشيء. هذا الصنف من العناوين يعتبر الحيلة المفضلة عند السرياليين. ومثال ذلك عناوين بعض اللوحات السريالية التي لا توجد بينها وبين اللوحة التي تحملها علاقة واضحة، وتدفع المتأمل إلى اكتشاف أو اختراع صلة بينها وبين هذه اللوحة.
* العناوين غير الملبسة (disambiguating titles): وهي تشبه إلى حد ما العناوين المتممة. فهذا الصنف من العناوين يقوم بتحديد محتوى العمل بشكل أكبر مما كان عليه إن كان هذا العمل يبدو غامضا، ودون مساعدة هذه العناوين يبدو العمل طلسما.
* العناوين التلميحية (allusive titles): تتبع هذه العناوين بشكل غير مباشر لأعمال أخرى، لفنانين آخرين، لأحداث تاريخية وغير ذلك، فهي تربط العمل بأمور خارجية محددة. وبإمكان هذه العناوين أن تعمل على محتوى النص بالطرق الستة المذكورة، فتستطيع أن تشدّد، تبئّر، تقوّض وتخصّص محتوى العمل.
ويصنف الدكتور جميل حمداوي في مقال له (1) العنوان من حيث الشكل والموضع الى عناوين خارجية وعناوين داخلية وأخرى فرعية وفهرسية...
1- العنوان الخارجي:
يتوسط الغلاف الأمامي ويعتبر من أهم عناصر النص الموازي وملحقاته الأساسية. فهو أول عنصر يواجه القارئ أثناء تفاعله مع النص الروائي. ليس العنوان يافطة إشهارية إغرائية تستهدف دغدغة عواطف المتلقي فحسب، " بل هو استدعاء القارئ إلى نار النص، وإذابة عناقيد المعنى بين يديه.إن له طاقة توجيهية هائلة فهو يجسد سلطة النص وواجهته الإعلامية التي تمارس على القارئ إكراها أدبيا، ويمثل أيضا الجزء الدال على النص والرامي إلى إخضاعا لمرسل".(2)
ويقوم العنوان الخارجي بتقديم العمل الإبداعي والتعريف به وتوسيمه دلالة وبناء وتصورا. إنه بمثابة بطاقة ضيافة "carte visite" للنص مثلا، إنه يمنح القارئ مجموعة من الإشارات الضوئية حول مضمون هذا العمل. أي إنه يصف العمل الأدبي ويعكسه كليا أو جزئيا، أو قد لا يعكسه بطريقة مباشرة إذا كان العنوان يحمل أبعادا رمزية وشحنات انزياحية ثرية وهكذا، فالعنونة الخارجية طقس من طقوس التسمية (إعطاء اسم للكتاب).
وقد يتردد الكاتب كثيرا في اختيار اسم من الأسماء الكثيرة التي تراءى له أثناء تثبيت العنوان الخارجي، ينتقي منها في آخر المطاف ما هو ملائم ودال، ويصوغه بدقة وإحكام لأنه هو أول ما سيقرع السمع ويجذب النظر، ولأنه سينزل من الكتاب منزلة الوجه والغرة، وسيضطلع بمهام حاسمة تجعل الجمهور يفتتن به أو يتطير منه،وعليه سيكون العنوان مختارا بدقة معسول اللفظ يثير شهية الجمهور ويدغدغ مشاعره ويحرضه على الإقبال على الكتاب واقتنائه، كما يعتبر بمثابة نواة إخبارية عن محتويات النص وقضاياه المعالجة، ويشير جنيت G.GENETTE إلى "العلاقة الدالة التي تربط العنوان بالنص... العنوان هو اسم الكتاب، ومن حيث هو كذلك، فهو يستخدم لتسميته أي لتعيينه بأكبر قدر ممكن من الدقة مع تفادي أي خطر في الخلط، ولذا من الضروري معرفة تبريرات استخدامه".(3)
ويفرع الدكتور جميل حمداوي العنوان الخارجي إلى عناوين أخرى وذلك من خلال دراسة قارب فيها العنوان في الرواية العربية.1
1.1- العنوان التجنيسي:
يحدد هذا العنوان جنس الإبداع و هويته لذلك نجد مجموعة من الدواوين التجنيسية داخل العنونة الديوانية أو تفريعا عن العنوان الخارجي. فنجد العنوان الخارجي وتحته( غالبا) شعر أو قصة قصيرة أو رواية إشارة إلى جنس الإبداع الأدبي.
2.1- العنوان التشكيلي:
يمتح العنوان التشكيلي وجوده من فن الرسم و التشكيل و التبئير الأيقوني والتنويع في الألوان و الفضاءات الهندسية. وقد يترجم العنوان التشكيلي ملفوظات العنوان الخارجي اللغوي. ونجد هذه اللوحات العنوانية التشكيلية عند كثير من الشعراء الحداثيين مثل: إليوت، و بودلير، و رامبو، و صلاح عبد الصبور، وبدر شاكر السياب، و أمل دنقل، و نازك الملائكة...
3.1-العنوان الإشهاري:
يتخطى هذا العنوان المستوى الفني إلى المستوى التجاري والإشهاري، فيؤشر على مكان إصدار المنتوج و المطبعة التي سهرت على طبع الكتاب و نشره وتوزيعه وعنوان المطبعة و مكتب المؤسسة، بالإضافة إلى ثمن النسخة و شعار مؤسسة النشر أو الوزارة التي تكفلت بالإصدار. وهذا كله يدخل ضمن حيثيات النشر و سوسيولوجيا التسويق والتوزيع.
2- العنوان الداخلي:
1.2-العنوان الأساسي:
يتربع العنوان الأساسي قمة القصيدة و عرشها العلوي، وبالتالي، يحدد دلالات القصيدة وأبعادها الذاتية و الموضوعية.
2.2-العنوان السياقي:
يقصد بالعنوان السياقي ذلك العنوان الذي يحدد سياق القصيدة: تأريخا أو إهداء أو تحديدا لمناسبة القصيــدة، ويساعدنا هذا العنوان في اتســاق النص و خلق انسجامه، وفهم دلالاته و تأويله.
لذلك تذيل معظم القصائد بتاريخ النشر والكتابة ومكان الإبداع بتحديد اليوم أو الشهر أو السنة أو الفصل، علاوة على تحديد مكان النشر سواء خاصا كان أم عاما.
3.2-العنوان المقطعي أو الفرعي :
وهو عنوان مقطعي متفرع من العنوان الأساسي، كأن يتفرع عنوان مقطعي من ديوان شعري
4.2-العنوان الفهرسي أو المفهرس :
وهو إرفاق الدواوين الشعرية والقصص والروايات وأغلب الكتب في جميع المجالات بفهارس معنونة للنصوص الشعرية والعناصر الداخلية المشكلة لبنية النص .وقد صيغت بطريقة دلالية موضوعاتية مبوبة: ترقيما و تصنيفا و تقسيما.

**د لا ل**
2013-02-26, 22:02
من روائع لغتنا الجميلة

من بلاغة الإمام أبو بكر الشبلي رحمه الله عندما سئل :
أي شئ أعجب ؟ قال : قلب عرف ربه ثم عصاه .
وقال : ( مكر الله بك يا ابن آدم ) في إحسانه فتناسيت ,
وأمهلك في غيك فتماديت ,
وأسقطك من عينه , فما دريت ولا باليت .
وقال : إذا وجدت قلبك مع الله فاحذر من نفسك ,
وإذا وجدت قلبك مع نفسك فاحذر من الله .

وفي اللغة العربية من الروائع والجمال مايغني عن الوصف .
قيل للمبرد : إن في كلام العرب حشوا فأنهم يقولون :
عبد الله قائم, ثم يقولون, إن عبد الله قائم , ثم يقولون إن عبد الله لقائم, والمعنى واحد.
فقال لهم : عبد الله قائم إخبارا عن قيامه ,
وقولهم : إن عبد الله قائم :
جواب عن سؤال سائل ,
وقولهم إن عبد الله لقائم ردا على منكر قيام عبد الله

ومن روائع اللغة العربية أيضاً :
في تَرْتيب حُسْـنِ المـرأَة :
إذا رأيت جمالها من قريب و بعيد فهي حسناء
إذا رأيت جمالها من بعيد فقط في جميلة.
إذا كانت بهـا مسـحةٌ من جمال فهي : وضيئةٌ وجميلةٌ .
إذا أشـبهَ بعضُها بعضاً في الحُسـنِ فهي : حُسـَّـانةٌ .
إذا اسْـتَغنتْ بجمـالها عن الزِّيـنةِ فهي : غـانيــةٌ .
إذا كانت لا تُبالي أنْ لا تَلْبسَ ثوباً حسناً فهي: مِعْطـَالٌ .
إذا كان حُسْنُها ثابتاً كأنه قد وُسِمَ فهي : وَســيمةٌ .
إذا قُسـِمَ لها حظٌ وافرٌ من الحسـنِ فهي : قسـيمةٌ .
إذا كان النظـرُ إليها يسُـــرُّ الرُّوعَ فهي : رائعـة .
إذا غَلبتِ النســــاءَ بحُسْــنِها فهي : باهِـرَةٌ

************************************************** *

من بلاغة العرب

قال معاوية بن أبي سفيان لصعصعة بن صوحان: صف لي عمر بن الخطاب!
فقال: كان عالماً برعيته، عادلاً في قضيَّته، عارياً من الكبر، قَبولاً للعذر، سهل الحجاب، مَصون الباب، متحرِّياً للصواب، رفيقاً بالضعيف، غير مُحاب للقريب، ولا جاف للغريب.
وقال معاوية -أيضاً- لضرار الصدائي: يا ضرار، صف لي علياً!
قال: اعفني يا أمير المؤمنين.
قال: لَتصفنَّه!
قال: أما إذ لابد من وصفه؛ فكان -والله- بعيد المدى، شديد القُوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجَّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته.
وكان والله غزير العَبرة، طويل الفكرة، يقلِّب كفَّه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن.
وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن، مع تقريبه إيانا، وقربه منا، لا نكاد نكلمه لهيبته، ولا نبتدئه لعظمته، يعظِّم أهل الدين، ويحب المساكين،ولا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله.
وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه، قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول:
يا دنيا، إليك عني، غُرِّي غيري! ألي تعرَّضْتِ؟ أم إليَّ تشوقتِ؟ هيهات! هيهات! لقد باينتك ثلاثاً لا رجعة فيها؛ فعمرك قصير، وخطرك حقير، وخطبك يسير. آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.
فبكى معاوية حتى أخضلت دموعه لحيته، وقال: رحم الله أبا الحسن، فلقد كان كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال حزن من ذُبِحَ وحيدُها في حجرها.

**د لا ل**
2013-02-28, 18:20
النص الشعري القديم والنقد الحديث
مقاربة في نقد النقد
الدكتور حسين فيلالي

لا شك أن المناهج النقدية الحديثة قد أولت اهتماما بالغا لدراسة النص الأدبي، وزودت الدارس بآليات وأدوات إجرائية تساعده – إن هو أحسن استغلالها – على اكتشاف طاقات النص الإبداعية المحجبة، وجعلت النص الأدبي يتجدد بتجدد القراءة. القراءة التي تضيء أمكنة الشك، وتوسع من دائرة أمكنة اليقين حسب تعبير "مشال أوتون".
غير أن أول ما يواجه الدارس العربي هو اختيار المنهج النقدي وتطبيقه ومدى القدرة على التحكم في آلياته ذلك أننا وجدنا بعض الدارسين يأتي بمنهج جاهز أفرزته ظروف ثقافية واجتماعية مغايرة للظروف التي أفرزت النص الأدبي العربي،يسقطه بحذافيره عليه يمطط النص متى احتاج إلى ذلك أو يقص منه أجزاء ليستقيم مع التأويل الذي يقترحه فيقتل طاقاته ويشوه جماليته بدلا من أن يحييه، و يزينه.
إن المنهجية السليمة – حسب رأينا – تفترض أن يأتي الدارس إلى النص يحاوره، يستدره، بل يشاكسه حتى إذا ما عثر على إشارات تفضح أسراره أو أمارات يهتدي بها إلى سراديبه، وخباياه راح يكيف منهجه مع معطيات النص الإبداعي العربي مراعيا خصوصياته الجمالية والدّلاليّة. إن ما يجب أن نحذر منه هو الالتزام بالمنهج التزاما صارما إلى حد الإعلاء من صوته، والتعصب له حتى ولو أدى ذلك إلى خنق النص، وكتم صوته.
على الدّارس أن يراعي طبيعة النّص العربي القديم وألا يجعل المعنى الحرفي للدوال حكما على إبداعيته.
إن عليه أن يتساءل مثلا عن التشابه والاختلاف في توظيف موضوعة الطلل. لماذا نجد زهير يفصل في عناصر الطلل (النؤي ... الأثافي) ؟ في حين نجد امريء القيس في طلليته يقوم برسم جغرافية مرابع الحبيبة، ويحولها إلى مشاهد ماثلة أمام المتلقي تحركها خيوط الذاكرة.
إن البحث عن الدلالة في النص الشعري القديم معناه اللجوء إلى التأويل الذي يعتبره كوربان " مفتاح المعنى المتواري، والخفي وراء أو تحت العبارات الظاهرة المرئية".
إن فعل التأويل يعني الإنفراد بالنص في غياب مؤلفه، ودون إذنه ذلك أن الناص عندما يضع نقطة النهاية،فإنما هو يوقع ميثاق استقلالية النص،ويصبح مجرد قارئ كباقي القراء الآخرين،( وبعبارة أخرى عندما يتم إنتاج نص ما لا لكي يقرأه قارئ بعينه بل لكي يتناوله مجموعة كبيرة من القراء،فإن المؤلف يدرك أن هذا النص لن يؤول وفق رغباته هو بل وفق إستراتيجية معقدة من التفاعلات التي تستوعب داخلها القراء بمؤهلاتهم اللسانية باعتبارها موروثا اجتماعيا) .
فالنص هنا حسب إيكو أمبرطو إذ يستقل عن كاتبه، فإنه يؤول حسب رغبة ما ليست هي بالضرورة رغبة المؤلف، لأن هناك عوامل عديدة ذاتية وثقافية تتحكم في فعل القراءة.
إن رغبة التأويل يجب أن تخضع لمنهجية واضحة تأخذ بعين الاعتبار إستراتيجية تكوين النص المدروس وإلا تحولت إلى تهويل.

إن استقلالية النص عن صاحبه يجب ألا تفهم بالمعنى الذي يعني الانفصال التام ذلك أن روح المؤلف تظل تسري في أعماله، لا تفارقها حتى ولو فارقت الروح الجسد.إن استقلالية النص هنا هو انفصال في اتصال، فالنص مهما اكتسب شخصيته المادية بعد وضع المؤلف نقطة النهاية يظل ينتسب إلى صاحبه، يحمل جيناته الوراثية،الثقافية،والاجتماعية،والنفسية الواعية،واللاواعية والتي ستظل تسري في أنسجته وإلى الأبد.
إن التأويل هو توليد لمعنى النص وفق رؤية خاصة، تنطلق من خلفية ثقافة معينة،وتتسلح بمنهج ما غير أن هذا الفعل الممتع والخطير في الآن نفسه لا بد له من مولد يصبر على حمل النص حتى يبلغ تمامه، و لا يتعجل مخاضه ووضعه و إلا تسبب في إجهاضه، أو تشويه مولوده.
إن المكان / الطلل في الشعر الجاهلي دال، والصورة الشعرية دالة والطبيعة الحيّة، والصامتة دالتان، والزمن دال، واللغة في النظم الشعري قد تكون لها خلفية ميثية يوحي ظاهرها بما لا يضمر باطنها،و لها خطاب صريح وآخر مضمر.
وهذه الدوال الكبرى تتفرع إلى دوال صغرى ( الأثافي – النؤي - ألأواري – الجبل، الغزال، الناقة، الثور، الجبل-الزمن النفسي، الاجتماعي ...) ومن ثمة قد يجر تأويل دال من هذه الدوال إلى الوقوع في غواية النص، والافتتان به والميل نحوه، وتضخيمه، وحصر كل أبعاد القصيدة فيه أو إلى النفور من النص، والتقليل من شأنه ووصفه بالشفاف الذي يمكن لأي قارئ أن يتمكن من ولوجه وكشف معانيه.
وفي كلتا الحالتين نقع فيما يمكن أن نسميه التقول على النص، والتحدث نيابة عنه، وبالتالي ننتج خطابنا الخاص ونغيب خطاب النص، ونخنق صوته فيأتي متقطعا لا يبين عن حقيقة رسالته.
إن الافتتان بالنص في جوهره اتصال، والنفور منه انفصال، وقد يتحول الافتتان إلى انفصال عن النص، والنفور إلى اتصال بالنص، ذلك أننا قد نعجب بنصّ ونفتتن به ونكتب عنه، وننطقه بما هو ليس فيه إرضاء للنص أو للناص فيكون ذلك انفصالا عن النص، أي الكتابة خارج إستراتيجيته، أو تكون الكتابة رجعا لصوتنا.
وقد ننفر من نص ما لأنه يخالف رؤيتنا ولا يستجيب لذوقنا، فنحاول الكتابة ضده فنخلق اتصالا معه – دون وعي منا – ونجد أنفسنا مرغمين على الاستماع إلى صوته فننتج خطابا قد لا يعلو فوق خطاب النص، ويعجز عن التعمية على جماليته.
إن الثقافة هي التي تفرز المنهج، وتنتج المصطلح، والمنهج إذ يترعرع داخل ثقافة ما، فإنه يتجذر فيها، ويتشرب عناصر التربة التي غرس ونما فيها.
وحتى وإن بدا لنا ظاهريا أن المنهج مجرد من رواسب هذه التربة، ومتكيف مع كل المناخات الثقافية، فإن التحليل العميق يكشف خلاف ذلك.
ولذا لا يمكن نقل المنهج من تربة غريبة، وتطبيقه على أدب نما،وترعرع في بيئة ثقافية، ووجدانية مخالفة له دون نقل بعض رواسب هذه التربة، مهما بلغنا من جهد ومهما أوتينا من علم، وصدق النية، ولذا علينا أن نعمل – إن أفلحنا – على تكييف المنهج المستورد قدر المستطاع(تبيئته)، وألا نرغم النص الشعري القديم على البوح بما هو ليس فيه، أو الاعتراف القصري بسلطة المنهج المطلقة على النص تحيزا للمنهج، وإعلاء لصوته على صوت النص، فنغرب النص عن بيئته الثقافية، ونباعد بيننا وبينه.
ونعتقد أنه من الصعب أن نعقد ائتلافا ينصف النص الأصلي، ويرضي المنهج المستورد دون الميل مرغمين إلى أحدهما.
والمحصلة حسب رأينا لا تخرج عن أمرين :
1- إما أن يتنازل المنهج عن بعض خصائصه، ويخفف من صرامته ويذعن لشروط إنتاج النص: شرط الثقافة، والبيئة، والرؤية الجمالية، لأن النص حسب رأينا يعرّف بالثقافة التي نبت فيها.
2- وإما أن يتنازل النص، ويسلم أمره لمبضع المنهج يقص منه ما يشاء، ويرغمه على البوح بما لا يشاء. وفي اعتقادنا، فإن على المنهج أن يتنازل للنص عن شيء من صرامته حتى يستفيد من خدماته، وألا يأتيه من منطلق متعال، و يخاطبه من مكان بعيد.
إن على المنهج أن يستمع إلى صوت النص، ويحسن الإنصات، لأن المنهج متحول والنص ثابت، والنص مستغن بذاته، والمنهج تابع، متعلق بالنصوص لإثبات شرعيته.
والخلاصة، أن هذا الطرح قد يبدو في ظاهره مثبطا للعزائم، وداعيا إلى التقوقع على الذات، ورافضا لكل اقتراض من الثقافات الأخرى، ومعاد لكل دخيل على الثقافة الأم، ولكن من يتأمله في جوهره يجده دعوة إلى المصالحة مع النصوص العربية النقدية والشعرية -خاصة القديمة -التي ما فتئ بعض النقاد العرب يتلذذون بجلدها، وتقزيمها وإرغامها على لبس لباسا غريبا عنها، لا يواري سوءة، ولا يحمي جسدا، فكان هذا الفعل أشبه بالطبيب الذي يداوي قرحة المعدة بالأسبرين، فلا مرضا أشفى، ولا جسما عليلا أبقى.
إن النقد في جوهره تعريف للمنكر، واكتشاف للمضمر، وإبداع على إبداع وحرف الجر هنا يدل على الارتقاء، أي الارتقاء في سلم درجات النص الفكرية،و الجمالية.
وقد يعترض معترض علينا بالقول : إن المنهج لا يقبل التجزئة فهو سلسلة من الآليات والإجراءات المتوالية التي لا يمكن التفريق بينها أو الاستغناء عن حلقة من حلقاتها، وإلا اختل ميزان المنهج.
إن هذا التوالي المزعوم قد يكون مشروعا في العلوم المجردة كالرياضيات مثلا، لأن جدول التغيرات في الدوال، له علاقة بمجال التعريف، والنهايات لها علاقة بالرسم البياني...، ويفقد هذا الزعم مبرراته في العلوم الإنسانية، لأننا يمكن أن نجمع بين عناصر أكثر من منهج واحد في الممارسات التطبيقية، فنكون بنيويين وسيميائيين في الآن نفسه أو نأخذ بمنهج تكاملي، بحيث نستفيد من آليات أكثر من منهج وهو ما يقع بالفعل حتى عندما نتعصب لمنهج واحد، لأن الحدود بين المناهج تبقى افتراضات نظرية يستحيل احترامها في واقع التطبيق.
لكن المؤسف عندنا أن تتحول تطبيقات بعض نقادنا على النصوص العربية القديمة إلى تنكير لها، وتعمية عليها، وتقبيحا لجمالياتها، وتمزيقا لنسيجها، وبهذا يحتاج المتلقي العربي في الكثير من الأحيان إلى وسيط ثان يترجم له من لغة مكتوبة بأحرف عربية، صيروها غريبة عنه إلى لغة عربية مألوفة.
وقد يحتاج المتلقي إلى نساج يرتق ما مزقه النقد من أعضاء النص حتى يتمكن من التعرف على صورته الأصلية.
وهكذا أضحت اللغة النقدية على أيدي بعض الدارسين المحدثين عاجزة حتى عن القيام بوظيفة التواصل مع القارئ العربي، و صار النقد التطبيقي عند بعض المحدثين يتكلم بلغة تستعمل حروفنا لكنها لا تنتج أساليبنا ولا تراكيبنا، لغة ميتة لا أحاسيس فيها، فغدت غريبة عنا، وغدونا في أمس الحاجة إلى من يترجم بيننا، وبين ما يكتب هؤلاء النقاد، وهم من بني جلدتنا ويتكلمون لغتنا.
على المنهج أن يحاور النص، دون استعلاء، أو وصاية، فالنص ليس قاصرا حتى يحجر عليه الكلام، لخدمة المنهج النقدي، وعلى المنهج ألا يسعى إلى تجريد النص من خصوصياته بحجة علمنته.
لا يمكن أن يتحول النص الأدبي إلى علم مجرد من الأحاسيس، أو إلى رموز صماء، أو معادلات أو متراجحات رياضية خالية من الانفعالات، و المرجعيات الأيديولوجية مهما أوهمنا أنفسنا بذلك، وصدقنا أوهام النقاد، وبذلك يصبح النص الأدبي حسب اعتقادنا خارج دائرة العلم، وخارج قوانينه الصارمة فهو يتموقع خارج التقنين الجامد. لذا، لا أحد يدعي التفرد بمعرفة كامل أسرار النص حتى وإن كان كاتبه.
إن العلامة النصية على عكس العلامة المعجمية تخضع لمجموعة من الشروط، والقواعد النّصية، والتي تجعل بعضها يتعلق ببعض كما يقول الجرجاني، ويجر بعضها بعضا، ويؤثر بعضها في بعض، ويصبح للفظة أسرة نصية جديدة تحكمها القرابة النّصية.
ففي هذا الوضع الجديد تصبح العلامة وكأنها نقلت من بيتها القاموسي إلى بيت النص لتحيا حياة جديدة دون أن تقطع الصلة الكاملة مع مناخ بيتها القديم.
إن العلامة اللغوية حين يتم نقلها من بيت القاموس إلى بيت النص تصبح لها حياة ثانية تكتسبها من وضعها في التركيب الجديدة ذلك "أن الدلالة تمر فقط عبر النصوص التي هي الموضوع الذي يتولد منه المعنى، ويولد فيه (الممارسة الدلالية).
وفي هذا النسيج النصي لا يمكن علامات القاموس من حيث هي مرادفات مقنّنة أن تطفو على السطح إلا في حالة تصلب المعنى، وموته" .
وحسب إيكو، فإن المعنى النصي يمر عبر نسيج النص، و لا يمكن أن يطلب في علامات منفردة.
والعلامة النصية بهذا المفهوم تستمد روحها من روح النص،ولهذا يحذر الدارس أن يتسبب في إعلال النص كما يقول إيكو أمبرطو (تصلبه)، أو موته، وذلك بمحاولته عزل المفردة عن نسيج النص وتأويلها خارج السياق النصي.
إن مهمة دارس النص الإبداعي الأدبي هي- في الأصل- السعي إلى تحقيق شيئا من حياة النص، وبعثه ليحيا في زمن ليس هو بالضرورة زمن إنتاجه.
غير أن محاولة بعث النص فعل ممتع، وخطير، ممتع لأن النص إذا ما أحسنا محاورته فتح أمامنا عوالمه الثقافية، والحضارية، والجمالية. عوالم كانت مجهولة لدينا ، أو صورتها كانت تأتينا مشوشة بفعل بعد الزمن، أو بفعل بعض القراءات المتسرعة التي ترى النص الشعري الجاهلي –خاصة- على أنه نص شفاف ترى معانيه – حتى لقصار النظر- من مكان بعيد وهذا مكمن الخطر.
ولعل مثال القراءة المتسرعة، المبتسرة التي تقطع أوصال النص، وتتسبب في إعلاله، بل موته، وتتقول عليه، وتقرر النتائج قبل ولوج النص ما نجده في دراسة الدكتور أنور أبو سويلم المعنونة: قراءة جديدة في معلقة عنترة ابن شداد.
يقول أبوسويلم معلقا على مطلع معلقة عنترةhttp://lissaniat.net/images/smiles/icon_sad.gif وفي مطلع المعلقة إشارة واضحة تأتي من الأعماق المظلمة في نفسية عنترة تكشف عن إحساس مبهم قابع في نفس تحس الذل والمهانة من الهجنة والعجمة:
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم
أعياك رسم الدار لم يتكلم
حتى تكلم كالأصم الأعجم

ولقد حبست بها طويلا ناقتي
أشكو إلى سفع رواكد جثم)
وقد بحثت في مطلع المعلقة عن الإشارة الواضحة الدالة على الأوصاف التي ألصقها أبوسويلم بعنترة فلم أجد إلا سوء فهم للنص، وتأويلا يحمل النص ما لم يحتمل، و يفرض على النص خطابا غريبا عنه.
ويتابع أبو سويلم قوله( ...لذلك كان رسم الدار صامتا لا يستجيب لهذا الحب لأن العاشق غريب أعجمي...) .
ولا ندري لماذا تجاهل أبو سويلم كلام رسم الدار، والضمير العائد عليه في شطر البيت الثاني (حتى تكلم كالأصم الأعجم).؟
إن رسم الدار لم يبق صامتا كما اعتقد أبو سويلم،وإنما تكلم بلغته الخاصة لغة الأصم، الأعجم•، ( فالأجسام الخرس الصامتة ناطقة من جهة الدلالة ومعربة من جهة صحة الشهادة على أن الذي فيها من التدبير والحكمة مخبر لمن استخبره وناطق لمن استنطقه...).
وينتقل أبو سويلم من تحريف معاني النص إلى التقول عليه، وتمزيق نسيجه وذلك بعزل الألفاظ عن سياقاتها، وإعطائها دلالات مستجلبة من القواميس: <أن المشكلة التي بدأت من الرق والعبودية تتبلور في اختلاف الطبقة الاجتماعية بين العبيد والفقراء والأسياد و الأغنياء دار عبلة" بالجواء" وهذه إشارة إلى الخصب والغنى لأن" الجواء المنخفض من الأرض وبطن الوادي" وهذه المفارقة بين غنى عبلة وفقر عنترة نلحظها في البيت التالي:
وتحل عبلة بالجواء وأهلنا
بالحزن فالصمان فالمتثلم
ونتعجب من هذا الاستنتاج، إذ لا ندري أين تتجلى المفارقة في البيت المستشهد به على غنى عبلة وفقر عنترة؟
وهل يكفي في" القراءة الجديدة" ورود لفظة الجواء في البيت حتى يبني عليها الدارس كل هذه الأحكام، ويحملها كل هذه الدلالات دون مراعاة للجو العام للقصيدة؟
ألا يمكن أن يكون هذا الوادي جافا خاصة ونحن نعرف طبيعة أودية الصحراء؟
إن من يعود إلى شرح القدماء للمعلقات يجدهم أدق منهجية من أبي سويلم فهم لا يعزلون هذه اللفظة عن السياق الذي وردت فيه، ولم يحرفوا معناها النصي كما فعل أبو سويلم، فقد ذهب الزوزني في شرحه للمعلقات السبع إلى أن <الجو: الوادي، والجمع الجواء، والجواء في البيت موضع بعينه).
ولم يخرج الخطيب التبريزي في شرحه للمعلقات العشر عن هذه المعنى فالجو عنده ( بلد يسميه أهل نجد جواء عدنة، والجواء أيضا جمع جو وهو البطن من الأرض الواسع في انخفاض)
وقال أبو جعفر النحاس في شرحه للمعلقات: ( الجواء: بنجد والحزن لبني يربوع والصمان لبني تميم).
والجواء عند الأعلم الشنتمري هو موضع بعينه أو هو جمع جو، وهو المطمئن من الأرض المتسع.
وقد وجدنا فوزي عطوي- وهو من المحدثين - لا يخالف مذهب القدماء "فالجو عنده بفتح الجيم أو بكسرها: جمع الجو أي الوادي،وهنا بمعنى اسم مكان معين".
إن الجو العام للقصيدة لا يبرر النحو الذي نحاه أبو سويلم في قراءته "الجديدة "ذلك أن القصيدة –وخاصة البيت المستشهد به - لا يهدف إلى تجسيد الفارق الطبقي بين العبيد، والشرفاء كما حاول أبو سويلم أن ينطقه به قسرا وإنما أراد الشاعر- حسب فهمنا - أن يعبر عن نأي الحبيبة، وبعد مضاربها، ولعل في سياقات الأبيات التالية ما يدعم رأينا :

1"- وتحل عبلة بالجواء وأهلنا
بالحزن فالصمان فالمتثلم
2- شطت مزار العاشقين فأصبحت
عسرا علي طلابك ابنة مخرم
3-كيف المزار وقد تربع أهلها
بعنيزتين وأهلنا بالغيلم"
ويتابع أبو سويلم تعليقه على البيت رقم واحد: (من الضلال الأعمى تفسير هذا البيت وفق المفاهيم الجغرافية، لاستحالة أن يحل أهل عنترة في أماكن جغرافية متباعدة على نحو ما في البيت) .
وما فات أبو سويلم هو أن ما فعله الشاعر في البيت لم يعد كونه عدد مضارب أهل الحبيبة وهو فعل شائع في الشعر الجاهلي•، و لا ندري كيف لم ينتبه الدارس إلى حرف الباء،والفاء، فالباء تفيد الحلول بالمكان (بالحزن) غير أن الفاء تفيد التعاقب (فالصمان،فالمتثلم).
ويبلغ التقول على النص ذروته حين يتابع أبو سويلم تعليقه (..وتعميم الجغرافيا على الأدب يؤدي إلى التبسيط الساذج لأن اختيار الأماكن له ارتباط وثيق بالفكرة التي انتهى إليها في البيت السابق وهي المفارقة بين الأسياد، و الأغنياء، والعبيد، والفقراء فأهل عبلة أثرياء مخصبون و أهله فقراء مجدبون،أهل عبلة لهم نعم، وشاء، وفيهم ثراء، و أهله لا يملكون شيئا فهم يقطنون أماكن صخرية،جرداء ولفظ الجواء يوحي بالسعة والرحابة و ألفاظ الحزن والصمان والمتثلم تفيد القسوة والسغب والشظف. واستخدام التضاد الجغرافي هنا مشحون بإحساس عميق بالفارق الطبقي بين العرب الصرحاء والعبيد الهجناء....)
إن قراءة أبو سويلم تجعلنا نتساءل عن التضاد الجغرافي المزعوم الذي انتهى إليه البيت المذكور؟ وعن القرائن النصية التي تبين المفارقة المزعومة في البيت بين الأسياد، والأغنياء، والعبيد، والفقراء، وبين أهل عبلة الأثرياء،المخصبون، و أهل عنترة الفقراء، المجدبون،وبين أهل عبلة الذين لهم نعم، وشاء، وفيهم ثراء، وأهل عنترة الذين لا يملكون شيئا.؟
إن ما قام به أبو سويلم هنا يمكن أن نسميه بالقراءة الخارجة عن النص المتحدثة -من دون تفويض- نيابة عنه، المنطقة له بما تريد، المتغاضية عن سياق النص.
ويبلغ هوس البحث عن الصراع الطبقي بالدارس إلى حد الإساءة إلى النص والتقول عليه وذلك حين يشرع في التعليق على بعض الأبيات• (وقد نلحظ السخط من ذالك النظام الاجتماعي المثقوب في الكنية"ابنة مخرم" وقد نحس تهكما أليما من ثقوب المجتمع وعيوبه،والذي يساوي بين المرأة"الخرماء التي تثقب أذنيها لتزينها بالشنف" وبين أبناء القبيلة من الإماء"المخرومي الشفاه، والأذان والأنوف" رمزا للعبودية والرق.ويشير في البيت الأخير إلى صعوبة التقارب بين مستويين مختلفين متناقضين :أهلها في ربيع وخصب وغنى وأهله في جدب وقحل ومحل،أهلها سادة شيوخ وأهله أرقاء مستعبدون، أهلها بعنيزتين في ربوة عالية وأهله بالغيلم في ظلمات بئر سحيقة...)
ونعجب لهذا التناقض الذي سقط فيه الباحث ذلك أن عبارة " ابنة مخرم"في البيت التي بنى عليها الدارس كل تعليلاته هي كنية، أوصفة لوالد عبلة مما يجوز لنا - حسب منطق الباحث – أن ندخل والد عبلة في زمرة العبيد المخرومي الشفاه، وننفي عنه صفة السيد،الشريف الذي سبق للباحث أن وصفه بها .
ولعل التناقض الصريح، وسوء الفهم الواضح يتجلى في تأويل الباحث لدلالات الأبيات التالية:

إن كنت أزمعت الفراق فإنما
زمت ركابكم بليل مظلم
ما راعني إلا حمولة أهلها
وسط الديار تسف حب الخمخم
فيها اثنتان و أربعون حلوبة
سودا كخافية الغراب الأسحم

فهو يذهب إلى أن (الذين يرحلون ليلا لا يكونون إلا خائفين أو مهزومين والإبل تسف حب الخمخم لأن القوم مذعورون فزعون يحثون الإبل على السرعة فتلتقط الأوراق اليابسة سفا.)
ولعل وجه التناقض وسوء الفهم يكمن في:
- أن الباحث قد سبق له و أن وصف أهل عبلة بأنهم أسياد شرفاء، أغنياء، ومن كان هذا هو حالهم لا نخالهم يرحلون كما زعم الدارس ليلا خائفين مهزومين مذعورين.
ثم أن من أخبر الصحراء يعلم أن البدو يرحلون ليلا أو على الأقل في الصباح الباكر لأن طبيعة الصحراء الحارة ترغمهم على ذلك.
- أن الباحث لم يفهم الأبيات فحرف معناها ذلك أن الشاعر يصور في الأبيات المذكورة لحظة التأهب للرحيل وليس كما فهم هو –خطأ - من أن القوم كانوا خائفين، فزعين يحثون الإبل على المسير وهي تلتقط حب الخمخم.

ودليلنا على ذلك هو أن لفظة وسط الواردة في البيت:
ما راعني إلا حمولة أهلها
وسط الديار تسف حب الخمخم.
فالإبل ما تزال وسط الديار تسف حب الخمخم وهي إشارة إلى قرب الرحيل وهو ما ذهب إليه الزوزني حين علق على البيت بقوله: ( ما أفزعني إلا استفاف إبلها حب الخمخم وسط الديار أي ما أنذرني بارتحالها إلا انقضاء مدة الانتجاع والكلإ فإذا انقضت مدة الانتجاع علمت أنها ترحل إلى دار حييها)
ولعل إخضاع النص الشعري لفرضيات مسبقة خارجة عن سياقه ومحاولة البحث لها عن تبريرات في النص هي التي أدت بالباحث إلى التعسف في تأويل الأبيات التالية:
إذ تستبيك بأصلتي ناعم
عذب مقبله لذيذ المطعم
وكأنما نظرت بعيني شادن
رشإ من الغزلان ليس بتوأم
وكأن فارة تاجر بقسيمة
سبقت عوارضها إليك من الفم
أو روضة أنفا تضمن نبتها
غيث قليل الدمن ليس بمعلم
جادت عليه كل بكر حرة
فتركن كل حديقة كالدرهم
سحا وتسكابا فكل عشية
يجري عليها الماء لم يتصرم
فترى الذباب بها يغني وحده
هزجا كفعل الشارب المترنم
غردا يسن ذراعه بذراعه
فعل المكب على الزناد الأجذم.)
نقرأ في تعليق أبو سويلم على هذه الأبيات ما يلي: " لا تستطيع وأنت تقرأ وصف الروضة أن تلغي من ذهنك صورة عبلة المرأة الحرة الصريحة النسب التي تبحث عن السيادة والشرف وقد أرادها الشاعر أنفا لم يطأها رجل، ولم تخطر على قلب بشر، غمرها المطر الجود فاكسبها طهرا ونقاء وصفاء...وفي نعت السحابة ب"بكر"، و"حرة" رغبة مكينة في أن تكون عذراء طاهرة ولكن المشكلة تكمن في "الدرهم" والثروة والغنى الذي تسعى له المرأة ومن أين للعبيد في المجتمع الجاهلي المال والذهب؟ المال القليل لا يرضيها، لأنها تريده "سحا وتسكابا" لا حدود لهن ولا تجده إلا عند العربي الصريح الشريف النسب،الواسع الثروة لذلك لم يمتلكها إلا الغني الذي تفرد بها فرحا طربا نشوانا بوحدته وانفراده على الرغم من نقائصه الخلقية وعدم مروءته وخبث سجاياه وإلحاحه الكريه فهو بمثابة الذباب في البحث عن المتع وعدم العفة وهو المكب على الزناد الأجذم يشعل النار في الحطب أو هو الذي يسعى لإشعال الحرب أو على اقل تقدير في قلب الشاعر الملتهب وجعله أجذم رمزا لعجزه وخرقه.)

إننا فعلا أمام مشكلة أساسها إسقاطات لا يبررها السياق النصي و لا تتحملها الصور الشعرية، وليست المشكلة( في "الدرهم" والثروة والغنى الذي تسعى له المرأة ومن أين للعبيد في المجتمع الجاهلي المال والذهب؟ المال القليل لا يرضيها، لأنها تريده "سحا وتسكابا" لا حدود لهن ولا تجده إلا عند العربي الصريح الشريف النسب،الواسع الثروة لذلك لم يمتلكها إلا الغني الذي تفرد بها فرحا طربا نشوانا بوحدته وانفراده..).
إن المنهجية السليمة تدعونا ألا نطلق الأحكام دون قرائن نصية، وإلا أصبح فعلنا تقولا على الناص. إن قراءة النص ليست هي مجرد وصف له، وإنما هي كشف للمنكر من النص ولذلك لا بد لنا أن نستند على قرائن نصية تجعل فعلنا يأخذ شرعية القراءة الممنهجة.
إن الممنهجة السليمة تفترض على الدارس أن يقف عند حدود النص الدلالية وإلا أصبح فعله إخلالا بالميثاق المعنوي الموجود بين القراء والنص. إن ميثاق القراءة يفرض على القاري أن يحاور النص وأن يحصر فعله ضمن احتمالات دلالات النص الممكنة وإلا أصبح ما يقوم به اعتداء على النص ومساسا بحرمته.
ولكن كيف نضبط حدود النص الدلالية؟
ومن هو المؤهل للقيام بهذه العملية؟
إننا ندرك صعوبة الإجابة عن هذين السؤالين، ذلك أن لا أحدا يدعي التفرد بمعرفة رسم حدود ثابتة لدلالة العمل الأدبي حتى وإن كان كاتبه، لأن النص دائم الحركة، وحركته دليل حياته.
تحرك القراءة النص، وتنتقل به- في بعض الأحيان مرغما - من اتجاه إلى آخر قد لا يكون دائما وجهته السليمة، ولكن ما يمكن أن نحدده هو أن هذا الاتجاه، أو ذاك هو من الاتجاهات المنحرفة عن النص المحرفة لدلالته.
ولعل تحريف وجهة النص هي العبارة التي يمكن أن نصف بها عمل أبا سويلم .
إن التحكم في آليات المنهج النقدي تبقى من ألأمور المساعدة لدارس النص ما لم يتعصب للمنهج وينساق وراءه فيتسبب في خلق علاقة تنافر بين النص والمنهج.
إن الجمع بين المنهج والنص يدفعنا:
1 - إما أن نجعل النص يتكلم والمنهج يصغي لصوت النص فننتج خطاب النص وقليلا من خطاب المنهج،و إما أن نجعل المنهج متكلما والنص مستمعا فننتج خطاب المنهج وقليلا من خطاب النص كما هو الحال في دراسة أبو سويلم فلقد بحثنا عن احتمال معنى ما ذهب إليه الدارس في الأبيات المذكورة فلم نجد قرينة نصية واحدة تبرر ما ذهب إليه الباحث من أن عبلة تبحث عن المال والثروة، والغنى وتريده سحا وتسكابا بل وجدنا لفظ الدرهم الذي بنى عليه الباحث تعليلاته قد عزل من سياقه وافرد كما لو هو لفظ منبت الصلة مع ما يسبقه من الألفاظ في الجملة وما يتبعه.
إن اللفظ يتحرك هنا وفق أسلوب يقيده الاستعمال الخاص فهو في البيت يبقى صفة للحديقة ولا يفهم إلا في هذا الإطار:
جادت عليه كل بكر حرة
فتركن كل حديقة كالدرهم
فالزوزني، وغيره يذهب إلى أن معنى البيت هو أنه (مطرت على هذه الروضة كل سحابة سابقة المطر لا برد معها أو كل مطر يدوم أياما ويكثر ماؤه حتى تركت كل حفرة كالدرهم لاستداراتها بالماء وبياض مائها وصفائه. ..أصابها المطر صبا وسكبا فكل عشية يجري عليها ماء السحاب ولم ينقطع...)
2 - وإما أن نجعل النص يتحاور مع المنهج فيتقبل النص من المنهج ما يقع في حدود دلالته ويتم بذلك إنتاج حوار النص والمنهج.
إن أبا سويلم في دراسته الجديدة هذه لم يحترم الحدود الدلالية للنص وأظهر تحيزا سافرا للمنهج فأنتج خطاب المنهج، وغيب خطاب النص.إن ما يمكن لنا أن نستنتجه من هذه القراءة هو رغبة الدارس في توظيف المنهج الاجتماعي -وهو من حقه- لكن ما هو ليس من حقه أن يتكلم نيابة عن النص فلا يحسن الكلام فيصور عبلة مرة على أنها تلك المرأة التي تبحث عن الثروة والمال بل تريد المال كما يقول أبو سويلم سحا وتسكابا ومرة على أن لها ذيلا تشيل به كالناقة، وأنها ماسو كية تتلذذ بتعذيب الآخر وذلك حين يشرح الأبيات التالية:
هل تبلغني دارها شدنية
لعنت بمحروم الشراب مصرم
خطارة غب السرى زيافة
تقص الإكام بكل خف ميثم
وكأنما تقص الإكام عشية
بقريب بين المنسمين مصلم
يأوي إلى حزق النعام كما أوت
حزق يمانية لعجم طمطم
يتبعن قلة رأسه وكأنه
زوج على حرج لهن مخيم
صعل يعود بذي العشيرة بيضه
كالعبد ذي الفرو الطويل الأصلم
شربت بماء الدحرضين فأصبحت
زوراء تنفر عن حياض الديلم)
"فعبلة تشعر بالكبرياء والعجرفية فهي لذلك (خطارة وزيافة) تبحث عن الغنى والجاه لا تلتفت وراءها تندفع اندفاعا أعمى نحو المجد والذكر، لا تبالي الآلام، تستعذب الجرح في سبيل هواها وغرائزها وتقاليد مجتمعها....).
إن المتلقي لقراءة أبي سويلم" الجديدة " يجد نفسه أمام نصين متوازيين نص القاري أبو سويلم، ونص الشاعر عنترة.
إن مثل هذه القراءة المتعسفة لا تسهم في إحياء النص المدروس ولا تضمن له الاستمرار في الزمن بل توقف حياته وتحوله إلى جثة.
إن النص الجثة هو نتيجة القراءة المتسرعة غير الواعية بالمسؤولية، القراءة التي لا تحترم شروط إنتاج وحركيه النص، فتحول النص إلى أنقاض متوهمة أنها تعيد بناءه وهي لا تدري أنها تمارس اغتياله.
إن اغتيال النص معناه إجباره على أخذ الوجهة التي لا يحتملها، وتقويض أساسه فيتحول من نص ينبض بالحياة التي أودعها فيه كاتبه إلى جثة نصية.






هوامش الدراسة:


- 1 -لقد فصلنا في هذه المسالة في كتابنا-السمة والنص السردي- مقاربة سيميائية في شفرة اللغة-سلسلة بصمات4- منشورات رابطة أهل القلم-سطيف
-2 - محمد شوقي الزين –تأويلات وتفكيكات – فصول في الفكر الغربي المعاصر- المركز الثقافي العربي الدار البيضاء المغرب-ط1 /2002 / ص 27
3 - إيكو أمبرطو-التأويل بين السيميائية والتفكيكية- ترجمة سعيد بنكراد- المركز الثقافي الدار البيضاء-ط1/2000/ص:85/86

4 - إيكو أمبرتو، السيميائيات وفلسفة اللغة- ترجمة أحمد الصمعي-مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت-ط1/2005/ص:66 ،
- - 4م،س، ن، ص,
-5- أنور أبوسويلم –دراسات في الشعر الجاهلي –دار الجيل – بيروت ط1 - 1987 ص 13
-6- م، ن ، ن ، ص .
• الأصم الأعجم: الأطرش الأخرس – المتردم: ما يصلح، على ما فيه من الوهن.والمعنى:هل ترك الشعراء قبلي شيئا يقال الشعر فيه،دون أن يقولوه؟ رسم الدار:ماتبقى من آثاره. الرواكد: الأثافي ،شرح المعلقات العشر-تحقيق فوزي عطوي –الشركة اللبنانية للكتاب – بيروت – ب.ط. 1969
- 7-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ –كتاب الحيوان،ص :34
- - 9 أنور أبو سويلم م، س،ص: 14
10- - - عبد الله الحسن بن أحمد الزوزني –شرح المعلقات السبع –تحقيق محمد الفاضلي –المكتبة العصرية بيروت –ط. 1/ 1998 ,وفي شرح الخطيب التبريزي حل:يحل فهو حال إدا نزل.وحل يحل إدا وجب فهو حال,وحل من إحرامه يحل فهو حلال،ولا يقال حال,والصوان و"الصمان": موضع.ويقال جبل, والصمان والصوان في الأصل: الحجارة,والصوان يستعمل لحجارة النار خاصة,وكانت العرب تدبح بها.
- 11 - الخطيب التبريزي - شرح المعلقات العشر –تحقيق فخر الدين قباوة – دار الفكر- دمشق سوريا –ط,1/1997
- -12م، ن، ص: 211
13- - الأعلم الشنتمري، يوسف بن سليمان بن عيسى-أشعار الشعراء الستة الجاهليين- ج1 -دار الفكر بيروت – لبنان- ب,ط/1990 ,
-14شرح المعلقات العشر،تحقيق فوزي عطوي ، م ، س ، ص: 137
-15 أنور أبو سويلم – م ، س ص: 14/15
- 16 م، ن، ص: 15
• ينظر على سبيل المثال مطلعي معلقتي امريء القيس وعبيد ابن الأبرص .
-17أنور أبوسويلم ، م، س -ن ،ص.
• الأبيات المقصودة هي:
شطت مزار العاشقين فأصبحت
عسرا علي طلابك ابنة مخرم
علقتها عرضا واقتل قومها
زعما ورب البيت ليس بمزعم
ولقد نزلت فلا تظني غيره
مني بمنزلة المحب المكرم
كيف المزار وقد تربع أهلها
بعنيزتين وأهلنا بالغيلم
- -18 أنور أبو سويلم، م ، س، ص 16
-19وفي شرح الخطيب التبريزي ،م،س،شرح معلقة عنترة: يقال :أزمعت،وأجمعت،فأنا مزمع.والركاب لا يستعمل إلا في الإبل خاصة, والركب : الجماعة الدين يركبون الإبل, وقوله: زمت ركابكم أي شدت بالأزمة. راعني الشيء إدا أفزعني, والحمولة :الإبل التي يحمل عليها. وسط ظرف, وإذا لم يكن ظرفا حركت السين فقلت وسط الدار واسع، وتسف:تأكل, الخمخم:بقلة لها حب أسود إدا أكلته الغنم قلت ألبانها وتغيرت. ويروى :خلية في موضع حلوبة،والخلية: أن يعطف على الحوار ثلاث من النوق ثم يتخلى الراعي بواحدة منهن ، فتلك الخلية. والحلوبة:المحلوبة.الخوافي: أواخر ريش الجناح مما يلي الظهر. الأسحم :الأسود.
20 - - أنور أبو سويلم م، س، ص 17
- -21-الزوزني م،س، ص :200
22أنو أبوسويلم م، س، ص 17/18.وفي رواية الخطيب التبريزي،م،س:إذ تستبيك بذي غروب واضح. وتستبيك:تذهب بعقلك.وقولهم :سباه الله،أي:غربه الله.وغرب كل شيء:حده. وأراد بثغر دي غروب.وغروب السنان :حدها. والواضح:الأبيض.ويريد بالعذب:أن رائحته طيبة،فقد عذب،لدلك.ويريد بالمطعم:المقبل.وكأن فارة مسك.والتاجر هنا:العطار. وفارة المسك:وعاؤه.وقال الأصمعي :العوارض:منابت الأضراس.واحدها عارض.الروضة:المكان المطمئن، يجتمع إليه الماء،فيكثر نبته.ولا يقال في الشجر:روضة.الروضة في النبت والحديقة في الشجر.والأنف: التام من كل شيء.وقيل هو أول كل شيء،ومنه استأنفت الأمر.والغيث:المطر.والمعلم والعلم والعلامة واحد.
23 م، س ، ص 19
24 م، ن ،ن،ص
-25للمزيد ينظر الزوزني – المرجع السابق. ص 2002/ وما بعدها – وكذا التبريزي، ص:159- والأعلم الشنتمرى، ص:465
-26- أنور أبو سويلم ،م، س.
-27خطر البعير بذنبه يخطر خطرا و خطرانا إذا شال به. – شرح الزوزني،م،س، ص :204
- 28 أنور أبوسويلم، م،س، ص 22

**د لا ل**
2013-02-28, 21:05
''إشكالية الغمـوض (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27153) في الشعر (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27153)الجزائري (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27153) المعاصر''



بقلم: سعيد شيبان


لقد أولع شعراؤنا بالغموض، إذ كانوا يرون في الإبهام جمالا لا يتحقق في
الوضوح والظهور، وكان بول فرلين (Paul Verlaine) أحد رواد الرمزية يقول: ((
المعاني الخفية كالعينين الجميلتين تلمعان من وراء النقاب ))(1) .
وللرموز والأساطير التي أولع بها شعراؤنا مند السبعينات دخل كبير في غموض
القصائد الشعرية، الشيء الذي طرح إشكال التوصيل وصعوبته أحيانا، نتيجة ما
وراء هذا الغموض من فلسفة فنية وحياتية يشوبها الاغتراب والتعالي عن الواقع.



فالغموض في الفن ليس معضلة تأويلية جديدة، إذ أن طبيعة أي عمل فني يفترض
على من يتعامل معه أن يجد معاني متعددة ومتضاربة، وقديما أشار القاضي
الجرجاني إلى أن الغموض خاصية في التعبير الشعري (( وليس في الأرض بيت من
أبيات المعاني لقديم أو محدث إلا ومعناه غامض ومستتر، ولولا ذلك لم تكن إلا
كغيرها من الشعر، ولم تفرد فيها الكتب المصنفة، وتشغل باستخراجهما الأفكار
الفارغة )) (2) . أما حازم القرطاجني فهو يركز في تعريفه للشعر على عنصر
الغرابة قائلا: (( فإن الاستغراب والتعجب حركة للنفس إذا اقترنت بحركتها
الخيالية قوي انفعالها وتأثرها... فأفضل الشعر (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27153) ما حسنت محاكاة هيئته
...وقامت غرابته ))(3) .

فمن حق الشاعر إذن أن يحلق في سماء المعاني الخفية ما شاء تلافيا للوقوع في
أسر الابتذال والتقريرية فالشعر يتطلب الرؤيا، والشعر نافذة تطل على
المطلق، وحالة لا يمكن إخضاعها للنظر البارد.

فالغموض– إذن– يلازم اللغة الشعرية الخيالية القائمة على المجاز والمفارقة
للغة العقل والمنطق والسهولة، فهو أنسب المسالك للتعبير عن الأغوار الذاتية
للنفس، لأن جوهر الشعر (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27153) الذي يعبر عن عمق التجربة لا يبدو لنا على نحو واضح
ومحدد المعالم.

ويرى محمد بنيس أن ظاهرة الغموض مشروعة في الشعر (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27153) الحديث كونها ناتجة عن
((انفجار النص وخروجه عن القوانين المقيدة للغة اليومية))(4) . ومنه فإن
لغة الشعر (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27153) الفنية، يجب أن تختلف عن لغة التواصل العادية القائمة على المنطق
والوضوح، فالغموض عند بنيس ناتج عن انتقال نوعي من قوانين اللغة المعجمية
المتداولة والاستهلاكية إلى قوانين اللغة الشعرية التي تنحو نحو الحداثة
وما تقتضيه من شروط معقدة.

ونفس المنحي أكده إيليـا حـاوي الذي صرح أن التجربة الشعريـة تحمل قابليـة
الإبداع مادامت في حالتهـا الغامضـة (( أما إذا تحولـت إلـى أفكـار تفهم
ومعانـي تتضح، فإنها تكون قد نزحت عن الحالة الشعرية وسقطت إلى الحالة
النثرية))(5) .

فالغموض إذن صفة مشروعة من صفات الحداثة حين يصدر من أعماق التجربة التي
تحافظ على عمق الرؤية الفنية، وترفض السقوط في براثن النثرية والاستدلال
الذي يحول الخطاب الشعري إلى الكلام العادي أو النثر الذي قوامه العقل
والمنطق والوضوح.

ومن النقاد من يفرقون بين الغموض الفني المنشود وبين الإبهام والإلغاز
المرفوض من الناحية الفنية، فهذا أدونيس يصرح بأن (( الشعر (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27153) نقيض الوضوح
الذي يجعل القصيدة سطحا بلا عمق، الشعر (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27153) كذلك نقيض الإبهام الذي يجعل من
القصيدة كهفا مغلقا ))(6) . وفي موضع آخر يرفض أدونيس الحديث عن فكرة
الغموض والوضوح إذ ليس لهما على حد تعبيره قيمة فنية فيقول: (( وفي مجال
الشعر يتعلق الأمر أولا وأخيرا بدرجة الشعرية، لا بدرجة الوضوح والغموض في
ذاتهما ولذاتهما، والفرق بين مستويات التعبير إذن هو الفرق في اتساع الرؤيا
وعمق التعبير، وعلى هذا الأساس ينبغي دراسة الشعر (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27153) ))(7) .

وقد يتجلى الغموض وتتضح صعوبته حين يكون موجودا في النص بصفة غير موضوعية،
فتزداد درجة الإبهام والإلغاز في ذهن المتلقي الذي يجد نفسه حائرا أمام حشد
من الرموز والأساطير.

وتصادفنا هذه الظاهرة لدى بعض الشعراء الشباب في الجزائر، فقد نتساءل عن
ماهية الرمز الأسطوري في هذا المقطع للشاعر مولود خيزر:

وفي "غازوز" "نواس"
رأى طفلة وهران
تلاشى في الصور
أذن المغرب... من وقت قريب
صاحت الحامل
"في بطني حجر"،
كان "سيزيف" على مرمى حجر،
يشغل الناس،
يسوي آخر الصيف (8)


فرمز "سيزيف" في هذا المقطع لم يحقق غايته الفنية، طالما لم تكن الحاجة
إليه نابعة من داخل البنية الشعرية ذاتها، وفي هذه الحالة يبلغ التعقيد
والغموض ذروتهما لأن الشاعر لم يقصد إلى الرمز قصد تفجير طاقته الشعرية
وإنما حبا في الظهور أمام القارئ بمظهر المثقف العارف بكل شيء، وهذا ما
أكده الباحث محمد حسين الأعرجي حين قال: (( ولا أكاد أشك في أن طائفة من
الشعراء ينحون هذا النحو، وآية ذلك أنك تقرأ قصائدهم ولا تجد للرمز الذي
استعمله من صدى في القصيدة))(9) .

فحين لا يتمثل الشعراء رموزهم من عمق التجربة الشعرية، تتحول قصائدهم إلى
مجرد طلاسم تحول دون تحقيق التواصل بينهم وبين القراء.

ومن المؤكد أن إعراض شرائح هائلة من الجمهور عندنا عن الاهتمام بالشعر،
مرده في الكثير من الأحيان إلى مشكلة التوصيل، خاصة أن الغموض أصبح المبتغى
الأسمى لدى الكثير من شعرائنا الشباب، فنراهم يندفعون نحو الإفراط في
الضبابية والتعقيد الذي لا يخدم العملية الشعرية بقدر ما يسئ إليها. والسبب
في رأينا أن الذاكرة الجماعية عندنا ظلت متمسكة ببنيات القصيدة التراثية
شكلا ومضمونا، ماعدا أهل الاختصاص الذين تمرسوا على القراءة ومسايرة المسار
الحداثي الذي شقته القصيدة الجزائرية لنفسها منذ أمد بعيد. فحين نقرأ قصيدة
"حوارية الرجل الميت" للشاعر نجيب حماش، نلاحظ أن طابع الغموض الذي يكسي
القصيدة، يحول دون النفوذ إلى ضلالها وفهمها عند المتلقي. يقول نجيب حماش :

يتعفر بالورد والفلسفات
الحصى وقته انزياح المعاني
غامضا أبدا في فيوضات أنساقه
لايحد ولا ينتهي،
لاتفاجئه الأزمنة
لا يقال له أنت أو هو
(ياملك المفردات)
ويقال له ما يشاء
الندى وقته والنساء (10)

إن الشاعر في هذا المقطع يعبر عن مواقف يصعب فهمها حتى على القارئ المتمرس

في قراءة الشعر، والمستوعب لأوهاج الحداثة الشعرية، فإضافة إلى الغموض
الدلالي الذي يشوب كلمات النص، فهناك غموض آخر ناشئ من غموض مرجعية الضمائر
الواردة في النص، الشيء الذي أضفى عليه غلالة من الإبهام حالت دون إيصال
الرؤية. فإذا كانت ظاهرة التجريب حقا مشروعا لكل نصّ شعري يريد أن يحقق
فرادته، ويؤكد أصالته ضمن منطق الاختلاف على حدّ تعبير الباحث أحمد يوسف ((
فلا ينبغي أن يتحول إلى حذلقة تنطلق من الفراغ، وتبني صرحا هشا يذهب في مهب
الريح وتلبس الغموض الذي يتجاوز الإيحاء إلى الألغاز دون معرفة أبسط
أبجديات لغة الشعر (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27153) ))(11) .

وكثيرا ما يفك الغموض بقدرة المتلقي على فهم دلالات الرموز من خلال القراءة
الواعية والاستكشافية، فحداثة النص تفترض حداثة في التلقي، ومن ثمة فإن
درجات الغموض ترتبط إلى حد كبير بذاتية المتلقي. فقد يبدو نص ما غامضا، بل
مبهما بالنسبة إلى متلق ذي وعي تقليدي، وقد يبدو غير ذلك عند متلق ذي وعي
حداثي. تقول يمنى العيد : (( وهذا التواصل قد يكون أحيانا ممكنا وسهلا، لا
بحكم بساطة النظام الترميزي، ووضوح المرسلة فيه، ونمط التعبير الحي، بل
بحكم التكرار والألفة لهذا النظام الترميزي ونمطه التعبيري بحيث أن القارئ
يعتاد مثل هذا النمط من التركيب ))(12) .

فإشكالية الغموض إذن لا تتعلق فحسب بما يريد الشاعر بثه من خلال الرمز،
وإنما تتوقف كذلك - على حساسيته وثقافته بوجه عام. يقول الشاعر أزراج عمر :

إن تفهموني، تبصروا دمنا جسورا
إن الغموض حديقتي
والسطح كرمتهم جميعا
شيء يمضي هكذا ...
فكوا الرموز تروا وضوحي صارخا .(13)


إن جمالية تلقي الأثر الأدبي تكمن في تعدد تأويلاته، وفي قلق البحث عن
معانيه اللامتناهية الدلالات، فقارئ القصيدة الحداثية لا يقتصر على التلقي
السلبي لها، وإنما ينعم بألوانها، ويعيش في الجو الحالم الذي خلقه الشاعر
وهو في ذلك يواكب معنى غامضا، يحاول أن يجلوه فيمنحه تفسيرا ويضفي عليه ظلا
تجريديا جديدا .

فالغموض الفني المنشود إذن هو الذي يشوبه هاجس البحث عن الطريف والجديد
والرؤية، وهذا أمر طبيعي لدى كل فنان، ولا يمكن لهذا النوع من الغموض أن
ينال من شاعرية الشعراء، وقديما اتهم أبو تمام بالغموض كونه يقول مالا يفهم
من الشعر، إلا أن هذا لم ينقص من شاعريته شيئا، وقد أكد القاضي الجرجاني
على هذا الجانب في شعره قائلا: (( لو كان التعقيد والغموض في المعنى يسقطان
شاعرا لوجب أن لا يرى لأبي تمام بيت واحد، فإنا لا نعلم له قصيدة تسلم من
بيت قد وفر من التعقيد حظهما، وأفسد به لفظهما، ولذلك كثر الاختلاف في
معانيه ... )) (14).

وهناك من ربط ظاهرة الغموض بطبيعة الرؤية الجديدة التي طبعت ولازمت القصيدة
المعاصرة، الشيء الذي جعل النص الشعري المعاصر (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27153) متفتحا على كل الاحتمالات
المعرفية والحدسية التي تجمع بين تناقضات الرؤية وحطام اللغة وتعدد الرموز.

فالشاعر المعاصر (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27153) عبّر عن حساسية حضارية قوامها القلق والبحث عن اللانهائي
واللامحدود، فاصطبغت الرؤية المأساوية لديه بلهجة شديدة الغموض والتعقيد،
ومن ثمة كان الشاعر المعاصر (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27153) على حد قول أدونيس: (( هو شاعر الانقطاع عما هو
سائد ومقبول ومعمّم، وهو شاعر المفاجأة والرفض، الشاعر الـذي يهـدم كـل حـد،
بحيـث لا يـبقـى أمامه غير حركة الإبداع وتفجرها في جميع الاتجاهات ))(15) .

فإذا كان للحداثة نسق جمالي محدد في التلقي الفني، فإن أي تعامل معه من
منظور التلقي التقليدي لن يؤدي بأي حال إلى استيعاب النصوص استيعابا نقديا
وافيا، ولذلك اعتاد بعض النقاد والقراء الشكوى من النصوص المعاصرة بدعوى
أنها مبهمة ومستغلقة في الحين أن بعضا منها يدخل في إطار الغموض الفني المقبول.

فإذا كان الشاعر يجنح إلى منح سمة الفرادة والإغراب لرؤيته الفنية من خلال
الترميز الإبداعي، فعلى القارئ القيام بالعملية المعاكسة، أي فك الرموز
واستكشاف ما توحي به من معان حتى ينفذ إلى أعماق النص فتحقق عملية التواصل
الشعري.

ويمكن أن نمثل للتفاعل الموجود بين مكونات الرمز وثقافة المتلقي بما يلي:


نلاحظ في الشكل " أ " تباعدًا بين المتلقي والرمز، بسبب ضيق الرصيد المعرفي
والحس الرؤيوي لدى المتلقي، مما يجعله عاجزا عن فك الغموض ومواكبة الحركة
الشعرية الجديدة.


نلاحظ في الشكلين "ب" و "ج" قدرا مشتركا بين المتلقي ومعطيات الرمز، مما
يؤدي إلى إدراك القيمة الجمالية للرمز ضمن التجربة.


--------------
* أستاذ مساعد مكلف بالدروس بجامعة بجاية- الجزائر

*الهوامش:*

1- ياسين الأيوبي، مذاهب الأدب الكبرى، الرمزية، ص 34.
2- القاضي علي عبد العزيز الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه، تر محمد
أبو الفضل ابراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، 1966، ص 417.
3- حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب بن
خوجة، دار الكتب الشرقية، تونس، 1966، ص 71.
4- محمد بنيس، ظاهرة الشعر (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27153) المعاصر (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27153) في الغرب، ط 1، دار العودة، بيرو،
لبنان، 1984، ص 23.
5-إيليا حاوي، الرمزية والسريالية في الشعر (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27153) الغربي والعربي، ص 118.
6- أدونيس، مقدمة للشعر العربي، ط 3، دار العودة، بيروت، لبنان، 1979، ص 142.
7- محمد آمين العالم وآخرون، قضايا الشعر (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27153) العربي المعاصر، د ط، المنظمة
العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1988، ص 195.
8- مولود خيزر، قصيدة "قصيدتان"، ديوان الحداثة، ص 209.
9- محمد حسين الأعرجي، مقالات في الشعر (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27153) العربي المعاصر، مقالات في الشعر
العربي المعاصر، منشورات دار وهران للنشر، نقوسيا، قبرص، 1985، ص 63.

10- نجيب حماش، قصيدة "حوارية الرجل الميت" ، نقلا عن ديوان الحداثة
لواسيني الأعرج، ص 158.
11- أحمد يوسف، يتم النص، ط1، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2002، ص 282.
12- يمنى العيد، في القول الشعري، ط 1، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء،
المغرب، 1987، ص 25
13- أزراج عمر ، الجميلة تقتل الوحش، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر،
1986، ص110.
14- القاضي علي عبد العزيز الجرجاني، الوساطة بين المتبني وخصومه، ص 417.
15- أدونيس، الثابت والمتحول، ج 3، دار العودة، بيروت، لبنان، 1982، ص 117.

**د لا ل**
2013-02-28, 21:09
النقد الأدبي في الجزائر

في الحديث عن النقد (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) الأدبي (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) في الجزائر (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) قضايا متعددة لعل أبرزها قضية تلج منها سائر القضايا الهامة في حياتنا الأدبية هي قضية الوعي النقدي ومدى تمثله وتجسده في الممارسة.
ـ وإن هذا الموضوع الذي نحن بصدد معالجته يقتضي منا إزالة ما يمكن ان يحيط به من لبس أو غموض وبالتالي لا بد لنا أولاً من تحديد دقيق لحدود الإشكالية النقدية في الجزائر (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) وثانياً إبراز الترابط المنطقي بين الوعي الفكري والأدبي بين الممارسة النقدية ومسألة النص الإبداعي على ضوء المناهج النقدية المتعارف عليها على المساحة الأدبية.
ـ وإن إلقاء الضوء على طبيعة الممارسة النقدية في الجزائر (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) يقودنا إلى الشكف عن الوعي الأدبي (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) وتأرجحه بين الذاتية والموضوعية، وذلك يخضع لتباين مستوى الفكري والثقافي عند النقاد، ولعل من الطريف ان نشير إلى أن التباين بين الممارسات النقدية يقود إلى تباين في مستوى الوعي المصاحب لكل عمل نقدي.
ـ طبعاً لا تعوزنا الأمثلة للبرهان على الطابع اللاعقلاني للتفاوت بين الأعمال النقدية، وأن هذا التفاوت يبدو لا موضوعياً في الشكل الظاهري فقط أما من حيث المضمون فإن الموضوعية العلمية تتجلى لنا في بعض الممارسات النقدية.
ـ إن منطق موقف النقدي هنا، لا يتوقف على طبيعة العمل النقدي المبذول بل على أسلوب أداء هذه الممارسة وعلى جملة من المعطيات الفكرية المتصلة بالقيم الجمالية والإبعاد الفنية الكاملة في الوعي النقدي وهذا ما يفسر تفاوت الوعي عند النقاد.
ولا مندوحة بالإعتراف بان الطرح الموضوعي لهذه الإشكالية النقدية طرق شاق تعترضه الإنزلاقات الفكرية الآتية التي تحكم بوعي وبغير وعي منهج البحث في الممارسة النقدية، ومناقشتنا هنا، تهتم بمجالات وإشكاليات النقد (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) بين الوعي والممارسة.
ـ فمن الأسباب التي حدت بي إلى دراسة هذه القضية ما لا حضناه من تفاوت بين النقد (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) في المشرق العربي وفي المغرب سواء على مستوى الوعي الأدبي (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) والفكري أو على مستوى الممارسة النقدية التي لم تكن مبنية في معظمها على الفكر النقدي قادر على التمثل والإستيعاب وهذا مصدره هو انعدام نظريات نقدية الفلسفية تستند إلى مدارس النقدية الحديثة فرغم الدراسات التي كتبت بقصد توضيح اصول أزمة النقد (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) الأدبي (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) في الجزائر، فإن الحاجة ما زالت ماسة لإعادة النظر في المسلمات والأسس التي ترتكز عليها مفاهيمنا الثقافية ومنطلقاتنا الفكرية المسؤولة عن هذا المأزق الذي نستشعره فيكل المجالات الإبداعية والممارسات النقدية انه لامر صعب ان نقدم في هذه العجالة تعريفاً شاملاً ومفصلاً بالمذاهب النقدية وتياراته ومناهجه التي تشعبت فيها الآراء وكثر فيها النقاش واحتدام حولهما الجدال، حتى أضحى الناقد لا يدري كيف الخروج من وسط هذه التيارات العديدة من النظريات والمناهج، التي تضاربت في أصلها الأفكار النقدية بغية الخروج من هذه المتاهات النقدية إلى فضاء نقدي فسيح وموحد واضح المعالم.
ـ ونجد مثل هذا التنوع في المناهج النقدية خلال الممارسة النقدية التطبيقية إن هذا التنوع التعددي في شموليته يتضمن عدة مناهج وتيارات قد تتداخل فيما بينها خلال العملية النقدية منها المنهج التحليلي، المنهج اللغوي، المنهج النفسي، المنهج الجمالي، المنهج التاريخي، المنهج الاجتماعي، المنهج العلمي والموضوعي وغيرها من المناهج المتاصرعة فيما بينها.
ـ ونظراً لاتساع مفاهيم النقد (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) المنهجي نشير وبصورة سريعة إلى أربعة مناهج عرفتها الممارسة النقدية في الجزائر: هي المنهج العلمي الموضوعي، المنهج التاريخي، المنهج الجمالي ثم المنهج النفسي.
ـ ويمثل المنهج العلمي الموضوعي كل من الدكتور محمد مصايف والدكتور عبد الله الركيبي والدكتور عثمان سعدي والناقد واسيني الأعرج، ويحمل هذا المنهج في اتجاهه ومعناه عند هؤلاء النقاد منهجاً أكاديمياً علمياً وإخلاصاً لبحث النقدي، فهو منهج يجمع المادة الأدبية من مختلف مضامينها، ويقوم بتفسيرها وتحليلها وتتبع جزئيتها وأبراز أفكارها الأساسية ومتابعة تأثيرها وتبين جذورها والناقد في هذا المنهج يصدر أحكامه التقيمية والتقويمية من خلال مسألة النص، فتكون بعيدة عن الانطباعية أو الذاتية والتحيز.
ـ إن الاستقرار لمناهج النقاد الأكاديميين يعكس الاهتمام الذي أولاه هؤلاء الكتاب المتحفظين الجادين ودورهم في بلورة وخدمة النقد (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) الأدبي (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) الجزائري فكتباتهم النقدية المتنوعة تدل على ثراء هذا المنهج وتحقيقه لكثير من النتائج الموضوعية المدروسة في مجال الشعر نذكر الدكتور صالح خرفي وعبد الله الركيبي وعثمان سعدي وأبو القاسم سعد الله وعبد الله شريط وفي مجال الرواية والقصة نذكر جهود محمد مصايف واسيني الأعرج وعمر بن قينة والدكتور أبو العيد دودو وغيرهم من الأكاديمين الذين استطاعوا استقراء الأدب الجزائري وتشريحه للكشف عن الجوانب المضيئة فيه لربطها بالحاضر الإبداعي والمستقبل الفكري والحضاري.
إن الناقد محمد مصايف (رحمه الله) صاحب عدة دراسات وأبحاث أكاديمية في مجال الأدب الجزائري منها (فصول في النقد (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) الأدبي (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) في الجزائر) (الرواية العربية الجزائرية الحديثة بين الواقعية والالتزام) (النقد الأدبي (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) الحديث في المغرب) (النثر الجزائري الحديث). فهو ناقد ذو ثقافة عميقة ومعرفة أدبية متنوعة وأصيلة لم يكن حديثه عن الأدب الجزائري مجرد تحصيل قراءة بل كان يعايش النصوص ويحسها ومفسراً لها بتوظيف المنهج العلمي الموضوعي فكان يسائل النصوص الأدبية يتحدث من خلالها ومعالجتها من خلال التفكير الاستقرائي والتفكير الاستنتاجي ثم النقد (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) التقيمي الذي كان يصدر عن نظرة جمالية وموضوعية التي تبحث عن جماليات النص التي تقتضي قدراً من الواقعية والإلتزام النقدي والموقف الأدبي (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) الواضح.
أم الدكتور مرتاض عبد المالك صاحب كتاب تحت عنوان (نهضة الأدب العربي المعاصر في الجزائر) وهو بحث نقدي حاول الكاتب رصد الإرهاصات الأولى لنهضة الأدب في الجزائر (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) فاتخذ من التسلسل التاريخي منهاجاً لعرض أفكاره حتى وصل بها إلى غايته من الفكرة ان نظراته النقدية والتاريخية كانت تقوده إلى الدراسة التي تنهج أسلوب الأدب، كموقف يشف عن ثقافة عالية وتذوق أدبي ونقدي، فهذا الكتاب من الدراسات النقدية الجادة التي وضعت
أسس الأدب الجزائري ولقد تجلت لنا ثقافة عالية وتذوق أدبي وتقدي.
فهذا الكتاب من الدراسات النقدية الجادة التي وضعت أسس الأدب الجزائري، ولقد تجلت لنا ثقافة مرتاض من خلال هذا البحث، فكانت عميقة وواسعة والمنهج النقدي الذي اتبعه الدكتور هو المنهج التاريخي الموضوعي لأنه وضع الأدب الجزائري موضعه من تاريخ النهضة الفكرية والثقافية في الجزائر (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) فوصله بسابقيه ليبين لنا عوامل نشأة هذا الأدب والمؤثرات التي أثرت في حركة تطوره ونموه ومسايرته للأدب العربي في المشرق، فكان يتناول خطوة خطوة ومسالة بعد مسالة يناقش مناقشة علمية موضوعية ويقيم تقيما عادلا ومنصفا دون إجحاف.
وعن الناقد عثمان سعدي، فقد غلب في نقده النظرة الاجتماعية والثورية بحيث جعل من المنهج التاريخي المقياس الأول في تحليل الشعر ونقده مما حجب عنه الجوانب الفنية الأخرى وأوقعه في أحكام هي أقرب إلى الجانب السياسي منها إلى جانب الفني الإبداعي.
_ أما الدكتور صالح خرفي فعند ما تقرأ كتاباته تحس في نقده ابداعا لا يقل عن إبداع العمل الفني نفسه أنه يطرح بصفة دائمة النظريات العملية ليكتشف في لغة متزنة هادئة وأسلوب علم متأدب، ليبحث عن جماليات النص فيحلل النص الأدبي (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) في قدر من الحرية تتجاوز المقالات السياسية والعواطف الوطنية.
ولكن الناقد بختي بن عودة ذو شخصية أدبية نقدية لا تخضع لقوالب أو تقع تحت طائلة من النظريات أنه ناقد متعدد الثقافة عرف الثقافة العربية قرأ القديم الجديد، ولم تكن معرفته مجرد تحصيل قراءة بل كان يعايش الأفكار ويحسها وينقدها ويكتشف قيمتها الإنسانية والجمالية ولكن بختي بن عودة ذلك الناقد الفيلسوف الذي ننقده والذي يكون قد توصل إلى أفكاره الخاصة والنابعة من ثرائه والمتعانقة مع عصره يدعو إلى التصالح بين الأصالة والمعاصرة في مجال النقد (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) الأدبي (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) لتلقيح وتطعيم النقد (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) الأدبي (http://www.elanin.com/vb/showthread.php?t=27152) الجزائري بالمصطلحات والأفكار النيرة بغية تطوير حركتنا النقدية وجعلها مسايرة لروح العصر.

**د لا ل**
2013-02-28, 21:21
الأسلوبية .. دراسة موجزة نظرية تطبيقية
أسماء السقيلي


لقد تقدمت المناهج النقدية في عالمنا العربي تقدماً ملحوظاً وإن لم تكن قد وصلت إلى المستوى الذي وصلت إليه أوروبا بيد أن النقاد العرب قد شغفوا بها وأخذوا بلجامها في دراسة وتحليل وتقويم النص الأدبي..
ومن هذه المناهج التي خدمت النصوص الأدبية وبلورت جمالياتها هي (الأسلوبية)..

فماذا يقصد بالمنهج الأسلوبي أو "الأسلوبية"؟

المنهج
كما عرفه الجيلالي: (طريقة موضوعية يسلكها الباحث في تتبع ظاهرة، أو استقصاء خبايا مشكلة ما لوصفها أو لمعرفة حقيقتها وأبعادها ليسهل التعرف على أسبابها وتفسير العلاقات التي تربط بين أجزائها ومراحلها وصلتها بغيرها من القضايا، والهدف من وراء ذلك هو الوصول إلى نتائج محددة يمكن تطبيقها وتعميمها في شكل أحكام أو ضوابط وقوانين للإفادة منها فكرياً وفنياً) (1).

أما الأسلوب:
ففي لسان العرب يقال للسطر من النخيل أسلوب، وكل طريق ممتد فهو أسلوب، والأسلوب الفن يقال أخذ فلان في أساليب من القول: أي أفانين منه.(2)
وعرف "ريافتير" الأسلوب بأنه: "كل شيء مكتوب وفردي قصد به أن يكون أدباً".(3)
ويعتبر شارل بالي الفرنسي النمساوي تلميذ دي سوسير "مؤسس المنهج البنيوي" من أوائل المؤسسين لهذا المنهج وتبعه جاكبسون الذي عرف الأسلوبية بأنها "البحث عما يتميز به الكلام الفني عن بقية مستويات الخطاب أولاً، وعن سائر أصناف الفنون الإنسانية ثانياً".(4)

وقد ألمح عبد القاهر الجرجاني إلى الأسلوب في نظرية النظم، فالنظم عند الجرجاني هو الأسلوب، ومن هذه النظرية بنى الأسلوبيون منهجهم الحديث "الأسلوبية" فأضحت بفضل الكثير من الملاحظات المتراكمة علماً خاصاً بدراسة جماليات الشعر والنثر.
ولم يعد المنهج الأسلوبي يعتمد على الألفاظ وعلاقاتها بالجمل والتراكيب والقواعد النحوية فحسب بل " توسع مفهوم علم الأسلوب ليشمل كل ما يتعلق باللغة من أصوات و صيغ و كلمات وتراكيب فتداخل مع علم الأصوات و الصرف و الدلالة و التراكيب لتوضيح الغاية منه, و الكشف عن الخواطر و الانفعالات و الصور , وبلوغ أقصى درجة من التأثير الفني , بل توسع أكثر من ذلك أخيرا (5) و اشتمل على علم النفس و الاجتماع و الفلسفة وعلوم أخرى شهدت دقة مناهجها ومدى صلاحيتها في إغناء المنهج الأسلوبي.
يقول غزوان " وقد أدى الاهتمام بدراسة الأسلوب وتحليله لغويا على وفق معايير لغته أو فنياً على وفق المعايير الفنية , إلى ظهور ما يسمى بالأسلوبية اللغوية التي ترى أن الأسلوب قد يكون انزياخا أو انحرافا, أو عدولا عن السياق اللغوي المألوف في هذه اللغة أو تلك , أو قد يكون تكرارا للمثال , أو النموذج النصي الذي يهتم به الذوق العام أو قد يكون كشفا خاصا لبعض أصول اللغة ومرجعياتها ولا سيما في الوجه الجمالي للتعبير أو ما يسمى بالوجه البلاغي أو البياني"(6)

ومن هنا نستخلص بأن الأسلوبية إنما تعتمد اعتمادا كبيرا على الدراسات اللغوية التي تمهد لدراسة النص الأدبي , لأن الناقد الأدبي -على حد تعبير غزوان- قبل كل شيء يجب أن يكون لغويا جيدا لأنه" لا وجود لأي نص أدبي خارج حدود لغته"(7) وهذا يدفعنا إلى أن الأسلوبية لا تكتفي البتة ببنية النص كما هي البنيوية بل تنظر إلى ما يحيط بها نظرة شمولية تهدف من ورائها إلى خلق جماليات النص الأدبي و تنويره للقارئ.
هذا بالإضافة إلى علاقتها بالبلاغة العربية وما يعرف بالانزياح والتكرار والإيحاءات التي يستشفها الناقد من السياقات المختلفة.
ويتحدد المنهج الأسلوبي وفق خمسة اتجاهات(8) :

1- الأسلوبية الصوتية:
وهي التي تهتم بالأصوات والإيقاع والعلاقة بين الصوت والمعنى.

2-الأسلوبية الوظيفية:
وتهتم بدراسة العدول أو ما يسمى بالانحراف أو الانزياح.
وتقوم على مبدأين:
أ‌-ـ دراسة نصوص كثيرة تمثل أنواعاً أدبية مختلفة وأجناسا متعددة وعصورا بغية الكشف عن الآليات التي تتحكم في تكوين الأسلوب الشعري.
ب‌- ـ الإفادة من نتائج علم النفس ..فدراسة العمل الأدبي أسلوبياً يتطلب التحرك بمرونة قصوى بين الأطراف والمركز الباطني للنص , والوصول إلى تلك النتائج يتطلب إعادة قراءة النص مرارا.

3-الأسلوبية التعبيرية:
وكان رائدها بالي الذي شق الطريق للتفريق بين أسلوبين أحدهما ينشد التأثير في القارئ والآخر لا يعنيه إلا إيصال الأفكار بدقة . وطور تلاميذه هذا الاتجاه عن طريق التوسع في دراسة التعبير الأدبي , فالكاتب لا يفصح عن إحساسه الخاص إلا إذا أتيحت له أدوات ملائمة , وما على الأسلوبي إلا البحث عن هذه الأدوات.

4-الأسلوبية الإحصائية:

تقوم على دراسة ذات طرفين , أولهما: هو التعبير بالحدث , والثاني هو التعبير بالوصف , ويعني بالأول الكلمات أو الجمل التي تعبر عن حدث و بالتالي الكلمات التي تعبر عن صفة , ويتم احتساب عدد التراكيب والقيمة العددية الحاصلة تزيد أو تنقص تبعاً لزيادة أو نقص عدد الكلمات الموجودة في هذه التراكيب , وتستخدم هذه القيمة في الدلالة على أدبية الأسلوب والتفريق بين أسلوب كاتب وكاتب .
فمثلاً كتاب " الأيام" لطه حسين تبين مثلاً أن نسبة الجمل الفعلية إلى الوصفية 39% في حين أن نسبة تكرار هذه الجمل في كتاب " حياة قلم" للعقاد لا تتعدى 18% , ومعنى ذلك أن كتاب الأيام أقرب إلى الأسلوب الانفعالي والحركي من كتاب العقاد الذي يميل فيه إلى الطابع الذهني العقلاني.


5-الأسلوبية النحوية:
تهتم بدراسة العلاقات والترابط والانسجام الداخلي في النص وتماسكه عن طريق الروابط التركيبية المختلفة , ومن هذه العلاقات : استخدام الضمائر والعطف والتعميم بعد التخصيص... وهذه العلاقات يلجأ إليها الكاتب لتنظيم جملة بعضها إلى جانب بعض مما يؤدي إلى تماسكها و ترابطها ..

وعلى هذا فإن الأسلوبية تواصل تأملها لعالم النص عن طريق القراءة متعددة الوجوه , وتتحدد هذه الاتجاهات بعضها مع بعض في كيان عضوي يجذب القارئ و يستثير تساؤلاته.
ولعلي أقف قليلا مع هذه الدراسة الموجزة على نص أدبي اعتمده الشاعر وفقاً للمنهج الأسلوبي...

**د لا ل**
2013-02-28, 21:23
استقبال القمر

إبراهيم ناجي




أقبل بموكبك الأغرّ *** ما أظمأ الأبصار لك!



العين بعدك يا قمر *** عمياء! والدنيا حلك!





تمضي وراء سحابةٍ *** تحنو عليك وتلثمك!



وأنا رهين كآبةٍ *** بخواطري أتوهمك!





كن حيث شئت فما أنا *** إلا معنىً بالمحال



أغدو لقدسك بالمنى *** وأزور عرشك بالخيال





وأقول صبراً كلما *** عزّ الفكاك على الأسير



روحي وروحك ربما *** طابا عناقاً في الأثير





مهما تسامى موضعك *** وعلا مكانك في الوجود



فأنا خيالك أتبعك ***



قمر الأماني يا قمر *** إني بهم مسقمِ



أنت الشفاء المدَّخر *** فاسكب ضياءك في دمي





أفرغ خلودك في الشباب *** واخلع على قلبي الصفاء



أسفاً لعمر كالحبابِ *** والكأس فائضة شقاء





خذني إليك ونجِّني *** مما أعاني في الثرى



قدحي ترنِّق اسقني *** قدح الشعاع مطهرا





واهاً لأحلام طوال *** وأنا وأنت بمعزلِ



نعلو على قمم الجبال *** ونرى العوالم من علِى

**د لا ل**
2013-02-28, 21:23
يحلل شكري عيّاد هذه القصيدة فيقول:

(يوحي عنوان هذه القصيدة بنوع من التفاؤل أو الفرح، فالاستقبال يكون لضيف عزيز نسعد بقدومه، أو لشخص عظيم نحتفل بلقائه، والوزن القصير المرن (مجزوء الكامل الذي تتعادل فيه المقاطع القصيرة والمتوسطة الطول) يزيد القصيدة إشراقاً.
ومناجاة القمر تستمر مع الشاعر من أول القصيدة إلى آخرها.
ولعلنا وقد استرعى نظرنا امتداد الحوار بين الشاعر والقمر على طول القصيدة، نجد من الأوفق أن نبدأ تحليلنا الأسلوبي لها بملاحظة طريقة خطاب الشاعر للقمر.
والسمة المميزة لخطاب القمر هنا هي كثرة أفعال الأمر التي يراد بها الدعاء أو الرجاء أو التمني، وفعل الأمر هنا يقوم بترقيم القصيدة أو بتحديد بدايات الفصول، فالمقطع الأول يبدأ بفعل أمر (أقبل)، والمقطع الثاني يبدأ بفعل أمر كذلك (كن)، وبعد ثلاثة مقاطع تأتي بداية مختلفة ولكنها تؤدي وظيفة "الترقيم" كفعل الأمر أو أقوى منه، وهي النداء المكرر "قمر الأماني يا قمر" ويمكننا أن نلاحظ هنا ما في إضافة القمر إلى الأماني من حذف حرف النداء ثم كرر النداء بـ (يا) في ذات البيت، وفي الفصل الأخير تتعاقب ستة أفعال أمر في ثلاثة مقاطع وهم "اسكب، أفرغ، اخلع، خذني، نجني، اسقني" أما المقطع الختامي فيبدو أنه مميز عن الفصل السابق إذ بدأ باسم فعل مضارع يدل على التعجب "واهاً" وخلا من أي فعل أمر.
ويبدو لنا أن تركز أفعال الأمر الدعائي في المقاطع الثلاثة التي سبقت المقطع الأخير يعبر عن تصاعد انفعال الشاعر، في حين أن خلو المقطع الأخير منها يدل على الوصول إلى نقطة إشباع. ويؤكد ذلك استعمال اسم الفعل الذي يدل على التعجب، والعطف بين ضمير المتكلم وضمير المخاطب.
ويستوقف نظرنا من بين هذه الأفعال قوله في ابتداء المقطع الثالث "كن حيث شئت" فهذا الأمر يختلف عن فعل الأمر السابق "أقبل"، وعن الأفعال التالية "اسكب...وأفرغ.." التي تدل على التضرع والدعاء.
إن الذي يقول كن حيث شئت يريد بها نوعاً من التحدي، وكأنه يقول "لا يهمني من أنت، ولا ابن من تكون" وبهذا يشعر خصمه أنه أعد له اللقاء المناسب، ولكن انظر إلى ما أعده الشاعر هنا "ما أنا إلا معنىً بالمحال" إن شجاعته هي شجاعة من استعد لأن يضرب حتى الموت وكأنه يقول "عظمتك لا تخيفني، لأني أعلم أني لا شيء".

أما إذا نظرنا إلى الصور فمخاطبة الشاعر للقمر كما لو كان إنساناً عاقلاً أمر غير مستغرب في لغة الشعر... فتلك الصور التي رسمها الشاعر تعبر عن شوقه إلى الانعتاق من هموم الدنيا، وقد عرف بسخطه على الحياة والأحياء، ناعياً سوء حظه وضياع عمره، ولكن لا بد أن نتوقف عند سلبية الصور التي يرسمها لنفسه، فهو لا يخوض صراعاً من أي نوع كان، وإنما هو فريسة الهم والسقم والشقاء، ولذلك فإن "القمر" يجب أن يصنع له كل شيء، ويجب أن يشفيه من همه المسقم، وأن يجعله خالداً مثله، ويأخذه بعيداً عن عالم المعاناة هذا، وربما خيل إلينا قوله "واخلع على قلبي الصفاء" أنه يعاني نوعاً من الصراع الداخلي، لكننا لابد أن نستبعد هذا الفهم حيث نجده يقول: قدحي ترنَّق فاسقني *** قدح الشعاع مطهرا
فهو (مستقبل) فحسب، الحياة تسقيه كدرا، وهو يريد شراباً صافياً، مع أنه لم يفعل شيئاً يستحق هذه النعمة إلا الصبر والتمني.
ولابد أن نلاحظ أيضاً أن تمثيل الشاعر للنعمة التي يرجوها من القمر قد غلبت عليها صورة "الشراب": "ما أظمأ الأبصار لك"، "ظمآن أرشف ما تجود"، "اسكب ضياءك في دمي"، "أفرغ خلودك في الشباب"، وإن كانت هناك صورة لمسية وهي صورة العناق "طابا عناقاً في الأثير"، وصورة بصرية "العين بعدك عمياء"، وثالثة مستعارة من اللبس "اخلع على قلبي الصفاء"... وغلبة صورة الشراب تجعلنا نميل إلى الظن بأن في القصيدة حزمة انفعالية ترجع في منشئها إلى المرحلة الفمية في حياة الطفل... فعلماء التحليل النفسي يقولون: ترتكز حياة الطفل النفسية في أشهره الأولى حول فمه، فالفم هو مصدر المعرفة ومصدر الوجدان والنزوع جميعاً، فهو يرضع بفمه، يحب بفمه، يناغي بفمه، ويميز الأشياء بفمه، والدليل على أن هذا الفم هو مصدر الأحاسيس الوجدانية لدى الإنسان في مراحل حياته الأولى هو أننا ربما لاحظنا أن الطفل عندما ينتهي من الرضاعة يتصبب عرقاً، وهذا يدل على الاندماج الكامل بين الأم والطفل، وعندما تنزع الأم طفلها قبل إتمام الرضاعة فإن إمارات الفزع والغضب تبدو واضحة عليه تماماً.
فالشاعر يريد أن يشعر بالاندماج الكامل بينه وبين القمر فيخلع عليه صفات الأم من العناق في قوله "طابا عناقاً في الأثير" فهو تعبير دقيق عن عناق الأم لطفلها، ومن الحنان في قوله "تحنو عليك وتلثمك"، أما في قوله "العين بعدك عمياء" فهي تطابق المعروف عن اكتمال الإحساسات البصرية لدى الرضيع وأنها أول ما تتركز على أمه.
فالصور تغوص في أعماق العقل الباطني وإن تشربت كثيراً من التجارب الواعية، فهو –الشاعر- يعيش وسط أحلام وأماني وأوهام يحاول أن يصل إلى السعادة المفتقدة من خلال مناجاته مع القمر وكأنه طفل يحاول أن يتشبث بتلابيب أمه الغائبة.
فرؤيا الشاعر المفتقدة التي يختم بها قصيدته رؤيا التوحد مع الأم، في وجود لا مكان فيه لغيرهما، وقد شعر بأنه مع ذلك الكائن العجيب القادر يحلق في الأعالي وهذا ما يقوله اللاوعي واللاشعور... أما وعي الشاعر فيقول إنه حلم مستحيل ولكنه وقد أعد نفسه له لا يملك إلا أن يسترسل فيه).(9)


*
*
*


إن قراءة نقدية كقراءة شكري عياد تعد من القراءات النقدية الحديثة التي خدمت القصيدة وبلورت معالمها، فلا تعد قراءة في –مجال النقد الأدبي- خاطئة وصائبة، ولكنها إما قاصرة أو كاملة... فالمجال النقدي مجال مرن يتقبل وجهات النظر المبنية على أسس ومناهج علمية مدروسة.

لقد أجاد الناقد في تحليله من حيث ترسمه للاتجاهات الأسلوبية الصوتية والتعبيرية والوظيفية والإحصائية والنحوية...
تلك الاتجاهات التي اتضحت جليةً في تحليله، فالمستوى الصوتي اتضح في بيانه للوزن والقافية ومدى أثرهما على النص، والتعبيري في بيانه استخدام الشاعر لخطابه الخاص الموحي بالحرمان والشوق إلى الانعتاق من هموم الدنيا، أما على المستوى الوظيفي ففي مدى أثر هذا النص على المتلقي، والصورة التي بُلورت في نفس المتلقي فتراءت له معان جديدة... كصورة الأم والطفل، بالإضافة إلى اعتماده على التحليل النفسي لمراد الشاعر في إيحائه للأم من خلال حديث الشاعر للقمر.

أما المستوى الإحصائي فتراءى من خلال بيانه لأفعال الأمر التي استخدمت في القصيدة وكيف أثرت فيها، وكذلك على المستوى النحوي في عرضه لأثر العطف على الجمل الذي أدى بها إلى التماسك والترابط.


بيد أن الناقد قد غض طرفه عن أمر مهم تهتم به الأسلوبية وهي مسألة (الانحراف أو العدول) فالقصيدة مليئة بالانحرافات في مثل قوله "سحابة تحنو عليك"، "اسكب ضياءك"، "أفرغ خلودك"، "قدح الشعاع" فهذه الانحرافات من المصادر الجمالية في النص الأدبي تعطيه مزيداً من التوهج والإثارة وتمارس سلطة على القارئ من خلال ما تحمله من عنصر المفاجأة والغرابة... فهي توسع دلالات اللغة وتولد أساليب جديدة لم تكن دارجة أو شائعة في الاستعمال.

وكذلك ما أحدثه التكرار لكلمة (قمر)، فقد تكررت في القصيدة أربع مرات، في العنوان وفي المقطعين الأول والسادس... ولا يخفى م لهذا التكرار الصوتي في النص من قيمة إيحائية ودلالية. فقد ارتبط القمر في عنوان القصيدة بالمصدر (استقبال) فإضافة القمر للمصدر أوضح أن ثمة لقاء سيأتي، وأن هذا اللقاء إلا لشخص بعيد عزيز لديه... لكن هل حدث هذا اللقاء أم لم يحدث لا ندري؟!.. فما إن ندلف إلى القصيدة حتى تخبرنا بأن هذا اللقاء لم يكن إلا أمانٍ وأوهام وأحلام تجلب الحسرات.. فارتباط القمر في المقطع الأول (بالعين العمياء) ليدل على استيائه ويأسه من حلول هذا اللقاء بأس شكل من الأشكال، كما هو الإنسان الأعمى الذي لن يستطيع يوماً أن تلتقي عينيه بالدنيا.
ثم يكشف الستار عن حقيقة مجلجلة في نفسه في المقطع السادس بأن هذا اللقاء الذي ينتظره –حقاً- ما هو إلا أحلام وأماني... وقد تكررت كلمة (قمر) في هذا المقطع مرتين لتدل على قيمة وجدانية علية، وأن الشاعر قد بلغ ذروة انفعاله!

يقول غريماس:"ثمة ما يبرر للتكرار وجوده، أنه يسهل استقبال الرسالة".(10)
ويقول عياشي:"غير أن وظيفة التكرار لا تقف عند هذا الحد، ذلك لأنها تخدم النظام الداخلي للنص، وتشارك فيه، وهذه قضية هامة لأن الشاعر يستطيع بتكرار بعض الكلمات أن يعيد صياغة بعض الصور من جهته كما يستطيع أن يكشف الدلالة الإيحائية للنص من جهة أخرى".(11)

فكلمة (قمر) في سياقها النصي هي الكلمة المحورية والجوهرية التي سلطت أضواءها على فضاءات النص وبلورت جمالياته


هذا بالنسبة إلى ذات النقد، أما بالنسبة إلى المنهج المتبع وهو المنهج الأسلوبي فإنه يعيد لنا نشوة التراث حيث "نظرية النظم" عند عبد القاهر الجرجاني، فقد دعا إلى النظرة الشمولية التي تمكن القارئ من الوقوف على جماليات النص الأدبي، فلا يستطيع القارئ الحكم على النص من قراءة بيت أو عدة أبيات، وإنما يقتضيه النظر والتأمل في القطعة الأدبية بكاملها.. ومن هنا يستطيع أن يتبين المزايا التي تجعله يقف على ما في النص من براعة النقش وجودة التصوير والتعبير. فلا مزية للألفاظ –عند الجرجاني- من غير سياق ولا تفاضل بينها، وإنما تأتي مزيتها وأهميتها من خلال علاقة اللفظة بما سبقها من ألفاظ وما يليها من ألفاظ... فاللفظة لا يمكن أن توصف إلا باعتبار مكانها في النظم. وهذه من الأدلة التي يستند عليها الأسلوبيون في منهجهم النقدي.

وبنظرة أكثر شمولية ينفرد "حازم القرطاجنّي" بتميزه عن غيره من أهل النظر في علوم البيان والبديع.
فهو أول من قسم القصيدة العربية إلى "فصول"، وأول من أدرك الصلة الرابطة بين مطلع القصيدة وآخرها الذي يحمل في ثناياه الانطباع الأخير والنهائي عن القصيدة.
وبناؤه لهذه النظرة على الاستهلال والخاتمة قائم على أسس نفسية تراعي شعور القارئ ونمو التأثير العاطفي والوجداني فيه، فمن طبيعة القارئ الإحساس والتجاوب مع المشاعر المتجانسة التي تفيض في جوٍ أو مناخ خال من التقلبات العاطفية".(12)
وتلتقي نظرة القرطاجني في تقسيمه للقصيدة إلى "فصول" مع نظرة الأسلوبيين المعاصرين في تقسيمهم النص الأدبي –بغض النظر عن جنسه- إلى "أبنية"، فما "البنية" إلا مصطلح مقابل لما أسماه القرطاجني بالفصل حين قصد به: التقاء أبيات القصيدة وترابطها مؤلفة وحدة معنوية.


لذا من الرائع بل من الأروع أن نجمع بين تلك المناهج النقدية قديمها وحديثها، ونأخذ منها ما نراه من نظرةٍ فاحصة أنها ستخدم النص الأدبي وتكسيه حلة جديدة، وتعطي كل ذي حق حقه سواء كان من جهة المبدع أو النص أو المتلقي أي (المرسل، والرسالة، والمرسل إليه).
-----
(1) مجلة الموقف الأدبي , العدد 404
(2)انظر لسان العرب مادة (سلب)
(3)اتجاهات البحث الأسلوبي , لشكري عياد
(4) النقد الأدبي الحديث أسسه الجمالية , للدكتور: سعد أبو الرضا
(5) المرجع السابق.
(6) أصداء دراسات أدبية نقدية , للدكتور: عناد غزوان.
(7) المرجع السابق.
(8) في النقد و النقد الألسني: للدكتور: إبراهيم خليل.
(9)مدخل إلى علم الأسلوب: للدكتور: شكري عياد.. "بتصرف"
(10)الأسلوبية وتحليل الخطاب: للدكتور: منذر عياشي.
(11)المرجع السابق.
(12)الأسلوبية ونظرية النص..للدكتور: إبراهيم خليل.

**


منقووووووووووول

**د لا ل**
2013-02-28, 21:36
النقد الثقافي
لسنا نعني بالنقد الثقافي نقد الثقافة، وإنما نعني به قراءة الثقافة للبحث عن الأنماط المضمرة،التي تختبئ تحت عباءة الجمالي في النقد الأدبي، فالنقد الثقافي يعتمد على أدوات النقد الأدبي المعدلة تعديلاً ثقافيًا.
لذلك لابد أن نتحرك وراء مفهوم الثقافة، وكيفية ارتباطه بالنقد، حيث إن"الثقافة تنشأ عن روح الشعب وعن عبقريته، والأمة الثقافية تسبق الأمة السياسية وتستدعيها.وتبدو الثقافة كمجموعة من الفتوحات الفنية والفكرية والأخلاقية التي تشكل ميراث أمة ما ،وتعتبر هذا الميراث متحققًا بشكل نهائي وهو يؤسس وحدتها"([1]).وهي كلمة فضفاضة، لكنها غالبًا ما استخدمت بمعنى معياري.وخلع عليها مؤسسو علم الإناسة مضمونًا وصفيًا بحتًا. ولم يعد الأمر يتعلق،بالنسبة لهم، كما هو بالنسبة للفلاسفة، بقول ما ينبغي أن تكون عليه الثقافة، بل بوصف واقعها كما تبدو في المجتمعات البشرية([2]).
وتعددت مفاهيم الثقافة، بين العلماء، كلٍ حسب رؤيته لها، من خلال الفكر الذي يبحث فيه، وفيما يلي آراء العلماء في تعريف الثقافة:
تايلور
"الثقافة هي ذلك الكل المتكامل الذي يشمل المعرفة، والمعتقدات، والفنون، والأخلاقيات، والقوانين، والأعراف، و القدرات الأخرى، وعادات الإنسان المكتسبة؛ بوصفه عضوا في المجتمع"([3]). هذا التعريف الواضح والبسيط يستدعي بعض التعليقات.فهوكما نرى: تعريف وصفي، وموضوعي، وليس تعريفاً معياريًا.ومن جانب آخر، فهو يختلف عن التعاريف الأخرى الحصرية والفردانية للثقافة.يرى تايلور أن الثقافة تعبير عن شمولية الحياة الاجتماعية للإنسان،وتتميز ببعدها الجماعي. والثقافة،في نهاية الأمر،مكتسبة،وبالتالي فهي لا تنشأ عن الوراثة البيولوجية. ومع أنها مكتسبة فإن أصلها وطابعها غير واعيين إلى حد كبير([4]).
ت . س . اليوت
تختلف ارتباطات كلمة الثقافة بحسب ما نعنيه من نمو فرد، أو نمو فئة أو طبقة، أو نمو مجتمع بأسره. وجزء من دعواي أن ثقافة الفرد تتوقف على ثقافة فئة أو طبقة، وأن ثقافة الفئة أو الطبقة تتوقف على ثقافة المجتمع كله، الذي تنتمي إليه تلك الفئة أو الطبقة. وبناء على ذلك فإن ثقافة المجتمع هي الأساسية... "([5]) يبدو أن (ت. س. اليوت) حذر في إبداء آرائه في هذه القضية. ولكنه يرى أن الثقافة ليست نتاجاً حتميا لقوى أو عوامل محددة.
د/حسين الصديق
" الثقافة هي مجموع المعطيات التي تميل إلى الظهور بشكل منظم فيما بينها مشكّلة مجموعة من الأنساق المعرفية الاجتماعية المتعددة؛ التي تنظم حياة الأفراد ضمن جماعة تشترك فيما بينها في الزمان والمكان. فالثقافة ما هي إلا التمثيل الفكري للمجتمع، والذي ينطلق منه العقل الإنساني في تطوير عمله وخلق إبداعاته، فهي بهذا المعنى تختلط بالمجتمع فلا يمكن التفريق بينهما إلا في مستوى التمثيل، فهي بالتالي تحدّد هوية المجتمع في كافة أبعاده المادية والمعنوية"([6]). إن ثقافة مجتمع ما هي مصدر كلّ القيم والأفعال وردود الفعل التي تصدر عن الأفراد المنتمين إلى ذلك المجتمع، وهي بالتالي مقياس كل شيء فيه، ومن خلالها يجب أن يُفهم أو يُدرس ([7]).
مالك بن نبي
الثقافة " هي مجموعة من الصفات الخلقية، والقيم الاجتماعية، التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لاشعوريًا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه"([8]).وعن المعنى التاريخي للثقافة، يقول:"هي تلك الكتلة نفسها بما تتضمنه من عادات متجانسة، وعبقريات متقاربة، وتقاليد متكاملة، وأذواق متناسبة، وعواطف متشابهة، وبعبارة جامعة: هي كل ما يعطى الحضارة سمتها الخاصة ويحدد قطبيها: من عقلية ابن خلدون، وروحانية الغزالي، أو عقلية (ديكارت) وروحانية (جان دارك)، هذا هو معنى الثقافة في التاريخ"([9]).
د/محمد عبد المطلب
الثقافة " الإضافة البشرية للطبيعة التي تحيط بها، سواء أكانت إضافة خارجية في إعادة تشكيل الطبيعة، أم تعديل ما فيها، إلى آخر هذه الإضافات التي لا تكاد تتوقف، بل إن هذه الإضافة الخارجية تضمن قائمة العادات والتقاليد والمهارات والإبداعات. أم كانت إضافة داخلية، بمعنى أنها تتعلق بما هو غريزي وفطري وبيولوجي في الكائن البشري، وهذا المفهوم الموسع للثقافة لم ينل رضا جمهرة المفكرين، ومن ثم حاول البعض حصره في (الإنتاج الفكري) والمعرفي، وما يتصل بهما من العقيدة والأخلاق والقانون والفن، أي ما يمكن أن يندرج في السلوك البشري سمعًا ورؤية وحسًا وصناعة([10]).
من خلال عرض الآراء السابقة عن تصورات المفكرين العرب والغربيين لمفهوم الثقافة، يمكن استنتاج الآتي:
• الثقافة هي المعرفة، المعتقدات، الفنون والأخلاقيات، القوانين، الأعراف، القدرات الأخرى، والعادات والتقاليد الخاصة بمجموعة معينة من الناس.
• الثقافة داخل المجتمع حصن حصين، وقوة فعالة، وقانون القوانين، لا يستطيع أحد المساس بها لأنها تشتمل على المعتقدات الدينية.
• الإغراق في الثقافة المحلية، يؤدي إلى العالمية. فكتابات نجيب محفوظ المغرقة في الثقافة المصرية، أدت به إلى الوصول للعالمية. وتقدُّم الشعوب يؤدي إلى انتشار ثقافتها، فيما يعرف بالعولمة.
• لكل مجتمع ثقافته الخاصة التي تختلف بالطبع عن ثقافات المجتمعات الأخرى، وقد يوجد في المجتمع الواحد ثقافات متعددة، قد تكون متجانسة،وقد تكون متباينة.

• نشأت الدراسات الثقافية في حِجْر علماء الاجتماع ـ لذا فالثقافة تنحو دائمًا منحى الاتجاه الاجتماعي، وتصطبغ الدراسات الثقافية بالصبغة الاجتماعية ـ وانتقلت فيما بعد إلى علوم مختلفة (الأنثروبولوجيا، علم النفس، اللغويات، النقد الأدبي، نظرية الفن، الفلسفة، العلوم السياسية ).
• الدراسات الثقافية من أغنى الدراسات بالدلالات المضمرة، والأنساق المختفية، والتي تحمل تفسيرا لأشياء كثيرة، لا يمكن فهمها إلا بالعودة لدراسة الثقافة.
سمات الثقافة
ومن أهم تلك السمات أنها (إنسانية، مكتسبة، تطورية، تكاملية، استمرارية، انتقالية، تنبؤية).
ـ إنسانية بمعنى أنها من صنع الإنسان ولا تنقل إلا بوساطته.
ـ مكتسبة لأن الإنسان يكتسب ثقافته ممن يعيشون حوله منذ ولادته، سواء في ذلك الأسرة والحي والمجتمع والمدرسة، أي أن اكتسابه للثقافة ليس إراديًا، وإنما يتم بمساعدة الآخرين.
ـ تطورية لا تبقى على حالها بل تتغير وتتطور، ولكن هذا التطور والتغير لا يتم في جوهر الثقافة بل في الممارسة والتطبيق، ويكون ذلك نتيجة لحاجات الإنسان الجديد الذي يعيش في المجتمعات الحديثة.
ـ تكاملية بمعنى أنها تشبع حاجات الإنسان وتريح نفسه، لأنها تقدم له حلولاً وتصورات جاهزة تجمع بين كل المسائل والجوانب الدينية والسياسية والاجتماعية و"البيولوجية".
ـ استمرارية لأنها تنبع من وجود الجماعة ورضاهم عنها وتمسكهم بها ونقلها إلى الأجيال اللاحقة، فهي بذلك تراث جماعي ووعي مشترك يرثه جميع أفراد المجتمع، ويسهمون في نقله إلى الأجيال التالية. وعلى ذلك فإنه لا يمكن القضاء على ثقافة مجتمع ما إلا بالقضاء على كل أفراده، أو تذويبهم في جماعة أكبر منهم وأقوى.
ـ انتقالية لأنها تنتقل من جيل إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر، فهي قابلة للتأثر والتأثير والانتشار بين الأمم الأخرى وخاصة عند توفر وسائل الاتصال الملائمة.
ـ ولعل السمة الأخيرة التنبؤية هي أهم سمات الثقافة عمومًا، فبما أن الثقافة تحدد أسلوب الأفراد وسلوكهم في المجتمع، فإنه بالإمكان التنبؤ بما يمكن أن يتصرف به فرد ما ينتمي إلى ثقافة معينة، لأن ثقافته تحتّم عليه أسلوبًا معينًا تجاه كل مشكلة من المشاكل التي تقابله في حياته اليومية ([11]).



تعريف النقد الثقافي
النقد الثقافي يبين الأبعاد الاجتماعية والتاريخية لنص معين، ومدى تفاعله مع الثقافة،
كما يربط بين البنية اللفظية والوضع الاجتماعي والفكري والثقافي فهو" فرع من فروع النقد النصوصي العام، ومن ثم فهو أحد علوم اللغة وحقول الألسنية مَعْنِىٌ بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه، ما هو غير رسمي وغير مؤسساتي وما هو كذلك سواء بسواء. من حيث دور كل منهما في حساب المستهلك الثقافي الجمعي. وهو لذا مَعْنِىٌ بكشف لا الجمالي، كما هو شأن النقد الأدبي، وإنما همه كشف المخبوء من تحت أقنعة (البلاغي/الجمالي)، وكما أن لدينا نظريات في الجماليات، فإن المطلوب إيجاد نظريات في (القبحيات) لا بمعنى البحث عن جماليات القبح، مما هو إعادة صياغة وإعادة تكريس للمعهود البلاغى في تدشين الجمالي وتعزيزه، وإنما المقصود بنظرية القبحيات هو كشف حركة الأنساق وفعلها المضاد للوعي والحس النقدي"([12]).
وحتى تقترب نظرية النقد الثقافي من الأفهام، يقارب د/ الغذامي مفهومها بمفهوم (علم العلل) عند (أهل الحديث)، لتشابه الغرض بين العلمين، فيقول:"هو إذن نوع من علم العلل كما عند أهل مصطلح الحديث، وهو عندهم العلم الذي يبحث في عيوب الخطاب ويكشف عن سقطات في المتن أوفي السند، مما يجعله ممارسة نقدية متطورة ودقيقة وصارمة. ولا شك أن البحث في علل الخطاب يتطلب منهجًا قادرًا على تشريح النصوص، واستخراج الأنساق المضمرة، ورصد حركتها. وكما هي الدلالة اللغوية المزدوجة لكلمة (جميل) التي تعنى الشحم مثلما تعنى (الجمال) فإن في الثقافة أيضًا جمالاً من تحته شحم، وكما أن الشحم لذيذ وجذاب إلا أنه ضار وفتاك بالصحة البدنية، وكأنما لذته هي الواسطة والقناع لمضاره، وكذا هي الجماليات البلاغية تضمر أضرارها و قبحياتها، والحاجة إلى كشف ذلك تصبح همًا نقديًا مشروعًا وضروريًا"([13]).
ويرى د/عبد المطلب أن الرمزية من أهم مقومات النقد الثقافي، فواقعة الزواج تصبح رمزا على العائلة ثم القبيلة ثم المجتمع، "فالنقد الثقافي يتعامل مع النص بوصفه نسقا من الرموز والأفكار، بدءا من مادة النص المحسوسة، وصولا إلى طبيعته التكوينية، ثم أثره التنفيذي، دون فصل بين هذه الثلاثية، مع ربطها بالواقع الخارجي وحركته الدائمة التي تحكمها ظواهر الاندفاع حينًا، والانفعال حينًا، والتذكر حينًا ثالثًا"([14]).

نظرية النقد الثقافي عند الغذامي



نظرية النقد الثقافي عند الغذامي
ينبني النقد الثقافي على نظرية (النسق المضمر) ـ أضاف الغذّامي عنصرًا سابعًا إلى عناصر النموذج اللغوي عند ياكبسون(المرسل، المرسل إليه، الرسالة، السياق، الشفرة، أداة الاتصال) وهو: (النسق) فتكون وظيفة الخطاب في هذه الحالة (نسقية) ـ وهو نسق ثقافي، وتاريخي، يتكون عبر البنية الثقافية والحضارية، ويتقن الاختفاء من تحت عباءة النصوص، ويكون له دور سحري في توجيه عقلية الثقافة، وذائقتها، ورسم سيرتها الذهنية والجمالية. وعليه فإن النقد الثقافي هو مشروع في نقد الأنساق، وهذا تحول جذري ونوعي يفترق فيه النقد الثقافي عن النقد الأدبي، بما أن الأخير معني بنقد النصوص، وهو بحث في جماليات اللغة وتوظيف للمجاز للكشف عن تلك الجماليات.
إن المجاز الكلي هو المفهوم البديل عن المجاز البلاغي، وفي المجاز الكلي تنشأ الجملة الثقافية وتنشأ الدلالة النسقية، والجملة الثقافية هي رديف مصطلحي للجملتين النحوية والأدبية، والفرق بين الجملة الثقافية وهاتين الجملتين يماثل - بل يفوق - الفرق بين الجملة الأدبية والجملة النحوية، وإن كانت النظرية البلاغية والنظريات النقدية قد ميزت تمييزا كبيرا بين الجملة النحوية والجملة الأدبية، وبين المعنى والدلالة، وبين الدلالة الصريحة والدلالة الضمنية، فإن النقد الثقافي يميز بين ذلك كله وبين الجملة الثقافية ومعها الدلالة النسقية ومفهوم المجاز الكلي كتطور نظري ومفاهيمي باتجاه نقد الأنساق لا نقد النصوص، وباتجاه التأسيس لوعي نظري ونقدي مختلف نوعيا وإجرائيا.
إن النقد الثقافي ـ عند الغذامي ـ نظرية نقدية/ألسنية الأدوات ومعرفية القيمة وثقافية المضمون وهي نقد للأنساق آخذة بالمجاز الكلي والتورية الثقافية والنسق المضمر والدلالة النسقية. ونقول إنه بديل عن النقد الأدبي بعد أن فقد هذا النقد وظيفته، حينما بلغ حد التشبع من جهة ولم يعد قادرا على كشف الأنساق، وقد كان همه منصبا على جماليات النصوص وليس على ما وراء ذلك من أنساق مضمرة([15]).

خصائص الدراسات الثقافية([16])عند زيودين ساردار وبورين فان لون
ـ تهدف الدراسات الثقافية إلى تناول موضوعات تتعلق بالممارسات الثقافية وعلاقتها بالسلطة، وتهدف من ذلك إلى اختيار مدى تأثير تلك العلاقات على شكل الممارسات الثقافية.
ـ على الرغم من كونها كينونة منفصلة عن السياق الاجتماعي والسياسي، فإن الدراسات الثقافية ليست مجرد دراسة للثقافة. فالهدف الرئيسي لها هو فهم الثقافة بجميع أشكالها المركبة والمعقدة وتحليل السياق الاجتماعي و السياسي في إطار ما هو جلي في حد ذاته.
ـ في الدراسات الثقافية تؤدى الثقافة دورين أساسين: فهي هدف الدراسة. ومناط الفعل والنقد السياسي على حد سواء. وتهدف الدراسات الثقافية لأن تكون التزاما فكريا وبرجماتيا في آن واحد.
ـ تحاول الدراسات الثقافية أن تظهر انقسام المعرفة، وتروضه من أجل تجنب الانقسام بين نمطين للمعرفة؛ أولهما:الضمني وهو المعرفة البديهية المبنية على الثقافات المحلية،وآخرهما: الأشكال الموضوعية للمعرفة التي يطلق عليها العالمية.
ـ تلتزم الدراسات الثقافية بالارتقاء بأخلاقيات المجتمع الحديث، وأيضا بالخط الجوهري للعمل السياسي. والدراسات الثقافية ليست مجالا للدراسة عديمة الجدوى؛ لكنها التزام تجاه إعادة هيكلة البناء الاجتماعي من خلال الانهماك في السياسات الحرجة، لذلك فالدراسات الثقافية تهدف إلى فهم شكل الهيمنة في كل مكان وتغييره وخاصة في المجتمعات الصناعية الرأسمالية ([17]).
خصائص النقد الثقافي عند ليتش
ـ لا يؤطر النقد الثقافي فعله تحت إطار التصنيف المؤسساتي للنص الجمالي، بل ينفتح على مجال عريض من الاهتمامات إلى ما هو غير محسوب في حساب المؤسسة، وإلى ما هو غير جمالي في عرف المؤسسة، سواء كان خطابا أمظاهرة.
ـ من سنن هذا النقد أن يستفيد من مناهج التحليل العرفية من مثل تأويل النصوص ودراسة الخلفية التاريخية، إضافة إلى إفادته من الموقف الثقافي النقدي والتحليل المؤسساتي.
ـ إن الذي يميز النقد الثقافي المابعد بنيوي هو تركيزه الجوهري على أنظمة الخطاب وأنظمة الإفصاح النصوصي، كما هي لدى بارت ودريدا وفوكو، خاصة في مقولة دريدا أن لا شيء خارج النص، وهي مقولة يصفها ليتش بأنها بمثابة البروتوكول للنقد الثقافي المابعد بنيوي، ومعها مفاتيح التشريح النصوصي كما عند بارت، وحفريات فوكو ([18]).
ومما سبق يمكن استخلاص أهم خصائص النقد الثقافي في الآتي:
• إبعاد الانتقائية المتعالية التي تفصل بين الإنتاج النخبوي والإنتاج الشعبي؛ فيقوم بدراسة ما هو جمالي وغير جمالي.
• كشف جماليات أخرى في النص لم يُلتفَت إليها من قبل .
• يعتمد النقد الثقافي على النقد الأدبي، ولا يقوم بدونه، فالنقد الثقافي مكمل للنقد الأدبي، لذا أضاف د/ الغذامي مستحدثات جديدة على النقد الأدبي، تطور منه لتجعل منه نقدا ثقافيا فعالا، ولم يبتر النقد الأدبي, وذلك عكس ما دعى إليه من موت النقد الأدبي ليحل مكانه النقد الثقافي.
• الدخول في عمق النص بدلاً من النظرة السطحية.
• كشف القيم الفضلى والحقيقية للنص.
• تذوّق النص بوصفه قيمة ثقافية، لا مجرّد قيمة جمالية، وذلك من خلال الكشف عن الأنساق المضمرة في الخطاب الثقافي.
• الكشف عن حقائق تحيط بالنص وقائله، من معرفة الخلفية التاريخية للنص وقائله، وأهم المقومات التي أثرت في شخصية القائل.
• ربط العلوم الإنسانية بالأدب ( علم الاجتماع ـ علم النفس ـ التاريخ ) ممّا يساهم في إثراء النص والساحة الثقافية.
• يرتبط النقد الثقافي بالعمل السياسي، فهو يربط عمل المثقف بالسلطة، والسلطة بالمثقف، ويدرس العلاقة المترتبة على ذلك.
•كشف حقائق متعلقة بالنصوص المهمّشة من خلال إلقاء الضوء عليها، حيث يهتمّ هذا النوع من النقد بنصوص المعارضة، والأدب الشعبي، والأدب النسوي، ونحو ذلك.
• يتناول النقد الثقافي النسق المضمر في الثقافات المحلية، للارتقاء بها وتسويقها إلى العالمية.
مهمة النقد الثقافي
إن الذي نصبو إليه أن تكون مهمة النقد الثقافي الوقوف ضد هيمنة النموذج الوافد، لا ضد النموذج في ذاته. وأن يعطي للنموذج العربي الصحيح الأصيل احترامه، وأن يتيح له الفرصة ليؤدي وظيفته الاجتماعية والأدبية، ولا نقصد هنا الوظيفة المغلوطة التي جلبتها أزمة الركود والجمود العربي، كما لا نقصد الوظائف المزيفة التي جلبتها أزمنة تفريغ الذاكرة العربية من هويتها وملئها بالثقافة المضادة التي تسعى جاهدة لتحميل الماضي كل أوزار الحاضر، وتسقط على هذا الماضي كل العور الذي أصاب الواقع العربي الحاضر من تسلط وقهر وإرهاب، ظنا أن هذا هو السبيل لدخول العولمة"([19]).
المنهج الثقافي عند العرب
لو انتقلنا إلى الوعي العربي بمفهوم الثقافة. فسوف نجد تقاربًا في هذا المفهوم مع الوافد الحداثي، وعلى مستوى الوعي اللغوي، تحتاج الثقافة إلى نوع من الفطنة ودقة الفهم، والمثقف ضابط محتوياته، وقائم بها، وهذا المحتوى يمثل جملة المعارف من ناحية، وجملة الاحتياجات من ناحية أخرى([20]).
فقد حمل المصطلح عند ابن سلام الجمحي معنى الإتقان، حيث يقول:" وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم، كسائر أصناف العلم والصناعات: منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان"([21]).معنى هذا أن الشعر معطى ثقافي يوازى الثقافة في عمومها، ومن ثم نلحظ أن الوعي التراثي يلازم بين العروبة والشعر. بوصف الشعر مخزون الشخصية العربية([22]).
كما أن الثقافة ضرورة ملحة، أوجب ابن رشيق على الشاعر الإلمام بها وبمعطياتها، حيث يقول:" والشاعر مأخوذ بكل علم، مطلوب بكل مكرمة؛ لاتساع الشعر واحتماله كل ما حمل: من نحو، ولغة، وفقه، وخبر، وحساب، وفريضة، واحتياج أكثر هذه العلوم إلى شهادته، وهو مكتف بذاته، مستغن عما سواه؛ ولأنه قيد للأخبار، وتجديد للآثار...وليأخذ نفسه بحفظ الشعر والخبر، ومعرفة النسب، وأيام العرب؛ ليستعمل بعض ذلك فيما يريده من ذكر الآثار، وضرب الأمثال، وليعلق بنفسه بعض أنفاسهم ويقوى بقوة طباعهم، فقد وجدنا الشاعر من المطبوعين المتقدمين يفضل أصحابه برواية الشعر، ومعرفة الأخبار..."([23]).فهذا تأكيد لدعوى النقد الثقافي، وشموله لجميع الدراسات الإنسانية داخل الشعر ليصبح بذلك موسوعة شعرية ديوانية.

[1] دوني كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة /قاسم المقداد، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2002، ص: 19.

[2] المصدر السابق : 22.

[3] زيودين ساردار و بورين فان لون، الدراسات الثقافية، ترجمة /وفاء عبد القادر، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003، ص: 8، و مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية: 23.

[4] مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية: 22.

[5] ت. س. اليوت، ملاحظات نحو تعريف الثقافة، ترجمة د/ شكري عياد، ضمن كتاب دراسات في الأدب والثقافة، المجلس
ملاحظات نحو تعريف الثقافة، ترجمة د/ شكري عياد، ضمن كتاب دراسات في الأدب والثقافة، المجلس الأعلى للثقافة، 2000، ص: 379.

[6] د/ حسين الصديق، الإنسان والسلطة، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، ص: 18،17.

[7] المصدر السابق: 18.

[8] مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر ببيروت ودمشق، 2000، ص: 74.

[9] المصدر السابق: 77.

[10] د/محمد عبد المطلب ،النقد الأدبي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2003، سلسة الشباب، العدد رقم 5.ص:90.

[11] الإنسان والسلطة: 19.

[12] د/عبد الله محمد الغذامي، النقد الثقافي (قراءة في الأنساق الثقافية العربية)، المركز الثقافي العربي، بالدار البيضاء وبيروت، ط/2، 2001.ص: 84،83.

[13] المصدر السابق: 84.

[14] النقد الأدبي: 93.

[15] النقد الثقافي: 89:55 .

[16] النقد الثقافي فرع من فروع الدراسات الثقافية.

[17] الدراسات الثقافية: 13.

[18] النقد الثقافي: 32.

[19] النقد الأدبي: 94.

[20] المصدر السابق: 91.

[21] ابن سلام الجمحي ، طبقات فحول الشعراء، تحقيق/ محمود شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، (د.ت). ص: 5.

[22] النقد الأدبي: 91.

[23] ابن رشيق القيرواني ،العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق / محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت (د.ت).ص: 1/197،196.

**د لا ل**
2013-02-28, 21:43
النقد الانطباعي أو التأثري

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم :

إن أقدمَ منهجٍ للنقدِ ظهرَ في التاريخ قدْ كانَ المنهج الانطباعي أو التأثري , لكن هذا المنهج لم يختفِ قط بل ظل قائمًا وضروريًا حتى اليوم . والنقد الانطباعي له ارتباط وثيق بالقيمة , لذلك فهذا النوع من النقدِ غيرَ مستقلٍ عنِ المدح أو الذم . وهذا النقد يقومُ به أناس اعتادوا بحكم طول مزاولتهم لقراءة الأدب وفنونه أن يتذوقوا ما يقرؤون ثم يحكموا له بالجودة أو الرداءة .1

ويقصد بالنقد التأثري : هو النقد الذي تكون الدوافع الذاتية هي التي تتحكم فيه , بمعنى أن يكون تقويم الناقد للعمل الأدبي مبنياً على أساس ما يبعثه في نفسه , ومدى ما يستثير من ذكرياته وعواطفه الكامنة في ذاته . فهو يعتمد إلى حد كبير على الخلفية الاجتماعية والثقافية , والعوامل المؤثرة في تكوين شخصية الناقد وحده .وهذا الأسلوب في النقد هو الذي نشأ مع الإنسان , وغلب على حياته الأولى , فإذا نظر الناظر في رسم أو قرأ عملاً أدبياً , انفعلتْ نفسه بما أثارت لوحة الرسام , أو صوت المنشد , أو قصيدة الشاعر فيبدي رأيه غيرَ ناظرٍ إلى رأي غيره , ولا إلى طبيعة هذا الشيء الذي أثاره أو أثر فيه , وإنما يعبر في هذا الرأي عن عواطفِه ومشاعره الخاصة تجاه هذا الشيء.2

وقد كان يؤمن الدكتور محمد مندور (1907م ـ 1965م) بالانطباعية , ويرى أنها الثابت النقدي الكبير في التحولات المنهجية المختلفة ( اللغوية ـ التاريخية ـ الايدلوجية ....) وذلك لاعتقاده أن (( المنهج التأثري الذي يسخر منه اليوم بعض الجهلاء , ويظنونه منهجا بدائيا عتيقا باليا لا يزال قائما وضروريا وبديهيا في كل نقد أدبي سليم , مادام الأدب كله لا يمكن أن يتحول إلى معادلات رياضية أو إلى أحجام تقاس بالمتر والسنتي أو توزن بالغرام والدرهم ))
والنقد التأثري هو الأساس الذي يجب أن يقومَ عليه كل نقد سليم وذلك لأننا لا يمكن أن ندرك القيم الجمالية في الأدب بأي تحليل موضوعي ولا بتطبيق أية أصول أو قواعد تطبيقا آليا , وإنما تٌدرك الطعوم بالتذوق المباشر ثم نستعين بعد ذلك بالتحليل والقواعد والأصول في محاولة تفسير هذه الطعوم وتعليل حلاوتها أو مرارتها . 3

وهذا النوع من النقد له مدارسه في القديم والحديث فمن أولئك [ لانسون الفرنسي ] الذي يتبنى هذا النقد ويذود عنه في كتابه : [ منهج البحث في الأدب ] فهو يقول : لا نستطيع أن نتطلعَ إلى تعريف أو تقدير لصفات عمل أدبي أو قوته مالم نعرض أنفسنا قبل كل شيء لتأثيره , تعريضاً مباشراً .
وهذا الكلام قريب جداً من كلام واحد من كبار نقادنا القدماء وهو عبدالقادر الجرجاني الذي يُقِرُ بتأثير المشاعر في الأحكام الأدبية في قوله [ إذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعراً أو يستجيد نثراً ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللفظ , فيقول حلو رشيق , وحسن أنيق , وعذب سائغ , وخلوب رائع , فاعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف , وإلى ظاهر الوضع اللغوي , بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده , وفضل يقتدحه العقل من زناده .. انتهى كلامه من كتابه : أسرار البلاغة .
و يقول القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني في قوله في الشعر((: وهو باب يضيق مجال الحجة فيه , ويصعب وصول البرهان إليه.))
ثم يقول : (( والشعر لا يحبب إلى النفوس بالنظر والمحاجة , ولا يحلى في الصدور بالجدال والمقايسة , وإنما بعطفها عليه بالقبول والطلاوة , ويقربه منها الرونق والحلاوة , وقد يكون الشيء متقناً محكماً , ولا يكون حلواً مقبولاً , ويكون جيداً وثيقاً , وإن لم يكن لطيفاً رشيقاً . انتهى كلامه من كتابه : الوساطة بين المتنبي وخصومه ))
قال الدكتور بدوي طبانة : (( ومثل هذه الآراء في أدبنا العربي وفي الآداب الإنسانية كثير , وكلها يدل على الاعتراف بهذا ( النقد التأثري (الذي تكون ذات الناقد فيه , واستجاباته الخاصة هي الأساس الذي يبنى عليه تقدير الأعمال الأدبية والحكم عليها بالجودة أو بالرداءة(( ويقول في موضع آخر : (( ومن هذا يتضح أن النقد التأثري يعبر دائماً عن الرأي الذاتي لصاحبه , ومدى استجابته للعمل الأدبي , وانفعاله به ,وفي هذا النقد كثيراً ما تتعارض الآراء بتعارض الميول والنزعات, واختلاف العواطف والانفعالات .(( هنا انتهى ما نقلته من كتاب الدكتور بدوي طبانة. 4

ولعلنا نرى أحيانا بعض النقاد (الأكاديميين) الذين يعتمدون المقياس الموضوعي فقط , قد أنتجوا لنا نقدا باردا لا حياة فيه حين يتناولون نصوصا يتم معالجتها وفق مقاييسهم المعروفة، ولكن ذلك يكون لسببين: أولهما عدم الاعتماد بشكل أو بآخر على الذائقة الشخصية أو إهمالها تماما، وثانيهما أن الناقد المعني لا يمتلك موهبة النقد, والنقطة الأخيرة تشبه إلى حد بعيد من يحمل شهادة راقية في الشعر العربي مثلا , وهو ليس بشاعر ولكنه قد يكون ناظما للشعر, وذلك لا يعني أنه شاعر حقا أو الذي يحمل شهادة عالية في الترجمة , ولكنه لا يستطيع ترجمة نص إبداعي ترجمة مبدعة. وقد جرى استعمال اصطلاح (النقد الأكاديمي) على كل نقد يحمل سمات التعالي على نتاجات المبدعين ويؤطرها في قوالب جامدة لا روح فيها ولا حياة. لكن الاعتماد على النقد الذي يأتي بوحي الذائقة لوحدها له مخاطر الانزلاق في مطب الذاتية والتقويم المنحاز. وهذا معناه الركون إلى الانطباعية ومالها من مخاطر لا تعطي العمل الأدبي حقه من التقويم الذي يستحقه. 5

المقياس الأوحد الذي تقوم عليه هذه المدرسة هو مقياس التأثير , فلا يُقال إن هذه القصيدة قصيدة كلاسيكية أو قصيدة رومانتيكية , بل يُقال إنها قصيدة جميلة أو رديئة , المهم هو شعور القارئ والناقد وليس إلا قارئا مرهف الحس , سليم الذوق , المهم هو التأثير الذي يجده المتلقي من النص .
والذي يُقال في الأدب يُقال في سائر الفنون , ليس الفن تصويرًا للحقيقة , فمن ذا الذي يعرف حقائق الأشياء ؟ ليس الفن التزاما بالواقع , فكل منا يرى الواقع من زاويته الخاصة .6

.................................................. ...

المراجع :

1ـ النقد الانطباعي في النقد المغربي الحديث , د: محمد يحي قاسمي , كاتب وأكاديمي مغربي, مقالة صدرت 2009م, موقع ديوان العرب . بتصرف.

2ـ من أنواع النقد الأدبي , الأستاذ خالد المحيميد , نوفمبر2009م ,( بتصرف )
(http://khaled-m.com/2009/11/06/%D9%8...F%8A/)
3ـ المنهج الانطباعي النشأة التاريخية للانطباعية ( مفاهيمها وأسسها)
وعد العسكري )الحوار المتمدن - العدد: 2022 - 2007 / 8 / 29 ) ( بتصرف)
(http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=106835)

4ـ من أنواع النقد الأدبي , الأستاذ خالد المحيميد , نوفمبر2009م , ( بتصرف )

5ـ فيصل عبد الوهاب ـ شاعر وناقد , ( بتصرف ) مقال نقدي .

(http://www.shrooq2.com/vb//showthread.php?t=13381)

6ـ من ( كتاب قضايا النقد الأدبي الأستاذ الدكتور بدوي طبانة عام 1404هـ , دار المريخ للنشر , الرياض , ص56 بتصرف).

.......

آمل لكم الفائدة .
تحياتي
منقوووووووووول

**د لا ل**
2013-02-28, 21:55
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ....أما بعد :

هذه إطلالة على :

التحليل النصي التداولي للخطاب الشعري !
دراسة تطبيقية في قصائد نموذجية!

الفصل الثالث :

توطئة :

يقوم هذا الفصل على محاولة مقاربة نموذجين شعريين من زاوية لسانية نصية ، وفي ضوء وصف مقولتي الاتساق والانسجام في الخطاب الشعري ، وآلية توازي الأنساق الدالة مع المقام العام الذي تكشف عنه المهيمنات النصية ، وقد وقع اختيارنا على قصيدتي الشاعرين أبي القاسم الشابي وعبد الله الصيخان الموسومتين بفلسفة الثعبان المقدس و كيف صعد ابن الصحراء إلى الشمس؟ على الترتيب[1] (http://www.alfaseeh.com/vb/#_ftn1)..

تفاعل البنية والدلالة في فلسفة الثعبان المقدس

الشاعر والقصيدة

الشابي (أبو القاسم ) شاعر عربي تونسي المولد والنشأة ،ولد سنة1909 وتوفي سنة 1934 ،عرف بشعره الثوري التحرري الذي ألبسه حلة رومانسية ورمزية ،يستعير فيها الصور الطبيعية كدلالات موحية بقيم العدالة والحرية والأمل والإنسانية ،وفي الآن نفسه يستحضر من الطبيعة ذاتها كل الصور المضادة المنسجمة مع قيم اللاعدل والسيطرة والشر،وهذه القصيدة نموذج من نماذج شعره المعبر عن الصراع الأزلي بين الخير والشر بين القوة الظالمة والشعوب المستضعفة من ديوانه أغاني الحياة ،والذي يعده النقاد بحق نموذجا للتجربة الفنية الراقية شكلا ومضمونا [2] (http://www.alfaseeh.com/vb/#_ftn2)، وحديث الشاعر في القصيدة تعبير عن فلسفة القوة المثقفة في كل مكان ،والتي يمثلها الثعبان المقدس في حواره مع الشحرور بلغة متصوفة تزين الهلاك وتعطيه صورة التضحية والفداء من أجل غاية سامية ومقدسة هي الخلود الأبدي،والقصيدة من هذا البعد تختزل الصراع بين القوى المهيمنة على العالم والكيانات الضعيفة ، ومحاولة إقناعها بعدم جدوى المطالبة بالحقوق إلا ماتقرره هذه القوى المهيمنة ،والتي تفرض نمطا من حياة الاحتواء والتبعية والعيش في كنف الآخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] - أغاني الحياة ،منشورات دار الكتب الشرقية ،تونس ،1955، المقدمة
2 -المرجع نفسه ،المقدمة.



* * *

تكملة :

درجت الدراسات في تحليل الخطاب على أن تنطلق من فضاءات إستراتيجية ناتئة في البنية النصية كالعنوان والمقدمة والخاتمة والمواضع الداخلية السميكة،مستنجدة بمعطيات جزئية في وصف المعطيات الكلية ،والتي يسمح إدراكها بالإحاطة بعالم النص في صفته الكلية ، ثم تأكيد ترابطه من خلال وصف العلاقات بين الأجزاء وتحديد نوعها في مستويي السطح والعمق ،مما يؤكد ضرورة الانتقال بالوصف النحوي من مجال الجملة الضيق إلى مجال أرحب يمثله الخطاب في صورته النصية والتي هي قادرة على الإفصاح والتأثير والفعل [1] (http://www.alfaseeh.com/vb/#_ftn1)،ويرتكز بناء النص وانسجامه على جملة من العناصر النصية[2] (http://www.alfaseeh.com/vb/#_ftn2) ، تحقق تكامله وتلاحم أبنيته الجزئية ، بالإضافة إلى تضافر جملة من القرائن الحالية من طبيعة ثقافية واجتماعية متعددة الأبعاد تسهم بدورها في تحقيق الانسجام ، وتُحدث حوارية نصية بين بنية الخطاب وعالمه،فإذا انتقلنا إلى عناصر الربط المسْهمة في اتساق النصوص فمنها البسيط ومنها المركب ؛ فمن الأولى حروف العطف ،ومن الثانية أسماء الإشارة والأسماء الموصولة ، والضمائر الإحالية ،والمركبات الحرفية والظرفية،وقد بات من المعلوم أهمية هذه الروابط في تحقيق تداولية البنى النصية في السياقات المحيلة إليها .إن التحليل اللساني النصي يجمع بالضرورة بين القواعد التركيبية والدلالية والتداولية ،ذلك أن تحليل النصوص يتجاوز الوصف النحوي الجملي القائم على مبدأ التجزئة إلى المكونات المباشرة دونما نظر وعناية بالجوانب الدلالية والسياقية التي تضبط مقاصد المتكلم وغايات الخطاب المنجز علما أن السمة الدينامية للنصوص تعطي لها السلطة المطلقة في فرض نموذج من المعايير التحليلية التي ينطلق منها المحلل في توصيفه ،بعكس النحو الجملي الذي ينطلق من قواعد جاهزة معطاة سلفا لدراسة مكونات الكلام في أشكاله الجملية،ونأخذ الآن في الاقتراب من عالم القصيدة من خلال معرفة تكوينها المقطعي الذي يؤسس بنيتها الظاهرة،و يقوم وصفنا للبنية النصية على رصد تحولات الضمير كمفتاح سهل المنال للوقوف على تقطعات النفس الشعري المصاحب لهذه التجربة الشعرية ، فهذا النص شبيه بنصوص كثيرة للشابي اختارت القالب العمودي الذي يتجرد من تعمد القسمة الظاهرة ، تاركا للقارئ هذه المهمة، ولعل تحولات الضمائر تقلل نوعا ما من ذلك التكثيف الدلالي الذي يجعل من القصيدة لحمة واحدة يصعب فصلها،والجدول التالي يبين ذلك :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] (http://www.alfaseeh.com/vb/#_ftnref1) - سعد مصلوح ، نحو أجرومية للنص الشعري ، دراسة في قصيدة جاهلية فصول ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ، مجلد 16 ، عدد1، 1997، ص153 .معلوم أن الاهتمام الأول بإرساء قواعد وصف نحوي نصي كانت مع ايوالد لانغ في دراسته quand une grammaire de texte est elle plus adequate q uene grammaire de phrase ,langage,p26 .

[2] (http://www.alfaseeh.com/vb/#_ftnref2) - بخصوص مفاهيم الاتساق والانسجام والتناص انظر دي بوجراند ، النص والخطاب والإجراء ، ترجمة تمام حسان ،، عالم الكتب ، القاهرة، ط1 ،1998، ص103 ومابعدها .

هناك جدول :


لم أستطع إدراجه فيمكن مشاهدته من البحث في الرابط الذي سوف أضعه!

تعليق :

إن معمار القصيدة قائم على المقاطع الخطابية التالية :

1-وصف2-سردٌ شعري3-وصفٌ وخطاب (خطابمدمج )4-سردٌ شعري5-وصفٌ وخطاب ( خطابمدمج)6-خطاب 7-وصفٌ وسرد ( خطابمدمج) والظاهر أن هناك توازيا في مستوى البنىالمقطعية مما يفيد في ربطها ببعضها ،وجعلها لبنات في نظام نصي متكامل يقوم علىتراتبية واضحة تستهل بوصف فسرد فخطاب فخاتمة وصفية، والقصد من هذا البناء تحقيقالغاية الإقناعية ،وتحقيق عنصر المحاججة في الرسالة الشعرية :
الشاعر...........النص.............الحجة.......المخ اطبون ( المستضعفون في كل مكان ) تزيين الهلاك في صورة تضحية من أجل بقاءالقوة........التهديد ....الإغراء ...الوعود البراقة. وما يمكنملاحظته في الخطاب اعتماده السرد الشعري الذي أضحى تقنية فنية يعتمد عليها الشعرالحديث والمعاصر ،إذ لم يعد محصورا في الرواية والخبر التاريخي إلا أن الغرض منتوظيف السرد الشعري ليس إنتاج حكاية بل تشكيل وضعية نصية معقدة ومتشابكة متجاوزةللوضعية الغنائية والانفعالية الظاهرة في الشعر الكلاسيكي [1] (http://www.alfaseeh.com/vb/#_ftn1)، وتقرر اللسانيات النصية على يد أحد أقطابها من المدرسة الفرنسية ج.م. آدام(J.M.Adam) أن النص بنية مقطعية غير متجانسة في الأساس، وبالإضافة إلى هذا يمكن أن نعين نوعا من المناسبة الغرضية بين مطلع النص في خاصيته الوصفية السردية وخاتمة القصيد في وصفيتها التقريرية ، واللافت للنظر الحصيف أن الشابي قد بنى نصه على رمزية عددية يحظى فيها العددخمسة(5) بمكانة متميزة ،والحقيقة أن الرمز 5 يحتل في سلم الثقافات الإنسانية مكانة متميزة ففي الهندية مثلا يعبر عن سلالة الآلهة بنضاف ،وربما هذا المعنى ينسجم مع الصفة التقديسية التي نعت بها ثعبان الجبال كسلطة روحية متحكمة تحكم الآلهة ، وفي البوذية يرمز العدد خمسة إلى عدد أتباع بوذا ومكونات الكون ، كما ارتبط العدد نفسه في الحضارة الإسلامية بعدد الفرائض وفي الثقافة اللغوية نجد الأسماء الخمسة ،وربما ارتبط هذا العدد بالحواس الخمسة والتي تثبت حضورها في الخطاب الشعري من حيث هي وسائل لتحسس الجمال والقبح فيما عبرعنه الشاعر ضمن حوارية الثعبان / الشحرور فجملة الأحاسيس المعبر عنها هاهنا ترتد إلى إحدى الحواس المدركة للحقيقة الوجودية [2] (http://www.alfaseeh.com/vb/#_ftn2) .

أولا-قواعد الاتساق (cohesion )

إنّ دراسة الرّبط في البنية النصية مهم لأن تأكيده يثبت صفة النصية ووحدة البناء ،وسيكون الطريق مفتوحا بالنسبة إلى الدارس لكي يحاور نصه ،و يؤوله انطلاقا من معرفته الخلفية ورؤيته للعالم ،وينقسم الربط إلى أقسام تناولها علماء لسانيات النص لعل أهمها :
أ-الربط التعليلي.
ب-الربط الإشاري.
ج-الربط الاستنتاجي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ

1 ـ محمد فكري الجزار ، لسانيات الاختلاف، الخصائص الجمالية لمستويات بناء النص في شعر الحداثة ،إتراك للطباعة والنشر ،ط1 ،2001 ، ص224 .
2 ـ العروسي القاسمي ،اللغة المثلى ونحو الأفكار عند الشابي ،الحياة الثقافية ،عدد113،السنة 25 ،مارس 2000،ص12.

**د لا ل**
2013-02-28, 21:59
الاتساق النصي

الاتساق النصّي
دراسة تطبيقية
ــ د. عبد الجليل غزالة – المغرب


طرح الإشكالية
ما الوسائل اللغوية التي يستعملها القاص الليبي زياد علي لتسطير كيفيات الاتساق النصي داخل مجموعته الحكائية التي تحمل عنوان (الطائر الذي نسي ريشه)؟ هل تستطيع المفاهيم الغربية المنظمة لألسنية النص تحديد اتساق الخطاب الأدبي عند المؤلف؟
الإطار النظري:
تدرج ألسنية النص والخطاب وكذلك قطاعاً نحو النص وتحليل الخطاب. مصطلح الاتساق النصي في العديد من بحوثها الأساسية..
نوظف مصطلح الاتساق النصي في دراستنا الحالية لتحديد التماسك المتين بين الأقسام اللغوية المكونة للخطاب الحكائي الذي ينجزه زياد علي من خلال (الطائر الذي نسي ريشه) يقوم اتساق النص الحكائي على بعض الوسائل اللفظية التي تربط بين العناصر اللغوية البانية لجزئيات الخطاب المتلاحم داخل هذا العمل الأدبي.
سيقطع عملنا طريقا خطياً مترابطاً منذ البداية حتى النهاية، بغية وصف النصوص التي تخلق هذه المجموعة، وتحليل الضمائر والإشارات المحلية والإحالات (سابقة ولاحقة) كما سندرس أدوات الربط والعطف والاستبدال والحذف والوصل والتوظيف المعجمي للكلمات القابعة داخل هذه الحكايات.
والحقيقة أن مقاربتنا الألسنية ستبقى قاصرة عن بناء موضوع الخطاب الحكائي والبنية الكلية للإنتاج الأدبي الذي يقدمه زياد علي. فالظاهرتان تحتاجان إلى مقاربة خارجية، أما ممارستنا الحالية فستكون داخلية خالصة تبرز مظاهر الاتساق النصي أن كل إبداع أدبي يجسد لحمة خطابية موحدة، في حين أن غيابها فإنه يقصي هذا الاتساق ويدخل النص في دائرة العدم: أي وجود جمل مفككة ومبتورة. يشترط الاتساق النصي على كل مقطع لغوي خلق كلّ موحد، تتوفر فيه "خصائص معينة تعتبر سمة في النصوص ولا توجد في غيرها، ولا يقف الاتساق النصي عند المستوى الدلالي فقط، وإنما يتوغل أيضاً داخل مستويات أخرى مثل النحو والمعجم. وهذا مرتبط بتصور الباحثين للغة باعتبارها نظاماً يملك ثلاثة مستويات: الدلالة (المعاني)، النحو والمعجم (الأشكال) والصوت والكتابة (التعبير). يعني هذا التصور أن المعاني تتحقق كأشكال والأشكال كتعابير...)(1).
يهتم الاتساق النصي بالعلاقات الموجودة بين أقسام الخطاب الأدبي، لكي يحدد مجموعة من الوسائل والمظاهر التي تربط بين عنصرين لغويين: عنصر لاحق وآخر سابق.
الاتساق النصي في (الطائر الذي نسي رئيسه):
يرتكز الاتساق النصي عند زياد علي في هذه المجموعة الحكائية على عدة وسائل ومظاهر لغوية محددة تنسج البنى الداخلية بكل علاقاتها ووظائفها. نذكر من بين هذه الوسائل: الإحالة، الاستبدال، الحذف، الوصل والاتساق المعجمي.

1-الإحالة:
يطلعنا التحليل الألسني الخطابي أن مؤلف هذه المجموعة الأدبية يوظف عدة إحالات لغوية تبرز أن العناصر البانية للنصوص لا تستطيع بمفردها تأويل الخطابات الداخلية، بل لا بد من الرجوع إلى ما تحيل إليه مثل بعض الضمائر الوجودية المنفصلة والمتصلة وضمائر الملكية والنسبة وكذلك أسماء وظروف الإشارة الزمكانية وأدوات المقارنة (كمية وكيفية)..
يحكم زياد على نسج إحالاته اللغوية المشكلة لخطابات (الطائر الذي نسي ريشه) بواسطة نوعين من الضمائر:
1-1-ضمائر وجودية منفصلة: (أنا، أنت، هو، هي، نحن، أنتما، هما، هم، هن)
تنتظم هذه الضمائر داخل عدة صفحات من هذه المجموعة الحكائية. نجد في ص9: ".. وشربت ماء لا هو من الأرض ولا هو من السماء". فالاتساق النصي ينطبق هنا من الجملة الثانية المحتوية على الضمير المنفصل (هو) الذي يحيل إلى الكلمة السابقة (ماءً) المقيمة في الجملة الأولى.
إن هذه الإحالة تجعل الجملتين متسقتين نصياً وتمنع تكرار بعض الكلمات التي يعوضها الضمير المقيم في الجملة الثانية. ولذلك نقوم بتأويل الجملتين (الأولى والثانية) باعتبارهما لحمة متحدة تبنى نصاً أو جزءاً منه، تبعاً للطول والقصر. يتوالى نظم زياد علي للاتساق النصي داخل (الطائر الذي نسي ريشه) بالضمائر عينها. وهكذا نصادف الأمثلة الآتية في ص12 (أما الماء الذي شربه وهو ليس من الأرض) وفي ص23 : (وهو يحادثه في شأن الإفراج..) والصفحة 45 تبرز لنا الضميرين الوجوديين المنفصلين: (أنا/أنت) من خلال المقابلة: (أنا أفقرته، وأنت تغنيه.. أنا قتلته، وأنت تحييه).
فهذه العلاقات اللغوية بين الجمل اللاحقة والسابقة قامت على الضمائر المذكورة آنفاً. وهي التي ساعدت الكاتب على بناء خطاب حكائي متماسك..
إذن يشترط الاتساق النصي هنا توفر بعض الضمائر العائدة صحبة الكلمات التي تعود عليها، فالإحالة تكون تبادلية بين الضمائر والكلمات التي تحيل إليها أي أن الاثنين يحيلان إلى الشيء ذاته.
يبث الكاتب إرسالية لغوية محكمة إلى القارئ (العربي من خلال ضمائر منفصلة تربط بين جمل لاحقة وأخرى سابقة. فالقارئ لمجموعة (الطائر الذي نسي ريشه) لا يستطيع الفصل بين الضمائر العائدة والكلمات التي تحيل إليها لن تقوم للاتساق النصي قائمة إذا ألغى القارئ الضمائر قائلاً: (شربت ماءَ لا ماء من الأرض ولا ماء من السماء) فعدم تعويض كلمة (ماء) في الجملة الثانية والثالثة بضمير عائد مناسب يقصي الاتساق النصي ويبذر التفكك بين الجمل الثلاث.
تقف التحاليل الغربية الألسنية الخطابية التي ترصد الإحالة النصية عند مفهومي الضمائر المنفصلة والعلاقات السابقة، في حين أننا نجد في اللغة العربية مفهومي الضمائر المتصلة والعلاقات اللاحقة علاوة على المفهومين الغربيين السالفين. لذلك يعد طرح الإحالة النصية داخل اللغة العربية أوسع مما هو عليه داخل اللغات الغربية (الإنجليزية والفرنسية مثلاً) نجد عند زياد علي:
1-2-ضمائر وجودية متصلة:
ينتج المؤلف جملاً ثانية وثالثة ورابعة.. متماسكة نصياً ومرتبطة بالجملة الأولى عن طريق بعض الضمائر الوجودية المتصلة البانية للاتساق النصي.
تطالعنا الصفحة 5 بالقول التالي (شيخ وزوجته لم يخرجا من الدنيا إلاّ بولد عوضهما الله به عن الفقر وقسوة الزمان، فعاهدا نفسيهما أن يهباه للعلم والمعرفة) فضميرا المثنى (الألف/ هما) يجعلان الجمل اللاحقة تحيل إلى الجملة الأولى (شيخ وزوجته) يمكن توضيح هذه العلاقة السابقة بالمخطط الآتي:
يخرجا
شيخ وزوجته ــــــــ عوضـ ــــــــ (هما)ـــــ : علاقات سابقة
عاهدا
يهبا
يبنى ضمير المثنى السالف علاقات وثيقة مع الجملة الأولى (شيخ وزوجته) وهي علاقات تخلق اتساقاً نصياً بين الجمل. أن تأويلا عشوائياً يقصي ضمير المثنى العائد سينتج جملاً حكائية غير (أصولية) ويؤدي إلى تكرار بعض الكلمات التي تجعلنا الضمائر في غنى عنها.
يوظف القاص زياد علي في مجموعة (الطائر الذي نسي ريشه) إحالة لغوية أصيلة تقوم على عدة ضمائر وجودية متصلة ومنفصلة. إن هذه الإنجازات اللغوية المبدعة تسلك طريقين للإحالة:
1-3-طريق الإحالة المقامية:
يعانق المؤلف العالم الذي يقع خارج النص الحكائي.
1-4-طريق الإحالة النصية:
يلج المبدع إلى أعماق نصوص هذه المجموعة فينغمس فيها. يخلق الطريق الأول النصوص الحكائية، حيث يجعل الكاتب يحدد الفضاء الزمكاني للأحداث التواصيلية داخل عمله، وكذلك العلاقات الفيزيائية بين المتقاعلين مع الحكايات (بالنظر إلى إيماءاتهم وإشاراتهم وتعابير وجوههم)(2) ويجعل الطريق الأول المبدع زياد علي يربط لغته الواصفة بسياق المقام الحكائي. وقد أجاد ذلك بدقة متناهية.
تذكرنا التقنيات الحكائية الموظفة والمكونات المعرفية المضمرة، التي يغلفها الكاتب بطرق أسلوبية متينة، بحكايات (ألف ليلة وليلة) الشائعة في الكون وبـ (مائة ليلة وليلة) التي درسها الباحث التونسي محمود طرشونة وببعض الحكايات الروسية التي وضع لها "فلادمير بروب" تنظيراً شاملاً .. وبالحكاية المصرية الخلاقة (ياسين وبهية) وبغيرها من الحكايات في العالم، مما يجعل مؤلف مجموعة (الطائر الذي نسي ريشه) يتواصل عالمياً دون دونية أو زللٍ مع تقنيات وشروط الإنتاج الموضوعي للحكايات الكونية.
لا يوصل طريق الإحالة المقامية زياد علي إلى تأسيس اتساق مجمل داخل مجموعته الحكائية، في حين أن طريق الإحالة النصية يمثل سر الاتساق اللغوي عند هذا الكاتب.
1-5-علاقات لاحقة:
لا تتعرض الألسنية الخطابية الغربية لهذا المفهوم أثناء الممارسة التطبيقية. يقف تحديدها له عند المستوى النظري فقط..
تحكم الاتساق النصي، الذي يخلق تماسكاً متيناً بين الجمل المتوالية المكونة للخطاب الحكائي عند زياد علي، مجموعة من العلاقات اللاحقة كقوله في ص45:
((أنا أفقرته، وأنت تغنيه
أنا قتلته، وأنت تحييه)).
إن الضميرين المنفصلين الابتدائيين (أنا، أنت) يحيلان إلى الأفعال اللاحقة "أفقرت/ تغني، قتلت/ تحيي" فالعلاقة بين الضمير المنفصل والفعل هي علاقة السابق باللاحق من حيث الدلالة والتركيب. نجسد ذلك بالمخطط الآتي:
أ- أناـــــــ أفقرت+ ـــــــ علاقة لاحقة
أنا ـــــــ قتلت+ ـــــــ علاقة لاحقة
ب- أنت ــــــ تغني+ ـــــــ علاقة لاحقة
أنت ـــــــ تحييى+ ـــــــ علاقة لاحقة
يفرغ الكاتب نصوصه الحكائية في قوالب لغوية مقبولة تلوح بإنجازته الألسنية الموظفة لأسلوب شخصي متميز، يعتمد على المقابلات والمقارنات والإبراز أو الإخفاء لبعض العناصر اللغوية. وهي خصوصية أسلوبية لا مضارع لها عند مبدعي النصوص الحكائية لأنها تنسج الخطابات بلغة واصفة ترسم في بعض الصفحات معالم الخطاب الصوفي والسريالي بدقة فريدة.
يوزع زياد علي ادوار الكلام داخل نصوصه الحكائية المتسقة عن طريق الإحالة اللغوية المرتكزة على عدة ضمائر منفصلة وأخرى متصلة، كما أنه يغادر النص ليعانق الإحالة المقامية التي تقطع جذور الاتساق النصي، مما يجعل بعض الخطابات تتوغل في السرد. تضم الإحالة اللغوية، التي تمثل مظهراً قوياً من مظاهر الاتساق النصي في حكايات (الطائر الذي نسي ريشه)، مجموعة أخرى من الضمائر نطلق عليها:
1-6-ضمائر الملكية والنسبة:
أبرز التحليل الألسني الخطابي أن الكاتب يبدع اتساق نصوصه الحكائية بالاعتماد على استعمال ضمائر وجودية منفصلة ومتصلة تخلق علاقات سابقة ولاحقة بين الجمل المتتالية. ارتبطت هذه الضمائر كلها بالأفعال فقط.
نجد وسيلة أخرى للإحالة اللغوية عند زياد علي، وهي توظيفية لبعض ضمائر الملكية والنسبة المتعلقة بالأسماء فقط، مثل:
"أصحابه، أهله، خالي، عزمهما، أصحابك، لفرسه، جسدها، بأنغامه، موقفهما، ولدي، أغانيه، دكانك، صديقه، قصتك، والدك، رأسه، لكلبه، مهرها، سلوكه، طبعه، بعيادته، أمي، "بوي"، أحواله، تجارته، عملك، جوعه، سراحه، بأرجلها، بطنها، والده، خاله، بجناحيه، ريشه، صلاتكم، مشاكلكم، نفسه، ولدها، مضاربهم، أولادي، أختي، خالها..".
يوظف زياد علي ضمائر الملكية والنسبة ليبني اتساق النصوص الحكائية التي تحملها مجموعة (الطائر الذي نسي ريشه). يساعدنا هذا التوظيف على التمييز بين أدوار الكلام التي تنتمي إليها كل ضمائر الملكية والنسبة المتعلقة بالمتكلم: (ولدي، أمي، "أبوي"، أختي..) والمخاطب: (أصحابك، دكانك، قصتك، والدك، عملك صلاتكم، مشاكلكم، أولادك...) والغائب بأعداده الثلاثة: (أصحابه، أهله، عزمهما،
بفرسه، جسدها، بأنغامه، موقفهما، أغانيه، صديقه، رأسه، لكلبه، مهرها، سلوكه، طبعه، بعيادته، أحواله، تجارته، جوعه، سراحه، خالها..)
تحيل ضمائر الملكية والنسبة السالفة إلى السياق المرتبط بالمتكلم والغائب والمخاطب والفضاء الزمكاني. إنها ضمائر نعتبرها بنيوياً خارجة عن النص. وهو ما نعتناه سابقاً بالإحالة المقامية.. لا تلج هذه الإحالة عالم النص الحكائي إلاّ في الكلام المستشهد به" أو في خطابات مكتوبة متنوعة من ضمنها الخطاب السردي، وذلك لأن سياق المقام في الخطاب السردي يتضمن سياقاً للإحالة، وهو تخيل ينبغي أن ينطلق من النص نفسه، بحيث إن الإحالة داخله يجب أن تكون نصية"(3).
والحقيقة أن الخطاب الحكائي الذي يوظفه زياد علي لا يلغي الإحالة السياقية التي ترحل خارج نصوص (الطائر الذي نسي ريشه). يمكن اعتبار الضمائر التي يستعملها الكاتب: "أنا،نحن"، أو تلك التي تشير إلى القارئ العربي: "أنت، أنتم" بأنها سياقية. وهي عملية لغوية تؤدي إلى تنوع أدوار الكلام في خطابات هذه المجموعة.
يتجلى الدور الرائد للاتساق النصي عند زياد علي في بعض ضمائر الغيبة العددية (مفرد، مثنى، جمع) التي تؤدي أدواراً كلامية مخالفة للضمائر الوجودية المتصلة. هذه الضمائر هي: (هو، هي، هما، هم، هن) وقد سبق الذكر أنها تخلق علاقة سابقة مع الجملة الثانية: "وشربت ماءً لا هو من الأرض ولا هو من السماء".
إنها تربط عناصر النص ببعضها وتسدد كل فراغ بين الأقسام. والملاحظ أن ضمائر الملكية والنسبة الموظفة في هذه الحكايات تقوم بعمل مزدوج: فهي تضم المالك والمملوك أو المنسوب، والمنسوب إليه، من خلال التدقيق في كيفية عودة الضمائر على الكلمات المتعلقة بها.

الهوامش:
(1) محمد خطابي. لسانيات النص: مدخل إلى انسجام الخطاب. المركز الثقافي العربي: الدار البيضاء. المغرب.
ط1. 1991. ص15.
(2) المرجع نفسه. ص17
(3) المرجع نفسه. ص18.
منقووووووووووووول

**د لا ل**
2013-03-05, 21:46
اهلا وسهلا

**د لا ل**
2013-03-05, 21:50
تأملات صوتية في كتاب الله


بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته


لقد أولى القرآن الكريم المستوى الصوتي من اللغة اهتماما بالغا ،حتى تتم العملية التواصلية بين الخالق عز و جل وبين عباده . لذلك نجد القرآن الكريم يدقق في اختيار حروف الألفاظ تدقيقا متناهيا ، و ويحيط المستوى الصوتي ـ كأحد المستويات اللغوية ـ بكتاب الله من جميع جوانبه :
ـ فقد كان نزوله نزولا صوتيا حيث كان جبريل عليه السلام يتلو الآية أو الآيات على الرسول صلى الله عليه وسلم تلاوة صوتية مسموعة ،أي أن تلقيه كان صوتيا .
ـ وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغه إلى الناس تبليغا صوتيا كذلك .
ـ ولا زال القرآن الكريم يُتناقل جيلا بعد جيل بطريقة شفوية صوتية .مما يدل دلالة واضحة أن الجانب الصوتي كأحد جوانب اللغة يحف بكتاب الله من كل جانب: في تنزله و تلقيه ، وفي تبليغه ، و في تناقله في الأمة .
ولعل ما يزيد من تأكيد أن القرآن الكريم أولى اهتماما بالغا للجانب الصوتي من اللغة ما أورده الإمام الزمخشري في تفسيره "الكشاف " من أن الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض سور القرآن الكريم تجمع كل الظواهر الصوتية العربية . بمعنى أن جميع صفات الحروف المعروفة قد تمثلت في الحروف المقطعة . وإذا عدنا عمليا إلى المصحف للتأكد من هذه الظاهرة سنلاحظ ما يلي : ـ إذا كانت الحروف المهموسة في العربية 10هي ما جمع في قولهم : "فحثه شخص سكت " فإنه ورد منها في الحروف المقطعة بكتاب الله نصفها أي 5 حروف وهي : ( ص ك هـ س ح ). وجاءت في فواتح السور التالية :مريم ،يس ،فصلت .


وإذا كانت الحروف المجهورة هي ما سوى المهموسة ( 18حرفا ) ، فإن القرآن الكريم استعمل كذلك نصفها تقريبا فـي الحروف المقطعة وهي 9 حروف : (أ ،ل ،م ،ر ،ع ،ط ،ق ،ي ،ن ). وذكرت في فواتح الرعد ،طه،يس،الشورى ،القلم.
ـ وإذا كانت الحروف المتصفة بالشدة 8 هي المجموعة في قولهم :"أجد قط بكت " فقد استخدم القرآن الكريم نصفها أيضا في الحروف المقـطعة وهي: (أ،ك،ط،ق ) أي 4 أحرف . و قد وردت في فواتح العنكبوت ،الشعراء ،مريم ،طه ،ق .
ـ وإذا كانت الحروف الرخوة 20 حرفا و هي ما سوى الشديدة ، فقد ورد منها في الحروف المقطعة 10 حروف ( ح، ر،س ،ص ،ع ،ل ،م،ن،هـ، ي )، و قد جاءت في فواتح السورالتالية :الحجر ،مريم ،النمل ، الزخرف ، القلم .
ـ وإذا كانت الحروف المطبقة 4 وهي : (ص، ض ،ط ،ظ ) فقد ورد منها في الحروف المقطعة نصفها كذلك ، أي حرفان : (ص، ط ) ، و قد ذكرت في فواتح ص وطه .
ـ وإذا كانت الحروف المنفتحة هي ما سوى المطبقة ( 24حرفا ) فقد استخدم القرآن الكريم نصفها في الحروف المقطعة وهي الحروف التالية(أ،ح،ر،س،ع،ق،ك،ل،م،ن،هـ،ي ) أي 12 حرفا . و نجدها في فواتح كل من : البقرة ،مريم ،الشورى ،الدخان ، القلم .
ـ وإذا كانت حروف الاستعلاء 7 جمعت في قولهم "خص ضغط قظ " فقد ورد منها في الحروف المقطعة 3أحرف هي (ص ،ط،ق ) وذكرت في فواتح السور التالية : ص ،النمل ، ق .
ـ وإذا كانت الحروف المنخفضة هي ما سوى المستعلية وعددها 21 فإن القرآن الكريم استعمل كذلك نصفها كذلك تقريبا في الحروف المقطعة أي 11 حرفا هي ( أ ، ل ، م ، ر ، ك ، هـ ،ي ، ع ،س ،ح ، ن ) ، وجاءت هذه الحروف في فواتح :
الرعد ،ومريم ، وغافر ، و القلم .
و إذا عرفنا أن حروف القلقلة 5 هي التي جمعت في قولهم : "قطب جد " فإن كتاب الله استعمل منها النصف كذلك تقريبا وهما : ق، ط . اللتان نجدهما في فواتح سورتي طه ، ق .
هذه بعض أمثلة الإعجاز الصوتي في القرآن الكريم ، و سنتناول بالدرس ـ إن شاء الله ـ أمورا أخرى متعلقة بهذا النوع من الإعجاز الذي يزخر به كتاب الله تعالى .

**د لا ل**
2013-03-05, 21:53
السرقـــــــــــــات الشعريـــــــة


تعريف (السرقات) الشعرية:
السرقات الشعرية هي أن يعمد شاعر لاحق فيأخذ من شعر شاعر سابق بيتاً شعرياً ، أو شطر بيت ، أو صورة فنية ، أو حتى معنى ما،"ويكون في البديع المخترع الذي يختص به الشاعر ،لا في المعاني المشتركة...واتكال الشاعر على السرق بلادة وعجز، وتركه معنى سبق إليه جهل والمختار أوسط الحالات"([1] (http://www.alfaseeh.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=30#_ftn1))
وتعد السرقات الشعرية من الموضوعات التي أولاها النقاد اهتماماً كبيراً وعناية فائقة، إذ كان من الأهداف النقدية الوقوف على مدى صحة نسبة الأعمال الأدبية إلى أصحابها، والنظر فيما فيها من إبداع أو تكرار، ومعرفة ما امتاز به عمل شاعر عن آخر. ثم إن النقاد أصبحوا يلجؤون إلى الموازنة بين الشعراء كما هو موجود عند الآمدي والجرجاني، ولا يعد المشتغل بالنقد متمكناً حتى يميز بين أصنافه وأقسامه، ويحيط به علما، ويستطيع أن يفصل القول فيه، والتفريق بين أنواعه.
ثم إن النقاد تتبعوا ما في أعمال الشعراء من جدة وابتكار، أو اتباع وتقليد ، وهذا لا يكون إلا باطلاع واسع، ليسهل ربط المتقدم بالمتأخر، ومعرفة السابق بالمعنى واللفظ، وعندها يمكن الحكم عليه بالتقليد أو التجديد

تاريخ السرقات

لا يمكن أن يقرر تاريخ بداية السرقات، وإن كانت هذه الظاهرة قديمة قدم الشعر، فقد وجدت عند اليونانيين، وإن كان المصطلح مأخوذ من سرقة المحسوسات إلا أنه لما ظهر أن هناك ما يوازيه، بل وربما يزيد عليه قبحاً، وذلك بتأثيره الظاهر على المجتمع الإنساني، وسلب إبداع المبدعين، فإن لما تشع به أفكار المبدعين حرمة تتطلب حفظاً، كما أن للأموال حرمة، ولا يكون هذا إلا عن طريق تتبع هذه السرقات، وإظهار ما خفي منها، وأما ما كان واضحاً جلياً فإنه أظهر من أن يبيّن. والسرقة "باب متسع جداً، لا يقدر أحد من الشعراء أن يدعي السلامة منه ".([2] (http://www.alfaseeh.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=30#_ftn2)) "والسرق ـ أيدك الله ـ داء قديم، وعيب عتيق، وما زال الشاعر يستعين بخاطر الآخر، ويستمد من قريحته، ويعتمد على معناه ولفظه؛ وكان أكثره ظاهراً كالتوارد...وإن تجاوز ذلك قليلاً في الغموض لم يكن فيه غير اختلاف الألفاظ"([3] (http://www.alfaseeh.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=30#_ftn3)).

وقد وردت السرقات في الشعر الجاهلي، وكان الشعراء أول من نبه إلى ذلك، إما باعترافهم بأنهم يأخذون عمن سبقهم، وإما بنفي تهمة السرقة عن أشعارهم، فمن ذلك قول عنتره:



هل غادر الشعراء من متردم ...........أم هل عرفت الدار بعد توهم



وكما قال امرؤ القيس:



عوجا على الطلل القديم لعلنا ......نبكي الديار كما بكى ابن حذام



ونفى طرفة بن العبد عن نفسه سرقة أشعار غيره، فقال:


ولا أغيرُ على الأشعار أسرقُها..... عنها غنيتُ، وشرُّ الناس مَنْ سرقا


و الشعراء يظنون أن كلامهم معاد ومكرور كما قال كعب بن زهير:



ما أرانا نقول إلا معاداً...... أو معاراً من قولنا مكرورا




وهذا حسان بن ثابت ينفي عن نفسه الإغارة على شعر غيره حيث يقول:



لا أسرق الشعراء ما نطقوا....... بل لا يوافق شعرهم شعري



وهذا جرير يتهم الفرزق بالسرقة فيقول:



سيعلم من يكون أبوه قينا...... ومن عرفت قصائده اجتلابا



وقوله اجتلابا استخدمه النقاد فيما بعد مصطلحا من مصطلحات السرقة.

ثم يعود الفرزدق فيرد على جرير ويتهمه بالسرقة منه فيقول:



إن استراقك يا جرير قصائدي.... مثل ادعاء سوى أبيك تنفل



وهذا ابن الرومي يرمي البحتري بالسرقة فيقول:



حتى يغير على الموتى فيسلبهم..... حرّ الكلام بجيش غير ذي لجب



وربما يعمد بعض الشعراء إلى السرقة، و من ذلك ما روي أن الأصمعي سأل الفرزدق هل أحدثت شيئاً؟ فأنشده:



كم دون مية من مستعمل قذف...... ومن فلاة بها تستودع العيس



فقال الأصمعي: سبحان الله هذا للمتلمس. فقال الفرزدق: اكتمها ، فلضوال الشعر أحب إلي من ضوال الإبل.

([1]) ابن رشيق ، العمدة ص 531.

([2]) ابن رشيق ، العمدة ص 531.

([3]) القاضي الجرجاني، الوساطة ص185.


منقوووووووول

**د لا ل**
2013-03-05, 22:12
النقـد العـربي قبـل اللسانيات
يتطلب الوقوف علي ما حدث في النقد العربي من تغيرات عند توجهه للنقد اللساني والحداثي بعامة، يتطلب تحديد ما كانت عليه هذه الممارسة من قبل؛ ليـصبح الكشف عمـا حدث فيه من تغيرات واضحا محدد المعالم، كما أن تحديد هذه الممارسة يوضح سبب تأخر انتشار النقد اللساني علي نحو واسع في النقد العربي إلي ثمانينيات القرن الماضي، في حين أن العالم قد بني عليه العديد من النظريات الأخرى ــ سواء بالتعارض معه أو بتطوير بعض الجوانب فيه ــ في موطنها الأصلي بفرنسا، وفي بعض البلاد الأخرى أيضا، منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي.
والكشف عن هذه الممارسة له أهميته الخاصة؛ لكونها تـُمَثـِّل الخلفية السابقة لنقادنا العرب، وهي الخلفية التي كانت كامنة في أعماقهم عندما تعاملوا مع النقد اللساني كمنهج نقدي؛ لذا فإن الكشف عن هذه الممارسة يُسَهِّل التعرف علي مقدار ما استلهمه نقادنا من معطيات هذه الممارسة السابقة؛ ويكشف أيضا عما إذا كانت قد تسربت بعض الجوانب النظرية أو التطبيقية منها، إلي الممارسة التي حاولت تـَمَثـُّل النقد اللساني وتطبيقه في النقد العربي.
وبمقتضى هذه الأسباب أمضي عارضا لتحولات الممارسة النقدية العربية المعاصرة، منذ نشأتها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحتى سبعينيات القرن الماضي، مُركـِّزا علي الجوانب والظواهر النقدية التي كان لها إسهامها وتأثيرها في الممارسة النقدية التي تلقت "البنيوية"، ومهملا الجوانب الأخرى التي تبدو عديمة الفائدة لموضوع الدراسة.
وتنقسم هذه الممارسة القبلية إلي ثلاث مراحل هي: مرحلة "نقد الإحياء" [1876-1921]، ومرحلة "النقد الرومانسي" [1921-1947]، ثم مرحلة "النقد الواقعي" [1947-1981]()*ــ وهو العام الذي شهد انتشار "البنيوية" علي نحو واسع إثر نشر العدد الثاني من مجلة فصول النقدية ــ، ومن الملاحظ أن هذه المراحل متداخلة إلي حد كبير، وهو ما يجعل القطع بوضع حد فاصل تماما بين مرحلة وأخري في عام محدد غير صائب؛ حيث تظهر إرهاصات المرحلة التالية في السابقة، وأحيانا تتسرب بعض جوانب السابقة إلي التالية، وأحيانا أخري تبقي المرحلة السابقة حاضرة بجوار التالية؛ لذا وجب التنويه بأن ذكر التواريخ هنا من قبيل الإعانة علي الدراسة، وليس حدا فاصلا تماما بين مرحلتين منتهيتين.
المرحلة الأولي : "نقد الإحياء" [1876- 1921]:
من الملاحظ أن الآثار الأدبية لمنجزات ((محمد علي)) (1805- 1848) النهضوية لم تظهر إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ لذا كان "الأدب" في النصف الأول امتدادا لما كان عليه من تدهور في عهدي الدولة العثمانية والمملوكية من قبل. ويتلخص هذا التدهور في العناية الفائقة بالبديع وضروب التكلف اللفظي، وفي اختفاء الأغراض الشعرية التقليدية، ليحل بدلا منها التشطير والتسديس وحساب الجمل وغيره من الألعاب اللفظية، التي حولت "الأدب" ــ شعرا ونثرا( )1ــ إلي ضرب من ضروب التكلف والتعقيد والإلغاز، وفرغته تماما من الإبداع والابتكار والجمال.

ومن الطبيعي أن يشهد "النقد" في تلك الفترة حالة من التدهور تتوازي مع حالة موضوعه "الأدب"، لاسيما أن هذه الحالة نتاج قرون من الجمود والتخلف، أثـَّرت علي مجمل الحياة الثقافية والعلمية في البلاد، وليس علي "الأدب" و"النقد" فحسب؛ لذا انحصر "النقد" في دروس الأزهر ومعاهده، وضاقت نظرته إلي "الأدب"، فلم يعد يراه إلا من خلال منظوري "النحو" و"البلاغة"، وهما منظوران يجعلان "الأدب" خادما "للنحو" و"البلاغة"، ولا يجعلان "النحو" و"البلاغة" يُمَثـِّلان "منهجا" يُبْحَثُ به في جماليات "الأدب" وإمكانياته، كما أن "النقد" شهد ضيقا في موضوعه الذي اقتصر علي تقريظ الكتب وإطراء الأدباء، مع المبالغة الشديدة في ذلك كله.2( )
ولم تتغير هذه الصورة إلا مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، متأثرة في ذلك بمجموعة من العوامل تهيأت أسبابها منذ عهد ((محمد علي)) (1805- 1848)، لكنها لم تتمكن من التأثير في الحياة الثقافية والأدبية إلا مع عهد ((إسماعيل)) (1863- 1879)، وذلك لما هو معلوم عن التوجه العسكري المحض لمحمد علي، ثم ما دخلت فيه البلاد من جمود وركود في عهدي ((عباس الأول)) (1849- 1854)، و((سعيد)) (1854- 1863) ــ مع إهمال الفترة القصيرة التي تولاها ((إبراهيم)) (1848) ــ، بينما تـَمَيَّز عهد ((إسماعيل)) بهدوء نسبي، ساعد علي تمكين النهضة الثقافية من الاستفادة بهذه العوامل، بعدما كانت متجهة في تأثيرها إلي الجوانب العملية والتطبيقية فقط.3
ويمكن تقسيم العوامل التي ساعدت علي دفع النهضة الأدبية إلي أربعة محاور تنتظم فيها، وتعطي فكرة حول تأثيرها علي الحياة الأدبية والثقافية بعامة، هذه المحاور هي: أولا: الاحتكاك الثقافي بالغرب منذ الحملة الفرنسية(1798)، ومرورا بالبعثات العلمية، وهو ما أدي إلي التعرف علي الثقافة الغربية والإفادة منها في النهضة الأدبية. ثانيا: انتشار التعليم إلي حد معقول في البلاد، وهو ما وَفـَّر جمهورا تلقى "الأدب" و"النقد" علي المستوي العام، وساعد في نهضته وإنتاجه علي المستوي الخاص. ثالثا: بَعْثُ التراث العربي ونشره باستخدام الطباعة؛ مما مَكـَّن من التعرف علي "الأدب العربي" في صوره المشرقة، بدلا من الصورة السيئة السابق الحديث عنها. رابعا: ازدهار الترجمة والتأليف، وشيوعهما من خلال المجلات التي حلت محل المجلات الأدبية المتخصصة في تلك الفترة، وهو ما أثـَّر بشكل كبير علي ظهور الرواية، وعمل علي تحرر الأسلوب من أغلال البديع.4( )
أما الآلية التي اتبعتها النهضة لدفع "الأدب" ولتخليصه مما أصيب به من تدهور؛ فهي محاولة التضاد مع مظاهر الضعف والتدهور الحادثة فيه بنقيضها، كالتخفيف من أسر البديع وقيده، والتقليل من أهميته، بعدما أصبح جـوهـر الأدب ومـداره، وكذلك محـاولة إعـادة الأغـراض الأدبية التقليدية لـه ــ كالمدح والهجاء والفخر والغزل ــ بدلا من التشطير والتسديس وحساب الجمل، أي باختصار: محاولة إعادة الطبع إلي "الأدب" بعدما غلبت عليه الصنعة والتكلف.
من هؤلاء الأدباء الذين حاولوا ذلك: ((محمود صفوت الساعاتي)) (1241هـ - 1298هـ)، و((عبد الغفار الأخرس العراقي)) (1810 - 1873)، لكن الدفعة الحقيقية للنهضة الأدبية ــ علي مستوي الشعر ــ جاءت علي يد: ((محمود سامي البارودي)) (1838 - 1904)، و((عائشة التيمورية)) (1840- 1902)، و((إسماعيل صبري)) (1854 – 1923)، وغيرهم.
وفي مجال النثر قـَدَّمَ ((رفاعة الطهطاوي)) (1801 – 1873) دفعة كـبيـرة له بترجمـة ((تليماك)) لفنيلون الفـرنسي ــ نـُشـرت ببيروت عام(1867م) ــ، لكن الملاحظ أن الدفعة الحقيقية للنثر ساهم فيها انتشار المجلات التي اهتمت بالنواحي الأدبية إلي حد كبير، وهو ما عمل علي تخليص الأسلوب من سطوة "البديع" و"الزخرف اللفظي"، كما ساعد أيضا علي نشر "الرواية" وتقبلها بين القراء، ومن الذين لهم فضل في انتشار هذه المجلات ــ سواء بالتأسيس أو بالكتابة النقدية والإبداعية فيها ــ: ((يعقوب صروف)) (1852-1927)، و((إبراهيم اليازجي)) (1847 – 1906)، و((جرجي زيدان)) (1861 – 1914)، و((فرح أنطون)) (1861-1922)، وغيرهم.
ومما تقدم يُلاحَظ أن النهضة الأدبية التي حدثت لم يكن للنقد دور ريادي أو جوهري فيها، فهو لم يقم بدوره المطلوب من مراجعة لجوانب الضعف والتدهور الحادثة في "الأدب"، ومن ثـَمَّ يسهم في محاولة تغييرها، وإنما ما حدث أن امتدح "النقد" هذه العيوب، وأطري عليها كما تقدم الذكر، إلي أن جاء النفور منها من "الأدباء" أنفسهم، بعدما أصبح لديهم "ملكة" ذوقية قادرة علي التمييز الفني، وهي الملكة التي كان للعوامل السابق الحديث عنها دور كبير في تكوينها، وما يُمَثـِّل أهمية هنا، أن "النقد" أصبـح مُطـَالـَبَا بالاستجابة لهذا التقدم الحادث في "الأدب"، وأصبح عليه أن يُعَدِّل من أساليبه وأدواته المتوارثة منذ عهود الانحطاط السابقة؛ لكي يتلاءم مع المستوي الذي وصل إليه "الأدب" في تلك الفترة، ومن الجدير بالذكر أن الكثير من هؤلاء "الأدباء" أنفسهم دخلوا دائرة "النقد"، وكان لهم إسهامهم الخاص فيه أيضا.
وعلي هذا يتجه البحث هنا إلي تحديد استجابة "النقد" "للأدب" بعدما تحققت له نهضته، وبعدما أصبح له سَمْتـَهُ الخاص المغاير لما كان عليه من قبل، ويجب قبل المضي في ذلك، تحديد الإطار العام للرؤية الثقافية التي كان يراها "أدباء" و"نقاد" تلك الفترة، وهي "الرؤية" التي تتمثل في حرصهم علي التمسك باتجاهين متعاكسين، هما: "الاتجاه المحافظ" الذي يستلهم مُثـُلـُه من "التراث" في صوره المشرقة منذ العصر الجاهلي إلي العباسي، وهو ما ظهر انعكاسه علي "الأدب" في الحرص الشديد علي الفصاحة والجزالة والفخامة والصحة اللغوية من ناحية، وتقليد "التراث" في صوره وأغراضه وأخيلته وتعبيراته من ناحية أخري. أما الاتجاه الآخر، فهو: "الاتجاه المُجَدِّد" الذي حاول إدخال أنواع أدبية جديدة لم تكن معروفة من قبل، وتم التعرف عليها من خلال قراءة الآداب الأوربية، سواء مترجمة أو في لغاتها الأصلية، كالأدب القصصي والتمثيلي، وكالشعر الملحمي والمسرحي، وأيضا حاول هذا الاتجاه استلهام روح العصر الحديث ــ لتلك الفترة ــ، عن طريق وصل "الأدب" بالواقع المعاش، بعدما انفصل عنه لقرون طويلة.5( )
ومحاولة أدباء النهضة ونقادها المحافظة علي التوازن الشديد بين هذين الاتجاهين معا، له دلالته في التعبير عن الروح التي سادت تلك العصر، وهي الروح التي حاولت التخلص من تخلف القرون السابقة وجمودها من ناحية، ثم اللحاق بالعالم الغربي المتطور والمتقدم من ناحية ثانية، مع الرغبة في المحافظة علي "الهوية القومية"، والخوف عليها من الذوبان خلال هذه العملية، التي أصبحت تفرض نفسها بحكم التطور الملموس للغرب، الذي استطاع استعمار البلاد وإخضاعها له، من ناحية ثالثة.
وعلي صعيد آخر، هذان الاتجاهان معا يجعلان إطلاق تسمية "الكلاسية
علي تلك الفترة ــ والتي صارت معتمدة عند كثيرين ــ غير دقيقة، وهو ما نـَبَّه إليه ((شكري عياد)) من قبل ــ عندما حاول تفسير عدم إطلاق أبناء تلك الفتـرة اسمـا علي أنفسهـم، رغـم معرفتهم بأنهم يحاكون "الكلاسيين الغربيين" ــ يقول في هذا السياق: ((فإذا كانت الكلاسية أو المدرسية تعني إتباع القديم، أو سلوك النهج الذي يؤدي إلي الاعتراف بكتاباتهم وإدراجها ضمن ما يتعلمه التلاميذ في المدارس(...) فماذا يكون هذا القديم، أو تكون هذه التقاليد الأدبية المعترف بها في التعليم، أهي التقاليد الشائعة أو المشتركة بين الآداب الغربية فيكونوا في الحقيقة خارجين علي تقاليد الكتابة العربية، أم هي تقاليد الكتابة العربية وهي لا تعرف هذا القصص أو هذا التمثيل الذين يحاولون إدخاله إليها)) ( ).6
لذا تبدو تسمية ((جابر عصفور)) لنقد تلك الفترة: "بنقد الإحياء"( )7، أكثر صوابا ودقة عن تسميته "بالنقد الكلاسي"؛ فتسمية "نقد الإحياء" مُعَبِّرة تماما عـن حاله في تلك الفتـرة، ومـلائمة لعدم استقرار الأنماط الأدبية المختلفة إبانها ــ لاسيما الجديد والوافد منها ــ ، وأيضا عاكسة لعدم نضج المعايير الجمالية التي وضعها "النقد" للأدب ــ وهو ما يجعل تسمية "النهضة" غير دقيقة
أيضا ــ؛ لذا اخترت تسمية "نقد الإحياء" وتركت تسمية "النقد الكلاسي".
أما التاريخ الذي اعتمدت عليه في تحديد بداية هذه المرحلة؛ فهو تاريخ أقـدم استعمـال معـروف لمصطلح "الانتقـاد"، وهو المصطلح الـذي شـاع كبديل لمصطلح "النقد" كما نعرفه اليوم، أو كما عرفه أجدادنا العرب من قبل، واستخدام مصطلح "الانتقاد" بهذه الصورة له دلالته علي مقدار بُعْدِ "النقد" في تلك الفترة، عن "النقد" كما كان في التراث العربي من قبل، وله دلالته أيضا فيما يوحي به من معاني التصيُّد والتسقـُّط للأخطاء في العمل الأدبي. وأقدم استعمال لهذا المصطلح ــ فيما يذكر((علي شلش))( )8ــ يرجع إلي عام (1876م)، حين ورد في عنوان كتاب صغير هو: ((ارتياد السحر في انتقاد الشعر)) لمحمد سعيد، وهو الكتاب الذي ظهر منجما بمجلة ((روضة المدارس)) عام 1876م، ولا يُعْرَف استخدام لهذا المصطلح قبل ذلك، خاصة مع حالة التدهور التي كانت حادثة في النصف الأول من القرن التاسع عشر من قبل.

لكن مما يُحْسَب لهذه التسمية ــ "الانتقاد" ــ أنها ظهرت في تلك الفترة لتـُمَيِّز بين نوعين من "النقد"، الأول ما شاع عنه اسم "التقريظ"، وهو المنوط به تعريف القراء بالأعمال الأدبية، عن طريق التنويه بالكتب وبالأدباء، وهو يشبه ما اقتصر عليه "النقد" من قبل في موضوعه كما تقدم، والآخر ما يَبْحَث في شئون "الأدب" وأحواله ووسائل الإجادة فيه، سواء علي مستوي التنظير أو علي مستوي التطبيق كما سيجيء، وهو ما يعني أن "النقد" بدأ يكتسب حساسية خاصة، تمكن بها من الوعي بذاته ــ إلي حد ما ــ، وكذلك الوعي بدوره الذي يجب عليه القيام به تجاه "الأدب".
ومما يُحْسَب للنقد أيضا في تلك الفترة ما لاحظه ((جابر عصفور)) من محاولة التمييز بين "الشعر" و"النظم"، علي أساس خاصية نوعية يختص بها الأول دون الآخر هي "الخيال"( )9، وعلي الرغم من أن التمييز بين "الشعر" و"النظم" يعد شيئا بدهيا لنا الآن؛ إلا أن ذلك يُمَثـِّل نقلة كبيرة للنقد في تلك الفترة، خاصة عند مقابلة ذلك بما كان سائدا في النصف الأول من القرن التاسع عشر كما تقدم.
لكن ما وَضَعَه "نقاد الإحياء" من شروط يدور فيها "الخيال" ــ طبقا لتصوراتهم ــ يبدو مثيرا للدهشة؛ فقد كان لا يُسْمَح لهذا "الخيال" بالانطلاق أو التحرر من أسْر الواقع، بل كان عليه أن يكون "متعقلا" ــ بتعبير ((عصفور)) ــ، يراعي قوانين الاحتمال وحدود المنطق، ويستمد مفرداته من معطيات الواقع ومكوناته؛ لكي يخرج المنتج الخيالي النهائي إما مشابه للواقع، أو ما يجب أن يكون في الواقع()*؛ وذلك لكي يحقق "الخيال" فعالية تأثيره في المتلقي من وجهة نظرهم( )10، خاصة عندما يجد المتلقي نفسه أمام عوالم علي الرغم من أنها منشأة عن طريق "الخيال"، إلا أن "مظنة الكذب" منتفية عنها تماما، وهو ما يفرض علي "الخيال" ضِـيقا، يعوقه عن القيام بدوره في إثراء "الأدب" وفي تحقيق "الجمال الأدبي".


ومن الواضح أن مَرَدَّ هذا التضييق علي "الخيال" تلك النظرة "الاجتماعية" و"الأخلاقية" التي التزم بها نقاد وأدباء تلك الفترة علي حد سواء، بحيث يبدو الغرض الأساسي من "الأدب" عندهم ما يحمله من رسالة تعليمية وأخلاقية تجاه الجمهور، أنظر كيف تبدو هذه النظرة واضحة في تعريف ((محمد عبده)) (1849- 1905) للكتب الأدبية بأنها: ((هي ما يبحث فيها عن تنوير الأفكار، وتهذيب الأخلاق، من هذا القبيل كتب التاريخ، وكتب الأخلاق العقلية، وكتب الرومانيات [يقصد الروايات]، وهي المخترعة لغرض جليل كتعليم الأدب والحث علي الفضائل، والتنفير من الرذائل، ككتاب كليلة ودمنة، وفاكهة الخلفاء(...)))( )11، ويبدو واضحا تماما في هذا التعريف ما يعتقده نقاد الأحياء حول "وظيفة الأدب"، و"دوره" تجاه المجتمع، وهي النظرة التي التزم بها جميع "نقاد" و"أدباء" تلك الفترة تجاه "الأدب".
ومن هذا المنظور؛ فإن في حالة التعارض بين "الأدب" و"دوره الاجتماعي" و"الخلقي" المنوط به ــ كأن يخلو من قيمة تعليمية أو أخلاقية يوجهها، أو كأن يتعارض مع حقيقة علمية ــ؛ يكون جزائه النبذ والطرد وعدم الاعتداد به، وعلي هذا الأساس تم طرد الأدب الشعبي من دائرة "الأدب"، وسمي ((محمد عبده)) كتبه: "كتب الأكاذيب الصرفة"، وعرفها بأنها: ((ما يذكر فيها تاريخ أقوام علي غير الواقع، وتارة تكون بعبارة سخيفة مخلة بقوانين اللغة، ومن هذا القبيل كتب أبو زيد، وعنتر عبس (...)))( ).12


والأدب الشعبي يبدو من هذه الوجهة ــ لعدم احتوائه علي قيمة يوجهها إلي الجمهور، ولاحتوائه علي معلومات مغلوطة ــ معارضا لمنظومة الأخلاق والتعليم التي صاغها "النقد" للأدب في تلك الفترة، وهو ما أدي إلي طرده من دائرة "الأدب المحترم"، وعدم الاعتراف به في "النظرية النقدية"، علي الرغم مما يحتويه من قيمة أدبية، التفت إليها "النقد" فيما بعد.
و"الأدب" في ظل رسالته الأخلاقية والاجتماعية هذه، يصنع لنفسه آلية تمكنه من أداء دوره تجاه الجمهور. فإذا كان الجمهور يبدو رافضا تلقي هذه الرسالة بشكل مباشر، أو يبدو غير قادر علي استساغة ما في هذه الرسالة "الأخلاقية" و"الاجتماعية" من "حقائق"؛ فإن "الأدب" يستعين في أداء دوره "بالخيال"، لكي يعمل من خلاله علي تمرير رسالته دون إشعار المتلقين بالمرارة الكامنة فيها، لذا يري ((جابر عصفور)) أن "الخيال" من منظور "نقاد الإحياء": ((رداء خادع تكتسي به الحقائق، فتخفي مرارتها وجفافها علي العامة الذين هم أشبه بالصغار الذين لم يشبوا عن الطوق فكريا)) ( )13. ومن هذا الفهم المحدد للخيال و"الأدب" معا، يمكن معرفة سر تضييق النقاد علي "الخيال" من ناحية، ومن ناحية أخري، يمكن معرفة سر عدم انطلاق "الأدب" في فترة "الإحياء" إلي أفق رحبة فسيحة نحو "الجمالية" و"الإبداعية"، كتلك التي وصل إليها "الأدب" الذي حاولوا محاكاته، لاسيما "الأدب الغربي

من ناحية أخري، اهتمت النظرية النقدية لتلك الفترة "بالشعر"، وأهملت "الرواية"، وذلك لاعتبارها "الشعر" الفن الأدبي الأول وربما الأوحد، متأثرة في ذلك بما يلقاه "الشعر" من اهتمام بالغ في "التراث" الذي يحاولون إحياءه ومحاكاته في نهضتهم الحديثة( )14؛ لذا نظروا إلي "الرواية" علي أنها: ((وليد غير شرعي في هذا المجتمع)) ــ بتعبير ((بدر)) ــ، خاصة مع عدم الاعتراف بالأدب الشعبي الحافل بالقصص والخيال، والذي بدونه يبدو "التراث" خاليا من المعطيات القصصية الخصبة، وجدير بالذكر أن إهمال "الرواية" سوف يستمر حتى المرحلة الثانية أيضا( ).15
لكن برغم هذا الإهمال النقدي، كانت "الرواية" تـَلقي رواجا ضخما، وكانت تنتشر بشكل واسع في البلاد، وهي في انتشارها هذا لم تقتصر علي مكان دون مكان، بل امتد تأليفها ونشرها إلي المدن الصغيرة أيضا، مثل: طنطا ــ والمنصورة ــ وصيدا ــ وطرابلس ــ وحلب ــ والمنيا ــ وشبين الكوم ــ والسنطة، وغير ذلك، مما يجوز معه وصف حالة رواجها هذه "بالهوس" كما يصف ((علي شلش)) ( )16، وهذا "الهوس" كان يَفرِض للرواية وضعا أدبيا يُجبـِر "النقد" ــ غير المعتـَرِف بها ــ علي الاستجابة لها، لكن هذه الاستجابة كانت تواجه صعوبة خاصة، نابعة من عدم وجود تقاليد تراثية خاصة بالرواية في تراثنا الأدبي والنقدي، مما يجعل علي عاتق "النقاد" مهمة إرساء تقاليد أدبية ونقدية خاصة لجنس أدبي غربي، ليس له أي رصيد نقدي سابق في "الممارسة النقدية العربية"، وقد حاولوا التغلب علي ذلك بالاستعانة بالمقاييس "البلاغية" و"النقدية" التي أقرها "النقاد" و"البلغاء

القدماء للشعر؛ ليتم تطبيقها علي جنس آخر مغاير هو "الرواية"، مما أدي إلي الاهتمام بالكلمة المفردة في "الرواية"، وإهمال ما بها من صياغات أخري "كالحدث" و"الشخصية" و"الزمان" و"المكان"، وغير ذلك( ).17
وفيما يخص تعريف الرواية عند "الإحيائيين"؛ فبعدما يستعرض ((علي شلش)) التعريفات المختلفة لنقاد تلك الفترة للرواية، يخلـُص إلي أن "الرواية" كانت تتحدد في تلك الفترة علي أنها: ((واقعة حقيقية أو خيالية تروي عن شخص، أو مجموعة من الأشخاص، بهدف التسلية أو الموعظة)) ( )18، ويَذكـُر أيضا أنه برغم عدم التفريق بين "الرواية" و"القصة" بشكل قاطع في تلك الفترة، إلا أنه كان هناك تفريق ضمني بينهما، يعتمد علي "الحجم"، المتمثل في طول الصفحات بصفة خاصة، دون أن يتم الاعتماد علي "الأحداث" أو "الشخصيات" في هذه التفرقة، كما حدث فيما بعد( ).19
ويذكر ((شلش)) أيضا ــ فيما يخص التقييم النقدي للرواية ــ، أن "الرواية" كانت تـُصَنـَّف إلي قسمين: "ضارة" و"نافعة"، وتـُصَنـَّف إلي ذلك عن طريق ما تحتويه من قيم ومبادئ أخلاقية، دون النظر إلي مستواها الفني؛ فتصبح "الرواية": "نافعة" و"جيدة" إذا كثرت فيها المبادئ والأخلاق، وفي المقابل تصبح "الرواية": "ضارة" و"رديئة"؛ إذا احتوت علي جوانب غرامية فجة، أو وصف عميق للنواحي الغزلية( )20، ومنبع ذلك ما يحمله "الإحيائيون" للأدب من وظائف تهذيبية وأخلاقية كما تقدم.

وفي هذا الإطار الأخلاقي الصارم كان علي الروائي أن يُنشِأ روايته، وعليه أن يجعل منها مُشـَوِّقـَة وجذابة أيضا؛ لكي تدفع القارئ إلي قراءتها حتى نهايتها؛ ولكي يتحقق ذلك قدم ((فرح أنطون)) (1861-1922) مجموعة من النصائح للروائي، عليه أن يستعين بها في إنشاء رواياته، وهذه المجموعة من النصائح تـُعَدُُّ من أخصب الاستجابات النقدية النظرية التي ظهرت للرواية في تلك الفترة؛ لذا سوف أعرضها كما نقلها ((شلش)) ــ علي الرغم من طولها ــ لأهميتها.
تتضمن هذه الوصفة ستة عناصر علي الكاتب مراعاتها، هذه العناصر هي: ((أولا ــ قوة الاختراع: والمراد بها أن تكون مخيلة الكاتب قادرة علي اختراع حوادث وأخبار تجعل في الرواية فكاهة ولذة. وبهذه القوة تنشأ في الرواية المشاهد والمواقف الكبرى التي تحتك فيها العواطف والأميال والمبادئ احتكاكا شديدا يستأسر لب القارئ ... إلا أنه يجب أن لا تتجاوز هذه القوة حد المعقول المقبول.
ثانيا- قوة الحركة: التي تجعل الحوادث متحركة بحيث لا يسأم القارئ القراءة، ومنبئة عن أخلاق الشخصيات أو طبائعها.
ثالثا- وحدة السياق وتنوع الموضوع: والمراد بوحدة السياق رسم طريق للرواية تبتدئ في أولها وتنتهي في آخرها، دون أن تخرج الرواية عنها في أثناء تقلباتها ... والمراد بتنوع الموضوع جعل مواضيع الرواية التي تتفرع من ذلك السياق متنوعة متفرعة، لاجتناب ملل القارئ أولا، واستيفاء البحث في أخلاق أشخاص الرواية ثانيا.

رابعا- قوة البسيكولوجيا والسسيولوجيا: ويصح أن يقال إن هذه القوة أهم القوات الضرورية للرواية. ولما كانت مواضيع الرواية تشمل جميع الحوادث والحالات التي تطرأ علي أشخاصها، وعلي الوسط الذي يعيشون فيه كانت الرواية محتاجة إلي أكثر أصناف العلوم. فهي تحتاج إلي علم الطبيعة لكي تـُبني آراؤها ومبادئها وأخلاق أشخاصها علي دعامة علمية، أي علي النواميس الطبيعية، وإلا كانت نسيج أوهام وخرافات. وتحتاج إلي علم تقويم البلدان (الجوغرافيا) لمعرفة البلاد التي يكتب عنها، وطبائع أهلها وهوائها، وتحتاج إلي علم التاريخ خصوصا إذا كانت تاريخية. وقد تحتاج إلي سائر العلوم إذا كان لمواضيعها اتصال بها. ولكنها إذا احتاجت إلي جميع هذه العلوم أحيانا، وأمكنها الاستغناء عنها جميعا أحيانا فهناك علمان لا يمكنها أن تستغني عنهما أصلا، وهما علم البسيكولوجيا وعلم السسيولوجيا.
أما علم البسيكولوجيا أو ((علم النفس والأخلاق)) فهو قسمان: مصنوع ومطبوع، أي اكتسابي وغريزي. والأول يستفيده الكاتب من مصدرين، أحدهما كتب البسيكولوجيا، والآخر مراقبة الطبيعة والبشر لملاحظة أخلاقهم وأحوالهم في جميع أطوارهم. ولا يتم نفع الأخير إلا إذا تكونت في نفس الدارس ــ الكاتب ــ قوة غريزية يقدر بها علي استنباط مكنونات النفوس، وتصوير حالاتها، دون أن تدري هي بها. وهي هبة من الطبيعة لتلك النفس وإن كان بعض علماء الأخلاق يقول إن الدرس والاختبار قد يؤديان إليها.


أما علم السسيولوجيا، أو الاجتماع البشري، فترجع ضرورته لمؤلف الرواية إلي سببين، أحدهما أن جميع الروايات المهمة في هذا العصر أصبح غرضها (اجتماعيا) والآخر أن الروايات من أهم وسائل ترقية المجتمعات التي يسعي هذا العلم إلي بحثها وتحصيلها.
خامسا- درس الفن الروائي: بمطالعة روايات أكابر المؤلفين وكتابات مشاهير نقاد الرواية.
سادسا- عاطفة الجمال: ويدخل في هذا أن تكون الرواية جميلة الموضوع، جميلة السبك. ويتحقق جمال الموضوع بمراعاة الصفات الخمس السابقة. ولكن جمال السبك لا يتحقق إلا باللفظ العذب والمعني الطليّ والروح الجليّ، بعيد عن الجفاف والجمود في الإنشاء))( )21[ما تحته خط بنفس صورته الخاطئة في النص]، وهذه النصائح تعكس بوضوح رؤية ومطالب "النقد الإحيائي" من كل من "الرواية" و"الروائي" علي حد السواء.
وفي إطار الحديث عن أنضج الممارسات النقدية لتلك المرحلة؛ يجب الحديث عن: الشيخ ((حسين المرصفي)) (1815-1890)()*؛ وذلك لما له من تأثير نقدي كبير في مرحلته، ولما امتاز به من وعي نقدي، يظهر واضحا في كتابه الشهير: ((الوسيلة الأدبية للعلوم العربية))، وهو الكتاب الذي يصفه ((محمد مندور)) بأنه: ((شديد الشبه بكتب الأمالي العربية القديمة كأمالي أبي علي القالي، وأمالي المبرد وغيرهما))( )22، وذلك لكي يتسق مع موضوعه، الذي هو تعليم إنشاء "الشعر" و"النثر"، فهو أساسا محاضرات الشيخ في دار العلوم لطلبته.
ويعلق ((طه حسين)) علي هذا الكتاب، وعلي صنيع ((المرصفي)) فيه؛ فيقول: ((مذهب الأستاذ المرصفي نافع النفع كله إذا أريد تكوين ملكة في الكتابة وتأليف الكلام وتقوية الطلاب في النقد وحسن الفهم لأثار العرب))( )23؛ وهذا الكتاب من النوع الشامل، الذي يجمع بداخله متفرقات من كل علوم العربية، كعلوم: "النحو"، و"الصرف"، و"العروض"، و"البيان"، و"البديع"، و"المعانٍ"؛ بهدف تهيئة معرفة كاملة للمتعلمين تعينهم في تأليف وإنشاء "الأدب".
والكتاب يسير في اتفاق ــ من حيث "نظريته النقدية" ــ مع ما تقدم ذكره من نظرة "أخلاقية" و"اجتماعية"، وكذلك أيضا فيما يخص وحدة البيت واستقلاله، وقيامه بذاته منفصلا، دون حاجته إلي غيره( )24، وبالإضافة إلي ذلك، فإن ((المرصفي)) يرسم فيه لمن أراد إنشاء "الشعر" منهجا، يقوم علي حفظ أكبر قدر ممكن من الشعر الجيد، كشعر ابن أبي ربيعة، والبحتري، وجرير، والرضي، وغيرهم، ثم التحلل من هذا الشعر المحفوظ في الذاكرة عند إنشاء الشعر الجديد الخاص بالشاعر، لكي يخرج المُنتـَج الجديد متأثرا بجودة المحفوظ من "الشعر" في الذاكرة، وخالصا في أسلوبه لمؤلفه، بعيدا عن تبعية "الشعر" للأسلوب القديم المحفوظ ( )25.
أما علي الصعيد التطبيقي؛ فإن الكتاب يسير علي نمط "الموازنات" بين الأدباء المختلفين ــ قدماء ومحدثين ــ، لكي يتبين موقع "الأديب المحدث" من "الأديب القديم"، ولكي يتبين جودة "الأدب" بمقارنته بنموذج أدبي تراثي مشهود له بالجودة، وقد لاحظ ((عز الدين الأمين)) أن ((المرصفي)) في موازناته هذه يتبع النهج التالي: 1- يوجه بعض "النقد" من غير تعليل، معتمدا في ذلك علي ذاتيته، وعلي رأيه الذوقي الخالص. 2- يتخذ الشعر العربي القديم بسننه المألوفة مثلا أعلي للشعر، ولا يحبذ الخروج عن هذه السنن، ويرفض أي تغيير في هذه السنن. 3- يعتمد علي "النقد اللغوي" فيناقش صحة الكلمات الواردة في العمل الأدبي من حيث الاستعمال اللغوي، ويشرح ويفسر معاني بعض الكلمات التي تبدو مبهمة. 4- يؤاخذ الأديب علي السرقة، خاصة إذا ما كان المعني السابق أكمل وضوحا، وأصح معني. 5- لا يستحسن البيت الذي يكثر لفظه ويقل معناه، وهي نظرة تري بانقسام العمل الأدبي إلي معني ولفظ، وشكل ومضمون. 6- يري أن الشاعر لا يكون دائما بمنزلة واحدة في شعره، فقد يجود في بعض أدبه، وقد يسف في موطن آخر.( )26
وفي ذلك كله يبدو ((المرصفي)) متوافقا تماما مع الرؤية العامة للنقد الإحيائي، لكن ما يُعَدُّ غير متوافق مع ما تقدم، ما تحدث به ((المرصفي)) عن قصيدة "الأمير" لـ ((البارودي)) (1838-1904)، إذ امتدح ((المرصفي)) اتساق أبياتها وانتظامها معا، بشكل لا يسمح معه بوضع بيت بين بيتين، أو بتغيير ترتيب بيت من أبيات القصيدة بالتقديم أو التأخير، وهو ما يبدو مخالفا لما أبداه من رأي في وحدة البيت وقيامه كوحدة مستقلة بذاته، لكن النظرة المدققة إلي كلام ((المرصفي)) تكشف عن أنه لم يَعْدِل عن رأيه السابق، فهو يقول: ((أنظر هداك الله لأبيات هذه القصيدة فأفردها بيتا بيتا تجد ظروف جواهر أفردت كل جوهرة لنفاستها بظرف، ثم اجمعها وانظر جمال السياق وحسن النسق، فإنك لا تجد بيتا يصح أن يقدم أو يؤخر، ولا بيتين يمكن أن يكون بينهما ثالث، وأكلك إلي سلامة ذوقك وعلو همتك(...)))( )27.

وذلك يدل علي أنه رأي في أبيات ((البارودي)) إلي جانب استقلال البيت وقيامه بذاته كوحدة متكاملة، مزية أخري، هي اتساق هذه الأبيات المستقلة معا، بما لا يسمح معه بتعالق بيت بآخر، علي غير الترتيب الذي جاء به ((البارودي))، فيكون المقصود كمال البيت إذا ما فـُصِل وحده مستقلا عن باقي القصيدة، وكمال ترتيب الأبيات إذا ما وضعت معا في القصيدة، فلا تقبل ترتيبا غير هذا الترتيب الذي جاءت عليه قصيدة ((البارودي))، وهذا التفسير يبدو موضحا لجانب آخر من وجهة نظر ((المرصفي))، وهو جانب ضرورة مراعاة تعالق الأبيات ببعضها والعمل علي حسن تنسيقها معا، مع وجوب مراعاة استقلال البيت المفرد، وقيامه في أداء معناه بذاته أيضا()*، وهو ما سوف يشار إليه ثانية عند الحديث عن "وحدة القصيدة" في المرحلة التالية.
* * * * * *
ومما تقدم، يلاحظ علي "النقد" في تلك الفترة ، أنه في مقابل إلزامه "الأدب" بهدف تعليمي وأخلاقي يجب أن يتضمنه؛ فإن "النقاد" أنفسهم التزموا بجانب تعليمي يقومون به تجاه "الأدباء" أيضا، أي أنهم حرصوا علي أن يكون "النقد" نفسه مُصطـَبـِغا بصبغة تعليمية تـُعِين "الأديب" علي تأليف "الأدب" ــ كما رأينا مثلا في "الوسيلة الأدبية" سابقا ــ، وكذلك أيضا حرصوا علي أن يكشف نقدهم التطبيقي للأديب عن "الأخطاء" التي وقع فيها "عمله الأدبي"، وهي أخطاء من نوع "تاريخي" أو "معجمي" أو "بلاغي" غالبا، ومثال ذلك ما وجهه ((جرجي زيدان)) (1861-1914)، و((إبراهيم اليازجي)) (1847-1906) لرواية ((شوقي)) (1869-1932): ((عذراء الهند أو تمدن الفراعنة)) (1897م)، من نقد رَكـَّز فيه ((زيدان)) علي عدم "معقولية" العقدة، لصغر المدة التي اجتمع فيها بطلا القصة معا وهما صغار، وكذلك رَكـَّز ((اليازجي)) علي "المآخذ اللغوية" المتضمنة في "الرواية"، واتفق الاثنان
علي شجب ما بالقصة من خوارق وعجائب غريبة مخالفة لما هو صحيح في الواقع، ولما هو مألوف في الحقيقة( )28.
وعند النظر إلي النتاج الأدبي الخاص بتلك المرحلة

**د لا ل**
2013-03-05, 22:13
وعند النظر إلي النتاج الأدبي الخاص بتلك المرحلة ــ كنتاج ((البارودي)) و((شوقي)) مثلا ــ، وكذلك عند النظر إلي الحصيلة النقدية الموازية لهذه الأعمال، يتبين أن "نقد الإحياء" لم يَنـْفـُذ إلي القيم الجمالية المتوفرة في "أدب" تلك الفترة، بل إن مفهوم "الجمال الأدبي" يبدو غائبا تماما عن "النقد الإحيائي"؛ وذلك لأن "النقد" واقع أساسا في أسر التناول "المعجمي" و"الأخلاقي" و"المنطقي" للأدب، دون سواه من جوانب أخري؛ فتري هل سوف يستمر ذلك الوضع في المرحلة التالية، أم أنه سوف يتغير، وما هي العوامل التي عملت علي هذا التغيير إن كان قد حدث، وما هو مقدار "النضج" و"الوعي" الذي سوف يكتسبه "النقد" في الفترة القادمة، ذلك ما سيتم تناوله في المرحلة القادمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
- سوف يجيء سبب تحديد تواريخ وأسماء هذه المراحل بما هو مذكور أعلاه في موضعه من التمهيد لاحقا، وقد تم إهمال بعض المذاهب النقدية التي لم يكن لها انتشار واسع المدى في الممارسة النقدية العربية، كـ"النقد الجديد"، و"الفن للفن"، و"الرمزية" وغيرها، بينما تم التركيز علي المذاهب التي كان لها تأثير كبير علي الممارسة النقدية، وهي المذاهب الثلاثة المذكورة أعلاه.
- راجع عن حال الأدب بشقيه في تلك الفترة: د.شوقي ضيف: ((الأدب العربي المعاصر في مصر))، ط10، دار المعارف، د.ت، القاهرة، صـ 38-41 للشعر، و: صـ 169-172 للنثر.
2- أنظر: د.عز الدين الأمين: ((نشأة النقد الأدبي الحديث في مصر))، ط2، دار المعارف، القاهرة، 1970، صـ15.

3- أنظر: د.عبد المحسن طه بدر: ((تطور الرواية العربية الحديثة في مصر))، ط5، دار المعارف، القاهرة ، د.ت، صـ23-37.
4- راجع تفاصيل هذه العوامل وأثرها في: د.عزالدين الأمين: ((نشأة النقد الأدبي الحديث في مصر))، مرجع سابق، صـ35- 107.
5- أنظر: د.شوقي ضيف: ((الأدب العربي المعاصر في مصر))، مرجع سابق، صـ 43-47.
6- د.شكري محمد عياد: ((المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين))، عالم المعرفة، عدد [177]، الكويت، 1993م، صـ89.
7- د.جابر عصفور: ((قراءة النقد الأدبي))، مكتبة الأسرة [الهيئة المصرية العامة للكتاب]، القاهرة، 2002م، صـ35.
8- د.علي شلش: ((نشأة النقد الروائي في الأدب العربي الحديث))، مكتبة غريب، القاهرة، د.ت، صـ27.
9- د.جابر عصفور: ((قراءة النقد الأدبي))، مرجع سابق، صـ37.
- يجب توضيح أن المقصود بـ "ما يجب أن يكون في الواقع" هنا، يعني أن يكون ما في العمل الأدبي متحددا علي أساس "المألوف من سنن الحياة"، أو ما "يُسمَع بمثله"؛ احتراسا من أن يتبادر إلي الذهن أية معانٍ أخري، تتداخل مع تلك الموجودة في "المرحلة الواقعية"، ولمزيد من التوضيح أنظر إلي المعني المقصود "بمشابهة الواقع" التي يتحدد عليها "الصدق الفني" عند "الإحيائيين" في: د.شكري عياد: ((المذاهب الأدبية عند العرب والغربيين))، مرجع سابق، صـ94..
10- أنظر: د.جابر عصفور: ((قراءة النقد الأدبي))، مرجع سابق، صـ109، ومن المفيد مراجعة الفصل بأكمله: صـ36-135.
11- نقلا عن: د.علي شلش: ((نشأة النقد الروائي في الأدب العربي الحديث))، مرجع سابق، صـ22-23.
12- نقلا عن: السابق، صـ23.
13- د.جابر عصفور: ((قراءة النقد الأدبي))، مرجع سابق، صـ122.
14- د.عبد المحسن طه بدر: ((تطور الرواية العربية الحديثة في مصر))، مرجع سابق، صــ122-123.
15- أنظر: د.شكري عياد: ((المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين))، مرجع سابق، صـ102.
16- د.علي شلش: ((نشأة النقد الروائي في الأدب العربي الحديث))، مرجع سابق، صـ13.
17 - أنظر: د.أحمد .أحمد إبراهيم الهواري: ((نقد الرواية في الأدب العربي الحديث في مصر))، ط3، دار المعارف، القاهرة،1983م، صـ78.
18- د.علي شلش: ((نشأة النقد الروائي في الأدب العربي الحديث))، مرجع سابق، صـ36-40.
19- السابق: صـ37.
20- أنظر: السابق: صـ50-52.
21- نقلا عن: السابق: صـ46-48.
- أورد هذا التاريخ لميلاد الشيخ ((حسين المرصفي)) د.جابر عصفور في: ((قراءة النقد الأدبي))، مرجع سابق، صـ42، في حين يعتبر ((محمد مندور)) تاريخ ميلاده غير معلوم، أنظر: د.محمد مندور: ((النقد والنقاد المعاصرون))، نهضة مصر، القاهرة،2004،صـ5؛ لذا وجب التنويه إلي ذلك.
22- د.محمد مندور: ((النقد والنقاد المعاصرون))، مرجع سابق، صـ7.
23- نقلا عن: د.سيد البحراوي: ((البحث عن المنهج في النقد العربي الحديث))، دار شرقيات، القاهرة، 1993، صـ45.
24- أنظر: د.عز الدين الأمين: ((نشأة النقد الأدبي الحديث في مصر))، مرجع سابق، صـ16-17.
25- أنظر: د.محمد مندور: ((النقد والنقاد المعاصرون))، مرجع سابق، صـ12-13.
26- أنظر: د.عز الدين الأمين: ((نشأة النقد الأدبي الحديث في مصر))، مرجع سابق، صـ18-22.
27- نقلا عن: د.محمد مندور: ((النقد والنقاد المعاصرون))، مرجع سابق، صـ17.
- وهو ما يبدو لي أكثر تـَمَثـُّلا لوجهة نظر ((المرصفي))، بدلا من تفسير ذلك بتعصبه للبارودي، كما فعل ((عز الدين الأمين))، أنظر: د.عز الدين الأمين: ((نشأة النقد الأدبي الحديث في مصر))، مرجع سابق، صــ21.
28- أنظر: د.شكري عياد: ((المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين))، مرجع سابق، صـ94

_________________

**د لا ل**
2013-03-05, 22:17
موضوع الرسالة: المعمار الفني في رواية ــ أرني الله ــ لتوفيق الحكيم

ــ أرني الله ــ عبارة عن مجموعة قصصية تتكون من 14 قصة تتغير شخوصها وزمنها وفضائها إلا أننا سنلمس عاملا مشتركا وموحدا لهاته المجموعة ألا وهو اللغة وهي لغة فلسفية مليئة بالحجاج والسؤال تعتمد الحوار أساسا لها كعادة توفيق الحكيم في كل كتاباته حيث سنرى حضور ا قويا للمسرح الذهني والذي لم تسلم منه حتى هاته المجموعة القصصية سواءعلى مستوى الحوار بين الشخصيات التي تبدو تائهة كعادتها في فهم هذا الكون الفسيح المليء بالتناقضات أو على مستوى المونولج الذي يطغى على شخصياتها لتعج اللغة بالتساؤلات تلك التساؤلات الابدية التي عرفها الانسان منذ الازل عن حقيقته وحقيقة الاشياء في هذا الوجود

يمكن أن نقسم هذه المجموعة القصصية إلى مجموعة فلسفية وأخرى واقعية يندرج تحت المجموعة الأولى أرني الله ـ الشهيد ـ موزع البريد ـ وكانت الدنيا ـ في سنة مليون ـ معجزات وكرامات ـ امرأة غلبت الشيطان . ثم هناك المجموعة الثانية والتي تنبثق من يوميات الحكيم وتجارب اجتماعية عايشها فأدرجها بأسلوبه الساخر والمتهكم على الظروف التي قد تقود الإنسان أحيانا إلى مواقف ساخرة لم يحتط لها ولم يتنبأ بحدوثها وهذه القصص على التوالي هي ـ الأسطى عزرائيل ـ في نخب العصابة ـ الحبيب المجهول ـ مؤتمر الحب ـ أسعد زوجين ـ ميلاد فكرة ـ وجه الحقيقة .
تتنوع الشخصيات في هذه المجموعة كما يتغير الزمن والفضاء إلا أنها تدور في فلك واحد وهو البحث عن الحقيقة حقيقة الذات و الأشياء في هذا الوجود ، ونلمس من خلال تأملات شخوص المجموعة القصصية وحواراتها حيرة الكاتب وشكوكه وتخبطه بين الوهم والحقيقة الواقع والخيال . يقدم هذا كما اسلفنا في إطار لغوي فلسفي يعج بالسؤال مثيرا فينا شكوكا ورهبة مكسرا قيما عهدناها ليصوغها في قالب جميل مليء بالمرح والسخرية ، السخرية من الانسان نفسه ذلك الانسان الذي يعتقد بقراته على صنع المعجزات أو ذلك الانسان البسيط الذي تتدافعه الحياة بين مقالبها الغريبة والمتغايرة.
يشركنا توفيق الحكيم ـ من خلال هذه المجموعة القصصية ـ في عالمه وهو عالم مليء بالهواجس والتساؤلات بالهموم والافكار ، يجعلنا نتسائل معه نثور ونتمرد حينا ثم نهدأ لنتابع معه رحلته داخل الذات الانسانية ولنتعرف على ذواتنا من خلاله أو لتختلط معا فتشكل مزيجا رائعا وكلا موحدا يردد نفس التساؤلات الأبدية التي عرفتها الانسانية منذ بدأت تكتشف ذواتها في هذا العالم الرحب الكبير .

أرني الله
يتداخل الزمن والفضاء في هذه القصة كما اسلفنا أما اللغة فهي حوارية بالاساس فلسفية تعتمد الحجاج ، ويتراوح الحوار ما بين جمل قصيرة وجمل طويلة يصوغها بأسلوب بسيط مرح يعج بالسؤال . تدور القصة حول رجل وابنه اعتادا أن يتحدثا عن كل الامور إلى ان باغت الطفل اباه يوما وساله ان يريه الله . حينها كان هذا السؤال نقطة الفصل التي حيرت الأب ودفعته إلى البحث عن جواب يشفي غليله وغليل ابنه ودفعته إلى الناسك الذي دار بينهما حوار طويل يأخذ اغلب مساحة القصة ، والحوار هو الركيزة الأساسية في بناء جل قصص الحكيم لنلمس ظلال المسرح الذهني في هذه القصة بل لنقل جل قصصه . ونعود إلى الحديث عن الحوار بين الناسك والأب .قلنا أن الحوار أخذ حيزا كبيرا من القصة وهو حوار طويل حجاجي بالأساس حول محبة الخالق والسبيل لرؤيته وهو سؤال طرحته الانسانية منذ الازل وتاهت في دروب كثيرة لعلها تجد جوابا عن هذا السؤال الأبدي .
يصر الأب على رؤية الله
نعم اريد ان تريني الله ...يجيب الناسك بصوته العميق اللطيف أيها الرجل إن الله لا يرى بأدواتنا البصرية ...ولا يدرك بحواسنا الجسدية ...وهل تسبر عمق البحر بالأصبع التي تسبر عمق الكأس ؟ّ
وكيف أراه إذن ..؟
إذا تكشف هو لروحك ..
ومتى يتكشف لروحي ...؟
إذا ظفرت بمحبته ...
وهكذا يطول الحوار بين الأب والناسك لتدخل الشخصيتان في حوار فلسفي أزلي يستمد قوته من قوة اللغة الحجاجية للرواية لتنتهي في الأخير بدعوة من الناسك للأب جعلته يهيم في حب الله .


الشهيد
نجد الزمن هامدا وقد ينعدم ليبقى محصورا في ذهن السارد في هاته المجموعة الفلسفية ، خاصة عندما يقدم لنا رؤيا فلسفية تنبع من عمق الذات كما في رواية ــ الشهيد ــ ليقف الزمن هناك او يكاد يلغيه لنقف امام صورة عجيبة تنبع من مخيال السارد ـ هذا المخيال الذي نجده بغزارة في كتابات الحكيم فمن خلاله تتوسل لغته تصوراتها ورؤاها الغنية بالغرابة والغموض والتناقض ـ وهو قدوم ذلك الشخص المجهول ـ الشيطان ـ فلا نعلم متى قدم كما لا نعلم بالتحديد المكان الذي نزل فيه سوى الكنيسة ـ دقت اجراس الكنائس ونواقيس الكاتدرائيات احتفالا بعيد الميلاد وسرى رنينها في جسد روما كما يسري..... في تلك اللحظة هبط المدينة شخص غريب يمشي نحو الفاتيكان ..ــ يقدمه السارد من خلا ل مونولوج قصير لتدخل الشخصية المحورية في حوار فلسفي طويل يغلب عليه الحجاج ونقف هنا مع السارد لنتابع بنهم هذا الحوار الطويل والغريب بين الشيطان والقديس من جهة والحاخام والشيطان والإمام يرمي الشيطان بكل اثقاله من المعاصي والذنوب والآثام أمام هاته الشخصيات الدينية الثلاث طالبا التوبة إلا أنها ترفض باصرار كبيرليقلب السارد الأدوار هنا ويضع هنا داخل قالب مليء بالمفاجآت فتبدو الشخصية المحورية ـ الشيطان ـ شخصية طيبة في حين تصبح الشخصيات المساعدة ـ القديس والحاخام والإمام ـ شريرة نوعا ما . وتدخل الشخصيات الثلاث في مونولوج طويل . يفكر بابا الفاتيكان ، إذا آمن ابليس فيم إذن بعد اليوم مجد الكنيسة ؟ وما مصير الفاتيكان ومتاحفه وتحفه ...هذه الحروب التي جعلت من اوروبا المسيحية سيدة البشر ، وهذه المنافسات الروحية والمنازعات الذهنية والمادية التي اوقد احتكاكها شرارة الفكر وضوء العلوم ـ هنا إشارة واضحة إلى الحروب التي اوقدت نارها

الكنيسة بدعوى القضاء على الشر في العالم ، هذا الشر الذي لا يمثله إلا الشيطان فبحجة الشيطان احتلت اوروبا العالم وبقيت سيدة لهذا العالم
أما الحاخام فيفكر مليا ، ــ إذا عفا الله عن ابليس ومحى الشر من الأرض ...ففيم إذن التمييز بين شعب وشعب ..؟ بنو اسرائيل شعب الله المختار ...لن يكون بعد اليوم مبرر لاختيارهم دون بقية الشعوب ، ولامتيازهم على بقية الاجناس حتى السيطرة المالية التي صارت إليهم منذ أجيال ستذهب عنهم بذهاب الشر عن النفوس ... وزوال الجشع وموت الطمع ، .. ايمان ابليس سيدك صرح التفوق اليهودي ،... ويهدم مجد بني اسرائيل . إن الشيطان إذن عند السارد هو دولة اسرائيل وإن ذهب ذهبت هذه الدولة معه إلى أبد الآبدين واندثرت عن الوجود .
أما شيخ الأزهر فيحتار ـ لو أسلم الشيطان ، فكيف يتلى القرآن ؟...هل يمضي الناس في قولهم : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ...؟ لو تقرر إلغاء ذلك لاستتبع الأمر إلغاء اكثر آيات القرآن ..فإن لعن الشيطان والتحذير من عمله ورجسه ووسوسته لما يشغل من كتاب الله قدرا عظيما ...كيف يستطيع شيخ الأزهر أن يقبل إسلام الشيطان دون ان يمس بذلك كيان الاسلام كله!؟ تبدو لغة المونولج عميقة تكاد تزعزع اكبر الحقائق والدعائم ونحسها تكاد تسقط فوق رؤوسنا إلا أنه سرعان ما يعود لثبيتها .فهو لا يقصد التشكيك في المسلمات التي يؤمن بها الفرد المسلم بقدر ما يطمح إلى جواب يطفئ به نار الشك والحيرة التي قد تصيب المرء في لحظة من لحظات التامل والضياع ، حقيقة هذا الكون الفسيح ، ثم ليعود إلى التسليم بأن وجود الشيطان هو حكمة الحياة في هذه الارض فلا معنى للفضيلة بغير وجود للرذيلة ولا معنى للشر إن لم يوجد الخير ووجود الشيطان في الارض هو الامتحان الصعب الذي على الانسان مواجهته ما بقي حيا في هذه الحياة.
يبدو الزمن هنا ملغيا أو ساكنا متماهيا داخل هذ الفضاء العجيب والذي لا يحركه سوى هذا المونولوج والحوار الغريب الساخر الخيالي القائم في ذهن السارد والذي يعكس تذبذبه بين شكه ويقينه دون ان ننزع عنه صفة الإيمان ، فالحكيم لا يطمح إلى زعزعة الثوابت بقدر ما يطمح إلى فهمها ، وفهم مسبباتها وعواقب غيابها . فنتسائل معه من هو الشيطان الحقيقي هل هو ذلك الذي طرده الله من الجنة أم هو ذلك الكامن في كل القلوب الشريرة .وهو هنا يحيل على الواقع المرير الذي يعيشه وأحوال وظروف الناس في ذاك الزمن ، وكأنما يصور أن الشيطان او الشر في هذا العالم هو أسوأ وأقوى من الشيطان نفسه هذا الذي اراد التوبة إلا ان الطموحات البشرية صدته عن ذلك حتى يكمل مهمته على اكمل وجه فلا مصلحة للعالم من هذه التوبة التي ستهدم حسابات كبيرة .
ويأبى توفيق الحكيم كعادته وفي عمق تساؤلاته الفلسفية إلا ان ينزع الابتسامة منا ونحن لازلنا مشدوهين بقوة السؤال وجرأته فعندما يهم الشيطان بالبكاء يبادره جبريل مرتاعا لا تبك لا تبك إن عبراتك كوارث وضحكاتك كوارث ..لا تكثر من الانفعال رحمة بالناس ... اذهب واصبر..
فكف ابليس عن البكاء وقال بمرارة اليمة : نعم حتى عبراتي كوارث

فيصور ـ الحكيم ـ عبرات ابليس كقطع من النيازك المعتمة التي تسقط على رؤوس الناس على غير هدى فيؤذيهم في الحالتين في خيره وشره. ولتنتهي الرواية كما بدأت بعنوانها ـ الشهيد ـ ولكن ما بين رحلتنا بين عنوان القصة ونهايتها تكون المفاجأة التي لم نتوقعها وهي أن هذا الشهيد لم يكن سوى عدو الانسانية الأكبر وهو الشيطان .
وترك السماء مذعنا ... وهبط الارض مستسلما ...ولكن زفرة مكتومة انطلقت من صدره وهو يخترق الفضاء ... رددت صداها النجوم والأجرام في عين الوقت ، كأنها اجتمعت كلها معها لتلتقط تلك الصرخة الدامية : إني شهيد إني شهيد لتصفعنا هذه العبارة وتتركنا مشدوهين من قوة الخيال وجرأته .

موزع البريد
تشترك هذه القصة مع سابقتيها في اعتمادها الحوار الساخر المرح الذي يعج بالسؤال من خلال لغة فلسفية بسيطة تستمد غناها من اتساع المخيال لدى الشاعر وهي رواية ذهنية بالأساس على غرار المسرح الذهني للحكيم فالشخصية الرئيسية ـ موزع البريد ـ وهي شخصية رمزية معنوية تمثل الحظ الذي يأمل بلقائه كل الناس والشخصية الثانية هي شخصية السارد التي تقرر المشاركة في احداث الرواية منذ البدايه حتى النهاية مقحما نفسه بعنوة ليسحبنا معه ويدخلنا كشهود داخل هذا الصرح العجيب الذي بناه لينتفي الفضاء ويتوقف الزمن ويعم السكون الذي لا يكسره سوى هذا الحوار الساخر الذي يثير فينا رغبة كبيرة في الضحك الضحك على هذا الموزع الغريب من جهة وعلى السارد الذي غلبه الفضول فترك الحظ ينسل من بين أنامله وتضيع بذلك فرصة طالما انتظرها ، نرى السارد يتعقب موزع البريد يلومه على كسله وإهماله وتقاعسه عن إيصال الطرود إلى اصحابها وما هذه الطرود في الحقيقة سوى نصيب الناس من الحظوظ فيصور هذا الموزع العجيب على شكل رجل تعب من كثرة العمل ، أنهكته الطرود التي لا تنتهي فيعجز عن حملها لاصحابها ويكتفي بتوزيعها عبثا على من صادفه في طريقه نرى السارد يصفه في كلمات قليلة في البداية فلا يشغل الوصف حيزا كبيرا كمايشغله الحوار ، يقول: ...كل شيء فيه ينم عن الكسل والاسترخاء والغباء ...حتى نظرته إلى الفضاء . جلسته كانت جلسة المتعب المرهق الضجر من نفسه ومن الدنيا ...يتعقب السارد موزع البريد على طول رحلته ، ويلومه على الكيفية التي يوزع بها الطرود فيحاول التدخل حانقا غاضبا من هذا الحظ الغريب الذي لا يميز بين من يستحق ومن لا يستحق ويدور بينهما حوا رغريب مليء بالسخرية والتهكم وهؤلاء ..؟ يجيب الموزع حانقا : هؤلاء بعيدون عني ...إني كما قلت لك رجل متعب ..وما من شيء يضطرني إلى أن أقصد كل واحد منهم لأعطيه رسالة .
أو تفعل هكذا برسائل الناس دائما ؟..
طبعا .. وهل انا من الجنون بحيث أوجع مفاصلي وأقطع أنفاسي جريا وراء كل حي من عباد الله ؟.. إني أعطي من صادفني رسائل من لا يصادفني ... وأنا مستريح في امان الله !..
أليس لكل انسان عندك رسالة بنصيبه المماثل لنصيب أخيه ؟... ينفعل موزع البريد ويصرخ ارحموني !...أما من أحد يرحمني أو يعذرني في الارض
أو في السماء !... إنهم في السماء يقولون لي " جلبت علينا باهمالك سخط الناس "...احمدوا ربكم أيها الناس ...إن عيني تبصر أشباحكم ، واني أنثر عليكم ما في محفظتي يوما بعد يوم ....ذلك أقصى قدرتي ! من دنا مني أو دنوت منه أخرجت له وأعطيته ما لمس أصابعي .
أما أن أوزع بالعدل والقسطاس على كل انسان ...فهذا عمل يحتاج إلى جري لا تحتمله ساقاي ، وجهد تعجز عنه قواي ...
يرى الحكيم ان الحظ لا ينصف الناس كثيرا ولم ينصفه حتى هو فحمل نقمته عليه وصاغها في قالب تصوري جميل يستمد مادته الأساسية من الخيال اللامتناهي لديه وباسلوب مرح ساخر من الحياة والانسان ولغة عميقة بعمق السؤال الذي يعيش به وله فكر الحكيم .وبين هذه الرحلة رحلة موزع البريد اليومية تضيع أمان كبيرة وتسرق حظوظ كثيرة ولا يبقى للانسان إلا الأمل الأمل في ان يلتقي بذلك الموزع الغريب مرة اخرى حتى يأخذ حصته ولو عنوة.
وعلى هذا المنوال وبعمق السؤال وغزارة المخيال يبني توفيق الحكيم صرح قصصه ويلعب عامل المفاجأة دورا كبيرا في هاته المجموعة القصصية فلا نندهش عندما تصبح حواء صنيعة الشيطان في ـ كانت الدنيا ـ صنعه الذي اتقنه فكان رمز الغواية والدهاء في أبهى صورة واحسنها . وكما يختلط الزمن والفضاء فـي ـ أرني الله ـ وفي ـ الشهيد ـ وـ موزع البريد ـ يتماها هنا ليخلقا لنا صورة ساكنة هامدة كما يتماهى في ـ كانت الدنيا ـ فلا يحركه سوى ذلك المونولوج الطويل للشخصيات أو ذاك الحوارالحجاجي الذي يدور بين الشيطان و الأفعى.
لتلعبا الشخصيتان الرمزيتان دورا رئيسيا من البداية حتى النهاية ، ولكن ما بين رحلتنا بينهما نكون قد أنهكنا لكثرة المخيال وجرأته وجردنا من كل أسلحتنا ليقصينا الحكيم من ساحته ويجبرنا على النزول من مسرحه و التزام الصمت والسكون.
لنتابع بإذعان هذا الحوار الساخر المليء بالسؤال بين الافعى والشيطان
ــ أسائل نفسي دائما : لماذا لا نكون أصدقاء ؟ ... إني أحمل لك ايتها الحية كل تقدير ، وأحمل لذكائك كل إعجاب ...أتريدين أن أخصك بسر آخر ؟ ... لقد كنت افكر فيك وانا أصنع هذا المخلوق الذي سميته " حواء"
ــ ما كنت تفكر في نفسك ...
ــ أحقا ما تقولين ؟ ... أترين في هذا المخلوق شيئا مني ؟
ــ بلا شك ...انظر إلى حركاته ...وإلى رشاقته ...بل إلى بريق عينه ...إن فيه أثرا من الطين ، ولكن فيه أيضا لفحة من النار ...انظر ...انظر ...في حواء بعض ما فيك : الطيش والخفة والسرعة والإحراق...
ثم يبادر الشيطان إلى سؤال الأفعى :
لماذا حرم على آدم لمس حواء ؟ ..
ــ ترى ماذا يحدث لو امتزج هذان المخلوقان ؟.. ويبدو أن الافعى عند الحكيم كانت الاكثر ذكاء وفهما للامور " فكرت الحية لحظة .. ووقع بصرها مصادفة واتفاقا على عش طائر في أعلى الشجرة فصاحت :
ــ يحدث لهما ما يحدث لهذا الطير ...يتناسلان ؟
...ـ ويخرج منهما مخلوق ثالث
ـ ولكن لماذا لا يراد خروج هذا المخلوق الثالث ؟..
ـ لانه سيكون فيه شيء منك ...هذا مفهوم بالبداهة ..إن آدم ، ذلك العمل العظيم الذي يفخر به الخالق .تلك الآية التي نفخ فيها من روحه ...يجب أن تبقى هكذا بمفردها صورة خالدة ناطقة بمقدرة المبدع الأعظم وكماله الأبدي ، الذي لا يشوبه نقص ، ولكن جئت يا صديقي ابليس تفسد هذه الروعة ...وتريد أن تستخرج من هذه الصورة المفردة نسخا مشوهة !..
ثم تمضي الأفعى قائلة : إن في حواء ولا ريب شيئا منك ..لن نجد فيها إذن الكثير من ذلك العقل الذي نخشاه ...
وفيها من قوة اقناعك وبراعة إغرائك ، فهي ستظفر باقناع آدم وإغرائه أن ياكل كما اكلت . ويصنع كما تريد هي .
إن الحكيم يكرس للفكر القديم الذي يصور المراة في صورة الافعى والشيطان ، لذا بدت حوارات الشخصيات نابعة من ذاته وبقوة في هذه القصة اكثر مما قد تنبع من شخوصه ، ولكن مع هذا فإن الأسلوب الساخر قد يشفع له هذا الفكر المتعصب نوعا ما ، غير انه قد لا يبدو دائما كذلك فقد تبدو له المراة مخلوق بسيط رقيق كما في قصته ــ مؤتمر الحب ــ ونعود إلى الحوار لنجده يتشارك نفس الخصائص مع الحوارات السابقة وهي اللغة البسيطة و الأسلوب السلس المرح الذي يعج بالحجاج والسؤال أما الزمن فلا نكاد نحسه إذ يمتزج مع الفضاء كما اسلفنا فيبدو الفضاء ساكنا هادئا لا يحركه سوى هذا الضجيج الذي تصدره الشخصيات بحواراتها ويبدو مسرح القصة وكأنه مقتطع من الزمن والمكان ليخلق بالمقابل فضاءه وزمنه الخاص به .

أما إذا انتقلنا إلى القصص الواقعية في هذه الرواية فإننا سنجد الحكيم يسخر فيها من الحكيم نفسه أو من شخصيات عرفها أو سمع عنها ويجمع بينها ما يجمع الانسان دائما سذاجته وغباؤه او طمعه وشجعه ثم تلك الأوهام الأبدية التي ترافقه وما عرضته له الحياة شخصيا من مواقف ساخرة ومطبات مفاجئة وصدمات غير متوقعة ، وتبدو القصة الأخيرة اصدق برهان على ذلك الوهم الكبير الذي يعيشه الانسان عندما يعصب عيونه ويرفض ان يرى الأشياء في حقيقتها ويسلم نفسه للوهم وهم الحب يقوده حيث لا يدري حتى يرديه او يكاد ، ثم كعادة الانسان القوي دائما عندما يسقط ينفض الغبار عنه بقوة و يستكمل طريقه دون ان ينظر ورائه مستفيدا من أخطائه قادرا على تملك زمام أموره والبدئ من جديد .
وفي الأخير ومن خلال هذه المجموعة القصصية نلاحظ ان قصص الحكيم لا تسلم من تأثير المسرح الذهني الذيا طال عرف به ، لذا فإنه لا ينسج قصصه إلا بالحوار ولا يجيد نسجها إلا به سواء في الفلسفية منها او الواقعية ، وقلما تسلم إحدى القصص من هذا الحوار. أما إذا تعقبنا شخصيات الحكيم فإننا نجده حاضرا بها وبقوة فهو القديس تارة وهو الشيطان تارة اخرى، و هو الانسان البسيط حينا والمتكبر في احيان أخر . نسافر مع هذه الذات الحائرة الهائمة ونهيم معها في كل الحوارات التي تنقل لنا شكوكها وهمومها تساؤلاتها وحيرتها إيمانه و يقينها وذلك في إطار مرح ساخر يرغمك على الابتسام بأسلوب بسيط ــ كعادة الحكيم دائما ــ والمليء بالسؤال والحوار بين الشخصيات وهو حوار ذهني خيالي بامتياز كما أسلفنا ينطلق من ذات الحكيم ليصب في ذواتنا ويشركنا في عمق السؤال وغزارة الخيال.

**د لا ل**
2013-03-05, 22:19
قراءة نقدية في مسلسل " وادي الذئاب"
الكاتب:محمد يوب


من خلال تتبعنا للمسلسل التركي وادي الذئاب ، عبر أجزائه الأربعة ، نرى أنه يطرح قضايا سياسية مختلفة ، منها القضايا الإقليمية و القضايا الدولية .
ومن بين القضايا المحلية التي طرحها المسلسل على المشاهدين : القضية الفلسطينية ، و القضية العراقية ، و مسألة الأقليات الكردية ، الذين صورهم المسلسل على أساس أنهم شعب تركي خائن لوطنه ، يدق إسفينا من خلف تركيا ، التي تحارب في شتى الواجهات.
ولعل أهم الواجهات التي تشغل بال أصحاب القرار السياسي التركي ، هي تجاذب المصالح و الغايات وتصفية الحسابات الضيقة بين جهات مختلفة ، باعتبار أن تركيا دولة تحط رجلا في آسيا و أخرى في أوربا ، تركيا المسلمة ، وتركيا العلمانية.
ولهذا فإن كثيرا من أصحاب المصالح ، يتخذون من تركيا المعبر و الممر ، لقضاء حاجياتهم و مصالحهم الشخصية .
وتركيا بدورها من خلال هذه المشاهد ، تحاول تبرير استخدام العنف ، من خلال الأبطال الذين يعبرون بلسان تركيا الحكومة ، وتركيا الجيش .
فمراد علم دار رمز للتركي الصالح الذي يضحي بنفسه من أجل خدمة مصالح تركيا ، إنه مستعد للموت لكي تعيش تركيا ، وقد شاهدنا هذا من خلال مشاهد مروعة تعرض إليها البطل .
كما أن المجموعة المقاتلة التي تحيط بمراد لها نفس الهدف ، وهو الموت في سبيل تركيا ، و أن تبقى واقفة حية إلى الأبد .
واسم ميماتي أحد أبطال المسلسل الرئيسيين ، دليل على هذه التضحية من خلال اسمه ، فكلمة ميماتي رمز للموت أو هي الموت نفسه باللغة التركية .
وكذلك اسم عبد الحي لم يأت اعتباطا ، بل سميائيا دليل على أنه عبد لله من جهة ، و عبد للوطن الحي الذي لا يموت من جهة أخرى.
إنه تعبير على النهج الذي تسلكه هذه المجموعة التي تصارع الموت في واد ملئ بالذئاب ، ذئاب في هيئة بشر لا تعرف إلا لغة المال و الوصول إليه على رقاب المواطنين .
إنهم مجموعة من الأبطال الذين يتزعمهم البطل الرئيسي مراد علم دار ، الذي صوره المخرج على أساس أنه بطل أسطوري ، لا يموت ، ولا ينهزم ، يتعرض لكثير من الاعتداءات الجسدية ، لكنه يبقى مصرا على مبادئه المخلصة للوطن ، الذي أحبه كثيرا وسيظل يحبه طيلة حياته.

ويساعده في ذلك أبطال رئيسيون مثل : ميماتي ، و عبد الحي ، وعمران ، وآخرون ثانويون مثل العم عمر وتركي وحسني ...
فهم يحاربون كل أشكال الفساد ، بما فيه الفساد السياسي الذي يتمثل في إعطاء الزعامة لعناصر لا تريد مصلحة الوطن بقدر ما تهدف إلى خدمة مصالحها الضيقة .
فاسكندر وفلر و زازا وحقي ... القائمة طويلة ، كلهم عناصر تتضارب مصالحهم مع مصالح الجهات المهيمنة على المشهد السياسي و الاقتصادي ، إنها عناصر تنتعش و تكبر على جماجم المواطن البسيط ، وذلك من خلال التزوير في الانتخابات وبيع المخدرات وسرقة السيارات، و كان المواطن في النهاية ضحية كل هذه التلاعبات ، و أحيانا يدخل طرفا مع جهة دون رغبة منه .
ويظهر من خلال متابعتنا لهذا المسلسل ، الدرجة المرعبة التي وصل إليها الانحراف السياسي في تركيا ، و انتشار الفساد .
وتشعر من خلال تفاصيل هذا المسلسل ، و كأن تركيا جسم مريض تنخره أطراف متعددة ، وتقطع أوصاله إلى جزيئات من أجل الانقضاض عليه.
إن المتتبع لهذا المسلسل يشعر و كأن تركيا شعب بلا دولة ، ودولة بلا شعب ، تسربت إليها أياد نجسة ، ملوثة بدماء الأبرياء ، أياد ممدودة إلى المخابرات الأجنبية ، تشتغل حسب أجندتها ، حسب أجندة المخابرات الأمريكية ، أو المخابرات الإسرائيلية ، وبينهما أصحاب مصالح يصطادون في الماء العكر.
وفي ضوء هذا الواقع المتردي كانت كل فئة من فئات الحكم ، تميل إلى جهة من هذه الجهات المتصارعة ، وتنقل الأخبار بشكل استخباراتي ، يعتمد على أحدث الوسائل التكنولوجية ، التي بينت أن المخابرات الأمريكية متفوقة في هذا المجال ، لدرجة أنها اخترقت البيوت ، وبدأت تطلع على كل صغيرة من صغائر الأشخاص الذاتيين و المعنويين.
و في ضوء هذا الفساد السياسي و الاقتصادي، لا يمكن للمواطن الصالح الاشتغال بنوع من الحرية ، و الوصول إلى أعلى المناصب ، وإذا سولت له نفسه ذلك سيكون ضحية سهلة ، ولقمة سائغة في أفواه أعداء الوطن .
وقد شاهدنا هذا من خلال مقتل بعض المخلصين من المواطنين ،سواء من الذين يشتغلون في الإدارات، أو الشركات أو في أوساط الجيش .
و في كثير من الأحيان تصل الأيادي الآثمة إلى كبار زعماء البلد من أمثال مراد علم دار، و ميماتي، و عبد الحي ، الذين يعتبرون الجسم الواقي للبلد من العناصر المميتة الآثمة.
و عند استقراء أحداث هذا الفلم ، نجد بأن المسلسل يتخذ كذلك موقفا من كثير من القضايا الإقليمية و الدولية ، فنرى أبطال المسلسل يتعاطفون مع القضية الفلسطينية ، وقد مرت مجموعة من المشاهد عبر المسلسل تساعد التنظيمات الفلسطينية ، بالدعم المعنوي و اللوجستي .
وهذا التعاطف و الموقف من القضية الفلسطينية ، رأيناه من خلال تعاطف مراد علم دار ، وميماتي مع الجماعة التي جاءت إلى الميناء و استلمت السلاح من ميماتي شخصيا ، و كان متعاطفا معهم ، مع العلم أن مراد و أصدقاؤه ضد مثل هذه العمليات .
لقد تنازلوا عن مبادئهم ، لمد الفلسطينيين بالأسلحة اللازمة ، بل أوصلوها لهم إلى المكان الآمن ، وهذه اللقطات المتكررة هنا وهناك تدل على الشعور بالتعاطف مع القضايا العربية و الإسلامية ، بل تبين موقف الحزب الحاكم في البلد الذي له توجهات إسلامية .
هذه التوجهات التي تظهر من خلال بعض المشاهد أثناء دفن الموتى، أو من خلال قراءة العم عمر للقرآن الكريم ، إنها مشاهد جديدة في السينما التركية ، التي نادرا ما كنا نشاهد فيها لقطات أو إشارات إلى الدين و أهمية الوازع الديني .
أما فيما يخص المسألة العراقية ففي كثير من الأحيان ، يصور المسلسل بأن تركيا تساند العراق في حل مشاكله ، و تدعو إلى طرد المحتل الأمريكي ، كما تدعو إلى أن يكون العراقيون هم أصحاب الحل و العقد, لأنهم هم أصحاب القرار الأول و الأخير .
وقد أشار المسلسل إلى دخول عناصر استخبراتية متعددة في الشأن العراقي ، كل جهة تريد تمرير أيديولوجيتها الخاصة ، فتجد إشارات متعددة إلى من يدافع عن السنة أو الشيعة أو ......
وهناك أياد بل أرجل لدول إقليمية و أخرى خارجة ، تتصارع من أجل مصالح متنوعة ومختلفة ، وأبرز مطمع و مطمح ينشده الجميع ، هو النفط و جر البلد إلى حرب أهلية، تنشغل بها عن التفكير في قضايا أخرى .
وفي نهاية الجزء الرابع ينتهي رأس من الرؤوس التابعة للأمريكان وهو اسكندر، الذي قتله مراد شر قتل ، بأن شنقه على جذع الشجرة لكي يشعر بالألم الذي أذاقه للأبرياء ، الذين قتلوا هكذا وبدم بارد ظلما وعدوانا ، وبذلك ينتهي مشهد من مشاهد الفساد في البلد ليليه الرغبة في القضاء على كل أوجه الفساد في البلد ، وذلك بأن ترك المخرج للمشاهد مجال الخيال مفتوحا لكثير من القراءات و التأويلات ، على كيفية إنقاذ تركيا من بين أيدي العناصر المخربة.
محمد يوب


منقووووووووووول

**د لا ل**
2013-03-06, 10:30
اقدم لكم اليوم صفحة خاصة بتحميل كتب الناقد الكبير عبد الله الغذاامي

http://www.alghathami.com/oldsite/GhathamiIndexpic.JPG

وهي شااملة لمعظم كتبه الراااائعة وهي من موقعه الرسمي

اتمنى ان تستمتعوا بها


http://www.alghathami.com/oldsite/books/books.html (http://www.alghathami.com/oldsite/books/books.html)

بسمله
2013-03-08, 09:53
ممكن تجاوبولي على هذا السؤال من فضلكم
{وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46)}
المطلوب
بين موصع الاعجاز البياني في هذه الايات
حدد سبب كسرة همزة ان في هذه المواضع

**د لا ل**
2013-03-08, 18:46
الهمزة و حالاتها :
لقد حفّزني لكتابة هذا الموضوع ما أطالعه يوميا من أخطاء سببها عدم معرفة كثير ممن يكتبون بالعربية بمواضع همزة كلا الحرفين و ما يترتب عليه من إشكالات في المعاني المقصودة ما سيقف عليها المتتبع عند القراءة الدقيقة لهذا المقال الذي سأحدد فيه : وجوب الكسر , وجوب الفتح , جواز الكسر أوالفتح , بأسلوب مبسط بعيد عن التعقيد
***********************

مواضع الكسر وجوبا

هناك حقيقة علمية ثابته بالنسبة لكسر همزة { إنَّ } ذلك أنَّها تُكتب كذلك عند وقوعها في جملة الابتداء , مهما كان موقع تلك الجملة

أول الكلام , أو وسطه , ويمكن حصر ذلك في الجمل التالية



أ - الجملة الابتدائية : إنَّ العراقيين لصامدونَ



ب - جملة القول : قال الأستاذُ : إنَّ الصدقَ سلاحُ المخلصينَ , ٌوأضاف قوله : إنَّ خيرَ العلماءِ مَنْ انتفعَ بعلمِه الناسُ , فعقَّبَ سعيد قائلا : إنَّ مصاحبةَ عالمٍ فقيرٍ خيرٌ منها لجاهلٍ وافرِ المالِ



ج - جملة الخبر لمبتدأ هو اسم عين { ذات } : زيدٌ إنَّه فاضلٌ



د - جملة صلة الموصول : حضر الذين إنَّهم زينةُ الدارِ



ه - جملة الحال : قدمتْ سلوى وإنَّها لفي أحسنِ حالٍ

ُ

و : الجملة الاستئنافية : التواضعُ مِن أسمى الأخلاقِ , إنَّه تاج

المبدعينَ , وزينةُ المؤمنينَ



ز - جملة جواب القسم : والله , إنَّ كلمةً طيبةً لأثمرُ مِن فعلٍ خبيثٍ

وهنا يُشتَرَط أن تدخل في خبرها اللام المزحلقة



ح - الجملة المعطوفة على جملة ابتدائية : إنَّ الحبَّ لسرٌّ من أسرارِ الكونِ , وإنَّه لمفتاحٌ للقلوبِ



ط - في الجملة المؤكدة لأخرى بالتكرار : إنَّ الصبرَ جميلٌ , إنَّ

الصبرَ جميلٌ



ك - بعد { ألا } الاستفتاحية : { ألاْ إنَّهمْ همُ السفهاءُ } , ألاْ إنَّ

الجاهلَّ مسكينٌ



ل - بعد فعل من أفعال القلوب وقد عُلِّقَ عنها باللام : علمتُ إنَّه لَشاعرٌ



م : بعد { حيثُ } الظرفية التي تلازم الإضافة إلى جملة : اجلسْ حيثُ إنًَ الحكماءَ يجلسونَ



ملاحظة مهمة : انفردتْ { إنَّ } دون غيرها بأن خبرها تلحقه { لام } التوكيد المفتوحة المزحلقة نحو : {إنَّ الأبرارَ لفي نعيمٍ } , إنَّ الطلابَ لحاضرونَ , وإنَّهم لمنشغلونَ , لهذا فإنَّ دخول اللام في خبرها من أسباب كسر همزتها




********************************
مواضع الفتح وجوبا

يتوجب فتح همزة { أنَّ } عندما يصح سبك مصدر مُؤوَّل منها , ومن اسمها , وخبرها , والمقصود بالمصدر المُؤوَّل أنَّه يُفَسَّرُ بكلمة واحدة

تشتق من معنى الجملة , ويعرب هذا المصدر حسب موقعه من الإعراب كما مبين أدناه

أ - المبتدأ المُؤَخَّر: من المعلومِ أنَّكَ صادقُ القولِ , من المعلوم : خبر متقدم على المبتدأ , وفُهمَ ذلك لكونه شبه جملة , و{ أنَّ واسمها وخبرها } مصدر مؤول في محل رفع مبتدأ متأخر , والتقدير : من المعلومِ صدقُكَ



ب - الخبر : المعلومُ أنَّكَ صادقٌ : أنَّ ومعمولاها في محل رفع خبر المبتدأ الذي جاء اسم معنى , معرفة { اسم المعنى مثل : الثابت , المقصود , المفهوم , أمّا اسم الذات فمثل: زيد , بحر }



ج - الفاعل : أسعدَ الحضورَ أنَّ الحفلَ بهيجٌ , المصدر المؤول من أنَّ ومعمولَيها في محل رفع فاعل



د - نائب الفاعل : سُمِعَ أنَّ المحتلِّينَ راحلونَ , أمفهومٌ أنَّ أخاكِ قادمٌ ؟

المصدر المؤول في محل رفع نائب فاعل



ه - المفعول به : سمعَ الملحنُّ أنَّ مطربا صوتُهُ جميلٌ , المصدر

المؤول من أنَّ ومعموليها في محل نصب مفعول به

ظنَّ الأحرارُ أنَّ الغزاةَ راحلونَ , المصدر المؤول في محل نصب

سدَّ مسد مفعولي الفعل ظنَّ المتعدي إلى مفعولينِ أصلهما مبتدأ وخبر

أعلمَ المذيعُ المستمعينَ أنَّ الغزاةَ راحلونَ

المصدر المؤول من أنَّ ومعموليها في محل نصب سد مسد المفعولين الثاني والثالث للفعل أعلمَ المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل , ثانيهما وثالثهما أصلهما مبتدأ وخبر



و - في محل جر بالحرف : شعرتُ بأنَّ طيفَكِ قد زارَني , المصدر المؤول من أنَّ ومعموليها في محل جر بحرف الجر , الباء



ز - في موقع معطوف على مصدر صريح : تذكّرْ نصيحَتي وأنِّي حذَّرتُكَ من أصحابِ السوءِ

أو معطوف على مصدر مؤوَّل مثله : تذكَّري أنِّي نصحتُكِ وأنِّي حذَّرتُكِ من أصحابِ السوءِ



************************************

جواز الكسر أو الفتح

يجوز كلا الحالين عندما يكون الحرف ومعمولاه قابلا للتفسير بجملة فيجوز عندها الكسر , أو يقبل التأويل بمصدر فيجوز الفتح نحو





أ - بعد { إذا الفجائية } : خرجتُ فإذا إنَّ زيدا يقابلني , خرجتُ فإذا أنَّ زيدا يقابلني



ب - في جواب القسم غير المُقترِن باللام : لَعَمْرُكَ إنَّ أباكَ نبيلٌ

لَعَمْرُكَ أنَّ أباكَ نبيلٌ



ج - بعد فاء الجزاء الواقعة في جواب الشرط : مَنْ يزرْني فإنَّهُ لكريمٌ

مَنْ يزرْني فأنَّهُ كريمٌ



د - إذا وقعت بعد مبتدأ هو في المعنى قول , وخبر إنَّ قول , والقائل واحد : خيرُ القولِ إنِّي أحمدُ اللهَ

خيرُ القولِ أنَّي أحمدُ اللهَ

ففي الأولى { إني أحمد الله } جملة في محل رفع خبر المبتدأ

وفي الثانية { أنَّ ومعمولاها } مصدر مؤول في محل رفع خبر المبتدأ , أي أنه بتقدير كلمة واحدة , وليس جملة



************************************************** *********************

مواضع كسر الهمزة :

قال أهل العلم : يجب كسر همزة ( إن )في اثني عشر موضعا :
1 ـ أن تقع في الابتداء حقيقة نحو : " إنا أنزلناه " أو حكما نحو : " كلا إن الإنسان ليطغى "
2 ـ أن تقع تالية لحيث نحو : جلست حيث إن القوم جلوس
3 ـ أن تقع تالية ل ( إذ ) نحو : زرتك إذ إن خالدا أمير
4 ـ أن تقع تالية لموصول نحو : " وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة " هذا إذا كانت في صدر الصلة ، أما إذا كانت في حشوها فتفتح نحو : جاء الذي عندي أنه فاضل
5 ـ أن تقع بعد حتى نحو : شارك القوم حتى إن زيدا لمشارك
6 ـ أن تقع جوابا لقسم نحو : " حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة "
7 ـ أن تكون محكية بالقول نحو : " قال إني عبد الله " فإن وقعت بعد القول غير محكية فتحت نحو : أخصك بالقول أنك فاضل
8 ـ أن تقع حالا نحو : " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون "
9 ـ أن تقع صفة نحو : نظرت إلى الجبل إنه لكبير
10ـ أن تقع بعد عامل علق بلام الابتداء ( اللام المزحلقة ) نحو :
" والله يعلم إنك لرسوله "
11 ـ أن تقع خبرا عن اسم ذات نحو : محمد إنه رسول الله "
12 ـ في باب الحصر ( بالنفي و إلا ) نحو : " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام "
قال كثير :
ما أعطياني ولا سألتهما * إلا وإني لحاجزي كرمي
مستفاد من المغني ومعجم القواعد العربية للعلامة عبد الغني الدقر
وغيرهما والله أعلى وأعلم

منقووووووووووووول

بسمله
2013-03-09, 10:12
شكرا والله استفدت بزااااف جزاك الله خيرا :)
انا عندي سؤال ثاني ماهي الحلات التي تفيد فيها كان الديمومة والاستمرارية

**د لا ل**
2013-03-09, 17:39
طبعا تقصدين بالاستمرارية والديمومة هي انها لاتكون ناقصة بمعنى تامة ومستمرة على ذلك

قد وجدت لكِ هذه التحليلات اتمنى ان تفيدكِ اختي
**********************************

الفعل الناقص ( كان ) معناه اللغوي وجد ، تم تفريغه من جُـلِّ معناه اللغوي ، واستعمل لفظا قابلا للتصرف ، فسمي ناقصا لأنه فقد كثيرا من معناه اللغوي واحتفظ بدلالته الزمنية ، فأصبحت وظيفته النحوية إعطاء الجملة الاسمية مدلولا زمنيا يحتاج إليه المتكلم.

وبعض الأفعال الناقصة لا يؤدي وظيفة زمنية ، إنما يؤدي وظيفة نحوية كالنفي في ( ليس ) ، والرجاء في ( عسى )

وبقية الأفعال الناقصة تؤدي وظيفتي الزمن والمعنى النحوي : استمرارًا وصيرورةً، نفيًا ومقاربةُ ، رجاءً وشروعًا.


ولكن الحالة الناقصة لكان وأخواتها لا تمنعها من العودة إلى حالتها التامة ، فتؤدي معناها اللغوي كاملا فنقول:

أبرقت السماء ُ فكان المطرُ ( أي وجد ونزل )، فاستعادت كان فعليتها التامة ورفعت المطر فاعلا لها.

قال تعالى : " وإن كان ذو عسرةٍ فنظرة إلى ميسرة" بمعنى إن وجد أحد ٌ ذو عسرة.
جاء في تفسير الطبري:


وقوله:"ذو عسرة"، مرفوع ب"كان"، فالخبر متروك، وهو ما ذكرنا. وإنما صلح ترك خبرها، من أجل أنّ النكرات تضمِرُ لها العربُ أخبارَها، ولو وُجِّهت"كان" في هذا الموضع، إلى أنها بمعنى الفعل المكتفِي بنفسه التام، لكان وجهًا صحيحًا، ولم يكن بها حاجة حينئذ إلى خبر. فيكون تأويلُ الكلام عند ذلك: وإن وُجد ذُو عسرة من غرمائكم برؤوس أموالكم، فنَظِرة إلى ميسرة.
وقد ذكر أنّ ذلك في قراءة أبي بن كعبhttp://www.alfaseeh.com/vb/images/smilies/sad_smile.gif وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ )، بمعنى: وإن كان الغريم ذا عسرة ="فنظرة إلى ميسرة".

*******************************

كـان التـامـة ...(توضيح و تدريبات)


تُعرب (كان) فعلا تاما إذا احتاجت إلى فاعل و تم معناها به ، و ضابطها هنا هو أن تكون بمعنى (حَدَثَ) أو (وُجدَ) أو(جَاءَ). نحو (كانَ زيدٌ فمات) ... فهي هنا بمعنى (وُجد)

فإذا لم تجئ بهذه المعاني فـ اعلم أنها (ناقصة) ناسخة للجملة الاسمية

تدريبات: حدد نوع كان فيما يأتـــي.
(و كان الله غفورا رحيما) ...
سررت أن كان ذلك......
إذا كان الغدُ سأزورك..
تكونُ الأمطارُ في فصل الصيف...
كان و يا ما كان...
لولا اللهُ لما كنا ...
تلبدت السماء بالغيوم فكان المطر..
لو كنتَ كما كنتَ لكنتُ كما كنتُ لكن ذاك لم يكُنِ...
كنت أمشي مسرعا لذلك كان وصولي مبكرا...
ليس مخلوق كائنا من كان أن يأتي بكذا...
تكونُ الأمطارُ في الصيف غزيرة ...
***************
الاجابة
(و كان الله غفورا رحيما) ...
ناقصه
سررت أن كان ذلك......
تامه
إذا كان الغدُ سأزورك..
ناقصه
تكونُ الأمطارُ في فصل الصيف...
تامه
كان و يا ما كان...
تامه
لولا اللهُ لما كنا ...
تامه
تلبدت السماء بالغيوم فكان المطر..
تامه
لو كنتَ كما كنتَ لكنتُ كما كنتُ لكن ذاك لم يكُنِ...
الاولي ناقصه و الثانيه تامه و الثالثه ناقصه و الرابعه تامه و الرابعه تامه
كنت أمشي مسرعا لذلك كان وصولي مبكرا...
الاولي ناقصه و الثانيه ناقصه
ليس مخلوق كائنا من كان أن يأتي بكذا...
ناقصه
تكونُ الأمطارُ في الصيف غزيرة ...
ناقصه


موفقة اخيتي

بسمله
2013-03-09, 20:04
♥♥♥♪♥♥♥
شكرا جزيلا
اتعبتك معي :(
اسفة
جزاك الله خيرا
♥♥♥♪♥♥♥

omarzant
2013-03-10, 23:18
شكرا على مجهوداتك اخت دلال بارك الله فيك